المقالات

15 يوليو 2021

شخصيات الكتاب المقدس بلعام بن بعور

بلعام بن بعور "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم" عدد 23: 10 مقدمة لست أعلم من أي غدير أو نبع استقى روبرت لويس استفنسون فكرته، وهو يكتب كتابه العظيم: "دكتور چيكل ومستر هايد" الرجل المزدوج الشخصية، فهو تارة چيكل الطيب، وأخرى هايد الشرير، وهو يملك دواء يغير شخصيته كلما رام التنقل بين الشخصيتين،.. ومفعول الدواء يستمر معه لحظات من الزمن، غير أنه تأتي الساعة التي يفقد فيها هذا الدواء فاعليته، ويتوقف الرجل -للأسف- عند هايد الشرير، دون أن يبلغ چيكل الطيب،.. هناك من يؤكد أن استفنسون استوحى فكرته من الأصحاح السابع من رسالة رومية من قول الرسول بولس: "فإننا نعلم أن الناموس روحي أما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية لأني لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل فإن كنت أفعل ما لست أريده فإني أصادق الناموس أنه حسن فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة في.. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل.. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت!!.." ولعل روبرت لويس استفنسون لو بحث عن نموذج بشري يصلح لهذه الفكرة، لما وجد أفضل من بلعام بن بعور، الرجل الذي ارتقى إلى مصاف الملائكة، ثم هبط إلى القاع مع الشياطين!!.. وربما نستطيع أن نتابع الرجل وقصته الغريبة لو وقفنا منه من الجوانب التالية: بلعام وامتيازه لا شبهة في أن بلعام كان من أعظم الشخصيات المعروفة في عصرها،.. وكان يتسم بصفات متعددة واضحة إذ هو: الرجل ذو العقل الجبار كان من فتور ما بين النهرين، والبلدة كانت مشهورة بالحكمة، ومليئة بالحكماء، وكان بلعام بن بعور مقصد الكثيرين الذين يأتونه من كل البلاد، يبحثون عن الحلول لمشاكلهم، وما يواجهون من متاعب وصعاب،.. وقد حلت مشكلة أمام بالاق، وهو يفتش هنا وهناك عن ناصح وحكيم، يستطيع أن يعطيه حلاً لها، فلا يجد إلا الرجل القابع ما بين النهرين، اللامع التفكير الجبار الذهن، المقتدر الفهم، وهو لا يكاد يجد في الأرض كلها شبيهاً له، ونظيراً،.. وهو واحد من المجوس حكماء المشرق القدامى، والذي ظهر قبل أن يأتي المجوس إلى السيد بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان.على أن المعرفة الأكبر عند الرجل كانت معرفة الله، وقد كان من أعظم العارفين بالله، فالله ليس شخصاً غامضاً أمام عينيه أو صورة يحف بها الإبهام والظلام، كلا.. بل هو رجل غزير المعرفة بالله، عندما يتحدث عنه تعالى، لا يتحدث عن ألوهيم" إله الكون والخليقة، بل عن "يهوه" إله العهد -وقد حار الشراح والمؤلفون، من أين للرجل هذه المعرفة، المعرفة التي تصف الله في ثباته وجلاله وقوته وانتصاره؟!.. إن الجواب على ذلك يكمن في أنه كان واحداً من الذين أودعهم الله النور الذي ينير كل إنسان، وقد أتى إلى العلم، وعرفه الكثيرون من غير شعب الله، لأنه لا يترك نفسه بلا شاهد،.. فكان هناك ملكي صادق، وكان هناك أيوب، وكان هناك صوفر النعماني، وبلدد الشوحي، وأليفاز التيماني، وأليهو بن برخئيل البوزي، وغيرهم. الرجل ذو اللسان الساحر لم يكن بلعام جبار العقل فحسب، بل كان ساحر اللسان أيضاً،.. من الناس من يكونون على أعظم قدرة ومعرفة ذهنية، لكنهم لا يملكون اللسان الزرب البارع المنطق،.. ولكن بلعام كان يملك ناصية الاثنين، إذ كان ذهبي اللسان رائع المنطق، سديد التعبير، وكان خطيباً مفوهاً، وصل ببيانه إلى أسمى الذرى، وكان ندا لأروع ما نطق به الأنبياء، وفي ألفاظه الرائعة، كان أقرب إلى شعر إشعياء، وبلاغة حبقوق!!.. كان أميراً من أمراء البيان، ولو اعتلى المنبر، لكان واحداً من خطباء العصور، وسيداً من سادة المتكلمين بين الوعاظ في كل زمان!!.. الرجل الممتليء الأشواق لم يكن بلعام ذهناً يفكر، أو لساناً زربا يتكلم، بل كان هناك شيء أكثر عند الرجل وفيه، إذ كانت له أشواق ملتهبة قوية، تزداد عنفاً وقوة ولمعاناً في وقت الصفاء، وساعات التأمل والهدوء،.. وأمام المذابح التي أقامها، والذبائح التي قدمها، التهب الرجل التهاباً، وهو يرى المخلص الآتي من بعيد: "أراه ولكن ليس الآن أبصره، ولكن ليس قريباً يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل فيحطم طرفي موآب ويهلك كل بني الوغى".. وهو إذ يرى عالماً أفضل، ومجداً أروع وأعظم يهتف: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم!!.. ومن المؤكد أن الشعب الذي رآه، والصور التي أثارها هذا الشعب أمام عينيه وفي خياله، هي التي رفعته إلى هذا المستوى الرفيع الممتلئ من الأشواق السماوية!!.. وكم من الناس دخلوا في وسط حفل مقدس، وأنصتوا إلى ترنم أعظم من كل أغاني الأرض، وأسمى من كل ما يعرف الإنسان،.. وسمعوا لغة إلهية أعلى من البيان البشري، فصاح كيانهم: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم"!!.. الرجل الباحث عن مشورة الله كان هناك شيء في الرجل يؤكد أن الحكمة البشرية -مهما بلغت أو عظمت، واللسان الزرب، مهما تكلم وأفصح، والشوق العميق مهما امتد والتهب- فإن الإنسان في حاجة إلى شيء أعظم من هذه كلها، وإلى جانبها، ألا وهو المشورة الإلهية التي لا يمكن أن يسير بدونها،.. وأبى بلعام أن يتخطى الطريق دون معرفة رأي الله وإرادته،.. ونحن نسأل هنا: هل أدرك الرجل أن ذكاء المرء محسوب عليه؟ وأن خطأ الحكمة البشرية بين وواضح في شتى المواقع الأرضية؟ وأن الإنسان مهما بلغ من الإدراك تائه في الظلام، لا يمكن أن يعرف ما يأتي به الغد، أو ما يتمخض عنه الزمن، أو ما تأتي به الأيام؟ وهو لا يتحرك إلا إذا أدرك ماذا يريد الله، وما هي مشيئته، وهو لذلك يطلب من رجال بالاق بن صفور أن ينظروا حتى يضيء له الله الظلمة الضاربة في الطريق؟!!. الرجل المستخدم من الله وبلعام بن بعور عنده الرغبة قبل وبعد هذه كلها أن يكون: "الرجل المفتوح العينين.. الذي يسمع أقوال الله ويعرف معرفة القدير، الذي يرى رؤيا القدير ساقطاً وهو مكشوف العينيين" وهو يصمم وقد جاء من بين النهرين- على شيء واحد "ألعلي الآن أستطيع أن أتكلم بشيء من الكلام الذي يضعه الله في فمي به أتكلم" ومن العجيب أن هذا الرجل فتحت عيناه حقاً، ومد بصره إلى ما وراء القرون والأجيال البعيدة، وتكلم بأروع النبوات وأعظم الرؤى، وارتفعت نبواته إلى مصاف أعلى النبوات وهي تتحدث عن المسيح سيدنا مخلص العالم!!.. بلعام وسقوطه ولكن كيف يمكن لهذا الرجل العظيم أن يسقط من الجبل الشاهق الذي وصل إليه، وكيف يمكن أن يكون سقوطه عظيماً على الصورة التي جعلته عبرة لكل الأجيال والتاريخ!!.. وما هي عوامل سقوطه الشنيع هذا؟!!. أسقطته الكبرياء ولعل هذه أول تجربة واجهها الرجل إذ أن القارئ المدقق في كلمة الله يعلم أن بلعام رفض أن يذهب إلى بالاق من المرة الأولى، وأن بالاق داهن الرجل وتملقه، بأن أرسل إليه وفدا أعظم وأعلى من الوفد الأول، حتى يحس تقديره الكبير له، وسقط الرجل في الفخ المنصوب، وذهب مع الوفد الثاني،.. ولعل هذه تجربة العظماء والموهوبين في كل جيل وعصر، إذ يجربهم الشيطان بالتعالي والكبرياء والغرور، وعندما يتملقهم الناس تنزلق الطريق أمامهم، وما أسرع ما يسقطون!!.. ألم تكن هذه تجربة الشيطان نفسه، الذي وضعه الله في المكان العظيم المحدد له، ولكنه ترك رياسته، محاولاً أن يأخذ مكاناً أعظم وأعلى، وحبسه الله في القيود الأبدية تحت الظلام؟.. أليس هذه تجربة الجبابرة والملوك الذين قهروا الممالك ودوخوا الشعب، ولكن مأساتهم العظيمة، أنهم سقطوا من عل، لأنهم كانوا يتصورون أنهم من طينة غير طينة الناس، إلى الدرجة التي جعلت الإسكندر عندما انهمر الدم من جرح حدث له، أن يتعجب كيف يسقط دمه مثلما يسقط دم الآخرين من الناس، وكانت عقيدته أنه ابن الآلهة كما صوروا له أو خدعوه؟ أليست هذه تجربة نبوخذنصر الذي قال: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال ملكي.. والكلمة بعد بفم الملك وقع صوت من السماء قائلاً: لك يقولون يا نبوخذنصر الملك إن الملك زال عنك.. "في تلك الساعة تم الأمر على نبوخذنصر فطرد من بين الناس وأكل العشب كالثيران وابتل جسمه بندي السماء، حتى طال شعره مثل النسور وأظفاره مثل الطيور، وعند انتهاء الأيام أنا نبوخذنصر رفعتُ عينيَّ إلى السماء فرجع إلىَّ عقلي وباركت العلي وسبحت وحمدت الحي إلى الأبد الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلي دور فدور، وحسبت جميع سكان الأرض كلا شيء وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل؟؟"، أليست هذه هي تجربة هيرودس الذي تملقه الصوريون والصيداويون، وهو لابس حلته الملوكية وعلى عرش الملك وهو يخطابهم، وإذا بهم يصرخون: هذا صوت إله لا صوت إنسان، ففي الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعط المجد لله فصار يأكله الدود ومات؟؟.. أليست هذه تجربة الكثيرين من أشهر الوعاظ، ولعله يوحنا ويسلي الذي جاءه واحد بعد عظة رائعة، وقال له -وهو نازل من المنبر-: ما أعظم ما وعظتنا به في هذه العظة، وأجاب الرجل العظيم: لقد قالها واحد غيرك من قبلك الآن، وتعجب الرجل وقال: من؟ وكان الجواب: إنه الشيطان؟؟ ولئن كان ويسلي نجح في مكافحة الشيطان، فإن بلعام بن بعور لم ينجح وهو ينزل من فوق منبر بالاق بن صفور، ومع أنه من هناك ألقى عظاته التي تلقفتها الأجيال، لكنه كان الواعظ الذي بعدما كرز للآخرين صار هو بنفسه مرفوضاً!!.. هذه الحقيقة العظيمة تؤكد أن الله لا يعطي مجده أو كرامته لآخر، وتكشف عن السياسة الإلهية الثابتة: "إن الله يقاوم المستكبرين أما المتواضعون فيعطيهم نعمة".. كانت الكبرياء المسمار الأول في نعش بلعام بن بعور. أسقطه الطمع كان يزعم أنه لا يتجاوز قول الرب ولو أعطاه بالاق ملء بيته فضة وذهباً، وعينه على كل درهم أو دانق يلقي به الملك إليه، كان محباً للمال بكل ما في الكلمة من معنى، كان واحداً من ذلك الموكب الرهيب الذي يتمشى في كل العصور: "الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة وأما أنت يا إنسان الله فاهرب من هذا..".. ولم يهرب بلعام، بل -على العكس- سعى إلى الذهب، الذي ذهب به إلى الدمار، ومال إلى المال الذي مال به عن الطريق المستقيم، إلى طريق الأفك والضلال، أو كما وصفه الرسول بطرس مع محبي المال: "قد تركوا الطريق المستقيم فضلوا تابعين طريق بلعام بن بعور الذي أحب أجرة الإثم".. هل رأيت الطريق من فتور إلى موآب؟ كان طريقاً طويلاً متعباً لكن بلعام بن بعور الطريق المرصوف بالذهب، وأحب بلعام أجرة الإثم، وسال لعابه طوال الطرق، وعبارة رهيبة تدوي في أذنيه في كل خطوة منه: الفضة.. الذهب!!.. الفضة.. الذهب!!.. الفضة.. الذهب!!.. وويل لمن يقتحم المحرم من أجل الفضة أو الذهب،.. اقتحمه عخان بن كرمي من أجل الرداء الشنعاري النفيس، والمائتي شاقل من الفضة، واللسان من الذهب، ودفن المال عخان- بن كرمي ملفوفاً بردائه الشنعاري!!.. واقتحمه جيحزي غلام أليشع بعد أن رفض سيده أن يأخذ من يد نعمان السرياني ما أحضره هدية من أجل شفائه، وأخذ وزنتي فضة وحلتي ثياب، وعندما مثل أمام أليشع كان الجواب: "أهو وقت لأخذ الفضة ولأخذ ثياب وزيتون وكروم وغنم وبقر وعبيد وجوار فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد فخرج من أمامه أبرص كالثلج". واقتحمه يهوذا الاسخريوطي الذي ذهب إلى رؤساء الكهنة وقال: "ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم، فجعلوا له ثلاثين من الفضة، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه".. وارتكب أكبر جريمة في التاريخ مقابل ما يقرب من ثلاثة جنيهات!!..كل واحد يباع بثمن إذا تجرد من نعمة الله، وكان أشبه بذلك الرجل الذي عرض عليه الأعداء أن يخون وطنه، وعرضوا ثمناً ورفض، ورفعوا الثمن، وظلوا يرفعونه إلى أن وصلوا إلى النقطة التي جعلته يصرخ: لقد اقتربتم من الثمن الذي يمكن أن تشتروني به،.. ولا أعلم إن كانوا قد نجحوا أم لا، لكني أعلم أن بلعام بن بعور أخذ الأجرة الآثمة التي أسقطته!! هل أدرك بلعام بن بعور ما قاله أحد الشعراء، وهو يرى الناس تباع بأثمان مختلفة ومتنوعة!!.. ليس بالفضة، وليس بالذهب، بل توجد آلاف الطرق التي بها يشتري الإنسان،.. فالصداقة الآثمة، أو الرغبة الشريرة، أو الاسم الفارغ كثيراً ما تكون الثمن الذي به يباع الناس ويشترون!!.. وقد اشترى بالاق بن صفور بلعام بثمنين رهيبين: "فعاد بالاق وأرسل أيضاً رؤساء أكثر وأعظم من أولئك.. فأتوا إلى بلعام وقالوا هكذا قال بالاق بن صفور لا تمتنع عن الإتيان إليَّ لأني أكرمك إكراماً عظيماً وكل ما تقول لي أفعله" "فقال بالاق لبلعام ألم أرسل إليك لأدعوك لماذا لم تأت إليَّ أحقاً لا أقدر أن أكرمك".. كان الثمن الأول ما يمكن أن نطلق عليه إكرام الشهرة والحفاوة والإجلال في الوفود المرسلة، والاستقبال الفخم العظيم،.. وفي حلوان العرافة المتزايدة في المقدم أو المؤخر من الرشوة الكبيرة!!..كان بلعام بن بعور قائداً عظيماً من أقدم القادة، الذين جمعوا وراءهم كل خطيب، وواعظ، ورجل دين، استخدم منبره بحثاً عن الصيت الذائع، أو عن المادة المتكاثرة!!.. ولم يعلم هؤلاء جميعاً أن مصيرهم لابد أن يكون مصير الرجل التعس الذي ذهب على أبشع صورة وأقسى منظر!!.. بلعام وطريقه لم يتبع بلعام نهجاً وسلوكاً خاصاً به، بل أصبح أكثر من ذلك مدرسة مشهورة من مدارس الضلال والكذب، ويكفي أن يصف الرسول بطرس أتباعه: "لهم عيون مملوءة فسقاً لا تكف عن الخطية خادعون النفوس غير الثابتة لهم قلب متدرب في الطمع أولاد اللعنة. قد تركوا الطريق المستقيم فضلوا تابعين طريق بلعام بن بعور الذي أحب أجرة الإثم"، أو ما قاله السيد لملاك كنيسة برغامس: "إن عندك هناك قوماً متمسكين بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا".. ولعل المشاهد لطريق بلعام يلاحظ أنها: طريق الخداع النفسي وهذه هي الحقيقة الأولى، إن المخادع قبل أن يخدع الآخرين لابد أن يخدعه نفسه أولاً، وهذا ميسور ويستوي فيه الجميع لأن "القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه".. وقد منع الله بلعام من الليلة التي ذهب فيها رؤساء موآب إليه، وكان المنع واضحاً وصريحاً، وعندما عاد بالاق وأرسل له رؤساء أعظم وأكثر، كان من واجبه ألا يكون عنده جواب إلا الجواب الأول، لأنه هو يعلم جيداً أن مشيئة الرب لا تتقلقل أو تتذبذب، وهو ليس في حاجة إلى أن يعود مرة أخرى إلى سؤال الله،.. وعاد بلعام يسأل الله مرة أخرى، وأدرك الله أن الرجل يريد أن يخادع نفسه، وهو يطلب أذناً من الله، ليفعل ما لا يريده الله أن يفعل، ولم يكن هنا يخدع الله، بل كان يخدع نفسه، لعل الله -قد مثل أمامه إكرام البشر وذهبهم وفضتهم- يعطيه رخصة للذهاب، وأسلم الله إلى ذهنه المرفوض وهكذا يفعل الله على الدوام لمن يريد أن يحجز الحق بالإثم، ويغطي المشورة الإلهية بالرغبة البشرية،.. مرات كثيرة ما يطلب الناس الله بذات الصورة التي طلبها بلعام بن بعور، لعل ضميرهم الثائر يستريح، أو يعطي تبريراً لما ينتوون من رغبات شريرة أو آثمة،.. ويجيبهم الله بذات الإجابة القديمة، وعندما تتنكب بهم الطريق يصرخون ويجأرون!! ألم نطلب الله.. ألم ننتظره فلماذا أصابنا هذا كله؟، وهم يعلمون أن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحداً..” ولكن كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتاً”.. طريق الورطة إن طريق الخداع النفسي على الدوام طريق موروط، وكان لابد لبلعام أن يفهم موقف الرب بكل وضوح، فالله لم يتغير أبداً في موقفه، إنما الذي تغير هو بلعام، ويبدو أنه كان في صراع مع نفسه، وفي تساؤل هل يتبع الطريق الصحيح أم لا، وهو يركب الأتان التي تميل به في الطريق يميناً ويساراً مع الذبذبة النفسية، التي كانت تموج بها نفسه،.. وجاء إلى خندق، وكان هو قد وصل إلى خندق نفسي عظيم، حيث لا مجال للنكوب هنا أو هناك، وربضت الأتان تحته، ولم تفعل ما فعلته قبل ذلك مرة ومرتين، إذ كانت تغير طريقها من موقف الملاك الواقف قبالتها!!.. وضربها بلعام، ونطقت الأتان، وتكلمت بلغة البشر،.. لقد وقف بلعام في الطريق بين الملاك والأتان، لأن حياته كانت بين الوثنيين، ومن المؤسف أن النفس البشرية تبدأ في الطريق بالملاك لتنتهي إلى الحمار، أو في الواقع لتصل إلى حماقة لا يصل إليها الحمار نفسه!!.. وأي ورطة أعظم من هذه الورطة؟ وأي قسوة أشنع منها وأبلغ؟.. أهكذا تقع النفس البشرية بين الملاك والحمار؟ بين أعلى حكمة وأدنى غباوة؟.. ولكنها حقيقة الإنسان في طريق الورطة بعيداً عن الله!!.. لأن "الثور يعرف قانيه والحمار يعرف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف وشعبي لا يفهم"!!.. على أن السؤال الأعمق والأبعد: لماذا يسمح الله بطريق الورطة التي لا يرغبها، والتي أعلن رفضها من الأول؟!!.. إن الله يسمح لا لأنه يريد ألا يقهر الحرية البشرية فحسب بل أكثر من ذلك لأنه يريد أن يخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة، ولأنه يريد أن ينتصر على القصد الشرير، ويصنع منه قصداً رائعاً جميلاً خيراً، وما كان من الممكن أن نسمع عن هذه النبوات الرائعة والعظيمة، أو نعرف إجادة الرب إلا كما يقول ميخا: "يا شعبي اذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب وبماذا أجابه بلعام بن بعور من شكيم إلى الجلجال" (مي 6: 5).. بلعام وخطورته كان بلعام خطراً داهماً على نفسه، وعلى شعب الله أيضاً، وكانت خطورته: خطورة الإسفاف وأي إسفاف أبلغ من هذا الإسفاف الذي نزل به النسر المحلق في الأعالي بأعلى الرؤى وأقدس النبوات، إلى الجثث الميتة والجيف النتنة؟! خطورة الرائي الذي يرى رؤى القدير بعين مكشوفة.. إلى العراف الذي تحول إلى الخرافات والتنجيم؟.. خطورة الذي بدأ أعظم بداية لينتهي أسوأ نهاية؟!. إنه يذكرنا بالتعبير العظيم: لماذا سقطت يا زهرة بنت الصبح، ولماذا يهوى الجمال إلى حضيض الطين؟!! إنه شيء يروع النفس، ويدمي القلب، ويغمد النصل الحاد في القلب المحزون، عندما ينتهي تلميذ المسيح إلى قبلة الغدر، ويسمع للصيحة الأليمة الباكية: يا صحب لماذا جئت!!.. وهكذا كان إسفاف يهوذا الاسخريوطي، ومن قبله بلعام بن بعور الذي قتل نفسه قبل أن يقتل الآخرين!! خطورة الرأي الملتوي وأي التواء أكثر مما وصفه به "فردريك وليم روبرتسن" عندما قال: "إنه الرجل الذي أراد أن يرضي نفسه دون أن يغضب الله"؟ وكان في ذلك واحداً من أبرع أئمة الدبلوماسيين والمرائين!!.. إنه ذلك النوع من الثعالب الفضية اللون، التي يروق لك منظرها، ولا تعلم في أي جحر تبيت، ولا من أي باب تخرج، إنه الإنسان الذي يلقى عبارته التي تحتمل الكثير من التفسير والإيماء والتساؤل، وهو من أدهى الدهاة الذين يمكن أن تفسر بمائة تفسير، قد يذمك في قالب مدح، وقد يمدحك في قالب ذم، وهو قد يحتفل بك برقصة الثعلب في وسط الدجاج، أو احتفال ياهو بمن أراد أن يذبحهم من أنبياء البعل،.. أو بالحفلة التي أجهز بها محمد علي على المماليك في مصر!!.لقد وقعت أمامه مشكلة، الله يريده أن يبارك، وبالاق يريده أن يلعن، وهو يريد أن يرضي الله ويرضي بالاق أيضاً، ويبارك ويلعن في الوقت عينه، فماذا يفعل الداهية؟!!.. لقد بارك كما أراد الله،.. ومن خلال البركة فتح الطريق أمام بالاق للعنة –خذ مثلاً هذا التعبير- وهو صحيح مائة في المائة- وهو خطير أيضاً إلى أبلغ حد: لقد جاء في بركته: “ لم يبصر إثماً في يعقوب ولا رأى تعباً في إسرائيل الرب إلهه معه ”(عد23: 21).. وهذه بركة حقيقية ودائمة،.. ولكنها بمفهوم المخالفة (كما يقول رجال القانون).. إنك يا بالاق إذا أردت أن تقضي على هذا الشعب، فليس هناك إلا سبيل واحد،.. وهو أن تسقطه في الإثم، فتأتي به إلى خيانة الله، والبعد عنه.. وتلقف بالاق بن صفور الإشارة البارعة، وأخرج بنات موآب يرقصن ويلعبن أمام شعب الله، ويقتدنه إلى ما ذبح للأوثان، وللزنا،.. وغبط بلعام بهذه البراعة، فهو لم يقل شيئاً إلا الذي قاله الله له،.. وهو لم يخرج عن وصيته أو يتجاوز قوله،.. وفي الوقت عينه قال كل شيء يرضي بالاق بن صفور، ويعطيه أقرب طريق إلى قتل الشعب والقضاء عليه!!.. كان واعظاً بارعاً ألقى عظته باسم الله، وأخذ الثمن من الشيطان!!.. خطورة العدو الخبيث هذا هو الرجل الذي كان بهذه المشورة القاتلة، أخطر أعداء شعب الله، والتاريخ ينظر إليه كواحد من أخبث القتلة وأشدهم ضراوة.وهكذا عرفه الفكر اليهودي، إذ قال موسى في سفر التثنية وهو يتحدث عن الموآبيين: "ولأنهم استأجروا عليك بلعام بن بعور من فتور آرام النهرين لكي يلعنك ولكن لم يشأ الرب إلهك أن يسمع لبلعام فحول لأجلك الرب إلهك اللعنة إلى بركة لأن الرب إلهك قد أحبك" (تث 23: 4 5). وقال يشوع: "وقام بالاق بن صفور ملك موآب وحارب إسرائيل وأرسل ودعا بلعام بن بعور لكي يلعنكم ولم أشأ أن أسمع لبلعام فبارككم بركة وأنقذتكم من يده"(يش 24: 9 10).. وكان المسيحيون في مطلع التاريخ المسيحي يرونه في كل تعليم خبيث يمزج الحق بالباطل، والسم بالدسم، كما جاء في سفر الرؤيا عن الذين يتمسكون: "بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا"(رؤ2: 14).. وهو الرجل الذي حار فيه أوغسطينوس وچيروم، فالأول كان يعرفه الإنسان الذي يستخدم الدين طمعاً في الكسب، والثاني الذي كان يراه أشبه بسقطة النبي القديم في بيت إيل، الذي قتله الأسد بجوار حماره!! ورغم أن الرجل أعطى أعظم النبوات وأبرعها، لكن التاريخ الكنسي لم يذكره قط صديقاً للكنيسة، بل عدواً قاسياً خطراً، كما ذكر النبوة التي جاءت على لسان قيافا، وكانت من أعظم النبوات عن المسيح: "فقال لهم واحد منهم وهو قيافا، كان رئيساً للكهنة في تلك السنة أنتم لستم تعرفون شيئاً ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد"(يو11/ 4951).. ومع ذلك فإن التاريخ لم ير في قيافا صديقاً للكنيسة، بل عدواً من أقسى أعدائها. بلعام ومصرعه ومصرع بلعام عظة بالغة لمن يريد أن يتعظ ويتعلم، لقد جائته نهايته بأسرع مما كان يتصور أو يحلم، إذ لم يمت في بيته وأرضه، بل مات في أرض غريبة، أرض المديانيين، ولا يعلم أحد على وجه التحقيق لماذا كان هناك.. يظن البعض أن المديانيين دعوه كما دعاه بالاق ملك موآب، وأنه وقد استمرأ الدعوة الأولى وحلوانها، فقد ذهب إلى الثانية ليضاعف الحلوان ويكثر الثروة ولم يدر أن هناك نهايته ومصرعه، إذ قتله الإسرائيليون مع ملوك مديان،.. كانت الطريق الأولى ورطة أمامه، وبقيت له الحياة مع ورطة الطريق،.. لكنه عند تكرار الأمر لم يجد في الغالب ملاكاً يقف في طريقه، أو حماراً يزحم قدمه،.. لقد رأى الطريق رحب إلى الهلاك، والنهاية أسرع مما كان يظن،.. وإنها حكمة الله العجيبة، إذ أنه قبل أن يقضي على الحياة، يضيق الطريق ويزحم القدم، لعل الإنسان يثوب إلى رشده ويرجع، أيها الخاطئ، قد يزحم الله قدمك بالخسارة، أو الضيق، أو الشدة، أو المعاناة أو التعب من كل جانب، فإذا لم تنتبه، فقد يفسح أمامك، ويوسع الطريق، ولكن إلى الهاوية والهلاك وأنت لا تدري!!..ومن المؤسف أن الرجل الذي وعظ بسحر البلاغة وروعة البيان، كان في حاجة إلى العظة القاسية من الحمار الأعجم الذي نطق بصوت إنسان،.. وهكذا كان الرجل الحكيم في عصره غبياً إلى الدرجة التي يحتاج فيها إلى عظة حمار: "إذ منع حماقة النبي حمار أعجم".. وإذا كانوا قد قالوا إن الإنسان قد يأخذ الحكمة من أفواه المجانين، فليس بعيداً عن الله، أن يعلم الحكيم الذي هوى بشره إلى الحماقة، على لسان حمار!!..وفي الحقيقة أن بلعام بن بعور الذي لم تفده عظة الحمار، والذي بلغ من الحماقة ما لا يبلغه الحيوان نفسه، كان لابد أن يموت موت أحمق، ولقد مات أشنع ميتة وأقساها، إذ لم يعش ليستفيد من إكرام بالاق بن صفور الموآبي، أو من ملوك مديان أوى وراقم وصور وحور ورابع الخمسة الذين قتلوا فوق قتلاهم، وقتل معهم بلعام بن بعور (عد 31: 8)، وذهب الرجل إلى مصيره التعس دون أن يأخذ شيئاً من ذهب بالاق أو فضته معه،.. وهو يذكرنا بالحقيقة القاسية إن ثوب الكفن لا جيوب له، وأن الكرامة المزعومة ستذهب أدراج الرياح، وأنه ليس ذهب بالاق أو المديانيين أو الأرض، يمكن أن يساوي خسارة نفس عرفت الحق الإلهي يوماً ما وغنت به، ولكنها لم تلبث أن لفظته وخرجت عليه: "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه!!".كان على بلعام أن يعلم أن الرجل الذي يتمنى: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم.. لا يمكن أن يتحقق له ذلك ما لم يقل أيضاً: "لتحيا نفسي حياة الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم". وإذ لم يحيي الرجل هذه الحياة، لم يحقق الأمنية التي طافت بذهنه في لحظة سمو واتضاع" وذهب الرجل ليحقق قولاً آخر: ما كل ما يتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!!
المزيد
14 يوليو 2021

العنف المُنَفِّر والمدمِّر

لا يستريح أحد إلي العنف، حتى من الطبيعة إن كانت عنيفة: إنها مخيفة تلك الأعاصير العنيفة التي تغرق مدنا وتشرد سكانها، وكذلك السيول العنيفة التي تجرف أمامها كل معالم الحياة. وأيضًا الزلازل التي تهز الأرض وتهدم بيوتا. والبراكين التي تحرق وتدمر.. بل ما أشدها رعبًا تلك الأمواج الصاخبة من بحر هائج تهدد السفن وركابها بالغرق. ومثلها الحرائق العنيفة التي تتلف وتميت.أيضا عنيفة جدا تلك الأمراض التي يقف أمامها الطب عاجزًا كل ما يستطيعه أن يسكن بعض الآلام القاسية التي تنتج عنها، دون أن يجد لها علاجًا..! كل هذه أنواع عنف من الطبيعة. وكلها غير مقبولة. وماذا تراه يصنع الإنسان تجاهها؟! ولكن هناك نوعا آخر من العنف قد يصدر من جانب البشر أنفسهم. فما هو؟ لعل أبرزه العنف في الاعتداء. وهو علي أنواع ودرجات: عنف قد يبدأ بالإهانة والضرب، وقد يصل إلي القتل، أو ما يعرف باسم التصفية الجسدية. وربما يشمل ألوانًا من التعذيب، تخرج عن نطاق المشاعر الإنسانية، ولا تتفق مع أبسط أنواع الرحمة. وقد يتعرض له الأبرياء بلا سبب.. وهذا ما يسمي الإرهاب. ومن ضحاياه الأفراد أو الجماعات. والعنف عموما هو سلوك منفر، ولا يتفق مع الوداعة واللطف. ولا مع حسن التعامل بين الناس، ولا مع فضيلة السلام التي يدعو إليها الدين، والتي هي لازمة لسلامة المجتمع.. والعنف لا يتفق أيضًا مع المحبة التي تربط بين الناس. وفي ظلها يعيش كل شخص آمنا لا يخشي شرًا من أحد. وقد ينتج العنف عن أسباب عديدة، ربما في مقدمتها قساوة الطبع، أو التهور أو اللامبالاة بمشاعر الآخرين ومصائرهم.. فالشخص القاسي يكون عنيفًا: ليس فقط في تصرفاته وتعامله مع غيره. بل حتى ملامح وجهه يظهر فيها العنف، في نظرات عينيه، وفي لهجة صوته، وفي أسلوب تخاطبه.والشخص العنيف قد يظهر عنفه في كلامه الجارح العنيف الذي لا يحترم فيه أحدًا. بل يكون مستعدًا للاحتكاك بغيره لأتفه الأسباب أو لغير ما سبب! ولقد صدق الشاعر حينما قال عن مثل هذا: عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدت أطير أما عن العنف الناتج عن تهور ولا مبالاة: فمن أمثلته كثير من حوادث المرور، التي في بعضها يهجم سائق عربة نقل طائش علي سيارة خاصة أو علي أتوبيس، وتكون نتيجة طيشه ولامبالاته قتل بعض الركاب أو إصابة بعضهم بإصابات خطرة.. وهذا السائق نفسه قد يلقي حتفه.. وكل ذلك بسبب عنفه في قيادة عربته، وعدم مبالاته بأرواح الناس. وقد يقول البعض انه عنف غير مقصود. ولكن نتائجه عنيفة حتى لو كانت غير مقصودة.. وهذا الأمر قد يتكرر أيضا في بعض حوادث القطارات عن إهمال. هناك عنف آخر يحدث نتيجة للخصومة والعداوة: ليست كل عداوة فيها عنف. فربما تقتصر علي مشاعر من الكراهية وتقف عند هذا الحد. ولكن عنف العداوة يظهر في الرغبة في الانتقام، أو في تدمير العدو بأية الطرق.. إما بتشويه سمعته، أو بتدبير بعض المؤامرات ضده. أو الشماتة به والفرح بسقوطه. وهنا تكون مشاعر الخصومة عنيفة جدًا.وقد يظهر عنف الخصومة، حينما يرفض الطرف العنيف كل محاولات الصلح التي تبذل لإرجاع العلاقة بينه وبين الطرف الآخر. وأحيانا يكون العنف في العتاب، إذا قبل أحد الخصمين عتابًا: المفروض في العتاب انه تقريب لذات البين بين الطرفين، والوصول إلي التفاهم ثم إلي الصلح.. ولكن بعض أنواع العتاب تكون عنيفة جدًا، لدرجة أنها تعقد الأمور بالأكثر، وتجعل الهوة بين الطرفين أكثر اتساعًا. وقد صدق الشاعر حينما قال: ودع العتاب فرب شر كان أوله العتاب لذلك إن أردت أن تعاتب، فكن لطيفًا في عتابك.. وليكون قصدك هو الصلح، وليس تبرئة نفسك وإظهار خطأ الطرف الآخر. ولا تستخدم في عتابك عبارات قاسية أو اتهامات. هناك عنف آخر في طريقة التربية في محيط الأسرة إذ انه بفهم خاطئ، قد يظن الأب انه يكون حازما في تربية أولاده، وذلك بالتضييق عليهم في كل شيء في دخولهم وخروجهم ومعاملاتهم.. وتتعب ابنته مثلا من هذه القسوة، وتهرب من البيت، لتلقي بنفسها في أي صدر حنون يعوضها بشفقته عن قسوة أبيها. وهكذا يحصد الأب نتيجة عنفه..! أو قد يحاول أحد والديها أن يرغمها علي الزواج من قريب لها لا تحبه. فتهرب من إتمام هذا الزواج الذي يراد إتمامه عنفًا، أو قد تقبل مرغمة وتحيا تعيسة تندب حظها وقد يحدث عنف آخر في محيط التربية بين أستاذ قاس وتلاميذه، فيكرهونه ويكرهون علمه بسبب معاملته القاسية.وقد يكون عنف الزوج في معاملة زوجته، سببًا في أن تطلب الطلاق أو الخلع، هاربة من هذا الزواج الذي لم تعد تطيقه. أو قد ينتهي الأمر بجريمة للتخلص من الزوج، مثلما طلعت علينا الأخبار في بعض الجرائد. حقًا، إن العنف كثيرًا ما يولد عنفا مضادا في الجانب الآخر. علي أن العنف قد يوجد كذلك في محيط الإدارة والوظائف. مثال ذلك مدير يعاقب أحد الموظفين بطرده أو فصله فصلا تعسفيا، غير مبال بمصير هذا الموظف بعد فصله، وبخاصة إن لم يكن له مورد رزق آخر..! إن الفصل من الوظيفة هو أعنف عقوبة بالنسبة إلي موظف.. وهناك عقوبات كثيرة أخري يمكن أن يلجأ إليها رئيس العمل، دون أن يلجأ إلي قطع رزق إنسان تحت إدارته والطرد من العمل يولد إحساسًا عنيفا بالظلم. وربما لا يقدر هذا المطرود أو المفصول أن يقف ضد رئيسه في المحاكم! ونفس الإحساس بالظلم يشعر به من يرفض المسئولون تعيينه أو ترقيته، علي الرغم من أن كفاءته تؤهله لذلك. ولكنه العنف! وقد يتطور الأمر بهذا المظلوم إلي اليأس، ويجره اليأس إلي أخطاء أخري.. واليأس شعور طاغ عنيف ونتائجه عنيفة والعنف يظهر كذلك في بعض الثورات الدموية العنيفة وقد حكي لنا التاريخ أمثلة منها، وما تبعتها من محاكمات ومن مقاصل وإعدام. ولعل ما فعله روبسبير Robespierre بعد الثورة الفرنسية The French Revolution مثل لذلك.. وكذلك ما فعلته الثورة الشيوعية حينما قامت في روسيا وأحيانا لا يكون عنف الثورات فيما تسفكه من دماء، إنما قد يكون أيضا في قوانين عنيفة، يقصد بها حماية الثورة وتثبيتها والعنف كما يوجد عند الأفراد، يوجد أيضا عند شعوب عنيفة، لا تعالج مصالحها إلا بالعنف. ويوجد أيضا عند أصحاب ما يسمونه بالطبع الناري. كما يوجد كذلك في أفلام العنف وتأثيرها ولا يفوتني في هذا المجال أن أذكر عنف العادات وسيطرتها، وعنف الإدمان وما يرغم عليه المدمنين من أخطاء كذلك عنف الفكر إذا سيطر. وأعنف الأفكار سيطرة هو فكر الإلحاد، لأن الشيطان بكل عنفه يدفع إليه. قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
13 يوليو 2021

المسيحية والاستشهاد

إن قصة الاستشهاد هي قصة المسيحية كلها.. فالاستشهاد والمسيحية صديقين متلازمين لا يفترقان عن بعضهما فالاستشهاد هو قصة الكرازة بالإنجيل في كل العالم لأن الإيمان المسيحي كان ينتشر في كل مكان، وكانت جذوره تدب في أعماق البشرية.. فكان يمتد في المسكونة طولًا وعرضًا وعمقًا، وذلك بشهادة الدم أكثر من الوعظ والتعليم فنجد مُعلِّمينا الكبار بطرس وبولس كليهما استشهد من أجل انتشار الإيمان: الأول مصلوبًا منكس الرأس، والآخر بحد السيف، ونالا إكليل الشهادة من أجل تمسكهم بالسيد المسيح وهذا هو الفكر السامي في الكرازة والتبشير في المسيحية.. أن المبشر والكارز هو الذي يستشهد من أجل الإيمان، وليس مَنْ لا يؤمن بالدين هو الذي تقطع رقبته فلم تعرف البشرية في كل عصورها شهداء مثل شهداء المسيحية.. من حيث شجاعتهم وإيمانهم ووداعتهم وشجاعتهم واحتمالهم وجدّهم وفرحهم بالاستشهاد.. فنجدهم يعانقون الموت في فرح وهدوء ووداعة عجيبة تزهل مَنْ يعذبونهم ومضطهديهم!! مما يجعلهم في آخر هذه المرحلة الأليمة يؤمنون بالسيد المسيح الذي يعبده النصارى، عندما يرون إيمانهم وجدّهم واحتمالهم للعذابات لآخر نَفَس!! فقد وجدنا "إريانوس" أشرس الولاة الذين قاموا بالتفنن في تعذيب المسيحيين، وكل مَنْ احتاروا في أمره أوصلوه إلى إريانوس القاسي القلب.. فتارة يعذبهم بالهنبازين، وتارة بالحرق، وتارة بتعليقهم على ساري المركب، وتارة أخرى بتمشيط أجسادهم ثم وضعهم في جير حي.. وتبارى في أنواع التعذيب. وأخيرًا نجد إريانوس هذا يؤمن بالسيد المسيح بل ينال إكليل الشهادة من أجل إيمانه!! يا ترى ما هو السبب في ذلك؟! وما الذي جعل الشهداء يحتملون هذا العذاب؟ لقد نظروا إلى العالم نظرة وقتية.. فهذا العالم الفاني لا يُقاس بالحياة الأبدية التي سوف يحيون فيها.. وذلك لأنهم عاشوا الإنجيل وتعاليم الآباء الرسل.. "لأنَّ خِفَّةَ ضيقَتِنا الوَقتيَّةَ تُنشِئُ لنا أكثَرَ فأكثَرَ ثِقَلَ مَجدٍ أبديًّا. ونَحنُ غَيرُ ناظِرينَ إلَى الأشياءِ التي تُرَى، بل إلَى التي لا تُرَى. لأنَّ التي تُرَى وقتيَّةٌ، وأمّا التي لا تُرَى فأبديَّةٌ" (2كو4: 17-18). وقد عاشوا حياة الغربة على الأرض، وشعروا أنهم غرباء ونزلاء في هذا العالم.. فالنزيل أو الغريب لا يمكنه أن يمتلك شيئًا إلاَّ في وطنه وفي أرضه.. "أيُّها الأحِبّاءُ، أطلُبُ إلَيكُمْ كغُرَباءَ ونُزَلاءَ، أنْ تمتَنِعوا عن الشَّهَواتِ الجَسَديَّةِ التي تُحارِبُ النَّفسَ" (1بط2: 11) إن حياتنا على الأرض مهما طالت فلا بد أن نرجع إلى وطننا السماوي مستقرنا الأخير بيتنا الأصلي، وإلى ميراثنا المحفوظ لنا في السموات.. وهذا ما أكّده لنا مُعلِّمنا بولس عندما قال: "في الإيمانِ ماتَ هؤُلاءِ أجمَعونَ، وهُم لم يَنالوا المَواعيدَ، بل مِنْ بَعيدٍ نَظَروها وصَدَّقوها وحَيَّوْها، وأقَرّوا بأنَّهُمْ غُرَباءُ ونُزَلاءُ علَى الأرضِ" (عب11: 13) وقد شعروا أن هذا العالم قد وُضع في الشرير، وأن الحياة فيه كلها حزن وألم وضيق.. ولكن هذا الضيق والألم سرعان ما سوف يتحول إلى فرح، عندما نصل إلى السماء.. وهذا ما قاله السيد المسيح له المجد: "الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّكُمْ ستَبكونَ وتنوحونَ والعالَمُ يَفرَحُ. أنتُمْ ستَحزَنونَ، ولكن حُزنَكُمْ يتحَوَّلُ إلَى فرَحٍ" (يو16: 20).ولمعرفتهم أيضًا أن نهاية ضيقات وأحزان وآلام هذا العالم الذي نعيش فيه سوف تؤول إلى مجد عظيم في السماء.. ولذلك صبروا واحتملوا الآلام مُفضلين الضيقات الأرضية التي تؤهلهم إلى المجد السماوي الذي لا يوصف.. عاملين بما ذكره مُعلِّمنا بولس الرسول: "صادِقَةٌ هي الكلِمَةُ: أنَّهُ إنْ كُنّا قد مُتنا معهُ فسَنَحيا أيضًا معهُ. إنْ كُنّا نَصبِرُ فسَنَملِكُ أيضًا معهُ" (2تي2: 11-12). "فإني أحسِبُ أنَّ آلامَ الزَّمانِ الحاضِرِ لا تُقاسُ بالمَجدِ العَتيدِ أنْ يُستَعلَنَ فينا" (رو8: 18) ولذلك زهدوا كل شيء في أيديهم وفي العالم، عائشين حياة التجرد والاختلاء من كل ممتلكات العالم، سائرين على خُطى بولس الرسول الذي قال: "لأنَّنا لم نَدخُلِ العالَمَ بشَيءٍ، وواضِحٌ أنَّنا لا نَقدِرُ أنْ نَخرُجَ مِنهُ بشَيءٍ. فإنْ كانَ لنا قوتٌ وكِسوَةٌ، فلنَكتَفِ بهِما" (1تي6: 7-8).. وذلك لأن مُعلِّمنا بولس اعتبر أن الغنى هو غنى الروح وليس الجسد.. (أي الغنى الروحي وليس الجسدي) لذلك اشتهوا أن ينطلقوا من الجسد لكي يكونوا مع المسيح.. "ليَ اشتِهاءٌ أنْ أنطَلِقَ وأكونَ مع المَسيحِ، ذاكَ أفضَلُ جِدًّا" (في1: 23). وما شجعهم على هذا هو قول السيد المسيح: " في بَيتِ أبي مَنازِلُ كثيرَةٌ، وإلاَّ فإني كُنتُ قد قُلتُ لكُمْ. أنا أمضي لأُعِدَّ لكُمْ مَكانًا، وإنْ مَضَيتُ وأعدَدتُ لكُمْ مَكانًا آتي أيضًا وآخُذُكُمْ إلَيَّ، حتَّى حَيثُ أكونُ أنا تكونونَ أنتُمْ أيضًا" (يو14: 2-3).من أجل هذا اشتهى آباءنا القديسين الاستشهاد.. لأنه هو الذي يُؤهلهم لهذا اللقاء مع عريسهم السمائي،وقد فعلوا كل ذلك من محبتهم العجيبة للسيد المسيح، مُفضلين الحياة معه عن سواه، واضعين أمام أعينهم الآية القائلة: "مَنْ أحَبَّ أبًا أو أُمًّا أكثَرَ مِني فلا يَستَحِقُّني، ومَنْ أحَبَّ ابنًا أو ابنَةً أكثَرَ مِني فلا يَستَحِقُّني" (مت10: 37).. فكانت حياتهم في الجسد وليست للجسد، وحياتهم في العالم وليست للعالم.. عاشوا في العالم دون أن يعيش العالم في داخلهم وفي قلبهم.. لذلك أحبوا الموت أفضل من الحياة في الخطية.. سفكوا دمائهم من أجل محبتهم في الملك المسيح الذي بذل نفسه على عود الصليب من أجلهم. فيا إلهنا الصالح.. الذي أعنت آباءنا الشهداء على احتمال الآلام والعذابات من أجل تمسكهم باسمك المبارك أعنَّا نحن أيضًا لكي نستطيع أن نشهد لاسمك القدوس المبارك ونقدم للكل مَثلًا حيًا للإنسان الذي يشهد للمسيح في كل مكان ليروا أعمالنا الصالحة فيمجدوك أنت الذي لك كل المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد آمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
12 يوليو 2021

القديس بولس الرسول رسول الجهاد ومدرسة الفضائل

نشأته ويمانه بالسيد المسيح:- وُلد شاول سنة 8 أو 9 م في طرسوس كيليكية التي تقع فى تركيا حالياً والتى كانت مركزا فلسفياً هامًا بعد أثينا والأسكندرية، لأب يهودى من سبط بنيامين ومن عائلة غنية وحاصل على الجنسية الرومانية ودُعي اسمه شاول أي المطلوب ..وهناك قضى طفولته حتى صار يافعًا وبعد أن تعلم اليونانية واللاتينية وثقافة بلده. جاء إلى اورشليم ليتعلم الناموس كفريسي مدقق عند قدمى أعظم معلمى عصره " غمالائيل " فدرس العهد القديم والتقليد اليهودى مما أهَّله للتبشير بين اليهود والأمم وتعلم حرفة صنع الخيام كما يأمر التلمود " فإن من لا يعلم ابنه حرفة فإنه يقوده للسرقة" وقد اعتمد على حرفته هذه كعمل اليدين له فى بادية الشام وأثناء تنقلاته حتى لا يكون ثقلاً على أحد { أنتم تعلمون أن حاجاتي وحاجات الذين معي خدمتها هاتان اليدان} (أع 20 : 34). وهكذا دعى الخدام للتعلم منه فيما بعد { في كل شيء أريتكم أنه هكذا ينبغي أنكم تتعبون وتعضدون الضعفاء متذكرين كلمات الرب يسوع أنه قال مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ} (اع 20 : 35) كان أولاً مضطهِداً لكنيسة الله { واضطهدتُ هذا الطريق حتى الموت مقيِّدًا و مسلمًا إلى السجون رجالاً ونساء (اع 22 : 4){ أنا الذي لست أهلاً لأن اُدعىَ رسولا لأني اضطهدتُ كنيسة الله }(1كو 15 : 9) . شَهد فى أورشليم استشهاد القديس استفانوس وكان حارساً لثياب الذين رجموه ولقد أثر فيه بالتأكيد هذا المشهد العجيب فى مغفرة استفانوس شهيد المسيحية الأول لراجميه وسلامه العجيب وهذا ما اختبره بنفسه فى تعرضه للرجم فيما بعد والاضطهاد من أجل اسم المسيح الحسن { فلما سمعوا هذا حنقوا بقلوبهم وصروا بأسنانهم عليه.وأما هو (استفانوس) فشخص الى السماء و هو ممتلئ من الروح القدس فراى مجد الله و يسوع قائما عن يمين الله. فقال ها أنا انظر السماوات مفتوحة وابن الانسان قائما عن يمين الله. فصاحوا بصوت عظيم وسدوا آذانهم وهجموا عليه بنفس واحدة. وأخرجوه خارج المدينة ورجموه والشهود خلعوا ثيابهم عند رجلي شاب يقال له شاول. فكانوا يرجمون استفانوس وهو يدعو ويقول ايها الرب يسوع اقبل روحي. ثم جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم يا رب لا تُقِم لهم هذه الخطية واذ قال هذا رقد} أع 54:7-60 لم يتقابل شاول مع الرب يسوع أثناء خدمته على الأرض ومع هذا دُعي ثالث عشر الرسل. وكان مقاوماً لتلاميذ المسيح والمؤمنين به كخطر على الديانة اليهودية { وأما شاول فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالا ونساء ويسلمهم الى السجن} أع 3:8 .ولما علم ان الكنيسة فى دمشق نمت وكثر عدد المؤمنين فيها { اما شاول فكان لم يزل ينفث تهديدًا وقتلا على تلاميذ الرب فتقدم الى رئيس الكهنة. وطلب منه رسائل الى دمشق الى الجماعات حتى اذا وجد اناسا من الطريق رجالا او نساء يسوقهم موثقين الى اورشليم} أع 1:9-2. وفى الطريق الى دمشق ظهر له الرب يسوع المسيح وغير مجرى حياته ليصبح رسولا للجهاد والكرازة باسم المسيح { وفي ذهابه حدث انه اقترب الى دمشق، فبغتة ابرق حوله نور من السماء. فسقط على الارض وسمع صوتا قائلا له شاول شاول لماذا تضطهدني. فقال من انت يا سيد فقال الرب انا يسوع الذي انت تضطهده صعب عليك ان ترفس مناخس. فقال وهو مرتعد ومتحير يا رب ماذا تريد ان افعل فقال له الرب قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي ان تفعل. واما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين يسمعون الصوت ولا ينظرون احدا. فنهض شاول عن الارض وكان وهو مفتوح العينين لا يبصر احدا فاقتادوه بيده و ادخلوه الى دمشق. وكان ثلاثة ايام لا يبصر فلم ياكل ولم يشرب. وكان في دمشق تلميذ اسمه حنانيا فقال له الرب في رؤيا يا حنانيا فقال هانذا يا رب. فقال له الرب قم واذهب الى الزقاق الذي يقال له المستقيم واطلب في بيت يهوذا رجلا طرسوسيا اسمه شاول لانه هوذا يصلي.وقد رأى في رؤيا رجلا اسمه حنانيا داخلا وواضعا يده عليه لكي يبصر. فاجاب حنانيا يا رب قد سمعت من كثيرين عن هذا الرجل كم من الشرور فعل بقديسيك في اورشليم. وههنا له سلطان من قبل رؤساء الكهنة ان يوثق جميع الذين يدعون باسمك. فقال له الرب اذهب لان هذا لي اناء مختار ليحمل اسمي امام امم وملوك وبني اسرائيل. لأني سأريه كم ينبغي ان يتالم من اجل اسمي. فمضى حنانيا ودخل البيت ووضع عليه يديه وقال ايها الأخ شاول قد ارسلني الرب يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئت فيه لكي تبصر وتمتلئ من الروح القدس. فللوقت وقع من عينيه شيء كأنه قشور فأبصر في الحال وقام واعتمد. وتناول طعاما فتقوى وكان شاول مع التلاميذ الذين في دمشق اياما} أع 3:9-19. وبعد ان قضى بعد الوقت فى بادية الشام أخذ يبشر بالإيمان بيسوع المسيح ربا ومخلصاً { ثم خرج برنابا الى طرسوس ليطلب شاول ولما وجده جاء به الى انطاكية. فحدث انهما اجتمعا في الكنيسة سنة كاملة وعلّما جمعا غفيرا ودُعي التلاميذ مسيحيين في انطاكية اولا} (اع 11 : 26) . ثم ذهب الى أورشليم وتقابل هناك مع المعتبرين أعمدة من الرسل، بطرس ويوحنا ويعقوب { فاذ علم بالنعمة المعطاة لي يعقوب و صفا ويوحنا المعتبرون انهم اعمدة اعطوني وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للامم وأما هم فللختان }(غل 2 : 9). خدمة القديس بولس الرسول:- على مدى حوالى الثلاثة عقود جال القديس بولس الرسول ومنذ اهتدائه للإيمان وحتى استشهد فى روما على يد نيرون فى 67 م ، جال مبشرا وكارزاً بإنجيل المسيح فى أسيا واوربا من قرية ومدينة الى أخري باسفاراً واخطاراً مراراً كثيرة وكان منهجه الروحى {أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ } ( غلا2: 20). {كونوا متمثلين بي ، كما أنا أيضاً بالمسيح } ( 1كو11 : 1). كان منقادا لروح الله القدوس كما قال عنه الكتاب {أما شاول الذى هو بولس أيضاً فامتلأ من الروح القدس} (أع 13)‏. وليس فقط ممتلئاً من الروح القدس، بل كان الروح يقوده فى كل تحركاته إذ نقرأ فى سفر الأعمال دعوة الروح القدس له للخدمة، {افرزوا لى برنابا و شاول} (أع 13). وكان الروح القدس يسمح له بالكرازة فى أماكن و يمنعه فى مواضع أخرى ونقرأ ‏‎‏وبعدما اجتازوا في فريجية وكورة غلاطية منعهم الروح القدس ان يتكلموا بالكلمة في آسيا‎‏ (أع 16). ‏‎{ وظهرت لبولس رؤيا في الليل رجل مكدوني قائم يطلب اليه ويقول اعبر الى مكدونية واعنا. فلما راى الرؤيا للوقت طلبنا ان نخرج الى مكدونية متحققين ان الرب قد دعانا لنبشرهم} أع 9:16-10 و ليس فقط فى التحركات بل فى التعليم كان مسوقاً بالروح القدس إذ يقول { و كلامي و كرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الانسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة. لكي لا يكون ايمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله. لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الاشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها ايضا لا بأقوال تُعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات} 1كو 4:2-5،13،14) وهكذا نتعلم كخدام المسيح لا ندرس الإنجيل فقط ولكن يجب أن يكون مثل بولس الرسول عاملاً بالانجيل فى حياته منقاداً بالروح القدس { لان كل الذين ينقادون بروح الله فاولئك هم ابناء الله }(رو 8 : 14) .‏ قضى القديس بولس كل حياته في الخدمة بأمانة واجتهاد فى الأسفار فى جميع الأجواء والأراضى والظروف.‏ لذلك يجب أن يعرف الخادم أنه لا يوجد خدمة مريحة. لنسمع لعينة من الأتعاب التى واجهها القديس بولس الرسول برضى وفرح من أجل الكرازة { من اليهود خمس مرات قبلتُ أربعين جلدة إلا واحدة. ثلاث مرات ضُربت بالعِصِي، مرة رُجمت، ثلاث مرات انكسرت بي السفينة ليلا ونهارا قضيت في العمق. باسفار مرارا كثيرة باخطار سيول باخطار لصوص باخطار من جنسي باخطار من الامم باخطار في المدينة باخطار في البرية باخطار في البحر باخطار من اخوة كذبة. في تعب وكد في اسهار مرارا كثيرة في جوع وعطش في اصوام مرارا كثيرة في برد وعُري. عدا ما هو دون ذلك التراكم عليّ كل يوم الاهتمام بجميع الكنائس. من يضعف وانا لا اضعف من يعثر وانا لا ألتهب} 2كو 24:11-29. ويقول يشوع بن سيراخ يا إبني إن أقبلت لخدمة الرب الإله فاثبت على البر والتقوى واعدد نفسك للتجربة (إبن سيراخ 2: 1)، و لقد كان هذا تحقيقاً لقول السيد ‏المسيح لحنانيا عن بولس الرسول سأريه كم ينبغي ان يتألم من اجل اسمي. ومع كل هذه الأتعاب كان القديس بولس فرحاً فى الرب ودعانا للفرح الروحي { كحزانى و نحن دائما فرحون كفقراء ونحن نغني كثيرين كأن لا شيء لنا و نحن نملك كل شيء }(2كو 6 : 10). ولقد لخص مدى أخلاصه فى الكرازة فى أجتماعه بقسوس افسس { و من ميليتس ارسل الى افسس واستدعى قسوس الكنيسة. فلما جاءوا اليه قال لهم انتم تعلمون من اول يوم دخلت اسيا كيف كنت معكم كل الزمان.اخدم الرب بكل تواضع ودموع كثيرة وبتجارب اصابتني بمكايد اليهود. كيف لم اؤخر شيئا من الفوائد الا واخبرتكم وعلمتكم به جهرا وفي كل بيت. شاهدا لليهود واليونانيين بالتوبة الى الله والايمان الذي بربنا يسوع المسيح. و الان ها انا اذهب الى اورشليم مقيدا بالروح لا اعلم ماذا يصادفني هناك.غير ان الروح القدس يشهد في كل مدينة قائلا ان وثقا و شدائد تنتظرني. و لكنني لست احتسب لشيء و لا نفسي ثمينة عندي حتى اتمم بفرح سعيي و الخدمة التي اخذتها من الرب يسوع لاشهد ببشارة نعمة الله } أع 17:20-24. القديس بولس مدرسة الفضائل:- لقد تسلم وعاش وعلم القديس بولس رسالة الإيمان كما تسلمها من الرب يسوع وروحه القدوس إذ يقول لانني تسلمت من الرب ما سلمتكم ايضاً (1كو 11: 23)‏وكانت تعاليمه لها روح تعاليم السيد المسيح نفسها فمن المخلص وبوحى روحه تعلمها وكان أميناً فى تسليمها {إذ يقول ‏لذلك انت بلا عذر ايها الانسان كل من يدين. لانك في ما تدين غيرك تحكم على نفسك} (رو 2: 1) و التى تقابل {لا تدينوا لكي لا تدانوا. لانكم بالدينونة التي ‏بها تدينون تدانون . وبالكيل الذي به تكيلون يكال لكم }(مت 7: 1، 2). و يقول أيضاً {لانه ان عشتم حسب الجسد فستموتون. ولكن ان كنتم بالروح تميتون اعمال ‏الجسد فستحيون }(رو 8: 13) و التى تقابل من تعاليم السيد {فان من اراد ان يخلّص نفسه يهلكها، ومن يهلك نفسه من اجلي يجدها} (مت 16: 25).‏ { لانني تسلمت من الرب ما سلمتكم ايضا ان الرب يسوع في الليلة التي اسلم فيها اخذ خبزا. و شكر فكسر و قال خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لاجلكم اصنعوا هذا لذكري.كذلك الكاس ايضا بعدما تعشوا قائلا هذه الكاس هي العهد الجديد بدمي اصنعوا هذا كلما شربتم لذكري.فانكم كلما اكلتم هذا الخبز و شربتم هذه الكاس تخبرون بموت الرب الى ان يجيء} اكو23:11-26.إن القديس بولس الرسول كتب 109 إصحاحاً فى 14 رسالة شاهداً ومفصلاً لكلمة الله المقدسة. وما تسلمه من الرب سلمه لمن أمنوا علي يديه لاسيما لتلاميذه الذين اوصاهم بان ان يكونوا أمناء فى تسليم شعلة الإيمان للآخرين { و ما سمعته مني بشهود كثيرين اودعه اناسا امناء يكونون اكفاء ان يعلموا اخرين ايضا }(2تي 2 : 2).كان القديس بولس قلباً ملتهباً بمحبة الله { من سيفصلنا عن محبة المسيح اشدة ام ضيق ام اضطهاد ام جوع ام عري ام خطر ام سيف. كما هو مكتوب اننا من اجلك نمات كل النهار قد حسبنا مثل غنم للذبح. و لكننا في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي احبنا. فاني متيقن انه لا موت و لا حياة و لا ملائكة و لا رؤساء و لا قوات و لا امور حاضرة و لا مستقبلة.و لا علو و لا عمق و لا خليقة اخرى تقدر ان تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا} رو 35:8-39. ولقد قدم حياته قربانا لله الذى أحبه ومنذ ان تقابل مع الرب فى الطريق الى دمشق والى ان قدم دمه الطاهر شهادة لأيمانه كانت حياة صلاة حب لله من اجل الكنيسة وبنيانها { متضرعا دائما في صلواتي عسى الان ان يتيسر لي مرة بمشيئة الله ان اتي اليكم} (رو 1 : 10). { نشكر الله كل حين من جهة جميعكم ذاكرين اياكم في صلواتنا} (1تس 1 : 2). ولهذا طلب منا كما تعلم من سيده ان نصلى ولا نمل { صلوا بلا انقطاع }(1تس 5 : 17) . { فاطلب اول كل شيء ان تقام طلبات و صلوات و ابتهالات و تشكرات لاجل جميع الناس} (1تي 2 : 1).ان القديس بولس هو مدرسة للفضائل عاش ما علم به تحقيقا لدعوة الله المقدسة له { فقلت انا من انت يا سيد فقال انا يسوع الذي انت تضطهده.ولكن قم وقف على رجليك لاني لهذا ظهرت لك لانتخبك خادما وشاهدا بما رايت وبما ساظهر لك به. منقذا اياك من الشعب ومن الامم الذين انا الان ارسلك اليهم.لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات الى نور ومن سلطان الشيطان الى الله حتى ينالوا بالايمان بي غفران الخطايا و نصيبا مع المقدسين} أع 15:26-18.ولهذا دعانا للثبات فى الإيمان { اسهروا اثبتوا في الايمان كونوا رجالا تقووا }(1كو 16 : 13). { مع المسيح صلبت فاحيا لا انا بل المسيح يحيا في فما احياه الان في الجسد فانما احياه في الايمان ايمان ابن الله الذي احبني و اسلم نفسه لاجلي }(غل 2 : 20). مصليا من اجل ان {يحل المسيح بالايمان في قلوبكم }(اف 3 : 17){الى ان ننتهي جميعنا الى وحدانية الايمان ومعرفة ابن الله الى انسان كامل الى قياس قامة ملء المسيح }(اف 4 : 13) ويدعونا ايضا للجهاد الروحي حاملين ترس الإيمان {حاملين فوق الكل ترس الايمان الذي به تقدرون ان تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة }(اف 6 : 16).انه رجل الغيرة الملتهبة من أجل خلاص البعيدين والقريبين ومن غيرته على خلاصنا يقول { فإني أغار عليكم غيرة الله ، لانى خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح . ولاكننى أخاف أنه كما خدعت الحية حواء بمكرها هكذا تفسد أذهانكم عن البساطة التى للمسيح} 2كو2:11-3.ومن أجل غيرته على خلاص بني جنسه يقول { فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسي محروماً من المسيح لأجل أخوتى وانسبائي حسب الجسد} رو 3:9. تحمل فى غيرة وانكار لذاته ، اسمعه كيف يتكلم باتضاع قلب { وبعد ذلك ظهر ليعقوب ثم للرسل اجمعين. و اخر الكل كانه للسقط ظهر لي انا.لاني اصغر الرسل انا الذي لست اهلا لان ادعى رسولا لاني اضطهدت كنيسة الله.و لكن بنعمة الله انا ما انا و نعمته المعطاة لي لم تكن باطلة بل انا تعبت اكثر منهم جميعهم و لكن لا انا بل نعمة الله التي معي.فسواء انا ام اولئك هكذا نكرز و هكذا امنتم} 1كو 7:15-11أخيرا نسمعه يلخص حياته بالنصيحة لتلميذه تيموثاوس { نا اناشدك اذا امام الله و الرب يسوع المسيح العتيد ان يدين الاحياء و الاموات عند ظهوره و ملكوته.اكرز بالكلمة اعكف على ذلك في وقت مناسب و غير مناسب وبخ انتهر عظ بكل اناة و تعليم.لانه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكة مسامعهم.فيصرفون مسامعهم عن الحق و ينحرفون الى الخرافات.واما انت فاصح في كل شيء احتمل المشقات اعمل عمل المبشر تمم خدمتك. فاني انا الان اسكب سكيبا و وقت انحلالي قد حضر.قد جاهدت الجهاد الحسن اكملت السعي حفظت الايمان. و اخيرا قد وضع لي اكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل و ليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره ايضا} 2تي 1:4-8. أذكروا مرشديكم :- اليك يا الهنا الصالح نقدم الشكر والتسبيح على نعمة الإيمان التى تسلمناها من أبائنا الرسل القديسين ومن بينهم قديسنا وكارزنا القديس بولس الرسول شاكرين محبته وذاكرين اتعابه من أجل نشر الإيمان . وكما علمنا هذا الكاروز العظيم {اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله انظروا الى نهاية سيرتهم فتمثلوا بايمانهم} (عب 13 : 7). فاننا ننظر الى نهاية سيرته الطاهرة ونتمثل بإيمانه وغيرة وجهاده ومحبته السلام لك يا رسول الجهاد ومدرسة الفضائل ، ايها الكارز بالأيمان الأقدس الذى دعوتنا اليه . داعيا ايانا ان نخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحتة النور ونجاهد الجهاد الحسن من أجل الرجاء الموضوع أمامنا ناظرين الى رئيس الإيمان ومكمله . السلام لك يا ابانا القديس يا من لم يفتر بدموع ان ينذر كل أحد لكى نسلك بالتدقيق لا كجهلاء بل كحكماء ، مفتدين الوقت فى هذه الأيام الشريرة السلام لك يا معلمنا اسلحة الحرب الروحية لننتصر على محاربات الشيطان { اخيرا يا اخوتي تقووا فيالرب و في شدة قوته. البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا ان تثبتوا ضد مكايد ابليس.فان مصارعتنا ليست مع دم و لحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع اجناد الشر الروحية في السماويات. من اجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا ان تقاوموا في اليوم الشرير و بعد ان تتمموا كل شيء ان تثبتوا.فاثبتوا ممنطقين احقاءكم بالحق و لابسين درع البر. و حاذين ارجلكم باستعداد انجيل السلام.حاملين فوق الكل ترس الايمان الذي به تقدرون ان تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة. و خذوا خوذة الخلاص و سيف الروح الذي هو كلمة الله. مصلين بكل صلاة و طلبة كل وقت في الروح و ساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة و طلبة لاجل جميع القديسين} أف 10:10-18السلام لك يا من دعانا الى حياة المحبة والايمان والرجاء { المحبة تتانى و ترفق المحبة لا تحسد المحبة لا تتفاخر و لا تنتفخ.و لا تقبح و لا تطلب ما لنفسها و لا تحتد و لا تظن السوء.و لا تفرح بالاثم بل تفرح بالحق. و تحتمل كل شيء و تصدق كل شيء و ترجو كل شيء و تصبر على كل شيء.المحبة لا تسقط ابدا ، اما الان فيثبت الايمان و الرجاء و المحبة هذه الثلاثة و لكن اعظمهن المحبة} 1كو 4:13-8،13. أطلب من الرب عنا ايها الرسول القديس بولس الرسول ان يقوى إيماننا ويلهب قلوبنا بالمحبة ويملأ حياتنا بالرجاء ويغفر لنا خطايانا . القمص أفرايم الأورشليمى
المزيد
11 يوليو 2021

الخادم والحماس

قيل عن المتنيح القمص بيشوي كامل إنه كان دائمًا يردّد الآية «خدامه لهيب نار».. وبذلك ينادي دائمًا على ضرورة حماس الخادم المتقد تجاه خلاص النفوس وجذبها، إذ يُعَدّ الحماس تعبيرًا أمينًا عن صدق الحب للمخلص والفادي، فيردّد: «كيف أنجو إن أهملت خلاصًا هذا مقداره».. ويصل به إلى درجة الشغف للخدمة في وقت مناسب ووقت غير مناسب.رأينا معلمنا بولس يعظ في البيوت، والمجامع اليهودية، وفي الطرقات، والسياجات، بل وفي الأسواق، والسجن... ولم تمنعه الضيقات والمكائد والأخطار عن استكمال مسيرة الخدمة حتى وصل إلى روما متغلِّبًا على كل العوائق، ولم نجده يفقد حماسه حتى النهاية، ولم يقع في الكسل واليأس ورثاء الذات. وكان هذا منهج التلاميذ في الكرازة بعمل المخلص، إذ أخذوا على أنفسهم ضرورة امتداد الكرازة بما رأوا وسمعوا رغم كل تهديد ووعيد.+ يُعَد الحماس للخدمة هو دافعها القوي والأمين والمستمر، فهو الذي يمنح القوة والتأثير في المخدومين، ولذلك نجد في كرازة القديس يوحنا المعمدان نموذجًا رائعًا لحماسة الخدمة التي ينبغي أن نتعلمها وتتدفق إلينا، وننادي «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم».+ كيف ننادي بالمخافة والتوبة والخلاص من الهلاك الأبدي، ونختطف نفوسًا من النار ومن قبضة العدو، برخاوة وبدون حماس؟ وكيف ندعو لبناء الأسوار المنهدمة، ولا نلهب القلوب بالحماس بأن نقوم ونبني ولا نكون بعد عارًا؟ وكيف نوقظ المتهاون بروح التهاون؟!.. فلا يصح مجرد النصح لمن يغرق، ولا مجرد التوجيه لمن تمكّن المرض منه. ومع الإيمان بجسامة المسؤلية يتولّد الحماس والغيرة، فنردّد: «من يضعف وأنا لا أضعف؟ من يعثر وأنا لا ألتهب؟»ونتعجب حين يحذّر إرميا النبي «ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة» (إر48: 10)، ووصل به الأمر أن نادى: «أحشائي، أحشائي! جدران قلبي توجعني، لا أستطيع السكوت» (إر4: 19). ورأينا إشعياء النبي يصرخ: «نادِ بصوت عالٍ، لا تمسك، ارفع صوتك كبوق، وأخبر شعبي» (إش58: 1).+ الحماس يظهر في الإعداد الجيد، والحضور المبكر، وحُسن الاستقبال، وغيرة الأداء، ونبرة الصوت، ونشاط الحركة، والتأهُّب للمساعدة.. أمّا الخمول والتباطؤ والتثاقل في الأداء وبطء الإيقاع وإهمال الإعداد وعدم التفاعل، فيُحدث لونًا من ألوان الخمول والتراخي وعدم المصداقية، وبالتالي عدم الاستجابة لما يُقال أو يُفعَل... ويعبّر عن خادم فقد رجاء دعوته!ما أجمل أن نستودع مواهبنا وقدراتنا في يد القدير، فيطلقها كسهام بيد جبار، تعمل بقوة تفوق قدراتنا الضيقة المحدودة.أشير عليك أن تأخذ نصيبك من ذلك الروح الناري الذي يمنحك القوة والغيرة، فتتكلم بما يتخطّى قدراتك، فتخبر بعظائم فوقك، ويتمجد الله حين يرى غيرتك وحماسك وتعبك، فكيف لا يحصد بابتهاج من زرع بدموع... ليت اسمه يكون محصورًا في قلوبنا وعظامنا، فلا ندعه يسكت ولا نستطيع أن نسكت عن المناداة به وله... القس أنطونيوس فهمى - كنيسة القديسين مارجرجس والأنبا أنطونيوس - محرم بك
المزيد
10 يوليو 2021

حياة بولس الرسول المبكرة :-

ولد بولس فى مدينة طرسوس فى كليكية الواقعة فى أسيا الصغري ( تركيا الان ) ، وفى فتره محتملة غير مؤكده ( ما بين السنة الخامسة والعاشرة للميلاد ) . كان اسمه عند الولادة ” شاول ” وترعرع فى كتف أسرة يهودية منتمية لسبط بنيامين (بحسب شهاده فى رسالته الى اهل رومية ) – كما انه ايضا كان مواطناً رومانياً – عمل كصانع للخيام ، وكان مهتماً بدراسة الشريعة اليهودية – حيث انتقل الى أورشليم لكى يتلمذ على يد الفريسى ( غمالائيل ) وهو احد اشهر المعلمين اليهود فى ذلك الزمان ويبدوا انه لم يلتقى فى هذه الفترة بيسوع الناصرى . التحول :- كان شاول ذا ميول متطرفه ، عمل على محاربة المسيحية الناشئة وأعتبرها فرقة يهودية ضالة تجدد الديانة اليهودية الرسمية ، وكان يراقب الشماس أستفانوس وهو يُرجم حتى الموت ، بينما كان هو يحرس ثياب الراجمين ، وهو راضى بما يقومون به . على طريق دمشق :- فى طريقه الى دمشق وبحسب رواية العهد الجديد ، قد حدثت رؤيا لشاول كانت سبباً فى تغير حياته .. حيث أعلن الله عن أبنه بحسب ما قاله بولس الرسول فى رسالته إلى أهل غلاطية – وبشكل اكثر تحديداً قال بولس ” أنه رأى الرب يسوع” وحدث ذلك وهو فى طريقه الى دمشق ، وبعدها أقتيد بولس ( شاول ) وهو بعد أعمى الى دمشق حيث أعتمد علي يد حنانيا ورد اليه بصره ، وعرف شاول بعد ذلك بأسم بولس … بعد أعتناق بولس المسيحية قضى فترة من الزمن فى الدول العربية ( ربما يكون بلدية الشام ) – ثم عاد الى دمشق ، وهناك تأمر عليه اليهود لكى يقتلوه وابلغوا عنه الحاكم ، فقام رفاقه بتسهيل هروبه من المدينة ، بأن دلوه فى سل من فوق السور وهو مكانه الأن ” كنسية ماربولس فى باب كيسان اليوم ” . عمله الرسولي ….: بعد ثلاث سنوات ، عاد بولس الى أورشليم ( 40 م) وهو راغب بلقاء رسل المسيح ، فمكث عند بطرس خمسه عشر يوماً قابل خلالها يعقوب البار . بعد ذلك بدأ رحلاته التبشيرية الشهيرة فى الغرب ولكنه قام أولاً بالتبشير فى سوريا وكليكية – وفى العشرين سنة اللاحقة قام بولس بتأسيس العديد من الكنائس فى أسيا الصغرى وثلاث كنائس على الاقل فى أوروبا .. الرحلات التبشـــيرية لبولــس الرســـول :- أولاً : الرحلة التبشـــيرية الاولـــى :- مكث بولس الرسول لفتره من الزمن فى مدينته طرسوس – ومن ثم أنضم الى برنابا وذهبا معاً الى انطاكية حيث وعظاً فيها سنة كاملة ومن هناك انحدروا الى منطقة اليهودية حاملين معهم مساعدات من كنيسة انطاكية ، وبعد ان أكملا مهمتهما غادرا أورشليم برفقتهما مرقس ، من أنطاكية بدأ بولس رحلته التبشيرية الاولى رافقه فيها برنابا ، وفى قسم منها أبن أخت برنابا ( مرقس ) – فعبروا البحر الى قبرص ، وبعد ذلك الى جنوب تركيا ( بيرجه بيسيديه ، أيقونيه ، لستره ، ودربه ) كان بولس ورفاقه يتبعون أسلوباً فى الدعوة ، فقد كانوا ينتقلون من مدينة الى أخرى ينادون باخلاص بيسوع المسيح فى مجامع اليهود وفى الأسواق والساحات العامة حيث اوجدوا جماعات مسيحية جديدة واقاموا لها رعاة وقساوسة ، أنقسم اليهود من مسامتعهم بين مؤيد ومعارض ، واما بولس فقد حول وجهه صوب الوثنيين لتلمذتهم هم ايضاً على ما يؤمن به . مجمع اورشليم :- حوالى سنة 48 م ، وقعت أزمة بين مسيحى أنطاكية حول مسألة الختان عندما وصل الى المدينة مسيحيين ذو خلفية يهودية يطالبون بضرورة تطبيق شريعة الختان على المسيحيين القادمين من الديانات الوثنية لكى ينالوا الخلاص . أما بولس وبرنابا فقد خالفا ذلك بشكل كبير ، ولما لم يتمكنا من حل المسألة – أرسلت كنيسة أنطاكية بهما مع أناس أخرون الى الرسل ومشايخ أورشليم للنظر فى الأمر – وتم عقد ( ما يعتبروه مؤرخو الكنيسة ) أول أجتماع او مجمع كنيسى وهو ” مجمع أورشليم ” . الذى وافقت فيه الكنيسة على مقترحات بولس وبرنابا وهو مؤاده ” لايلزم بالختان كل الأمميون المؤمنون بالمسيح ، – وأنما يكتفى بمنعهم عن ” نجاسات الأصنام ، والزنى ، والمختون ، والدم .” بحسب وصف سفر أعمال الرسـل . بعد هذا الأجتماع ( المجمع )– تم تحديد المهام التبشيرية فى الكنيسة حيث أصبح :- 1 – بطرس ويعقوب البار ويوحنا أبن زبدي رسولاً للختان ( أى لليهود ) . 2 – وأعتبار بولس وبرنابا رسولاً للأمم ( أى غير اليهود ) وفى هذا المجمع تحدد وجه المسيحية كديانة مستقلة وليس كفرع من فروع اليهودية … الرحله التبشيرية الثانية :- أراد برنابا أن يصطحب مرقس معهما .. لكن لم يوافق بولس على ذلك فوقع خلاف وشجار بينهما وأفترقا على إثره ، ومضى بولس فى طريقه مع سيلا وهو أحد الوعاظ المسيحيين – كان هدف بولس الرئيسى من تلك الرحله هو المرور على الجماعات المسيحية التى أقامها فى جنوب الاناضول خلال رحتله الاولى لتفقد أحوالها . فى لستره التقى تيموثاوس الذى أنضم اليه هو الأخر ، ثم تابع طريقه باتجاه الشمال حتى وصل الى (الدردينيل )- ومن هناك عبر الى اليومنان – وفى تلك البلاد أسس بولس كنائس جديدة فى فيلبى وتسالونيكى وبيريه وأثينا وكورنثوس . وخلال أقامة بولس الرسول الطويلة نوعاً ما فى كورنثوس أقام بولس بكتابة رسالتيه الأولى والثانية الى أهل تسالونيكى ( حوالى عام 52 م ) – ومن المحتمل أنه كتب فى تلك الفتره أيضا رسالته الى الغلاطيون – مع أن الباحثيين يرجحون أن تكون هذه الرسالة المكتوبة فى أنطاكيه – هى باكورة إعماله – بينما يذهب أخرون الى أنها كتبت فى فترة لاحقة فى مدينة أفسس – ثم أبحر بولس بعد ذلك إلى قيصرية فى فلسطين ، ومنها قام بزيارة لاورشليم ومن ثم عاد إلى انطاكيه . الحركة التبشيرية الثالثة : ( وهى ما بين سنة 54 – 58 ) . من غلاطية ثم إلى فريجيه ومنها إلى أفسس ( لمده عامين ونصف ) قضاها بولس الرسول فى أفسس وهى أكثر فترات حياته أثماراً حيث كتب فيها رسالتين الأولى والثانية إلى أهل كورنثوس ( حوالى عام 56 م ) بعدها ذهب إلى كورنثوس بنفسه حيث يعد أنه كتب فيها رسالته الى أهل روما – ثم عاد إلى أفسس ، وبعدها إلى اورشليم حيث اعتقل هناك وكانت تلك هى الزيارة الأخيرة للمدينة المقدسة ( بين عاملى 57 ، 58 م ) ….
المزيد
09 يوليو 2021

اسلكــــوا بالـــروح ج

بحسب ما تَسَلّمنا من إيمان إنّنا حينما اعتمدنا للمسيح قد لبسنا المسيح.. وبحسب ما كُتب أيضًا صِرنا هيكلاً للروح «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ... لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ» (1كو3: 16، 17)، وبحسب الإيمان أيضًا «جَمِيعُنَا سُقِينَا رُوحًا وَاحِدًا» (1كو12: 13)، «وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ» (رو8: 11).ومِثل ذلك كثير.. والسؤال الذي يجب أن يلحّ علينا: كيف أسلك بالروح؟ أو كيف أنقاد بالروح حسب المكتوب «لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ» (رو8: 14).والواقع العملي إنّنا حصلنا على كلّ وعود الله الصادقة، والواقع العملي أيضًا أنّنا نلنا وأخذنا. فإن كان العالم واقع تحت سلطان روح الظلمة، «الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ» (أف2: 2). وهذا بالطبيعة يُثمِر كلّ أفعال الشرّ والنجاسات والطمع والكذب والخبث والحقد والقتل، وكلّ باقي الأفعال التي نراها في العالم ونسمع عنها كلّ يوم وفي كلّ مكان. فإذن الحاجة الماسة الشديدة أن يوجّد أولاد الله سالكين بالروح المضاد لروح العالم، يشهدون ضدّه، ويشهدون عليه، ويدينون أفعاله وكلّ قوّته الشريرة. «اسْلُكُوا بِالرُّوحِ... الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ» (غل5: 16، رو8: 14) لا تطفئوا الروح (هو نار غير مادية لكن ينطفئ في الهالكين). إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون (هذا هو عمل الروح). أُصلِّي بالروح (بدونه لا صلاة). لا تُحزِنوا الروح (بل على العكس فرِّح قلب الله بتوبتك). جئت لأُلقي نارًا.. وكيف تُضرَم النار (أضرِم الموهبة التي فيك). الروح يحيي (بدونه الموت حتمًا). روح الحقّ (ضد روح الضلال الذي في العالم). روح الذي أقام يسوع (يقيمنا ويحيي أجسادنا وأرواحنا). روح البنوّة (به صِرنا أبناء للآب). روح الله (مَن يقبله؟). امتلئوا بالروح (إلى كلّ ملء الله). كلّنا سُقينا روحًا واحدًا (الماء والروح). يُبكِّت العالم على خطيّة وعلى بِرّ وعلى دينونة. يأخذ مِمّا للآب ويخبركم (المسيح لم يتكلّم مِن ذاته وحدَه، بل كما سمع من الآب). ذاك يمجّدني (الآب يمجِّد الابن، والروح يمجِّد الابن، والابن يمجِّد الآب). يتكلّم بكلّ ما قلته لكم (الروح والكلمة). كيف أسلك بالروح؟ أو كيف أنقاد بالروح؟ بادئ ذي بدء قلْ لي هل تشعر بروح الله في داخلك؟ ألم يَقُل المسيح إنّه ينبع في الداخل كنبع الحياة الأبدية؟ هل تشعر بحضوره المفرح وحلوله المشبع الذي يسيطر على كلّ ما فيك؟ هل تشعر به يملأ كيانك؟ هل تستشعر عذوبة حلول الروح وعزاءه الذي لا يُعَبَّر عنه؟ هل تسمع صوته؟ هل تخضع لتلبيته عندما يَنخُس الضمير، ويوقِظ ما كان نائمًا مِن مبادئ ومُثُل، بل حينما يُقيم ما كان ميتًا من الحواس المقدسة؟ هل تستنشق أريجه الإلهي، حين يملأ الداخل بعطر القداسة ونسيم الوداعة الإلهية؟ هل تَخلُد إلى السكون العميق الذي يسدله الروح على الحواس، ويجعلها مرهَفة للإنصات؟ هل تهبّ عليك ريحه، فتسيل المياه من الداخل، فتَجري من الينبوع إلى المآقي كسواقي الله؟ هل صار الصوت الخفيف والنسيم الهادئ يلفّك من كلّ ناحية، فتشعر أنّك جزء من وجوده؟ أَم هل لحقتك النار في طرف من أطراف كيانك، فحوّلَتْ البرودة، بل وألغتها، وأشعَلَت الغِيرة والفرح؟ وهل سعدتَ بكلّ هذا، أو بعضه، وهل طلبت المزيد؟ وهل توسلتَ أن تدوم هناك؟ (يُتّبَع) المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
08 يوليو 2021

8- شخصيات الكتاب المقدس برزلاي الجلعادي

برزلاي الجلعادي "وهو عال الملك عند إقامته في محنايم لأنه كان رجلاً عظيماً جداً" 2صم 19: 32 مقدمة في قصيدة رائعة لواحد من شعراء الغرب، قال: إنه كان يسير ذات يوم في الصحراء، في يوم اشتدت فيه الحرارة كاللظي الملتهب، وإذا به يبصر على بعد خميلة ظليلة سعي إليها، ليجد تحتها مقعداً وكلمة مكتوبة فوق المقعد.. اجلس أيها المسافر واسترح قليلاً!!.. فجلس ولفت نظره سلة ممتلئة بالتفاح، فاقترب منها ليجد عبارة فوقها تقول: خذ تفاحة من السلة وكل!!.. فأخذ تفاحة،.. ورأى ورقة أخرى على بعد تقول: هناك غدير ماء، فاذهب إليه واشرب، فأسرع ليجد ماء حلواً سلسبيلاً، فانحنى على الغدير، وشرب الماء،.. وفي كل هذا كان يأخذه العجب، وتاق أن يعرف سر المكان،.. وإذا به يبصر على مقربة من المكان كوخاً يقف على بابه رجل عجوز،.. ذهب إليه مستفسراً وعلم منه القصة كلها، أن الرجل هو صاحب الخميلة، وصاحب التفاح، والمرشد إلى الماء، وقد أدرك الرجل أن المسافر في الصحراء يحتاج إلى خميلة يستظل بها، وربما هو جائع ويحتاج إلى تفاحة يأكلها، والسلة من التفاح فائضة عن حاجة الرجل، فلماذا لا يعطي الغريب الجائع؟!! ولماذا لا يرشده –وهو ظاميء- إلى النبع من الغدير الذي قد لا يتنبه إليه، وهو في أمس الحاجة إليه،.. رأى الشاعر كل هذا، فكتب قصيدته، متمنياً أن يفعل هو ما يفعل هذا العجوز، إذ يقف على الطريق البشري ليمد يده إلى المتعب السائر في برية الحياة، لعله يظلله في خميلة الحب والحنان، ويمد له الطعام، ويرويه بالماء، وقد استبد به الجوع والعطش، وهذا من أعظم ما يفعله الإنسان للإنسان في هذه الحياة،.. كان بزرلاي الجلعادي هو العجوز القديم الذي آوى داود في المحنة والتعب والجوع والعطش، وأضحى على مر العصور مثلاً يحتذى وقدوة صالحة، حتى جاء المعلم الأعظم يحدثنا عن السامري الصالح الذي لم يتخلف عن إسعاف المنكوب الحظ، الذي تركه اللصوص بين حي وميت في الطريق من أورشليم إلى أريحا!!.. هل لنا أن نتأمل برزلاي وقد أمسك بالفرصة، التي لم تضع منه، وقدم شيئاً مهما كانت عظمته فإنه لا يساوي ما أخذ من مجد وخلود، وقصة تتلقفها الأجيال من جيل إلى جيل على مر التاريخ!!… برزلاي الوفي كان برزلاي الجلعادي -كما يصفه الكتاب- "رجلاً عظيماً جداً" ولعل الوصف هنا يعطينا صورة عن الشيخ الجليل المهيب المحترم، الواسع الثروة، الذائع الصيت، المكرم المقام،.. ومهما تكن أوصافه، فإن أعلى ما يظهر به الرجل هو ذلك الوفاء العظيم النادر الذي اتسم به في موقفه من داود غداة الثورة التي قام بها أبشالوم ضد أبيه،.. فهو أولاً وقبل كل شيء الوفاء الصادق الخالص، الذي لا يبحث عن غرض أو يرجو مصلحة، بل يقف إلى جانب الحق والأمانة والصدق والشرف، لقد كان طرفا الثروة داود وابنه أبشالوم، الملك الشرعي والابن المتمرد، الرجل الذي يقود الأمة بإرادة الله، والابن الذي استمال الشعب بالخداع والكذب والنفاق والتملق،.. ولم يستطع الرجل أن يغمض عينيه، أو يتجاهل الموقف، أو يقف على الحياد،.. وهو الصورة المشرقة الواضحة للمؤمن الأمين الوفي، الذي يعرف أن الخط المستقيم لا يمكن أن يكون معوجاً، ولا يحتمل الالتواء أو التردد أو التراجع أو الانقلاب،.. ولقد سار برزلاي على الطريق دون أن يلوي على شيء، وهو سيبقى مع داود حياً أو ميتاً على حد سواء!!.. ولم يستخدم ما يستخدمه الناس عادة من حيطة أو حرص أو ذكاء في مثل هذه المواقف، وهو لم يقف ليراقب الريح، ويعلم أين تتجه المعركة ليأخذ المكان الذي يتصور أن إلى جانبه الفوز،.. ومع أو الوضع الظاهري كان أدنى إلى أبشالوم منه إلى داود، إذ أن الشعب كله كان من المتمرد، ولم يكن مع الهارب الذي كان يقود مجموعاً قليلاً يسيراً محدوداً من الناس،.. وكانت أملاك الرجل وأسرته وحياته جميعآً في أدق المواقف لو نجح أبشالوم في ثورته، لكن هذا كله لم يمنع الرجل من أن يؤكد أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن على الإنسان أن يقف إلى جانب الحق، حتى ولو وقف فريداً وحيداً منعزلاً دون الجميع،.. ووقف العالم كله على الجانب الآخر!!... ولعله من الواجب أن نلاحظ أن وفاء برزلاي امتحن أقسى امتحان، بمحنة داود، ولكن الوفاء الصحيح لا يغيره الملك فوق عرشه، أو ساقطاً تحت حمله وعاره وصليبه،.. وداود هنا رمز لذاك الذي ترك عرشه، وخرج خارج المحلة، فلنخرج إليه خارج المحلة حاملين عاره!!... هل رأيت الفتاة القديمة "مريم" تقف في وسط البستان، وهي تبكي، وتتحدث إلى من تظنه البستاني، وتقول في لغة الوفاء: أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه": "يا سيد إن كنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه"؟.. وهي لا تتبع السيد في مجده وجلاله وعظمته، بل وهي تظن أنه لا يزيد عن جثة في قبر!!.. وهل رأيت ذلك الصف الطويل الذي لا أول له ولا آخر، وهو يقبل عار المسيح غني أعظم من خزائن!!؟ وهو يسير معه في وادي الاتضاع قبل أن يراه في مجده الأبدي العظيم؟! إنها صورة برزلاي تعود مرة أخرى لتكرم اسم المسيح وترفعه فوق كل اسم، مهما تعرض للهوان والتمرد والثورة، من أمثال أبشالوم في كل الأجيال والعصور. برزلاي المعطي وإذا كان الوفاء الصادق العميق هو الحقيقة الداخلية التي تملأ الرجل،.. فإن العطاء على وجه الخصوص كان المظهر العظيم للحقيقة الخفية، وها نحن نقف الآن لنتأمل سمات هذا العطاء السخي الكريم الذي جاء في أدق الأوقات في حياة داود، ولعله كان أولاً: العطاء التلقائي، فلم يأت هذا العطاء لأن داود سأل، أو لأن هناك ضغطاً وقع على برزلاي، أو إكراهاً بأية صورة من الصور،.. لقد جاء العطاء نابعاً من النفس الكريمة المضيافة،.. لقد وقف برزلاي الجلعادي مع شوبي بن ناحاش وماكير بن عميئيل أمام شعب: "جوعان ومتعب وعطشان في البرية".. وكانت حالة الشعب أبلغ من كل كلام!!.. إنه أشبه بذلك الرجل اليائس الذي وقف على قارعة الطريق ينتظر إحسان الناس دون أن يتكلم!!.. وإذ سأله أحدهم لماذا لا يرفع صوته، ويتحدث عن حاجته،.. وقال الرجل إنه ليس في حاجة إلى رفع صوته، إذ أن بؤسه المرسوم على وجهه يتكلم بمالا يستطيع أن يتكلم به أفصح لسان!!... إن بعض الناس قد يعطون عطاء الأسفنجة والتي لابد من عصرها حتى يخرج ما فيها من ماء،.. فإذا لم يعصر هؤلاء، فهم لا يعطون أو يقدمون على الإطلاق،.. وآخرون مثل البقر الحلوب التي سئل صاحبها عما إذا كانت تدر اللبن الكثير، وقال الرجل إنها تعطي اللبن الوفير على شرط أن أحصرها في ركن المكان، وأكون حريصاً من نطحها ورفصها،.. ومن الناس من قد يعطي، ولكن بعد أن ينطح أو يرفص.. لكن برزلاي الجلعادي لم يكن من هذا الضعف،.. إنه يدر اللبن، ويكثر العطاء، لأن شيئاً في أعماقه يدفعه إلى ذلك، لأن روحه الكريمة السخية تجزل العطاء، لأن عطاؤه نابع من قلبه،.. وهو ثانياً: العطاء العملي، إذ قدم برزلاي وأصدقاؤه لداود ومن معه: "فرشا وطسوسا وآنية خزف وحنطة وشعيراً ودقيقاً وفيركاً وفولاً وعدساً وحمصاً مشوياً وعسلاً وزبدة وضاناً وجبن بقر"... وألغب الظن أن من يسخو في العطاء، لا يتكلم كثيراً،... سقطت الآنية من الغلام الصغير وقد تحطمت وما بها من لبن، وهو يبكي لأنه يخشى عقاب سيده إذا ذهب إليه فارغاً من غير إناء، ومر الناس بالغلام الصغير، بعواطف متعددة مختلفة، فمنهم من لامه لأنه لم يحرص على الإناء، ومنهم من هز رأسه ومضى، ومنهم من رثى له بكلمات عابرة، لكن واحداً وقف وجمع له أكثر مما ضاع منه، وكان ولا شك أفضل الجميع،.. أليس هذا ما ردده الرسول يعقوب في قوله: "إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي فقال لهما أحدكم امضيا بسلام استدفئا واشبعا ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد في المنفعة".. وثالثاً: كان عطاء برزلاي العطاء السخي، لقد وصف بالقول: "وهو عال الملك عند إقامته في محنايم"... أي أن العطاء لم يكن ليوم أو لأيام قليلة بل امتد إلى زمن غير قصير، ولم يتبرم الرجل أو يتراجع عن المساعدة والمعونة، بل بالحري أدرك رسالته، لقد أعطاه الله الكثير، وهو لا يمكن أن يعطي بالشح أو البخل،.. إنه ذلك النوع من الرجال الذي يؤمن بأنه ليس بئراً يخزن الماء حتى يصبح آسناً، بل أنه النهر المتدفق الذي لا يكف عن العطاء أو الإرواء،.. جاء في أساطير القدماء أن شيخاً من شيوخ القبائل حفر بئراً، وأصدر أمراً بأنه لا يجوز لأحد أن يشرب من البئر غيره وغير أسرته، وإذ به يجد أن البئر جفت ولم تعد تعطي الماء، فأتى بالعرفاء ليسألهم كيف يأتي الماء إلى البئر،.. فقالوا له: إن البئر لن تفيض حتى يشترك الناس مع الشيخ في الانتفاع بها، فأصدر أمراً بأن يشرب هو وبيته من البئر نهاراً، ويشرب الناس منها في الليل، وتعجب أن الماء جف في النهار، وغزر في الليل، فعكس الوضع إذ أصدر أمره بأن يشرب الناس في النهار وهو في الليل،.. وإذا بالماء يأتي في النهار، لينتهي في الليل،.. وتعلم من ذلك أن المشاركة الدائمة هي التي تعطي النبع فيضه الكريم.. كان مال برزلاي أصلاً مثل مال أيوب عندما قال"إن كنت منعت المساكين عن مرادهم أو أفنيت عيني الأرملة أو أكلت لقمتي وحدي فما أكل منها اليتيم بل منذ صباي كبر عندي كأب ومن بطن أمي هديتها إن كنت رأيت هالكاً لعدم اللبس أو فقيراً بلا كسوة إن لم تباركني حقواه وقد استدفأ بجزه غنمي إن كنت قد هززت يدي على اليتيم لما رأيت عوني في الباب فلتسقط عضدي من كتفي ولتكسر ذراعي من قصبتها".. وقد تعلم برزلاي من صغره أن تكون يده كريمة فياضة مبسوطة لا يقبضها عن بائس أو مسكين، وعندما جاء الملك ومن معه، سخا برزلاي إلى آخر حدود السخاء والعطاء والكرم!!... في ساحة كنيسته كتبت هذه العبارة: ما أعطيه أملكه. وما أحتفظ به أفقده!!... وكان عطاء برزلاي رابعاً: من غير مقابل، فالرجل لم يعط كما يعطي بعض التجار إذ يقدمون عطاياهم أو هداياهم على أمل التعويض المتكاثر من الصفعة أو الصفعات التي تلحق ما يقدمون أو يعطون، إنه على العكس من ذلك يعطي عطاء الآباء أو المحبين،.. والأب الذي يكد ويجتهد ويأخذ أجره أو عائده، لا شيء عنده أبهج أو أسعد من أن يعود إلى البيت محملاً بالخيرات والعطايا لزوجته وأولاده، ولا شيء يعمق الفرح في قلبه أكثر من رؤيتهم سعداً مبتهجين، بما يأخذون أو ينتظرون،.. والمحب كم يسعده أن يتمتع الحبيب بما يقدم له يجزل من هدايا وعطاء!!... وكان عطاء الرجل القديم آخر الأمر عطاء المسعد للآخرين!!... لقد جاءت عطيته في وقتها. والناس ملوكاً أو صعاليك يحتاجون بعضهم للبعض، والزمان دوار، والملك الآن في مركز الشريد الطريد الصعلوك، المحتاج إلى أقل مساندة أو مساعدة، وعندما هزمت الثورة، وعاد الملك إلى مجده.. تغير الوضع، وعرض على برزلاي أن يجزل له العطاء،.. على أن داود لم يسعد بالعطاء المادي، وهو في ذله وهوانه فحسب، بل سعد أكثر بالعطاء المعنوي الذي يرمز إليه العطاء المادي،.. لقد كانت نفس داود منحنية أشد الانحناء، وكان السؤال الذي ربما سأله لنفسه عشرات المرات!!.. هل تخلى الله عنه في الثورة؟!!.. وهل أقام ابنه ضده لكي يعاقبه دون رقة أو رحمة أو شفقة؟!! وجاءته عطايا برزلاي ومن معه، كالنسمة الحلوة الهادئة الرقيقة لنفسه المتعبة!!... لقد أدرك بأن الله لم يتخل عنه قط وقد أرسل له في هذه العطايا كأس الماء البارد الذي تحتاجه شفتاه الظامئتان الملتهبتان من الضيق والظمأ، وأدرك أن الله في الغضب يذكر الرحمة... ومن المؤكد أنه شكر الله، لا على ما قدم برزلاي من مادة، بل على ما أظهر من مودة وحنان ورقة ولطف وشركة،.. وكانت هذه جميعاً عنده أعظم وأكرم،.. وهل من شك في هذا؟ لقد استنشق المسيح طيباً أعبق وأسمى، ومريم أخت لعازر تسكب على رأسه قارورة الطيب التي ملأت رائحتها المكان،… لقد استنشق طيب الحب والحنان والولاء والتكريس، والذي لا يمكن أن يباع بذهب الدنيا كلها!!.. وغنى بولس على هذا الأساس وهو يلمس بيديه عطايا الفلبيين وهو يقول: “قد امتلأت إذ قبلت من ابفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة مرضية عند الله”… ودع داود برزلاي بالقبلة والبركة وهما يفترقان على ضفاف الأردن، ولست أعلم مدى الانفعالات التي كانت تملأ نفسه في ذلك الوقت، لكني أعلم أنه انفعل ذات مرة وهو يمسك بين يديه جرعة الماء التي جاءته من بئر بيت لحم، البئر التي تعود أن يشرب منها وهو صبي صغير، ورأى في تلك اللحظة، أن الماء أقدس من أن تتناوله شفتاه، فسكبه سكيباً وهو يغادر محنايم، وقد وقف برزلاي ومن معه يودعونه، رأى فيها جيشاً من الملائكة –وكانوا هذه المرة من بشر- يختلف عن ذلك الجيش الذي رآه جده يعقوب مرسلاً من الله لمعونته، ولكنه في كلا الحالين كان بسمة الله للنفس المتضايقة المكنوبة المتعبة في الحياة!!… برزلاي الشيخ العجوز والآن نأتي إلى حديث الوداع بين الشيخ العجوز وداود، لنرى فيه صورة رائعة لهذا الشيخ، وهو يتحدث بمنطق الشيخوخة التي وصل إليها،.. ولعلنا نستطيع أن نرى هذا أولاً إذا ذكرنا: الشيخ والبقية الباقية من العمر إذ يقول لداود وقد طلب إليه أن يذهب معه إلى أورشليم: "كم أيام سني حياتي حتى أصعد مع الملك إلى أورشليم"... كان هذا الشيخ يمد بصره إلى الغروب البهيج الذي تدنو شمسه منه، بلمعان ذهبي،.. وهو يذكر الأيام القليلة الباقية قبل مجيء الغسق بنفس راضية،.. وهو ليس من ذلك الصنف من الشيوخ الذي كلما اقترب من النهاية، كلما حاول تجاهل هذه الحقيقة، وظل على بحثه في تزايد المركز أو الجاه أو الثروة، لقد أدرك برزلاي أنه "غريب ونزيل في الأرض" وهو ينبغي أن يتصرف به الغريب النزيل في قصة طريفة أن أحد الدراويش طرق قصر الملك، وإذ خرج الحراس طلب منهم أن يبيت في المكان، إذ هو فندق، فقالوا له: ليس هذا فندقاً، بل هو قصر الملك، ولكنه أصر على أن المكان فندق، وبينما هم يتجادلون ويتنازعون، جاء الملك ليؤكد للرجل أن هذا قصر وليس فندقاً، ويؤكد الرجل العكس، وأخيراً قال الدرويش للملك.. من الذي سكن هذا المكان قبلك؟!! فقال الملك: أبي.. فقال الدرويش: وأين أبوك؟!! وأجاب الملك: لقد رحل من العالم!! فقال الدرويش: ومن كان قبل أبيك.. فقال: جدي!!.. وأين هو الآن؟!! وكان الجواب: لقد رحل من قبل أبي!!.. وقال الدرويش: ألم أقل لك أنه فندق.. وليس قصراً؟!!.. في قصيدة: "لست أدري" للشاعر إيليا أبو ماضي، والتي فيها صور نفسه يناجي البحر قال: كم ملوك ضربوا حولك في الليل القباب طلع الصبح عليهم لم يجد إلا الضباب... ألهم يا بحر يوماً رجعة أم لا مآب؟.. فأجاب البحر: إني لست أدري!!.. وفي عرف الشاعر أنه لا فرق بين القباب والضباب، وكان هذا ما يعنيه برزلاي الجلعادي، وهو يتحدث إلى داود عن الأيام القليلة الباقية له من العمر!!.. وكان برزلاي ثانياً: الشيخ الشبعان من الأيام، الذي لا يأسف على ما أخذت الأيام معها -كما يفعل الكثيرون من الشيوخ- لما ضاع من أجسادهم من قوى بدنية، أو عقلية، أو عدم قدرتهم على التذوق الحسي أو العاطفي، فهو وإن كان لا يستطيع التذوق إلى حد الاستطعام بما يأكل أو يشرب، أما سماع أصوات المغنين والمغنيات، فهو لا يأسف على هذا، أو يتشبث به، فلكل وقت وقته، وهو يستبدل بهذه أشياء أخرى أسمى وأعلى وأكمل، لأنه على حد قول الرسول: إن كان إنساننا الخارج يفنى فإن الداخل يتجدد يوماً فيوماً،.. وعند برزلاي من الرؤى الداخلية، والشركة الحية التي تربطه بالله، والمتع العميقة للمعنى الروحي الأعلى للحياة، ما يتفوق على أعظم الرؤى الأرضية، وأشهى الأطعمة، وأرق الموسيقى، وأرخم الأصوات بين المغنين والمغنيات،.. وأي جمال يمكن أن يداني جمال الشيخوخة التي لا تعيش متذمرة على ما فاتها من صحة أو قوة أو أرضيات، لتعيش الغروب في صحبة الله، حتى تأتي اللحظة الرائعة المجيدة، لحظة الانطلاق!!.. عندما كتب أفلاطون جمهوريته، ذكرنا بالشيخ العجوز ثأوفيلس، الذي أقام فلسفته على أن ما أضاعه من قوى الشباب لم يكن ضربة أصابته، بل بالحري كان تحريراً لنفسه لما هو أعلى وأسمى،.. فإذا صح أن الخيال الوثني يمكن أن يبلغ هذا المبلغ، فكم بالأحرى الشيخ العجوز الجليل الذي يعيش حياته مع الله، ولو طعنت به الأيام وامتد به العمر على الأرض!!.. وكان برزلاي ثالثاً: الشيخ الرافض الرقيق الاعتذار في رفضه،.. وهو يقدر ولا شك عرض داود، وهو يذكر المعاني الرقيقة العميقة الممتليء بها، إلا أنه يرفض برقة وولاء وأدب، ويعطي نموذجاً للأدب الرقيق الرافض، وهو يريد أن يذكر داود بجلال الرفض الذي ينبغي أن يتمسك به الشيخ، وهو يرفض المسرات والملذات والمباهج والمراكز والثروات المتزايدة وما أشبه، لا لأنها في حد ذاتها شر أو خطأ، ولكن لأن التربة القديمة لم تعد تصلح لزرع جديد،.. إن برزلاي سيبقى إلى جوار أرضه القديمة، يرعاها على قدر ما يتمكن من جهد أو تعب، دون أن يرهق نفسه بتوسعات انتهى أمرها، ولم تعد تصلح إلا أن تكون عبئاً عليه أو على الآخرين: "فلماذا يكون عبدك أيضاً ثقلاً على سيدي الملك".. ولقد كان الرجل موفقاً ودقيقاً إزاء إلحاح الملك إلى أن يبين أن ما يصلح مع كمهام ابنه الشاب لا يمكن أن يصلح معه وهو شيخ.. وما أعظمه من شيخ ذلك الذي يحسن التفرقة الذهنية والعلمية بين الشيوخ والشباب،.. ولعله أكبر خطأ يمكن أن يتردى فيه إنسان أن لا يجيد التفرقة بين الأجيال والأعمار المختلفة في حياة الناس، وما أكثر ما يفشل الشيوخ الذين لا يدركون هذه الحقيقة، ويستولى عليهم الحزن واليأس وانكسار القلب، لأنهم يطلبون لأنفسهم مطلب الشباب دون جدوى، أو لأن الشباب من أبنائهم وذويهم، على العكس، لا يعيشون كما يتخيلون هم أو يتصورون كشيوخ!!.. وهم أعجز من أن يعبروا البرزخ الذي يفصل بينهم وبين الشباب،.. وعلى أي حال إن برزلاي يعطي أبدع نموذج وأروع مثال للقدرة في التوفيق بين التحية الرقيقة والرفض المهذب،.. وهو يذكرنا بهذا بالأعظم الذي قيل عنه: "أعطوه خلا ممزوجاً بمرارة ليشرب، ولما ذاق لم يرد أن يشرب"... لقد كان الخل الممزوج بمرارة، نوعاً من المخدر تقدمه جميعة من بنات أورشليم لكل محكوم عليه بالموت، وقيل إن الأصل التاريخي لذلك ما ورد في سفر الأمثال: "أعطوا مسكراً لهالك وخمراً لمري النفس يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد" أو هو يشبه ما يقدم في العصور الحديثة للمحكوم عليه بالإعدام مما يطلبه قبل أن يموت،.. وقد رأى المسيح في هذا رقة يجمل أن يقدرها بالتذوق، للمعنى الإنسان الرقيق العميق، الذي يرغب في تخفيف آلام المحكوم عليهم بالإعدام،.. وفي الوقت عينه يرفض أن يتناول ما يخدر به آلام الصليب، التي لابد أن يحتملها بكاملها دون أدنى تخفيف أو تخدير!!.. وهو مثل يعملنا الأدب عندما نقصد أو نرفض ونقول كلمة: لا.. وعندما نقدر الدافع الذي يدفع من يقدم شيئاً لنا، يمكن أن يكون خاطئاً أو غير مقبول!!... وكان برزلاي رابعاً: الإنسان الذي يحسن الرجوع إلى الماضي بذكرياته الحلوة الجميلة: "دع عبدك يرجع فأموت في مدينتي عند قبر أبي وأمي".. لقد عاد الرجل بذكرياته إلى الأيام الهانئة الطويلة التي قضاها، وهو يعبر قصته الأرضية، عاد إلى أبيه وأمه اللذين فارقهما منذ زمن بعيد،.. وهو يذكر قبرهما الذي سيضمه بعد زمن لن يكون على الأغلب طويلاً،.. عاد الرجل إلى دفء الذكريات، وما أحلاها من ذكريات، ونحن نسير في ثقل الحياة، ومتاعبها وآلامها ومعاركها،.. قال واحد من عظماء الناس: من يعود بي مرة أخرى إلى أحضان أمي؟! ولعله كان يذكر أحلى الأيام الخالية من الهموم والقلق والمتاعب والأحمال، عندما كان صبياً صغيراً، تضمه أحضان أمه بكل ما فيها من حنان وحب وبساطة وهدوء، كأجمل مكان يستعذبه الإنسان في الأرض!!.. ولكن إن عز علينا أن نجد المكان، فإنه لا يعز علينا أن نعود بالذكريات الحلوة الجميلة المبهجة للأيام القديمة!!.. إن الشيخ يستطيع أن يغالب قسوة الحاضر، بالعودة بالخيال الحلو الجميل للماضي البهيج،.. وهذا الخيال لا يمكن أن يعوقه معوق، حتى ولو دخل المرء إلى الزنزانة القاسية،.. وقد استطاع بولس في سجنه أن يعود إلى دموع تيموثاوس يوم الوداع، وأن يذكر الصحاب الأوفياء، الذين أحبوه، ووجد فيهم من قدم عنقه من أجله،.. وكانت هذه الذكريات هي أحلى ما ذكره الرجل، وهو على قيد خطوات قصيرة من الرحلة القاسية الأرضية!!.. على أن برزلاي لم يتجه بفكره إلى الماضي البعيد القديم،.. لقد حول عينيه أيضاً إلى المستقبل الأكثر لمعاناً من كل قصور داود وأبهائه ومجده،.. إنه يتطلع إلى بيته الأبدي، إلى المدينة التي لها الأساسات، وهو لا يمكن أن يتحدث عن المستقبل كمجرد عظام ينضم فيها في قبر إلى عظام أبيه وأمه في أرض جلعاد... إن هناك شيئاً أغلى وأسمى عند الرجل القديم،.. إنه الطائر الذي يحلق، وقد اقترب المساء، فهو يسرع إلى عشه، حيث هناك الراحة، والأمن والهدوء والاستقرار، إن لبرزلاي قصراً أمجد من كل قصر أرضي في جلعاد أو في أورشليم الأرضية، ولعله يقول ما قاله آخر وهو شيخ كان يودع العالم: "إني أدنو من الخطى الأخيرة، في غربتي على الأرض، وها هي شمسي تسرع إلى المغيب، وتغطي الفضاء بمجد لامع،.. وها بيت أبي يشع بنوره أمام عيني، وبابه المفتوح يدعوني إلى الدخول إلى الوطن بنفسي راغبة، وكل كنوزي الغالية، وكل أشواقي العميقة قد شحنت قبلي، وها أنا على الجناح الطائر لألحقها هناك".. فإذا كان هناك من شيء أخير يهتم به برزلاي، فهو أن تمتد قصته بكل ما فيها من نبل وجمال وأمانة ومكافأة إلى ابنه كمهام!!... فإذا راق لداود أن يفعل شيئاً له، فهل يقبله ممتناً شاكراً إذ يفعله مع ابنه كمهام، وغريزة الشيخ تنفعل هنا، مع أجمل وأرق وأعمق العواطف البشرية، إنك تحسن إليَّ بما تقدمه لابني، وتسعدني بما يسعد به أولادي من بعد!!.. وتدفع نفسي لترضى حياً أو ميتاً بما يمكن أن تصنعه مع من يخلفوني على هذه الأرض!!... وهكذا يدرك الرجل أن الله لا يرجيء المكافأة كلها لما بعد الوفاة، بل إن الخير لابد أن يكافأ هنا في هذه الأرض... قبل أن نحصل على المكافأة الكاملة في السماء: "فأجاب بطرس حينئذ وقال لها ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا فقال لهم يسوع الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثنى عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر وكل من ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية"..!!
المزيد
07 يوليو 2021

التواضع في الخدمة

المفروض في الخادم أنْ يتَّصف بصفات روحية ولعلَّ في مُقدمتها التواضع ومن أهمية هذه الصفة أنَّ السيد المسيح قال لتلاميذه"تعلَّموا منِّى لأَنِّي وديع ومتواضع القلب" (مت29:11).كان يمكن أنْ يُركِّز على فضائل كثيرة تتمثَّل في شخصه القدوس ولكنه ركَّز على التواضع والوداعة ذلك لأنَّ الذي يخدم كثيرًا ما يحارب بالكبرياء أو العظمة إذ يجد أنَّه قد انتقل من صفوف المخدومين إلى مصاف الخُدَّام.وأنَّه أصبح من الأشخاص المهمين في الكنيسة ومن الأشخاص الذين يؤخذ رأيهم في سيامة كاهن جديد للكنيسة بل ربما يكون هو أحد المُرشَّحين للكهنوت لذلك نريد أنْ نُقدم بعض ملاحظات في هذا الموضوع: إنه خادم حسنٌ هذا اللقب أنَّه خادم وليس سيدًا! ولم نُعطه لقب كارز، أو مُعلِّم، أو مُدرِّس وظيفته أنْ يَخدم لا أنْ يُسيطر أو يتكبر فالكبرياء ليست من صفات الخادم والعجيب أنْ السيد المسيح نفسه لقَّب نفسه بلقب خادم. وعلى الرغم من أنَّه ملك الملوك ورب الأرباب (رؤ16:19) إِلاَّ أنَّه انحنى وغسل أرجل التلاميذ لكي يُعطيهم مثالًا (يو15، 5:13) بل قال أيضًا "أَنَّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليخدِم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين" (مت28:20).ولقب خادم قد تُلقَّب به الملائكة أيضًا فقيل عنهم في رسالة العبرانيين "أليس جميعهم أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أنْ يرثوا الخلاص" (عب14:1) وقيل في المزمور "الذي خلق ملائكته أرواحًا وخُدَّامه نارًا تلتهب" (مز4:104).وكما لَقَّبَ الملائكة بأنَّهم خُدَّام، كذلك الرسل أيضًا يقول القديس بولس الرسول عن نفسه وعن زميله أبلوس "من هو بولس ومن هو أبلوس؟ بل خادمان آمنتم بواسطتهما" (1كو5:3) ويقول عن مساعده تِيخِيكُس "يُعرِّفكُم بكل شيء تِيخِيكُس الأخ الحبيب والخادم الأمين في الرب" (أف21:6) ويقول عن أَبَفْرَاسَ "الذي هو خادم أمين للمسيح لأجلكم" (كو7:1) وقال عن القديس مرقس الرسول "إنَّه نافع لي للخدمة" (2تى11:4).وقال بصفة عامة "كفايتنا من الله، الذي جعلنا كُفَاةً لأَنْ نكون خدَّام عهد جديد" (2كو6، 5:3). وقال أنَّ الله أعطانا خدمة المصالحة.. نطلب عن المسيح تصالحوا مع الله" (2كو20، 18:5) والآباء الرسل عند اختيار الشمامسة السبعة، قالوا "أَمَّا نحن فنعكف على الصلاة وخدمة الكلمة" (أع4:6).آباؤنا الرسل كانت لهم خدمة الكلمة، وخدمة المصالحة.والآباء الكهنة عمومًا هم خدام المذبح وكلمة شماس معناها خادم.والكاهن الذي يستلم الذبيحة يُسمَّى في الطقس (الكاهن الخديم) حتى الأرملة التي كانت تخدم في الكنيسة اشترط فيها الرسول أن تكون "مشهودًا لها في أعمال صالحة.. أضافت الغرباء غسلت أرجل القديسين" (1تى10:5) والعناية بالفقراء نسميها الخدمة الاجتماعية.وحتى اجتماع مُدرِّسي التربية الكنسية نُسمِّيه اجتماع الخدام.فمادمت يا أخي خادمًا اسلك في اتضاع كخادم ولا يرتفع قلبك من الداخل. افهم الكلمة في جوهر معناها، ولا تجعلها تفقد حقيقتها ومدلولها وكان القديس أوغسطينوس يُصلِّى من أجل رعيته قائلًا "أَطلب إليك يا رب من أجل سادتي عبيدك..".إنْ كُنت خادمًا فيجب أنْ تتصف بالطاعة.طاعة لله وطاعة لرؤسائك في الخدمة ومديريك.بعض خدام التربية الكنسية يَتحَدُّون الأب الكاهن فلا يحترمونه ولا يُطيعونه ومع ذلك يقولون أنَّهم خُدَّام! ونفس الوضع نقوله عن الكاهن الذي لا يطيع أُسْقُفُه!! ونقوله عن أعضاء الكنيسة الذين ينفردون بالعمل دون مشورة رئاستهم الكنسية!! لا تظن أنَّك أحد قادة العمل الرعوي أو التعليمي في الكنيسة.بل تذَكَّر باستمرار أنَّك خادم واسلك كما يليق بخادم واحذر أنْ تفقد تواضعك لأنَّه كما يقول الكتاب "قبل الكسر الكبرياء وقبل السقوط تشامخ الروح" (أم18:16). 2- من الأمور الأخرى التي تجلب التواضع في الخدمة: التلمذة. التلمذة يظن بعض الخُدَّام أنَّهم لمَّا أصبحوا خُدامًا انتهى بالنسبة إليهم عصر التلمذة وهذا فهم خاطئ.إنما لكي تحتفظ بتواضعك احتفظ باستمرار بتلمذتك.كل المسيحيين في العصر الرسولى كانوا يُدْعَون تلاميذًا والسيد الرب لمَّا أرسل الأحد عشر للكرازة قال لهم "اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم" (مت19:28) وفي انتشار الكرازة قيل "وكانت كلمة الله تنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا" (أع7:6).إذن اسْتَمِرْ تلميذًا للرب وتلميذًا للكنيسة ولا يكبر قلبك.وإن شعرت أنَّك صرت مُعَلِّمًا وأصبحت فوق مستوى التلمذة اعرف جيدًا أنَّك بدأت تسقط في الكبرياء.أَتَذَكَرْ أنَّنا حينما كنا خُدَّامًا في مدارس الأحد في كنيسة الأنبا أنطونيوس منذ حوالي 45 سنة كان كل خادم يجلس كمستمع أو كتلميذ في أربعة اجتماعات كل أسبوع، في اجتماع الأسرة وفى اجتماع الخُدَّام واجتماع الشبان وفي الفصل الكبير الذي كان يبدأ في السابعة والربع مساء، بعد انتهاء التدريس في باقي الفصول.وباستمرار كان الخُدَّام يتعلمون من غيرهم فيستمرون في تواضعهم.قل لنفسك أنا باستمرار مازلت أتعلم ومحتاج أنْ أعرف. وإنْ عشت في حياة التلمذة ستتخلص من مشاكل كثيرة ستتخلص أولًا من روح الجدل وكثرة المناقشات (المقاوحة) وتكون مستعدًا أنْ تتقبل الرأي الآخر بروح طيبة.لأنَّ الذين يدخل فيهم روح الجدل يُسْلِمَهم إلى روح العناد وتصلب الرأي ويظنون أنَّهم يفهمون أكثر من الكبار. بل وقد يظنون أنَّهم هم الكبار.احتفظ إذن بطفولتك الروحية حسب قول الرب:"إنْ لم ترجعوا وتصيروا مثل الأطفال فلن تدخلوا ملكوت السموات" (مت3:18).وما أكثر الأمثلة لقديسين عاشوا تلاميذ يشوع ظلَّ تلميذًا لموسى طول حياته إلى أنْ رقد موسى في الرب وأليشع ظلَّ تلميذًا لإيليا إلى أنْ صعد إلى السماء، فوَدَّعَهُ بعبارة يا أبى يا أبى يا مركبة إسرائيل وفرسانها (2مل12:2) والقديس أثناسيوس الرسولي مع أنَّه كان بابا الإسكندرية احتفظ بتلمذته للقديس أنطونيوس الكبير ولما كتب سيرته قال "وأنا نفسي صببت ماء على يديه" أي كان يخدمه.كان التلاميذ قديمًا يجلسون عند أقدام مُعَلِّميهم.فلا يجلسون إلى جوارهم وأمامهم بل كان المُعَلِّم يجلس على كرسي وتلاميذه جلوس على الأرض عند قدميه وعن هذا قال القديس بولس الرسول "وُلِدْتُ في طَرْسُوسَ كيليكيَّة ولكن رَبَيْتُ في هذه المدينة مُؤَدَّبًا عند رِجْلَيّ غَمَالائيل" (أع3:22) هذا هو اتضاع التلميذ أمام مُعَلِّمُه ويَعتبر أيضًا أنَّه ليس فقط يُعلِّمُه بل يُربيه أيضًا ويؤدبه.ما أصعب أنَّ خادمًا يقرأ كتابًا أو كتابيْن فيتكبر على مُعلِّميه.ويتكبر أيضًا على آبائه الكهنة ويفرض مشيئته على أب اعترافه فإما أنْ يوافق الأب على رأيه أو يعصاه!! وهكذا يصير حكيمًا في عينيّ نفسه الأمر الذي نهانا عنه الكتاب فقال "لا تكن حكيمًا في عينيّ نفسك وعلى فهمك لا تعتمد" (أم7، 5:3) عش إذن تلميذًا متواضعًا.والْتَمِسْ المعرفة من كل مصادرها تتلمذ على أب اعترافك وعلى آباء الكنيسة وعلى الاجتماعات الروحية وتتلمذ على الطبيعة على زنابق الحقل وطيور السماء وتتلمذ على الكتب الموثوق بها ولا تظن مهما كبرت أنَّك قد ارتفعت عن مستوى التعليم. إنَّ تاريخ الكنيسة يُسجل لنا قصصًا عجيبة عن اتضاع القديسين في التلمذة.تصوروا واحدًا من الآباء الكبار مثل القديس موسى الأسود يطلب كلمة منفعة من الصبي زكريا فلما يستحى الفتى منه قائلًا: "أنت عمود البرية وتطلب منِّى كلمة؟!" يجيبه القديس "صدقني يا ابني لقد عرفت من الروح الذي عليك أنَّ عندك كلمة أنا محتاج أنْ أعرفها"..! والقديس مكاريوس الكبير أخذ كلمة منفعة من راعى بقر.. وكان الآباء يلتمسون كلمة منفعة بينما كانت لهم سيرة ملائكية يشتهى الكثيرون أنْ يتعلموا منها. التواضع في التعليم صدقوني أكثر ما يتعب كنيستنا حاليًا هو عدم التواضع في التعليم.كل خادم يأتي له فكر جديد في تأملاته أو من قراءاته يحاول يجعله عقيدة ويُدَرِسَه للناس، وهناك نوع من الكُتّاب، ويروق لهم إلغاء المفهوم السائد ليُقَدِّموا بدلًا منه مفهومًا جديدًا وكأنَّ الواحد منهم قد اكتشف ما لا تعرفه الكنيسة كلها والناس جميعًا وكأنَّه يعلم ما لا يعلمون.المشكلة هي تقديم المفاهيم الشخصية وليس تعليم الكنيسة وعقيدتها.ومحاولة للجدل وللإثبات ولإقناع الناس بخطأ المفهوم السائد والبعض قد ينتقد الكنيسة. والبعض يُغَيّر ألفاظ القداس والبعض يُصَرِّحْ بزيجات بعكس قوانين الكنيسة والبعض يُصَلِّى بقداسات غير مألوفة في كنيستنا.وكل واحد من هؤلاء يعتبر نفسه مصدرًا للتعليم.وكأنَّه جبهة مستقلة في تعليمه أو جزيرة قائمة بمفردها في المحيط وإنْ تدخلت الكنيسة لإصلاح الوضع، يقيم الدنيا ويقعدها، ويُحيط نفسه بمجموعة خاصة من تلاميذه لتسانده، ويقف ضد الكنيسة وينادى بأنَّ تعليمه هو السَّليم والكل مخطئ! وقد تجد لكل فرع من التربية الكنسية منهجًا خاصًا.أمين الفرع لا يعجبه المنهج العام، فيُعَدِّل فيه ويُبَدِّل، أو يضع منهجًا خاصًا يرى أنه الأفضل والأصوب.وإن شاء الله سنضع منهجًا موحدًا ونأخذ فيه رأى الآباء وقادة الخدمة فنرجو بعد وضعه أنْ يتواضع الخدام ويعملوا به.. ولا يقف لنا أحد ليقول من حقي أنْ أعترض.. ومن حقي أنْ أرفض، ومن حقي أنْ أسير حسب فكرى وإلاَّ فأين هي الديمقراطية في الكنيسة ولا يقول له أحد أين هو التواضع؟! الكنيسة الأولى تميزت بالفكر الواحد.لأنَّها كانت كنيسة متضعة تخضع لفكر قادتها.أمَّا البروتستانتية التي نادت بالحرية في التفسير والتعليم، فقد تكونت فيه مواهب متعددة زادت فيها مذاهب على المائة، أمَّا الكنيسة المحافظة التقليدية فإنها تحفظ الإيمان سليمًا، ولا تسمح بالمفاهيم الفردية التي تتحول إلى عقائد بل تنصح أصحابها بالاتضاع.الخادم المتواضع أيضًا لا يستعرض معلوماته!! إنَّما يقدم التعليم في أسلوب روحي هادئ. لا يحاول أن يفلسف المعلومات ولا يمسك ببعض الكلمات ويضع أمامها النص العبري أو اليوناني، أو بعض الترجمات الإنجليزية. وقد لا يكون الشعب على علم بشيء من كل هذا. وقد لا يكون كل هذا لازمًا لإثبات الفكرة التي يُقَدِّمْها. وقد لا تكون المراجع التي يستخدمها سليمة وقد يتبع في ذلك بعض المذاهب التي تسير بالمنهج العقلاني لا بالمنهج الروحي.الخادم المتواضع ينزل إلى مستوى الخدومين ولا يبهرهم بمعلومات فوق مستواهم لا تفيدهم بشيء.إنَّه لا يُفكر في ذاته والمستوى الذي يريد أنْ يأخذه الناس عنه. إنَّما ينشغل بفائدة الناس الروحية، بينما تختفي ذاته تمامًا.لذلك هو يُحَضِّر درسه أو عظته أو محاضرته ولا مانع عنده أنْ تكون ورقة تحضيره ظاهرة فهو لا يُضَيِّع فائدة السامعين من أجل أنْ يأخذوا عنه فكرة أنَّه يتكلم من الذاكرة الخادم المتواضع يهتم بتحضير درسه.ولا يعتمد على معلوماته السابقة ولا على ذاكرته، كما يفعل بعض الخدام الكبار، ولا يُحَضِّرون ما يقولون فتبدو كلماتهم أحيانًا ضعيفة لأنَّهم لم يتواضعوا بل وثقوا بأنفسهم وبقدراتهم أزيد مما يجب.الخادم المتواضع يحترم عقليات السامعين مهما صغروا.ويبذل كل جهده لكي يقدم لهم كلامًا دسمًا يشبعهم. التواضع والذات الخادم المتواضع ينكر ذاته. يختفي لكي يظهر الرب، كما قال القديس المعمدان "ينبغي أنَّ ذلك يزيد وأنِّى أنا أنقص" (يو30:3).أمَّا غير المتواضع فيتخذ الخدمة ليبنى بها ذاته بطريقة خاطئة فهو يفكر كيف يرتقى في الخدمة، وليس كيف يرتقى بالخدمة، ويفكر في مستوى المجالات التي يتكلم فيها، وربما يسعى إلى المناصب وقد يصطدم بقيادات الكنيسة. ويتعوَّد كيف يأمر وينهى وينتقد وربما يفتخر بخدمته ومدتها ومستواها.يقول أنا لي 20 سنة في الخدمة. أنا خرَّجت أجيالًا.. ويكبر في عينيّ نفسه ويريد أنْ يُطاع، لا أنْ يطيع ويصطدم بالأنظمة الموضوعة. ويحكى قصصًا عن ماضيه ويدخله روح العظمة. الخادم المتواضع يكون كالنسيم الهادئ.في دخوله وخروجه لا يشعر به أحد، يكون رقيقًا دمثًا وديعًا، لطيفًا في معاملاته، لا يخدش شعور أحد، لا يجرح إنسانًا، لا يهتم بتولي مناصب في الخدمة، يطيع في كل ما يوكل إليه، "لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته" (مت19:12) "ولا يرتئي فوق ما ينبغي" (رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية 12: 3). احذر أنْ تُفقدك الخدمة تواضعك.لأنَّ كثيرين كانوا متواضعين قبل الخدمة ثم تغيروا. أمَّا أنت فلا تكن كذلك لأنَّه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟! (مت26:16). قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث عن كتاب الخدمة الروحية والخادم الروحي
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل