المقالات

21 أغسطس 2018

زوجة الكاهن

شهادة الكاهن في تدبير بيته هي من مؤهلات الكاهن في تدبير الكنيسة، يدبِّر بيته حسنًا حتى يعرف كيف "يدبر ويعتني بخدمة كنيسة الله" (1تي4:3). وزوجة الكاهن هي كأي امرأة مؤمنة، لكنها كزوجة كاهن لا بد أن تضع نفسها من أجل نجاح خدمة رسالة الإنجيل في حياة زوجها، تخدم بفَهم ورضا وقناعة فكرية وقلبية، واعية بأن كأس الماء البارد المقدَّم بمسرة لأجل رئيس الرعاة لن يُنسَى، وزوجة الكاهن التقية الفرحانة بخدمتها ودعوة حياتها تدرك بوعي تام مسئوليتها بأنها معاونة للكاهن في حياته الشخصية كزوجة (معينة نظيره)، وفي رسالته ككاهن الله. كثيرون عاشروا الكهنوت وللأسف لم يأخذوا بركته، بل حملوا متاعبه وتبَعاته دون بركة لحياتهم ولخلاصهم، عاشوا في صورة كهنوتية مُنكرين قوتها، ولم يعِش الكهنوت فيهم، لذا فقدوا موضعهم ورتبتهم، وسَرَق القاسي جهدهم. إن خدمة الكهنوت طريق يحتاج إلى نذور وتعهدات تُحفَظ زمان الغربة كله، لأنه طريق مخاطر يحتاج إلى خط دفاع وسَندة في صد هجمات أبليس، كي يحفظ الله جندية الكاهن وجهاده وثماره بسلاح البر لليمين ولليسار. إن الكاهن كجندي في خط الدفاع الأمامي للكنيسة كل اليوم كل أيام العمر يحتاج إلى إصلاح وتنقية ومراجعة وانسحاق وصلاة ومعونة وانسكاب وتعزية ومِلء في خدمة كهنوت المسيح، ليمر بمجد وهوان وبصيت رديء وحَسن. وبناء البيت الروحي لبيت الكاهن على الصخر لا بد أن يُتابَع باستمرار وبمواظبة من أجل البنيان والنمو في الله كغنيمة حياة الكاهن وكنز بيته... فما أحلى زوجة الكاهن التي تُعين زوجها بصلواتها ودموعها ودعائها وبتدعيهما العملي. الكاهن الذي يحمل أوجاع شعبه كراعٍ أمين تحمله زوجته إن كانت أمينة، لأنها قد اختارت أيضًا الرب نصيبًا لها وقد شرفها المسيح بخدمة أولاده الخصوصيين، وهي تخدمهم من خلف زوجها ومعه، معاونة له بهدوئها وقدوتها وتباسطها وسيرتها العملية التي هي أبلغ من كل العظات بل وأجمل من كل العناوين، خاصة عندما تفتح بيتها للفقير والمحتاج والضعيف والمنبوذ وتعمل أروع خدمات الخفاء، فالرجل والمرأة عمومًا يختلفان في الشكل الجسدي فقط، لكن ليس في النفس، فقد غلبْنَ كثيرات منهن وتفوَّقن على الرجال في الجهاد لأجل الخلاص. لذا ليست كل شخصية تصلُح لأن تكون زوجة كاهن، إنها مسئولية خطيرة لا بُد أن يُحسب لها كل الحُسبان، لأن إساءة الاختيار يؤثر سَلبًا على الخدمة، وهناك إذن ضوابط روحية في اختيار من تكون زوجة للكاهن، لأنها ترافقه في رحلة لحمل الصليب... فالكهنوت "خدمة" والكهنوت "غسل أرجُل" والكهنوت "رعاية وأبُوَّة" والكهنوت "صليب وذبيحة وتكريس" منذ لحظة الرسامة ترافقه الزوجة كخادمة، يصيبها تبعات هذه الرحلة من وخزات الشوك والمسامير والتعب والتضحيات التي لها بركتها ومعونتها وحراستها السماوية. رحلة يفتح الرب فيها أبوابًا وأعماقًا، لكنها تتوقف على رؤية الكاهن وزوجته لماهية وطبيعة خدمة الكهنوت!!! وكيف أنها رحلة صعود مرتفعات، ليس فيها عوج ولا التواء، إنها دعوة وخدمة وترْك ومسئولية، رحلة قد يواجهوا فيها ضيقًا أو شُحًّا أو عوزًا واحتياجًا، لكن بالإيمان والاتكال والصبر على كل شيء يسد الله فيها كل الاحتياجات، ما دام قد قبلوا خدمتهم من يد الله ولله، وما دام الكاهن يقدم لله مشورات حُرّيته، ويكتب أعماله تَبْعًا لأقواله. وبالتأكيد يتعيَّن على الكاهن وأسرته أن يكونوا قدوة للشعب في الإيمان والكفاف والاعتدال، والويل كل الويل لمن تأتي به العثرة، لذلك زوجة الكاهن تكون أيقونة جميلة، إذا أعطت المثل لإنسانة الله المتزينة بالفضيلة والبعيد عن الترف والتنعُّم الباطل، لأنها باعتدالها ورزانتها تعيش نذر دعوتها كشريكة للكاهن في حياته، ويكونوا بذلك قد عملوا بأقوالهم وتكلموا بأعمالهم. إن زوجة الكاهن الشبعانة بكلمة الله والمواظِبة على التغذّي بوسائط النعمة، تجد لها الوسائل لتعبِّر عن محبتها واتضاعها وغسلها للأرجل وضيافتها للغرباء وترفُّقها بإخوتنا وأسيادنا المساكين والمجرَّبين، بل ويمكن أن تكون زوجة الكاهن بركة وسندًا ودعمًا وتصديقًا لخدمة الكاهن بل وللكنيسة كلها، عندما توضَع على المنارة بتعقُّلها وتصرفاتها المسئولة، وانحيازها للمرذولين وللبؤساء وللذين يعتبرهم العالم أنهم "وسخ" بينما هم كنوز الكنيسة الحقيقية... مغبوطة هي بالحقيقة زوجة الكاهن المُصَلِّية، الصوَّامة، المعطاءة، المضيفة للغرباء، المُحِبّة للجميع بلا محاباة للوجوه، والتي ينطبق عليها انها بحقّ امرأة فاضلة وثمنها يفوق اللآلئ. ثيابها هي الحشمة والجمال، وزينتها هي الأدب والتقوى، وسلوكها البساطة والمعرفة التي لبنات الله، فلا تكون مُعثِرة ولا مُجلِبة لغضب الله بل مُحقِّقة مقاصد الله في حياتها، مُعلِنة لغنىَ واتساع تدابيره. وأيضًا زوجة الكاهن عنوان للفطنة التربوية، عندما تكون دليلاً للرعية في تنشئة أولادها في حضن الكنيسة، ناجحين في حياتهم ممجدين الله كل حين. لكن عندما يُساء اختيار زوجة الكاهن، تكون عثرة وشوكة في موضع مَقتَل... مُعطِّلة للإنجيل في خدمة الناس، إذ تفوح رائحة مُجُونها وماديتها أو استبدادها وتعظُّم معيشتها، كفساد الطين وكالظلمة المثلَّثة الكآبة التي للجهل، فتبقى أصل مرارة أمام الجميع، وبسببها يُجدَّف على الاسم الحسن، وينطفئ بهاء الإكليروس، مثلما أنذرالملاك القديس "هرماس" عن الرعاة المنحرفين بقوله (انظر يا هرماس حيث يكون التنعُّم يكون الخداع والتزييف أمام الله). وحسنًا يطلق الشعب على زوجة الكاهن (تاسوني)، فهي أخت كل أحد، ببذلها وبشاشتها تساعد الخراف المريضة والمبتدئة والخاملة والبعيدة، بأعمالها وأنفاسها أكثر من كلامها، وقد عاينّا الأمومة المداوية التي لا تعبث بخلاص الآخرين ولا تَسخَر منهم، بل تحملهم كصغار وكمكسورين لإرضاعهم ومساندة رحلتهم، والوصول بهم إلى الميناء، تلك الصورة الرقيقة المُضحِّية هي أيضًا حاسمة وصريحة، لأنها خدمة على مستوى الصليب، وليس مجرد نشاط مزيَّف وإعلان، لأن الأجرة إنما تُعطىَ على العمل لا على الكلام. لقد تعرضت هذه الصورة لبعض الشوائب والصدأ، إلا أن واقعنا أيضًا مملوء وزاخر بزهور الحياة الكنسية، وبزينة العمل الروحي من خادمات وسيدات لهُنَّ طابع بهجة التقوى وانعكاس الصورة الإلهية التي للقداسة في حياتهن، وهُنَّ جانب مشرق لرعية المسيح، حاملات معهن ثمار المجد للكنيسة كلها. القمص أثناسيوس چورچ
المزيد
14 أغسطس 2018

اللاهُوتُ المَريَمِيُ والثِيُؤطُوكِياتُ

نشأت الثيؤطوكيات كأدب كنسي مكتوب يتضمن إيمان الكنيسة المحفوظ في وعيها وضميرها وتعليمها الشفاهي. وهي تتضمن خلاصة اللاهوت المريمي في قطع قبطية موزونة لتمجيد والدة الإله القديسة الطاهرة مريم، لتشرح في اصطلاحات لاهوتية عميقة رموز ونبوءات وتوصيفات وتشبيهات عن العذراء وسر التجسد الإلهي العجيب. لذلك حوت ألقابًا ومديحًا وتطويبًا للعذراء، عاشته الكنيسة على الدوام وإلى مدى الأجيال عبر العبادة الكنسية اليومية، مضافًا إليها ما انتهت إليه المجامع الثلاثة القانونية. وتدل هذه الثيؤطوكيات على أن واضعيها كانوا شخصياتٍ لاهوتيةً ونسكية بارعة، حرصوا أن يجعلوا اللحن صلاةً والصلاة لحنًا، وأدخلوا تفاسير الكتاب المقدس لآباء الكنيسة كمادة أساسية في العبادة، تشكِّل المفردات والاصطلاحات اللاهوتية الغنية في مضامينها، لتكون معبِّرة عن وحدة الحياة وما يغترفه المسيحي من معانٍ كتابية في صلواته اليومية، فلا يبقىَ الكتاب المقدس مصدرًا قائمًا بذاته منفصلاً عن الحياة الكنسية، بل مادة بناء للحياة المسيحية التَقَوية، وبالذات في العقيدة والليتورﭼيا... وقد أتت في جملتها غنية وخصبة بالإشارات والتفاسير والرمزيات ضمن التيار الروحي النسكي والليتورجي في وحدة وانسجام. احتوت الثيؤطوكيات على لاهوت العهد الجديد الذي تحولت فيه رموز العهد القديم إلى حقائق إلهية، تمت بحسب تدبير النعمة لتكميل الخلاص في شخص مريم العذراء القبة الثانية المباركة، التي صارت قدس أقداس وفيها لوحَا العهد، تلك العذراء هي التي دلتنا على (اليوتا) اسم الخلاص، الذي تجسد منها بغير تغيير وصار وسيطًا لعهد جديد، ومن قِبَل رشاش دمه الكريم تطهرنا وتبررنا وفزنا بالرحمة... هذه هي العذراء المتسربلة بمجد اللاهوت من داخل ومن خارج، قدمت لله شعبًا وشعوبًا كثيرة من قِبَل طهارتها. هي قديسة كل حين لأنها قسط الذهب النقي التي في وسطها المن المخفي، حملت في بطنها المَنّ العقلي الذي أتى من الآب، ولدته بغير دنس ولا مباضعة. هي منارة ذهبية حاملة المسيح النور الحقيقي، وهي المجمرة الذهب النقي الحاملة الحجر المختار والبخور العنبري، حملت في بطنها غير المنظور كلمة الآب، هي الحمامة الحسنة وزهرة البخور التي أينعت، وهي عصا هارون التي أزهرت بغير غرس ولا سقي، مشتملة بالأنوار والطهارة وأعمال كريمة قيلت عنها، لأن الرب أشرق جسديًا منها، ومن قِبَلها رجع آدم إلى رئاسته دفعة أخرى... بسبب طهارتها أحببنَ العذارى الطهارة وصرنَ بنات لها، ومن قِبَلها نجد دالة عند الديان بعد أن صارت هي إكليل فخرنا ورأس خلاصنا وثبات طهرنا. عالية هي الأعجوبة التي لولادتها، وعظيم هو مجد بتوليتها الكاملة، الذي جعلها كالسُلّم الذي رآه يعقوب ثابتة على الأرض ومرتفعة إلى السماء، جعلها كالعليقة المشتعلة التي لم تحترق، وككنز الجوهر التي وَلدت خالق الكل، وكباب المشرق المختوم بختم عجيب، دخل وخرج منه رب القوات وبقي مختومًا على حاله. إن كرامة العذراء لا يُنطق بها، زينتها في السموات العلوية عن يمين حبيبها، والمواهب الإلهية التي نالتها كانت مواهب مضافة إليها وظلت كذلك، طهارتها خشب لا يسوَّس لأنها حازت من النعمة بالقدر الذي يؤهلها أن تكون أم القدوس، المظللة بقوة العلي (بالشكينة) فصارت عرشًا ملوكيًا للمحمول على الشاروبيم، وارتفعت عن الطبائع العلوية العقلية لأن الذي في حجرها الملائكة تسبحه والشاوربيم يسجدون له باستحقاق والسيرافيم بغير فتور... هي باب المشارق، الخدر الظاهر الذي للختن، وكلنا نسير في ضيائها لأنها ولدت لنا الحياة مخلص العالم الحي والمحيي. ولدت الحمل ومن مجده سَتَر كل عُري، ومن صوفه (ناسوته) وُلدت الطبيعة الجديدة وعدم الفساد، حملت بالظافر كسحابة نيِّرة ممطرة بالنعمة وخلاص العالم، لتُطفئ عطش حواء وتستر آدم الذي طردته نتانة العصيان... فكانت سحابة وعطرًا وبخورًا (اسطوينوفي) ومعملاً للاتحاد غير المفترق. حقيقة إن هذه الثيؤطوكيات عميقة وغنية وزاخرة بالمعاني والحياة والأصالة وتحقيق النبوءات، ارتفعت درجتها الروحية فوق التعبير اللفظي بل وفوق المعقول... تتكشف معانيها بالبرهان العملي، وتتميز بأن جوهر الوزن فيها هو للوزن الفكري والإلهام، ولِمَا لا؟ ما دامت مريم العذراء هي فردوس الكلمة الحاوية للاهوت؟! فكل تمجيد للمسيح هو فخر للعذراء، ويُعتبر في حد ذاته مديحًا لها كأم المسيح، فلا يمكن فَهم قداستها وتمجيدها بعيدًا عن المسيح المتجسد، ففي تكريمنا لها مراجعة لكافة أحداث الخلاص بصفتنا مشاركين لا مشاهدين، نرقىَ إلى كرامة شهود عيان لتاريخ الخلاص، شهود يعاينون حياة المسيح عيانًا... هذه كلها حرص عليها الشاعر القبطي في وضع الثيؤطوكيات لتكون لنا نسيج قماشة التسبيح الذي لا يَعرف التقسيم العقلي الذي ساد مدارس اللاهوت في فصل التجسد عن الصليب والقيامة وأسرار الكنيسة... إنها أوبرا إلهية وسيمفونيات ومدخل إدراك الخلاص الذي يتحقق الآن في عبادة الكنيسة، فيتعظم مجد مريم وتطوِّبها الشعوب. القمص أثناسيوس چورچ كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
08 ديسمبر 2018

النَّهْضَةُ الليتوُرچيَّة والتَسْبِحَةُ الكِيَهْكِيَّةُ

تعيش الكنيسة القبطية نهضة ليتورچية كبيرة في التسبيح. يتشارك فيها عشرات الآلاف من العابدين الساهرين المسبِّحين من الشعب البار الحافظ الأمانة، في ظاهرة تَقَوية رائعة تمتد عبر الزمان... فتراث كنيستنا الليتورچي موسوم بمذاقة الخبرة الروحانية التي لا تبدأ بالمفاهيم والنظريات بل بالتذوق الكياني والخبرة كنيسة مسبِّحة مرنمة، كنيسة العيش واختبار الفرح الذي يعلنه صديق العريس. الفرح الكائن بذاته كالهواء الصافي في ضوء الشمس. الفرح المعطىَ مقدمًا للجميع، الفرح الهائل الفريد الكائن في التجسد الإلهي. الفرح الذي هو (سيمفونية) المعنى (للحاجة إلى واحد)... هذا الفرح والتسبيح والتمجيد لاستقبال مخلص العالم مشتهىَ كل الأجيال الكائن معنا (هيبّي إفكي نيمان) هذا وترتب الكنيسة السهرات الكيهكية، ضمن خدمة إيقاعية مرافقة لسير الزمن حسب الطقس الكنسي، حيث نعيش سر التجسد حاضرًا ونحياه الآن في الكنيسة، فتذوب حياتنا في حياة صلاة الكنيسة المجتمعة، ويتناغم صوتنا الضعيف مع صوت الكنيسة الواحدة كلها، ويكبُر بانضمامنا لجموع المؤمنين عبر الأجيال كشهود عيان لتاريخ الخلاص، نعاينه عيانًا كرسم للأبدية في الزمن (ضمن الزمن دون أن يكون منه)... وبالتسبيح الأصيل والانجماع (قم انهض يا مسكين وإلبس ثوب اليقين...) تصير العبادة حلوة في حناجرنا أكثر من العسل، وتتجمع فينا الحواس بيقظة (نفسي وعقلي ارفعهما إلى السماء). ونتنبَّه إلى عمق معاني النص المقدس لسر التدبير، بالتأمل المتواتر في الهوسات الأربعة والثيؤطوكيات والإبصاليات والمدائح والطروحات والتفاسير، فتصير لنا زادًا روحيًا نتلمّس من خلاله إعلانات الله ومواعيده عن مجيء المخلص في ملء الزمان ليردنا مرة أخرى إلى الفردوس ويهبنا العتق من الفساد.تبتدرنا تسبحة كيهك بالتسبيح لله صاحب المبادرة الخلاصية الذي سعى ليجتذبنا إليه، وأخذ الذي لنا ليعطينا الذي له... عبر أنبيائه القديسين الذي تعهدنا بهم، وصولاً إلى البشارة بولادة يوحنا المعمدان صديق العريس ليهيء الطريق قدامه، ثم البشارة المفرحة ﻟ (م ر ي م) فخر الرتب، وزيارتها لإليصابات، ثم حدث الميلاد البتولي والطلقات الروحانية والعجب العُجاب كقول الأنبياء... فنهتف بفهم مع القوات العلوية وتمتلئ السماء والأرض بمجد الأعالي، وبالسلام على الأرض، وبمسرة الناس، حيث يجتمع الجميع معًا: العلويون والأرضيون، الذين في السماء مع الذين على الأرض، قطيعًا واحدًا في تسبيح الغلبة والخلاص (الهوس الأول)، وتسبيح الشكر للرب لأنه صالح، وإلى الأبد رحمته (الهوس الثاني)، وهو حاضر معنا وسط أتون برية العالم (الهوس الثالث)، ونسبحه مع كل نسمة ومع خليقته وجميع قديسيه (الهوس الرابع). وتهدف الكنيسة عبر برنامجها أن تُعدّنا لنعيِّد لحياتنا ولخلاصنا الأبدي، لا لتذكار أو ذكرَى، لكن لقبول مسيح المذود الحي الحقيقي... نرى ونشهد ونُخبر بالحياة التي اُظهرت لنا، وللمولود الإلهي الذي وُلد لنا، واستَعلن نفسه حاضرًا دائمًا معنا... حيث التسبيح المتوازي والمتبادَل مع تعابير المجد اللائق لعمانوئيل الذي تفسيره الله معنا، والذي صار لنا تسبحة دائمة في أفواهنا، نسبحه باحتراص ربوات مضاعفة وفي الشهر المريمي يقترن صوم الميلاد بالتسبيح والتهيئة لعيد الميلاد والإبيفانيا والأوكتاف بعد أربعين يومًا في عيد الختان، حيث يلتحم الصوم باللحن الكيهكي، كمصدر فرح روحاني لاستقبال كنز خلاصنا في المسيح، الذي هو ثمين وغالٍ جدًا ومتعدد المفاعيل. سرٌ لا يمكن فض ختومه أو إدراكه بكلمات بشرية، لذا نوقره بذبيحة تسبيحنا ثمار شفاهنا، فلا شيء يساوي معجزة خلاصنا وتقديسنا ومصالحتنا وتجديد خلقتنا واستعادة بنوّتنا بالواحد من الثالوث نهضتنا الليتورجية مصدر القوة الإلهية لحياتنا الروحية وانعكاس للشهادات النبوية ولرسالة الإنجيل وتفسيرات آباء الكنيسة... عندما نقف أمام تدبير الله الخفي الذي استُعلن لنا في تجسد الكلمة لتستودعه الكنيسة (سر جسده) والتي لا زالت تحيا انتظاره وآية حضوره الدائم فيها، وإعلان بشارته الخلاصية التي رفعت بشريتنا إلى السماء، حتى لا نحيا بأنفسنا بل بروحه القدوس. فبيت لحم هو بابنا المفتوح عبر طريق الجلجثة للحياة مع الله أو بالحري لحياة الله معنا، وكما تفرح العروس بعريسها، هكذا تفرح الكنيسة بربها وتُشرك معها الخليقة كلها في تسبيح الشكر لإله يعقوب في الكنيسة خيمة العجائب نتقدم في سبل البر عبر (مجرىَ) خلاص الله في التاريخ وحضوره فينا، فنتلذذ بالقدير وتجتذبنا أنوار بيت لحم، وتسبيح أصوات الملائكة لنعيش سنة الرب مستترين مع المسيح، مُحضرين هدايانا مع المجوس والرعاة للذي حل بيننا ونصب خيمته في وسطنا ورأينا مجده وأسس التدبير بالنعمة التي لتدبير الخلاص المعطىَ لنا من الآب والابن والروح القدس... معلنين العقيدة الخلاصية للثالوث التي هي رأس وأصل ومحتوىَ إيماننا وخلاصنا، والذي عليه تأسست الكنيسة (قلبي ولساني يسبحان الثالوث، أيها الثالوث القدوس ارحمنا) إنها عبادة تحقق الوحدة بين الزمان الماضي والزمان الحاضر، أي بين الإعلان الإلهي وحاضر الكنيسة، وبلغة الليتورچية القبطية بين (كما كان) وبين (هكذا يكون)، من جيل إلى جيل وإلى دهر الدهور... وهكذا ننتقل بالتسبيح والتمجيد والبركات من التاريخ إلى الحاضر، الآن وهنا، فالبشارة والحبل الإلهي تصير فعلاً مضارعًا تامًا في حياة الكنيسة الآن!!!ننتظر ونترقب ونشتاق لمسيحنا الذي تهللت كل الأمم بمجيئه عبر ليالي التسبيح، ويختمر فينا الوعي عبر الألحان والمدائح والشروحات والتطويب وترانيم الخلاص وتحقيق المواعيد... متجاوبين مع صدىَ النبوات والرموز والتشبيهات وصلوات الآباء. كذلك لا شك أن هذا التسبيح يخلصنا من الفردية والعُزلة والأتعاب النفسانية، ويوحِّدنا مع الكنيسة، فنتجاوز أوجاعنا البيولوجية وآلام زماننا الحاضر، ونعيش كعائلة سماوية مع مجمع المقدسين والأبرار المكمَّلين الفعَلة الأمناء، ومع محفل الملائكة، متأصلين في سماء اللاهوت وعبادة الكلمة المتجسد، الذي به وحده نكون أعظم من منتصرين، وفيه مركز الكون الذي يطلب وجه رحمته إنها نهضة ليتورچية ورحلة روحية نتلمس فيها البشارة والفرح العظيم والرؤىَ مع زكريا الكاهن وإليصابات ومع يوسف النجار حارس الميلاد البتولي، ونتلمّس الإيمان والصمت والسجود والابتهاج وحلول الروح القدس، وبخور يمين المذبح، وحضور جبرائيل الواقف قدام الله، وتسبحة عظائم القدير التي لسيدتنا وملكتنا العذراء كل حين. فليعِد الله علينا هذه الأيام بسِمة الفرح والثقة الغالبة على الملتصقين به، وليقبل ويكمل أعمال يديه، وليرفع عنا الأتعاب ويقرر لنا سلامه. القمص أثناسيوس چورچ كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
01 سبتمبر 2018

نِهَايَةُ المُضْطَهِدِينَ

كتبَ العلّامة "لاكتانتيوس" (٣٢٠م) كتابًا شهيرًا عن "موت المضطهِدين" وكيف كانت نهايتهم ومصيرهم... عرض الكاتب النتائج الرهيبة للغضب الإلهي في معاقبة المضطهِدين وما آلت إليه نهايتهم المروِّعة، ويأتي هذا الكتاب وكأنه شريط سينمائي يعرض أمام عيون المتفرجين عبر التاريخ واصفًا الاضطهادات وصفًا حيًا عبر الواقع من حيث بشاعتها ودمويتها، ثم ينتقل إلى عار الازدراء الأبدي والنهايات التي حلت على هؤلاء الطغاة المضطهِدين. وقد أتى هذا الكتاب كمصدر لشاهد عيان استقىَ معلوماته ووثَّقها من مصادرها الأولية، كوثيقة تاريخية لعصور الاضطهاد التي صاحبت انتشار المسيحية في باكورات بداياتها وتصويرًا حيًا للَمَعان الإيمان وسط الشدة والألم. إضافة إلى توثيق العقاب الإلهي الذي لحق بالأباطرة الذين أمعنوا في شرهم، وقد أتى الكتاب في جملته تمجيدًا لإسم الله الذي وعد بالنقمة والمجازاة، فقد مات المضطهدون شَرّ مِيتة:- 1- نيرون، انتحر في الثانية والثلاثين من عمره ولا يُعرف له قبر. 2- دومتيان، قُتل وهو على عرشه بعد أن سلمه الله لأيدي أعدائه وشُهّر به. 3- ديسيوس، ذُبح هو وابنه، ونهشت الوحوش جسده. 4- ڤاليريان، أُخذ في الأسر وقضى حياته مسجونًا أسيرًا. 5- أوريليان، ذُبح بيد حاشيته وجنوده. 6- دقلديانوس، أُصيب بلوسة عقلية، فعُزل بعد أن جُنّ. 7- مكسيميانوس، شنق نفسه منتحرًا. 8- جالزيوس، ضُرب بالقروح البشعة، وأخذ الدود يأكل جسمه. 9- يوليانوس، مات مقتولاً برمح في جنبه على أيدي جنوده. لقد سجل التاريخ على أيدي هؤلاء المضطهِدين صراعًا وهلاكًا وإبادة جماعية ضد المسيحية في صراع غير متكافئ، صراع بين السيف والصليب، بين الذئاب والحملان، حتى صارت الغلبة التي نغلب بها العالم "إيماننا" (١يو ٥:٤) وتعمدت الكنيسة كلها في بحر من الدماء المقدسة وولدَت العالم المسيحي.إن جريمة المسيحيين أمام هؤلاء المضطهدين الطغاة هي أنهم يؤمنون بما لا يؤمنون به، وفي أنهم رفضوا تقديم القرابين لآلهتهم مع رفضهم كل ممارسة تخالف إيمانهم وعقيدتهم. بالإضافة إلى حنق الرعاع عليهم وإشاعتهم للشكوك والوشايات والاتهامات ضدهم، والتي ظلت مجرد اتهامات مُرسَلة وافتراءات بلا دليل أو إثبات، مما صعَّد إجراءات القمع والاستئصال والإقصاء ضدهم بكل صوره، واستمرت العداوة ومحاولات اقتلاعهم ومَحْوهم، ماداموا لا يريدون السجود ولا يؤدون الفروض... كذلك وصف "لاكتانتيوس" أعمال الحنق والحقد التي ذاقوها وكتابات الازدراء وركوب موجة الحملات المسعورة ضد كل ما هو مسيحي، والتي كان لها تأثيرها المحرك لموجات الهمجية والضراوة التي عانوها، تارة من الحكام الظالمين وتارة من المَوْتورين والرعاع، وتارة من الجانبين معًا، فتلاحقت الهجمات لكن ازدادت معها المعرفة والتعزية والصبر والأمانة والتقوى العملية... أما عن كيفية ذلك فهو متروك لكل مؤمن في جهاده وقبوله للنعمة وسلوكه بحسب دعوة ونذور المعمودية، وها أيقونة السيد المسيح موضوعة حسب الطقس الكنسي جالسًا على عرش مجده في شرقية الهيكل بكل كنيسة، لأنه غلب وجلس وحَكَمَ، وسيأتي ليدين الجميع.لا شيء أعظم من الاستشهاد لأن عظمته نابعة من الدم والنار والعذاب والنفي وصراع الحرب مع التنين، مقابل الإيمان الحي وأنصبة المجد والوعود الصادقة، وكيف أن المسيح نفسه هو في شهدائه يحمل الألم عنهم ويمنحهم قوة وثباتًا، فصاروا باسلين أمام التنكيل المفرط والتشويه والكدمات والأجساد المثخنة بالجراح... وكم من الأعاجيب والرؤىَ والأحلام والإلهامات صاحبت حلقات الاضطهاد في كنيسة القرون الأولى، فسِرّ الصليب لا بُد أن يكون متبوعًا بنصرة القيامة في كل هذه النفوس التي لا يُحصَى عددها من كل طبقات الشعب. والله المتعجَب منه كل حين متألم ومنتصر في قديسيه (٢تس ١٠:١) وهو دائمًا هو، كما في الماضي هكذا في الحاضر، هو الذي يتحمل آلامنا ويحملنا وهو المُغطّىَ بالجروح لأجلنا، وهو الذي يتحمل فينا الآلام وكلمات الازدراء، وهو فينا مُبغَض بواسطة العالم.لكن المضطهِدين جميعهم سقطوا أو خُلعوا وهلكوا وذهبوا كالعصافة التي تذريها الريح، وتمت فيهم الأقوال الإلهية:- قد رأيت الشرير عاتيًا وارفًا مثل شجرة شارقة ناضرة، لكنه عبر فإذا هو ليس بموجود (مز ٣٥:٣٧) فقد ذرَّته العاصفة كالقش واقتلعته إلى الجحيم... وإن كانت حلقات التاريخ مستمرة فالكنيسة باقية ضد رئيس سلطان الظلمة وضد بابل أم الزواني التي سكرت من دم شهداء المسيح القديسين.ويقول العلامة "لاكتانتيوس" لا يمكن فرض الدين بالقوة لأن الله لا يُعبد بالقهر والعنف، لكن بالقبول واقتناع الإرادة، فالتعذيب والإكراه على طرفي نقيض مع التقوى والإيمان، ومن المستحيل أن ينسجم الحق الإلهي مع العنف والمظالم... ولا يوجد شيء مرتبط بالإرادة الحُرة أكثر من العقيدة، لذلك صارت المسيحية مقنعة ببرهانها وبسيرتها، بعد أن كان لا يحِقّ للمسيحي أن يوجد!! بينما آخرة المضطهدين صارت إلى شَرّ نهاية القمص أثناسيوس چورچ
المزيد
18 يناير 2019

لقَّانُ عِيدِ الغِطَاسِ

في عيد الغطاس نصلي ليتورچيا اللقان لأننا أخذنا التجديد في المعمودية كعُربون حتى نصل بالجهاد والنعمة إلى التجديد التام بصناعة أعمال تليق بالتوبة... فعندما نقف أمام اللقان نتذكر مياه معموديتنا ونذرها في يوم معمودية الرب بنهر الأردن... إستنارةً وضياءً وحالة سوية وقدس أقداس وبهاءً للنفوس؛ فلا نعود لنحمل من جديد نير العبودية؛ بل نثبت في الحرية؛ حرية البنين بممارسة الوصايا. ننظر إلى ليتورچيا لقان عيد الأنوار ونعاين الظهور الإلهي؛ مُصلين لتقديس المياة وبركتها لمسيرة تجديدنا الروحي؛ الذي لن يتم فقط بالمعمودية؛ بل بالعكوف أيضًا على تكميل الوصايا التي يتعين علينا تتميمها بخوف ورعدة... لأن كمال المعمودية يحصل بواسطة الجهاد الروحي وأعمال الحرية التي تليق برتية البنين؛ باذلين كل اجتهاد لنجعل من غير المنظور منظورًا؛ فالذي ليس عنده هذه هو أعمى قصير البصر قد نسي تطهير خطاياه السالفة (٢بط ١ : ٩). وبالإمعان في نص قداس اللقان الليتورچي وتعابيره وقراءاته وألحانه وطقسه؛ نرى ذاك الذي بسط النعمة في ذلك اليوم وأظهر لاهوته بالتعميد؛ وهو يكمل كل بر لأجلنا ولأجل خلاصنا... كي يُهدينا إلى ملكوته حيث نهر الحياة الصافي كالبلور؛ المنبثق من عرش الله والحمَل من أجل شفائنا وشفاء الأمم (رؤ ٢٢ : ٢)، وكلما ندخل إلى عمق التقديس الليتورچي ننهل من اليُنبوع الممتد في جمال العبادة التي تربط ما هو إلهي بما هو بَشَري... من الشخص الأعمق إلى الجماعي المتحد بطاقة نهر الحياة؛ حيث تتحد الليتورچيا بالحياة وتتوحد في سينرچية Συνεργεία للروح والكنيسة عبر المناسبة الطقسية. نتمتع بالآنية الدائمة أو ما يسميه الدارسون (التأوين) بحيث نعيش الآن وهنا عند نهر الأردن أمام فسقية اللقان في لقاء وإلتقاء عميق؛ ويكون حضورنا القداس من أجل التقديس، وهو ما نعترف به كقانون لعضويتنا مع قديسي الكنيسة؛ عندما نردد في ختام القداس (واحد هو الآب القدوس؛ واحد هو الابن القدوس؛ واحد هو الروح القدس) لأن هذا الماء لا يُعطىَ إلا للقديسين (القُدُسات للقديسين)، ونحن بإتحادنا بالقدوس نصير قديسين فيه وبه... لأنه أعطانا نعمة وعطية ومسحة وإستنارة ووشاحًا للخلود ومغطس إعادة الولادة وختم الروح القدس الملوكي الفائق القيمة؛ والتي تأتينا نعمتها مجانية وواحدة للجميع. في النبوات وقراءات قطماروس اللقان نلمس الواقعية الروحية للحدث؛ خلال خدمة الكلمة والعبادة؛ بحيث يكون احتفالنا حيًا لا تفترق فيه الليتورچية عن الحياة. فقد وضع تقليد طقس القداس حَدَث معمودية الرب في بؤرة العبادة ليكون يُنبوعًا واحدًا لا يتغير، ماؤه حي دائم التجديد؛ نتذوق فيه حلاوة وعذوبة إنجيل الملكوت ورموز العبادة المُعاشة... حاضرة في ذاكرة الكنيسة حضورًا واقعيًا؛ في صورة كلية لأيقونة حدث الظهور الإلهي؛ والأعماق الخفية للتدبير... والتي بها فقط ندخل إلى اللاهوت الذي يظهر بديهيًا في الليتورچيا؛ وفيها فقط يمكن أن نحياه؛ لأنه يعبِّر عما لا يُعبَّر عنه، ويقدم الحدث بزَخَم كبير (صوت الآب بالسرور من السماء – الابن في نهر الأردن – الروح القدس بهيئة منظورة مجسَّمة كحمامة – ثم يوحنا المعمدان السابق الصابغ والشهيد). وهكذا بنزول المسيح في نهر الأردن وحلول الروح القدس وإعلان صوت الآب؛ المعبَّر عنه كنسيًا بعيد الإبيفانيا Επιφάνια أي ظهور الثالوث القدوس؛ تكون حقيقة تدشين أول معمودية على الأرض على اسم الثالوث... وهنا نقف نقدم عبادتنا وكأننا في برج إلهي نتحصن ونتذكر مرتبتنا كأحرار وكأبناء وكورثة؛ كي لا نحتقر العطايا السماوية؛ بل نصير ذبائح روحية مقدَّمة على المذبح المقدس الناطق السمائي... نتاجر بالوزنة ولا نطمُرها شاكرين الجَميل الإلهي؛ عاملين حسب معطيات ومقتضيات الموهبة التي تقبلناها؛ مكرِّمين نعمة خلود المعمودية التي وضعت وسكبت في باطننا أنهار الماء الحي... لم نعُد أرضًا قفرةً فيما بعد؛ لأن الرب بصليبه فجَّر فينا ينابيع روحه القدوس وروى أرضنا لتفيض بالشهادة له في كل موضع. مسيحنا هو النهر الأصلي الذي يصبّ في أرضنا أنهارًا هي ثمرة عمله فينا، وكل الأنهار تشهد للنهر الأصلي الحقيقي؛ تسبحه لا بالكلام وإنما بالأعمال وبتصفيق الأيادي؛ لأنه يطلب أفعالنا وأعمالنا وليس أصواتنا فقط... تتدفق فينا نعمته كمياة بلا حدود؛ فيعود ويتطلَّع لكنيسته؛ مُعلنًا أنه يمنحها إمكانيات جديدة على الدوام؛ يتعهدها بالخصب والنماء لتعود مراعيها دسمة مزروعة ومُثمرة؛ ومدنها عامرة مهيئة للسكنى لا كفردوس قديم مفقود بل فردوس حي وميراث إلهي ومياة جارية وأنهار حية وسواقي تُفرّح مدينة الله بالأعمال الصالحة والنافعة... التي تليق بالخراف الناطقة المقدسة المحفوظة في الحظيرة الإلهية - كنيسة الله؛ وبعمل المياة المقدسة التي تطهرنا من الخطايا وتجعلنا حاملين ثمر شركة الطبيعة الإلهية؛ لنحصد نصيب المؤمن (أي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن) "٢كو ٦ : ١٥). ونبدأ في قداس اللقان بعد صلاة الشكر والقراءات الكتابية؛ نذوق المعرفة الكاملة بالعبادة وعُربون كلمة الوعظ التي تصوِّرنا وتُشكِّلنا بحسب المثال الإلهي؛ بتجديد الذهن بالروح الذي يوسِم داخلنا الملامح الإلهية إلى أن تكمُل في نفوسنا بذور التشكُّل بالمسيح وصورة المخلص الذي ضبط الخليقة بعزته؛ ودبر العالم بعنايته؛ وأبدع الخليقة من العناصر الأربعة؛ وكلل دور السنة بالأربعة أزمنة؛ وأخرجنا من العدم إلى الوجود وأنهضنا من سقطاتنا ووهب لنا ملكوته وأحساناته وجعل الخليقة كلها تطيعه وتسبحه وتخافه وتتعبد له... بسط السماء وثبت الأرض وحصن البحر وأفاض الهواء وجدد طبيعتنا بالماء والروح؛ وأغرق الخطية أسفل الماء؛ وأعطانا موهبة المعمودية التي هي بالنسبة لنا (زرع الله فينا) زرعًا لا يفنىَ ليس من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل؛ لكن بكلمة الله الحية الباقية. ويطلب الكاهن الرحمة (اللهم ارحمنا) رافعًا الصليب بالثلاثة شمعات؛ لأن خلاصنا ورحمتنا مقررة بفعل الثالوث القدوس... نصلي جميعًا طالبين المراحم؛ عشرة بل ومئة كيرياليسون من الله الذي خلقنا واعتمد لأجلنا؛ ليس مقابل ثمن ولا إيفاء لشيء؛ بل كهبة محبة خالصة منه... ممجدين أعماله التي تفوق الحصر ونقبل تجديدنا وتوبتنا وشفاءنا الذي يزودنا هو به بمحبته للبشر التي لا حدود لها؛ وببركة مياة اللقان التي تقدست بالصلاة والرشومات؛ عابرين الأردن الحقيقي بفرح الخلاص والمجد والنور المعطىَ لنا. شاكرين وحيد الجنس رئيس كهنتنا الذي رُسم في هذه الرتبة بقرار من الآب، وهو الابن الحبيب الذي سُر به أبوه؛ والذي اشترك في المشي مع الناس ووقف معهم ليعتمد؛ ونزل إلى حقارتنا ووضاعتنا وأخذ شكل العبد ووضع ذاته لأجلنا، فندرك مقاصده وتدبيره الذي بسطه علينا ونسلك حسب تدبير الحياة الجديدة؛ قلبًا لحميًا وروحًا جديدًا. إن كل مَن يتمعن في خدمة لقان عيد الغطاس يشعر بما هو أعمق من مجرد الطقس؛ ويلمس عطشه الدائم لمياة الحياة المُفاضة للنقاوة ولعمل روح الله الذي يرفّ على وجه غمر حياتنا؛ وكأننا في خلق جديد ويقظة للكون... نحيا عند النبع؛ نترك العتيق والأوحال ونقتني قطرات المياة التي تحمل الروح القدس لكل منا؛ والتي تنضح علينا بالبركة وبها ترتوي الخليقة؛ فلم يعُد هذا الماء ماءًا عاديًا (ساذجًا) لكنه أصبح حاملًا لنعمة القداسة... فليس طقسنا شكلاً أو مجرد ممارسة بلا مضمون؛ لكنه عمل تقديس لطبيعة المياة؛ يجعلها حاملة الحياة الجديدة؛ وهو توظيف للماء على نحو تقديسي. وروح الله منشئ الخليقة الذي رفّ على وجه الغمر في سفر التكوين يبارك ويقدس المياة؛ ويجعلها بركة ونعمة لتقديس البشر والحجَر؛ فهي أولاً لتقديسنا ثم لبركة بيوتنا؛ كي تصير ببركتها وبسيرتنا بيوت صلاة؛ بيوت طهارة؛ بيوت بركة، كنائس بيتية تشهد للمسيح في العالم إمتدادًا للكنيسة (ككنائس للسيد الرب) نحتفظ فيها بماء اللقان لمنفعتنا الروحية؛ ونأخذه معنا لبيوتنا كي ننقل ما يجري في خدمة اللقان إلى حياتنا وبيوتنا؛ إذ أن عبادتنا يكمل معناها في دوامها وفي عيشها باستمرار بلا إنفصام ولا إنفصال ولا إفتعال؛ حياتنا إمتدادًا لخِدَمنا الطقسية؛ وبيوتنا هياكل مقدسة للسيد تتجه نحو المسيح مشرقها وشمسها... ونحن الساكنون فيها مغروسون بإيمان الله على مجاري المياة؛ نعطي ثمرًا في أوانه وورقنا لا يذبل وكل ما نصنعه ننجح فيه. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
15 سبتمبر 2018

التَّقوِيمُ الكَنَسِيُّ القِبْطِيُّ

عيد النيروز هو بداية أعياد الكنيسة القبطية وإعلان بدأ تتابعها البهيج، وبدأ السنة الطقسية الليتورچية. اتخذت الكنيسة من تذكار الشهداء بدأ تقويمها المعروف بتقويم الشهداء، وهو التقويم الذي اتخذ من سنة اعتلاء الطاغية دقلديانوس عرش الامبراطورية بداية له، تخليدًا لشهداء الكنيسة القبطية الذين حفظوا الإيمان ولم يحبوا حياتهم حتى الموت في سبيل الحفاظ عليه. وكلمة نيروز هي فارسية الأصل وتعني اليوم الجديد، وعيد النيروز هو بداية التقويم الكنسي ووضع الأچندة الطقسية الليتورچية، والتي وفقًا لها يتم ترتيب وضبط الدورات الطقسية كي تكون السنة - كل سنة – مقبولة... سنة للرب، فتقويمنا مرتبط بخلاصنا ومستقبلنا الأبدي، ليس كعودة إلى الماضي، بل كحياة حاضرة نحياها معاشة الآن. وفلسفة التقويم القبطي تجعل من شخص ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح محور الزمن، وهو الذي يجعل للتاريخ معنىً، هو بدايته ووسطه ومحتواه وغايته ونهايته المطلَقة، فتاريخنا وتقويمنا يعتمد على عهد الله الخلاصي وعلى عمل نعمته. فالأقباط هم أول من قسَّم الزمن وأرَّخ للسنين، بعد أن برعوا في دراسة العلوم الفلكية التي تميز بها الفراعنة. وقد جاء حساب الأبقطي لتحديد عيد الفصح وفقًا لجداول فلكية قننها البطريرك "البابا ديمتريوس الكرام"، ثم وُضعت الأعياد والمناسبات والتذكارات في أطُر التقويم، لتكون شهادة مستمرة ودائمة بأن عمانوئيل إلهنا معنا إلى انقضاء الدهر، عمانوئيل اسمه النبوي، ويسوع اسم تجسده، والمسيح اسم عمله الخلاصي، وأعمال تدابيره الخلاصية من أجل خلاصنا هي فعل حاضر ودائم ومستمر في الكنيسة، لأن كل عيد في الكنيسة شاهد لهذا الفعل الإلهي الخلاصي. فالعيد في الكنيسة يأتي في التقويم لا كذكرَى لحدث أو تكرار له، بل هو شهادة لفعل دائم ولحياة خلاص أبدي، كذلك تكريم الشهداء وأبرار الكنيسة هو شركتنا ووحدتنا معهم رزقنا الله صلواتهم. تقويمنا القبطي في عمقه يوحِّد ما يجزِّئه الزمان وما ينساه أو يتجاهله التاريخ، فيوقِّع التقويم تاريخ خلاصنا حاضرًا ومتجهًا للأبدية، مدموجًا وحيًا طول الأيام ومدى السنين وإلى الانقضاء... لأن (المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد) تتبارك السنة بجوده وآثاره تقطر دسمًا، حاضرًا في حياتنا وأيامنا وشهورنا وسنينا وأعمارنا... فنلمس معاصرة السيد الرب الإله لنا، حاضرًا في وسطنا ونحن نتبعه بكل قلوبنا ونسير معه مقتفين الطريق... إنها ليست مجرد وصية خُلُقية لكنها مسيرة تتضمن تطابقًا كيانيًا بين الأعضاء والرأس. إنه تحقيق الكنيسة كحقيقة الملء النامي، مجتمعة في المسيح المخلص، حيث نحصل على الغنىَ والشبع والسرور في عزم واحد وانسجام سر الوحدة الإلهية، ونشهد لمقاصد الله الفادية ونرسمها في كل أطوار تحقيقها التدريجي، على اعتبار أن العريس حاضر دائمًا، وإن كان غير منظور. نذوق جمال وفرح ملكوته وتدبيره الخلاصي الثمين (بشارته، ميلاده، ختانه، دخوله إلى الهيكل، عماده، صومه، تجربته على الجبل، تجلِّيه، دخوله إلى أورشليم، عشاؤه السري، تسليمه، آلامه وصليبه، دفنه، نزوله إلى الجحيم، قيامته، ظهوره ببراهين لا تُقاوَم، صعوده، حلول روحه القدوس...). التقويم يحقق عمليًا حقيقة أن الخليقة الجديدة واقع في الزمن، تتحقق عمليًا عبر المناسبات والأعياد والتذكارات الليتورچية... حيث يتجدد العالم والزمن، وتصير مسيرتنا خَطّية مستمرة ممتدة نحو المجيء وانقضاء الزمان، إنه زمن الخلاص والخبرة التعبُّدية الكنسية (الآن) في معايشة وصيرورة حاضرة لأحداث التدبير الإلهي. إن أبعاد الزمن الثلاثة تتوحد في تقويمنا لتكون حاضرة ومتحركة إلى الأمام، زمن الله... زمن مقدس... زمن الكنيسة... زمن الخلاص... حيث يتحول الزمن المادي والسنة الزمنية إلى سنة روحية مقبولة، نبدأها بالطلبة إلى الله كي يبارك إكليل السنة بصلاحه، وأن يصوِّر في نفوسنا جمال صورته، وهو الذي يهدينا إلى استقامته بالروح المدبر، لأن قوة الله هي سلاح عظيم لضعفنا... ونحن نطلب من صلاحك يا رب أن تسترنا، وأن تنجي نفوس عبيدك، وأن تُنعم علينا بالسلامة التي من السموات، وأن تملانا من رضاك ومن مواهبك الإلهية لنُثمر ثمارًا مقبولة أمامك في يوم الخلاص. القمص أثناسيوس چورچ كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
06 أكتوبر 2018

الشماس نبيه نصر المؤرخ الكنسي

(من رواد مدارس احد اسكندرية) التحق بالكلية الاكليريكية سنة ١٩٣٥م ، وعمل مدرساً بأكليريكية القاهرة فى ١٩٣٩م وتثقف بعلوم الفلسفة والادب والتاريخ والصحافة ، حتى اتي و ترقى بالاسكندرية عام ١٩٦٩م ليعمل رئيساً لقسم الاحصاء وموجه لمادة التربية الدينية المسيحية لمحافظة اسكندرية . ثم تفرغ للخدمة بها وللتعليم الكنسي والكتابة . مستلهماً روح معلمه ومعلم الاجيال القديس حبيب جرجس الذى اختاره بنفسه ليكون مدرساً لاكليريكية القاهرة ، وعمره لا يزال بعد ٢٢سنة . تتلمذ على يد القمص سرجيوس الواعظ والخطيب الوطنى لثورة ١٩١٩م فتشرب منه الدفاعيات والفصاحة والمحاجاة وفنون الاقناع . ثم التحق بالاكليريكية فى عهد البابا كيرلس الخامس ، وهناك تعلم كنوز نفيسة من اساتذتها : القمص ابراهيم عطية والمتنيح القمص قسطنطين موسى والمتنيح انبا ديسقورس اسقف المنوفية ، والعلامة يسى عبد المسيح وتكلا رزق وسمعان سليدس وبقطر شحاته . فهؤلاء جميعاً صاروا له نماذج ينهل منها العلم وخبرة التقوي الروحية . اختاره الارشيدياكون حبيب جرجس ليكون مدرساً فى الاكليريكية ، وذلك لتميزه بالاخلاق والسلوك المسيحى ودفاعه الغيور عن الايمان الارثوذكسى السليم ، ثم خدم فى فروع مدارس الاحد ، وكان يدافع بقوة عن العقيدة الارثوذكسية . فعندما اتى للعمل فى الاسكندرية اهتم جداً بتدريس العقيدة ؛ وتاريخ المجامع المسكونية ؛ والرد علي البدع والهرطقات . في عظات شفاهية تارة ؛ وعظات مكتوبة في مدونات تارة اخري . وضع في عام ١٩٥٢ م كتابه الشهير "لوثر مبتدع البروتستانتيه" ، واجتهد كمعلمه حبيب جرجس من اجل عمل خدمة تعليمية غيوره وسط اجواء جهل وفساد وظلمة . سائراً على خطاه فى التدريس والتعليم بالمنبر والصحافة والكتابة والترجمة والدفاع ومناهج التربية الكنسية حسب شعار نشيد مدارس الاحد "نحن جند للمسيح فى مدارس الاحد" . بالتدريب : والارشاد :والتربية : والتفاعل الاجتماعي ؛ لاقتناء الفضيلة ؛ علي اعتبار ان التربية المسيحية السليمة تقود الي السماء ؛ حسب تعليم الاباء القديسين الملهمين من الله . اشتهر الخادم نبيه نصر بتفوقه فى فقة اللغة العربية لذلك اسندوا اليه تدريسها لطلبة الاكليريكية . مواظباً على الاطلاع والمعرفة وتدوين السير وشرح العقيدة القويمة ..كذلك كان ايضا يجيد اللغتيين الانجليزية والفرنسية ، فقام بترجمة كتب القديسين على خطى معلمه حبيب جرجس والدكتور عزيز سوريال ورشدي السيسي . كذلك لم يتوقف علمه الغزير ومعرفته عند الكلمات ، لكنه كان مشهودا له بالقدوة ؛ وبالمواظبة علي وليمة القداس الالهي ونوال الزاد السماوي ؛ وكثيرا ماكان يردد ( القداديس الالهية تحل القيود الحديدية ).. وديعاً ومحباً لخدمة اخوة الرب ولافتقاد القرى المجاورة حيث كان يجول يصنع خيراً حتى يسلم الجيل لجيل المستقبل . بصلاة الاختلاء وصلاة الامتلاء وصلاة الانطلاق لكنيسة الابدية . اهتم جداً بكتاب السنكسار الكنسى وبسير القديسين وبالتاريخ القبطى وبالدفاعيات ، لذلك وصفه المتنيح البابا شنودة الثالث قائلاً : """ عم نصر ارثوذكسى غيور جداً على الكنيسة الارثوذكسية ، وانا اتصور ان لحظة خروج روحه من الجسد استقبلته ارواح القديسين الذى عاشرهم واحبهم وكتب سيرهم "". ترك الشماس نبيه نصر للكنيسة القبطية ذخيرة من التعليم ؛ فتنوعت كتاباته لتدور حول الشريعة والتاريخ والوعى بالمعوقات التي تشوه الارثوذكسية ، كذلك كتب حوالى ( ١٤ ) كتاب عن سير بطاركة الكنيسة الباباوات ال ٢٤-٢٢ - ٣٩ - ٤٠ - ٤٢ - ٤٨ - ٥٥ - ٦٦ - ٨٧ - ١٠٢ - ١٠٧ - ١٠٨ - ١٠٩ - ١١٢ . كما كتب حوالى ٣٧ كتاب فى سير القديسين والقديسات . خدم التربية الكنسية فى كنائس رمل الاسكندرية ( المرقسية الكبري - مارجرجس الشاطبي - مارجرجس سبورتنج - مارمينا فلمنج - مارجرجس باكوس - الانبا شنودة عزبة دنا ) ، وقدم تعليماً حياً فى الكلية الاكليريكية وفي التعليم الدينى بالمدارس الثانوية ، حتى تنيح بسلام فى ٢٠٠١/٦/٥ م بعد جهاد كان فيه تقواه هي المحبة ودنياه هى الاشواك والالام ، كخادم بلا كهنوت وبلا رتبة ؛ شاهداً للمسيح فى العالم ببره ، لان القداسة ليست حكراً على احد ولا علي وظيفة او رتبة ، لكنها دعوة لكل من يستجيب ويقبل ويعمل ويعلم ؛ ناظرا الي الجعالة العليا . .. فيدعى عظيماً ...من اجل هذا اثمرت خدمة مدارس الاحد اغصانا كغصنه ؛ مثمرة بالسيرة والمعرفة الارثوذكسية الحية والمختبرة بمحبة وعشرة مسيح الكنيسة وابائها وتراثها وتقليدها بالعمل والقول ؛ التي كان الخادم نبيه نصر ايقونة لها في تضميد الجراح واعمال الخير والتوزيع ؛ وخدمة الكلمة المكتوبة والمسموعة ؛ حتي انه عندما كلت عينيه وشاخ بصره ؛ كان تلاميذه ومحبيه يذهبون ليرافقوه الي حقول خدمته ؛ حتي الفلس والنفس الاخير ...كذلك قدم بيته ايقونة زاهية للنجاح فعلم ابنائه بالجسد صراحة الايمان العامل بالمحبة ؛ وقد حصلوا جميعهم علي درجات الدكتوراه ( د. اثناسيوس ، د. جوارجيوس ؛ د. فيبي ؛ ود. ماري ) ؛ ليعطي مثل الوكيل الصالح والامين .. فلولا حبيب جرجس وتلاميذه الذين كان نبيه نصر من بينهم ؛ ولولا خدمة مدارس الاحد ما كان كل ذلك كذلك . واليوم وجب علينا ان نذكرهم بالوفاء فى العيد المئوى لمدارس الاحد ؛ مع كل روادها الذين اسسوا وحملوا المسؤلية وطوروا وابدعوا وكملوا العمل ايجابياً بالمدينة المحبة للمسيح الاسكندرية ، حسب طبيعة الفصول وتكميل العناصر لتنمو المحاصيل وينضج الكروم وتتجمل الاشجار بالثمار وتتغطى الغابات بالاوراق والمروج بالازهار ؛ في كرمة الرب المشتهاه التي غرستها يمينه . القمص اثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج الأسكندرية
المزيد
14 ديسمبر 2018

صوم الميلاد

وضعت الكنيسة صوم الميلاد بقصد الاستعداد للقاء المسيح الرب الآتي لخلاصنا. ولتجديد الحياة الروحية حيث الصوم والصلاة والتسبيح والعطاء والتأمل يجعلوا من داخلنا مذوداً يُولد فيه المسيح المتجسد.... وهذا يتحقق إذا سعى كل واحد منّا بصدق أن يهيئ نفسه كما يليق مشتركاً مع الكنيسة ليفرح بالحدث الخلاصي المشترك . صوم الميلاد هو أن نتحضر بالتوبة وتبييض الثياب لاستقبال الملك المولود. نستقبله بزينة النفس فنذوق وننظر طِيبته ونرتل (المسيح وُلد فمجِّدوه واستقبِلوه). فهل ندرك أن صومنا هو إعداد وتحضير وتهيئة لاستقبال السيد في مذود قلوبنا؟؟ وهل يجد الله مكاناً في مذودنا ليستريح ويُولد فيه؟؟ إن إيماننا ليس مجرد معتقد أو أدب بل هو التزام مُعاش وحياة بإلهنا الذي تجسد في التاريخ. وكلَّمنا في أنبيائه القديسين وظهر لنا نحن الجلوس في الظلمة وظلال الموت بتجسده العجيب والمحيي... إن إيماننا ليس فرضيات لكنه واقع... ليس أفكاراً لكنه حدثٌ بدّل مجرى التاريخ عندما نظر الله لنا شيئاً أفضل. حتى لا نهمل خلاصاً كهذا مظهرين ثباتاً وأعمالاً وثماراً.إننا نصوم لاستقبال حضور الرب بالجسد وتأسيس كنيسته جسداً له عبر التاريخ. بعد أن كلم قديماً الأنبياء بأنواع وطرق شتى. كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة بإبنه الوحيد ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح... إننا نتهيأ من جديد في هذا الصوم ليولد فينا ويحل بيننا. لم يُنزّل لنا الله كتاباً مُنزّلاً لكنه أعطانا ذاته لنغتني بفدائه وخلاصه ورحمته وعشرته وأسراره الثمينة والعجيبة.... نتعرف عليه ونتّحد به لأن هذه هي قيمة الحياة وكرامتها. عمانوئيل إلهنا الكائن في وسطنا بمجده ومجد أبيه والروح القدس.... وهو إلى الأبد معنا الآن وكل أوان وإلى دهر الأدهار حسب وعده لكنيسته. ففيها نلقاه ونحيا معه لأنه مُسكن المتوحدين في بيت واحد. صومنا ينبهنا إن الميلاد ليس مجرد قصة ولادة ملك ملوك الأرض كلها بل هو دفع جديد لاتحادنا والتصاقنا به اليوم وغداً فقصة الميلاد شيء هام. والميلاد كتجسد دائم الأهمية.... ميلاد الكلمة المتجسد هو خلاص وحوار وصلاة ولقاء وتجاوب مستمر. هو نطق وعقل لذلك نحن لا نتصارع مع العالم بل نتحاور ونجاوب عن سبب الرجاء الذي فينا اليوم وبلُغة اليوم (وأنتم من تقولون إني أنا) وسط عالم متمركز حول الإنسان. متمرد على كل ما هو إلهي وبعيد عن خبرة الروح.... بينما شخص المسيح يقلِّب القديم ويلتصق اسمه بالجديد والجدة والتجديد. لقد جاء (لتكون الحياة لنا أفضل) في جدة النور والفرح والحق والعدل والحرية والسلطة. وليكون الأصغر كالأكبر والمتقدم كمثل الخادم. وليكون اللص اليمين أعظم من بيلاطس. وبطرس الصياد أعظم من أفلاطون. ويوحنا المعمدان أعظم من هيرودس. وبولس أقوى من نيرون. لأنه جاء ليرفع البائس والمسكين والفقير والمُزدرَى من مزابل هذه الدنيا وترتيباتها الطبقية مؤسساً ملكوتاً لا يتزعزع. ملكوتاً لا يضم المستكبرين ولا الشتامين ولا الظالمين ولا القتلة والطماعين. ملكوتاً لا يعرف العداوة والتمييز والعنصرية والشر إن كنا نصوم لنُعيّد عيد الميلاد بمجيء الله إلى الإنسان إنما بالأحرى نعيّد بعودتنا إليه. لقد جاء إلينا فكيف نحن نأتي إليه؟!!! فصومنا هو إعلان عن رغبتنا بالرجوع والعودة إليه. فلنستقبله لأنه تجسد على أرضنا ليرفعنا كخليقة مستعادة. وهذا العيد يخصنا. لذلك لم تعد السنين والتاريخ لنا مجرد أرقام بل حياة مقدسة مرتبطة بالذي تجسد لأجل خلاصنا مسيحنا المولود هو صاحب العيد. وصومنا كي نستقبله ويولد في مذود قلوبنا. إنه سيد التاريخ والحياة كلها. ولا فرح أثمن من استقباله كأعظم زائر نستمد منه ينبوع حياتنا ليخمّر عجين العالم كله بالفرح والمسرة. لنُشرِّع أبوابنا لنستقبله كي يبيت ويتعشى ويقيم ويصنع عندنا منزلاً. فالمغارة التي وُلد فيها هي كنسته. والمذود هو هيكله ويوسف النجار والرعاة والمجوس هم طغماته (الكهنة والشمامسة والخدام والشعب) والعذراء مريم هي عرشه وهو قربان العالم كله. أسقف نفوسنا وراعيها. إذ ليست كنيسته مؤسسة بشرية لكنها السماء على الأرض. ليت الله يعطينا عيوناً روحية أبهى من عين الجسد حتى نمتلك عيناً لا تقوى خشبة الخطية على أن تسقط فيها. لنبصر مخلصنا المولود لأجل خلاصنا . القمص أثناسيوس چورچ كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد
31 يناير 2019

الشهداء المعاصرون والسنكسار

حافظت كنيستنا على سيرة شهدائنا بوضع سيرتهم في السنكسار لتكريمهم كتيجان مجد وقلائد بطولة لجهاد ُمظَفَّر، وكدَرْب مُوصِّل للمدينة التي لها الأساسات في الوطن السماوي الأفضل. ويُعتبر السنكسار دليلاً وكتالوجًا لمعالم رحلة تسير نحو الله والملكوت السماوي.. وهو يحتوي على خريطة تحفظ جهادهم وانتصارهم حتى غلبتهم وعبورهم. وإنْ كُنَّا بعد مذبحة عيد الميلاد في غاية الأسَى والكَمَد بسبب القتل والإبادة المتواصلة وذلك الاستشهاد الجماعي, إلا أن الله يُنهضنا للتذكرة ويُنير أمامنا طريق الحياة والخلود, ويجعل الرجاء يُشرق فينا كمصباح منير في موضع مظلم, كي لا نقف عند البكاء والحزن بل لنجتاز ونفهم أن الآتي سيأتي ولن يبطئ, وهو وشيك أن يختم هذا الزمان ويُنهي مصارعة قوات الحجيم والظلمة. لقد عاصرنا في هذه السنين القليلة استشهاد شهداء كثيرين في التوفيقية وكفر دميان والقوصية والكشح والفكرية والعياط وسمالوط وديروط والأسكندرية والزيتون ونجع حمادي، وسالت دماء غزيرة وعزيزة خَضَّبت كل أرجاء مصر لشهداء أبرار وبررة, لُكِموا وسُلِبوا وأُهْدِروا ونُهِبوا وقُتِلوا وعُذِّبوا, لا لسبب إلا لكونهم مسيحيين. تعمدوا بدمائهم واصطبغوا بها لأجل الشهادة التي كانت عندهم, ثم ذهبوا إلى البيت الأبدي الغير مصنوع بيد. وورثوا ملكوتًا وعرشًا وقُدْسًا وعُرْسًا لا يَفْنىَ ولا يضمحل, فما أتْفَهُ الزمن عندما تقيس به أعمال الروح وما أعظم أيقونات هؤلاء الشهداء اللابسين الثياب البيض اللامعة وفي أيديهم الشبع والسرور وكل مشتهيات الاتقياء, بعد أن ذُبِحُوا بلا ذنب اقترفوه سِوىَ أنهم لا يدينون بما يدين به غيرهم. أليس من يُسْفَك دمُه من أجل الاعتراف العلني يستحق التقنين الكنسي كشهيد وكمعترف, فالتاريخ الكنسي يذكر أنه حتى الموعوظون قبل معموديتهم يُحْسَب لهم استشهادهم ما داموا قد نالوا (الصبغة) معمودية الدم فكم بالحري هؤلاء الشهداء المؤمنون المعمدون المستنيرون. إنني أذكر أن القمص غبريال عبد المتجلي تم تهشيم رأسه بالبلطة لرفضه النطق بالشهادتين, وعند استلام رفاته من المشرحة لم تكن له جمجة, وهناك شهداء آخرون قُطِعتْ ألسنتهم وطُعنوا في صدورهم لأنهم أصَرّوا على نفس الرفض. لقد قال قداسة البابا شنودة الثالث عن شهداء نجع حمادي (إنهم شهداء بالحقيقة وأن دمهم يصرخ عند الله وأن الله اتخذ موقفًا لدمائهم البريئة) وها عشرات الآلاف التي خرجت لتشهد لمذبحتهم ولأجل تكريمهم في كاليفورنيا وسياتل ونيويورك وملبورن وسيدني وإنجلترا وفرنسا وألمانيا واليونان وهولندا وقبرص والنمسا وفي كل مدن العالم، وكذلك وقفة الشموع المضيئة التي وقفتها الآلاف أمام المقر البابوي, إنما تساهم جميعها في الإجماع الشعبي بل والعالمي لتقنين هؤلاء الشهداء في سنكسار الكنيسة المقدسة خاصة بعد هذا الإجماع الموضِّح لليقين الخاص من قِبَل هذه الجموع حول استشهادهم. فعلى المتخصصين في الأدب الاستشهادي وفي أعمال التاريخ أن يحفظوا هذه السير في وديعة خزانة الكنيسة وذاكرتها, لأن شهادة دمهم حفرت على جَبين الكنيسة المعاصرة لَحْنًا حزينًا مجيدًا صادقًا, وصار جزءًا حيًا من تراث وواقع زماننا, وستبقى سيرتهم مُخَلَّدة كما خُلِّدت أرواحهم, إذ بعد أن عاشوا الاستشهاد البطيء (الطويل الأمد) مع بني جنسهم بلغوا حتى سفك الدم بالرصاص وتمزقت أجسادهم فَمَوْهُوم كل من يظن أن أعمال النعمة في أزمنة الاستشهاد هي من أعمال الماضي فقط, لأن الله سيظل يتمم ما وعد به, وهو حي ووعده حق, وهو أمس واليوم وإلى الأبد. وكما كتب الأولون من أمثال القديسين يوليوس الأقفهصي ويوحنا البرلسي وبطرس الجميل لسير الشهداء ينبغي أن تُدَوَّن سير هؤلاء المعاصرين ليستمر ذكرهم حتى تكتمل دورات التاريخ, فيُسَجَّل أنه في سنة 1727 ش وفي عصر الخليفة محمد بن حسني والي مصر قد أطلَقَ يد الغوغاء والسفهاء والرعاع لحرق وسلب ونهب وقتل الأقباط وتصفيتهم بالبطيء.... وقد سجل الأقباط وبطريركهم مَلْحَمَةً من الصمود والثبات والتمسك بالوصايا الإلهية منقطع النظير. إن الظهورات الروحية السابقة لهذه المذبحة كانت تعزية وثباتًا ورسالة تقوية لما هو آتٍ, ولما هو عتيد أن يكون, حتى لا نرتاع إذ ليس المنتهى بعد, وحتى لا تُسرق أكاليلنا, بعد أن صار ذبحنا على الهوية أي بالأسماء التي نحملها, حقًا إننا نواجه قوات ظلامية, لكن ها هي غلبتنا وذبيحة إيماننا. القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا – فلمنج - الاسكندرية
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل