الكتب

القديس ديديموس الضرير

سيرة ديديموس الضرير وُلد ديديموس الملقب ب"الضرير The Blind" عام 313م، (اسم ديديموس هو اللفظ اليوناني المرادف لاسم توما) وفي الرابعة من عمره أصيب بمرض في عينيه أفقده بصره كما يخبرنا بلاديوس ، ولكن رغبته ومحبته الشديدة للمعرفة ذللت أمامه كل عقبة، فبرغم فقدان بصره وفقره، ورغم أنه لم يتعلم القراءة في مدرسة ولا حتى النطق الأول للحروف، إلا أن ذلك كله لم يثبط عزيمته، فتعلم الأبجدية بحروف منحوتة في لوح من خشب، وتعلم بنفسه كيف يقرأها بطريقة اللمس، وبذا سبق برايل Braille بخمسة عشر قرنًا في استخدام الحروف البارزة للعميان، ويقول سقراط المؤرخ الكنسي أنه بهذه الطريقة علم نفسه قواعد اللغة والبلاغة والفلسفة والمنطق والحساب والموسيقى، وقد درس كل هذا بعمق حتى أنه كان يستطيع أن يناقش كل من درس هذه العلوم من الكتب العادية، ويقول ﭼيروم أنه (تعلم الهندسة أيضًا التي كانت تحتاج إلى النظر أكثر مما سواها حتى كان أعجوبة لكل ناظر إليه فانتشر صيته وذاع اسمه في كل مكان). وفى عام 346م أسند القديس أثناسيوس الرسولي إليه مسئولية إدارة مدرسة إسكندرية اللاهوتية كما يخبرنا روفينوس ، بسبب ذكائه وقدرته على الاستيعاب ودقة ملاحظته وعلو حجته، وقد كان ديديموس آخر معلمي المدرسة المشهورين، إذ أُغلقت المدرسة العظيمة بعد نياحته بفترة وجيزة، وكان ﭼيروم وروفينوس من أشهر تلاميذ ديديموس، وقد أطنب ﭼيروم كثيرًا في مدح ديديموس ويذكر دومًا أنه معلمه his magister وأكد علو قدرته في التعليم ومقدار الأثر الذي تركه في لاهوت الغرب والشرق معًا ، وكان يفتخر بأنه تلميذه وانه اتخذه أستاذًا وقدوة له في دراسة الكتاب المقدس، كما ترجم له كتابه (عن الروح القدس) الذي يقول في مقدمة ترجمته: (إن ديديموس له عينان كعيني عروس نشيد الأنشاد، فهو في معرفته يحمل صفات الإنسان الرسولي، له فكر نير وكلمات بسيطة). ويسميه روفينوس Rufinus (النبي) و(الرجل رسولي) ، ويخبرنا سوزومين المؤرخ أن تأثير ديديموس في إقناع الشعب بصحة تعاليم مجمع نيقية ضد الاربوسيين كان لا يُضارع، إذ استطاع أن يجعل كل من يسمعه قادرًا أن يكون حكمًا في هذا الموضوع ، فبالرغم من أن الحركة الأريوسية كانت على أشدها في ذلك الوقت، وبالرغم من تعرض الأساقفة والمعلمين المستقيمي الرأي للاضطهاد من الحكام المدنيين المؤيدين للأريوسيين، إلا أن اللاهوتي السكندري وقف يجاهد مع القديس أثناسيوس بعد أن أُعجب بعبقرية وشجاعة باباه وحكمته الرسولية، غير مبال بالاضطهاد والمتاعب، وحارب بقايا الوثنية التي تمثلت فيما سُمى بالأفلاطونية المحدثة وسائر الفلسفات الأخرى، لذلك يقول سقراط المؤرخ: (كان ديديموس عند الناس حصنًا متينًا وسندًا قويًا للديانة المسيحية حتى قبل أن يتولى رئاسة المدرسة اللاهوتية، وهو يُعد خصمًا عنيدًا كسر شوكة أتباع أريوس وأفحمهم في مناظراته معهم). ولم يكن في الإسكندرية من يستطيع فلسفة أفلاطون أوضح مما يفسرها ديديموس، ولا من يتحدث بطلاقة عن أرسطوطاليس قدره. وشهد لقدرة ديديموس في المعرفة والمحاججة والإقناع كثيرون وأهمهم إيسيذور البيلوزومى الذي وصفه بأنه (باحث مدقق لا يمكن أن يفوته شيء) كما يشهد له ليبانيوس Libanius في إحدى رسائله التي أرسلها إلى الدوق سباستيان وهو من الهراطقة المانيين الذين اضطهدوا الإسكندرانيين أثناء نفى البابا أثناسيوس الرابع، وهو يقول: (إذا لم تكن قد تعرفت على ديديموس فأنت لم تعرف هذه المدينة العظمى الإسكندرية بعد، لأنه هو الذي يسكب عليها من تعاليمه لتثقيف الشعب ليل نهار). ويروى بلاديوس عن ديديموس -وقد زاره 4 مرات في خلال عشرة سنوات - إنه في يوم من الأيام كان حزنه عميقًا على المسيحيين الواقعين تحت اضطهاد يوليانوس الجاحد (من سنة 360 - سنة 363)، فصرف يومًا كاملًا في الصلاة والصوم وهو يطلب من الله أن يرفع الضيقة عن شعبه، حتى تعب ونام وإذ به يرى خيولًا بيضاء تجرى وكان راكبوها يهتفون قائلين: قولوا لديديموس أن يوليانوس قد مات اليوم الساعة السابعة، قم وكل، وأرسل إلى أثناسيوس الأسقف لكي يعرف هو أيضًا ما قد حدث، فكتب تاريخ اليوم والساعة اللذين سمع فيهما الصوت وإذ بهما قد تزامنا تمامًا مع الوقت الذي قُتل فيه يوليانوس. ولكن ديديموس لم يجذب معاصريه بتعليمه وفكره المستنير فقط، بل أيضًا بنسكه وحياته التقوية إذ أنه عاش حياة ناسك، ويُروى أن القديس العظيم الأنبا أنطونيوس عندما زار ديديموس أثناء وجوده في الإسكندرية لأول مرة دفاعًا عن الإيمان المستقيم ضد الأريوسيين، دخل قلاية ديديموس وطلب منه أن يصلى ووقف يسمعه باتضاع ثم جلسا يتحدثان في الكتب المقدسة، وسأله أبو الرهبان إن كان حزينًا على فقدان بصره، فلما صمت ديديموس أعاد الأنبا أنطونيوس عليه السؤال مرة ثانية، فأجابه قائلا أنه يحس بحزن شديد بسبب ذلك، فقال له كوكب البرية (إني لمتعجب من حزنك على فقد ما تشترك فيه معك أقل الحيوانات، ولا تفرح متعزيًا لأن الله وهبك بصيرة أخرى لا يهبها- تقدس اسمه- إلا لمحبيه، وأعطاك عينين كأعين الملائكة بهما تبصر الروحيات، بل وبهما تدرك الله نفسه ويسطع نوره أمامك، فأزال الظلام عن عيني قلبك واستنرت) فتعزى ديديموس بهذا القول طوال حياته ورواه لتلميذه ﭼيروم عام 368م حينما زاره ومكث عنده شهرًا كاملًا كما يخبرنا في مقدمة شرحه لرسالة أفسس، ويعلق ﭼيروم على هذه القصة بقوله: (أفضل للإنسان كثيرًا أن تكون له الرؤية الروحية من أن تكون له الرؤية الجسدية، ويمتلك عينين تميزان الخطية من الحق) . ويروى بلاديوس في الفصل الرابع من تاريخه اللوزياكي عن ديديموس: (حدث أن طلب منى أن أصلي في قلايته ولما لم أستجب لطلبه، روى لي هذه القصة: دخل انطونيوس هذه القلاية للمرة الثالثة لزيارتي وإذ سألته أن يصلى ركع في الحال وصلى ولم يضطرني إلى تكرار الطلب، مقدما لي مثلًا في الطاعة، والآن إن كنت تود أن تقتفى آثاره- كما يبدو عليك إذ تعيش في خلوة بعيدًا عن الأهل طالبًا الفضيلة- فابعد عنك روح المقاومة) . فكانت صداقة ديديموس والأنبا أنطونيوس أيقونة لألفة العلم مع النسك إذ لم يكن ديديموس معلما فحسب بل كان أولًا ناسكًا يحيى علمه اللاهوتي قبل أن يعلمه، ونلحظ في كتاباته المسحة النسكية التي عاشها وتشربها من أبو الرهبان، لذلك عندما يتكلم عن الروح القدس يتكلم عن عمله ودوره في خلاصنا، وإذا تكلم عن المعمودية اظهر بركاتها ومفاعيلها ودورها في تجديدنا فربط المعرفة بالحياة (17). وتنيح العلامة السكندري عام 398م وله من العمر 85 عامًا، قضى منها 52 عامًا مديرًا لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية (من عام 346 إلى 38) وضعفت المدرسة بموته.. وهكذا طل يعلم ويكتب ويدير مدرسة الإسكندرية اللاهوتية زهاء النصف القرن، تولى على كرسي الكرازة المرقسية أثنائها أربعة من الآباء البطاركة: البابا أثناسيوس (328-372م) البابا بطرس الثاني (373-378م) البابا تيموثاوس الأول (379-384م) البابا ثيؤفيلس (385- 411م).

القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة الشهيد ( سيرته وكتاباته)

أولًا: سيرة القديس: 1- ميلاده: وُلد ثاسكيوس كابلكيانوس كبريانس في قرطاجنة سنة 208 م. في بيت ذي مركز وجاه وثقافة، ومن أبوين رومانيين وثنيين وثريين. 2- ثقافته: وفي مطلع شبابه، أصبح خطيبًا بارزًا، ثم معلمًا في الخطابة والفصاحة. 3- إيمانه: لمس الله قلبه على يد قس نقى اسمه كابلكيانوس فاعتنق المسيحية وقبل سر العماد 245 م. ووزع ثروته على الفقراء والمساكين. 4- رسامته كاهنًا: فلما رأى أسقف قرطاجنة ما صار إليه الرجل الفذ، رسمه كاهنًا. 5- رسامته أسقف: ثم خلا كرسى قرطاجنة بوفاة راعيها، فألح الشعب بتسليم عكاز الرعاية إلى كبريانوس الذي تسلم مهام المنصب في مطلع عام 249 م. 6- فضائل كبريانوس كان كبريانوس رجل الصلاة والتأمل والتأليف. وكانت فضيلة المحبة والعطف على الناس في مقدمة فضائله. وكان مجردًا عن مطامع الدنيا وخيراتها، لذلك لم يكن يعمل حسابًا لرجل كبير أو لرئيس خطير. بل كان يسير في عمله وخدمته إلى الأمام، لا يعرف سوى سلطان الواجب. وكان يبذل الدرهم بلا حساب في سبيل الفقراء والمعوزين. ولما كان البرابرة يجتاحون أطراف المملكة الرومانية، ويسوقون المسيحيين أسرى إلى بلادهم كان كبريانوس يهبّ لمساعدتهم، ويمد يد المعونة إلى أساقفتهم لأجل اقتدائهم. 7- استشهاده وعندما بدأ كبريانوس تولى مسئوليته كأسقف، كان يتربع على الإمبراطورية الرومانية الأمبراطور ديسيوس (249-251). أي أن كبريانوس بدأ أسقفيته مع الاضطهاد المروع الذي أثاره هذا الإمبراطور على الكنيسة المسيحية ولم يستشهد في ذلك الوقت قام الملك فالريانس سنة 257 م.، يضطهد كنيسة الله ويدمرها شعر القديس كبريانوس في نفسه بأن الله يدعوه إلى أمجاد ملكوته، وأن ساعته قد أتت وأن الرب يسوع الكاهن الأعظم يريده ذبيحة نقية على مذابح حبه، فلم يتوارَ كالمرة الأولى، بل أخذ يقول: "إني أريد أن أموت لأجل إلهي. ينبغي لنا أن نفكر الآن في الحياة الدائمة أكثر مما نفكر في الموت وبقى مثابرًا على جهاده وعلى أعمال غيرته، بلا توان، ولا وجل حتى أمسكوه وقادوه إلى وكيل القنصل الروماني باترنس، وكان يعرف مكانه كبريانس في كل القارة الأفريقية " الشمالية"فلما أقبل كبريانوس أمام وكيل القنصل باترنس، دار بينهما الحوار التالي: القنصل: إن ملوكنا الأعزاء القاهرين شرفونى برسائل، بها يأمرون الناس أجمعين بوجوب تقديم العبادة والإكرام الآلهة المملكة. فما رأيك؟ كبريانوس: أنا مسيحي. ونحن معشر المسيحيين لا نعبد سوى الله. وتضرعاتنا تصعد إليه كل صباح وكل مساء لأجلنا ولأجل جميع البشر، وعلى الأخص، لأجل توفيق المملكة وملوكها. القنصل: ألا تزال مصرا على عزمك؟ كبريانوس: إن مقاصد الخير، التي يهدينا الله إليها، لا يمكن أن تتغير أو تتبدل. القنصل: تهيأ إذن للذهاب إلى كورنشس، حيث يأمر فالريانس وغاليانس بإبعادك. كبريانوس: أنا مستعد للسفر. القنصل: إن الأوامر التي في يدي لا تشمل الأساقفة فحسب، بل الكهنة أيضًا. فمن كهنة هذه المدينة؟ كبريانوس: إن الشرائع الرومانية تحظر على الناس الوشايات، فكيف تطلب منى أن أشي بهؤلاء الكهنة؟ القنصل: لا بأس من سكوتك عنهم، فسوف أعرفهم. ثم إن أوامر القياصرة تمنع كل اجتماع في أي مكان كان، ولا يُسمح بدخول المقابر لإجراء الاحتفالات. وكل من يخالف هذه الأوامر يموت موتًا. كبريانوس: أعمل بحسب الأوامر الصادرة إليك وبعد هذا التحقيق السريع، سيق كبريانوس إلى المنفى. فلبث، وهو بعيد عن أولاده يبث فيهم روح الشجاعة برسائله وصلواته ثم أطلق سراحه وعاد إلى كرسيه، ولكن لأيام معدودة، حيث قُبض عليه من جديد وأحضر أمام والوالي، فقال له: الوالي: هل أنت كبريانوس؟ كبريانوس: أنا هو. الوالي: إن القياصرة المجيدين يأمرونك بأن تقدم الذبائح للآلهة. كبريانوس: لا أستطيع أن أفعل شيئًا من هذا. الوالي: فكر جيدا في أمرك. كبريانوس: أصنع ما بدا لك، لأن الأمر لا يحتاج إلى إعمال الفكرفاستشار الوالي مجلسه، ثم حكم على الأسقف بقطع الرأس. فقال كبريانوس "الشكر والحمد لك يا إلهي. لأنك تتفضل بإخراج نفسي من هذا الجسد القاني" فسيق إلى مكان الإعدام، وكان المسيحيون بألوف يزحمونه، وتسلق البعض منهم أعالي الشجر ليتمكنوا من مشاهدته ساعة إعدامه وكانت الدموع تسيل من جميع العيون، وفرش البعض من حوله مأزر ومناديل ليتلقوا بها دمه فخلع كبريانوس عنه رداءه، وجثا على ركبتيه وأخذ في الصلاة. ثم ترك أيضًا ثوبه ولم يبق عليه سٍوى قميص من كتان. وأمر بان يعطى الجلاد خمسة وعشرين دينارا ذهبيًا، وشجعه على القيادة بعمله، ثم دنا منه كاهن وشماس، وكان هو ثابت لا يكف عن الصلاة بحرارة وإيمان فوقف الجلاد على رأسه وفرائصه ترتعد من هذا المشهد المريع، ثم ضربه بالسيف فقطع رأسه. وطارت نفسه إلى المجد حيث مقر الشهداء والقديسين وأسرع الناس إلى دمائه الزكية المتفجرة يتبركون منها. وعند المساء حملوا الشموع ونقلوا جثته إلى مدفنها بكل خشوع وإكرام. فكانت عظته الأخيرة أروع ما نطق به أمام شعبه من تعاليم الإيمان والخلاص، وكان ذلك في اليوم الرابع عشر من شهر سبتمبر سنة 258 م ولقد قال فيه القديس أغسطينوس: "إذا كانت بعض الغيوم قد مرّت على تلك النفس النيّرة، فإنها تبددت بدمها المسفوك لأجل المسيح. إن القلوب التي تملأها النعمة، تبقى فيها أحيانًا أشواكًا برية لكن الفلاح الأكبر لا يلبث أن يقتلها".

الآباء المؤرخون مصادر التاريخ الكنسي

يتقدم التاريخ في المسيحية إلى الأمام ليربط -في النهاية- الزمن بالأبدية، وفي تاريخ الكنيسة تقف يد الله مختفية وراء الأحداث لتصنع المواقف تلك اليد الإلهية العالية، يد الله سيد التاريخ وخالق الزمن، هي التي باركت تاريخنا الزمني وقدست حياتنا على الأرض، لننطلق إلى اللازم، حيث الأبدية التي لا يحصرها ولا يحدها التاريخ لقد الآباء التاريخ والزمن مؤكدين على أن دورات التاريخ التي بلا رجاء قد انتهت، وعلى أننا قد تركنا الزمن لننشغل بالأبدية الدائمة، ومن ثم رأوا أن التاريخ لا تدفعه الأيادي البشرية وحدها كما قد يبدو في الظاهر، بل يد الله فوق الكل، وهي التي تنفذ مقاصده الإلهية الخلاصية العالية عن الأفهام لذلك رسم المنهج الآبائي صورة مبسطة للتاريخ الكنسي على اعتبار أن ذروة التاريخ ومركزه هو "المخلص" الذي به انفتحت النبوات واكتملت، وتحقق كل رجاء البشرية كمشتهى الأجيال كلها ولأن الآباء اعتبروا أن تاريخ الكنيسة يبدأ بتاريخ العالم، لذلك كانت غاية التاريخ في المفهوم الآبائي هي الكشف عن علاقة مملكة الطبيعة والخلقة بملكوت النعمة الأبدي، والكشف عن عمل الله الخلاصي وخطته الإلهية عبر الأجيال وحتى نهاية التاريخ البشرى وإعلان "الله الكل في الكل" {كو 1:16} على اعتبار أن السيد المسيح هو مفتاح التاريخ كله والتاريخ حسب فهم آباء الكنيسة له، هو اكتشاف العمل الكرازي والإيمان الرسولي والخدمة الرعوية وخبرة العبادة والشركة والشهادة والجهاد الروحي، فموضوع التاريخ الكنسي هو عنصر الكنيسة البشرى، وعلم تاريخ الكنيسة يصور حياة الكنيسة التاريخية، خلال مصادرها المتنوعة (الكتب المقدسة، القوانين، قرارات المجامع، دساتير الإيمان، الليتورجيات، رسائل الآباء وأقوالهم وفكرهم وتاريخ حياة القديسين وأعمالهم، الأيقونات، الأبنية، الأواني..) ولم تكن نظرة على الباترولوجي للتاريخ على انه مجرد سرد أحداث ماضية ميتة، أو تسجيل لوقائع منتهية، لكن التاريخ كعلم كنسي يحيط حياة الكنيسة من كل نواحيها بترتيب متصل ومتواصل، لأن المسيح هو ماضي الكنيسة وحاضرها ومستقبلهالذلك أصبح تسجيل التاريخ الكنسي في كتابات الآباء، يهتم بالمفاهيم الروحية والمدلولات الرمزية بفكر كنسي واسخاتولوجي هادف، خلال الحياة والسيرة والعبادة والسلوك فصارت الكتابات التاريخية عبارة عن فهم لعمل الله في وسط كنيسته عبر الأجيال، وإدراك الحقيقة الكنيسة وطبيعتها ورسالتها خلال تاريخها، وإذا تتبعنا تاريخ الكنيسة بهذا المفهوم الآبائي، فإننا نستطيع أن نتبيَّن الحقب المتتالية التي كانت وما زالت يوجهها الروح القدس الرب المحيى وتناول علم الباترولوجي التاريخ الكنسي عبر الحقب الممتدة من عصر الرسل، عصر الآباء الرسوليين، عصر الاستشهاد والاضطهاد، عصر الرهبنة، عصر الهرطقات، فتناول بذلك تاريخ الاضطهادات والهرطقات والنظم الكنسية والترتيبات الليتورجية وتاريخ اللاهوت والعقيدة والرهبنة وتاريخ الطقس والعبادة وسير الآباء والمجامع المسكونية، وتاريخ التقليد والقوانين والرعاية والكرازة والدفاعيات... ولأن الإنسان ينسى {أش 59:15} لذلك سمح الروح القدس وألهم حكماء الكنيسة أن يسجلوا تاريخها جيلاَ أثر جيل، منذ ان خط القديس لوقا الطبيب أول حرف في سفر أعمال الرسل، وإلى صفوف المؤرخين والكُتاب الكنسيين الذين واصلوا تسجيل "أعمال الروح القدس" كل جيل بمؤرخيه لقد تحقق معنى وقيمة التاريخ، لأنه مازال حياَ في الكنيسة يشكل الحاضر لمصدر دائم للإلهام، ليس بطريقة مجردة ولكن كاستعلان مجدد لروح الله، وكأبعاد أبدية للحياة الُمعطاة لنا في المسيح يسوع ربنا والمنقولة إلينا بواسطة الرسل الأطهار والآباء القديسين، وفالشعب الحي يجب أن يعيش دائماَ على اتصال وجداني وفكري بتاريخه، لما للتاريخ من قوة هائلة على التنبيه والإحياء، فالتاريخ ينبوع قوة روحية وتراث مقدس يحمل ليس فقط مجرد معرفة أو ذاكرة أو ذكرى بل شركة ومطابقة باطنية، نتحقق بها ونرى أن ما عمله الرب قديماَ هو في حياة الكنيسة اليوم، لا يزول منه حرف واحد ولا نقطة واحدة فالأصالة التاريخية للكنيسة ليست مجرد رمز تاريخي، ولكنها ثراء الحياة الذي لن يزول، فلنبحث في بطون التاريخ وأعماقه لنتعلم كيف نكون مسيحيين حقيقيين إن من السمات البارزة في التقليد القبطي أن تذكار الأحداث والشخصيات هو جزء لا يتجزأ من جوهر العبادة الكنسية، فمن وراء ذلك معنى لاهوتي عميق وثراء روحي يظل ينبوعاَ للقوة الروحية وميراثاَ غنياَ دائم التدفق نحتاجه كسند يومي نتمثل به ونقتفى أثاره وذخرت الكتبة القبطية بمجموعة من الميامر التاريخية التي تحمل سير البطاركة والشهداء والنساك والسواح والمتوحدين والرعاة الفعلة الأمناء، الذين بشروا بالمسيح وسفكوا دمائهم من أجله وفصلوا كلمة الحق باستقامة وجاهدوا عن الأمانة الأرثوذكسية، وسكنوا الجبال وشقوق الأرض من أجل عظم محبتهم في الملك المسيح لقد كان القصد من إصدار هذا البحث عن "الآباء المؤرخون" هو التعريف بهؤلاء الذين أرخوا تاريخ الكنيسة المقدس وصنعوا بكلماتهم وأقلامهم نسيج حياتها على الأرض، مقدمين أيقونة مجسمة وواضحة ومتألقة للكنيسة الأولى، فلولا هؤلاء الآباء المؤرخين ما كان لنا أن نعرف تاريخ العمل الكرازي وتاريخ الهيرارخية الرعوية وتاريخ تطورالعقيدة، وتاريخ المجامع والقوانين والقرارات الكنسية، كذا تاريخ الآباء والعبادة والممارسات المسيحية وتعتبر أعمال هؤلاء الآباء المؤرخين الأبحاث الأولى في علم الباترولوجي، والتي صاغوا فيها التاريخ الذي صنعه الآباء صُناع التاريخ نقدم هذا البحث كدليل للكتابات التاريخية التي يحتاجها الباحث في دراسة التاريخ الكنسي وفي كل الدراسات الباترولوجية، وبالرغم من أن بعض هؤلاء المؤرخين كان له انحرافاته الإيمانية، إلا أن أعمالهم ذات قيمة تاريخية هامة نقدم هذه الموسوعة الآبائية اخثوس ΙΧΘΥΣ مساهمة في حفظ تراث الكنيسة التعليمي الآبائي اللاهوتي الواسع والعريض، مع التركيز على استيعابه ووعيه وعياَ عميقاَ وعملياَ، وسط احتفال الإكليريكية المئوي وابتهاج الكنيسة بافتتاح معهد الرعاية والمؤسسات العلمية في عهد قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث -حفظه الرب- الذي عكف على السير على نهج الآباء في التعليم والرعاية والوعظ والكتابة آملين أن يحظى علم الباترولوجي باهتمام أوسع في مناهج المعاهد اللاهوتية حتى تكون الدراسات الكنسية على مستوى يضارع أرقى المعاهد اللاهوتية في كنيسة صاحبة أقدم وأعظم مدرسة عرفتها المسيحية، وأن يحظى بمساحة أكبر في مناهج التربية الكنسية التي تُعدها اللجنة العليا للتربية الكنسية، فتتمتع الأجيال المتعاقبة بأعظم ذخيرة من التعليم الكنسي الأصيل والمستقيم إننا نشكر الله من أجل جوده وسخائه إذ أعطانا أن نقدم هذا العمل بالرغم من ضعفنا وتقصيرنا، ونشكر أبينا المحبوب نيافة الأنبا بنيامين نائب قداسة البابا بالإسكندرية من أجل مساندته وتشجيعه الأبوي، وأيضاَ نيافة الحبر الجليل الأنبا ديسقورس الأسقف العام من أجل تدعيمه المتكرر لهذا العمل، كذا شكرنا لجناب الأب الموقر القمص أثناسيوس ميخائيل مدرس التاريخ الكنسي بالكلية الإكليريكية من أجل ملاحظاته القيمة ومراجعته للنسخ الطباعية الأولى، وليعوض الرب كل من له تعب ببركة وصلوات الآباء المؤرخين وصلوات جزيل الغبطة البابا شنودة الثالث، ولربنا السجود والمجد والإكرام.

العلامة يوسابيوس القيصرى

يبدأ العصر الذهبي للأدب الآبائي بكتابات باهرة لأبى التاريخ الكنسي يوسابيوس بامفيليوس Eusebius Pamphili اسقف قيصرية فلسطين، وهو مؤرخ ومجادل في نفس الوقت، وشخصية هامة في تاريخ الأريوسية في أيامه، وواحد من اخر المدافعين، ويقدم لنا صورة عن المتغيرات الجذرية التي حدثت في أيامه في تاريخ العالم بأمانة كاملة أكثر من أي مؤرخ آخرولم تكن قيصرية فلسطين مكان تعليمه ونشاطه الأدبي وكرسيه الأسقفي فقط، بل وأيضاً مدينة ميلاده سنه 263 م، وقد صارت هذه المدينة مركزاً للعلم والمعرفة منذ أن رحل أوريجانوس إليها وأنشأ مدرسته الشهيرة هناك، وقد شكلت مؤلفات أوريجانوس أساس المكتبة التي طورها بامفيليوس كاهن كنيسة قيصرية، وقد تحمس بامفيليوس لإصدار نص معتمد من الكتاب المقدس ولكن على أساس نص أوريجانوس المسمى (الهكسابلا – السداسي) وتفاسيره على العهدين القديم والجديد ولإتمام هذه المهمة احتاج إلى معاونين ومساعدين، فتقدم يوسابيوس ليكون عضواً عاملاً في هذه الجماعة الدراسية، وبدأ يساعد بامفيليوس الذي شجعه وعلمه كيف يعتمد على نفسه وعلى ذهنه وزوده بنصائحه، ودان يوسابيوس لمعلمه بامفيليوس بالفضل الكثير في تعلميه وتدريبه الفكري، وتعبيراً عن شكره ومحبته لأستاذه قرن اسمه باسمه فدعى نفسه "يوسابيوس بامفيليوس" أي أنه الابن الروحي لبامفيليوس وهكذا دخل يوسابيوس في تاريخ آباء الكنيسة باسم "يوسابيوس بامفيليوس" وما زال يوجد مخطوط قديم من نسخة الكتاب المقدس التي أعدها بامفيليوس ويوسابيوس معاً واستلم يوسابيوس عن معلمه تكريم أوريجانوس تكريماً عميقاً، وانشغل بتراثه الأدبي حتى يزيد من شهرة هذا العلامة السكندري، وبدأ في إصدار مجموعة مراسلاته، الأمر الذي ساعد على عدم ضياع هذا التراث أو تشتته وفى الاضطهاد الأخير نال بامفيليوس اكليل الشهادة، في العام السابع من اضطهاد دقلديانوس في السادس من فبراير سنة 310 م، وكتب يوسابيوس سيرته تكريماً لذكراه واعترافاً بمحبته له، ويوسابيوس نفسه هرب إلى صور ومنها إلى برية مصر في Thebais، ولكن قبض عليه هناك وسجن ويبدو أن العام الذي انتهت فيه الاضطهادات ضد الكنيسة (سنة 313 م) هو نفس عام تجليس يوسابيوس أسقفاً لقيصرية، وقد صارت له صداقة متينة مع قسطنطين الملك وكان ذا تأثير عليه، وبدأت شهرته كعالم تطغى على شهرة معلمه منذ ذلك التاريخ وقد دخل يوسابيوس -كأسقف- في الجدال الآريوسى، الذي اعتقد أنه يستطيع أن ينهيه باقتراحات بتنازلات متبادلة من كلا الطرفين، بدون أن يدرك الأهمية الحقيقية للعقيدة موضع النقاش، وكتب عدة رسائل يؤيد فيها أريوس، وكان له دوره المؤثر جداً في مجمع قيصرية المكاني الذي أعلن أرثوذكسية فكر وعقيدة آريوس رغم أنه طلب منه الخضوع لأسقفه، وبعد ذلك بقليل عقد مجمع مكاني في إنطاكية سنة 325 م. حرم أسقف قيصرية لرفضه للصيغة الإيمانية المعارضة للتعليم الآريوسي المنحرف، وفي مجمع نيقية سنة 325 م أراد أن يكون واسطة مصالحة، ورفض عقيدة (الهوموأسيوس Homoousios- مساواة الآب والابن في الجوهر) التي لأثناسيوس لأنه ظن أنها تؤدى إلى السابليانية Sabellianism،وأخيرًا وقع على قانون الإيمان النيقاوي كمجرد إرضاء خارجي لرغبة الإمبراطور، لكن بدون أي اقتناع حقيقي داخلي، ولم يستخدم قط في كتاباته بعد سنة 325 م. التعبير "هومواوسيوس" بل أيد صراحة يوسابيوس أسقف نيقوميدية وقام بدور بارز في مجمع إنطاكية المكاني سنة 330 م، الذي خلع الأسقف يوستاثيوس Eustathius، وكان له أيضًا دور هام في مجمع صور سنة 335 م. الذي حرم القديس أثناسيوس الرسولي، وبجانب ذلك كتب كتابين ضد مارسيللوس أسقف أنقره الذي خلع من كرسيه بعد ذلك بعام وكان إعجاب ومحبة يوسابيوس للإمبراطور، الذي أرسى السلام بين الكنيسة والإمبراطورية بعد سنوات من الاضطهادات الدموية، كبيراً جداً، وتمتع يوسابيوس نفسه بمكانة خاصة لدى قسطنطين، وفي التذكرين العشرين والثلاثين لتتويج الإمبراطور وتقليده الحكم، ألقى يوسابيوس كلمتي مديح للإمبراطور، وعندما تنيح قسطنطين في 22 مايو سنة 337 م. قدم يوسابيوس كلمة تأبين طويلة له، إذ يبدو أنه كان مستشاره اللاهوتي الأكبر، وقد مات يوسابيوس بعد إمبراطوره بأعوام قلائل في سنة 339 م. أو سنة 340 م. الملامح اللاهوتية والروحية في فكر العلامة يوسابيوس تكلم العلامة يوسابيوس عن التقدم إلى ما هو قدام في الحياة الروحية، فرسم منهاج للسير بلا عيب في الطريق الروحي وعدم الرجوع إلى الوراء وعدم الميل لا يمين ولا يسار ولا نظر للوراء من أجل بلوغ الهدف، ويقول: طالما أن القلب لا يزال بعد غير كامل فهذا هم كبير وتعب كثير بل أنه قد يتردى إلى أسوأ مما هو عليه، أما حينما يصل إلى قمة الكمال فحينئذ يكون قد تأسس في الفضيلة وتحرر من كل خوف، يطلب من الله أن يوضح له ولا يخفى عنه وصاياه حتى يكملها إلى المنتهى متفهماً لها حتى يعبر هذا العالم وهو بلا لوم ويتحدث يوسابيوس عن الحرب الروحية والقوات المضادة التي تحارب النفس في تفسيره للمزمور 118، فيقول: الله يصد عنا المضادات ويتولى قضاء الأعداء غير المنظورة بنفسه من أجل محبته للبشر، إذ قد تبنى قبضتهم لأنها قضيته وفى تأكيد على الإرادة المتجهة نحو الله يحث العلامة يوسابيوس على المواظبة على الاجتهاد والمثابرة، لان النفس التي تخطئ تذبل منجذبة في غفلة الخطية، ولن تقوم ولن تستيقظ إلا بتذكر الخير وإدانتها لنفسها واعترافها بخطاياها السابقة وتعلم الوصايا والثبات فيهاوهو بذلك يرسم معالم الطريق الروحي والحياة الداخلية بالشركة مع الله، ثم يذكر ملمح هام عن المكافأة والجعالة التي يحظى بها المجاهدون، عندما يتكلم عن نهاية العالم الزائلة وهيئته ليتبعه عالم جديد، وعوض الكواكب المنظورة يضئ المسيح نفسه لأنه شمس الخليقة الجديدة وملكها، عظيمة هي قوة هذه الشمس الجديدة، وعظيم هو بهاؤها، حتى أن الشمس التي تضئ الآن والقمر والكواكب الأخرى تظلم أمام هذا النور الأبدي العظيم. أما عن الملامح اللاهوتية في فكره، فيؤكد يوسابيوس على حياة الطهارة من أجل التأمل في الأمور العلوية (الإلهيات) فعدم الطهارة هو عدم التقوى وظلمة الجهل، أما نقاوة الفكر من الناحية الأخرى، فهي التقوى والتقوى تلازمها معاينة الله ويرى يوسابيوس أن تجسد الله اللوغوس هو استعلان السر الذي تدور حوله نبوات العهد القديم: "اللوغوس المتجسد هو وحدة الذي أعطانا نعمة معرفة الثالوث بميلاده السري لأنه لا موسى ولا أي من الأنبياء وهب خدمة هذه النعمة لشعب الله في العهد القديم، لأنه في ابن الله اللوغوس فقط أعلنت نعمة الآب للكل، لأن الناموس بموسى أعطى أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا". ويقارن يوسابيوس بين مسحاء العهد القديم من كهنة وملوك وأنبياء وبين السيد المسيح نفسه موضحاً أن ما ناله رجال العهد القديم كان رمزاً، فكانوا عاجزين عن أن يقيموا من أتباعهم مسحاء، أما السيد المسيح فهو وحده الذي دعى اتباعه مسيحيين لأنهم صاروا فيه مسحاءوالكنيسة عند أسقف قيصرية هي وحدها "تملك الطريق الملوكي"، ومن ثم تعطى (معرفة النعمة الإلهية)، لأن الكنيسة تملك اللاهوت الكامل، لأن فيها حُفظ سر الخلاص، سر تدبير الله، لأنها تجمعت من الأمم، وهب لها هذا السر بفضل نعمة فائقة مختارة، لأن فيها -كما يقول الرسول- كل كنوز الحكمة والمعرفة، ويقول يوسابيوس:(استعلن سر الخلاص لكنيسة المسيح فقط بنعمته) ومن المسيح الطريق والحق تتسلم الكنيسة معرفتها لسر الثالوث القدوس السري المبارك، وتحفظه كرجائها الذي لا يخزى وللنور في لاهوت وفكر يوسابيوس مكانه خاصة، والنور الذي أشار إليه القديس يوحنا اللاهوتي في بداية إنجيله أو النور الذي يضيء في الظلمة، هو نور اللوغوس الذي بقدرته خلق النفوس العاقلة الناطق، وهو الذي ينير كل إنسان آتياً إلى العالم، وهو النور الذي لا يُدنى منه والذي لم يره أحد قط وشرح أبو التاريخ الكنسي أن حق الثالوث قد استعلن بتجسد اللوغوس، ومنذ ذلك الحين ظل في الكنيسة يقودها ويمنحها المواهب المتعددة، مواهب الروح والحكمة والمعرفة والإيمان والمحبة.

العلامة ترتليان، من آباء أفريقيا

وُلد كوينتوس فلورنس ترتليانوس Quintus Septimius Florens Tertullianus في قرطاج نحو عام 155 م.، وكان والداه وثنيين، وكان والده قائد مئة في جيش الحاكم، ودرس ترتليان TERTULLIAN القانون واشتهر في المحاماة في روما بعد قبوله الإيمان المسيحي عام 193م، استقر في قرطاج وسرعان ما وظف درايته الواسعة بالقوانية والأدب والفلسفة لخدمة الإيمان المسيحي، ويحسب جيروم (1) سيم ترتليان كاهناً، ورغم انه هو نفسه لا يشير أبداً إلى رتبته الكهنوتية، إلا أنه كان من الصعب أن يتمتع بمكانته الفريدة كمعلم رائد لو لم يكن قد نال نعمة الكهنوت، وفيما بين عاميّ 195: 220م وضع الكثير من مؤلفاته، وكان للعدد الضخم من الكتب التي ألفها في غضون هذه السنوات تأثيره الدائم على علم اللاهوت المسيحي، ونحو عام 207م انحرف ترتليان وسقط في الهرطقة المونتانية Montanism بل وصار رئيساً لطائفة منهم تسمت باسمه "الترتليانيين Tertullianists" والتي ظلت موجودة في قرطاج حتى زمان القديس أغسطينوس، ورغم أننا لا نعرف تاريخ نياحته على وجه الدقة لكن لابد أنه كان بعد عام 220م فيما عدا القديس أغسطينوس هيبو، يُعتبر العلامة ترتليان أهم كاتب كنسي وضع أعماله باللغة اللاتينية، وإذ كان يتمتع بمعرفة عميقة بالفلسفة والقانون وباللغتين اليونانية واللاتينية، اتسمت أعمالة بالقوة والبلاغة الرائعة مع السخرية الحادة، وكان متشدداً تجاه الوثنيين واليهود والهراطقة، وبعد انحرافه إلى المونتانية صار متشدداً ضد مستقيمي الإيمان جاءت كتابات العلامة ترتليان جدلية دفاعية، ورغم أنه لا يخبرنا بالدافع وراء قبوله الإيمان المسيحي، لكن من الواضح أنه لم يؤمن بالمسيحية نتيجة لمقارنة عقدها بين التيارات الفلسفية المختلفة كما كان الحال مع القديس يوستين الشهيد، بل يبدو أن بطولة المسيحيين وشجاعتهم في زمان الاضطهاد كان لها تأثير عليه أكثر من أي شيء أخر(2)، وكان الحق هو الغاية العظمى من دفاعه عن المسيحية والسبب الرئيسي في مهاجمته للوثنيين والهراطقة، فقد كان يشتاق كثيراً إلى الحق، بل إنه في أحد كتبه وردت كلمة "الحق Veritas" 162 مرة، وكان يؤكد دوماً أن إله المسيحيين هو إله الحق، وكل من يجده يجد ملء الحق، والحق هو ما تكرهه الشياطين ويرفضه الوثنيون ويتألم المسيحيون ويموتون لأجله، فهو ما يميز المسيحي عن الوثني، وليس من الصواب أن نُرجع هذا إلى كون ترتليان محامياً وبليغاً يميل إلى حب الجدل، إذ كان يتكلم حقاً من عمق قلبه(3)، وليس هناك أي شك في أنه كان مستعداً تماماً لأن يموت لأجل إيمانه، وفي الكلمات الأخيرة من دفاعه يعبر عن رغبته العارمة في نوال إكليل الاستشهاد المبارك، فهو يرفض الهرب في زمان الاضطهاد وتُعد إسهامات ترتليان الأدبية للغة الكنسية الأولى ذات أهمية قصوى(4)، إذ أنها تُعد مصدراً هاماً لمعرفتنا باللغة اللاتينية المسيحية، فهي تحتوى على عدد كبير من المصطلحات الجديدة التي استخدمها اللاهوتيون فيما بعد وصارت من الكلمات المستخدمة دوماً في شرح العقيدة، لذلك دُعي "مؤسس اللاتينية الكنسية The Creator of Ecclesiastical Latin" (5) ورغم أن هذا اللقب فيه مبالغة، إلا أنه يوضح لنا مدى أهمية إسهامات ترتليان في تاريخ اللغة اللاتينية المسيحية.

القديس يوحنا كاسيان مؤسس رهبنة الغرب

وُلد يوحنا كاسيان نحو عام 360 م. (اكتفينا هنا بعرض موجز لسيرة وأعمال كاسيان إذ أفردنا له كتابًا كاملًا ضمن هذه السلسلة اخثوس ΙΧΘΥΣ بعنوان "القديس يوحنا كاسيان")، ونال تعليمًا أدبيًا في شبابه، ونحو عام 380 م، انضم كاسيان وصديقه جرمانوس إلى دير في بيت لحم حيث قضى هناك عدة سنوات وتأدب بآداب أديرة سوريا، ثم قدم إلى مصر مع صديق جرمانوس ليتتلمذ على أيدي قديسيها وبعد أن قضى الصديقان سبع سنوات في مصر، عادا إلى ديرهما في بيت لحم، لكن ما لبثا أن زارا مصر مرة ثانية وبعد ذلك ذهب كاسيان إلى القسطنطينية حيث سامه القديس يوحنا فم الذهب شماسًا، وهناك شهد كاسيان وجرمانوس الأحداث التاريخية المؤدية إلى خلع ونفى فم الذهب وفي عام 404 م. ذهب إلى روما حاملًا رسالة التماس إلى البابا أنوسنت Innocent من أكليروس القسطنطينية يؤيدون فيها القديس يوحنا فم الذهب، ومكث هناك لفترة من الوقت، وربما كانت سيامته كاهنًا بيد أنوسنت في ذلك الوقت. ومن روما عاد كاسيان إلى فرنسا حيث استقر في مرسيليا وأسس ديرين وسط الغابات الكثيفة أحدهما للرهبان ويُقال أنه بُني على قبر القديس بقطر وهو شهيد من عصر دقلديانوس والآخر دير للعذارى. ولما كان لكاسيان من خبرة ودراية بالأنظمة الرهبانية في مصر، كان يُنظر إليه كمرجع ومصدر ثقة، ويُعد هو المنظم والمدبر الأول للرهبنة الغربية إذ نقل كل التراث القبطي من تعاليم وتسابيح وصلوات إلى الغرب. أما عن الدور التأريخي الهام الذي لعبه كاسيان، فنراه جليًا عند دراستنا لكتابيه "المناظرات"و "المؤسسات": المناظرات: أو المقابلات Conferences وهي أحاديث كاسيان وجرمانوس مع مشاهير الآباء الأقباط والتي يقدمون فيها التعاليم الرهبانية القبطية. المؤسسات: وفيه شرح كاسيان القوانين الرهبانية، والخطايا الثمانية التي تعيق الإنسان في جهاده الروحي. ويُعد هذان العملان من الأعمال الهامة في التأريخ للرهبنة والنسك القبطي في القرن الرابع، إذ يمدنا بصورة حية عن الأنظمة والتقاليد الرهبانية في ذلك الوقت مع التعريف بآباء تلك الفترة. وبجانب هذين العملين التاريخيين كتب كاسيان بحثًا في سبع مجلدات "عن التجسد ضد نسطور".

القديس إغريغوريوس صانع العجائب، أسقف قيصرية الجديدة

نشأته ولد وثنياً من أبوين وثنيين ذوى شهرة وكرامة عالية، ودُعِيَ اسمه ثيودورس Theodorus، ولم يعرف بالاسم اغريغوريوس إلا بعد قبول الإيمان المسيحي ومعموديته وكانت ولادته في قيصرية الجديدة بنواحي البحر الأسود من أعمال البونطس في آسيا الصغرى في أوائل القرن الثالث، حوالي سنة 213 م، وتوفى والده وهو في الرابعة عشرة من عمره، لكنه أكمل تعليمه إذ كان محباً للمعرفة ومشتاقاً إلى إدراك الحق... وكان مهتماً بدراسة القانون والبيان وحدث أن زوج أخته كان قد عين معاوناً لحاكم فلسطين، فصاحبها عام 233 م. ومعه أخوه أثينودورس Athenodorus الذي صار بعد ذلك أسقفاً واحتمل الكثير من أجل الإيمان بالمسيح وهناك درس العلوم القانونية الرومانية، حيث كانت هذه العلوم في ذلك الوقت سمة كبار القوم، وكان يتأمل مظاهر العبادة الوثنية المحيطة به من يوم وإلى يوم... فنما فيه شعور بالنفور من ناحيتها، وبدأ يتلمس طريق الحق وفى قيصرية فلسطين التقى هو وأخوه بالعلامة أوريجانوس السكندري، الذي كان قد لجأ إليها أثناء فترة خلافه مع البابا ديمتريوس وأنشأ بها مدرسة لاهوتية ضخمة، فهزهما هزاً وغير أفكارهما وبرنامجهما وبالرغم من عدم معرفة أوريجانوس السابقة لهما، إلا أنه أحسن استقبالهما وهما بعد وثنيين، مظهراً لهما سروراً من أجل اصطيادهما وربحهما لحساب المسيح، وأنقذهما من ظلمة العبادة الوثنية وارتبطًا به وأحباه جدًا، وتتلمذا على كلماته وعظاته، واجتهدا في مطالعة الكتاب المقدس وفي الدراسة بمدرسة الموعوظين، وأعجب ثيودورس الشاب به جداً إلى الحد الذي جعله يكتب خطاباً يذكر فيه تفاصيلاً ملموسة عديدة، ومدحه بدون تحفظ قائلاً: "إن ملاك الله أرشدنا في طريق هذه الحياة، وربطنا بحبل المودة مع هذا الرجل العظيم الذي سنستفيد منه جداً، ومع كونه مسيحياً ولا معرفه له بنا، إلا أنه أحسن استقبالنا وأظهر لنا سروراً كأننا أناس قد هداهم الله إلى شباكه ليصطادنا ويربحنا للإنجيل وينقذنا من ظلام عبادة الأوثان" كان العلامة أوريجين يهتم بتدريس شتى العلوم والمعارف والفلسفات معتبراً أنها مقدمة للفلسفة الحقة الحقيقية التي هي دراسة الأسفار الإلهية، وطريق خلاص للعقلانيين والفلاسفة المعاصرين له وأيقن الأخان أن الحق الذي يطلبانه لا يوجد في كتب الفلاسفة ولا في الفكر البشرى المجرد، إنما خلال نور الإيمان وإعلانات الله، فقادهما أوريجانوس بلباقته وحكمته ونسكه إلى قبول الإيمان والدراسة في مدرسة الموعوظين وأشاد أوريجين باغريغوريوس معتبراً إياه ابناً مكرماً له، حاثاً إياه أن يضرم مواهبه ويستثمرها لحساب ملكوت الله، وأن يوظفها درسه من فلسفات في خدمة العمل الكرازي لمواجهة خليط الفلسفات بذات أسسهم، وتفنيد حججهم وقيادتهم إلى الإيمان الحقيقي ويشهد اغريغوريوس لمعلمه ومعينه أوريجين بأنه قدم حياته مثلاً للحياة الإنجيلية وأن سر انجذابه له كان في أعماله التي فعلها أكثر من التعاليم التي عمله إياها،وكان اغريغوريوس يذكر دائمًا كيف قدم له أوريجين التعاليم المسيحية العلمية، كيف علمه كلمة الله وكيف ساعده ليترك حياته البربرية الوثنية، وكيف تتلمذ عند قدميه قرابة خمس أعوام، وكيف سلمه لاهوت الحياة الروحية، وكيف قدم له الإيمان المستقيم بطريقة شاملة وأشاد أيضاً اغريغوريوس العجائبى بمعلمه أوريجين، عندما وصف إمكانياته في تفسير كلمة الله قائلًا عنه: "الروح القدس الذي يوحى للأنبياء، كرمه كصديق، وعينه كمفسر خاص به"، "له القدرة أن يصغى لله ويفهم أقواله ويشرحها للبشر لكى يفهموها هم أيضاً"ويذكر علم الباترولوچى أن أوريجانوس أرسل رسالة إلى تلميذه القديس اغريغوريوس كتبت ما بين عام 238 وعام 243 م. بينما كانا أوريجين في نيقوميديا يطلب فيها منه أن يقتطف من الفلسفات اليونانية ما يمكن أن تنتفع به المسيحية، كما انتفع اليهود بالأواني الذهبية والفضية التي أخذوها من المصريين في خدمة الإله الحقيقي، كما طالبه بالاهتمام الشديد بدراسة الكتاب المقدس وأن يقرع الباب ويسأل خلال الصلاة لكي يتفهم الأسرار الإلهية يوصى أوريجين تلميذه اغريغوريوس قائلًا له: "جاهد في قراءة الكتب الإلهية، نعم كن مثابراً.. اقرع فسيفتح لك الباب... ولا تتوقف عن القرع والسؤال، فإن الصلاة هي أهم عون لازم لمعرفة الحق الروحي، لهذا قال الرب اقرعوا فسيفتح لكم، اطلبوا تجدوا كما قال اسألوا تعطوا" وبالجملة لقد استمر اغريغوريوس وأخوه ملتصقين بأوريجين، إلى أن ثار اضطهاد مكسيميانوس، مما اضطر معه أوريجين إلى ترك قيصرية إلى حين، وحينئذ أتى اغريغوريوس إلى الإسكندرية المدينة العظمى المحبة للمسيح، ودرس الطب والفلسفة اللذين كانا في أوج شهرتها هناك وفى الإسكندرية كان غريغوريوس وأخوه اثينودوراس يتعلمان في مدرسة الموعوظين التي كان يديرها ويرأسها وقتئذ القديس ديونيسيوس (انظر كتاب "البابا ديونيسيوس السكندري "ضمن هذه السلسلة (أخثوس) IXΘYΣ الذي صار فيما بعد البابا السكندري.

القديس ايريناؤس اسقف ليون

يعد القديس ايرناؤس أهم لاهوتي القرن الثاني، وتاريخ ميلاده بالتحديد غير معروف، لكنه في الغالب ما بين عام 140 وعام 160 م، وقد ولد في سيمرنا (أزمير) في أسيا الصغرى، إذ أنه يخبرنا في رسالته إلى الكاهن الروماني فلورينوس Florinus انه استمع في شبابه المبكر إلى عظات القديس بوليكاربوس اسقف سميرنا، وتكشف هذه الرسالة عن معرفة دقيقة ببوليكاربوس لا يمكن أن تكون إلا نتيجة لعشرة ومعرفة شخصية: "لأني عندما كنت صبيا، كنت أعرفك (يا فلورينوس) في أسيا الصغرى في منزل بوليكاربوس، عندما كنت رجلا ذا مكانة في البلاط الملكي، وكنت تسعى لكي تكون لك علاقة قوية معه (أي مع بوليكاربوس)، أني أتذكر أحداث هذه الأيام بوضوح أكثر من تلك التي حدثت قريبا، لأن ما نتعلمه في طفولتنا ينمو مع النفس ويتحد بها، لذا استطيع أن أصف حتى المكان الذي كان المبارك بوليكاربوس يجلس فيه وهو يعظ، وطريقة دخوله وخروجه، وأسلوب حياته، وهيئته الجسمانية، وعظاته للشعب، والوصف الذي قدمه عن عشيرته مع يوحنا والآخرين الذين رأوا الرب، وكيف أنه كان يتذكر كلماتهم وما سمعه منهم عن الرب، ومعجزاتهم وتعاليمهم، وكيف أن بوليكاربوس استلمها من شهود عاينوا ورأوا كلمة الحياة، وروى كل شيء بما يتفق مع الأسفار المقدسة، وقد أصغيت بشغف لهذه الأمور برحمة الله التي وهبت لي، وسجلتها، لا على ورق، بل في قلبي، وصرت أتأمل وأتفكر فيها وأرددها بنعمة الله". (1) من الواضح من هذه الكلمات أن ايريناؤس اتصل بالعصر الرسولي من خلال معلمه بوليكاربوس،ولأسباب غير معروفة ترك ايريناؤس أسيا الصغرى وذهب إلى بلاد الغال (فرنسا)، وسيم كاهنًا على كنيسة ليون، وفي عام 177 م. أرسل إلى البابا القثيروس Eleutherus في روما من قبل كنيسة ليون ليتوسط لديه ويراجعه في موضوع المونتانية Montanism، التي كان يحتضن أتباعها. وقد حمل رسالة إلى البابا تقول: "لقد طلبنا إلى أخينا ورفيقنا إيريناؤس أن يقدم هذه الرسالة لكم ونرجو منكم إكرامه وتوقيره لأنه غيور على عهد المسيح، ولو علمنا أن الرتبة يمكن أن تضفى صلاحا على أحد لكنا أول كل شيء فوضناه ككاهن لهذه الكنيسة (أي ليون) لأن هذه هي وظيفته فعلا". (2) وعندما عاد إيريناؤس من روما كان بوثينوس Photinus الأسقف الشيخ قد نال إكليل الشهادة وهو في التسعين من عمره، فصار إيريناؤس خليفته في الأسقفية، وفيما بعد عندما اختلف فيكتور (3) أسقف روما مع الأساقفة الاسيويين في أمر عيد الفصح، كتب ايريناؤس إلى عدد من هؤلاء الأساقفة، وإلى فيكتور نفسه يحثهم ويرجوهم أن يحفظوا السلام والمحبة، لذلك قال يوسابيوس (4) إن ايريناؤس عاش كما يليق باسمه لأنه أثبت أنه صانع سلام حقيقي كما هو تفسير اسمه، وبعد ذلك لا نعلم أي شيء عن ايريناؤس وحتى تاريخ نياحته غير معروف، ولكن جيروم (5) يخبرنا انه "عاش وظل يكتب حتى عهد الإمبراطور كومودوس الذي خلف الإمبراطور مرقس انطونيوس فيروس على العرش وفي القوة" وتعد شهادة غريغوريوس أسقف تورز القائلة (6) أن ايريناؤوس نال إكليل الشهادة موضع شك، لأنها جاءت متأخرة، ويوسابيوس لم يشر قط إلى مثل هذا الاستشهاد.

البابا الكسندروس البطريرك ال19

سيامته: وُلد بالإسكندرية، وسيم بها قسًا، ثم سيم بابا للإسكندرية كما تنبأ البابا بطرس خاتم الشهداء (17)، وكان قد بلغ سن الشيخوخة، ومع هذا فكان يخدم الله بنشاط تقوي قال عنه المؤرخ الأنبا ساويرس بأن القديس أثناسيوس (البابا 20) روي بأن البابا ألكسندروس ما كان يقرأ الكتاب المقدس جالسًا قط، وإنما كان يقف والضوء أمامه. في تقواه دعاه الشعب بالقديس، وفي حبه للفقراء والمساكين كانوا يلقبونه "أب المساكين". مقاومته للميلانية والأريوسية: حاول أتباعا ميليتس أسقف ليكوبوليس (أسيوط) بكل طاقتهم عرقلة سيامة الكسندروس مرشحين أريوس ليكون هو البابا البطريرك ميليتس هذا كان قد أنكر الإيمان في اضطهاد دقلديانوس بالرغم من النصيحة التي قدمها له أربعة أساقفة بالسجن، ولم يكتفِ بهذا وإنما استغل سجن البابا ليجلس علي كرسيه ويرسم كهنة بالإسكندرية ويسلم أساقفة إيبارشيات غير إيبارشياتهم، وبهذا كوّن لنفسه حزبًا يتكون من ثلاثين أسقفًا يعلنون استقلالهم عن البابا، ويدخلون بعض الأنظمة اليهودية في عبادتهم. عقد البابا بطرس خاتم الشهداء مجمعًا حكم فيه بتجريد ميليتس من درجته فلم يعبأ بذلك. وقد أصدر مجمع نيقية حكمه بشأن انشقاق ميليتس، فخضع لحكم المجمع وخضع للبابا الكسندروس حتى مات عام 330 م أما أريوس فكان في البداية منتميًا لأتباع ميليتس، يشجع ملاتيوس علي الانشقاق ضد البابا بطرس. وعندما سيم البابا الكسندروس حاول أن يجتمع به فرفض، معلنًا لرسله أن البابا بطرس قد منعه في السجن من قبوله في شركة الكنيسة كأمر السيد المسيح نفسه الذي ظهر له بثوب ممزق قائلًا بأن أريوس هو والذي مزقه. وقد طلب منهم أن يقدم توبة للسيد المسيح، فإن قبلها يعلن له الرب ذلك فيقبله. ثار أريوس وصار يهاجم ألوهية المسيح علانية، مستخدمًا مواهبه من فصاحة وخداع مع وضع ترانيم لها نغمات عذبة تجذب البسطاء، كما تظاهر بروح النسك والعبادة، وقد اجتذب كثيرًا من الراهبات والعذارى والنساء، استخدمهن في نشر بدعته عقد البابا مجمعًا محليًا عام 319 م. يطالبه بترك بدعته، وإذ رفض عقد مجمعًا آخر بالإسكندرية يضم 100 أسقف من مصر وليبيا حرم أريوس وبدعته، مصدقًا علي قرار المجمع السابق. كتب أريوس إلى أوسابيوس أسقف نيقوميديا يستعطفه في خبث كمن هو مُضطهد من أجل الحقن وبقي في عناده يعظ ويبث سمومه، فطرده البابا حاول أريوس استمالة بعض الأساقفة في إيبارشيات خارج مصر، فكتب البابا الكسندروس إلي سمية الكسندروس بطريرك القسطنطينية، كما إلي بقية الكنائس يشرح لهم بدعة أريوس ومعتقداته الخاطئة. (ستجد المزيد عن هؤلاء القديسين هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام السير والسنكسار والتاريخ وأقوال الآباء)عقد أتباع أريوس مجمعين الأول في بيثينية عام 322 م.، والثاني في فلسطين عام 323 م. قررا بأن الحكم الصادر ضد أريوس من بطريرك الإسكندرية باطل، وطالبا بعودة أريوس إلي الإسكندرية، وعاد أريوس إلي الإسكندرية ليقاوم الحق اضطر البابا أن يشهر حرمان أريوس ويطرده للمرة الثانية، وقام الشماس أثناسيوس بكتابة منشور ضد بدعة أريوس وقعه 36 كاهنًا و44 شماسًااستطاع أوسابيوس أسقف نيقوميديا بدالته أن يستميل قسطنطين الإمبراطور إلي أريوس، إذ كانت أخت الامبراطور أي كونسطاسيا تكرم الأسقف أوسابيوس. أرسل الإمبراطور قسطنطين أوسيوس أسقف قرطبة من أسبانيا وهو من المعترفين الذين احتملوا العذابات في عهد مكسيميانوس، إلي الإسكندرية ليتوسط لدي البابا فيقبل أريوس، وبعث معه خطابًا رقيقًا متطلعًا إلي أريوس ككاهن تقي غيور. وبوصول الأسقف إلي الإسكندرية لمس بنفسه ما يفعله أتباع أريوس، فانضم إلي البابا وطلب من الإمبراطور أن يأمر بعقد مجمع مسكوني لينظر في أمر الأريوسيين ُقد مجمع نيقية عام 325 م، وكان للقديس أثناسيوس الرسولي دوره الكبير في كشف أباطيل الأريوسيين، فقطع أريوس وأتباعه، ونُفي إلي الليريكون تنيح البابا الكسندروس حوالي عام 328. تعيد له الكنيسة الغربية في 26 فبراير، واليونانية في 29 مايو، والقبطية في 22 برمودة. لاهويتاته وكتاباته: كان يبذل كل الجهد لمقاومة فكر أريوس منكر لاهوت السيد المسيح، والذي كان ينظر إليه باعتباره صنيعة بولس السومسطائي ولوقيانوس الإنطاكي، مقدمًا تعليمه الذي هو "التعليم الرسولي الذي من أجله نموت"، مؤكدًا أزلية الابن ووحدته مع الأب في الجوهر، موضحًا أن بنوته للآب طبيعية وفريدة وليست بالتبني، لذا دعي القديسة مريم "والدة الإله". من كلماته: [إن كان الابن هو كلمة الله وحكمته وعقله، فكيف وُجد زمن لم يوجد فيه؟! هذا كمن يقول بأنه وُجد زمن كان فيه الله بلا عقل وحكمة]. أهم كتاباته هي: 1. يعلن القديس أبيفانيوس في كتابه ضد الهراطقات (69 : 4) عن وجود سبعين رسالة له، فُقدت جميعها ما عدا رسالتين في غاية الأهمية بخصوص الصراع الأريوسي. 2. له عظات من بينها وجدت عظة بالقبطية والسريانية عن النفس والجسد وعلاقتهما ببعضهما البعض.

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل