المقالات

13 يونيو 2021

الأحد السادس مِن الخماسين المُقدّسة

إِحنا فِى الفترة دلوقتىِ بِتاعِت إِنتظار عطيّة الروح القُدس ألـ 10 أيام الّلى بين الصعود وحلول الروح القُدس ، فِى هذهِ الأيام أوصاهُم قائلاً " لا تبرحوا أورشليم حتى تأخُذوا قوّة مِن الأعالىِ " هُم قاعدين فِى إِشتياق00فِى ترقُّب ، منظر الصعود لا يقدِروا أن ينسوه أو يستوعِبوه ، السيّد المسيح كان معهُم فِى بيت عِنيا ثُمّ ذهب إِلى جبل الزيّتون وفِضَل يرجع لِورا يرجع لِورا ثُمّ يِطلع يِطلع فرجعوا فرحانين يُسبّحون الله وقعدوا يتذّكروا كُلَّ كلامهُ ، كُلَّ كلِمة قالها لازم نِفكّر فِيها ألف مرّة ، أكيد كُنّا الأول مُش فاهمين حاجات كتير، أكيد كُنّا بِنتصرّف معاه كقائد مُتميّز أو مُجرّد قائد لنا ، لِذلك لابُد أن نقضىِ هذهِ الأيام فِى إِشتياق وتوقُعّ لِعطيّة الروح إِيه أعظم شىء ربنا أعطاهُ لنا ؟ أعظم شىء هو الروح القُدس ، فإِحنا الخُطاه الدنسين أصبح فينا روح القداسة ، إِحنا الّلى مفيش فينا شىء صالح أخذنا كنز الصالِحات ، أخذنا روح الحياة ، لِذلك لابُد الآن نُفكرّ فِى كُلّ أحداث ربنا يسوع ، كُلّ ما قال لنا نسترجِع مِن جديد وننتظِر هديّة الهدايا الروح القُدس ، أى شىء مُمكِن أن نأخُذهُ عربيّة00فلوس00ده شىء فانىِ فاسِد ، لكن أغلى شىء لا تتوقّع أن تأخُذهُ هو الروح القُدس لابُد أن يكون لنا مُراقبة لإِنفُسنا وإِشتياق وترقُبّ وتوقُعّ للروح القُدس ، وجميل جداً أن نقضىِ ألـ 10 أيام دول فِى هدوء وخُلوة ، وجميل جداً فِى ألـ 10 أيام دول أن يكون فِيها إِنتظار لِموعد الآب هديّة عظيمة جداً جداً تنبّأ عنها أشعياء النبىِ فِى العهد القديم أنّ ربنا لمّا هيسكُب روحه على بنىِ البشر أنّهُ " تصير البرّيّة بُستاناً " ، البرّيّة القفرة تصير بُستاناً ، عطيّةلا يُعبرّ عنها لِذلك مزمور الإِنجيل أنهاردة قال " سبّحىِ الرّبّ يا أورشليم 00سبّحىِ إِلهِك يا صهيون " ، وبعدين لمّا نسبّح ربنا هيحصل إِيه ؟ يقول حتى تهُبّ ريحه وتُسيل المياه ، لمّا الروح القُدس يُعطىِ لنا المياه الّلى هى عمل الله فينا تتدفّق فِى داخلنا أدى الفترة الّلى لازم نقضّيها فِى إِعتكاف ، قال " أُرسل ماء إِلى العِطاش " ، عطيّة الروح القُدس فائقة لأى تخيُلّ بشرى ، لِذلك لمّا يجى فِى الكِتاب المُقدّس يكلّمك عن الدم أو الثياب المزخرفة أو المطرّزة أو ملّونة تكون رمز للروح القُدس ، أصل زمان مكنش أحد يلبِس هذهِ الأشياء إِلاّ الملوك ، فيقول ربنا أنا هاميّزكُم 00أنا هالبّسكُم الثياب المزخرفة " فألبسنىِ المُطرّزة " فاكر القميص المُلّون بِتاع يوسف ، أنا هأجعلكُم كيوسف ، هاميّزكُم عن باقى البشر ، إِيه الثياب المُلّونة ؟ دى عطايا الروح القُدس محبّة فرح سلام طول أناة لُطف صلاح إِيمان وداعة تعفّفُ ، كُلّ حاجة فِى دول تثبت فيك يابختك فاكر لمّا إِبراهيم بعت أليعازر الدمشقىِ وقاله شوف لى واحدة زوجة لإسحق تكون مِن جنسى ، فأخذ أليعازر 10 جِمال وحمّلها بِكُل خيرات أبونا إبراهيم ولمّا لقى رفقة لبّسها أقراط ذهب كميّة كبيرة فِى العُنُق والأنف والأُذُن والرجلين ، النِفَس الّلى يحب ربنا يخطُبها له يفيض عليها بِمواهب روحه فِى صورة أعمال صالحة جداً ، دى عطيّة الروح القُدس الّلى إحنا منتظرنها ، لِذلك الّذى يُدرك عطيّة الروح القُدس يكون عايش بِلا هم وفرحان فِى العهد القديم يقول الكِتاب " روح الرّبّ كان يرف على وجه المياه " ، ولمّا كان يفتقد أحد يفتقد الناس المُميّزين جداً مِثل الأنبياء لِيقودهُم لِيتكلّموا ، ولكِن الآن الروح القُدس أصبح سكن داخليّة مش مِن برّايّا ، لا ده جوايّا ، بأه مسئول عن قداستى ، بأه هو الّلى يرشد وينظّف ويعزّى تعالى شوف نفِسَك لمّا تعمل خطيّة كأنّك بِتُجلد ، روح ربنا يشتغل ، الّلى عنده مكنسة فِى البيت مُهمتها تنظّف وتكنس ، أهو روح ربنا كده ، لِذلك الّذى يخضع لِتوبيخات وتأديبات الروح يصير قديس إِيه سر قداسة القديسين ! إِنّهُم خضعوا للروح ، فإِيه مُشكلة الإِنسان ؟ إِنه يكون بعيد عن ربنا أو عايش فِى مسرّة فِى الخطايا ، أنّ الروح جوّاه يكلمهُ وهو مش سامعه ، الروح القُدس كان فِى القديسين يِشكّلهُم وهُم يخضعوا ويتجاوبوا ، خِتم يتختم على الإِنسان لِذلك فِى سير القديسين حاجات تفوق الخيال ، واحد زانىِ وسارق هل يقدر يبأه قديس ؟ الروح القُدس يقدر زى القديس موسى الأسود مش بِشطارته بأه قديس لكنّهُ خضع للروح القُدس ، مش مُمكن واحد يبيع كُلّ أملاكه أو يسهر الليل بِدون الروح لكِن بِنعمة ربنا أنا محتاج أشعُر بهِ جوايا فِعلاً أتكلّم معاه أقول لهُ " قلباً نقياً إِخلق فىّ يا الله وروحاً مُستقيماً جدّدهُ فِى أحشائىِ " ، روحك يارب إِجعلهُ بإِستمرار مُتجدّد ، أنا قد تمسكنت جداً أنا ضِعفت جداً ، أنا الخطيّة بأت ساكنة جوّايا ، ياما إِحنا نحجِب روح ربنا ولا نخضع لروح ربنا ، ياما أقول حاضر هأخضع ولكِن 000فأول ما أقول ولكِن الروح يتراجع على طول لِذلك الروح يُعطىِ بِلا حدود ولا حساب ولا نهاية ، " فلنا هذا الكنز فِى أوانىِ خزفيّة " ، أنا إِناء تُراب وخزف لكِن جوّايا كنز ولكِن الكنز مش باين ، شكلِنا مِن برّه أوانىِ خزفيّة وجوانا كنز ، إِوعى تعيش كإِناء خزف ولا تُدرك الكنز الّلى جوّاك ، لو أدركت روح ربنا الّلى جوّايا كلامىِ هيختلِف وتطلُّعاتىِ هتختلِف وموقفىِ مِن أمور كثيرة جداً هيختلِف لِذلك الروح القُدس هو سر قداسة القديسين وسر الإِرشاد وسر أنّ الكنيسة مليانة تقّوى وشُهداء ورُهبان ومُتوحدين ، الروح القُدس هو الّلى عمل كُلّ ده ، لِذلك لمّا قال السيّد المسيح " خير لكُم أن أنطلق " ، ليه ؟ أصل لمّا أنا هاسيبكُم هأُرسل لكُم الروح القُدس ، لِذلك كُنّا نتوقّع لمّا المسيح فارقهُم فِى الصعود أن يحزنوا ويكتئِبوا ولكنّهُم رِجعوا فرِحين ، أصلهُم عارفين أنّهُ جالهُم مِن السماء وصعِد إِلى السماء ، مش مُمكِن هيترُكنا ، لا ده إِحنا هنعيش هنموت مِن أجله خلّى بالك زمان لمّا إِيليّا صعد إِليشع بكى ، لكن هُنا لمّا صعد السيّد المسيح التلاميذ رجعوا فرِحين ، إِليشع بكى وقال لهُ ياأبىِ ياأبىِ إِزاى هتسبنىِ ده أنا ضعيف جداً مِن غيرك ، فأعطى لهُ روحين مِن روحه ، نِفَس الّلىِ حصل ، وإِيليّا علشان يسِند إِليشع عمل إِيه ؟ راح رمى الرداء بِتاعه ، ليه ؟ الرداء بِتاعه ده إِشارة للروح القُدس ، الثياب علامة الروح ، أهو ربنا يسوع لمّا صعد للسماء رمى عليهُم رِداءه ، إِيه هو رِداءه ده ؟ خلاّهُم لابسين روحه مش مُجرّد رِداء ، خلاّنا متوشّحين بالروح 0 وأنا المفروض إِنّى أعمل 3 أشياء :- لا أُطفأهُ " لا تُطفئوا الروح " لا أُحزنهُ " لا تُحزنوا الروح " أسلُك بِمُقتضاه لا أُطفأهُ :- ميُبأش روح ربنا عمّال يحفّزك ويقول يالاصلّىِ 00يالا صوم00يالا حِب ، منين ماروح ربنا يحفّزك يالا طير ، أد إيه الإِنسان ربنا يحفّزه لِطاعة وصيّة ويُطفأ الروح ، نار الروح عايزه تُلهبنا وتخلينا لهيب نار جوّانا ، عايز يلهب قلوب ولاده بالمحبة بالصلاح ، تخيّل بأه أنا لمّا أبرّد حرارته كم مرّة الحرارة جات لى والنار جات لى وأنا أطفأته بيدىِ قال السيّد المسيح " أنا جئتُ لأُلقىِ ناراً على الأرض " ، نار روحه القُدّوس ، عايز يُعطينا فيض مِن نار روحه فِى العِبادة والصلوات ، لكِن الإِنسان لمّا يبأه بارد يحس أنّهُ واقف فِى الصلاة وقفة ثقيلة 0 2- لا أُحزنهُ :- فِى واحد أصعب مِن الّلى بِيطفأ الروح لمّا الإِنسان يُصمّم على الخطيّة ، لمّا أعيش فِى دنس ، كده إِحزان لروح ربنا ، يخلّىِ الروح يحزن جوّايا ، لمّا الإِنسان يكون ساعىِ للخطايا وميّال للشرور تخيّل لمّا ربنا يشترينىِ بدمهُ الغالىِ وأعيش لِغيره ، تخيّل لمّا روح ربنا جوّايا إِسمه روح الحق وأنا حابب إِنّىِ أعيش بالفهلوة والكِذب والغِش ، ده يُحزن جوّايا الروح 0 3- أسلُك بالروح :- طاوع روح ربنا ، يعنىِ خلّى حياتك بِحسب إِرادة الله ، مُنقاد بأمره ، تشعُر إِنّهُ يسكُن جوّاك يملاك سلام وتعزيّات وأفراح وسرور أدى الإِنسان الّلى بِيسلُك بالروح ، لِذلك يُعطيك روح بِنّوة ، لِذلك لابُد أن نسلُك بِحسب بُرهان الروح ياريت يسوع الّلى صعد للسماء لا يُفارق خيالنا ، أُقعُد فِى هذهِ الأيام فترة إِعتكاف فِى إِنتظار وترقُبّ ، هو جاى يُثبّتك ، جاى يستخدِم ضعفك ، جاى يُغيّرِك ، هو حوّل تلاميذهُ الّلى شك منهُم والّلى أنكر حوّلهُم لِجبابرة ربنا يُكملّ نقائصنا ويسنِد كُلّ ضعف فينا بنعمتهُ لإِلهنا المجد الدائم مِن الآن وإِلى الأبد آمين0 القمص أنطونيوس فهمى كاهن كنيسة مارجرجس والانبا أنطونيوس محرم بك
المزيد
17 يونيو 2021

شركة الروح القدس والنعمة

شركة الروح القدس تعني أن الروح القدس يشترك مع الإنسان في العمل، وهي تُقال في البركة في نهاية كل اجتماع، كما ورد في (2كو13: 14).وهي ما عبّر عنه القديس بطرس الرسول بقوله: «لكي تصيروا شركاء الطبيعة الإلهية، هاربين من الفساد» (2بط1: 4). أي شركاء في العمل. وعن هذه الشركة يصلي الآب الكاهن في أوشية المسافرين قائلًا: "اشترك في العمل مع عبيدك في كل عمل صالح". ويقول القديس بولس الرسول عن نفسه وعن أبولس «نحن عاملان مع الله» (1كو3: 9). والشركة مع الروح القدس هي على نوعين. إمّا أن يبدأ الروح القدس بعمل فينا، ونحن نشترك معه في العمل. وإما أن نبدأ نحن، والروح يشترك معنا. لا يهم بأي الأمرين يبدأ العمل. المهم في الشركة. والحياة الروحية تتلخص في هذه العبارة "الشركة مع الله في العمل". يقول الكتاب «الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا لأجل المسرة» (في2: 13). ولكن المهم هو أن نشترك مع الله في العمل.النعمة تعمل في الكل. زيارات النعمة تفتقد كل أحد. فالذي يشترك معها، ويستجيب لها، ويقبلها، هو الذي يستفيد ويحيا بالروح. يتوقف نجاحنا الروحي على هذه الاستجابة، على مدى الـResponse. أمّا الذي لا يستجيب لعمل النعمة، فإنه يفقد هذه المعونة الإلهية. النعمة عملت حتى في يهوذا الأسخريوطي. فبعد أن خان سيده، وباعه بثلاثين من الفضة، وسلّمه لأعدائه.. عملت النعمة فيه، وبكّته ضميره. فذهب وأرجع المال إلى رؤساء الكهنة والشيوخ قائلًا لهم «قد اخطأت إذ أسلمت دمًا بريئًا» (مت27: 3، 4). لكن يهوذا لم يكمل العمل مع النعمة. بل استلمه الشيطان، وحول ندمه إلى يأس. «فمضى وخنق نفسه» (مت27: 5). النعمة لا ترغم إنسانًا على أن يحيا بالروح. ولكنها واقفة على الباب تقرع، كما قال الرب في (رؤ3: 20). من يفتح لها، تدخل وتعمل فيه، ومعه. لنا مثل واضح ورائع فيما حدث مع عذراء النشيد. قالت «صوت حبيبي قارعًا: افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي. لأن رأسي امتلأ من الطل، وقصصي من ندى الليل» (نش5: 2). لكنها لم تستجب لصوت النعمة، واعتذرت.. فماذا كانت النتيجة؟ لقد قالت «حبيبي تحول وعبر. نفسي خرجت حينما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني» (نش5: 6). هناك إذًا عاملان في خلاص النفس: العمل الإلهي، وأيضًا العمل البشري في اشتراكه مع العمل الإلهي. إنها شركة الروح القدس. شركة القلب والإرادة مع عمل النعمة في الإنسان. يقول الكتاب «بالنعمة أنتم مخلّصون» (أف2: 8). ويقول أيضًا «متبررين مجانًا بنعمته بالفداء» (رو3: 24). ولكن هل الجميع خلصوا؟! كلا. بل خلص الذين استجابوا، الذين «نخسوا في قلوبهم" وآمنوا، واعتمدوا» (أع2: 37، 41). الذين فتحوا قلوبهم لعمل الروح فيهم. واشتركوا معه في العمل.. إذًأ خذها قاعدة أساسية في حياتك: كل عمل لا يشترك معك فيه الروح القدس، اتركه وأبعد عنه.. الكنيسة المقدسة بدأ تأسيسها بالروح القدس يوم الخمسين (أع2). ومنح الآباء الرسل موهبة التكلم بألسنة، لكي ينشروا الإيمان للجميع.. وكثرت مواهب الروح (1كو12، 14). وحتى في اختيار الشمامسة السبعة، اُشتُرِط أن يكونوا مملوئين من الروح القدس والحكمة (أع6: 3). وفي العهد القديم أيضًا كان الروح القدس يعمل. لقد حلّ الروح القدس على شاول الملك فتنبأ (1صم10:10). كذلك حل روح الرب على داود لما مسحه صموئيل النبي (1صم16: 13). وقبل شاول وداود، نسمع عن شمشون أن «روح الرب كان يحركه» (قض14: 19؛ 15: 14). وروح الرب كان يحل على الأنبياء. ولذلك نقول عنه في قانون الإيمان «الناطق في الأنبياء". وفي ذلك يقول القديس بطرس الرسول «لم تأتِ نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسون مسوقين من الروح القدس» (2بط1: 21). ومع أهمية عمل الروح، توجد خطورة شديدة في مفارقة الروح. فشاول الملك قيل عنه «وفارق روح الرب شاول، وبغته روح رديء من قبل الرب» (1صم16: 14). ما أخطر هذا: أن الذي يفارقه روح الله، يمكن أن تتسلط عليه الشياطين. لذلك فإن المرتل يصرخ قائلًا للرب في المزمور «روحك القدوس لا تنزعه مني» (مز51: 11). ومن الناحية الإيجابية، يقول لنا الكتااب «امتلئوا بالروح» (أف5: 18). أي افتحوا قلوبكم للروح لكي يملأها. وكونوا مؤهلين لذلك. كونوا هياكل للروح القدس لكي يسكن الروح فيكم (1كو3: 16). وعندما يسكن الروح فيكم ويعمل، اشتركوا معه في العمل. لقد حل الروح القدس على التلاميذ، واشعلهم للخدمة. هذا هو الجانب الإلهي. وماذا عنهم هم؟ ملأوا الدنيا كرازة ونشاطًا. الروح القدس منح الموهبة للتلاميذ، وهم وعظوا وعمّدوا. ولم يهملوا النعمة التي عملت فيهم. وهكذا يقول القديس بولس الرسول: «بنعمة الله أنا ما أنا. ونعمته المعطاة لي لم تكن باطلة. بل أنا تعبت أكثر من جميعهم. ولكن لا أنا بل نعمة الله التي معي» (1كو15: 10). ومع أنه ينسب العمل إلى النعمة، إلا أنه يقول أيضًا «جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان.. » (2تي4: 7). هذا هو الجانب البشري المشارك لعمل النعمة. الروح القدس يتكلم. ولكن من له أذنان للسمع فليسمع. حتى في التوبة. الروح القدس يبكت النس على خطية (يو16: 8). ويدعوهم إلى الحياة الروحية. فمنهم من يقبل ويتوب. أما الباقون فيقول لهم الرسول «إن سمعتم صوته، فلا تقسوا قلوبكم» (عب3: 8، 15). الروح القدس ينخس القلب، ويعطي الرغبة في التغيير. ولكنه لا يرغم أحدًا على السير في الطريق الروحي.. هو يعطي كلمة للمبشرين، ويعطي تأثُّرًا للسامعين. وعليهم الاستجابة. يونان النبي نادى لشعب نينوى. فتأثروا وتابوا بمناداته.وكم من آخرين قتلوا الأنبياء، ورجموا المُرسَلين إليهم (مت23: 37) ورفضوا التوبة، ولم يشتركوا مع الروح. بل كانوا مقاومين الروح القدس كما وبخهم الشماس القديس اسطفانوس (أع7: 51). الفلك مفتوح للجميع. وكل من يدخله يخلص.وقد خلصت فيه ثماني أنفس بالماء (1بط3: 20). بل دخلته أيضًا حيوانات وطيور. أمّا الذين لم يدخلوا إلى الفلك، فقد هلكوا جميعًا بمياه الطوفان، مع أن الفرصة كانت مقدمة لهم. نفس الفرصة كانت متاحة لأصهار لوط في سادوم. كان الغضب سيحل على سادوم وتحترق بالنار بسبب شذوذها وزناها. وكلّم لوط أصهاره وقال «قوموا أخرجوا من هذا المكان، لأن الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره» (تك19: 14). وهلك أصهار لوط، لأنهم لم يستجيبوا لدعوة الروح لهم على فم لوط.. إنها مأساة، نهاية الذين رفضوا مشاركة الروح في عمله. نفس الوضع في رفض عمل الروح، حينما تحدث القديس بولس في أثنيا. ولم يستجب الفلاسفة الأبيقوريون والرواقيون لكلامه، بل قال بعضه «ترى ماذا يريد هذا المهذار أن يقول؟!» (أع17: 18). ولكن استجاب لعمل الروح ديونسيوس الأريوباغي (أع17: 34) الذي قيل إنه صار أسقفًا فيما بعد. كما استجابت امرأة اسمها دامرس وآخرون. كان اليهود أيضًا من الذين رفضوا عمل الروح فيهم. إذ يقول الإنجيل عن الرب «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله» (يو1: 11) «النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه» (يو1: 5). وقال الرب عن الروح القدس «روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه» (يو14: 17). وطبعًا لا يقبله لأن قلوب هذا العالم مغلقة أمام الروح لا تريد أن تعرفه. كان عملًا من أعمال الروح هو ظهور العذراء في جيلنا، وبخاصة في الزيتون. كثيرون قبلوا عمل الروح، وتعمق الإيمان في قلوبهم. وبعضهم استحقوا أن ينالوا معجزات شفاء. ولكن البعض رفضوا شركة الروح، وأخذوا يعللون الظهور المعجزي والأنوار الإلهية بأمور عالمية تحرمهم من عمل النعمة فيهم. بل أن البعض قد جدف على ذلك الظهور!! فحرم نفسه من الشركة مع الروح، وحرم نفسه من بركة العذراء. إن العقل البشري الذي يسلم فكره لتجديف الشياطين ويرددها، إنما هو إنسان يقاوم عمل الروح القدس. عكس ذلك المولود أعمى، الذي طلى الرب مكان عينيه بالطين، ثم قال له «اذهب اغتسل في بركة سلوام» (يو9: 6، 7). فهذا لم يقاوم الروح. ولم يقل كيف أُشفى بطين يمكن أن يعمي البصير؟! وكيف أغتسل في البركة، والغسيل يزيل الطين؟! بل أطاع ونفذ، فاستحق معجزة الشفاء. حقًا إن بساطة الإيمان تساعد على الشركة مع الروح القدس. لقد تاه الخروف الضال، والنعمة بحثت عنه فوجدته (لو15).وسلّم هذا الخروف نفسه للراعي، فحمله على منكبيه فرحًا. ولو أنه عاند ورفض العودة إلى الحظيرة، لبقي تائهًا في البرية.إن الطاعة وحياة التسليم من خصائص الشركة مع الروح. مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد
08 سبتمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس ناحوم

ناحوم " الرب إله غيور ومنتقم "" نا 1: 2 " مقدمة لست أظن أننا نستطيع أن نفهم ناحوم الألقوشى خير فهم، ما لم نضعه جنباً إلى جنب مع يونان بن أمتاى النبى، ولست أظن أننا نستطيع أن نفهم نينوى التى تنبأ عنها الاثنان - وقد جاءت نبوة يونان، على الأغلب، قبل نبوة ناحوم بنحو قرن من الزمان - ما لم نضع رحمة اللّه وعدالته نصب عيوننا، ونحن ندرس الحياة والناس والشعوب والأمم،... لقد هدد اللّه نينوى على لسان يونان وقدم لها الفرصة محددة بأربعين يوماً تنقلب بعدها نينوى إن لم تتب، أمسك أهلها بفرصة الحياة المقدمة لهم فتابوا ورجعوا عن شرورهم وفسادهم وإثمهم وطغيانهم، وعفا اللّه برحمته عن المدينة التائبة، كما يفعل دائماً مع كل آثم وشرير فى الأرض!!.. لكن صك العفو مرهون دائماً بالسير فى حياة النقاوة والاستقامة والبر والأمانة،... فإذا عاد الخاطئ إلى طرقه القديمة، ونسى إحسان اللّه وجوده ورحمته ولطفه، فإن المأساة ستكون أشد وأقسى، كمأساة الناقه من المرض عندما تحدث له المضاعفات ليرتد إلى ما هو أسوأ وأشر فى علته!!... فإذا كان القرن الذى مر بنينوى بعد توبتها، قد أعادها إلى سيرة أشنع وأقسى مما كانت عليه فى الماضى، فإن اللّه الذى كان رحيماً بها، سيتحول إلى الإله الغيور المنتقم، وفى الحالين سنرى لطف اللّه وصرامته على النحو المتوازن الكامل، ومن ثم، يحق لنا بعد ذلك أن نرى ناحوم النبى فيما يلى: ناحوم ومن هو إن الاسم « ناحورم » يعنى « تعزية »، وهو كغيره من الكثير من الكثير من الأسماء العبرانية التى ارتبط معنى اسمها بالرسالة التى أتيح له أن يحملها فيما بعد، فلئن كانت رسالته لأمته تحمل التعزية لها فى محنتها ومتاعبها وآلامها، فإنه هو شخصياً كحامل الرسالة، كان الرجل اللازم فى وقت المحنة والآلام، على أن هذا لا يعنى أن كل اسم يحمل فى ذاته المعنى النبوى لما سيكون عليه فى المستقبل، فما أكثر ما يتمنى الآباء، وهم يعطون أولادهم الأسماء التى تحمل أفضل الآمال،الأمانى والأحلام، ليأتى أولادهم على عكس ما كان يتمنون أو يحلمون،.. كان هناك تلميذان للمسيح، يحملان اسم يهوذا لباوس أو تدروس أو « يهوذا ليس الاسخريوطى » كما جاء فى " يو 14: 22 ".. ويهوذا الإسخريوطى، ولكن شتان بين الاثنين، وبين ما فعلا، والمصير الذى آل إليه كلاهما،... قد يسمى إنسان عبد المسيح، وقد يصبح فعلا عبد يسوع المسيح، أو قد يضحى عبد للشيطان حتى ولو حمل اسم المسيح!!. وغير أن ناحوم كان فى الواقع إسماً على مسمى، فقد حمل رسالة التعزية العميقة لشعبه فى أوقات المحن والمتاعب والمصائب!!.. وقد أطلق عليه « الألقوشى »، نسبة إلى قرية فى الجليل اسمها « القوش » فى سبط نفتالى، وعلى مقربة من كفرناحوم، والتى يقال إنها أخذت اسم ناحوم النبى، كما تذهب بعض التقاليد القديمة، والتى تذهب إلى أن شهرة النبى فى المنطقة هى التى جعلت القاطنين بجوار ألقوش يطلقون اسمه على المكان، والذى أضحى فيما بعد كفرناحوم المرتفعة إلى السماء،... ومن الغريب أن هناك من يعتقد أن النبى ولد فى بلدة تحمل ذات الاسم، وعلى مقربة من الموصل فى العراق، والذين يأخذون بهذا الرأى يعتقدون أن النبى ولد فى السبى، مع المملكة الشمالية، وأنه قد دفن هناك فى مقبرة تضمه ويونان وعوبديا ويفتاح، وأن هذا المكان أضحى مزاراَ يحج إليه الكثيرون ممن يتعلقون برفات الأنبياء والقديسين، على أننا نعتقد أن هذا التقليد المتأخر لا يستند إلى أساس، ولا يمت إلى الحقيقة بصلة، والواضح أن ناحوم كان على معرفة واضحة بباشان والكرمل وزهر لبنان كما هو ثابت من مطلع سفره، مما يؤكد أنه كان فى بلاده عندما تنبأ عن نينوى، وأنه على الأغلب كان فى أورشليم بعد سقوط السامرة عاصمة المملكة الشمالية، وتهديد الأشوريين المستمر ليهوذا وإسرائيل ومع أن يوسيفوس يذكر أنه تنبأ فى أيام يوثان، لكن المرجح أن وصفه: « ولكن بطوفان عابر يصنع هلاكا تاما لموضعها وأعداؤه يتبعهم ظلام ماذا تفتكرون على الرب؟ هو صانع هلاكا تاما، لا يقوم الضيق مرتين، فإنهم وهم مشتبكون مثل الشوك وسكرانون كمن خمرهم، ويؤكلون كالقش اليابس بالكمال » " نا 1: 8 - 10 " تشير كما يتجه الشراح إلى ضربة اللّه لجيش سنحاريب عندما حاصر أورشليم وقتل ملاك الرب مائة وخمسة وثمانين ألفاً.... ولهذا يتجه كثيرون من المفسرين إلى أن نبوته جاءت بعد نبوة يونان بمائة عام، فإذا كان يونان قد تنبأ على نينوى عام 763 ق. م، فإن ناحوم تنبأ عليها عام 663 ق. م أو حول ذلك التاريخ، وقد سقطت نينوى سقوطها النهائى عام 613 ق.م. أى بعد نحو خمسين عاماً، ولابد لنا أن نشير إلى أن سنحاريب عندما عاد فاشلاً، وذكر عنه إشعياء أنه مات مقتولا بيد ولديه فى بيت نسروخ إلهه، أن هذا كان إتماماً لقول ناحوم: « ولكن قد أوحى عنك الرب لا يزرع من اسمك فى ما بعد. إنى أقطع من بيت إلهك التماثيل المنحوتة والمسبوكة. أجعله قبرك لأنك صرت حقيراً » " نا 1: 41 ".ومن المسلم به على أية حال أن أسلوب ناحوم بلغ الذروة بين الأنبياء الصغار، فهو الأسلوب القوى الواضح ومع أن له حدة السيف، لكنه مع ذلك يرقى فى كثير من المواطن إلى الشعر السامى، والموسيقى الرائعة، ووصفه لجلال اللّه وقدرته وعظمته وسيطرته وانتصاره، من أروع ما جاء فى الكتاب المقدس على الإطلاق!!.. ناحوم والرؤيا الصافية لم تكن نينوى عندما تنبأ عنها ناحوم مدينة ضعيفة، بل كانت توحى، حسب الظاهر، بكل مظاهر القوة والجلال والعظمة وأدق وصف لها هو ما قاله: « أين مأوى الأسود ومرعى أشبال الأسود؟ حيث يمشى الأسد واللبؤة وشبل الأسد وليس من يخوف. الأسد المفترس لحاجة جرائه والخالق لأجل لبواته حتى ملأ مغاراته فرائس ومآويه مفترسات ».." نا 2: 11 و12 " ولنا أن نتصور غابة أو برية يجول فيها الأسد ويصول، وليس أسداً واحداً، بل أسوداً وأشبال أسود، واللبوات!! ومن ذا الذى يفلت من الصيد والقنص والفتك والافتراس،... ولو أننا سألنا السياسيين أو أصحاب النظرة النافذة النابهة، لتحدثوا عن المدينة التى لا تقهر، والشعب الذى لا يخاف، والقوة المتصاعدة وليس فيهم من يخطر بباله أن المدينة يمكن أن تكون وشيكة الضياع أو الهزيمة أو الدمار!!... ولكن ناحوم رأى نهايتها الرهيبة، ووصفها وصفا دقيقاً كما لو أنه يكتب، والجيوش الزاحفة تزحف عليها، وتقرض قصورها، وتأتى على مجدها التليد!!... وتزداد هذه الحقيقة رسوخاً، إذا تبينا أنها حدثت بعد خمسين عاماً من وقت النبوة،... وفى الحقيقة أن مصدر كل نبوة يتجاوز الفهم والذهن البشرى، سواء طال الزمن أمام قصر، وسواء امتد خمسين عاماً، أو كان يوماً واحداً، وهل فى قدرة إنسان وجيوش سنحاريب تطوق مدينة أورشليم أن يقول: « عن ملك آشور. لا يدخل هذه المدينة ولا يرمى هناك سهما ولا يتقدم عليها بترس ولا يقيم عليها مترسة. فى الطريق الذى جاء فيه يرجع وإلى هذه المدينة لا يدخل يقول الرب. وأحامى عن هذه المدينة وأخلصها من أجل نفسى ومن أجل داود عبدى » " إش 37: 33 - 35 " وبين عشية وضحاها يحدث كل هذا!!.. وهل يمكن أن يصف أحد ما سيحدث بعد نصف قرن من الزمان بهذا الوصف: « نعست رعاتك ياملك آشور اضطجعت عظماؤك، تشتت شعبك على الجبال ولا من يجمع، ليس جبر لانكسارك، جرحك عديم الشفاء كل الذين يسمعون خبرك يصفقون بأيديهم لأنه على من لم يمر شرك على الدوام » " نا 3: 18 و9 ".ومن الملاحظ على الدوام أن الأنبياء الصادقين الذين يرون رؤى الرب كانو ينطقون بها دون تردد أو شبهة، مهما كان تصور الآخرين أو تفكيرهم ألم يقف ميخا بن يملة فى جانب، وأربعمائه نبى لآخاب فى جانب آخر، ويتنبأ على أخآب دون أدنى ذبذبة، وإذ يقول أخآب: « ضعوا هذا فى السجن وأطعموه خبز الضيق وماء الضيق حتى آتى بسلام، فقال ميخا إن رجعت بسلام، فلم يتكلم الرب بى. وقال اسمعوا أيها الشعب أجمعون ». " 1 مل 22: 27 و28 "وألم يقل أليشع للجندى الذى يستند الملك على يده فى قلب المجاعة بالسامرة: « هكذا قال الرب فى مثل هذا الوقت غداً تكون كيلة الدقيق بشاقل وكيلتا الشعير بشاقل »... وإذا بالجندى يجيب: « وقال هو ذا الرب يصنع كوى فى السماء، هل يكون هذا الأمر؟ فقال إنك ترى بعينك ولكن لا تأكل منه».. " 2 مل 7: 1 و2 " بل ألا يبلغ بنا العجب منتهاه، أن نبوخذ نصر يحلم حلماً، ولعله نسيه، ويطلب من حكماء بابل معرفة الحلم وتفسيره، ولكنهم يجيبون بصوت واحد: « ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبين أمر الملك لذلك ليس ملك عظيم ذو سلطان سأل أمراً مثل هذا من مجوسى أو ساحر أو كلدانى. والأمر الذى يطلبه الملك عسر وليس آخر يبينه قدام الملك غير الآلهة الذين ليست سكناهم مع البشر ».. " د 21: 10 و11 " وإذ عرف دانيال الحلم وأعلنه للملك وفسره له، « خر نبوخذ نصر على وجهه وسجد لدانيال ».. لأن: « اللّه العظيم قد عرف الملك ما سيأتى بعد هذا الحلم حق وتعبيره يقين » " دا 2: 45 و46 "!!.كان ناحوم على يقين كامل بالمصير الذى ستلاقيه نينوى، إذ كانت له الرؤية الصافية المعلنة من اللّه!!.. ناحوم والمدينة المعاقبة لعل من أعجب ما ذكر زينفون، أن نينوى سقطت بسبب فيضان نهر دجلة، الفيضان الذى حطم أبواب الخزان فغرقت المدينة فى المياه، ومكنت المهاجمين من اقتحامها، ودك حصونها،... وهل هذا إلا ما ذكره ناحوم بالضبط فى نبوته عنها: « أبواب الأنهار انفتحت والقصر قد ذاب.. ونينوى كبركة ماء منذ كانت ولكنهم الآن هاربون » " نا 2: 6 - 8 ". وقد يقول الناس إنها الطبيعة، أو قد يقولون إنها قوة الكلدانيين الذين أخذوا طريقهم إلى الظهور ليكتسحوا الممالك، لكننا نعلم على الدوام أن الأمم تقوم وتسقط لا لأسباب سياسية أو إقتصادية أو عسكرية أو اجتماعية، بل قبل وبعد هذه كلها، لأن اللّه حكم بالقيام أو السقوط... قبل مائة عام من تاريخ هذه النبوة، أو مائة وخمسين عاماً قبل سقوط المدينة، جاءها يونان ونادى عليها بالسقوط والانقلاب، وتابت المدينة، ونامت فى التراب والرماد ونجت، وكتب لها فى جوده وحبه كتاب الحياة والنجاة،... لكن الإنسان الذى لا يقرع صدره توبة، سيقرع صدره فزعاً ورعباً وندماً، وهذا ما حدث لنينوى فى المرة الثانية إذ تنبأ النبى عن ملكتها الجميلة باسمها « هصب » قائلا: « وهصب قد انكشفت. اطلعت. وجواريها تئن كصوت الحمام ضاربات على صدورهن »... " نا 2: 7 " « فراغ وخلاء وخراب وقلب ذائب وارتخاء ركب ووجع فى كل حقو وأوجه جميعهم تجمع حمرة » " نا 2: 10 ". وإنها لمأساة الإنسان الذى ينسى العبرة ويهمل التاريخ، ويظن أن الفرصة التى أتيحت له للتوبة تتحول رخصة مستمرة للتهاون أو فعل الشر،... لقد عادت نينوى إلى شهواتها ومسراتها وزناها: « من أجل زنى الزانية الحسنة الجمال صاحبة السحر البائعة أمما بزناها وقبائل بسحرها » " نا 3: 4 "... وكل واحد فى التاريخ يمكنه أن يقول لأعظم دول العالم، وأجمل مدنها ما قاله ناحوم، عن الخراب لابد أن يلحقها، ولا يمكن أن تفلت منه، لا بفيضان نهر أو قنبلة قد تكون ذرية أو هيدروجينية، بل بفيضان غضب اللّه القدوس ضد الخطية!!.. إن الاستباحة والترف والمجون، وعبادة الجسد، هى السوس الذى ينخر فى عظام الأمة، ويقوضها فجأة ودون سابق إنذار، لأن « البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية »،.. " أم 14: 34 ".. كما أن نينوى سقطت لسبب آخر إذ كانت مدينة الدماء: « ويل لمدينة الدماء.. كلها ملآنة كذباً وخطفاً.لا يزول الافتراس ».. " نا 3: 1 " كانت المدينة تبحث عن المال، ولا تريد أن تضع حدوداً لنهبها وعندما دخلها الغزاة وجدوا أمامهم مالا يتصوره عقل من الفضة والذهب والتحف: « انهبوا فضة انهبوا ذهباً فلا نهاية للتحف للكثرة من كل متاع شهى» " نا 2: 9 ".. والأمم التى تشغل بالمال على هذا الوضع، سيأتيها الضياع من الخارج والداخل على حد سواء، مهما علت وارتفعت وعظم شأنها، لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذى إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة!!.. وهل لا يقف المال وراء الاستعمار والمجازر والحروب وصراعات الأمم والبيوت والأفراد، وهل تعاقب الدول فى كل العصور لتسقط كل واحدة الأخرى، وتجعلها تدور فى فلكها حتى يأتى من يسقطها بدوره والحلقة دائبة الدوران،... هل هذه كله إلا بسبب المال وما ترك فى البشر من شراهة وطمع وتآمر وقتل!!؟ … ومع أن هذا هو الظاهر، لكن الحقيقة أنه عقاب اللّه للظلم والكذب والخطف والافتراس، قال أحدهم، وهو يعلق على الحرب العالمية الثانية: « إنى لا أؤمن بوجود اللّه الذى يسمح بالخراب والدمار على هذه الصورة المفزعة » … ورد عليه آخر: أنا أؤمن بوجود اللّه لهذا السبب عينه، لأنه كيف يترك اللّه فجور العالم دون حساب أو عقاب؟!!.. ناحوم والقدرة الغالبة عندما سقطت نينوى العظيمة، كان سقوطها رهيباً وشاملاً، وقد رآه ناحوم فى النبوة كالتين الذى يسقط فى فم الآكل عندما يهز الشجرة: « جميع قلاعك أشجار تين بالبواكير إذا انهزت تسقط فى فم الآكل ».." نا 3: 12 " وفقد الشعب فيها روح الجسارة والبطولة، وهو يستسلم على النحو القريب: « هوذا شعبك نساء فى وسطك. تنفتح لأعدائك أبواب أرضك. تأكل النار مغاليقك » " نا 3: 13 ". وعندما نسأل عن السر فى ذلك، نتحول من البشر إلى اللّه العلى!!.. « الرب إله غيور ومنتقم الرب منتقم وذو سخط. الرب منتقم من مبغضيه وحافظ غضبه على أعدائه. الرب بطئ الغضب وعظيم القدرة ولكنه لا يبرئ البتة. الرب فى الزوبعة وفى العاصفة طريقه والسحاب غبار رجليه.. ينتهر البحر فينشقه ويجفف جميع الأنهار... الجبال ترجف منه والتلال تذوب والأرض ترفع من وجهه والعالم وكل الساكنين فيه. من يقف أمام سخصه ومن يقوم فى حمو غضبه؟ غيظه ينسكب كالنار والصخور تنهدم منه. صالح هو الرب حصن فى يوم الضيق وهو يعرف المتوكلين عليه. ولكن بطوفان عابر يصنع هلاكاً تاماً لموضعها وأعداؤه يتبعهم ظلام » " نا 1: 2 - 8 " « فإن الرب يرد عظمة يعقوب كعظمة إسرائيل لأن السالبين قد سلبوهم وأتلفوا قضبان كرومهم. ترس أبطاله محمر. رجال الجيش قرمزيون. المركبات بنار الفولاذ فى يوم إعداده. والسرو يهتز. تهيج المركبات فى الأزقة. تتراكض فى الساحات. منظرها كمصابيح. تجرى كبالبروق »." نا 2: 2 - 4 " « ها أنا عليك يقول رب الجنود فأحرق مركباتك دخاناً وأشبالك يأكلها السيف وأقطع من الأرض فرائسك ولا يسمع صوت رسلك ».. " نا 2: 13 "« هأنذا عليك يقول رب الجنود فأكشف أذيالك إلى فوق وجهك وأرى الأمم عورتك والممالك خزيك. وأطرح عليك أوساخاً وأهينك وأجعلك عبرة. ويكون كل من يراك يهرب منك ويقول خربت نينوى من يرتى لها؟ من أين أطلب لك معزين »؟... " نا 3: 5 - 7 " ونحن لا نرى هنا أمام الأوصاف الرائعة سوى اللّه، ومع أن اللّه قد استخدم الكلدانيين فى القضاء عليهم، لكن الكلدانيين ليسوا إلا عصا الرب وأداة انتقامه،... وكل النواميس والنظم والناس وسائر المخلوقات المنظورة وغير المنظورة، ليسوا إلا جنوده لتنفيذ أوامره ومجده!!.. واللّه يبدو هنا الإله الساخط فى مواجهة الإثم والخطية والشر، لأن هناك تنافراً أبدياً بينه وبين الفساد، وهو لا يطيق الإثم،... منذ مائة وخمسين عاماً رحم نينوى رحمة واسعة وضاق بها يونان واغتاظ من أجلها،... لكن رحمة اللّه الواسعة كان لا بد أن تعمل فى إنقاذ المدينة،... واللّه كما وصفه ناحوم بطئ الغضب،.. لكن بطء الغضب شئ والسكوت على الإثم وعدم المبالاة شئ آخر، ونحن لابد أن نتذكر أن اللّه « غيور ومنتقم » وغيرة اللّه وقائد أبدية،... وصانع الشمس الملهبة، التى ترسل نارها على الدوام، لا يمكن أن تكون طبيعته هو طبيعة باردة، لا تفرق بين شر وخير، وبين حق وباطل، وبين إثم وبر،.. لأن إلهنا نار أكله!!.. وإذا كان الإنسان الحر يثور ضد الظلم والفساد والشر، وهو على استعداد أن يبذل حياته للدفاع عن كل قضية عادلة،... فإن صانع هذا الإنسان، هيهات أن يكون أضعف غيره منه، أو أقل سخطاً، على الأوضاع المقلوبة فى الأرض.على أن اللّه ليس هو الإله الذى يسخط فحسب، بل هو الإله القادر فى سخصه على أن يقلب الأرض كلها بإصبعه، أو بأقل حركة من أصبعه، وهو الذى يأتى بالطوفان العابر عند ثورة غضبه،... إن البشر قد يحولون غضبهم إلى بكاء أو دموع أو ثورة فاشلة،... لكن اللّه إذا كان بطئ الغضب، لكنه فى الوقت نفسه عظيم القدرة، ومن يقف أمام سخطه، ومن يقوم فى حمو غضبه!!.. من الحق أن الرب طيب ولا حدود لطبيبته،... ولكن من أكبر الحماقات التى يرتكبها الإنسان، أن يتصور الطيبة الإلهية بالمعنى الشائع للمثل الفرنسى « اللّه الطيب » والمقصود به المتساهل تجاه الخطية، والذى يتجاوز عن الإثم، والذى يقف موقف الإهمال وعدم المبالاة أمام صنوف العسف والظلم والطغيان والاستبداد، وهنا ينسى مثل هذا الإنسان، أنه لا يوجد من يجمع بين اللطف والصرامة على النحو الكامل المطلق سوى اللّه!!.. واللّه لطيف رحيم لكل من يأتى إليه تائباً مقراً باثمه وقصوره وشره،... ولكنه هو أيضاً، كما وصفه أيوب فى الأصحاح التاسع من سفره: « هو حكيم القلب وشديد القوة. من تصلب عليه فسلم؟ المزحزح الجبال ولا تعلم، الذى يقلبها فى غضبه، المزعزع الأرض من مقرها فتتزلزل أعمدتها، الآمر الشمس فلا تشرق ويختم على النجوم، الباسط السموات وحده والماشى على أعالى البحر صانع النعش والجبار والثريا ومخادع الجنوب. فاعل عظائم لا تفحص وعجائب لا تعد »... " أيو 9: 4 - 10 " كان اللّه الإله الرحيم على نينوى التائبة يوم يونان، والمنتقم على عصيانها يوم ناحوم! ومن اللازم أن نشير هنا إلى تبدل المواقع وتغير الأوضاع، وابتداء القضاء من بيت اللّه، فإذا كان اللّه قد أهاج الأشوريين أو الكلدانيين على إسرائيل ويهوذا لخطيتهما وإثمهما، إلى الدرجة التى قال معها سنحاريب لحزقيا - يدرى أو لا يدرى معنى قوله: « والآن هل بدون الرب صعدت على هذه الأرض لأضربها. الرب قال لى اصعد على هذه الأرض واضربها »... " إش 36: 10 " فإن هذا الإله عينه هو الذى يتحول على الطغاة ليرد سبى شعبه للسبب عينه، عندما يتوبون ويرجعون إليه، وعندما يستمر الطغاة فى شرهم وظلمهم وإثمهم، أو كما قال ناحوم: « قد ارتفعت المقمعة على وجهك، احرس الحصن، راقب الطريق، شدد المقومين، مكن القوة جداً، فإن الرب يرد عظمة يعقوب كعظمة إسرائيل لأن السالبين قد سلبوهم وأتلفوا قضبان كرومهم »... ومقمعة اللّه فى كل التاريخ والعصور مرفوعة لتضرب كل وجه يتعظم فى حضرة اللّه، أو يستبد أو يطغى أو يرتكب إثما وشراً فى حضرة إله قادر حى دائم منتصر ممجد!!..
المزيد
12 أغسطس 2021

شخصية مريم العذراء والدة الإله ج2

مريم العذراء والدة الإله مريم في بيت لحم:- إن كان الله له مطلق السلطان في مقاصده، فله أيضاً مطلق السلطان في اختياره لتلك الأواني التي تحقق مقاصده. ولأكثر من سبعمائة عام قبل ميلاد المسيح، تنبأ ميخا النبي بميلاد المسيح في بيت لخم: "أما أنت يا بيت لحم أفراته، وأنت صغيرة أن تكوني بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل، ومخارجه منذ القديم، منذ أيام الأزل". وكانت هذه نبوة عن مكان ميلاد المسيا، وقد اقتبسها رؤساء الكهنة والكتبة في إجابتهم عن السؤال الذي طرحه هيرودس عليهم – أين يولد المسيح؟. ولكن كان بيت مريم في الناصرة في الجليل، وكان الوقت يقترب لميلاد طفلها القدوس، وهكذا: "في تلك الأيام صدر أمر من أوغسطس قيصر بأن يكتتب كل المسكونة (العالم أو الإمبراطورية الرومانية). وبناء على هذا القرار تحرك يوسف (ومعه مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى بابنها)، لكونه من بيت داود وعشيرته، وصعد من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية في مدينة داود التي تدعى بيت لحم. ولم يكن الإمبراطور الروماني يدري كثيراً عن نتائج هذه الفكرة التي طرأت على ذهنه. كما لاحظ أحد الكتاب أن "هذا العمل كان لتحقيق قصد الله العجيب، لكي يولد المخلص الملك في قرية – كانت بحسب شهادة الله لابد أن يتم فيها هذا الحدث". وما يلفت الملاحظة أكثر أنه على الرغم من صدور هذا القانون، والذي بموجبه صعد يوسف ومريم مع كثيرين أيضاً إلى مدينتهم ليكتتبوا هناك، غير أن الاكتتاب قد تم بعد ذلك بفترة "عندما كان كيرينيوس والياً على سورية". كم عجيبة حكمة الله وكمال طرقه! فيوسف كان عليه أن يأخذ مريم امرأته إلى بيت لحم، ويحرك الله الإمبراطور ليدفع إمبراطوريته للاكتتاب فيصعد يوسف إلى بيت لحم. يا له من برهان أكيد أن الله يمسك بزمام الحكم في يديه ويحرك قلوب الناس حيثما يشاء أن يمليها. والمسيحي يؤمن ويعرف ذلك وهو يستريح بسلام إزاء كل أعمال الناس ونشاطها، وإزاء كل التشويش والاضطراب والصراعات التي تجري هنا وهناك.وبينما كان يوسف ومرين في بيت لحم، أن مريم "ولدت ابنها البكر فقمطته وأضجعته في المذود إذ لم يكن لهما موضع في المنزل" (ع 7). وليس غرضنا في هذا الجزء أن نتناول موضوع التجسد، ولكننا بالحري نتكلم عن تاريخ مريم الشخصي. ونتجاسر أن نقدم لأحدهم بعض التأملات على هذا الحدث العجيب، وسر الأسرار فقال: "إن ابن الله ولد في هذا العالم ولكنه لم يجد مكاناً هنا. وإن كان جميع الناس لهم بيوت ولهم أماكن ولو في فندق غير أن ابن اله لم يجد مكاناً غير مذود. وهل عيثاً يسجل الروح القدس هذه الحادثة؟ كلا، فليس مكان لله ولا لأمور الله في هذا العالم. وهل نجد ما هو أكثر كمالاً غير تلك المحبة التي جعلته ينزل إلى الأرض. ولكنه بدأ في مذود وانتهى بالصليب، وبين البداية والنهاية كل الطريق لم يكن له أين يسند رأسه". ونحن كمؤمنين بكل خشوع وتعبد في حضرة إلهنا نتأمل في الطريقة التي بها "الله ظهر في الجسد" نعمة ربنا يسوع المسيح الذي من أجلكم افتقر وهو الغني لكي تستغنوا أنتم بفقره. وإذا كانت هذه الأمور هكذا فليتنا نتذكر أنه لكي يتمم مقاصد محبته ويفتدي شعبه سواء كان إسرائيل أم الكنيسة، كان لزاماً عليه أن يرفض في حيته ويصلب في موته. إن الطفل المضجع في الذود هو "غرض كل مشورات الله، وهو الممسك والوارث لكل الخليقة، المخلص لجميع الذين يرثوا المجد والحياة الأبدية". ولا عجب فإن مريم كانت محتجة كل هذا الوقت. ولا كلمة تسجل عنها لما كانت تشعر به أو تفكر فيه أو تقوله، والحق أنها كانت مختفية وراء مجد ابنها. مريم والرعاة:- وإذ نشير إلى أولئك الأتقياء الذين اختارهم الله ليتسلموا إعلان ولادة المخلص الذي هو "المسيح الرب"فذلك بسبب ارتباطهم بما تسجل في قصة مريم. فإن الله في هذا الوقت لم يمنح عظماء الأرض هذا الإعلان بل إلى فقراء شعبه والمتألمين الذين كان هؤلاء الرعاة معدودين منهم. فالأخبار والإعلانات الإلهية تعطى فقط للقلوب المعدة إعداداً إلهياً ولهذا فإننا نؤمن بأن هؤلاء الرجال البسطاء كانوا ممن ينتظرون فداء في أورشليم (انظر ع 38). وإذا كانوا ساهرين ليلاً على قطعان أغنامهم فقد أرسل لهم الملاك حاملاً بشائر الفرح العظيم لجميع الشعب، كما أعطاهم علامة للمصادقة على إيمانهم "تجدون طفلاً مقمطاً مضجعاً في مذود". وحالما أنهى رسالته سرعان ما "ظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله قائلين المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة".ولنترك للقارئ التقي أن يتأمل هذه الكلمات التي رنم الملائكة بها والتي ترينا على الأقل أن كل مقاصد الله لبركة شعبه إسرائيل تتحقق في شخص ابنه المحبوب، ولكن دعونا نتتبع هؤلاء الرعاة الذين في بساطة إيمانهم دون أن يتساءلوا عن هذا الحق الذي سمعوه ولكنهم قالوا بعضهم لبعض "لنذهب الآن إلى بيت لحم، وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب. فجاءوا مسرعين ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مذود". ويا له من منظر ملأ عيونهم بالتحية له! ربما لم يدركوا المغزى الكامل لما رأوه أو مجد هذا الصبي. ولكنهم رأوه بقلوب ساجدة بدون شك. وليست هناك كلمة قيلت منهم ولا من مريم ولا من يوسف،ذلك لأنهم كانوا مثبتين عيونهم على المخلص المسيح الرب وهو مضجع في مذود. ولكن كان لا بد لهم أن يكونوا قد تكلموا، فيعد العبارة المتعلقة بشهادتهم "في الكورة" ونتيجة هذا إذ قيل "وكانت مريم تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها". فإذا ربطت هذا مع نهاية فقرة عدد 57 نستطيع أن نقول أن مريم كانت ذا نفس هادئة متأملة ومتجاوبة. فالاختيار لمثل هذه الإرسالية وبهذا التكليف يصبح من الصعوبة أن يكون بخلاف هذه الشخصية. إن أقل شعور تجاه صبي كهذا أقول أنه يجب أن يكون في رهبة حضور الله، وهنا يقصر الكلام عن التوضيح والإنسان يجب أن يعرف أكثر عن أفكارها وهي تحملق في وجه هذا الصبي العجيب الذي قال عنه أشعياء بالنبوة "ويدعى اسمع عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام". ولكن يا لها من نعمة حظت بها مريم، ومع ذلك فليست هي غرض السماء بل ابنها وهو غرض مشورات الله، الذي به استعلن مجد الله وتثبت وصار نافعاً في هذا العالم. ونحن نتعجب من السمات الجميلة التي اتصفت بها مريم والتي تتفق مع تقواها وسلوكها. مريم في الهيكل:- نتبين في كل من شخصية مريم ويوسف هذه الصفات التقوية التي نلحظها في انتباهها الشديد لدقائق كلمة الله سواء في أمر ختان الصبي القدوس أو في تطهير مريم، فقد كانت طاعتها لأوامر الناموس واضحة وصريحة (انظر لاويين 13). وكذلك في تقديم يسوع للرب "كما هو مكتوب في ناموس الرب أن كل ذكر فاتح رحم يدعى قدوساً للرب".وكان لا بد أن يمضي أربعون يوماً بعد ولادة الصبي قلما تظهر مريم في هيكل أورشليم. وفي هذه الفترة كانت قد تمت زيارة المجوس أو حكماء المشرق كما وردت في إنجيل متى. وفي هذا المشهد كما في مشهد زيارة الرعاة أيضاً لم تتخذ مريم دوراً ظاهراً بل كانت متوارية في الظل بإرادتها، وكانت في شركة مع الله – على الأقل بقدر قياسها، لذا كانت تعرف المجد الآتي لذاك "المولود ملك اليهود"، فلم تندهش كثيراً عندما رأتهم يخرون ساجدين له أو عندما فتحوا كنوزهم وقدموا له هداياهم – ذهباً ولباناً ومراً – كانت فرحة لكونها الإناء المختار لولادته، ولكن كان عليها أن تتعلم أنه بحكم هذا الارتباط والاندماج بمسيح الله فلا بد أن يلاقيها الاضطهاد من إله هذا العالم. ومن تلك اللحظة التي ولد فيها هذا الصبي ابن الله فإن التنين (أو الشيطان) الذي كان يترقب تلك اللحظة سعى أن يبتلعه. صارت مريم ويوسف وكذلك الطفل يسوع غرضاً لعداوة الملك الشرير ولكنهم كانوا تحت غطاء الحماية الإلهية والإرشاد الذي دفعهم للهروب إلى مصر. وبعدما عادوا إلى أرض إسرائيل إلى الجليل إلى منزلهم الأصلي استمتعا بهذا الشرف والامتياز الذي لا يقدر لخدمته – ذاك الذي لم يكن أقل من ابن الله.وإذ نتذكر تلك الحوادث لنستكمل القصة، والآن لنتأمل هذا المشهد في الهيكل. كتب ملاخي: "ويأتي بغتة إلى هيكله السيد الذي تطلبونه" نعم لقد أتى "وعندما دخل بالصبي يسوع أبواه ليصنعا له حسب عادة الناموس". كانت أورشليم كعادتها – شعبها يبيع ويشتري النساء تتمم واجباتها المنزلية والرجال يلازمون حرفهم اليومية. كما كان ملكهم الأدومي المتعطش للدماء والقاسي والحزين والبائس ولكنه كان يعمي أتباعه بسخاء وعظمة صروحه المشيدة، عاملاً على إرضاء شهواته الدنيئة. وهكذا كان الجميع في جهل تام بهذه الحقيقة العجيبة أن الله قد افتقد شعبه، والمسيا الممجد الذي تنبأ له الأنبياء والذي يمتد ملكه إلى كل الأرض (انظر مزمور 72) كان في وسطهم وقد حمل إلى تخوم الهيكل المقدس. ولكن كيفما كان اتجاه الأمة وحالة عدم إيمانهم فإن الله يضمن دائماً معرفة ابنه المحبوب بالصورة التي يستحضره بها. وفي هذه الحالة أعد الله قلوب قليلين كانوا ينتظرون فداء في أورشليم للترحيب بمسيحه واختار الله اثنين من هؤلاء لينظراه بأعينهم في ذلك الوقت كانت مريم ويوسف يجتاز شوارع المدينة ومعهم هذه الوديعة الثمينة، وفعلاً كما كان يفعل أي قديسين يهود بسطاء في أحوال مشابهة لهذه الظروف. ودخلا إلى المكان المقدس دون أن ليلاحظهما أحد أو يعطيهما اهتماماً، ودون أن يعرفا شيئاً عما أعده الله أو ما سيفعله. وكما كتب الإنجيلي "وكان رجل في أورشليم اسمه سمعان. وهذا الرجل كان باراً تقياً ينتظر تعزية إسرائيل، والروح القدس كان عليه. وكان قد أوحي إليه بالروح القدس أنه لا يرى الموت قبل أن يرى مسيح الرب. فأتى بالروح إلى الهيكل" وجدنا هنا واحداً تحت السيطرة الكاملة للروح القدس، وقد دعاه الله وأعده لكي يأخذ ابنه على ذراعيه عندما دخل مريم ويوسف بالصبي يسوع ليصنعا له حسب عادة الناموس.يا له من مشهد عجيب فعلاً إذ يشغل انتباهنا حقاً لما فيه من فائدة ونفع لنا قبلما نستكمل موضوعنا. ليتنا نتذكر ونحن نتأمل هذا المشهد أننا نقف على أرض مقدسة. ونقرأ أن سمعان "أخذه على ذراعيه" أخذه من يدي أمه. مشهد عجيب! فهذه الأم التقية والمكرسة تضع طفلها بين ذراعي سمعان الشيخ. إن سمعان نال هذا الامتياز الثمين ليحمل على ذراعيه هذا الطفل الذي تتحقق وتتكمل فيه كل مشورات الله!.ولكن من هو هذا الصبي؟ إنه الكلمة الذي صار جسداً المكتوب عنه "في البدء كان الكلمة، والكلمة كانت عند الله، وكان الكلمة الله" (يوحنا 1: 1) وهو "صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة: فإنه فيه خلق الكل، ما في السماوات وما على الأرض، ما يرى وما لا يرى سواء كان عروشاً أم سيادات أو رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق، الذي هو قبل كل شيء والذي فيه يقوم الكل". وهو الذي "فيه سر أن يحل كل الملء" (كو 1: 15 - 19). إنه هو الابن "الذي جعله وارثاً لكل شيء. الذي به عمل العالمين.. وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته" (عب 1: 2و3) ومن جهة أخرى باعتباره مولوداً في هذا العالم فقد كان هو نسل المرأة ونسل إبراهيم وابن داود. كل هذه الأمجاد وغيرها الكثير، فهو أقنوم إلهي تنازل وصار جسداً، إذ تدور حوله وتشع وتلمع من هذا الصبي المقدس الذي وضعته مريم بين ذراعي سمعان. ليتنا نحملق جيداً وبكل خشوع في هذا السر الإلهي، فكلما نظرنا بعمق أكثر كلما انحنت قلوبنا تعبداً وخشوعاً في حضرة ذاك الذي هو عطية الله التي لا يعبر عنها وأمام نعمة لا يسبر غورها ومحبة فائقة المعرفة.لقد وقف سمعان والصبي على ذراعيه أمام الله، وبقلب فائض بارك الله وقال: "الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام. لأن عيني قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب. نور إعلان للأمم ومجداً لشعبك إسرائيل". لقد تحققت كل رغائبه، وانقطعت كل علاقة له بالأرض حالما امتلك خلاص الله، وكان مستعداً أن ينطلق بسلام. مثل موسى أيضاً عندما وقف على الفسحة ورأى الأرض التي أعطاها الله لشعبه، هكذا سمعان والصبي المقدس على ذراعيه مركز مشورات الله وتطلع إلى الأمام إلى الوقت عندما يستحضر الأمم إلى النور ويصبح المسيح مجداً لشعبه إسرائيل.وكان يوسف وأم الصبي يتعجبان من الكلمات التي قالها سمعان عنه، ذلك أنهما كانا لا بد أن يعرفا الأمور جزئياً. ونحن كذلك بشكل عام نأتي تدريجياً إلى معرفة الحق بكل قوته – ذلك الحق الذي نعترف نحن به. وتبع ذلك أمرين فإن الارتباط بالمسيح في هذا العالم يستحضر البركة والألم معاً. ونجد هنا مريم مثالاً على ذلك. فإن سمعان "بارك" الله، والآن يباركهما أي يوسف ومريم، ثم يتجه نحو مريم مخاطباً إياها قائلاً "ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل، ولعلامة تقاوم، (وأنت أيضاً يجوز في نفسي كسيف)، لتعلن أفكار من قلوب كثيرة". وهكذا فإن الله في نعمته ولطفه يستخدم عبده سمعان ليعد مريم بطريق طفلها – طريق الأحزان والرفض – ومن يشك أن هذا القول إن صب أساساً عندا وقفت عند صليب يسوع لتنظر أوجاعه وآلامه ألم يكن في ذلك اختراق للسيف في نفسها أيضاً؟ وفي طريق الله التي نجتازها كم من رحمة تحوطنا إذ نقترب – ليس دفعة واحدة بل – بالتدريج إلى نصيبنا من الأحزان، ونجد أنها عندما تقع علينا تظهر "لمعان محبته"! لا يمكن لمريم أن تنسى هذه الكلمات ولكنها كانت تحفظه "متفكرة به في قلبها"، ولابد أنها كانت دائماً تضع هذه الأقوال أمام الله في تأملاتها وصلواتها. ومن خل حياتها نجد أنها عاشت تحت ظل الصليب، وبالتأكيد فقد كان لها التعويض الكافي والمؤازرة وهي في رفقة ابنها. لابد أنه كان أمامها الكثير الذي لم تقدر أن تتركه ولكنها بالتأكيد كانت تستريح في معرفة أن يسوع هو مسيا المخلص الذي معها. ولم يوجد في كل الأرض من منح هذا الامتياز الذي لا ينطق به وتلك البركة – فلأجل خاطره ومحبة ل فقد أمكنها أن تعاين المستقبل وتترك بين يديه كل شيء اختاره لها في هذا الطريق.ونتبين فقر يوسف ومريم من الحادثة العرضية عندما قربوا ذبيحتهم عند تقديم يسوع. ونقرأ في اللاويين وبخصوص تطهير المرأة عند ولادتها: "وإن لن تنل يدها كفاية لشاة تأخذ يمامتين أو فرخي حمام الواحد محرقة والآخر ذبيحة خطية فيكفر عنها الكاهن فتطهر" (ص 18: 8). لم تكن مريم أن تنال يدها فتحضر شاة وروح الله يلفت انتباهنا أن ربنا قد ولد في ظروف مذلو وحياة متواضعة من البداية، نعم ومن قبل أن يأتي إلى الأرض كان فكره أن يتذلل ويتواضع، فأي أم لا تريد أن تحيط طفلها بكل وسائل الراحة والترف طالما تستطيع أن تفعل ذلك؟ ولكن كل شيء يتحدد بحكمة إلهية، إذ نرى ليس فقط ظروف ولادة ربنا بل أيضا كل طريقه في هذا العالم الذي لم يجد فيه أين يسند رأسه. وهذا يطبع فينا، كلما تفكرنا في ذلك نعمته التي لا ينطق بها.إذا انتهت طقوس الهيكل مع أقوال سمعان النبوية، "ولما أكملوا كل شيء حسب ناموس الرب" تركوا الهيكل وخرجوا من بواباته ومعهم هذا الكنز الثمين و "رجعوا إلى الجليل إلى مدينتهم الناصرة". ممارسين أعمالهم اليومية، وهم يمتلكون سراً إلهياً لم يعفه أحد في الناصرة بخلافهم. وللحديث بقية
المزيد
16 يناير 2022

خادم المهارات

ظهرت في الآونة الأخيرة مجالات كثيرة نافعة لتوظيفها لمصلحة الخدمة، مثل مجالات القيادة والإدارة والمهارات البشرية وعلم المشورة وغيرها من المجالات المتعددة التي تساعد في الكثير من أمور الخدمة.ولئلا يظن البعض أن هذه المجالات لا تحمل نفعًا للكنيسة، ونتجه إلى محاربتها أو الاستغناء عنها، فنحن نتحدث عن كيفيه توجيهها التوجيه السليم، وجعلها أداة لمزيد من فاعلية الخدمة، ولكن لابد أن نضع أمام أعيننا دائمًا أن الخدمة هي عمل روحي قبل أن يكون عمل مهاري. وقد قصد مخلصنا الصالح أن يخلّص بقليل وبكثير، أن يغير بجهالة الكرازة ما عجز عنه فلاسفة العالم، لأنه مكتوب أنه سيبيد علم العلماء. فما يشكل خطرًا حقيقيًا أن نعتبر هذه المجالات كافية لنجاح الخدمة...وبلاشك هذه مجالات لها جاذبيتها وبريقها، ولكن يُخشى علي راغبيها أن يكتفوا ويفتخروا بها، ويجعلوا منها هدفًا وليست وسيلةً، ويتبارى أطرافها في المزيد منها، وقد يعتقد راغبها أنها سر نجاح الخدمة. ولأنها تغذّي النزعة الفردية والذاتية، ولأنها أحيانًا تقدم تعويضًا عن الثغرات الروحية، فنجد أنها جاذبة لكثيرين... ودليل على ذلك تجد إقبالًا على اللقاءات المهارية أكثر من اللقاءات الروحية، وتكالبًا على الكتب أو الكورسات التي تعلم المهارات أكثر من الكتب التي تشرح الإنجيل أو الليتورجيا.أحبائي: الخدمة عمل إلهي وليست حركة بشرية. والكنيسة هي الملكوت على الأرض وإن كانت في الأرض، وهي تحتضن المعرفة وتوظّفها وتسخّرها لصالح رسالتها.ويجب أن نعرف أن العالم كله نقطة داخل الكنيسة، وليست الكنيسة نقطة داخل العالم، فهي التي تشفع في الكون كله كمسئولة عنه بكل ما فيه من بشر وبحار وأنهار وينابيع وزروع وعشب وأهوية وبهائم وثمار وغيرها.فإن كان أيُّ علم أو معرفة أو مستحدثات، فهي تُستخدم لهدف الكنيسة الأعلى وهو انتشار الملكوت على الأرض، ومعرفة الابن الوحيد الذي أحبها وأسلم نفسه لأجلها، والامتلاء من الروح القدس الذي يطهّر ويصلي ويشفع في كل أعضائها.لا نريد أن نقلّل من شأن أي علم، ونقرّ أنه نافع ولكن لقليل، وننبه لخطورة الاكتفاء به. فالكنيسة ليست مؤسسة زمنية، ولا ترتكز على العلوم البشرية، ولا تكرز ولا تخبر إلّا بفضائل مَنْ دعاها من الظلمة إلى نوره العجيب. فهي تعلن ملكوت ابن محبته، وتحدّث ببرّ عريسها، وتنادي مع حزقيال النبي: «اجتَمِعوا، وتَعالَوْا، احتَشِدوا مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، إلَى ذَبيحَتي الّتي أنا ذابِحُها لكُمْ» (حزقيال39: 17). لذلك علينا أن نستخدم كل علم بقيادة الروح القدس الفاعل فينا، ليوجّه كل معرفة لمجد المسيح وكنيسته... القمص أنطونيوس فهمى - كنيسة القديس جوارجيوس والأنبا أنطونيوس - محرم بك
المزيد
18 نوفمبر 2021

شخصيات الكتاب المقدس دانيال

دانيال " يا دانيال، أيها الرجل المحبوب "" دا10: 11 " مقدمة كانت حياة دانيال، من أولها إلى آخرها، حياة حافلة بالأزمات، ولقد شاء له اللّه أن يؤخذ وهو غض صغير، ربما لم يكن يتجاوز السابعة عشرة من عمره، إلى السبى منذ السنة الأولى ليقضى فى بابل عمره بأكمله هناك، أو مدة سبعين عاماً أو تزيد، حتى أيام كورش وداريوس المادى مما جعل البعض يعتقد أنه بلغ التسعين من العمر، أو حول ذلك، حين انتهت حياته ورسالته على الأرض،... ولم تكن حياة السبى هينة يسيرة سهلة، بل هى الحياة التى امتلأت بالأزمات بكل ألوانها وصنوفها، من إغراء أو تهديد، ما بين أطايب الملك وجب الأسود،... وكان من الواضح أن قصد اللّه من دانيال أو من زملائه الثلاثة الفتية، أن يكونوا صورة ومثالا للمسبيين، وكيف يعيش الإنسان فى أسوأ الظروف، وأدق الأوقات، مرتفعاً منتصراً على التجارب والمآسى، التى يمكن أن تعترض طريقه، دون أن تفتنه حدائق بابل المعلقة، أو يفزعه أتونها المتقد سبعة أضعاف، أو زئير أسودها فى جب الأسود.ولعله من المناسب أن نشير ههنا إلى أن دانيال من الشخصيات القليلة الذى - رغم التجارب التى أحاطت به - لم يدون عنه كتاب اللّه خطأ معينا أو سقطة ظاهرة، فهو من هذا القبيل أشبه بيوسف، ويشوع، وصموئيل، ممن لا تعرف عنهم إنحرافاً فى جانب من جوانب الحياة، وليس معنى ذلك أنهم كانوا معصومين، فالمعصوم هو الواحد الأحد الذى قال: « من منكم يبكتنى على خطية » " يو 8: 46 " غير أن الأسماء المشار إليها، شاء لها اللّه أن تكون أنوار عصرها، بل أن تعيش فى التاريخ نماذج رائعة تهدى العابرين السبيل، والمنعطفين هنا أو هناك فى مساء الحياة المتعبة القاسية الشديدة المنكوبة!!.. ولعلنا نرى دانيال بعد ذلك فيما يلى:- دانيال ومن هو:- الاسم « دانيال » يعنى « اللّه قاضى » ولقد عاش هذا الرجل طوال حياته على الأرض، وهو يتطلع إلى اللّه القاضى العادل، وهو يتصرف فى الحياة دون أن يبالى بالناس، لأنه يعلم أن قضيته ليست فى يد بشر، بل فى يد اللّه الذى يحكم بعدل،... كان من أعلى الطبقات فى بلاده ومن النسل الملكى كما هو واضح فى سفره، ونحن لا نعلم شيئاً عن أبيه وأمه، لكننا يمكن أن نتصور أنه تربى فى سنواته الأولى تحت يدى معلمين عظيمين، البيت، والألم،.. ولا يمكن أن أصدق أن شاباً يتصرف هكذا، فى أرض غريبة، بعيداً عن كل رقابة أو ملاحظة من أحد، دون أن تكون نشأته، وبيته، وتربيته مرتبطة ارتباطاً عميقاً باللّه،.. إنه أشبه الكل بموسى، عندما حصنه البيت، قبل أن يدخل داخل أسوار قصر فرعون، وقبل أن يحاط كصبى بأقوى عوامل الإغراء التى يمكن أن يتعرض لها صبى فى الحياة،... وربما كانت أم دانيال أشبه بيوكابد التى جعلت ابنها يعيش، فى كل شئ داخل أسوار القصر، ولكن قلبه كان على الدوام فى مكان آخر، وبصورة أخرى!!.. كان البيت هو المعلم الأول لموسى، ولدانيال، وكان الألم هو أيضاً المعلم الثانى - والألم فى العادة يهبط بالإنسان إلى القاع أو يرفعه إلى مصاف الأبطال، وقد صنع من دانيال بطلا عظيماً، فأنت ترى نفسك فى العادة وأنت تقرأ قصته، أنك أمام إنسان ممتاز غير عادى، عاش منكوباً فى وطنه وشعبه، وعاش منكوباً فى وسط التجارب المتعددة التى لاحقت حياته، ولكنه كان أشبه بالمعدن النفيس يزداد بالاحتكاك جمالا ولمعاناً،... كان جميل الوجه حسن المنظر، وربما كان كموسى أو يوسف فى فتنة المظهر، إذ أنه والثلاثة فتية اختيروا ليدخلوا الأكاديمية العلمية التى أنشأها نبوخذ ناصر، وليدرسوا فيها ثلاث سنوات، وكان من الشروط الأساسية أن يجتازوا ما يطلق عليه فى وقتنا الحاضر « كشف الهيئة » « من الشرفاء فتيانا لا عيب فيهم حسان المنظر حاذقين فى كل حكمة وعارفين معرفة وذوى فهم بالعلم، والذين فيهم قوة على الوقوف فى قصر الملك فيعلموهم كتابة الكلدانيين ولسانهم» " دا 1: 3 و4 " وكان القصد من هذه الأكاديمية جذب خلاصة الطبقات القائدة من الشعوب المغلوبة، وكلدنتهم إذا صح التعبير، وتغيير منهج حياتهم، إلى الدرجة التى ينسون معها أسماءهم القديمة، ويعطونهم أسماء كلدانية، حتى أن دانيال أعطوه اسم « بلطشاصر » أو « أثيربيل » أو المفضل من بيل.. وكان الهدف، كما هو واضح، زحزحتهم عن قومياتهم الأولى، وإدماجهم فى القومية الكلدانية مع إغراقهم بالإمتيازات والإغراءات، حتى يصلوا إلى نسيان أصولهم الأولى!! غير أن دانيال مع ذلك، لم يكن جميل الوجه فحسب، بل كان يملك الجمال المثلث على نحو فائق ممتاز، إذ كان جميل الوجه، والعقل، والإرادة. له، إلى جمال المظهر الخارجى، الذكاء الحاد الأريب، مع إرادة قدت من فولاذ، تعرف أن تقف إلى جوار اللّه والحق والحياة السليمة دون أدنى تردد أو شبهة أو خوف!! كانت شجاعة دانيال خارقة للعادة، تلك الشجاعة التى لازمته طوال حياته، والنابعة من مبادئه وتقاليده، وأن أعظم شجاعة فى الحياة، أن يكون الإنسان نفسه كما يعتقد ويريد، لا أن يكون ممسوخاً فى وسط الآخرين، يحاكيهم ويشاكلهم، ويسير على دربهم فى الصواب والخطأ على حد سواء، فإذا خلا إلى نفسه أنكر ما فعل أو برر قصته بأن ضغط الظروف أكرهه على ذلك،... كان دانيال شجاعاً فى السابعة عشرة من عمره وكان شجاعاً فى التسعين من العمر، كان شجاعاً أمام الإغراء، وكان شجاعاً أمام التهديد والوعيد،... كان شجاعاً وهو يرفض مائدة الملك، وكان شجاعاً وهو يواجه عطايا الملك، أو جب الأسود،... لم يتذبذب قط فى شجاعته أو يتراجع عنها، أو يغطيها بما يقال إنه الحكمة أو ما أشبه من تعليلات الناس!!... كان شجاعاً عندما وضعت أمامه أطايب الملك، وهو صغير فى وسط مئات الشباب، ممن يحلمون بمجد العالم، وممن يسرعون إلى محاكاة بعضهم البعض، أو ممن يستطيعون أن يعتذروا أمام أنفسهم، بأنهم مكرهون، ولا حرية لهم فى القول أو الاختيار كما يفعل آلاف الشباب على وجه الأوض! وكان شجاعاً فى مواجهة بيلشاصر الملك، وهو ممتلئ من الغضب والسخط المقدس، عندما ادخل إليه فى حفله الذى صنعه لقواده وعظمائه، وكان الحفل ماجناً معربداً، وقد صنعه - على الأرجح - لسببين، يقصد من ورائهما تقوية روح قواده وجنوده المعنوية. إذ أن عاصمته كانت فى ذلك الليلة محاصرة بقوات مادى وفارس، وكان لابد لذلك أن يفعل شيئاً فى مواجهة الحصار فجمع العظماء والقادة إلى حفل كان فى واقع الأمر حفلاً دينياً يطلب فيه معونة الآلهة لشد أزره إزاء الجيوش المهاجمة، وقد أراد أن يسترض آلهته هذه بأن يجعلها فوق جميع الآلهة والأديان. وفى الوقت نفسه أراد أن يثبت شجاعته، ففعل الشئ الذى لم يجرؤ نبوخذ ناصر على فعله، إذ تحدى إله إسرائيل بأن أمر بإحضار الآنية المقدسة التى أحضرها نبوخذ ناصر من الهيكل واستعملها فى الشرب واللهو والمجون.... وعندما ظهرت له اليد التى تكتب على مكلس الحائط إزاء النبراس، وفسر دانيال له الكتابة،... وأراد الملك مكافأته، كان جواب دانيال: « لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيرى » " دا 5: 17 " وهو جواب خشن خال من الزلفى والتملق، وأكثر من ذلك وبخ الملك توبيخاً صارخاً إذ ذكره بما حدث مع نبوخذ ناصر، وكيف أنه لما تكبر ولم يتعظ، وارتفع قلبه وتعالى أمام اللّه، أسقطه القدير على الصورة المفزعة، إذ جعله حيواناً مثل أدنى الحيوانات!!.. ولم تتذبذب شجاعة دانيال قط، وهو فى التسعين من عمره أو ما يقرب من ذلك وهو يواجه جب الأسود، ويأبى أن يقفل كواه لمدة شهر، ليصلى فى سره، وقد كانت صلاته علنية أمام الجميه،... كان الرجل من أشجع الناس الذين ظهروا على وجه الأرض، فى عصره وعلى مر التاريخ أيضاً!!.لم تكن هذه الشجاعة نوعاً من الإندفاع، أو الحماقة، أو التهور، أو التعصب، أو ما أشبه - بل كانت تستند إلى المبدأ الصحيح المرتبط باللّه،... كان دانيال يؤمن بأن المؤمن إنسان يعيش فى العالم، ولكنه ليس من العالم.... وهو إنسان يحيا مع الناس، ولكنه لا يعيش كما يعيش الناس،.. بل أنه لابد أن يحيا نوعاً من العزلة النبيلة التى لا تجرى مع تيار الأيام، واندفاع العالم،... فإذا كانت أطايب الملك امتيازاً فى نظر غيره من الشباب، فهى نجاسة عنده، لقد كانت هذه الأطايب فى العادة نوعاً من اللحوم المحرمة على اليهودى، أو التى كانت تقدم للآلهة الوثنية، ويؤخذ منها الطعام فى القصر الملكى، فليأكل غيره من الشباب منها ما طاب لهم، ولو أكل جميع الشباب، فإن هذا لا يغير من نجاستها وإثمها، والتى تجعله ينفصل عن الجميع بالعزلة النبيلة، وقد كان هذا الشاب عظيماً، لأنه لم يحاول أن يسكت ضميره، أليس له حرية الاختيار، وإذا كان رئيس الخصيان يخشى على رأسه فيما لو غير نظام أكلهم، فكم بالحرى يكون الأمر بالنسبة للشاب نفسه أو زملائه الفتية الثلاثة؟!!... لقد أدرك دانيال أن النجاسة لا يمكن أن تعطيها اسماً آخر، فهى نجاسة مهما يصورها الآخرون أو يعطونها من أسماء أو صور،.... وهو أهون عليه أن يموت نبيلاً مقدساً، من أن يعيش حيواناً منجساً،... وهو واثق تماماً من أن طعامه العادى أفضل وأجمل، وأنه يعطيه من القوة أو الصحة، مالا يمكن أن يجرها عند الآخرين!!.. وقد نجح دانيال منذ القديم فى هذا الامتحان!!.. والشجاعة عند دانيال لا يمكن أن يسكتها الجاه أيضاً، فالجاه الحقيقى من اللّه، وليس من ملك أو إنسان، فإذا كافأه الملك بيلشاصر بأن « « يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب فى عنقه وينادوا عليه أن يكون متسلطاً ثالثاً فى المملكة »... فإن جاه هذا الملك لن يأتى الليل قبل أن ينتهى ويذهب، بمصرعه هو فى الأرض، وهكذا الذين يبحثون عن جاه الملوك أو نفوذهم، وهم لا يعلمون أن هذا الجاه - طال أو قصر - لابد سيذهب مع الريح، إذ هو فى الحقيقة قبض الريح، فى قول سليمان المشهور: « باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح ». والشجاعة الصحيحة ألا يرضى الإنسان بالجاه المزيف حتى ولو تدثر بالأرجوان أو جمل وساماً أو قلادة ذهبية مهما يكن منظرها ومظهرها أمام الناس!! فإذا عجز الإغراء، سواء فى الأطايب أو فى المركز، عن إسقاط الرجل، فإن الامتحان القاسى يكون فى الجب مع الأسود، ويكون فى الشيخوخة أمام ضعف الجسد ووهنه،... وهنا تصل الشجاعة إلى ذروتها الحقيقية، وتحكم العزلة النبيلة الرجل،. كان ديموستينيس أخطب خطباء اليونان، وقد عجز الأعداء عن أن يسكتوا فصاحته بأية صورة من الصور، فما كان منهم إلا أن رشوه، وإذا به يتلعثم، وعندما سأل البعض عن سر لعثمته هذه،... قال آخرون: لقد بح صوته من الذهب،... أما صوت دانيال فقد ارتفع فوق صوت الذهب، وزئير الأسود،... لقد وقف دانيال ضد الفساد والرشوة: « ثم أن الوزراء والمرازبة كانوا يطلبون علة يجدونها على دانيال من جهة المملكة، فلم يقدروا أن يجدوا علة ولا ذنباً لأنه كان أميناً ولم يوجد فيه خطأ ولا ذنب، فقال هؤلاء الرجال لا نجد على دانيال هذا علة ألا أن نجدها من جهة شريعة إلهه » " دا 6: 4 و5 " كان هؤلاء الرجال يرفعون ملوكهم إلى درجة العبادة، كما فعلت روما فيما بعد، إذ كان الاعتقاد أن الآلهة تسكن الملوك، ومن ثم فهم جديرون بالعبادة، ومن لا يعبدهم فإنما يحتقرهم ويحتقر الآلهة التى يمثلونها، وكان هذا هو الشرك الذى نصب بذكاء ودهاء لداريوس الملك، وسقط فيه، وهو لا يعلم،... ولكن دانيال وإن كانت علاقته بالملك قوية وكريمة، إلا أنها تقف عند حد لا يمكن أن تتجاوزه، فهو يعطى لداريوس ما هو لداريوس، ويعطى للّه ما هو للّه،.. وهو يعلم طوال حياة السبى ما بين السابعة عشرة، والتسعين من العمر، أن اللّه جعله بين المسبين قوة ومثالاً،... وهو لا يمكن أن ينحرف قيد أنمله عن هذه الحقيقة كانت عادته الدائمة التى لا يمكن أن يقلع عنها هى الصلاة ثلاث مرات يومياً والكوى مفتوحة تجاه أورشليم حيث هناك قلبه وعقيدته ودينه وإيمانه، وهو لا يستطيع أن يغلق النافذة، وقد جعله اللّه شاهداً، ولا مانع عنده من أن يكون شهيداً، وخير له أن يموت دون أن يجدوا فيه علة إلا من جهة شريعة إلهه، من أن يعيش وقد سقطت شجاعته ومثاليته أمام الكلدانيين والمسبيين على حد سواء!!... لقد عاش الرجل فى جاهه منعزلا عن أسلوب الأخرين من القادة،... وكان أميناً ونبيلاً فى هذه العزلة أيضاً!!... إن قصته على الدوام تذكرنا بقول الرسول: « لا تشاكلوا هذا الدهر بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم » " رو 12: 2 " « لأنه أية خلطة للبر والإثم. وأية شركة للنور مع الظلمة وأى اتفاق للمسيح مع بليعال. وأى نصيب للمؤمن مع غير المؤمن. وأية موافقة لهيكل اللّه مع الأوثان. فإنكم أنتم هيكل اللّّه الحى كما قال اللّه إنى سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً. لذلك اخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب ولا تمسوا نجساً فأقبلكم، وأكون لكم أبا وأنتم تكونون لى بنين وبنات يقول الرب القادر على كل شئ» " 2 كو 6: 14 - 18 " على أن العزلة عند دانيال لم تكن نوعاً من التصوف، بمفهوم الزهد أو الامتناع عن الطعام، كما يفعل المتصوفون، لأن الزهد عند دانيال كان دائماً مصحوباً بغرض معين، فهو زاهد أو متصوف بالنسبة لكل ما ينجس النفس، حتى ولو سال له لعاب الآخرين،... ويعتقد « كلفن » أن دانيال عندما كان ينصرف من القصر الملكى أو يبعد عن الحفلات، كان يأكل ما يحلو له من طعام أو شراب، لأن الأكل فى ذاته لا يقدم ولا يؤخر، إلا بالقدر الذى يعطى للّه مجداً، أو يعثر الآخرين، أو يقودها إلى عبادة الجسد، والانصراف عن الروح التى هى أعلى واسمى من الجسد، بما لا يقدر أو يقاس،... وهو يمكن أن يتذلل فى وقت الأزمات والنكبات والضيق والحيرة والنوح، كما جاء فى الأصحاح العاشر من سفره: « فى تلك الأيام أنا دانيال كنت نائماً ثلاثة أسابيع أيام لم آكل طعاماً شهياً ولم يدخل فى فمى لحم ولا خمر ولم أدهن حتى تمت ثلاثة أسابيع أيام » " دا 10: 2 و3 " ومن المستفاد بمفهوم المقابلة، إنه كان يأكل ويشرب ويدهن فى الأوقات العادية، إلا أنه هنا كان نائماً وهو يبحث عن مصير شعبه والمستقبل، وكان ولا شك مشغولا بالصلاة إلى أن جاءته رؤيا السماء!! ومن اللازم أن نشير أيضاً إلى أن الرجل كان مشهوراً بالحكمة الفائقة، التى جعلت حزقيال فى مطلع الأصحاح الثامن والعشرين من سفره، وهو يتنبأ عن رئيس صور الذى ظن أنه أوتى من الحكمة مرتبة الآلهة، وإذا باللّه يوبخه: « ها أنت أحكم من دانيال، سر مالا يخفى عليك » "حز 28: 3 " ودانيال دائماً كان يواجه المعضلات والأسرار بذهن حكيم بارع فى الرأى والمشورة والحكمة، وقد رآه نبوخذ ناصر بالمقارنة بالحكماء والمجوس وعلماء الإمبراطورية عشرة أضعاف فى الحكمة والفهم ولا شبهة فى أن هذه الحكمة كانت فى أسمى صورها هى ما يطلق عليه الشفافية، أو الإلهام، أو الحكمة النازلة من فوق،... ومن المعتقد أنه فى الأكاديمية العلمية فى مطلع الشباب، كان وأخوته الفتيان الثلاثة من المنكبين على الدرس، المجتهدين فى التحصيل، الباذلين أقصى جهد فى المعرفة والعلم،... لكن دانيال كان يعلم علم اليقين أن اللّه يلهم الإنسان، ويرشده وينصحه بكل ما يتجاوز حدود المعرفة والإدراك البشرين وذلك لأن « سر الرب لخائفيه وعهده لتعليمهم »، " مز 25: 14 "، ومن واجبنا ونحن نذكر قصة الرجل، أن نذكر شبابنا المقبلين عن المعرفة والآخذين بأسباب العلم، أن اللّه لا يسر كثيراً بمجرد الدراسة أو التعلم، بل أكثر من ذلك بالتفوق فيها!!.. دانيال وكواه المفتوحة :- على أنك لا تستطيع أن تعرف هذه الشخصية على حقيقتها، إلا إذا صعدت إلى علية الرجل وأدركت عادته العظيمة اليومية التى لا تتغير: « فلما علم دانيال بإمضاء الكتابة ذهب إلى بيته وكواه مفتوحة فى عليته نحو أورشليم فجثا على ركبتيه ثلاث مرات فى اليوم وصلى وحمد قدام إلهه كما كان يفعل قبل ذلك » " دا 6: 10 " ونحن نرى الرجل، فى ولائه وإيمانه، وتعبده،... أما الولاء، فمن الواضح أنه كان مركزاً فى أورشليم، وهو لا يستطيع أن يصبح أو يمسى دون أن يتطلع إلى مكان أحلامه، وأشواقه، إلى المدينة التى فارقها منذ سبعين عاماً، ولكنها لم تفارق قلبه وإحساسه، ومشاعره، هى حبيبته العظمى، التى تملك عليه كل المشاعر والحنين والعواطف، منذ تركها صبياً يافعاً طوال سنى السبى القاسية، هى عصارة الأمل والألم، والحزن والحب، والشوق والحياة: « إن نسيتك يا أورشليم تنسى يمينى... ليلتصق لسانى بحنكى إن لم أذكرك إن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحى ».. " مز 137: 5 و6 " ولعله غنى هذا المزمور آلاف المرات وهو يمد خياله إلى المكان البعيد البعيد، من هناك من بابل، من كواه المفتوحة كل يوم، نحو أورشليم،.. وما هى أورشليم بالنسبة لى ولك؟.. هى كنيسة اللّه العلى، عمود الحق وقاعدته، عروس المسيح، وحبيبتنا المفضلة على كل حب فى الأرض!!... فهل نحبها ونتطلع إليها، ونحلم بها، ونفكر فى مجدها، كما كان يفعل الرجل القديم تجاه مدينة أحلامه أورشليم!!؟.على أنه، وهو يفعل هذا، لم يكن ولاؤه مجرد حنين إلى تراب الوطن، أو اتجاه إلى مدينة تحولت أطلالاً وخرباً،... لقد كانت المدينة رمز إيمانه باللّه، وحبه لسيده العلى،... وما حبه لها، إلا حباً للّه نفسه، وإتجاهاً إليه، والإحساس بمعنى الوجود مرتبطاً به،... فإذا كان لغيره أن يتصور القبة الزرقاء فوقه ولا تزيد عن الصحن المقلوب، فإن دانيال كان يراها - على العكس - تحدثه عن جلال اللّه ومجده وعظمته وجوده: « السموات تحدث بمجد اللّه. والفلك يخبر بعمل يديه » " حز 19: 1 " ومن هنا نرى الرجل فى العادة المتأصلة فيه والتى أضحت كيانه اليومى، يظهر به واضحاً للجميع فى العبادة ثلاث مرات كل يوم!!... وهل لنا أن نقف هنا، أمام صورة من أجمل الصور وأعظمها لهذا المتعبد وهو يبدو أمامنا فى صورة المتعبد الوديع الذى يركع مهما عظم شأنه فى حضرة اللّه،... عندما سئل الأمبراطور قسطنطين على أى وضع يمكن أن يصنعوا تمثاله، أجاب: إصنعوا تمثالى وأنا راكع على ركبتى!!... فى حفل تتويج الملكة فيكتوريا قيل لها أن تظل جالسة على عرشها، ولو وقف جميع الحاضرين، بينما ترنم الجماهير معزوفة المسيا لهانول، فلما بدأوا الترنيم وقف النواب والأشراف والإكليروس بروؤس مكشوفة، وبقيت الملكة الشابة جالسة على عرش القوة والسلطان، تمييزاً لها عن الشعب كله، ولكن لما تقدم المرنمون إلى الدور الثانى، ظهر التأثر على وجه الملكة، ولما وصلوا إلى قولهم: « وملكه من الآن وإلى الأبد ».. ارتعشت وعندما هتفت الأصوات محمولة على أجنحة الرياح: « ملك الملوك ورب الأرباب » أنتصبت الملكة واقفة على قدميها ورفعت التاج من فوق رأسها لأنها شعرت أنها فى حضرة اللّه الذى ملكه إلى أبد الآبدين، وهو يسود على لكل!! ولعل البعض يذكر تلك الأسطورة القديمة التى تتحدث عن الملك الذى شغف بالبحث عن صليب المسيح، والذى قيل إنه خرج ليبحث عنه، وحصل عليه بعد حروب طويلة،... وعاد فى موكبه الظافر إلى مدينة أورشليم، ليجد فى الحلم الأبواب مغلقة أمامه..، وتقول الأسطورة إن ملاكاً ظهر له وقال: ها أنت أحضرت الصليب فى موكب حافل، ولكن صاحبه لم يحمله وهو خارج من المدينة هكذا،... لقد خرج به يحمله على ظهره العارى!!.. وعند ئذاك خلع الملك ثيابه وحمل الصليب، والقصة تقول إن المدينة فتحت أبوابها فى الحال أمامه!!.. كان العامل الفقير يركع فى حضرة اللّه،... وأبصر إلى جواره من يركع، فتزحزح كثيراً، إذا كان الراكع إلى جواره دوق ولنجتون الذى هزم نابليون فى معركة ووترلو... على أن الدوق قربه إليه وهو يقول: نحن أمام اللّه سواء!! وكان دانيال المتعبد الشاكر، ومن العجيب أن الرجل فى صلاته كان يصلى ويحمد، وهو أمام خطر جسيم،... لقد كانت له الشركة العميقة مع اللّه، التى علمته الحمد والشكر حتى ولو كانت عواصف الحياة القاسية تحيط به، والزوابع تلفه من كل جانب، لقد أدرك أمانة اللّه فى كل سنوات سبيه وأسره، وهو لن يكون جحوداً تجاه إله لم يتخل عنه قط طوال هذه السنين وكان المتعبد الظاهر الذى لم يخجل قط من المجاهرة بإيمانه أمام الكل، لقد عرفه خصومه بأنه الرجل الذى لا علة فيه إلا من جهة شريعة إلهه،... وعرفه داريوس الملك بدانيال: « ياعبد اللّه الحى هل إلهك الذى تعبده دائماً قدر على أن ينجيك من الأسود » " دا 6: 20 " دعا أحد ملوك الشرق الأقصى قائداً بحرياً من بلاد الغرب ليتناول طعام الغداء معه، وإذ جلسا على المائدة انحنى القائد المسيحى وشكر اللّه على الطعام، فاندهش الملك وقال: ولكن هذا لا يعمله إلا المرسلون!؟؟ فأجاب القائد: وأنا أيضاً مرسل!!؟.. لم يحاول دانيال قط أن يغير من عادته، ويغلق ولو لمدة ثلاثين يوماً كواه المفتوحة!! وكان المتعبد الطاهر النظيف القلب واليدين،... لقد كان عفا أميناً فى عمله، لم يستطيع جميع الوزراء أو المرازبة أن ينسبوا إليه فساداً أو شراً، فى بلاد امتلأت بكل ألوان المفاسد والشرور،... لم يكن دانيال مزدوج الشخصية يحيا حياتين، أو يعيش أسلوبين، أو يتقمص شخصيتين، إنه لم يكن مثل رجل قال عنه أحد الشباب للواعظ المشهور هنرى دراموند: ياسيدى هل ترى الشخص الواقف هناك؟ فأجابه دراموند: نعم.. قال الشاب: إن هذا الشخص هو رئيس نادينا المشهور بالإلحاد... فذهل دراموند إذ كان الرجل أحد الشيوخ فى كنيسة من الكنائس، ومن الغريب أن يكون شيخاً فى الكنيسة وشيخاً فى الإلحاد!! وكان دانيال آخر الأمر، المتعبد المصلى... إذ كان يؤمن بالصلاة وفاعليتها، وهو يعلم أنه يستطيع أن يواجه كل أوضاع الحياة بالصلاة،... عندما قبض النازى على أسقف هانوفر، أخذوه إلى برلين، ووضعوه فى زنزانه فى أعلى السجن فى مركز الشرطة وهناك وعندما صب الحلفاء غاراتهم القاسية على برلين، كان النازيون يتركونه هناك بعد أن يغلقوا عليه الزنزانه، ويهرعون هم إلى المخابئ، فكان الرجل القديس يفتح الكوة ويصلى للّه، وقد أنقذته العناية، لأنه وضع رجاءه فى النافذة المفتوحة التى تطل نفسه منها على اللّه!!... وهكذا كان الرجل القديم دانيال رجل الصلاة!!. دانيال والجزء الإلهى :- عندما تحدث كرس موريسون، والذى كان رئيس أكاديمية العلوم بنيويورك، عن السبعة الأسباب العلمية التى تجعله يؤمن باللّه، كان السبب السادس فى نظريته هو التوازن بين القوة والمقاومة فى الحياة،... وأورد لذلك قصة « التين الشوكى » والذى زرع من سنوات فى استراليا بدافع الرغبة فى التحصين الوقائى من الأعاصير وما أشبه، ولما لم تكن الحشرات المعادية لهذا النوع من الأشجار معروفة فى تلك البلاد، فقد أخذ الشجر ينمو ويتكاثر من تلقاء ذاته بكيفية مذهلة عجيبة حتى أنه غطى مساحة من الأرض تقرب من مساحة إنجلترا طولا وعرضاً، وأفسد بذلك مساحات شاسعة من الحقول والمزارع، وإذ فشلت كل مقاومة فى الحد من نموه وتكاثره، لم يجد العلماء بدا من البحث عن الحشرات التى تعيش فقط على هذا الشجر، وأطلقوها عليه، وعندئذ توقفت الأشجار عن الانتشار والغزو، وبذلك أمكن القضاء على الخطر الداهم الناجم عنها،.. وأوضح كرس موريسون ما أسماه « التوازن والتعادل بين القوة والمقاومة فى الطبيعة » وهو مالا يمكن أن يصنعه سوى عقل مدبر عظيم!! هذه الظاهرة تبدو بوضوح من الجانب الروحى، فيمن يصنعهم اللّه من أبطال، يظهرون فى أحلك الأيام والليالى، مزودين بالقوة الإلهية العظمى، حتى أنهم يبدون كالنجوم اللامعة فى الليل البهيم، وكلما ازداد الظلام، كلما تلألأوا بالنور بالباهر يعكسونه على أجيالهم، وربما على أجيال أخرى عديدة لاحقة،... وهذه الظاهرة ليست صماء بالنسبة لمن يقرأون الكلمة الإلهية، إذ أن اللّه يعمل بنشاط أعظم وأكمل وأسمى، عندما ينشط عمل الشر والفساد والشيطان فى الأرض،... ووعصا موسى القديمة التى ابتلعت عصى العرافين، ما تزال تتكرر بهذا الأسلوب أو ذاك فى كل العصور والأجيال، وسيبقى الحق الإلهى أقوى وأفعل مهما استشرى الفساد والطغيان فى الأرض!!... وقد ظهر هذا فى قصة دانيال وصحبه بأكثر من مظهر ووجه،... فإذا ظهر الشر يريد أن ينجس الفتى بالأطايب، وإذا رفض الشاب أن يتنجس وقد وضع ذلك راسخاً فى قلبه، حتى ولو تعرض للموت، وإذا عجز رئيس الخصيان عن أن يجد حلا، وبدا خائفاً من الملك، إلا أن دانيال مع ذلك سيجد نعمة فى عينيه، وسيجد الحل مع رئيس السقاة الذى ولاه رئيس الخصيان على دانيال والفتية الثلاثة،... فهى النعمة الإلهية التى تلاحق المتضايق والبائس والمأزوم عندما يضع أمره بين يدى اللّه، والتى لا يستطاع تفسير ظاهرتها، عندما تبدو حناناً يصدر مرات متعددة عن أقسى الناس وأشرهم وأبعدهم عن الرقة واللطف والإحسان،... وأليس من الغريب أن عيسو وقد طوى نفسه على حقد مبيت لمدة عشرين عاماً، وجمع أربعمائه رجل حوله ليضرب أخاه يعقوب ضربة قاضية، يتحول فى لحظة واحدة، إلى الرجل الذى يعانق أخاه بقبلات الشوق والحنان والمحبة؟.. أليست هى النعمة التى لاحقت يوسف المضطهد فى الغربة والاستعباد والسجن بل والمجد أيضاً؟... وأليست هى النعمة التى لم تصاحب دانيال فى صدر الشباب، وأمام مائدة الملك فحسب، بل صاحبته الحياة كلها، والسبى كله فكانت له نعمة أمام الملوك المتعددين والمختلفى الميول والاتجاهات والمشارب؟!.. ولم يعطه اللّه النعمة فحسب، بل اعطاه الحكمة والمعرفة والشفافية والإعلان، مما تجاوز أبعد حدود الإدراك البشرى، وعلى وجه الخصوص عندما حلم نبوخذ ناصر حلمه، ولعله نسيه، وأراد من حكماء بابل على وجه غير معروف أو مألوف أن يقصوا عليه الحلم، ويخبروه بتفسيره، الأمر الذى لا يملكه بشر على الإطلاق، ولكنه أعطى لدانيال، ومن الواضح أن شهرة النبى بلغت الافاق كأحكم إنسان فى عصره، وعلى ما يقول حزقيال لا يخفى عليه سر!وعلى أن الأمر، كامل أكثر من ذلك، إذ كانت له النجاة من الأخطار المتراكمة المتلاحقة، فإذا ذكرناه على وجه المثال، مطلوباً للموت مثل سائر حكماء بابل فى مطلع أيامه دون أن تكون هناك قوة على الأرض تمنع موته أو البطش به، بعد أن صدر أمر نبوخذ ناصر الغريب والمستحيل على العقل البشرى،... وإذا ذكرناه فى آخر الأمر فى جب الأسود الجائعة، والملك لا يستطيع - وقد قضى بالأمر - أن يرجع عن شريعة مادى وفارس التى لا تنسخ، ولكن اللّه هو المنقذ أولا وأخيراً ودائماً على وجه عجيب معجزى، يسمو على كل فهم أو قدرة بشرية!!.. ومع هذا كله، فإن الجزاء الإلهى يتسامى ويعلو فوق كل خيال أو تفكير، إذ أن الشاب الغريب المسبى يرتفع إلى أعلى مراكز المجد والقوة، عند الكلدانيين كما عند الفرس على حد سواء،... فهو يوسف آخر يخرج من السجن إلى المجد، وكما عاش يوسف رئيساً للوزراء مدة طالت إلى ثمانين عاماً متوالية،... عاش دانيال فى أعلى القمم طوال مدة السبى بأكمله، مما يشهد بالحقيقة الواضحة أن من يباركه اللّه لا يستطيع أحد أن يلعنه، وأن من يحرسه اللّه، لابد أن يخرجه سالماً من جب الأسود بعد أن يكم أفواهها، ولعله ذكر ما قاله إشعياء من قبل: « لا تخف لأنى معك. لا تتلفت لأنى إلهك. قد أيدتك وأعنتك وعضدتك بيمين برى. إنه سيخزى ويخجل جميع المغتاظين عليك. يكون كلا شئ مخاصموك ويبيدون. تفتش على منازعيك ولا تجدهم يكون محاربوك كلا شئ وكالعدم. لأنى أنا الرب إلهك الممسك بيمينك القائل لك لا تخف أنا أعينك » " إش41: 10 - 12 " « وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك، وأطعم ظالميك لحم أنفسهم ويسكرو ن بدمهم كما من سلاف فيعلم كل بشر أنى أنا الرب مخلصك وفاديك عزيز يعقوب ».. " إش 49: 25 و26 ". دانيال والفكر اللاهوتى فى سفره :- ليس من السهل الإفاضة فى تفسير الروئ التى جاءت فى السفر، واختلفت حولها الأفكار والنظريات، غير أننا نود أن نمر فى عجالة على ارتباط هذه الروئ بالمستقبل، إن الستة الأصحاحات الأولى فيه تاريخية، والستة الأخرى نبوية،... والسفر كله تاريخ يرتبط بالنبوة، وونبوات تمد جذورها فى التاريخ، وقد اعتقد البعض أن السفر كتب متأخراً بعد زمن طويل من دانيال، لأنه أورد حقائق تاريخية لاحقة لدانيال، كمثل حديثه عن التيس العافى ملك اليونان، أو الإسكندر ذى القرنين، وقد نسوا - أو تناسوا - أن النبوات ليست إلا إعلاناً عن مسرحية التاريخ الواضحة الرؤية أمام عين اللّه حتى آخر الأيام!!... وقد قال يوسيفوس المؤرخ اليهودى، إن الإسكندر كان غاضباً على اليهود،.. ولكنه عندما أحضروا نبوة دانيال، واروه حديث النبوة عنه، تحول فرحاً مبتهجاً بالنبوة، وغير معاملته لهم، وأحسنها إلى حد بعيد،... وليس فى وسعنا الآن أن نناقش هذه النبوات، التى اختلفت حولها الشروح والتفاسير، ولكنها من الواضح كانت حول الممالك الأربع العالمية التى سبقت المسيحية: البابلية، ومادى وفارس، واليونان، وروما بقرونها العشرة - حتى جاء المسيح، الحجر الذى قطع بغير يدين ليسحق هذه الممالك، ويقيم مملكة اللّه التى سترث الأرض وما عليها وتملأ كل مكان فيها، إذ يتحول الحجر إلى الجبل العظيم،... « فى أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السموات مملكة لن تنقرض أبداً وملكها لا يترك لشعب آخر وتسحق وتفنى كل هذه الممالك، وهى تثبت إلى الأبد » " دا 2: 44 "ومن الواضح أن النزاع الفكرى قد امتد وتشعب، إلى درجة أن بعضهم يصر على أن المملكة الرابعة ليست هى الرومان، بل هى اليونان،... وأن النزاع كله يقوم حول حقيقة المملكة الرابعة، وهل انتهت وانقرضت، أم أنها قامت فى صور أخرى صورها البعض فى البابوية، وغيرهم فى أديان أخرى، كما يقول ابن عزرا. ووقف آخرون ليناقشوا التفاصيل المتعددة المختلفة، غير أنه مهما كان من خلاف، فمن الواضح أنه مرت سبعة أسابيع سنين، وأربعمائة وتسعون سنة ما بين النبوة ومجئ المسيح وصلبه، وأن الدولة الرومانية كانت آخر دولة عالمية وثنية قبل مجئ المسيح،.. وكما يقول اسحق نيوتن: « إن الذين ينكرون نبوات دانيال، ينكرون المسيحية التى قامت وتأسست على مسيحها الذى تنبأ عنه دانيال بكل وضوح » وقال آخر: لقد حاول شرلمان وشارل الخامس ونابليون، إقامة الامبراطورية العالمية الخامسة عبثاً، وكل الحركات أو الموجات التى جاءت بعد ذلك، لا يمكن أن تغير من الحقيقة التى قالها السيد: « ابنى كنيستى وأبواب الجحيم لن تقوى عليها »... " مت 16: 18 "فإذا جئنا إلى آخر السفر، فنحن نقف أمام واحد من أقدم وألمع الأحاديث عن القيامة من الأموات،... ومع أن الأصحاح الحادى عشر كان يشير على الأغلب إلى انتيوخس أبيفانيس، والاضطهاد المرير الذى سيوقعه باليهود،... لكن اللّه لن يتركهم بين يديه، بل سيقف فى مواجهته ميخائيل الرئيس العظيم لينجى الشعب، كل من يوجد مكتوباً فى السفر، ومن المسلم به أن اليهودى الحقيقى كان يؤمن بسفر التذكرة أمام اللّه الذى تكتب فيه قصته وحياته وأعماله، وقد قال موسى: « والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحنى من كتابك الذى كتبت، فقال الرب لموسى من أخطأ إلى أمحوه من كتابى » " خر 32: 33 " وفى المزمور التاسع والستين والعدد الثامن والعشرين: ليمحوا من سفر الأحياء ومع الصديقين لا يكتبوا »... وقد كتب ملاخى يقول: « حينئذ كلم متقو الرب كل واحد قريبه والرب أصغى وسمع وكتب أمامه سفر تذكرة للذين اتقوا الرب وللمفكرين فى اسمه " ملا 3: 16 " وجاء فى سفر الرؤيا: « ثم رأيت عرشاً عظيما أبيض والجالس عليه الذى من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لها موضع، ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام اللّه وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة ودين الأموات مما هو مكتوب فى الأسفار بحسب أعمالهم. وسلم البحر الأموات الذين فيه وسلم الموت والهاوية الأموات الذين فيهما ودينوا كل واحد بحسب أعماله، وطرح الموت والهاوية فى بحيرة النار. هذا هو الموت الثانى. وكل من لم يوجد مكتوباً فى سفر الحياة طرح فى بحيرة النار " رؤ 20: 11 - 15 ".ومع أن الفكرة عن القيامة فى العهد القديم، لم تكن تلمع بذات الوضوح الذى جاء به « المسيح الذى أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل »، " 2 تى 1: 10 " إلا أن دانيال أعطى بحياته ونبوته لمعاناً رائعاً لها فى الأصحاح الأخير من سفره،... وهو لا يتحدث عن المجد الأبدى فحسب، بل أكثر من ذلك يتحدث عن العذاب الأبدى، وهو يعطى ذات الصورة التى أعطاها المسيح فى قصته الغنى ولعازر، وهو يتحدث بنفس الأسلوب الذى ذكر فيه السيد وهو يفرق بين الأخيار والأشرار: « فيمضى هؤلاء إلى عذاب أبدى والأبرار إلى حياة أبدية!!... " مت 25: 46 " ولعل من أجمل ما تسمعه الاذان البشرية، ما قاله اللّه لدانيال، وهو يتجه فى أيامه الأخيرة صوب الغروب: وكثيرون من الراقدين فى تراب الأرض يستيقظون هؤلاء إلى الحياة الأبدية، وهؤلاء إلى العار للازدراء الأبدى. والفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البر كالكواكب إلى أبد الدهور »... " دا 12: 2 و3 " أجل لقد عاش الرجل المحبوب حياة امتلأت بالتعب والألم والمشقة والضيق، والعظمة والانتصار إلى أن جاءه الصوت الأخير المبارك: « أما أنت فاذهب إلى النهاية فتستريح وتقوم لقرعتك فى نهاية الأيام »..!!.. " دا 12: 13 ".
المزيد
23 يوليو 2021

لا تدنو ضربة من مسكنك ج1

هذا هو الوعد الإلهي للساكن في سِتر العَلِيِّ، وفي ظلّ الإله القدير يبيت. فكيف يتجرّأ العدو أن يضرب الساكن في الحصن الإلهي والحضن الأبوي؟ هذا هو ميراث الذين يحيون في المسيح يسوع، الذي أعطى لنا أن نتّحد به ونحتمي فيه. لقد صِرنا «أَعْضَاءَ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ» (أف5: 30)، «وَبِظِلِّ جَنَاحَيْكَ أَحْتَمِي (نعتصم) إِلَى أَنْ تَعْبُرَ الْمَصَائِبُ (يعبر الاثم)» (مز57: 1) المُجرِّب لا يكُفُّ ولا يهدأ ولا ينام. ولكنّ واقع الأمر أنّ المسيح فضح خُطَطَهُ ودَحَرَهُ (دفعه بعنفٍ وطرده) وسحق قوّته وأرجعه خائبًا مذلولاً، بعد أن أكمل على جبل التجربة كلّ ما استطاع من تجارب. ولكن القدوس الذي بلا شرّ صار «مُجَرَّبًا فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا،(ولكن) بِلاَ خَطِيَّةٍ... يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ» (عب4: 15، 2: 18)أنا في المسيح غالب ومنتصر والعدو ذليل.. أنا في آدم الأول مغلوب وساقط وميّت. «فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، أمَّا فِي الْمَسِيحِ فيُحْيَا الْجَمِيعُ» (1كو15: 22)لا ولم يوجد إنسان نجَّى نفسه من تجارب العدو الشرير.. ولا ولم يوجد إنسان في تاريخ البشرية لم يُسقِطْه العدو. الخطية كائنة في الطبيعة القديمة، وهيهات أن يفلت منها الإنسان. الخطيّة في الطبيعة القديمة تسبي الإنسان سَبْيًا حتى لو كان من أعظم القديسين ناموس روح الحياة في المسيح يسوع حررنا من «نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ الْكَائِنِ فِي أَعْضَائِنا» (رو7: 23). إذن إن كنت أريد أن أغلب لابد أن أتّحد بالغالب. المسيح وحده «خَرَجَ غَالِبًا وَلِكَيْ يَغْلِبَ» (رؤ6: 2) لأنّه هو وحده الذي بلا خطية.الاتحاد بالمسيح نلناه بالمعمودية، ونناله بالتناول.. الثبات في المسيح قوامه الحبّ الذي أحبَّنا به. وحِفْظ وصايا يسوع هو برهان الحُبّ الوحيد «اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي» (يو14: 21).«وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِينٍ» (لو4: 13). لا يعرف أحد أعماق الشيطان ولا يتخيّل أحد قدراته وخبايا شرّه. ربنا يسوع المسيح وحده قاس أعماقه وقدراته المُخرِّبة المضادّة لكلّ ما هو خير أو صلاح.. أليس هو ضد الله، أي ضدّ الحقّ المطلق والحب المطلق. لذلك كان من خطّة خلاص الإنسان من براثن هذا العدو القَتَّال، أن يُجَرَّب المسيح، وأن يدخل إلي صميم التجارب، وينتصر عليه، وينزع سلاحه المتّكل عليه، ويُجرِّده من وهم النُّصرة الكاذبة. فالتجارب كانت فِعليّة واقعيّة بلا خيال. واستلزم الأمر في التدبير الإلهي مُدّة الأربعين يومًا التي قضاها المسيح صائمًا على جبل التجربة، بلا مأوى وبلا طعام أو شراب. فالعدو شرس قتَّال، والفِخاخ والتجارب لا حدود لها المسيح وهو حامل طبيعتنا فيه ومتّحدٌ بها اتحادًا كاملاً غير منقوص، غَلَبَ بها كلّ التجارب التي تأتي على طبيعتنا البشريّة؛ والتي لم يَنجُ منها إنسان، والتي عثر فيها كلّ إنسان، حتى أقدس الآباء والأنبياء. ولكن لماذا غلب المسيح؟ أليس هو القائل «لأَنَّ رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ» (يو14: 30). المسيح وحده غير خاطئ.. غير مضبوط بآلام الخطايا.. «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟» (يو8: 46) لم تكن التجارب أمرًا هيِّنًا، ولكنّها معارك ضارية، جازها المسيح لأجلنا، وسحق الشيطان وأهانه. ثم جاءت سنوات كرازة الإنجيل، أي البشارة المُفرِحة، أنّ العدو قد اِنكسر، وجاءت أزمنة الخلاص والنجاة من يد القاهر الغالب والقادر على كلّ شيء. لذلك كان المسيح يُخرج الشياطين.. «وَكَانَتْ تَصْرُخُ... فَانْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ» (لو4: 41).. هذا كان ثمرة جبل التجربة ثم ما صنعه يسوع لأجلنا أعطانا إيّاه، إذ «أعْطَانَا سُلْطَانًا لِندُوسُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ» (لو10: 19). وهكذا أُؤْتُمِنَتْ الكنيسة، واستودعها المسيح سرّ النصرة على الشيطان. وقال للرسل الأطهار: «أَخْرِجُوا شَيَاطِينَ... فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ يَارَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ» (مت10: 8، 17) فأجاب الرب وقال: «لاَ تَفْرَحُوا بِهذَا: أَنَّ الأَرْوَاحَ (الشياطين) تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ» (مت10: 20) فصار نصيبنا في السموات هو مصدر الفرح، حيث أعادنا الرب إلى حضن الآب، بعد أن كسر شوكة العدو الذي أغوى جنسنا. على أنّ كسرة الشيطان وهزيمته لا تعني أبدًا أنّه تخلّى عن مقاومته، أو سكت عن حروبه وضلالته، أو أصابه اليأس وكفَّ عن الغواية. بل على العكس، زاد في عدم رحمته ومقاومته.. وصار «كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ» (1بط5: 8). ولكن الرسول يوصينا قائلاً: «فَقَاوِمُوهُ، رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ». فهو مثل أسد ولكنّه مُصاب بجرح مميت. لذلك فهو فى هياج عالمًا أنّ له زمانًا يسيرًا. بل وأكثر من ذلك قال الرسول: «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يع4: 7)هكذا صارت لنا هذه النعمة والنصيب الصالح في المسيح يسوع: إنّنا بنعمته نُقاوم العدو فيهرب مخذولاً. وهذا ما حدث في حياة آبائنا القديسين الأبطال الذين «غَلَبُوهُ بِدَمِ الْخَرُوفِ وَبِكَلِمَةِ شَهَادَتِهِمْ» (رؤ12: 11)، وتقوّوا في الإيمان، وجاهدوا الجهاد الحسن، ودخلوا إلى الفرح منتصرين على هذا يتعيّن على الإنسان أن يتأكّد جدًّا من التصاقه بالربّ، وحياته فيه واتحاده به، الذي صار لنا بالمعمودية والمسحة وسرّ القربان، حتى إذا صار هذا الاتحاد حيًّا فَعَّالاً ضَمَنَ بالنعمة النُّصرة في جميع الحروب، والانفلات من جميع الفخاخ التي ينصبها العدو لينال بغيته من الإنسان ثمّة أمر آخر جدير بالاعتبار؛ أنّه كثيرًا ما يخدعنا العدو بسبب ضعف طبيعتنا، أو بسبب الإهمال، أو الكسل، أو التراخي، وتسويف العمر، فنجد أنفسنا وقد انطلت علينا حيله أو صرنا فريسة لفخاخه، أو ضرباته ذات اليمين في الافتخار والاتكال على الذات أو حب الظهور..الخ. أو الضربات الشمالية التي توقِعنا في الخطايا العمد، أو السهوات، من جهة ما هو ضدّ الروح، وضدّ وصايا المسيح، وضدّ قداسة طبيعتنا المخلوقة فينا بالنعمة. فنحن والحَال هكذا نحتاج إلى التوبة، التي هي تجديد الاتحاد، وتواصُل الثبات في المسيح، بغَسل الخطايا بدموع التوبة، وقبول روح التجديد، وقوّة القيامة من العثرة. وهكذا تصير أعمال التوبة كمعمودية متجدّدة. وهكذا يستعيد الإنسان ما فُقِد منه، ويتعافى في الروح، ويختبر ثانية فرح النصرة على العدو ومجد القيامة. فإن كان الشيطان لا ييأس في محاربتنا مهما تكرّرت مرّات خيبته، فكَم بالحري يكون الحال معنا إذا كُنّا ممسكين بالحياة الأبدية، ومتعلّقين باسم الخلاص؟ فمهما تكرّرت مرّات هفواتنا أو سقوطنا فلن نيأس، بل بالحريّ نتمسّك بمراحم الله الذي يُقيم الساقطين. ونثق أنّ النصرة بالنهاية ستكون للذي داس الموت وكسر شوكة الجحيم. (يُتّبَع) المتنيح القمّص لوقا سيداروس
المزيد
09 أبريل 2021

الجمعة الخامسة من الصوم الكبير: قصاص الإيمان

ارتباط فصول القراءات: قصاص الإيمان تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "قصاص الإيمان" أي الهلاك الذي يحل بمن لا يؤمنون، فالنبوة الأولى تتكلم عن قيود الله للمؤمنين كما أوصى الشعب الإسرائيلي قديمًا إذا ما دخلوا أرض الموعد أن يهدموا الأصنام، ويذبحوا في موضع خاص، ويمتنعوا عن أكل الدم، والثانية عن إثبات قوة الإيمان لهم كما أثبتها إيليا لأرملة صرفة صيدا بإقامة إبنها من الموت ؛ والثالثة عن تحذيرهم من الآلهة الغريبة وعبادتها التي يسميها الكتاب زنا كما أوصى الحكيم في سفر الأمثال بضرورة الابتعاد عن الزانية. أما تسمية عبادة الآلهة الغريبة زنا فورد في مواضع كثيرة من الكتاب منها وصية الله لبنى إسرائيل ألا يزوجوا أولادهم من بنات يعبدون آلهة غريبة حتى لا " يجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن " (خر 34: 16)، ووصيته لهم أيضا أن يقدموا ذبائحهم عند باب الخيمة ولا يذبحوها "للتيوس التي هم يزنون وراءها" (لا 17: 7)، وكذلك شكواه منهم حينما عبدوا الآلهة الغريبة أيام القضاة وفيها يقول " ولقضائهم لم يسمعوا بل زنوا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها" (قض 2: 17)؛ والنبوة الرابعة تتكلم عن مواعيده لهم كما وعدهم على لسان إشعياء بأن يكون معهم فلا يمسهم سوء ؛ والخامسة عن تحذيره لهم من البر الذاتي كما حنق اليهود على أيوب وأصدقائه لاعتقادهم في برهم الذاتي. ويعدهم المخلص في إنجيل باكر بملكوته إن حفظوا وصاياه كقوله لأحد الكتبة الذي أقر بأن أولى الوصايا هي محبة الله من كل القلب "لست بعيدًا عن ملكوت الله"، ويتوعدهم في إنجيل القداس بالهلاك إن لم يؤمنوا به كما توعد اليهود بقوله إنهم إن لم يؤمنوا به يموتون في خطيتهم. ويبين لهم الرسول في البولس أن الله يؤدبهم ليمنحهم ثمر البر للسلام؛ ويعزيهم بطرس الرسول في الكاثوليكون مناشدًا من يتألم منهم أن يستودع نفسه للخالق مستمرًا على مباشرة الخير ؛ ويوصى الإبركسيس الرعاة بوجوب افتقادهم دائمًا كما قرر بولس وبرنابا ضرورة ذلك. البولس من عبرانيين 12: 5 – 16 وقد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين يا ابني لا تحتقر تاديب الرب ولا تخر اذا وبخك لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل إبن يقبله إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين فاي إبن لا يؤدبه أبوه ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون ثم قد كان لنا أباء اجسادنا مؤدبين وكنا نهابهم افلا نخضع بالأولى جدًا لأبي الأرواح فنحيا لأن اولئك ادبونا أيامًا قليلة حسب استحسانهم واما هذا فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته ولكن كل تاديب في الحاضر لا يرى انه للفرح بل للحزن واما أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام لذلك قوموا الأيادي المسترخية والركب المخلع وإصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحري يشفى اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى احد الرب ملاحظين لئلا يخيب احد من نعمة الله لئلا يطلع اصل مرارة ويصنع انزعاجا فيتنجس به كثيرون لئلا يكون احد زانيًا او مستبيحًا كعيسو الذي لأجل اكلة واحدة باع بكوريته الجهاد لما كان "كهنوت المسيح" هو الموضوع الرئيسي لهذه الرسالة، حيث يقدم لنا الرسول السيد المسيح بكونه رئيس الكهنة الأعظم، جالسًا عن يمين الآب في السماء بكونها قدس الأقداس، يشفع فينا بدمه، ليدخل بنا إلى حضن أبيه، فقد ختم حديثه مؤكدًا أن هذه الشفاعة العجيبة لا توهب للمتكاسلين والمتراخين. لهذا بعد أن حدثنا عن الإيمان مقدمًا لنا أمثلة حية لرجال الإيمان، صار يحدثنا حديثًا مباشرًا عن التزامنا الحيّ، الذي بدونه لن ننعم بعمل السيد المسيح الكفاري. 1. الجهاد وسحابة الشهود "لِذَلِكَ نَحْنُ أَيْضًا إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هَذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ" [١].إذ يحيط بنا الضعف فيمثل ثقلًا على النفس، تهاجمنا الخطية من كل جانب، لهذا يليق بنا أن نجاهد بغير انقطاع متطلعين إلى سحابة الشهود المحيطة بنا فنتمثل بهم في شهادتهم للحق. هذه السحابة هي "لنا" ليس فقط كمثالٍ نقتدي به لكنها "لنا" تسندنا بالصلاة لحسابنا.يشبه الرسول القديسين بالسحابة لأنها مرتفعة إلى فوق، تتحول إلى مطرٍ لتروي الأرض. هكذا المؤمن الحقيقي يحيا في السماويات لكنه لا يتجاهل النفوس الضعيفة الملتصقة بالأرض والتي لها طبيعة التراب، إنما يصلي من أجلها لكي يستخدمه الله كمطر يروي الأرض بالبركات العلوية، فتأتي بثمر روحي كثير.حينما يتحدث السيد المسيح عن مجيئه الأخير يؤكد أنه سيأتي على السحاب، وكأنه يأتي الرب جالسًا في قديسيه، السحاب الروحي المحيط به والحامل إياه. لنحيا كسحاب يطلب السماويات، دون تجاهل للأرض فنحمل ربنا يسوع فينا ونعلنه من يومٍ إلى يوم حتى يتجلى فينا بالكمال يوم مجيئه الأخير!لكي تكون لنا شركة مع "السحابة من الشهود" التي لم يستطع الرسول أن يحدد قياسها، قائلًا: "مقدار هذه"، ولكي نصير نحن أنفسنا جزءًا لا يتجزأ من هذه السحابة الإلهية يلزمنا أن "ِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا"، الأمور التي تفسد طبيعتنا وتحرمنا من التمتع بالخلقة الجديدة التي صارت لنا في المعمودية. ففي سفر إشعياء يتحدث النبي عن السيد المسيح القادم من مصر على سحابة خفيفة وسريعة (١٩: ١ - الترجمة السبعينية)، هذه التي تشير إلى السيدة العذراء عند هروبها إلى مصر حاملة السيد المسيح في حضنها، كما يقول القديس كيرلس الكبير، وفي نفس الوقت تشير إلى كل نفسٍ نقية وورعة تحمل يسوعها في داخلها وتسير به كسحابة سريعة خفيفة، لا يهدم ثقل الخطية طبيعتها ويعوق مسيرتها. 2. الجهاد والتأمل في آلام المسيح "لْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ. فَتَفَكَّرُوا فِي الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هَذِهِ، لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ" [١-٣].إن كانت شهادة القديسين هي عون لنا في جهادنا، نمتثل بهم وننتفع بصلواتهم، مقاومين كمن في حلبة صراع لنلقي عنا كل ثقل أرضي وخطية محيطة بنا لنرتفع مع السحابة الإلهية إلى فوق، ويكون لنا شرف حمل الرب في داخلنا. فإن آلام السيد المسيح من أجلنا حتى الموت موت الصليب هي ينبوع نعم إلهية تسندنا في هذا الجهاد؛ دعا الرسول السيد المسيح "رئيس الإيمان ومكمله"، فهو قائد المؤمنين في طريق الكمال الوعر، يدخل بهم إلى نفسه، لكي يعبر بهم من مجدٍ إلى مجد، فينعمون بالكمال أمام الآب خلال إتحادهم به.فآلام الصليب لا تُحتمل، وخزيه مرّ، لكنه في عيني السيد المسيح هو موضوع سرور وفرح، إذ يراه الطريق الذي به يحملنا إلى قيامته، ليجلسنا معه وفيه عن يمين العرش الإلهي. بالمسيح يسوع ربنا نفرح بالألم -بالرغم من مرارته القاسية- إذ نرى طريق الأقداس مفتوحًا أمامنا. احتمل السيد آلامه من أجلنا نحن الخطاة وليس من أجل نفسه، فكم بالحري يليق بنا أن نقبلها من أجل نفوسنا، خاصة وأننا نتقبلها في المسيح المتألم! 3. الجهاد حتى النهاية "لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّةِ" [٤]. لم يقدم لنا الرسول هذه الوصية الخاصة بالجهاد الروحي حتى النهاية إلاَّ بعد أن قدم لنا أمثلة عملية وحية لمؤمنين مجاهدين من آباء بطاركة وأنبياء وقضاه وملوك، وأوضح لنا إمكانية الجهاد، إذ نحن محاطون بسحابة الشهود العاملين معنا، وفوق الكل أوضح عمل السيد المسيح المصلوب في حياتنا. لقد قبل الآلام بسرور مستهينًا بخزي الصليب، الأمر الذي يجعل جهادنا الروحي حتى الموت مقبولًا ومفرحًا. 4. قبول التأديب الإلهي مادمنا أولاد الله، فإن الله يسمح لنا بالتجارب والضيقات أثناء الجهاد على الأرض، لا للانتقام ولا للدينونة وإنما لمساندتنا. فهو يعيننا لا بلطفه بنا فحسب خلال الترفق، وإنما أيضًا بتأديبنا لأجل نفعنا الروحي. فالضيقة بالنسبة للمؤمن الحقيقي المجاهد قانونيًا هي علامة حية لاهتمام الله به من أجل بنيانه."وَقَدْ نَسِيتُمُ الْوَعْظَ الَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ: يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُزْ إِذَا وَبَّخَكَ. لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ" [٤-٦].يقارن الرسول بين التأديب الذي نخضع له من آبائنا في الجسد والتأديب الذي يقع علينا من أبينا السماوي موضحًا النقاط التالية: أولًا: أن التأديب يُعطي للآباء الجسديين مهابتهم، فالطفل يهاب والده بكونه المُرَبِّي الحازم؛ "ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدًّا لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟" [٩]. هنا يؤكد الرسول عنصرًا هامًا وهو "المخافة الأبوية" فإننا وإن كنا أبناء الله، بذل الله أبونا ابنه الوحيد فدية عنا، وارتفع الابن عن يمينه ليشفع فينا، هذا يبعث فينا الدالة القوية لدى الله، فإن التأديب يهب الابن مخافة نحو أبيه تمتزج بالدالة، حتى لا تتحول الدالة إلى استهتار. لكن شتان بين المخافة التي تنطلق في قلب الابن والمخافة الممتزجة بالرعب في قلب الأجير أو العبد. الابن يخاف أباه لئلا يجرح مشاعره ويسيء إلى أبوته، أما الأجير فيخاف لئلا يُحرم من الأجرة، والعبد يخاف من العقاب. ثانيًا: آباؤنا الجسديون يؤدبوننا أيامًا قليلة حسب استحسانهم [١٠]، مشتاقين أن يروننا ناجحين في هذا الزمان الحاضر، نحقق أمنياتهم الزمنية فينا، أما الله فيؤدب لهدف أعظم: لأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته. هذه هي غاية تأديبه لنا، إذ يود أن يرانا شركاء في حياته المجيدة، نحمل سماته فينا، نتشبه به. هذه هي غاية الله من الإنسان، أن يراه كابن يحمل صورة أبيه. ثالثًا: " كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ" [١١]. فالابن يئن تحت ألم التأديب، لكن متى بلغ النضوج أدرك أن التأديب هو سرّ نجاحه وبهجة قلبه الأكيدة. هكذا تأديب الله لنا يقدم لنا في البداية نوعًا من الحزن، لكنه في نفس الوقت يهب ثمر برّ السلام. به ندخل إلى برّ المسيح المجاني فيمتلئ قلبنا سلامًا فائقًا. 5- مساندة الآخرين أحد العناصر الهامة في الجهاد الروحي هو مساندة الأعضاء بعضها لبعض، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فالحياة مع الله وإن كانت تمثل علاقة شخصية خفية بين الله والمؤمن لكن ليس في فردية منعزلة، إنما هي حياة شركة بين الله وكنيسته الواحدة. كل عضو يسند أخاه في الرب، لكي يتشدد الكل معًا كعروسٍ واحدة. يقول الرسول: "لِذَلِكَ قَّوِمُوا الأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ وَالرُّكَبَ الْمُخَلَّعَةَ" [١٢]. ويعلق علي ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم قائلًا: [ليس شيء يجعل البشر ينهزمون سريعًا في التجارب وينهارون مثل العزلة، فإن العدو لا يقلق في سبيهم وأسرهم كفرادى.] الآخرون بالنسبة لك كما يشبههم الرسول هم الأيدي والركب، فإنك لا تستطيع أن تقاوم العدو الشرير إبليس إن كانت الأيدي مسترخية والركب مخلعة، فكل مساندة من جانبك لأخيك إنما هي مساندة لك أنت شخصيًا لأنه يمثل يديك وركبك! لهذا لا عجب إن ضعف الرسول بولس مع كل ضعيف، والتهب قلبه محترقًا مع عثرة كل إنسان، ويفرح ويتهلل مع توبة الغير!تقويم الأيادي المسترخية والركب المخلعة لا يكون بمساندة الآخرين بالكلمات النظرية وإنما بالحياة العملية الداخلية والسلوك الروحي الحيّ، إذ يكمل الرسول قائلًا: "اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ. مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ" [١٤-١٥].هنا يركز الرسول على سمتين هامتين في الجهاد، تسندان النفس وتعينا الآخرين، هما إتباع السلام مع الجميع والتمتع بالحياة المقدسة. 6. الناموس القديم والملكوت الجديد إذ أراد الرسول تأكيد فاعلية وصية العهد الجديد وبركات الملكوت الجديد قارن بين طريق استلام الناموس في العهد القديم على يديّ موسى النبي على جبل سيناء وتقبل الكلمة الإلهي ذاته في العهد الجديد. أولًا: عندما تسلم موسى الناموس اضطرم الجبل الملموس بالنار بطريقة مادية واضحة وظلام وحدثت زوبعة وهتاف بوق وصوت كلمات، الأمر الذي جعل الشعب يستعفي من السماع لله مباشرة، ولم يكن ممكنًا حتى للحيوانات أن تقترب من الجبل وإلا رُجمت أو رُميت بالسهام دون أن يلمسها أحد! هكذا كانت العلاقة بين الله والإنسان مرعبة وغامضة، أما في العهد الجديد فلا نرى شيئًا من هذا إذ التحم كلمة الله بنا خلال تجسده فلم يعد هناك رعب ولا غموض. هذه الأمور التي ظهرت مع استلام الناموس تكشف عن سماته؛ فالنار تشير إلى عقاب العصاة الرهيب، والضباب والظلام علامة الغموض وعدم الكشف عن الحق في كماله وإنما خلال الظل والرمز. ثانيًا: لم تقف حالة الرعب عند الشعب وإنما مست موسى النبي نفسه، إذ "قَالَ مُوسَى: أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ!" [٢١]. أما الآن فالكلمة قريبة منا، في داخل القلب، إذ دخل "الكلمة الإلهي" في حياتنا، وصار له مسكنًا فينا. ثالثًا: عند استلام الشريعة الموسوية كان الشعب في البرية عند سفح الجبل، وكأن الناموس قد عجز عن أن يقدم للشعب الحياة السماوية المرتفعة، ويدخل بهم إلى أورشليم العليا، أرض الموعد. أما في العهد الجديد، فدخل بنا كلمة الله إلى السماوات عينها، وجعل منا محفل ملائكة: "بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ اللهِ الْحَيِّ: أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى اللهِ دَيَّانِ الْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ" [٢٢-24]. إنجيل القداس من يوحنا 8: 21 – 27 قال لهم يسوع ايضا انا امضي وستطلبونني وتموتون في خطيتكم حيث امضي انا لا تقدرون انتم ان تاتوا فقال اليهود العله يقتل نفسه حتى يقول حيث امضي انا لا تقدرون انتم ان تاتوا فقال لهم انتم من اسفل اما انا فمن فوق انتم من هذا العالم اما انا فلست من هذا العالم فقلت لكم انكم تموتون في خطاياكم لانكم ان لم تؤمنوا اني انا هو تموتون في خطاياكم فقالوا له من انت فقال لهم يسوع انا من البدء ما اكلمكم ايضا به ان لي اشياء كثيرة اتكلم واحكم بها من نحوكم لكن الذي ارسلني هو حق وانا ما سمعته منه فهذا اقوله للعالم ولم يفهموا انه كان يقول لهم عن الاب "قال لهم يسوع أيضًا:أنا امضي وستطلبونني،وتموتون في خطيتكم، حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا". (21)يقدم السيد المسيح تحذيرًا لغير المؤمنين، بأن جحودهم يدفعهم إلى الهلاك الأبدي. وكما يقدم السيد كلمات النعمة المشجعة لصغار النفوس، يقدم تحذيرات مرعبة للجاحدين قبل فوات الأوان. وكما قال: "يشبهون أولادًا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضًا ويقولون: زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا" (لو ٧: ٣٢). هكذا كثيرًا ما يفتح الرب باب الرجاء بالكلمات الطيبة اللطيفة، كما يستخدم التحذيرات الشديدة ليحفظهم من السقوط أو يقوموا مما سقطوا فيه."أنا أمضي": لقد طلبوا منه أن يمضي عنهم، فإنهم لا يطلبونه، ولا يريدون أن يسمعوا كلماته. وها هو يخبرهم أنه سيمضي، وبمضيه عنهم لا يجدون الحياة بل يموتون في خطيتهم. حين يحل بهم الضيق يطلبون عون المسيا المرفوض منهم والذي صلبوه فلا يجدونه حسب هواهم. يرفضونه ليطلبوا مسحاء كذبة لا يقدمون الحياة بل الغضب الإلهي."خطيتكم" جاء في اليونانية بالمفرد لا الجمع، إذ يركز على خطية الجحود ورفض السيد المسيح. هذا ويلاحظ أن الإنجيلي يوحنا قد ركز أنظارنا على السيد المسيح كمخلص العالم كرر أكثر من غيره من الإنجيليين فعل "يموت" واسم "خطية". فذكر فعل "يموت" ٢٨ مرة بينما ورد في متى ٥ مرات، ومرقس ٩ مرات، ولوقا ١٠ مرات، ولم ترد بهذه الكثرة في أي سفر في العهد الجديد، إنما جاء في الرسالة إلى رومية ٢٣ مرة. أما كلمة "خطية" فوردت ١٧ مرة في هذا الإنجيل بينما وردت ٧ مرات في متى، ٦ مرات في مرقس، و١١ مرة في لوقا. ومع هذا فإن الإنجيلي يوحنا لم يهدف إلى تركيز أنظارنا على الخطية وما تثمره من موت، وإنما مع خطورة الخطية القاتلة يركز على ساحق الخطية بصليبه لكي نعيش بروح النصرة والغلبة، ونمارس الحياة الجديدة عوض الموت الروحي. "تموتون في خطاياكم" (٢١). إن أخذت بالمعنى العادي الواضح أن الخطاة سيموتون في خطاياهم، وأما الأبرار ففي برهم. لكن إن أُخذ تعبير "ستموتون" بخصوص الموت لعدو المسيح (١كو ١٥: ٢٦) حيث أن من يموت يرتكب "خطية تقود إلى الموت" (١ يو ٥: ١٦)، فمن الواضح أن الذين وُجهت إليهم هذه الكلمات لم يكونوا قد ماتوا بعد. ربما تسأل كيف أن الذين لم يؤمنوا وهم أحياء سيموتون في وقتٍ ما. يجيب أحدهم ويقول إنهم إلى ذلك الحين لم يؤمنوا، ولم يخطئوا للموت، والذين لم تأتِ بعد إليهم الكلمة لم يرتكبوا خطية الموت. إنهم أحياء يعانون من المرض في نفوسهم، وهذا المرض ليس للموت (يو ١١: ٤).. لنهتم ألا يصيبنا "مرض للموت"، فمرضنا يمكن أن يُشفى (بالتوبة)، وهو متميز عن المرض الذي لا يُمكن شفائه (بالإصرار على عدم التوبة).لنقارن عبارة حزقيال: "النفس التي تخطئ تموت" (حز ١٨: ٢٠) بالقول: "ستموتون في خطاياكم"، لأن الخطية هي موت النفس. لست أظن أن هذا صحيح لكل خطية بل للخطية التي يقول عنها يوحنا أنها للموت (١ يو ٥: ١٦).إن كانت الخطية مرضًا خطيرَا يصيب الإنسان كله، نفسه وجسده، فقد ملَّكت الموت عليه. غير أنه إذ جاء كلمة الله المتجسد طبيبًا للنفس والجسد ميّز بين نوعين من الخطية أو نوعين من المرض. يوجد مرض ليس للموت (يو ١١: ٤)، بل لمجد الله، وذلك بالنفس التي تقبل كلمة الله، وتخرج من قبر الفساد، وتتمتع بحل الأربطة والشهادة للقائم من الأموات واهب القيامة. ويوجد مرض للموت مثل الذي يتحدث عنه السيد مع بعض السامعين له قائلًا إنه يطلبونه وسيموتون في خطاياهم، هذين الذين يصرون أن يبقوا في العصيان حتى يوم رقادهم، هؤلاء يرتكبون الخطية التي تقود للموت (١ يو ٥: ١٦).يقول: "أنا أمضي وستطلبونني" (21) ليس عن شوقٍ إلى، بل عن كراهية، لأنه بعد تحركه بعيدًا عن الرؤية البشرية طلبه كل من الذين أبغضوه والذين أحبّوه. الأولون بروح الاضطهاد، والآخرون بالرغبة في اقتنائه.من الخطأ ألا تطلب حياة المسيح بالطريقة التي بحث بها التلاميذ، ومن الخطأ أن تطلب حياة المسيح بالطريقة التي بحث بها اليهود. لآن هؤلاء الناس يطلبونه بقلب منحرف. ماذا أضاف؟ "تطلبونني" -ليس لأنكم تطلبونني للخير- لذلك "تموتون في خطيتكم". هذا يحدث من طلب المسيح بطريقة خاطئة ليموتوا في خطيتهم، خطية الكراهية للمسيح، ذاك الذي وحده يمكن أن يوجد فيه الخلاص. فإنه بينما الذين لهم رجاء في الله لا يردوا الشر بالشر هؤلاء يردون الخير بالشر."فقال اليهود: ألعله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟" (22)حين قال قبلًا هذا ظنوا أنه يذهب إلى ولايات يونانية ليكرز بين اليهود الذين في الشتات، أما هنا فأدركوا أنه يتحدث عن موته. لقد حسبوه ليس فقط كواحدٍ منهم، بل أشر منهم لأنه ينتحر يأسًا."حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا" (٢٢).. فإنه حين يموت أحد في خطيته لا يقدر أن يذهب حيث يذهب يسوع، إذ لا يقدر ميت أن يتبع يسوع. "لأن الأموات لا يسبحونك يا رب، ولا الهابطين في الهاوية، بل نحن الأحياء نحمدك يا رب" (مز ١١٣: ٢٥ - ٢٦).وقد ظهر سلطانه في أنه يموت بإرادته الحرة تاركًا الجسم خلفه من العبارة: "أمضي أنا".ربما جاء في التقاليد (اليهودية) عن المسيح أنه يولد في بيت لحم، وأنه يقوم من سبط يهوذا حسب التفاسير السليمة للكلمات النبوية؛ وأيضًا في التقاليد بخصوص موته أنه ينتزع نفسه من الحياة بالوسيلة التي قلناها. ويبدو أن اليهود عرفوا أن الذي يرحل هكذا يذهب إلى موضع لا يمكن أن يذهب إليه حتى الذين يفهمون هذه الأمور. لذلك لم يتحدثوا بطريقة حرفية عندما قالوا: "ألعله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟" (٢٢)..على أي الأحوال أظن قد قالوا هذا عن خبث ما قد بلغ إليهم بالتقليد عن موت المسيح. وعوض أن يمجدوا ذاك الذي يرحل من الحياة بهذه الطريقة قالوا: "ألعله يقتل نفسه؟" "فقال لهم: أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم". (23) فحسب الحكمة البشرية لا يقدر أحد أن يقرر مصير حياته إذا أنهاها بيده، لهذا حسبوه يتكلم عن موته بقيامه بالانتحار. ولعلهم أشاعوا هذا ليشوهوا صورته أمام الشعب، إذ يعتبر الانتحار جريمة يعاقب عليها الناموس، بكونه سفك دم إنسان: "أطلب أنا دمكم لأنفسكم" (تك ٩: ٥). تبقى صورة أخيتوفل المنتحر (٢صم ١٧: ٢٣) مثلًا خطيرًا للحياة الفاسدة. حقًا لقد قبل شمشون أن يموت بيديه مقابل الآلاف من الوثنيين الذين ماتوا معه، لكن الانتحار في ذهن الشعب هو خطية اليأس التي عقوبتها نار جهنم. وقد أشار إلى ذلك يوسيفوس المؤرخ، حتى قال بأنه يلزم دفن أجساد الأعداء فورًا، أما المنتحرون فتبقى أجسادهم بلا دفن حتى الغروب كنوعٍ من العقوبة. وذكر يوسيفوس أنه في بعض الأمم كانت تقطع الأيدي اليمنى للمنتحرين لأنها تجرأت وفصلت الجسم عن النفس، هكذا تنفصل هي عن الجسد.هذا هو الفكر اليهودي في عصر السيد المسيح، وكان الانتحار من الخطايا المعارضة تمامًا لأفكار كثير من الفلاسفة اليونانيين الذين يرون في الانتحار عملًا بطوليًا يستحق المديح، حيث ينهي الإنسان الحياة الزمنية بثقلها ليتمتع بحياة مكرمة ممتدة! يقدم لهم السيد المسيح علة عدم معرفتهم لشخصه وطبيعته، وعدم إدراكهم من أين جاء وإلى أين يذهب، وهو اختلاف طبيعتهم عن طبيعته. كأنه يقول لهم: أنتم قادرون أن تمارسوا القتل حتى لأنفسكم لأنكم من أسفل، وليس لله شيء فيكم. أنتم من أسفل، أرضيون، جسديون، شيطانيون.هم من الأرض ترابيون، وهو من السماء، الخالق غير المحدود. لهذا فهم في حاجة إلى إدراك لاهوته والإيمان به. "لأنكم إن لم تؤمنوا أنا هو، تموتون في خطاياكم" (٢٤). "أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (٢٣).إذ كيف يمكن أن يكون من العالم ذاك الذي به خُلق العالم؟ كل من هم من العالم جاءوا بعد العالم، لأن العالم سبقهم، ولهذا فالإنسان هو من العالم.حيث كان المسيح قبل العالم، ولم يكن قبل المسيح شيء ما، لأنه "في البدء كان الكلمة، وكل شيء به كان" (يو ١: ١، ٣)، لذلك فهو من ذاك الذي هو فوق.. من الآب نفسه. ليس من هو فوق الله الذي ولد الكلمة مساويًا له، وشريك معه في الأزلية، الابن الوحيد في غير زمنٍ، والذي وضع أساس الزمن."فقلت لكم إنكم تموتون في خطاياكم، لأنكم إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم". (24) يقول القديس يوحنا ذهبي الفم جاء لهذا السبب: لينزع الخطية عن العالم، وإن كان من المستحيل للبشر أن ينزعوها بطريق آخر سوى بالغسل، فالحاجة إلى أن الذي يؤمن يلزمه ألا يرحل من العالم وبه الإنسان العتيق، مادام الشخص الذي لا يذبح بالإيمان الإنسان العتيق ويدفنه يموت وفيه (الإنسان العتيق) ويذهب إلى الموضع يعاقب عن خطاياه السابقة."فقالوا له: من أنت؟ فقال لهم يسوع: أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به". (25)جاءت إجابته على سؤالهم هكذا: "أنا هو البدء Arche"، كما تكلمت معكم في العهد القديم، لم أتغير. من البدء قيل أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تك ٣: ١٥). إنه موضوع إيمان الآباء البطاركة (إبراهيم واسحق ويعقوب). إنه هو وسيط العهد، موضوع نبوات الأنبياء. من بدء خدمته أعلن لهم أنه ابن الله، وخبز الحياة. لماذا يكررون السؤال وقد سبق الإجابة عليه مرارًا وتكرارًا، وقد أخبرهم أنه مخلص العالم. لقد سألوه: من أنت يا من تهددنا بهذه الطريقة؟ أي سلطان لك علينا؟"إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم، لكن الذي أرسلني هو حق، وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم". (26)يعلن السيد أنه قادر أن يفضحهم لأنه عالم بالخفيات، يعرف كبرياءهم وطمعهم ورياءهم وشرورهم وبغضهم للنور وحسدهم ضد الحق مع جحودهم وعدم إيمانهم وما سيفعلونه به. ما قيل عنكم بالأنبياء هو حق. لكنه ليس الآن وقت للدينونة بل للخلاص.هنا يعلمنا السيد المسيح أنه ليس كل ما نعرفه، خاصة عن شرور الآخرين، نقوله. إنما نطلب توبة الناس ورجوعهم إلى الحق والتمتع بالشركة مع الله."ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب". (27) إذ أعمى الشيطان بصيرتهم، وظنوه أنه يتحدث عن أب جسداني في الجليل، وليس عن الآب أبيه."فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون إني أنا هو، ولست أفعل شيئًا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي". (28)إذ يمتلئ شرهم بصلبه، عندئذ يدركون أنهم صلبوا رب المجد، وذلك خلال العلامات التي تحدث أثناء الصلب والقيامة وما بعد قيامته.كانت ذبيحة المحرقة تُدعى "رفع"، وفي كثير من طقوس التقدمات والذبائح ترفع الذبيحة إلى أعلى، وتُحرك أمام الرب. هكذا رُفع السيد المسيح على الصليب. وفي القداس الإلهي إذ يختار الكاهن الحمل يُدعى هذا الطقس "رفع الحمل". وبالفعل يضعه في لفافة ويرفعه على جبينه وهو يصلي: "مجدًا وإكرامًا، إكرامًا ومجدًا للثالوث القدوس".يستخدم الكتاب المقدس كلمة "يرفع" لتعني أحيانًا "يمجد" كما استخدمها بطرس الرسول في عظته في يوم العنصرة: "وإذ ارتفع بيمين الله" (أع ٢: ٣٣)، والرسول بولس: "لذلك رفعه الله أيضًا" (في ٢: ٩). وفي العهد القديم قال يوسف: "في ثلاثة أيام أيضًا يرفع فرعون رأسك ويردك إلى مقامك" (تك ٤٠: ١٣).وتُستخدم الكلمة أيضًا لتعني الهوان والموت، كما قال يوسف: "في ثلاثة أيام يرفع فرعون رأسك ويعلقك على خشبة" (تك ١٤: ١٩)."والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه". (29)إن كانوا قد نالوا سلطانًا ليقتلوه فهذا لا يعني أن الآب فارقه. فهو دائمًا معه، لا ينفصلان، وما يفعله الابن إنما يرضي الآب، وهو أن يبذل نفسه من أجل خلاص العالم.يقول القديس أغسطينوس عن "الذي أرسلني هو معي" (٢٩).. هذه المساواة في الوجود "دائمًا"، ليس من بداية معينة وما بعدها، بل بدون بداية وبلا نهاية. لأن الميلاد الإلهي ليس له بداية في زمنٍ حيث أن الزمن نفسه خلقه الابن الوحيد."وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون". (30)بينما تعثر الفريسيون والكتبة في كلماته وتعاليمه آمن كثيرون من الشعب به. فالشمس التي تجفف الطين هي بعينها التي تجعل الشمع يذوب. قدمت كلماته رائحة حياة لحياة، ورائحة موت لموت.فليعطنا الرب أن نؤمن به إيمان حقيقي لتكون لنا الحياة الأبدية ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين. الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
19 مايو 2021

القيامة تتبعها الدينونة وساعة الحساب والثواب والعقاب

أهنئكم يا أخوتى وأبنائى جميعاً بعيد اقيامة ، راجيا من الله أن يعيده عليكم بالخير والبربكة ، وأن يعيده على بلادنا المحبوبة وهى فى سلام ورخاء وأتابع معكم فى هذه المناسبة السعيدة أحاديثنا عن القيامة العامة فأقول إن القيامة تتبعها الدينونة العامة 0 فلإنسان لا ينال جزاءه بعد الموت مباشرة ، لن الجسد يكون وقتذاك فى القبر ، ويتحول بالوقت إلى تراب ولكن فى القيامة ، حينما يقوم الجسد وتتحد به الروح ، يمكن حينئذ أن يبدأ الحساب للإنسان بكامل تكوينه جسداً وروحاً وذلك لأن ما فعله الإنسان من خير وشر ، اشترك فيه الجسد والروح معاً فيلزم إذن محاسبة الإثنين معاً : ينالان المكافأة معاً ، أو يتحملان العقوبة معاً وهكذا شاء الله أن يكون الحساب أو الدينونة بعد القيامة العامة ، حينما تتحد الأرواح بالأجساد ويكون الحساب أيضاً لكل البشر معاً كل شئ مسجل امام الله ، وسوف يعلن فى يوم الحساب ، وسف يعرف من الكل كل أفعال الناس ، وكل أفكارهم وأقوالهم ونياتهم وأحاسيسهم ، الخفيات والظاهرات 0 ولذلك صدق ذلك الأديب الروحى الذى قال " فكر كما لو كانت أفكارك مكتوبة على سحاب السماء بحروف من نور ، وإنها لكذلك " الناس حينما يموتون ، يتركون أموالهم وأملاكهم ، وأقاربهم ومعارفهم 0 ويفارقون الكل ولكن الشئ الذى لا يفارقهم هو أعملهم 0 لأن أعمالهم تتبعهم 0تلصق بهم كل أخطائهم ، بكل صورها ، وكل تفاصيلها ، وكل بشاعتها ، فتقلق قلوبهم ، وتتعب أفكارهم وفى يوم الدينونة العامة يجدون كل ذلك أمامهم 0 فيكونون مدانين أمام أنفسهم ، لا ينفعهم عذر ولا تبرير لا يمحو هذه الخطايا والآثام سوى التوبة الصادقة الحقيقية فالخطأ الذى تاب عنه الإنسان توبة قلبية بغير رجعة ، هذا تدركه مراحم الله الواسعة ومغفرته للتائبين والتوبة الحقيقية ليست مجرد ترك الخطية فقط يتركها الإنسان من حيث الفعل والممارسة ، ولكن يستمر يشتهيها فى قلبه ، ويقبلها فى فكره 0 أما التوبة الحقيقية فهى كراهية الخطية قلباً وفعلاً بكراهية الخطية وعدم اقترافها ، يستحق الإنسان المغفرة ، ولا تحسب عليه خطاياه فى يوم الدين ويبقى للتوبة شرط آخر ، وهو معالجة نتائج الخطايا فمثلاً لا يقل الظالم " لقد تبت ، وما عدت أظلم أحداً ، بل صرت أكره الظلم " هذا لا يكفى ، لأنه خاص فقط بالحاضر والمستقبل 0 ولكن ماذا عن الماضى ، وعن حال المظلومين الذين لا يزالون يقاسون من نتائج ظلمه ؟! عليه أن يعالج هذه النتائج بكل ما يستطيع من قدرة وإن كان قد سرق من أحد شيئاً ، عليه أن يرده إلى صاحبه 0 وإن كان قد أساء إلى سمعة إنسان ، عليه أن يصلح ذلك ويرد إليه إعتباره هنا يقف أمامنا سؤال قد يكون محيراً ، وهو : ماذا عن القاتل ، وهو لا يستطيع أن يصلح ما فعله ؟ والجواب هو أنه إذا أخذ عقوبة على الأرض ، وقبلها برضى وبشعور أنه مستحق للعقوبة فإنه يستريح من عقوبة فى يوم الدينونة الرهيب الإنسان فى يوم الدينونة ينال عقوبة على الخطايا التى لم يتب عنها ، والخطايا التى لم ينل عنها عقوبة على الأرض إما لأنها كانت خطايا فى الخفاء لم يعرفها أحد عنه ، أو لم تثبت أدلة عليه ، أو أمسك فيها أحد غيره ظلماً 0 وفى هذه الحالة يعاقبه الله على خطيئتين : الخطيئة التى ارتكبها ، يضاف إليها تركه لغيره يعاقب ظلم على ما اقترفه هو من إثم ، دون أن ينقذه باعترافه ومن الخطايا الخفية أيضاً : النيات والأفكار والمشاعر وهذه كلها ينبغى أن تدركها التوبة لتمحوها ، مع الجهاد الروحى لتنقية القلب والفكر ومن الخطايا التى تتعب الإنسان أيضاً فى يوم الحساب ، وهنا أيضاً على الأرض ، أن يوقع غيره فى خطية ، ويتسبب فى إفساده 0 ثم يتوب هو ، ويبقى هذا الغير فى الخطيئة والفساد ، دون أن يقدر على إرجاعه !! وفى يوم الحساب ،لا يعاقب الإنسان فقط على ما فعله من شر ، وإنما أيضاً على ما كان بإمكانه أن يفعله من الخير ولم يفعله والكتاب المقدس يقول فى ذلك " من عرف أن يعمل حسناً ولا يفعل ، فتلك خطية له " ( يع 4 : 17 ) بل من الخطايا أيضاً : تأخير عمل الخير ، أو تأخير أعطاء الحقوق لأصحابها ومن وصايا الكتاب فى هذا الشأن :" لا تمنع الخير عن أهله ، حين يكون فى طاقة يدك أن تفعله لا تقل لصاحبك اذهب وعد فأعطيك غداً ، وموجود عندك " ( ام 3 : 27 ، 28 ) لذلك كله ولغيره ، على الإنسان أن يحاسب نفسه بكل دقة ، قبل أن يدركه يوم الحاب وهو غافل عن نفسه وصدق ذلك القديس الذى قال لأحد الخطاة : " احكم يا أخى على نفسك ، قبل أن يحكم عليك " ينبغى إن أن يتدرب كل إنسان على محاسبة النفس ، وأن يدين نفسه ، على أخطائها ، ويحاول أن يصلح ذاته 0 فالفرصة لا تزال قائمة ، والتوبة بإمكانه ، قبل أن يغلق باب التوبة بالموت ، ويقف فى ذلك اليوم الرهيب مداناً أمام الله 0 وصدق ذلك الشاعر الذى قال : قبورنا تبنى ونحن ما تبنا وفى محاسبة الإنسان لنفسه ، عليه أن يلتفت إلى الخطايا المركبة والخطايا الأصلية وأعنى بالخطايا المركبة ، تلك التى تحوى مجموعة كبيرة من الخطايا ، بينما نلقى عليها إسماً واحداً كما توجد أيضاً خطايا أمهات ، تلد كل منها عدداً كبيراً من الخطايا فلا نستهن بالمر ، ونظن أننا قد ارتكبنا شيئاً بسيطاً ‍‍!! كذلك لا ننسى الخطايا الأصلية 0 فغالبية خطايا اللسان وخطايا الحواس ، يكون سببها خطية أصلية موجودة فى القلب فالذى ينظر نظرة حسد ، أو نظرة شهوة ، أو نظرة حقد ، وما أشبه ، ليست كل هذه مجرد خطية نظر ، وإنما الحسد والشهوة والحقد وغير ذلك ، موجود كله فى القلب قبل أن يظهر فى العين فخطية القلب هى الخطيئة الأصلية وخطيئة النظر هى الخطية اللاحقة ، أو الثانية فى الترتيب وهكذا عليه أن يطهر قلبه أولاً ، فتتطهر حواسه تلقائياً كذلك الذى يوجه إلى غيره كلمة قاسية ، القسوة موجودة فى قلبه أصلاً ، قبل أن تكون خطية لسان ، عليه أن يتوب عن كلتيهما الإنسان الدقيق فى محاسبة نفسه ، يمكنه التخلص من نقائصه وخطاياه وهكذا يقف أمام الله طاهراً فى يوم القيامة ، لا يبكته ضميره على شئ والإنسان الروحى لا يتساهل مع نفسه ، ولا يغطى خطاياه بالتبريرات والأعذار لأن الذى يبرر نفسه على الأرض ، سيكون مكشوفاً تماماً أمام الله فى يوم الحساب ، حيث يستند كل فم ، ولا تنفع الأعذار تقول عن الله رحيم ، فأقول لك وهو أيضاً عادل رحمة الله سوف تدرك التائبين فيغفر لهم 0 وعدل الله لابد أن يلاحق المستهترين ، الذى يستغلون رحمة الله ومغفرته ، للتمادى فى خطاياهم وشرورهم ، وعصيانهم لله أولئك الذين لم يجعلوا الله أمامهم ! يوم الحساب إذن هو يوم العدل الإلهى ، الذى فيه سيجازى كل واحد بحسب اعماله مكافأتهم على برهم وحرصهم وطاعتهم هؤلاء الأبرار سيكافئهم الله على كل شئ ، ليس فقط عن الأعمال العظيمة التى عملوها ، بل حتى لى خير مهما بدا أمامهم ضئيلاً يكافئهم ليس فقط على أعمال الرحمة الكبيرة ، وأنقاذ غيرهم من المشاكل والورطات ، إنما ينالون ثواباً حتى على كلمة التشجيع ليائس ، وبسمة الحنان الصغار النفوس ، وزيارة لمريض ، ونظرة حب لطفل وسوف يعوضهم الله عن كل خير عملوه ، ولم ينالوا عنه جزاء على الأرض إما بسبب ظلم أو جاهل أو إهمال ، أو بسبب أنهم أخفوا فضائلهم عن الناس ، حتى لا يستوفوا خيراتهم على الأرض ، بل نالوا جزاءهم كاملاً من يد الله يعرف الخفيات بل إنهم ينالون مكافأة عن الخير الذين أرادوا أن يفعلوه ، ولم يستطيعوا لأسباب خارجة عن إرادتهم وكل تعب احتملوه على الأرض ، من أجل محبتهم لله ومحبتهم للناس ، سيكون سبب راحة أبدية لهم ستتبعهم فى يوم الحساب أعمال برهم ، وتكون شاهدة لهم أمام الله فطوبى لمن يتعب الآن فى عمل الخير ، وفى خدمة الغير ، لكى يستريح فى ذلك اليوم ، وينال أجره بحسب تعبه ( 1كو 3 : 8 ) فى النعيم الأبدى ليتنا نضع يوم القيامة والحساب أمام أعيننا باستمرار ، حتى نسلك بحرص أمام الله ، وحتى نقف أمامه فى يوم الدين ، دون أن تبكتنا ضمائرنا وليتنا نبذل كل جهد وتعب من أجل راحة الآخرين ، سواء فى محيط الأسرة أو المجتمع أو الوطن أو البشرية جمعاء ، حباً للكل ، وليس لمجرد الجزاء 0 وهذا الحب سيقف إلى جوارنا فى اليوم الأخير ولن يدخل ملكوت الله فى ذلك اليوم ، إلا القلوب العامرة بالحب ، لن يدخله إلا الذين أحبوا الله ، وأحبوا الخير ، وأحبوا الغير بهذا الحب نصلى جميعاً من أجل بلادنا ، ومن أجل أمنها وسلامتها ، ومن أجل البلاد التى تسودها الحروب أو النزاعات الداخلية ، لكى يمنح الرب سلاماً للعالم ولكى يعطى الرب الغذاء للبلاد التى تسودها المجاعات ، ويمنح النقاوة والتوبة للمجتمعات التى يسودها الفساد 0 ونطلب أن يبارك الرب كل من يعمل خيراً فيعم الخير كل مكان 0 وكل عام وجميعكم بخير قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل