المقالات
13 أبريل 2021
قوة الإرادة
تقوية الإرادة من الفوائد المهمة التي يساعدنا الصوم على اقتناءها، والتي تُسْتَفَاد من الصوم.. والصوم من أهم التدريبات التي نأخذها في حياتنا لِتَقوية الإرادة.. فبعض الأشخاص تكون نِيَّتهم حسنة ويريدون أن يفعلوا أفعالًا جيدة، ولكن لضعف إرادتهم لا يستطيعون اتخاذ القرار. وقد يكونون أشخاصًا مُعتدلين وذو وقار وهيبة، ولكنهم لا يستطيعون اتخاذ قرار لصالِحهم أو لصالِح الآخرين.. فهذا عيب في الشخصية، وهو ضعف الإرادة. ولذلك عَلَّمتنا الكنيسة أن الصوم تدريب روحي لِتَقوية الإرادة، فالأمس كنا نأكل ونشرب كل ما نشتهي ولا نمنع أنفسنا عن شيء، ولكن بحلول الصوم واندماجنا فيه نستطيع أن نقول للفم: "سوف لا تَذُق هذا الطعام فترة من الزمن". وأُخاطِب حاسة الشَّم التي تَشِم وتَشْتَهي المأكولات المُحَبَّبة قائِلًا: "سوف لا أعطيكي ما تشتهينه". وسوف أَتَحَكَّم في نظري الذي يَتَلَهَّف على رؤية المأكولات والمشروبات الشهية وأقول لعيناي: "سوف لا أعطيكي ما تَشْتَهينَهُ". فدائِمًا الشهوة تَلِد خطية: "ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا" (رسالة يعقوب 1: 15).وهنا تبدأ إرادة الإنسان أن تَتَقَوَّى رويدًا رويدًا حتى يصل الإنسان إلى أن يصبح صاحِب قرار قوي دون تَرَدُّد، يستطيع أن يُفَكِّر ويَتَغَلَّب على الصِّعاب ويتخطَّى كل المعوقات، بِحُسن تفكيره واتخاذه القرار المُناسِب في الوقت المناسب. ولا نَحِد الكلام هنا عن ملاذ الجسد من مأكولات ومشروبات، فالمُحارَبات كثيرة، ولا تُحصى فتعالى بنا ننظر أيها الحبيب عن تجارب السيد المسيح المُعْلَنة على الجبل، وكيف تَصَدَّى لها بكل قوة، لِيُعَلِّمنا كيف نَقِف أمام حِيَل إبليس ومُحارَباتهُ المُتَعَدِّدة فِعندما يجوع الجسد يكون الفِكر مُنْشَغِل بكيف آكُل، ومتى، ونوعية الطعام، وغير ذلك من الأفكار الكثيرة.. فَمَع جوع الجسد يكون مُتَلَهِّفًا للغِذاء، وقد يَصِل الإنسان إلى عدم التمييز بين الأكل الضار أو المُفيد، فهو مُهْتَم بِسَدّ الجوع بشبع أيًّا كان هذا الأكل. وهنا تَبْرُز إرادة الإنسان: هل هي قوية أم ضعيفة؟ هل يُحْسِن الاختيار، أم يأكُل ما يَضُرّهُ أكثر من الجوع.. "فَبَعْدَ مَا صَامَ أَرْبَعِينَ نَهَارًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيرًا" (إنجيل متى 4: 2) حسب طبيعته الناسوتية، ولكنه كان قوي الإرادة أمام حَرْب الشيطان عندما خاطَبهُ حسب طبيعتهُ اللاهوتية: "فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ الْمُجَرِّبُ وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا»" (إنجيل متى 4: 3)، فكان رد السيد المسيح عليه بكل قوة لِيُعَلِّمنا أن ليس غِذاء الجسد هو الذي يُحيي الإنسان، ولكن كلمة الله الحية هي التي تُحيي الروح والجسد أيضًا: ".. لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اللهِ" (سفر التثنية 8: 3؛ إنجيل متى 4: 4؛ إنجيل لوقا 4: 4)،وهكذا انتصر على شهوة الجسد.وهكذا في التجربة الثانية التي وُجِّهَت إلى شهوة العيون والامتلاك والعَظَمة عندما أخذه ".. وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ، وَقَالَ لَهُ.. قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ»" (إنجيل متى 4: 5-7). نجِدهُ بقوة إرادته انتصر على شهوة العيون.وفي التجربة الثالثة أخذه لِيُريه مجد العالَم: ثُمَّ أَخَذَهُ أَيْضًا إِبْلِيسُ إِلَى جَبَل عَال جِدًّا، وَأَرَاهُ جَمِيعَ مَمَالِكِ الْعَالَمِ وَمَجْدَهَا.. لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (إنجيل متى 4: 8-10). وهكذا انتصر السيد المسيح مُمَثِّلًا للبشرية كلها على تَعَظُّم المعيشة ومجد العالَم الفاني.إذًا، فلنأخُذ هذه التجارب وكيفية النُّصرة عليها مَثَلًا حيًّا لنا في حياتنا لنستطيع أن نُقَوِّي إرادتنا الضعيفة، ونقف أمام خَديعة الشيطان المُسْتَمِرًّة، ونقلع عن الخطية المُسَيطِرة علينا بقوة السيد المسيح الذي صام عنَّا ليعطينا مِثالًا لكي نَتبع خطواته.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
11 أبريل 2021
أحد المخلع الأحد الخامس من الصوم الكبير تشديد الإيمان
ارتباط فصول القراءات:
تشديد الإيمان
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "تشديد الإيمان" أي تشديده لقوى المؤمنين الروحية، ففي إنجيل العشية يعد المخلص بإنصاف الصارخين إليه منهم كما أنصف قاضى الظلم الأرملة، وفي إنجيل باكر يعدهم بملكوته كما انتزع الكرم من الكرامين الأردياء وأعطاه لآخرين يؤدون إليه الثمر في أوانه، ويبين في إنجيل القداس أنه يشدد قواهم كما شدد أوصال المخلع المطروح عند بركة بيت صيدا مدة ثمان وثلاثين سنة فبرئ وحمل سريره ومشى، وفي إنجيل المساء يغفر لهم خطاياهم كما غفرها للمفلوج المدلى من السقف وأبرأه.
ويوصيهم الرسول بولس في فصل البولس المقروء بوجوب الثبات على الإيمان في الضيقات كما أوصى بذلك أهل تسالونيكي، ويحثهم بطرس في الكاثوليكون على ضرورة إتباع القداسة حتى مجيء المسيح ثانية، أما الإبركسيس فيهيب بهم أن يتحملوا المحاكمة في سبيل الإيمان كما تحملها بولس حين قدم أمام الملك أغريباس.
البولس من (2 تسالونيكي 2: 1 – 17)
1 ثم نسألكم أيها الأخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا إلي أن لا تتزعزعوا سريعًا عن ذهنكم ولا ترتاعوا لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا أي أن يوم المسيح قد حضرلا يخدعنكم أحد على طريقة ما لأنه لا يأتي إن لم يأت الارتداد أولًا ويستعلن إنسان الخطية ابن الهلاك المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلها أو معبودًا حتى انه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه إنه إله أما تذكرون أني وأنا بعد عندكم كنت أقول لكم هذا والآن تعلمون ما يُحتجز حتى يستعلن في وقته لأن سر الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يرفع من الوسط الذي يُحجز الآن وحينئذ سيستعلن الأثيم الذي الرب يبيده بنفخة فمه ويبطله بظهور مجيئه الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة وبكل خديعة الإثم في الهالكين لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب لكي يدان جميع الذين لم يصدقوا الحق بل سروا بالإثم وأما نحن فينبغي لنا أن نشكر الله كل حين لأجلكم أيها الأخوة المحبوبون من الرب أن الله اختاركم من البدء للخلاص بتقديس الروح وتصديق الحق الأمر الذي دعاكم إليه بإنجيلنا لاقتناء مجد ربنا يسوع المسيح فاثبتوا إذًا أيها الأخوة وتمسكوا بالتعاليم التي تعلمتموها سواء كان بالكلام أم برسالتنا وربنا نفسه يسوع المسيح والله أبونا الذي أحبنا وأعطانا عزاءً أبديًا ورجاءً صالحًا بالنعمة يعزي قلوبكم ويثبتكم في كل كلام وعمل صالح
إنسان الخطية
موضوع "إنسان الخطية" يعتبر إحدى النبوات الرئيسية في العهد الجديد، ومع هذا إذ كتب عنه الرسول لم يقصد به الكشف عن أحداث مستقبلية بقدر ما أراد تحقيق أهداف عملية، لذا ختمه بالحديث عن "الثبوت في الرب" ليدخل بعد ذلك في القسم الثالث من الرسالة الخاصة بالوصايا العملية.
1. الارتداد أولًا
"ثم نسألكم أيها الإخوة من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا إليه، أن لا تتزعزعوا سريعًا عن ذهنكم،ولا ترتاعوا لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا، أي أن يوم المسيح قد حضر" [1-2]. يطلب الرسول بولس من أهل تسالونيكي ألا يكون ذهنهم مرتاعًا كسفينة تلعب بها الأمواج العنيفة، وذلك من جهة مجيء ربنا يسوع المسيح واجتماعنا فيه ومعه في ذلك اليوم العظيم، ظانين أن اليوم قد حضر. يلزمهم ألا ينحرفوا بروح أي بنبوات كاذبة أو إعلانات باطلة، ولا بكلمة أي بإساءة تفسير كلماته حين كان يكرز في وسطهم، ولا برسالة كأنها منه أي إساءة فهم رسالته السابقة، أو قبولهم رسالة مدسوسة ليست صادرة عنه، أو قبول الاثنين معًا، أي إساءة فهم رسالته وقبول رسالة مزيفة.إنه يوصي المؤمنين ألا يسيروا وراء الأمواج العنيفة التي تنادي بأن يوم المسيح قد حضر، فإنه يلزم أن يسبقه الارتداد، ويستعلن إنسان الخطية مثير الارتداد، إذ يقول:"لا يخدعنكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي إن لم يأتِ الارتداد أولًا، ويستعلن إنسان الخطية، ابن الهلاك، المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا، حتى أنه يجلس في هيكل الله كإله مظهرًا نفسه أنه إله" [3-4].
شغل موضوع "إنسان الخطية" كتابات الكنيسة الأولى والعصور الوسطى وأيضًا اللاهوتيين المحدثين، فقد قارنوا بينه وبين ما ورد في سفر دانيال عن الملك المتأله (ص 11)، وما جاء في سفر الرؤيا عن النبي الكذّاب والوحشين البرّي والبحري (رؤ20,19,16,13)، وما تعرض له القديس يوحنا الحبيب في رسائله عن ضد المسيح.تحدث القديس يوستين الشهيد في القرن الثاني عن إنسان الخطية بكونه إنسان الارتداد الذي ينطق بما هو ضد العليّ، ويتجاسر بارتكاب أعمال شريرة ضد المسيحيين.وقد ساد في القرون الأولى اعتقاد أن هذا الإنسان يظهر بعد زوال الدولة الرومانية، فيتطلّعون إلى الإمبراطورية كقوة مقاومة لظهوره. لهذا يقول العلامة ترتليان: [أي عائق له إلا الدولة الرومانية، فإنه سيظهر الارتداد كمقاوم للمسيح.] كما يقول: [نلتزم نحن المسيحيون بالصلاة من أجل الأباطرة واستقرار الإمبراطورية استقرارًا كاملًا، فإننا نعرف أن القوة المرعبة التي تهدد العالم يعوقها وجود الإمبراطورية الرومانية، هذه القوة التي لا نريدها فنصلي أن يؤجل اللَّه ظهورها. بهذا تظهر إرادتنا الصالحة لدوام الدولة الرومانية.]ورأى فريق من الآباء أنه يظهر بعض الأشخاص مقاومين للحق، ضد المسيح يكونون مثالًا ورمزًا لضد المسيح الحقيقي الذي يظهر في أواخر الدهور، فيتطلع القديس كبريانوس إلى أنطيخوس أبيفانيوس كمثال لضد المسيح، بينما يتطلع القديس يوحنا ذهبي الفم إلى نيرون هكذا بكونه حسب نفسه إلهًا.أما في القرون الوسطى فقد اهتم كثير من اللاهوتيين الغربيين بموضوع "ضد المسيح"، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فتطلع بعض مقاومي السلطان الكنسي في أوربا إلى الكرسي البابوي كضد المسيح. يقول الأب برنارد: [صار خدام المسيح خدامًا لضد المسيح، وجلس وحش الرؤيا على كرسي القديس بطرس.] غير أن كثير من اللاهوتيين البروتستانت رفضوا هذا الرأي، مؤكدين أن ضد المسيح ليس نظامًا معينًا بل هو إنسان معين يظهر في أواخر الدهور قبل مجيء السيد المسيح الأخير.
بين السيد المسيح وضد المسيح
أولًا: يقول الرسول "يستعلن إنسان الخطية" [3]. فكما جاء السيد المسيح بكونه كلمة الله المتجسد، الذي فيه يتشخص كمال البرّ الإلهي، من يقتنيه إنما يقتني برّ الله فيه، هكذا يأتي إنسان الخطية فتتشخص فيه الخطية، يبث روح الشر في أتباعه ويقاوم كل برّ حقيقيٍ.
ثانيًا: يدعى "ابن الهلاك" [3]. إن كان الشيطان قد هلك باعتزاله الله سرّ حياة الخليقة كلها، ويتم كمال هلاكه في يوم الرب العظيم، فإن عمله الرئيسي هو إفساد خليقة الله وإهلاكها، بل ويبث فيها سمته، فيصيرون محبين لهلاك الآخرين، وكأن أتباعه يحملون صورته ويكونون على مثاله، كما يحمل المؤمنون صورة الله ويسلكون على مثاله.لقد حمل يهوذا الخائن هذا اللقب "ابن الهلاك" (يو 17: 12)، الذي ملك عليه الشيطان، ونحن نحمل لقب "أبناء الله" إذ يملك الله فينا وعلينا، مخلصًا إيّانا من الهلاك.
ثالثًا: إنسان الخطية هو إنسان حقيقي لبسه الشيطان ليعمل فيه بكل طاقته حتى إن أمكن أن يضل حتى المختارين (مت 24: 24)، والسيد المسيح هو ابن الله الذي صار إنسانًا حقيقيًا بتجسده، يحمل طبيعتنا لكي يفديها، فيرد الضالين حاسبًا إيًاهم إخوة أصاغر له خلال ذبيحة الصليب التي قدمها عنا. لقد صار واحدًا منا ليقدم الفدية باسمنا ولحسابنا.
رابعًا: دُعي "المقاوم والمرتفع على كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا" [4]. إذ يقيم نفسه إلهًا يقاوم الله ويثير البشرية ضد ملكوته، بقدر ما يظهر إنسان الخطية في كبرياء، ناسبًا لنفسه ما ليس له نجد السيد المسيح، الواحد مع الآب في تواضع يخضع بالطاعة الكاملة للآب حتى الموت موت الصليب. إنه يخلي ذاته محققًا في نفسه كل طاعة (عب5: 8) وكل تسليم للإرادة، لنحسب نحن فيه أبناء الطاعة ونسترد ما خسرناه خلال كبريائنا وعصياننا.لقد لاحظ القديس إيريناؤس أن ضد المسيح في كبريائه لا يقدر أن يرتفع على اللَّه، وإنما على كل ما يدعى إلهًا، مع أنه بالحقيقة ليس هكذا. والعجيب أن اليهود يرفضون السيد المسيح الذي جاء يتحدث عن الآب طالبًا مجده مع أنه واحد مع الآب ويقبلون ضد المسيح الذي يأتي ليتحدث عن نفسه طالبًا ما لذاته لا ما لله، وكما يقول القديس أغسطينوس: [إذ يعلن الرب عن ذاك الذي يطلب مجد نفسه لا مجد الآب (يو 7: 18) يقول لليهود: "أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني. إن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه" (يو 5: 43) لقد أعلن لهم أنهم سيقبلون ضد المسيح الذي يطلب مجد نفسه منتفخًا، وهو ليس بصادق ولا ثابت، وإنما بالتأكيد هالك. أما ربنا يسوع المسيح فأظهر لنا نفسه مثالًا عظيمًا للتواضع، فمع كونه بلا شك مساويًا للآب.. لكنه يطلب مجد الآب لا مجد نفسه.] أما سرً قبول اليهود لضد المسيح فهو تفكيرهم المادي وتفسيرهم الحرفي للنبوات.
خامسًا: يحدد الرسول بولس "هيكل الله" كمركز عمل المقاوم، حيث يجلس فيه مظهرًا نفسه إلهًا [4].
ماذا يقصد بالهيكل؟ يرى القديسان إيريناؤس وكيرلس الكبير أن ضد المسيح يقوم بتجديد الهيكل اليهودي في أورشليم كمركز لعمله. ويرى القديسون يوحنا ذهبي الفم وأغسطينوس وجيروم والأب ثيؤدوث أنه يتربع في هيكل الكنيسة المسيحية. ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [إنه يجلس في هيكل الرب ليس فقط في أورشليم، وإنما في كل كنيسة.] وهذا ما أخطرة علينا والذي ينبهنا أن نفيق من غفلتنا التي نحيا فيها.على أي الأحوال إن كان السيد المسيح قد جاء إلى العالم ليكرس كل قلب كهيكلٍ مقدس للثالوث القدوس، وخلال هذا التقديس يعود للهيكل الإلهي قدسيته، فإن ضد المسيح يأتي ليهدم القلوب، ويفسد الهيكل القائم فيها، مغتصبًا إيّاها لحسابه، كما يفسد كنائس الرب ويضطهدها.
سادسًا: يقول الرسول عنه: "الذي مجيئه بعمل الشيطان بكل قوة وبآيات وعجائب كاذبة، وبكل خديعة الإثم في الهالكين، لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلصوا" [9-10].كأن الشيطان يعلن مملكته ببث طاقاته فيه للتضليل والانحراف عن الحق حتى يدخل بالبشرية إلى مملكة ظلمة الباطل. أما السيد المسيح فقد جاء ليعمل بقوة لاهوته ليدخل بهم إليه فينعمون بنور الحق. إنه يقدم لهم روحه القدوس الذي يرشد إلى كل الحق وينطلق بالمؤمنين إلى الأسرار السماوية.سيحاول إنسان الخطية التشبه بالسيد المسيح فيعمل "بكل قوة وبآيات وعجائب" [9]، لكن جميعها "كاذبة"، لأنها من صنع إبليس المخادع، الذي يدعى "الكذّاب وأبو الكذّاب"، أما السيد فكان يصنعها بروح الحق خلال حبه لبني البشر وترفقه بهم. الأول في كبرياء يبرز قوته الوهمية والمؤقتة، أما السيد المسيح فيعمل بروح التواضع ليحملنا بالحب إلى مملكته النورانية.واستخدام ابن الخطية للقوات والآيات، وأيضًا ممارسة الأشرار لها، يجعلها ليست هدفًا يبحث عنه المؤمن، ولا معيارًا لصلاح الإنسان أو سلوكه بالحق. فالإيمان المسيحي لم يقم على القوات والآيات، فإن كان السيد المسيح قد قدّم آيات بلا حصر وقوات لم يسبق أن يسمع عنها بني البشر، لكنه قدّمها مجرد علامة حب وتحنن نحو البشر، مقدمًا نفسه آية لهم وسرّ حياة وقوة قيامة! عندما سُئل السيد أن يصنع آية أعلن أنه يقدم موته ودفنه وقيامته الأمور التي أعلنت رمزيًا في يونان النبي آية للبشرية. عمله الخلاصي للبشرية هو الآية التي يلزم أن تشغل كل الفكر وتمتص كل المشاعر والأحاسيس!
بين إنسان الخطية والملك المضطهد
لكي تبرز صورة إنسان الخطية كما سجلها لنا الرسول بولس نقارن بينه وبين ما ورد في سفر دانيال عن الملك المضطهد:
أولًا: عمل إنسان الخطية هو إثارة حركة الارتداد عن الإيمان، فلا يترك المؤمنون الإيمان فحسب وإنما يقاومون الحق، ويقفون ضد اللَّه نفسه، ويعلن دانيال النبي عمل الملك المضطهد ككاسر العهد المقدس، إذ يقول: "فييأس ويرجع ويغتاظ على العهد المقدس ويعمل ويرجع ويصغي إلى الذين تركوا العهد المقدس" (دا 11: 30).
ثانيًا: يجلس إنسان الخطية في هيكل الله كإله، ويقوم الملك المضطهد بتدنيس الموضع المقدس: "تقوم منه أذرع وتنجس المقدس الحصين" (دا 11: 31).
ثالثًا: يقاوم إنسان الخطية كل ما يدعى إلهًا أو معبودًا [4]، ويقف الملك المضطهد ضد الله، أو كما يقول دانيال النبي: "ويفعل الملك كإرادته، ويرتفع ويتعظم على كل إله، ويتكلم بأمورٍ عجيبة على إله الآلهة" (دا 11: 36).هكذا يظهر أن ما ورد في سفر دانيال (ص 11) عن الملك المضطهد إنما يعني "إنسان الخطية" الذي يتحدث عنه الرسول بولس في أكثر وضوح.
إنسان الخطية كما أعلنه الرسول
لعل الصورة الخاصة بإنسان الخطية قد وضحت الآن، فظهر أنه إنسان حقيقي يظهر قبيل مجيء السيد المسيح، ليقيم نفسه إلهًا، فيقاوم الكنيسة المسيحية، كضربة نهائية من قبل الشيطان قبل أن يحتضر بإعلان ملكوت الله الأبدي.والآن نشرح عبارات الرسول بولس عنه فيما عدا ما تعرضنا له في الصفحات السابقة:لقد طالبهم الرسول ألا ينخدعوا على طريقة ما، فلا يظنوا أن مجيء السيد المسيح الأخير قد حضر، وإنما يلزم أولًا أن يأتي الارتداد [3]، وقد دعاه بالارتداد، إنسان الخطية، ابن الهلاك، المقاوم، المرتفع [3-4] الأثيم [8].
يقول الرسول: "أما تذكرون إني وأنا بعد عندكم، كنت أقول لكم هذا" [5].يظهر من هذا القول أن الرسول سبق فحدثهم عن إنسان الخطية حين كان حاضرًا عندهم يكرز بالإنجيل، مع أن فترة كرازته كانت قليلة للغاية، ربما عدة أسابيع أو على الأكثر بعض الأشهر. وكأن الحديث عن مجيء إنسان الخطية المقاوم يمثل جزءًا لا يتجزأ من كلمة الكرازة. ففي الوقت الذي فيه يعلن الكارز عن بركة التمتع بالخلاص في استحقاقات الدم المقدس يلهب شوق السامعين لمجيء المخلص بقصد التمتع بشركة الأمجاد معه وفيه. لكن هذه العطية ليست بدون أتعاب أو آلام، وإنما يوجد الشيطان المضلل عبر العصور والذي يكتِّل كل طاقاته في الأيام الأخيرة بقصد إفساد النفوس. إذن، الحديث عن إنسان الخطية مرتبط بالإنجيل المقدس، تحدث عنه السيد المسيح نفسه، قائلًا: "حينئذ إن قال لكم أحد هوذا المسيح هنا أو هناك فلا تصدّقوا، لأنه سيقوم مسحاء كذبة وأنبياء كذبة ويعطون آيات عظيمة وعجائب حتى يضلوا لو أمكن المختارين أيضًا. ها أنا قد سبقت وأخبرتكم" (مت 24: 23 -25). ورأينا القديس يوحنا يتحدث في رسائله عن ضد المسيح، وفي سفر الرؤيا عن الوحشين البحري والبرّي (رؤ 13) وعن النبي الكذّاب (رؤ 16: 13؛ 19: 20؛ 20: 10)."والآن تعلمون ما يحجز حتى يستعلن في وقته، لأن سرّ الإثم الآن يعمل فقط إلى أن يرفع من الوسط الذي يحجز الآن" [6-7].كأنه يقول لهم بأنه إذ كان حاضرًا عندهم أخبرهم عنه موضحًا أن الإعلان عنه محتجز، أي أن ظهوره يتأخر إلى الوقت المناسب. إن سرّ الإثم يعمل الآن بطريقة خفيّة، لكنه حين يأتي زمان إنسان الخطية يُنزع الحاجز ليظهر الشيطان بكل طاقاته مجاوبًا الحق علانية. بظهور إنسان الخطية وإثارة الحرب ضد الحق تحسب كل مقاومة سابقة مهما اشتدت أنها مقاومة خفية! إن بشاعة ما يفعله ضد المسيح علانية تتضاءل أمامه كل أعمال الشيطان السابقة.شدة الهجوم الذي يشنّه إنسان الخطية تجعل البعض ينظر إليه أنه الشيطان بعينه.ربما تثير فينا كلمات الرسول بولس السابقة [6-7] التساؤلات التالية:ما هو هذا الحاجز الذي يعوق استعلان إنسان الخطية؟ ولماذا كتب الرسول بأسلوب غامض؟وكيف يرفع من الوسط؟
يجيب القديس يوحنا ذهبي الفم بأن في عصره ساد رأيان:
الرأي الأول: الحاجز هو الروح القدس الذي يعوق قيام إنسان الخطية حتى يحل الوقت المحدد. هذا الرأي يرفضه القديس يوحنا ذهبي الفم.
الرأي الثاني: أن الحاجز هو "الدولة الرومانية" التي تقف عائقًا عن ظهوره. وقد قبل القديس هذا الرأي متطلعًا إلى نبوة دانيال التي يفسرها هكذا: أن الدولة البابلية قامت على أنقاض بني مادي، وقام الفرس على أنقاض بابل، والمكدونيون (الدولة اليونانية) على أنقاض سابقتها، والرومانية على أنقاض اليونانية، وأخيرًا يأتي ضد المسيح ليملك على العالم عوض الدولة الرومانية، ويكون ذلك قبل مجيء المسيح يسوع ربنا ليملك على كنيسته في السماوات إلى الأبد. ففي رأيه أن الرسول أخفى ما هو الحاجز لكي لا يثير الإمبراطور الروماني ضد الكنيسة بكونها تتنبأ عن نهاية الدولة الرومانية وحلول ضد المسيح مكانها.ويمكننا أيضًا تفسير "إنسان الخطية" هنا بالأفكار الإلحادية والفلسفات المضادة للحق، فإنه إذ يسمح الله بها في العالم، تدخل هذه الأفكار والفلسفات في حرب ضد الحق الإنجيلي لكي تحتل القلب "هيكل الله" وتتربع فيه عوض الإيمان. هذه هي سمة العصر الحديث، حيث تقوم هذه الأفكار المتشامخة كإله يسيطر على القلب.والأمر الذي لا يمكن تجاهله هو ظهور شاب هندي يدَّعي الألوهية، هذا الشخص نجح في السيطرة علي عقول الكثيرين حتى اعتقدوا أنه هو الإله.يمكننا أن نقول أن "إنسان الخطية" يظهر في أكثر من صورة ليغتصب الهيكل المقدس بحيلٍ كثيرة. لذلك أكد السيد المسيح أنه سيظهر مسحاء كذبة كثيرون (مت 24).
أخيرًا، يليق بنا أن نعرض أحد الآراء اللاهوتية الخاصة حيث ينظر إلى المحتجز هنا على أنه كنيسة الأمم التي تحجز حتى تكمل، أما رفع الحاجز من الوسط فيعني عند أصحاب هذا الرأي اختطاف كنيسة الأمم مع عريسها لكي يأتي الارتداد ويستعلن إنسان الخطية. عندئذ يقبل اليهود الإيمان في آخر الأزمنة كقول الرسول بولس: "إن القساوة قد حصلت جزئيًا لإسرائيل إلى أن يدخل ملء الأمم، وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26). يؤكد أصحاب هذا الرأي اختطاف كنيسة الأمم قبل الارتداد مستندين على قول السيد المسيح: "حينئذ يكون اثنان في الحقل، يؤخذ الواحد ويترك الآخر، اثنتان تطحنان على الرحى، تؤخذ الواحدة وتترك الأخرى" (مت 24: 40-41).لكن هذا الرأي لا يقبله كثير من اللاهوتيين، للأسباب التالية:
أولًا: القول بأن الاختطاف يتحقق قبل مجيء السيد المسيح الأخير، بل وقبل ظهور إنسان الخطية إنما يعني ظهور السيد ثلاث دفعات: أولًا عند تجسده لتتميم الخلاص على الصليب، والثاني قبل ظهور إنسان الخطية لاختطاف كنيسة الأمم، والثالث للدينونة.لقد اهتم البعض بهذه العقيدة حتى لقّبوا أنفسهم بالأدفنتست أي المجيئيين، مع أنه يليق ألا تقوم عقيدة أساسية هكذا على مجرد تفسير شخصي لنص أو نصّين من الكتاب المقدس، بينما في عشرات المرات يتحدث الكتاب المقدس عن مجيء السيد المسيح بكونه المجيء الأخير، وللدينونة العامة النهائية.
ثانيًا: إن كان اليهود يقبلون الإيمان بالسيد المسيح عند دخول ملء الأمم، فهذا لا يعني انعزالهم ككنيسة مستقلة أو جماعة مستقلة، إنما يصيرون أعضاء متفاعلة معًا في الجسد الواحد. هذا ولا يمكننا أن نقول بأن الكنيسة كما هي الآن كنيسة الأمم. فإن كان كثيرون من اليهود قد رفضوا الإيمان، لكن كثيرين منهم أيضًا قبلوه وكرزوا به، واندمج المسيحيون سواء من أصل أممي أو يهودي معًا كقول الرسول: "لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح، ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع" (غل 3: 26-28).
ثالثًا: إن كان الاختطاف لكنيسة الأمم يتحقق قبل ظهور إنسان الخطية، فمن هم الذين يقاومهم إنسان الخطية؟ هل اليهود؟ وكيف يقبلون الإيمان والكنيسة مختطفة؟ إن سفر الرؤيا يروي لنا الحرب المريرة التي ستعانيها الكنيسة في أيام ضد المسيح، هذه التي سبق فأنبأ بها حزقيال النبي.
رابعًا: لو أن كنيسة الأمم تُختطف قبل يوم الدينونة، فهل تعود مرة أخرى في اليوم الأخير؟ إن كان الكتاب يروي لنا اليوم الأخير حيث يظهر فيه فئتان: جماعة الراقدين في الرب الذين يقومون، وجماعة الأحياء الذين يختطفون في ذلك الحين (1 تس 4: 13-18)، فمن أي فئة تكون كنيسة الأمم المختطفة؟ إنهم بلا شك ليسوا براقدين لأنهم اختطفوا أحياء، ولا هم بالأحياء في ذلك الحين إذ يكون الأحياء هم اليهود الذين قبلوا الإيمان بعد اختطاف كنيسة الأمم! فلو صح تفسيرهم لظهرت فئات ثلاث: الراقدون في الرب، المختطفون أي كنيسة الأمم المختطفة، الأحياء من كنيسة اليهود، وهذا أمر لا يتفق والفكر الإنجيلي.
خامسًا: إن كان أصحاب هذا الرأي يعتمدون على قول السيد أنه يؤخذ الواحد ويترك الآخر (مت 24: 40-41)، فهذا حديث رمزي يكشف عن تمتع الإنسان الروحي بالانطلاق إلى السيد المسيح في مجده ليكون معه في الميراث، بينما يبقى الآخر كمن في مكانه أي في حرمانه من التمتع بالمجد الأبدي. هذا هو أسلوب السيد نفسه حين يلتقي مع البشرية. فإنه يقول للأشرار "إني لا أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم" (مت 7: 23)، مؤكدًا ذلك في أكثر من موضع (لو 13: 25-27؛ مت 25: 12). فهل يختفي هؤلاء عن معرفة الله؟ يستحيل لكنه لا يعرفهم كأولاد له أو أحباء وورثة للمجد! لقد أراد السيد بقوله يؤخذ الواحد ويترك الآخر تأكيد عنصر المفاجأة في الدينونة، فينعم الواحد بالميراث، ويحرم الآخر منه، دون أن تكون له بعد فرصة لاستدراك الأمر.
مزمور إنجيل القداس
ترنيمة نصرة وفرح
من الواضح أن هذا المزمور يكشف عن أسباب إضافية لتهليل الأبرار وفرحهم في الرب.
دعوة للتسبيح
اختتم المزمور السابق بالحث على التسبيح لله بفرح وبهجة وافتخار، الآن يفتتح المزمور بذات الدعوة، مقدمًا المرتل أسبابًا إضافية كبواعث للتسبيح.
" ابتهجوا أيها الصديقون بالرب، للمستقيمين ينبغي التسبيح. اعترفوا للرب بقيثار، وبقيثارة ذات عشرة أوتار رتلوا له. سبحوا له تسبيحا جديدا؛ ورتلوا له حسنا بتهليل، لأن كلمة الرب مستقيمة وكل صنعه بالأمانة، يحب البر والعدل.امتلأت الأرض من رحمة الرب، بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها" [1 – 6].
1 – يرى البعض أن الكلمة العبرية المقابلة للفعل "ابتهجوا" هي في الأصل تعنى: "ارقصوا فرحًا"، وهو تعبير قوى جدًا عن التهليل الحي، حيث يهتز كيان الإنسان الداخلى طربًا من أجل اللقاء مع الله، كما رقص داود النبي أمام تابوت العهد (2 صم 6: 14)، وكما ارتكض (رقص) الجنين في أحشاء القديسة أليصابات عند زيارة القديسة مريم لها.هذا التسبيح أو رقص الكيان الداخلى هو هبة إلهية كثمر للروح القدس الواهب الفرح.
2 – سر البهجة أو التسبيح هو الرب: "ابتهجوا.. بالرب"؛ نفرح به لا بذواتنا، نفرح بحضرته لا ببركاته الزمنية.
3 – "للمستقيمين ينبغي التسبيح": إن كان التسبيح هو هبة إلهية، عطية الروح القدس للمؤمنين ليمارسوا الحياة السماوية المفرحة، فإنه في نفس الوقت التزام، إذ يليق بالمؤمن الذي يمارس الحياة التقوية أن يتمتع بامتيازه، فيسبح الله كملاك متهلل.
إنجيل القداس من يوحنا 5: 1 – 18
وبعد هذا كان عيد لليهود فصعد يسوع إلى أورشليم وفي أورشليم عند باب الضان بركة يقال لها بالعبرانية بيت حسدا لها خمسة أروقة في هذه كان مضطجعًا جمهور كثير من مرضى وعمي وعرج وعسم يتوقعون تحريك الماء لأن ملاكًا كان ينزل أحيانًا في البركة ويحرك الماء فمن نزل أولًا بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه وكان هناك إنسان به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة هذا رآه يسوع مضطجعًا وعلم أن له زمانًا كثيرًا فقال له أتريد أن تبرأأجابه المريض يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء بل بينما أنا آت ينزل قدامي آخر قال له يسوع قم احمل سريرك وامش فحالًا برئ الإنسان وحمل سريره ومشى وكان في ذلك اليوم سبت فقال اليهود للذي شفي انه سبت لا يحل لك أن تحمل سريرك أجابهم أن الذي أبراني هو قال لي احمل سريرك وامش فسألوه من هو الإنسان الذي قال لك احمل سريرك وامش أما الذي شفي فلم يكن يعلم من هو لأن يسوع اعتزل إذ كان في الموضع جمع بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل وقال له ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك اشر فمضى الإنسان وأخبر اليهود أن يسوع هو الذي أبرأه ولهذا كان اليهود يطردون يسوع ويطلبون أن يقتلوه لأنه عمل هذا في سبت فأجابهم يسوع أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه لأنه لم ينقض السبت فقط بل قال أيضًا أن الله أبوه معادلًا نفسه بالله.
أحد المخلع (أحد الوحيد)
شفاء مريض بيت حسدا (يو 5: 1 – 18)
في هذا الأصحاح نجد لقاء بين السيد المسيح، الطبيب السماوي، ومريض بيت حسدا الذي عانى من الفالج 38 عامًا. وهو طبيب فريد يسعى نحو المريض دون أن يطلبه، وإن كان لا يشفيه قسرًا بل يسأله: "أتريد أن تبرأ". التقي به عند بيت حسدا التي كان لها خمسة أروقة، إشارة إلى كتب موسى الخمسة، أو إلى الناموس. فالناموس يفضح الخطية، ويؤكد لنا المرض، والحاجة إلى طبيب سماوي قادر أن يعالج.ابرز الطبيب ما في المريض من سمات صالحة، فقد اتسم بالوداعة. فعندما سأله السيد: "أتريد أن تبرأ" لم يثر، بل في وداعة عجيبة أجابه. "يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء، بل بينما أنا آتٍ ينزل قدامي آخر". (7) من يسقط في مرضٍ مدة طويلة غالبًا ما يُصاب بأتعاب عجيبة، تزداد مع تزايد فترة المرض. أما هنا فنراه وديعًا للغاية. هذا وعندما قال له السيد "قم احمل سريرك وأمشِ" (8)، آمن وللحال قام ومشى وحمل سريره. إنه ملقي عند البركة منذ قبل ميلاد السيد المسيح بالجسد، وربما لم يسمع عنه، فقد كاد أن يصير محرومًا من لقاء الأقارب والأصدقاء بعد كل هذا الزمن من المرض. ومع هذا لم يحاور السيد كيف يقوم، وكيف يقدر أن يمشي دفعة واحدة، ويحمل سريره؟
قد عجزت الذراع البشرية عن شفاء هذا المفلوج المُلقى عند البركة لمدة 38 عامًا. تدخل السيد المسيح سائلًا إياه: أتريد أن تبرأ؟ لقد وهبه حياة جديدة في بيت حسدا التي تعني "بيت الرحمة".لم ترد هذه المعجزة في الأناجيل الثلاثة الأخرى، لأن يوحنا اهتم بالمعجزات التي تمت في أورشليم بينما اهتم الإنجيليون الآخرون بما تم في الجليل.
"وبعد هذا كان عيد لليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم، وفي أورشليم عند باب الضان بركة، يقال لها بالعبرانية بيت حسدا، لها خمسة أروقة " (يو 5: 1-2).إذ حل العيد، فمع إقامة السيد المسيح في الجليل إلا أنه صعد إلى أورشليم، لم يرد أن يستثنى نفسه مادام قد قبل أن يصير ابن الإنسان الخاضع للناموس، وهو في هذا يقدم لنا نفسه مثالًا للاهتمام بالعبادة الجماعية، حتى وإن مارسها الكثيرون في شكلية بلا روح."باب الضأن" الأرجح أن هذا الباب سمى كذلك، لأن الكهنة كانوا يغسلون غنم الذبائح ويأتون بها إلى الهيكل..تشير البركة إلى المعمودية حيث يتمتع المؤمنون بالولادة الجديدة والشفاء من الخطية.تحريك الماء يحمل معنى أن مياه البركة أشبه بمياه جارية، كمياه المعمودية، التي يعمل الروح فيها فيولد الإنسان ميلادًا روحيًا كما أعلن السيد المسيح لنيقوديموس، وتشير إلى عطية السيد المسيح كقول السيد للسامرية، أن من يشرب من هذا الماء لا يعطش.
" في هذه كان مضطجعا جمهور كثير، من مرضى وعمى وعرج وعسم، يتوقعون تحريك الماء، لأن ملاكا كان ينزل أحيانا في البركة ويحرك الماء، فمن نزل أولا بعد تحريك الماء كان يبرأ من أي مرض اعتراه " (يو 5: 3 – 4).يرى البعض أن هذا الملاك لم يكن ينزل في البركة يوميًا، وإنما في مواسم معينة، خاصة في الأعياد الثلاثة الكبرى، وأن هذا العمل من قبل الله ليؤكد للشعب أنهم وإن كانوا قد حرموا من الأنبياء وعمل المعجزات فإن الله لن ينساهم، وهو مهتم بهم.
" وكان هناك إنسان به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة " (يو 5: 5).الصحة وزنة يلزمنا أن نستخدمها ما دامت في أيدينا، ونقدم ذبيحة شكر لله عليها.السيد المسيح كان بإمكانه أن يشفى جميع مرضى بيت حسدا، ولكن ما يشغله بالأكثر الشفاء الأبدي، حيث تتمجد النفوس ومعها الأجساد..إن شفاء هذا المريض يفتح عيون الكل لينظروا شخص المسيا، ويتمتع الكل بالإيمان لكي يتمجدوا أبديًا.هذه البركة وتلك المياه تبدو أنها تشير إلى الشعب اليهودي (رؤ 17: 15).. تلك المياه، أي الشعب، قد أغلق عليه في أسفار موسى الخمسة، أي الخمسة أروقة، لكن هذه الأسفار تحضر المرضى ولا تشفيهم، لأن الناموس يدين الخطاة ولا يبرئهم، لذلك فإن الحرف بدون النعمة يجعل الناس مذنبين، هؤلاء الذين إذ يعترفون يخلصون. (غلاطية 3: 21 – 22).عاش هذا المريض 38 سنة ولم يشفى لأن كمال البر في الـ40، والسيد المسيح صام عنا أربعون يومًا، وصام إيليا وموسى أربعين يومًا، لذا استحقا أن يظهرا مع المسيح على الجبل!
"هذا رآه يسوع مضطجعا، وعلم أن له زمانا كثيرا، فقال له: أتريد أن تبرأ؟" (يو 5: 6).إذ جاء السيد المسيح إلى أورشليم لم يزر قصور الأغنياء بل المستشفيات، ليقدم حبًا وحنوًا نحو المرضى، فقد جاء إلى العالم من أجل المحتاجين والمرضى، ولعل السيد ركز عينيه على ذلك المريض، لأنه كان أقدمهم، عانى أكثر من غيره من المرض والحرمان:..
"أجابه المريض: يا سيد ليس لي إنسان يلقيني في البركة متى تحرك الماء، بل بينما أنا آت، ينزل قدامى آخر " (يو 5: 7)يظهر من كلام هذا المفلوج وداعته، فإنه إذ يلقى إنسان على فراشه كل هذه السنوات غالبًا ما يكون ثائرًا، يعانى من متاعب نفسية وعصبية، ومع هذا لم ينفعل ويرد على السيد المسيح مثلًا قائلًا: " كيف تسألني إن كنت أريد أن أبرأ..؟
اشتكى المريض من عدم وجود أصدقاء يساعدونه، فإنه حتى الذين نالوا الشفاء انشغلوا بأقربائهم وأصدقائهم، ولم يوجد واحد من بينهم يهتم بهذا المسكين، كما اشتكى من عجزه في منافسة الآخرين لكي يلقى بنفسه أولًا في البركة إذ كانوا كثيرون يسبقونه.
"قال له يسوع: قم احمل سريرك وأمش " (يو 5: 8).قدم له السيد الشفاء بطريقة لم تخطر على فكره، وهي ليس بإلقائه في البركة متى تحرك الماء، وإنما بكلمة تصدر من فمه الإلهي، أمر بسلطان فشفى المريض.فقد اعتاد السيد أن يترك علامات بعد المعجزة لكي يتذكر شعبه أعمال محبته، فعندما أشبع الجموع أمر بجمع الكسر، وعندما حول الماء خمرا طلب من الخدام أن يقدموا للمتكئين، وعندما شفى البرص أمرهم أن يذهبوا إلى الكهنة ليشهدوا بشفائهم، هنا يطلب من المريض أن يحمل السرير الذي حمله أثناء مرضه.طلب منه حمل السرير ليطمئن أن شفاؤه كامل، وأنه لم ينل القوة الجسدية تدريجيًا بل بكلمة الله وأمره فورًا. إنها صرخة المخلص على الصليب وهو يتطلع إلى الكنيسة كلها عبر الأجيال منذ آدم إلى آخر الدهور، لكي تقوم وتتحرك وتدخل إلى حضن الأب، بيتها السماوي. يطالبها بحمل سريرها الذي هو شركة الصليب معه، لا كثقل على ظهرها، بل كعرش يحملها، ومجد ينسكب عليها
" فحالا بريء الإنسان، وحمل سريره ومشى، وكان في ذلك اليوم سبت " (يو 5: 9) لماذا أمر السيد هذا الشخص أن يحمل سريره في يوم السبت وقد منع الناموس هذه الأعمال، خاصة حمل الأمور الثقيلة ؟ (خر 20: 8).
(1) أظهر السيد أن اليهود قد أساءوا فهم السبت، فمارسوه بطريقة حرفية بلا فهم روحي سليم، خاصة لمجد الله ونفع الإنسان.
(2) ليؤكد للحاضرين أنه رب السبت (مت 12: 8)، كل الأيام هي له دون تمييز بين سبت وغير سبت، فيها يعمل عمل الأب بلا انقطاع.
(3) بحمله السرير في وسط العاصمة الدينية ووسط الجمهور القادم للعيد يشد أنظار الشعب لبحث الأمر، والتعرف على محبة المسيح لشعبه، واهتمامه بسلامتهم الروحية والجسدية أكثر من التنفيذ الحرفي للناموس.
(4) في هذا الأمر اختبار لمدى طاعة المريض لذاك الذي يشفيه، وإيمانه به.
"بعد ذلك وجده يسوع في الهيكل، وقال له: ها أنت قد برئت فلا تخطيء أيضا لئلا يكون لك أشر" (يو 5: 14).إذ شعر الرجل بحنو الله عليه ذهب إلى الهيكل ربما ليقدم الشكر لله على شفائه، غالبًا حدث هذا في نفس يوم شفائه.التقى السيد المسيح بالمريض في الهيكل، ربما إذ اتهموه باحتقاره يوم السبت جاء إلى الهيكل ليؤكد تقديسه ليوم السبت، وانشغاله بالعبادة الجماعية في ذلك اليوم. لقد جاء خصيصًا ليهب البصيرة الروحية، مع علمه بأن أعداء كثيرين يطلبون قتله.أوضح له السيد المسيح أنه عالم بأسرار الماضي: "لا تخطيء أيضًا" موضحًا أن خطيئته السابقة كانت السبب في مرضه الطويل المدى، يحذر السيد من الخطية التي تسحبه إلى مستشفى بركة بيت حسدا ليقضى بها 38 عامًا، بل إلى جهنم لكي يغلق عليه أبديًا في حرمان من المجد السماوي وعذاب مع عدو الخير إبليس.إنه لأمر بسيط أن نقتنى شيئًا، لكن الأعظم أن نستطيع الحفاظ عليه.. سليمان وشاول وكثيرون إذ لم يسيروا للنهاية في طريق الرب لم يستطيعوا أن يحفظوا النعمة التي وهبت لهم، عندما ينسحب تلميذ المسيح منها، تنسحب أيضًا نعمة المسيح منه. فليعطنا السيد المسيح روح الإيمان والثقة في عمله الإلهي ومحبته لنا وسعيه لخلاصنا، ونؤمن أنه هو الطبيب الحقيقي الذي لنفوسنا وأجسادنا وأرواحنا، وهو الذي يريد أن الجميع يخلصون وإلي معرفة الحق يقبلون الذي له كل المجد والإكرام في كنيسته المقدسة من الآن وإلي الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
09 أبريل 2021
الجمعة الخامسة من الصوم الكبير: قصاص الإيمان
ارتباط فصول القراءات:
قصاص الإيمان
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "قصاص الإيمان" أي الهلاك الذي يحل بمن لا يؤمنون، فالنبوة الأولى تتكلم عن قيود الله للمؤمنين كما أوصى الشعب الإسرائيلي قديمًا إذا ما دخلوا أرض الموعد أن يهدموا الأصنام، ويذبحوا في موضع خاص، ويمتنعوا عن أكل الدم، والثانية عن إثبات قوة الإيمان لهم كما أثبتها إيليا لأرملة صرفة صيدا بإقامة إبنها من الموت ؛ والثالثة عن تحذيرهم من الآلهة الغريبة وعبادتها التي يسميها الكتاب زنا كما أوصى الحكيم في سفر الأمثال بضرورة الابتعاد عن الزانية. أما تسمية عبادة الآلهة الغريبة زنا فورد في مواضع كثيرة من الكتاب منها وصية الله لبنى إسرائيل ألا يزوجوا أولادهم من بنات يعبدون آلهة غريبة حتى لا " يجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن " (خر 34: 16)، ووصيته لهم أيضا أن يقدموا ذبائحهم عند باب الخيمة ولا يذبحوها "للتيوس التي هم يزنون وراءها" (لا 17: 7)، وكذلك شكواه منهم حينما عبدوا الآلهة الغريبة أيام القضاة وفيها يقول " ولقضائهم لم يسمعوا بل زنوا وراء آلهة أخرى وسجدوا لها" (قض 2: 17)؛ والنبوة الرابعة تتكلم عن مواعيده لهم كما وعدهم على لسان إشعياء بأن يكون معهم فلا يمسهم سوء ؛ والخامسة عن تحذيره لهم من البر الذاتي كما حنق اليهود على أيوب وأصدقائه لاعتقادهم في برهم الذاتي.
ويعدهم المخلص في إنجيل باكر بملكوته إن حفظوا وصاياه كقوله لأحد الكتبة الذي أقر بأن أولى الوصايا هي محبة الله من كل القلب "لست بعيدًا عن ملكوت الله"، ويتوعدهم في إنجيل القداس بالهلاك إن لم يؤمنوا به كما توعد اليهود بقوله إنهم إن لم يؤمنوا به يموتون في خطيتهم.
ويبين لهم الرسول في البولس أن الله يؤدبهم ليمنحهم ثمر البر للسلام؛ ويعزيهم بطرس الرسول في الكاثوليكون مناشدًا من يتألم منهم أن يستودع نفسه للخالق مستمرًا على مباشرة الخير ؛ ويوصى الإبركسيس الرعاة بوجوب افتقادهم دائمًا كما قرر بولس وبرنابا ضرورة ذلك.
البولس من عبرانيين 12: 5 – 16
وقد نسيتم الوعظ الذي يخاطبكم كبنين يا ابني لا تحتقر تاديب الرب ولا تخر اذا وبخك لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل إبن يقبله إن كنتم تحتملون التأديب يعاملكم الله كالبنين فاي إبن لا يؤدبه أبوه
ولكن إن كنتم بلا تأديب قد صار الجميع شركاء فيه فأنتم نغول لا بنون ثم قد كان لنا أباء اجسادنا مؤدبين وكنا نهابهم افلا نخضع بالأولى جدًا لأبي الأرواح فنحيا لأن اولئك ادبونا أيامًا قليلة حسب استحسانهم واما هذا فلأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته ولكن كل تاديب في الحاضر لا يرى انه للفرح بل للحزن واما أخيرًا فيعطي الذين يتدربون به ثمر بر للسلام لذلك قوموا الأيادي المسترخية والركب المخلع وإصنعوا لأرجلكم مسالك مستقيمة لكي لا يعتسف الأعرج بل بالحري يشفى اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى احد الرب ملاحظين لئلا يخيب احد من نعمة الله لئلا يطلع اصل مرارة ويصنع انزعاجا فيتنجس به كثيرون لئلا يكون احد زانيًا او مستبيحًا كعيسو الذي لأجل اكلة واحدة باع بكوريته
الجهاد
لما كان "كهنوت المسيح" هو الموضوع الرئيسي لهذه الرسالة، حيث يقدم لنا الرسول السيد المسيح بكونه رئيس الكهنة الأعظم، جالسًا عن يمين الآب في السماء بكونها قدس الأقداس، يشفع فينا بدمه، ليدخل بنا إلى حضن أبيه، فقد ختم حديثه مؤكدًا أن هذه الشفاعة العجيبة لا توهب للمتكاسلين والمتراخين. لهذا بعد أن حدثنا عن الإيمان مقدمًا لنا أمثلة حية لرجال الإيمان، صار يحدثنا حديثًا مباشرًا عن التزامنا الحيّ، الذي بدونه لن ننعم بعمل السيد المسيح الكفاري.
1. الجهاد وسحابة الشهود
"لِذَلِكَ نَحْنُ أَيْضًا إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هَذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ" [١].إذ يحيط بنا الضعف فيمثل ثقلًا على النفس، تهاجمنا الخطية من كل جانب، لهذا يليق بنا أن نجاهد بغير انقطاع متطلعين إلى سحابة الشهود المحيطة بنا فنتمثل بهم في شهادتهم للحق. هذه السحابة هي "لنا" ليس فقط كمثالٍ نقتدي به لكنها "لنا" تسندنا بالصلاة لحسابنا.يشبه الرسول القديسين بالسحابة لأنها مرتفعة إلى فوق، تتحول إلى مطرٍ لتروي الأرض. هكذا المؤمن الحقيقي يحيا في السماويات لكنه لا يتجاهل النفوس الضعيفة الملتصقة بالأرض والتي لها طبيعة التراب، إنما يصلي من أجلها لكي يستخدمه الله كمطر يروي الأرض بالبركات العلوية، فتأتي بثمر روحي كثير.حينما يتحدث السيد المسيح عن مجيئه الأخير يؤكد أنه سيأتي على السحاب، وكأنه يأتي الرب جالسًا في قديسيه، السحاب الروحي المحيط به والحامل إياه. لنحيا كسحاب يطلب السماويات، دون تجاهل للأرض فنحمل ربنا يسوع فينا ونعلنه من يومٍ إلى يوم حتى يتجلى فينا بالكمال يوم مجيئه الأخير!لكي تكون لنا شركة مع "السحابة من الشهود" التي لم يستطع الرسول أن يحدد قياسها، قائلًا: "مقدار هذه"، ولكي نصير نحن أنفسنا جزءًا لا يتجزأ من هذه السحابة الإلهية يلزمنا أن "ِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا"، الأمور التي تفسد طبيعتنا وتحرمنا من التمتع بالخلقة الجديدة التي صارت لنا في المعمودية. ففي سفر إشعياء يتحدث النبي عن السيد المسيح القادم من مصر على سحابة خفيفة وسريعة (١٩: ١ - الترجمة السبعينية)، هذه التي تشير إلى السيدة العذراء عند هروبها إلى مصر حاملة السيد المسيح في حضنها، كما يقول القديس كيرلس الكبير، وفي نفس الوقت تشير إلى كل نفسٍ نقية وورعة تحمل يسوعها في داخلها وتسير به كسحابة سريعة خفيفة، لا يهدم ثقل الخطية طبيعتها ويعوق مسيرتها.
2. الجهاد والتأمل في آلام المسيح
"لْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ. فَتَفَكَّرُوا فِي الَّذِي احْتَمَلَ مِنَ الْخُطَاةِ مُقَاوَمَةً لِنَفْسِهِ مِثْلَ هَذِهِ، لِئَلاَّ تَكِلُّوا وَتَخُورُوا فِي نُفُوسِكُمْ" [١-٣].إن كانت شهادة القديسين هي عون لنا في جهادنا، نمتثل بهم وننتفع بصلواتهم، مقاومين كمن في حلبة صراع لنلقي عنا كل ثقل أرضي وخطية محيطة بنا لنرتفع مع السحابة الإلهية إلى فوق، ويكون لنا شرف حمل الرب في داخلنا. فإن آلام السيد المسيح من أجلنا حتى الموت موت الصليب هي ينبوع نعم إلهية تسندنا في هذا الجهاد؛ دعا الرسول السيد المسيح "رئيس الإيمان ومكمله"، فهو قائد المؤمنين في طريق الكمال الوعر، يدخل بهم إلى نفسه، لكي يعبر بهم من مجدٍ إلى مجد، فينعمون بالكمال أمام الآب خلال إتحادهم به.فآلام الصليب لا تُحتمل، وخزيه مرّ، لكنه في عيني السيد المسيح هو موضوع سرور وفرح، إذ يراه الطريق الذي به يحملنا إلى قيامته، ليجلسنا معه وفيه عن يمين العرش الإلهي. بالمسيح يسوع ربنا نفرح بالألم -بالرغم من مرارته القاسية- إذ نرى طريق الأقداس مفتوحًا أمامنا. احتمل السيد آلامه من أجلنا نحن الخطاة وليس من أجل نفسه، فكم بالحري يليق بنا أن نقبلها من أجل نفوسنا، خاصة وأننا نتقبلها في المسيح المتألم!
3. الجهاد حتى النهاية
"لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ مُجَاهِدِينَ ضِدَّ الْخَطِيَّةِ" [٤].
لم يقدم لنا الرسول هذه الوصية الخاصة بالجهاد الروحي حتى النهاية إلاَّ بعد أن قدم لنا أمثلة عملية وحية لمؤمنين مجاهدين من آباء بطاركة وأنبياء وقضاه وملوك، وأوضح لنا إمكانية الجهاد، إذ نحن محاطون بسحابة الشهود العاملين معنا، وفوق الكل أوضح عمل السيد المسيح المصلوب في حياتنا. لقد قبل الآلام بسرور مستهينًا بخزي الصليب، الأمر الذي يجعل جهادنا الروحي حتى الموت مقبولًا ومفرحًا.
4. قبول التأديب الإلهي
مادمنا أولاد الله، فإن الله يسمح لنا بالتجارب والضيقات أثناء الجهاد على الأرض، لا للانتقام ولا للدينونة وإنما لمساندتنا. فهو يعيننا لا بلطفه بنا فحسب خلال الترفق، وإنما أيضًا بتأديبنا لأجل نفعنا الروحي. فالضيقة بالنسبة للمؤمن الحقيقي المجاهد قانونيًا هي علامة حية لاهتمام الله به من أجل بنيانه."وَقَدْ نَسِيتُمُ الْوَعْظَ الَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ: يَا ابْنِي لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُزْ إِذَا وَبَّخَكَ. لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ" [٤-٦].يقارن الرسول بين التأديب الذي نخضع له من آبائنا في الجسد والتأديب الذي يقع علينا من أبينا السماوي موضحًا النقاط التالية:
أولًا: أن التأديب يُعطي للآباء الجسديين مهابتهم، فالطفل يهاب والده بكونه المُرَبِّي الحازم؛ "ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدًّا لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟" [٩]. هنا يؤكد الرسول عنصرًا هامًا وهو "المخافة الأبوية" فإننا وإن كنا أبناء الله، بذل الله أبونا ابنه الوحيد فدية عنا، وارتفع الابن عن يمينه ليشفع فينا، هذا يبعث فينا الدالة القوية لدى الله، فإن التأديب يهب الابن مخافة نحو أبيه تمتزج بالدالة، حتى لا تتحول الدالة إلى استهتار. لكن شتان بين المخافة التي تنطلق في قلب الابن والمخافة الممتزجة بالرعب في قلب الأجير أو العبد. الابن يخاف أباه لئلا يجرح مشاعره ويسيء إلى أبوته، أما الأجير فيخاف لئلا يُحرم من الأجرة، والعبد يخاف من العقاب.
ثانيًا: آباؤنا الجسديون يؤدبوننا أيامًا قليلة حسب استحسانهم [١٠]، مشتاقين أن يروننا ناجحين في هذا الزمان الحاضر، نحقق أمنياتهم الزمنية فينا، أما الله فيؤدب لهدف أعظم: لأجل المنفعة لكي نشترك في قداسته. هذه هي غاية تأديبه لنا، إذ يود أن يرانا شركاء في حياته المجيدة، نحمل سماته فينا، نتشبه به. هذه هي غاية الله من الإنسان، أن يراه كابن يحمل صورة أبيه.
ثالثًا: " كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ" [١١]. فالابن يئن تحت ألم التأديب، لكن متى بلغ النضوج أدرك أن التأديب هو سرّ نجاحه وبهجة قلبه الأكيدة. هكذا تأديب الله لنا يقدم لنا في البداية نوعًا من الحزن، لكنه في نفس الوقت يهب ثمر برّ السلام. به ندخل إلى برّ المسيح المجاني فيمتلئ قلبنا سلامًا فائقًا.
5- مساندة الآخرين
أحد العناصر الهامة في الجهاد الروحي هو مساندة الأعضاء بعضها لبعض، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فالحياة مع الله وإن كانت تمثل علاقة شخصية خفية بين الله والمؤمن لكن ليس في فردية منعزلة، إنما هي حياة شركة بين الله وكنيسته الواحدة. كل عضو يسند أخاه في الرب، لكي يتشدد الكل معًا كعروسٍ واحدة. يقول الرسول: "لِذَلِكَ قَّوِمُوا الأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ وَالرُّكَبَ الْمُخَلَّعَةَ" [١٢]. ويعلق علي ذلك القديس يوحنا ذهبي الفم قائلًا: [ليس شيء يجعل البشر ينهزمون سريعًا في التجارب وينهارون مثل العزلة، فإن العدو لا يقلق في سبيهم وأسرهم كفرادى.]
الآخرون بالنسبة لك كما يشبههم الرسول هم الأيدي والركب، فإنك لا تستطيع أن تقاوم العدو الشرير إبليس إن كانت الأيدي مسترخية والركب مخلعة، فكل مساندة من جانبك لأخيك إنما هي مساندة لك أنت شخصيًا لأنه يمثل يديك وركبك! لهذا لا عجب إن ضعف الرسول بولس مع كل ضعيف، والتهب قلبه محترقًا مع عثرة كل إنسان، ويفرح ويتهلل مع توبة الغير!تقويم الأيادي المسترخية والركب المخلعة لا يكون بمساندة الآخرين بالكلمات النظرية وإنما بالحياة العملية الداخلية والسلوك الروحي الحيّ، إذ يكمل الرسول قائلًا: "اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ. مُلاَحِظِينَ لِئَلاَّ يَخِيبَ أَحَدٌ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ. لِئَلاَّ يَطْلُعَ أَصْلُ مَرَارَةٍ وَيَصْنَعَ انْزِعَاجًا، فَيَتَنَجَّسَ بِهِ كَثِيرُونَ" [١٤-١٥].هنا يركز الرسول على سمتين هامتين في الجهاد، تسندان النفس وتعينا الآخرين، هما إتباع السلام مع الجميع والتمتع بالحياة المقدسة.
6. الناموس القديم والملكوت الجديد
إذ أراد الرسول تأكيد فاعلية وصية العهد الجديد وبركات الملكوت الجديد قارن بين طريق استلام الناموس في العهد القديم على يديّ موسى النبي على جبل سيناء وتقبل الكلمة الإلهي ذاته في العهد الجديد.
أولًا: عندما تسلم موسى الناموس اضطرم الجبل الملموس بالنار بطريقة مادية واضحة وظلام وحدثت زوبعة وهتاف بوق وصوت كلمات، الأمر الذي جعل الشعب يستعفي من السماع لله مباشرة، ولم يكن ممكنًا حتى للحيوانات أن تقترب من الجبل وإلا رُجمت أو رُميت بالسهام دون أن يلمسها أحد! هكذا كانت العلاقة بين الله والإنسان مرعبة وغامضة، أما في العهد الجديد فلا نرى شيئًا من هذا إذ التحم كلمة الله بنا خلال تجسده فلم يعد هناك رعب ولا غموض. هذه الأمور التي ظهرت مع استلام الناموس تكشف عن سماته؛ فالنار تشير إلى عقاب العصاة الرهيب، والضباب والظلام علامة الغموض وعدم الكشف عن الحق في كماله وإنما خلال الظل والرمز.
ثانيًا: لم تقف حالة الرعب عند الشعب وإنما مست موسى النبي نفسه، إذ "قَالَ مُوسَى: أَنَا مُرْتَعِبٌ وَمُرْتَعِدٌ!" [٢١]. أما الآن فالكلمة قريبة منا، في داخل القلب، إذ دخل "الكلمة الإلهي" في حياتنا، وصار له مسكنًا فينا.
ثالثًا: عند استلام الشريعة الموسوية كان الشعب في البرية عند سفح الجبل، وكأن الناموس قد عجز عن أن يقدم للشعب الحياة السماوية المرتفعة، ويدخل بهم إلى أورشليم العليا، أرض الموعد. أما في العهد الجديد، فدخل بنا كلمة الله إلى السماوات عينها، وجعل منا محفل ملائكة: "بَلْ قَدْ أَتَيْتُمْ إِلَى جَبَلِ صِهْيَوْنَ، وَإِلَى مَدِينَةِ اللهِ الْحَيِّ: أُورُشَلِيمَ السَّمَاوِيَّةِ، وَإِلَى رَبَوَاتٍ هُمْ مَحْفِلُ مَلاَئِكَةٍ، وَكَنِيسَةِ أَبْكَارٍ مَكْتُوبِينَ فِي السَّمَاوَاتِ، وَإِلَى اللهِ دَيَّانِ الْجَمِيعِ، وَإِلَى أَرْوَاحِ أَبْرَارٍ مُكَمَّلِينَ" [٢٢-24].
إنجيل القداس من يوحنا 8: 21 – 27
قال لهم يسوع ايضا انا امضي وستطلبونني وتموتون في خطيتكم حيث امضي انا لا تقدرون انتم ان تاتوا فقال اليهود العله يقتل نفسه حتى يقول حيث امضي انا لا تقدرون انتم ان تاتوا فقال لهم انتم من اسفل اما انا فمن فوق انتم من هذا العالم اما انا فلست من هذا العالم فقلت لكم انكم تموتون في خطاياكم لانكم ان لم تؤمنوا اني انا هو تموتون في خطاياكم فقالوا له من انت فقال لهم يسوع انا من البدء ما اكلمكم ايضا به ان لي اشياء كثيرة اتكلم واحكم بها من نحوكم لكن الذي ارسلني هو حق وانا ما سمعته منه فهذا اقوله للعالم ولم يفهموا انه كان يقول لهم عن الاب
"قال لهم يسوع أيضًا:أنا امضي وستطلبونني،وتموتون في خطيتكم، حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا". (21)يقدم السيد المسيح تحذيرًا لغير المؤمنين، بأن جحودهم يدفعهم إلى الهلاك الأبدي. وكما يقدم السيد كلمات النعمة المشجعة لصغار النفوس، يقدم تحذيرات مرعبة للجاحدين قبل فوات الأوان. وكما قال: "يشبهون أولادًا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضًا ويقولون: زمرنا لكم فلم ترقصوا، نحنا لكم فلم تبكوا" (لو ٧: ٣٢). هكذا كثيرًا ما يفتح الرب باب الرجاء بالكلمات الطيبة اللطيفة، كما يستخدم التحذيرات الشديدة ليحفظهم من السقوط أو يقوموا مما سقطوا فيه."أنا أمضي": لقد طلبوا منه أن يمضي عنهم، فإنهم لا يطلبونه، ولا يريدون أن يسمعوا كلماته. وها هو يخبرهم أنه سيمضي، وبمضيه عنهم لا يجدون الحياة بل يموتون في خطيتهم. حين يحل بهم الضيق يطلبون عون المسيا المرفوض منهم والذي صلبوه فلا يجدونه حسب هواهم. يرفضونه ليطلبوا مسحاء كذبة لا يقدمون الحياة بل الغضب الإلهي."خطيتكم" جاء في اليونانية بالمفرد لا الجمع، إذ يركز على خطية الجحود ورفض السيد المسيح. هذا ويلاحظ أن الإنجيلي يوحنا قد ركز أنظارنا على السيد المسيح كمخلص العالم كرر أكثر من غيره من الإنجيليين فعل "يموت" واسم "خطية". فذكر فعل "يموت" ٢٨ مرة بينما ورد في متى ٥ مرات، ومرقس ٩ مرات، ولوقا ١٠ مرات، ولم ترد بهذه الكثرة في أي سفر في العهد الجديد، إنما جاء في الرسالة إلى رومية ٢٣ مرة. أما كلمة "خطية" فوردت ١٧ مرة في هذا الإنجيل بينما وردت ٧ مرات في متى، ٦ مرات في مرقس، و١١ مرة في لوقا. ومع هذا فإن الإنجيلي يوحنا لم يهدف إلى تركيز أنظارنا على الخطية وما تثمره من موت، وإنما مع خطورة الخطية القاتلة يركز على ساحق الخطية بصليبه لكي نعيش بروح النصرة والغلبة، ونمارس الحياة الجديدة عوض الموت الروحي.
"تموتون في خطاياكم" (٢١). إن أخذت بالمعنى العادي الواضح أن الخطاة سيموتون في خطاياهم، وأما الأبرار ففي برهم. لكن إن أُخذ تعبير "ستموتون" بخصوص الموت لعدو المسيح (١كو ١٥: ٢٦) حيث أن من يموت يرتكب "خطية تقود إلى الموت" (١ يو ٥: ١٦)، فمن الواضح أن الذين وُجهت إليهم هذه الكلمات لم يكونوا قد ماتوا بعد. ربما تسأل كيف أن الذين لم يؤمنوا وهم أحياء سيموتون في وقتٍ ما. يجيب أحدهم ويقول إنهم إلى ذلك الحين لم يؤمنوا، ولم يخطئوا للموت، والذين لم تأتِ بعد إليهم الكلمة لم يرتكبوا خطية الموت. إنهم أحياء يعانون من المرض في نفوسهم، وهذا المرض ليس للموت (يو ١١: ٤)..
لنهتم ألا يصيبنا "مرض للموت"، فمرضنا يمكن أن يُشفى (بالتوبة)، وهو متميز عن المرض الذي لا يُمكن شفائه (بالإصرار على عدم التوبة).لنقارن عبارة حزقيال: "النفس التي تخطئ تموت" (حز ١٨: ٢٠) بالقول: "ستموتون في خطاياكم"، لأن الخطية هي موت النفس. لست أظن أن هذا صحيح لكل خطية بل للخطية التي يقول عنها يوحنا أنها للموت (١ يو ٥: ١٦).إن كانت الخطية مرضًا خطيرَا يصيب الإنسان كله، نفسه وجسده، فقد ملَّكت الموت عليه. غير أنه إذ جاء كلمة الله المتجسد طبيبًا للنفس والجسد ميّز بين نوعين من الخطية أو نوعين من المرض. يوجد مرض ليس للموت (يو ١١: ٤)، بل لمجد الله، وذلك بالنفس التي تقبل كلمة الله، وتخرج من قبر الفساد، وتتمتع بحل الأربطة والشهادة للقائم من الأموات واهب القيامة. ويوجد مرض للموت مثل الذي يتحدث عنه السيد مع بعض السامعين له قائلًا إنه يطلبونه وسيموتون في خطاياهم، هذين الذين يصرون أن يبقوا في العصيان حتى يوم رقادهم، هؤلاء يرتكبون الخطية التي تقود للموت (١ يو ٥: ١٦).يقول: "أنا أمضي وستطلبونني" (21) ليس عن شوقٍ إلى، بل عن كراهية، لأنه بعد تحركه بعيدًا عن الرؤية البشرية طلبه كل من الذين أبغضوه والذين أحبّوه. الأولون بروح الاضطهاد، والآخرون بالرغبة في اقتنائه.من الخطأ ألا تطلب حياة المسيح بالطريقة التي بحث بها التلاميذ، ومن الخطأ أن تطلب حياة المسيح بالطريقة التي بحث بها اليهود. لآن هؤلاء الناس يطلبونه بقلب منحرف. ماذا أضاف؟ "تطلبونني" -ليس لأنكم تطلبونني للخير- لذلك "تموتون في خطيتكم". هذا يحدث من طلب المسيح بطريقة خاطئة ليموتوا في خطيتهم، خطية الكراهية للمسيح، ذاك الذي وحده يمكن أن يوجد فيه الخلاص. فإنه بينما الذين لهم رجاء في الله لا يردوا الشر بالشر هؤلاء يردون الخير بالشر."فقال اليهود: ألعله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟" (22)حين قال قبلًا هذا ظنوا أنه يذهب إلى ولايات يونانية ليكرز بين اليهود الذين في الشتات، أما هنا فأدركوا أنه يتحدث عن موته. لقد حسبوه ليس فقط كواحدٍ منهم، بل أشر منهم لأنه ينتحر يأسًا."حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا" (٢٢).. فإنه حين يموت أحد في خطيته لا يقدر أن يذهب حيث يذهب يسوع، إذ لا يقدر ميت أن يتبع يسوع. "لأن الأموات لا يسبحونك يا رب، ولا الهابطين في الهاوية، بل نحن الأحياء نحمدك يا رب" (مز ١١٣: ٢٥ - ٢٦).وقد ظهر سلطانه في أنه يموت بإرادته الحرة تاركًا الجسم خلفه من العبارة: "أمضي أنا".ربما جاء في التقاليد (اليهودية) عن المسيح أنه يولد في بيت لحم، وأنه يقوم من سبط يهوذا حسب التفاسير السليمة للكلمات النبوية؛ وأيضًا في التقاليد بخصوص موته أنه ينتزع نفسه من الحياة بالوسيلة التي قلناها. ويبدو أن اليهود عرفوا أن الذي يرحل هكذا يذهب إلى موضع لا يمكن أن يذهب إليه حتى الذين يفهمون هذه الأمور. لذلك لم يتحدثوا بطريقة حرفية عندما قالوا: "ألعله يقتل نفسه حتى يقول حيث أمضي أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا؟" (٢٢)..على أي الأحوال أظن قد قالوا هذا عن خبث ما قد بلغ إليهم بالتقليد عن موت المسيح. وعوض أن يمجدوا ذاك الذي يرحل من الحياة بهذه الطريقة قالوا: "ألعله يقتل نفسه؟"
"فقال لهم: أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم". (23)
فحسب الحكمة البشرية لا يقدر أحد أن يقرر مصير حياته إذا أنهاها بيده، لهذا حسبوه يتكلم عن موته بقيامه بالانتحار. ولعلهم أشاعوا هذا ليشوهوا صورته أمام الشعب، إذ يعتبر الانتحار جريمة يعاقب عليها الناموس، بكونه سفك دم إنسان: "أطلب أنا دمكم لأنفسكم" (تك ٩: ٥). تبقى صورة أخيتوفل المنتحر (٢صم ١٧: ٢٣) مثلًا خطيرًا للحياة الفاسدة. حقًا لقد قبل شمشون أن يموت بيديه مقابل الآلاف من الوثنيين الذين ماتوا معه، لكن الانتحار في ذهن الشعب هو خطية اليأس التي عقوبتها نار جهنم. وقد أشار إلى ذلك يوسيفوس المؤرخ، حتى قال بأنه يلزم دفن أجساد الأعداء فورًا، أما المنتحرون فتبقى أجسادهم بلا دفن حتى الغروب كنوعٍ من العقوبة. وذكر يوسيفوس أنه في بعض الأمم كانت تقطع الأيدي اليمنى للمنتحرين لأنها تجرأت وفصلت الجسم عن النفس، هكذا تنفصل هي عن الجسد.هذا هو الفكر اليهودي في عصر السيد المسيح، وكان الانتحار من الخطايا المعارضة تمامًا لأفكار كثير من الفلاسفة اليونانيين الذين يرون في الانتحار عملًا بطوليًا يستحق المديح، حيث ينهي الإنسان الحياة الزمنية بثقلها ليتمتع بحياة مكرمة ممتدة!
يقدم لهم السيد المسيح علة عدم معرفتهم لشخصه وطبيعته، وعدم إدراكهم من أين جاء وإلى أين يذهب، وهو اختلاف طبيعتهم عن طبيعته. كأنه يقول لهم: أنتم قادرون أن تمارسوا القتل حتى لأنفسكم لأنكم من أسفل، وليس لله شيء فيكم. أنتم من أسفل، أرضيون، جسديون، شيطانيون.هم من الأرض ترابيون، وهو من السماء، الخالق غير المحدود. لهذا فهم في حاجة إلى إدراك لاهوته والإيمان به. "لأنكم إن لم تؤمنوا أنا هو، تموتون في خطاياكم" (٢٤). "أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق. أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم" (٢٣).إذ كيف يمكن أن يكون من العالم ذاك الذي به خُلق العالم؟
كل من هم من العالم جاءوا بعد العالم، لأن العالم سبقهم، ولهذا فالإنسان هو من العالم.حيث كان المسيح قبل العالم، ولم يكن قبل المسيح شيء ما، لأنه "في البدء كان الكلمة، وكل شيء به كان" (يو ١: ١، ٣)، لذلك فهو من ذاك الذي هو فوق.. من الآب نفسه. ليس من هو فوق الله الذي ولد الكلمة مساويًا له، وشريك معه في الأزلية، الابن الوحيد في غير زمنٍ، والذي وضع أساس الزمن."فقلت لكم إنكم تموتون في خطاياكم، لأنكم إن لم تؤمنوا إني أنا هو تموتون في خطاياكم". (24)
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم جاء لهذا السبب: لينزع الخطية عن العالم، وإن كان من المستحيل للبشر أن ينزعوها بطريق آخر سوى بالغسل، فالحاجة إلى أن الذي يؤمن يلزمه ألا يرحل من العالم وبه الإنسان العتيق، مادام الشخص الذي لا يذبح بالإيمان الإنسان العتيق ويدفنه يموت وفيه (الإنسان العتيق) ويذهب إلى الموضع يعاقب عن خطاياه السابقة."فقالوا له: من أنت؟ فقال لهم يسوع: أنا من البدء ما أكلمكم أيضًا به". (25)جاءت إجابته على سؤالهم هكذا: "أنا هو البدء Arche"، كما تكلمت معكم في العهد القديم، لم أتغير. من البدء قيل أن نسل المرأة يسحق رأس الحية (تك ٣: ١٥). إنه موضوع إيمان الآباء البطاركة (إبراهيم واسحق ويعقوب). إنه هو وسيط العهد، موضوع نبوات الأنبياء. من بدء خدمته أعلن لهم أنه ابن الله، وخبز الحياة. لماذا يكررون السؤال وقد سبق الإجابة عليه مرارًا وتكرارًا، وقد أخبرهم أنه مخلص العالم. لقد سألوه: من أنت يا من تهددنا بهذه الطريقة؟ أي سلطان لك علينا؟"إن لي أشياء كثيرة أتكلم وأحكم بها من نحوكم، لكن الذي أرسلني هو حق، وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم". (26)يعلن السيد أنه قادر أن يفضحهم لأنه عالم بالخفيات، يعرف كبرياءهم وطمعهم ورياءهم وشرورهم وبغضهم للنور وحسدهم ضد الحق مع جحودهم وعدم إيمانهم وما سيفعلونه به. ما قيل عنكم بالأنبياء هو حق. لكنه ليس الآن وقت للدينونة بل للخلاص.هنا يعلمنا السيد المسيح أنه ليس كل ما نعرفه، خاصة عن شرور الآخرين، نقوله. إنما نطلب توبة الناس ورجوعهم إلى الحق والتمتع بالشركة مع الله."ولم يفهموا أنه كان يقول لهم عن الآب". (27) إذ أعمى الشيطان بصيرتهم، وظنوه أنه يتحدث عن أب جسداني في الجليل، وليس عن الآب أبيه."فقال لهم يسوع: متى رفعتم ابن الإنسان فحينئذ تفهمون إني أنا هو، ولست أفعل شيئًا من نفسي، بل أتكلم بهذا كما علمني أبي". (28)إذ يمتلئ شرهم بصلبه، عندئذ يدركون أنهم صلبوا رب المجد، وذلك خلال العلامات التي تحدث أثناء الصلب والقيامة وما بعد قيامته.كانت ذبيحة المحرقة تُدعى "رفع"، وفي كثير من طقوس التقدمات والذبائح ترفع الذبيحة إلى أعلى، وتُحرك أمام الرب. هكذا رُفع السيد المسيح على الصليب. وفي القداس الإلهي إذ يختار الكاهن الحمل يُدعى هذا الطقس "رفع الحمل". وبالفعل يضعه في لفافة ويرفعه على جبينه وهو يصلي: "مجدًا وإكرامًا، إكرامًا ومجدًا للثالوث القدوس".يستخدم الكتاب المقدس كلمة "يرفع" لتعني أحيانًا "يمجد" كما استخدمها بطرس الرسول في عظته في يوم العنصرة: "وإذ ارتفع بيمين الله" (أع ٢: ٣٣)، والرسول بولس: "لذلك رفعه الله أيضًا" (في ٢: ٩). وفي العهد القديم قال يوسف: "في ثلاثة أيام أيضًا يرفع فرعون رأسك ويردك إلى مقامك" (تك ٤٠: ١٣).وتُستخدم الكلمة أيضًا لتعني الهوان والموت، كما قال يوسف: "في ثلاثة أيام يرفع فرعون رأسك ويعلقك على خشبة" (تك ١٤: ١٩)."والذي أرسلني هو معي، ولم يتركني الآب وحدي، لأني في كل حين أفعل ما يرضيه". (29)إن كانوا قد نالوا سلطانًا ليقتلوه فهذا لا يعني أن الآب فارقه. فهو دائمًا معه، لا ينفصلان، وما يفعله الابن إنما يرضي الآب، وهو أن يبذل نفسه من أجل خلاص العالم.يقول القديس أغسطينوس عن "الذي أرسلني هو معي" (٢٩).. هذه المساواة في الوجود "دائمًا"، ليس من بداية معينة وما بعدها، بل بدون بداية وبلا نهاية. لأن الميلاد الإلهي ليس له بداية في زمنٍ حيث أن الزمن نفسه خلقه الابن الوحيد."وبينما هو يتكلم بهذا آمن به كثيرون". (30)بينما تعثر الفريسيون والكتبة في كلماته وتعاليمه آمن كثيرون من الشعب به. فالشمس التي تجفف الطين هي بعينها التي تجعل الشمع يذوب. قدمت كلماته رائحة حياة لحياة، ورائحة موت لموت.فليعطنا الرب أن نؤمن به إيمان حقيقي لتكون لنا الحياة الأبدية ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
06 أبريل 2021
الجهاد الروحي
يبدأ الإنسان في الجهاد الروحي من أول ما يعي للحياة والإدراك، ويستمر إلى آخر نفس في حياته.. ومن أهم عناصر الجهاد الروحي:
أولًا: أن يحيا الإنسان حياة التوبة
فالتوبة هي:
التحرر من عبودية الخطية والشيطان.
ترك الخطية ولكن تكون من أجل الله.
يقظة روحية مستمرة.. فالتوبة هي انتقال من الموت إلى الحياة.
تغيير شامل لحياة الإنسان.
ثانيًا: السعي نحو نقاوة القلب والفكر
* التوبة كأية فضيلة ينمو فيها الإنسان ويتدرج.. ويظل ينمو حتى يصل إلى كمالها.. وهي نقاوة القلب والفكر.. "يا ابني أعطِني قَلبَكَ، ولتُلاحِظْ عَيناكَ طُرُقي" (أم23: 26) مهم أن نترك الخطية.. ليس بالفعل فقط بل بالقلب والفكر.جهادنا ضد خطايا القلب والفكر أكبر أضعافًا من جهادنا ضد خطايا الجسد.. "الإنسانُ الصّالِحُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الصّالِحِ يُخرِجُ الصَّلاحَ، والإنسانُ الشريرُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الشريرِ يُخرِجُ الشَّرَّ. فإنَّهُ مِنْ فضلَةِ القَلبِ يتكلَّمُ فمُهُ" (لو6: 45).نسعى نحو التخلص من كل خطايا الفكر لكي يكون لنا "فكر المسيح"،ونعطي القلب له.. "وأمّا نَحنُ فلَنا فِكرُ المَسيحِ" (1كو2: 16)
ثالثًا: احترزوا.... (مت6: 1-18)
(1) أنْ تصنَعوا صَدَقَتَكُمْ قُدّامَ الناسِ:
الجهاد في اكتساب فضيلة العطاء.. العطاء الخفي.
الأضرار: العطاء الظاهر.. أخذنا أجرة من الناس.. "فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُصَوّتْ قُدّامَكَ بالبوقِ، كما يَفعَلُ المُراؤونَ في المجامعِ وفي الأزِقَّةِ، لكَيْ يُمَجَّدوا مِنَ الناسِ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُعَرّفْ شِمالكَ ما تفعَلُ يَمينُكَ، لكَيْ تكونَ صَدَقَتُكَ في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ هو يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 2-4).
التدريب الروحي على الصدقة في الخفاء.. كيف.. لماذا.. فائدتها.
حاول أن تفكر معي في تنفيذ ذلك.
(2) الصلاة في الخفاء:
"ومَتَى صَلَّيتَ فلا تكُنْ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُحِبّونَ أنْ يُصَلّوا قائمينَ في المجامعِ وفي زَوايا الشَّوارِعِ، لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَلَّيتَ فادخُلْ إلَى مِخدَعِكَ وأغلِقْ بابَكَ (الحواس)، وصَلِّ إلَى أبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً. وحينَما تُصَلّونَ لا تُكَرّروا الكلامَ باطِلًا كالأُمَمِ، فإنَّهُمْ يَظُنّونَ أنَّهُ بكَثرَةِ كلامِهِمْ يُستَجابُ لهُمْ. فلا تتَشَبَّهوا بهِمْ. لأنَّ أباكُمْ يَعلَمُ ما تحتاجونَ إليهِ قَبلَ أنْ تسألوهُ" (مت6: 5-8).الصلاة في الخفاء.. غلق باب الحواس. الاهتمام بالصلاة المستمرة.. وخاصة صلاة القلب.عدم السعي وراء المُراءاة في الصلاة.. بهدف المدح من الآخرين.
(3) الصوم في الخفاء:
"ومَتَى صُمتُمْ فلا تكونوا عابِسينَ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُغَيّرونَ وُجوهَهُمْ لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ صائمينَ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ. وأمّا أنتَ فمَتَى صُمتَ فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وجهَكَ، لكَيْ لا تظهَرَ للنّاسِ صائمًا، بل لأبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 16-18).الصوم في الخفاء، وعدم افتعال أي مواقف تلفت انتباه الآخرين إلى صومي (التصويت بالبوق).
رابعًا: لا تكنزوا.. (مت6: 19-21)
عدم الاهتمام بالأموال (الكنوز).. وهذا هو التحذير الثاني. الجهاد ضد القنية وحب المال.. "مَحَبَّةَ المالِ أصلٌ لكُل الشُّرورِ" (1تي6: 10) "لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدِمَ سيّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ الواحِدَ ويُحِبَّ الآخَرَ، أو يُلازِمَ الواحِدَ ويَحتَقِرَ الآخَرَ. لا تقدِرونَ أنْ تخدِموا اللهَ والمالَ" (مت6: 24).أين أنا من المال؟ ومَنْ الذي يستخدم الآخر؟
المال ومحبته تجلب على الإنسان متاعب كثيرة، وشهوات العالم تجر وراء بعضها.التحذير من المال.. يَنقُبُ السارِقونَ ويَسرِقونَ.المقتنيات الأرضية.. يُفسِدُ السوسٌ والصَدأٌ. "محبة المقتنيات تزعج العقل والزهد فيها يمنحه استنارة" (القديس الأنبا موسى الأسود).
خامسًا: سِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ
نقاوة الحواس.
العين هي التي تحدِّد فكر الإنسان.. فحسب رؤيتها يترتب عليها الفكر.."فإنْ كانَتْ عَينُكَ بَسيطَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ نَيّرًا، وإنْ كانَتْ عَينُكَ شِرّيرَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ مُظلِمًا، فإنْ كانَ النّورُ الذي فيكَ ظَلامًا فالظَّلامُ كمْ يكونُ" (مت6: 22-23).العين هي الجهاز الذي يعلن عن الشخص نفسه.. (عفيف، شهواني، ماكر، غضوب...). حسب رؤية العين تتحدد شخصية الإنسان وحياته الروحية.العين توقع الإنسان في خطايا كثيرة.. (الحسد، الإدانة، النميمة، الشهوة، الأفكار الرديئة...).فسِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ.."لكن اطلُبوا أوَّلًا ملكوتَ اللهِ وبرَّهُ، وهذِهِ كُلُّها تُزادُ لكُمْ" (مت6: 33)لإلهنا كل المجد والإكرام من الآن والى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
05 أبريل 2021
المسيحية والنُسك
معني كلمة نُسك:
إن كلمة نُسك في اللغة العربية تأتي من الفعل (نُسك نُسكًا) - أي تعني: (تزهد أو تقشف أو تعبد)، وكلمة نُسك تعني في مفهومها الأوضح: (العبادة)، ومنها لقب الشخص الزاهد أو المتعبد بلقب الناسك.
أما من الناحية الكنسية أو المعنى الكنسي لكلمة نُسك فهي تعبِّر عن كل أنواع إماتات الجسد.. أي الزهد في العالم وملذاته وشهواته الزائلة.. وهذه الكلمة أطلقت على الرهبان الذين تركوا العالم وكل ما فيه من مُغريات، وعاشوا في تجرد وتقشف وزهد وبتولية، وضاعفوا في صلواتهم وأصوامهم.. وذلك بقصد تقديم الجسد ذبيحة حيَّة مرضية للرب يسوع المسيح.
النُسك في المفهوم الكنسي:
يوجد فرق جوهري واضح جدًا بين النُسك في المفهوم المسيحي والتنسُك بالمفهوم الغير كنسي..
فالأول (المفهوم المسيحي): يرتبط بحياة الروح، وهدفه هو إنعاش الروح وانطلاقها لكي تتحرر من رباطات الجسد الأرضية وتتغلب على معوقاتها.
أما الثاني (المفهوم الغير مسيحي): ترتبط ممارسته بفكرة خاطئة عن الجسد باعتبار الجسد شر وهو شيء مُعطل للإنسان، فتنصب ممارسة النُسك على تعذيب الجسد وإذلاله بطريقة خاطئة.وهذا خطأ فادح.. فنحن في فكرنا المسيحي لا ننظر للجسد على أنه شرًا، أو سبب للخطية التي يرتكبها الإنسان، أو هو معطل للإنسان الذي يريد الحياة مع الله.. ولكن الجسد هو وزنة أعطاها الله لنا، ويريد من كل واحد منَّا استثمارها.. فيوجد مَنْ يربح خمس وزنات ويوجد مَنْ يطمر وزنته في التراب "وكأنَّما إنسانٌ مُسافِرٌ دَعا عَبيدَهُ وسلَّمَهُمْ أموالهُ، فأعطَى واحِدًا خَمسَ وزَناتٍ، وآخَرَ وزنَتَينِ، وآخَرَ وزنَةً. كُلَّ واحِدٍ علَى قَدرِ طاقَتِهِ. وسافَرَ للوقتِ. فمَضَى الذي أخَذَ الخَمسَ وزَناتٍ وتاجَرَ بها، فرَبِحَ خَمسَ وزَناتٍ أُخَرَ. وهكذا الذي أخَذَ الوَزنَتَينِ، رَبِحَ أيضًا وزنَتَينِ أُخرَيَينِ. وأمّا الذي أخَذَ الوَزنَةَ فمَضَى وحَفَرَ في الأرضِ وأخفَى فِضَّةَ سيدِهِ. وبَعدَ زَمانٍ طَويلٍ أتى سيدُ أولئكَ العَبيدِ وحاسَبَهُمْ. فجاءَ الذي أخَذَ الخَمسَ وزَناتٍ وقَدَّمَ خَمسَ وزَناتٍ أُخَرَ قائلًا: يا سيدُ، خَمسَ وزَناتٍ سلَّمتَني. هوذا خَمسُ وزَناتٍ أُخَرُ رَبِحتُها فوقَها. فقالَ لهُ سيدُهُ: نِعِمّا أيُّها العَبدُ الصّالِحُ والأمينُ! كُنتَ أمينًا في القَليلِ فأُقيمُكَ علَى الكَثيرِ. اُدخُلْ إلَى فرَحِ سيدِكَ. ثُمَّ جاءَ الذي أخَذَ الوَزنَتَينِ وقالَ: يا سيدُ، وزنَتَينِ سلَّمتَني. هوذا وزنَتانِ أُخرَيانِ رَبِحتُهُما فوقَهُما. قالَ لهُ سيدُهُ: نِعِمّا أيُّها العَبدُ الصّالِحُ الأمينُ! كُنتَ أمينًا في القَليلِ فأُقيمُكَ علَى الكَثيرِ. اُدخُلْ إلَى فرَحِ سيدِكَ. ثُمَّ جاءَ أيضًا الذي أخَذَ الوَزنَةَ الواحِدَةَ وقالَ: يا سيدُ، عَرَفتُ أنَّكَ إنسانٌ قاسٍ، تحصُدُ حَيثُ لم تزرَعْ، وتجمَعُ مِنْ حَيثُ لم تبذُرْ. فخِفتُ ومَضَيتُ وأخفَيتُ وزنَتَكَ في الأرضِ. هوذا الذي لكَ. فأجابَ سيدُهُ وقالَ لهُ: أيُّها العَبدُ الشريرُ والكَسلانُ، عَرَفتَ أني أحصُدُ حَيثُ لم أزرَعْ، وأجمَعُ مِنْ حَيثُ لم أبذُرْ، فكانَ يَنبَغي أنْ تضَعَ فِضَّتي عِندَ الصَّيارِفَةِ، فعِندَ مَجيئي كُنتُ آخُذُ الذي لي مع رِبًا. فخُذوا مِنهُ الوَزنَةَ وأعطوها للذي لهُ العَشرُ وزَناتٍ. لأنَّ كُلَّ مَنْ لهُ يُعطَى فيَزدادُ، ومَنْ ليس لهُ فالذي عِندَهُ يؤخَذُ مِنهُ. والعَبدُ البَطّالُ اطرَحوهُ إلَى الظُّلمَةِ الخارِجيَّةِ، هناكَ يكونُ البُكاءُ وصَريرُ الأسنانِ" (مت25: 14-30).فالهدف الأساسي في كل الممارسات النسكية من (صوم، صلاة، ميطانيات metanoia، سهر....) في المسيحية هو إذلال الجسد (أي إخضاعه لسلطان الروح)، وليس إذلاله بطريقة خاطئة.. أي إهانته وتعذيبه وإهماله حتى يكون معوق لممارسة هذه الممارسات فيضعفه أكثر من اللازم.وعلى سبيل المثال:
إنسانًا يفهم الصوم بطريقة خاطئة، فيفرض على نفسه أصوامًا كثيرة ومتلاحقة بدون تدبير أو تمييز أو إرشاد من أب اعترافه.. فيقع في حصار الصوم، ويعتبر نفسه من الآباء الصوّامين، فيؤدي ذلك إلى ضعف الجسد، ويصل إلى حد الأنيميا الحادة والدوخة والغثيان حتى لا يقدر أن يقف ليصلي أو يضرب الميطانيات أو حضور القداسات أو السهر أو... فيكون حَكَم على نفسه بالإنقطاع عن هذه الممارسات النسكية كلها باقي عمره بسبب سوء فهمه وتصرفه الخاطئ.
إنسانًا آخر يتوسم في نفسه أنه إنسان مُصلي، فيقف يُصلي ساعات طويلة، ويترك على أثر ذلك عمله.. (هذا إذا كان علمانيًا أو راهبًا في الدير)، وبذلك يكون قد ترك جزء من برنامجه أو قانونه اليومي.. فمن أين يأكل ما لم يعمل؟!
ولعل ذلك يذكرني بالقصة المذكورة في بستان الرهبان.. عن أحد الآباء الرهبان الذي توسم في نفسه أنه رجل صلاة، فعندما ذهب لدير آخر دخل قلاية وحبس نفسه فيها للصلاة، ولم يخرج مع أخوته للعمل.. فأخذ يصلي، وحينما جاء ميعاد المائدة للأكل انتظر مَنْ يقرع بابه ليدعوه لتناول الطعام مع باقي الآباء.. وطال انتظاره ولم يذهب إليه أحد.. وأخيرًا خرج من قلايته ذاهبًا للأب مدبر الدير وخاطبه قائلًا: أما أكل الأخوة اليوم يا أبي؟ قال له الرئيس: لقد أكل الأخوة في ميعادهم. فقال له: ولماذا لم يدعوني أحد لتناول الطعام معهم؟ فأجابه الرئيس قائلًا: أنت رجل صلاة، ولا تحتاج إلى طعام.. فطعامك هو العمل الروحي والغذاء الروحي، ولا تحتاج إلى الطعام الجسدي الذي نعمل من أجله لأن "مَنْ لا يعمل لا يأكل"!! فشعر هذا الراهب بخطأه، وضرب ميطانية metanoia للأب المدبر قائلًا له: أخطأت ومنذ اليوم سوف أعمل مع أخوتي وأصلي باقي الوقت.. وانصرف عنه.
إنسانًا آخر يسئ فهم الميطانيات وفوائدها، فيكثر منها بإرادته وتدبيره الشخصي، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى.. فيضع لنفسه عددًا لا يحصى مع أن إمكانياته الجسدية لا تساعده على ذلك فيؤدي به إلى أمراض في العظام، وخشونة في الركب، وانزلاق غضروفي في العمود الفقري، ويصبح طريح الفراش يحتاج إلى عمليات جراحية كثيرة.. وبسبب ملازمته للفراش وتقرير الأطباء الذي يحذره بلهجة شديدة بعدم الحركة يفقد حرارته الروحية وصلواته وأصوامه.. ويكون قد أساء إلى جسده الذي هو وزنة مؤتمن عليها.فلنلاحظ أنه إذا ضعف الجسد ومرض.. لا يستطيع الإنسان أن يؤدي واجباته الروحية على الوجه الأمثل.. فالنُسك يحتاج إلى إفراز وتدبير من أب الاعتراف وليس حسب هوى كل إنسان.فلنتحلى بفضيلة الإفراز فهي أهم الفضائل. ولإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
04 أبريل 2021
أحد السامرية الأحد الرابع من الصوم الكبير عزة الإنجيل
ارتباط قراءات الفصول:
"عزة الإنجيل"
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "عزة الإنجيل" أي العزة التي يمنحها الإنجيل لمن يعملون بأوامره ، فإنجيل العشية يتكلم عن ميراث المخلص للذين يطلبون إنجيله كما وعدهم بذلك إن طلبوا ملكوت الله ، وإنجيل باكر عن انتخابه لهم كما صرح بقوله إن المدعوين كثيرون ولكن المختارين قليلون ، وإنجيل القداس عن عزة إنجيله معهم كما وعد بأن الذي يشرب من الماء الذي يعطيه هو فلن يعطش إلى الأبد ، وإنجيل المساء عن رحمته بهم إذ يرشدهم إلى أن زمان شريعته والسجود له بالروح والحق قد حضر .ويهيب بهم الرسول في البولس أن يتسلحوا بكلمة الإنجيل كما سماه الرسول "سيف الروح الذي هو كلمة الله"، ويحذرهم يعقوب في الكاثوليكون من خطية عدم العمل به ، ويشير الإبركسيس إلى قوة المبشرين به في دفاعهم عن أنفسهم كما فعل بولس .
البولس من أفسس 6: 10-24
أَخِيرًا يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوْا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ.الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ.فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.مِنْ أَجْلِ ذلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا.فَاثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ،وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ.حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ.وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ.مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ،وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ،الَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ.وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ أَيْضًا أَحْوَالِي، مَاذَا أَفْعَلُ، يُعَرِّفُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ تِيخِيكُسُ الأَخُ الْحَبِيبُ وَالْخَادِمُ الأَمِينُ فِي الرَّبِّ، الَّذِي أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ لِهذَا بِعَيْنِهِ، لِكَيْ تَعْلَمُوا أَحْوَالَنَا، وَلِكَيْ يُعَزِّيَ قُلُوبَكُمْ.سَلاَمٌ عَلَى الإِخْوَةِ، وَمَحَبَّةٌ بِإِيمَانٍ مِنَ اللهِ الآبِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. آمِينَ.
3. الجهاد الروحي
إذ رفع من شأن الكنيسة فأعلن بإتحادها بالسيد المسيح، بكونها جسده، وأوضح أنها حياة غالبة، لها سماتها الفائقة التي تتجلى في حياة أولادها سواء في حياتهم التعبدية أو علاقاتهم الزوجية أو الأسرية أو خلال العمل اليومي، فقد دفع السيد المسيح ثمن هذه الحياة: حياته المبذولة حبًا من أجلنا! هذا ما أكده الرسول بولس خلال هذه الرسالة بوضوح وقوة. والآن قبل أن يختم رسالته أراد إبراز دورنا الإيجابي إذ نتعرض لهجوم عنيف لا من البشر وإنما من إبليس، لأن قيام الكنيسة كمملكة للمسيح فيه تحطيم لمملكة الظلمة وانهيار لكيانها؛ لذا جاء الحديث صريحًا عن مقاومة عدو الخير لنا والتزامنا بالتسلح روحيًا ضد الظلمة حتى نمارس حياتنا الكنسية النامية.يقول الرسول"أَخِيرًا يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ.الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ.فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ،بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ،عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" [١٠-١٢].
ويلاحظ في هذا النص الأتي:
أولًا: إذ عرف كل مؤمن موقعه في الكنيسة، سواء كان كاهنًا أو من الشعب، سواء كان زوجًا أو زوجة أو ابنًا أو والدًا أو والدةً، سواء كان عبدًا أو سيدًا. لكل عضو تمايزه ومواهبه، ولكلٍ وصيته الخاصة به التي تناسب موقعه، لكن هنا وصية عامة يلتزم بها جميع الإخوة كأعضاء في جسد الرب، ألا وهي "تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ" [١٠]. الكل إخوة، بكونهم أعضاء في الجسد الواحد، وإن حمل الكهنة نوعًا من الأبوة الروحية لأبنائهم في الرب كما يحمل الآباء حسب الجسد أو بالتبني لأولادهم. فإن الكل يحمل نوعًا من الأخوة. خلال هذه الأخوة العامة يشترك الجميع في حربٍ واحدةٍ ضد عدوٍ مشتركٍ يحاول تحطيم الكل. "أَخِيرًا تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ" [١٠] ... إذ يوشك المقال على الانتهاء كعادته يتجه إلى هذا (الحديث عن الجهاد الروحي).انظروا، إذ ينتزع (فوارق) الأعمال المتنوعة، يسلحهم ويقودهم إلى الحرب (الروحية). فإنه إذ لا يقتحم أحد وظيفة غيره، إنما يبقى في موقعه، يكون الكل قد تدبّر حسنًا."تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ"]١٠[، بمعنى "في الرجاء" الذي لنا في الرب خلال عونه لنا... ضعوا رجاءكم في الرب، فيصير كل شيء سهلًا."الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ"]١١[. لم يقل ضد المحاربات، ولا ضد العداوات، وإنما ضد "المكايد". فإن هذا العدو لا يحاربنا ببساطة علانية وإنما خلال المكايد. ماذا يعني بالمكايد؟ أي بالخداع... إبليس لا يقترح علينا الخطايا في ألوانها الطبيعية... إنما يعطيها ثيابًا أخرى، مستخدمًا المكائد الآن، بهذه الطريقة يثير الرسول الجنود (الروحيين) ويحثهم على السهر ويثقفهم، موضحًا لهم أن جهادنا (الروحي) يمثل أحد الحروب الماهرة، فنحن نقاتل ضد عدوٍ ليس بسيطًا ولا مباشرًا وإنما نقاتل عدوًا مخادعًا.في البداية أثار الرسول التلاميذ ليضعوا في اعتبارهم مهارة إبليس، بعد ذلك تحدث عن طبيعته وعن عدد قواته. لم يفعل ذلك ليحطّم نفسية الجنود الذين تحته وإنما لكي يحمسهم ويوقظهم ويظهر لهم مناوراته، مهيئًا إياهم للسهر، فلو أنه عدّد بالتفصيل قوة العدو ثم توقف عن الحديث لتحطمت نفسيتهم... لكنه قبل أن يعرض ذلك وبعد العرض أيضًا أظهر إمكانية النصرة على عدو كهذا، مثيرًا فيهم روح الشجاعة. وبقدر ما أوضح قوة أعدائنا بالأكثر ألهب غيرة جنودنا (للجهاد الروحي)."فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ"]١٢[.إذ تحدث عن الأعداء أنهم شرسون أضاف أنهم يسلبوننا البركات العظيمة، ما هذا؟ الصراع يقوم "في السماويات"،فهو ليس صراعًا من أجل الغنى أو المجد وإنما لاستعبادنا. لهذا فإنه لا مجال للمصالحة هنا في هذا الصراع... الصراع يكون أكثر شراسة كلما كان موضوعه هام، فإن كلمة "في السماويات" تعني "من أجل السماويات". الأعداء لا يقتنون شيئًا بالغلبة علينا إنما يجردوننا... (عدو الخير) يبذل كل الجهد ليطردنا من السماء (القديس يوحنا الذهبي الفم).
ثانيًا: يشرح القديس يوحنا الذهبي الفم تعبير "وُلاَةِ الْعَالَمِ" [١٢] قائلًا: [دعاهم "وُلاَةِ الْعَالَمِ" ليس لأن لهم سلطانًا على العالم، وإنما لأن الكتاب المقدس اعتاد دعوة الممارسات الشريرة ب "العالم". فكمثال يقول المسيح: "ليسوا من العالم كما إني أنا لست من العالم" (يو ١٧: ١٦). ماذا؟ ألم يكونوا من العالم؟ ألم يلتحفوا جسدًا؟ ألم يكونوا بين الذين هم في العالم؟ مرة أخرى يقول: "لا يقدر العالم أن يبغضكم ولكنه يبغضني" (يو٧: ٧)... هكذا يقصد الرسول هنا بالعالم الناس الأشرار، إذ تحمل الأرواح الشريرة سلطانًا خاصًا عليهم.]هنا يوضح الرسول بولس أن حربنا ليست ضد إنسانٍ، إنما نحمل العداوة ضد إبليس العدو العام ضد كل البشرية. وكما يقول القديس أغسطينوس: [مصارعتنا ليس ضد البشر الذين نراهم يغضبون علينا، إذ هم ليسوا إلاَّ أوانٍ يستخدمها غيرهم، هم أدوات في يدّ الآخرين.]
ثالثًا: إن كان الأعداء الحقيقيون غير منظورين، لكننا ننال الغلبة عليهم خلال جهادٍ ملموسٍ أو كما يقول القديس أغسطينوس أن القديسين يربحون النصرة على الأعداء غير المنظورين خلال الأمور المحسوسة.
رابعًا: واضح من حديث الرسول أن الحرب ليست فقط شرسة ولكن إذ طرفها إبليس الذي لا ينام، فإنها مستمرة ودائمة ضد كل المؤمنين المجاهدين. لذا يقول القديس چيروم: [هل يظن أحد أننا في أمان، وأنه من الصواب أن ننام لمجرد نوالنا العماد؟.]
خامسًا: قدم لنا الرسول بولس عدة حربية روحية يتسلح بها المؤمن بالكامل لينال الغلبة والنصرة، قائلًا:"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ،لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ،وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا" [١٣].هذه العدّة في حقيقتها روحية، وكما يقول القديس أمبروسيوس: [يلزمنا ألاَّ نفكر في أسلحة الجسد بل تلك التي هي قديرة أمام الله.]مركز السلاح أو جوهره هو تجلي السيد المسيح نفسه في داخلنا، هو الذي غلب عدو الخير ويبقى غالبًا له خلالنا... السيد المسيح نفسه هو سلاحنا وغلبتنا ونصرتنا على إبليس وجنوده.
يوجد سلاح لخلاصنا مادام يوجد المسيح (القديس أمبروسيوس).
عدة أسلحتنا هي المسيح (القديس أغسطينوس).لسنا نجهل أن الأرواح جميعها ليست في نفس الشراسة والنشاط، ولا في نفس الشجاعة والخبث، فالمبتدئون والضعفاء من البشر تهاجمهم الأرواح الضعيفة، فإذا ما انهزمت تلك الأرواح تأتي من هي أقوى منها لتهاجم جنود المسيح.ويصعب على الإنسان بقوته أن يقاوم، لأنه لا يقدر أحد من القديسين أن توازي طاقته خُبث هؤلاء الأعداء الأقوياء الكثيرين، أو يصد هجماتهم أو يحتمل قسوتهم ووحشيتهم، ما لم يرحمه المصارع معنا ورئيس الصراع نفسه الرب يسوع، فيرد قوة المحاربين، ويصد الهجوم المتزايد، ويجعل مع التجربة المنْفَذ قدر ما نستطيع أن نحتمل (١كو ١٠: ١٣) (الأب سيرينوس).
سادسًا: إذ سألنا الرسول أن نقاوم في اليوم الشرير، أي في لحظات التجربة المرة، يليق بنا أن نتمم جهادنا المستمر حتى يتحقق ثباتنا، وتُعلن نصرتنا الكاملة، إذ يقول: "وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا" مع كل تجربة يصبها العدو لتحطيمنا نجاهد، فننمو ويتحقق بالأكثر ثباتنا، وهكذا يبقى العدو يحارب، ونبقى نحن نجاهد بالرب، فتنهار مملكة إبليس ويثبت ملكوت الله فينا. تسقط الأرواح في الحزن، وإذ تريد هلاكنا تهلك هي بواسطتنا بنفس التهلكة التي يرغبوها لنا. ولكن لا تعني هزيمتهم أنهم يتركوننا بغير رجعةإذ تهلك قواهم ويفشلون في صراعهم معنا، نقول: "فليخزَ وليخجل الذين يطلبون نفسي لإهلاكها، ليرتد إلى الوراء ويخز المسرورين بأذيتي" (مز ١٤: ٤). وأيضًا يقول إرميا: "ليخز طارديّ ولا أخزى أنا، ليرتعبوا هم ولا أرتعب أنا، أجلب عليهم يوم الشر واسحقهم سحقًا مضاعفًا" (إر ١٧: ١٨)، إذ لا يقدر أحد أن يشك في أنه متى انتصرنا عليهم يهلكون هلاكًا مضاعفًا (الأب سيرينوس) أنا أعلم يا إخوتي أن تلك الجراحات التي نتقبلها من أجل المسيح ليست مدمرة للحياة بل بالحري معينة للحياة (القديس أمبروسيوس)." لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا"] يقصد باليوم الشرير الحياة الحاضرة، إذ يدعوها أيضًا: "العالم الحاضر الشرير" (غلا ١: ٤)، وذلك بسبب الشر الذي يُرتكب فيها يقول "تتموا كل شيء" أي تقاوموا كل الأهواء والشهوات الدنسة وكل ما يقلقنا. هنا لا يتحدث عن مجرد ممارسة الأعمال وإنما إتمامها، بمعنى أننا بعد ما نُقتل (بالخطايا) نثبت. فإن كثيرين يسقطون بعد نوالهم النصرة... أما نحن فيلزمنا أن نثبت بعد النصرة. فقد يضُرب عدو لكنه يقوم ثانية إن لم نثبت إن قام الأعداء (الروحيون) ثانية فإنهم يعودوا فيسقطون إن كنا ثابتين.
ما دمنا لا نتزعزع لا يقوم العدو من جديد.
"الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ"؛ ألا تراه كيف ينزع كل خوف؟ فإن كان ممكنًا بعد إتمام كل شيء أن نثبت، فإن وصفه لقوة العدو لا يخلق جُبنًا وخوفًا بل ينتزع كل استرخاء.يقول: "لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ"، مقدمًا لهم تشجيعًا من الزمن بكونه مقصرًا (إذ يدعوه يومًا واحدًا)، فالأمر يحتاج إلى ثبات دون وهن إذ تحدث غلبة (القديس يوحنا الذهبي الفم).
سابعًا: إذ أعلن الرسول عن المعركة الروحية الحقيقية وأبرز من هو العدو وما هي قدراته الفكرية المخادعة وإمكانياته كما ألهب قلبنا بالشوق للنصرة والثبات فيها خلال عبورنا هذه الحياة الحاضرة كيومٍ واحدٍ قصيرٍ، الآن يصّور لنا العدة الروحية التي تكسو كل كياننا فتحفظنا من ضربات العدو.
هذه العدة الروحية هي:
أ. "فَاثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ" [١٤].
يبدأ حديثه عن هذه العدة الروحية بكلمة "اثبتوا"، والثبات هو في ذاته جزء أساسي وحيوي حتى أثناء الجهاد في الأمور الزمنية، إذ يمثل عدة داخلية يلتزم أن يتسلح بها كل إنسان مجاهد في حياته؛ بدون هذا الثبات يسقط الإنسان في اليأس وينهار أمام أية صعوبة ولا يحقق غايته.يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على كلمة "اثبتوا" بالقول [أول ملامح التحركات الحربية (الروحية) أن تعرف كيف تثبت، فإن أمورًا كثيرة تتوقف على هذا. لذلك كثيرًا ما تحدث عن الثبات، فيقول في موضع آخر:
"اسهروا، اثبتوا" (١ كو ١٦: ٣)...
"اثبتوا هكذا في الرب" (في ٤: ١)...
"من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط" (١كو ١٠: ١٢)...
"بعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا" (أف ٦: ١٣).بلا شك لا يقصد مجرد الثبات بأية كيفية، وإنما في الطريق السليم، ذلك كما أن كثيرين لهم خبرات في الحروب يعرفون في المركز الرئيسي كيف يثبتوا. فإن كان في حالة الملاكمين والمصارعين يطلب المدرب من اللاعبين الثبات قبل كل شيء، فكم بالأكثر في حالات الحروب والأمور العسكرية؟!
الإنسان الذي يثبت بمعنى الكلمة يكون مستقيمًا، فلا يقف متراخيًا، ولا يتكئ على شيء.الاستقامة التامة تعلن عن ذاتها بالثبات، فإن المستقيمين بالكمال يثبتون أما الذين لا يثبتون فلا يمكن أن يكونوا على حق ولا منظّمين بل "مشوشين".الإنسان المترف لا يثبت باستقامة بل يكون منحنيًا، وهكذا الشهواني ومحب المال.من يعرف كيف يثبت، بثبوته ذاته كما من ينبوع خاص به يجعل كل جهاده سهلًا بالنسبة له.]أما قوله: "مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ" فيحمل بلا شك مفهومًا رمزيًا. فالجندي الروماني كان يشد وسطه بمنطقة جلدية على حقويه، مُثبت عليها صفائح فولاذية أو حديدية. هذه المنطقة يشدها الجندي كأول استعداد له للدخول في المعركة، فهي من جهة تعطي شيئًا من الصلابة لظهره، كما تساعده على سرعة الحركة فلا تعوقه ملابسه، وأيضًا كانت تحمي بعض أجزاء جسمه. ويرى كثير من الآباء أن الحقوين يشيران إلى الشهوة الجسدية، وشّدهما بالمنطقة يشير إلى ضبط الشهوة أو إلى العفة.ما الذي يسندنا في عفتنا سوى رفض الباطل وقبول "الحق" الذي هي السيد المسيح، مصدر نقاوتنا وعفتنا، لذا يقول الرسول: "مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ". المسيح الحق هو ضابط أجسادنا ومقدسها لتعمل مجاهدة لحساب الملكوت عوض انشغالها بالباطل.يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن حصنا أنفسنا بذلك، إن منطقنا أحقاءنا بالحق، لا يقدر أحد أن يغلبنا. من يطلب تعليم الحق لن يسقط على الأرض.]
ب. "وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ".
إن كان السيد المسيح المصلوب هو الحق الذي نتمنطق به فنحارب شهوات الجسد ونغلب عوض الفلسفات الباطلة التي قد تشغل الذهن لكنها تعجز عن تقديم الحياة العفيفة في الرب، هكذا هو أيضًا "برّنا" الذي نلبسه كدرع يحمينا من ضربات السيف وطعنات الرماح والسهام القاتلة.كان الدرع العسكري الروماني يمتد من العنق إلى الركبة، من زرد أو حراشيف معدنية متصلة تحمي المحارب من ضربات العدو.كما أن الدرع لا يمكن اختراقه هكذا البرّ، هنا يقصد بالبرّ حياة الفضيلة الجامعة. فمثل هذه الحياة لا يقدر أحد أن يغلبها، حقًا قد يجرحه أحد لكن لا يقدر أحد أن يخترقه ولا حتى الشيطان نفسه.كأنه يقول ليثبت البرّ في الصدر، ويقول المسيح: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ فإنهم يشعبون" (مت ٥: ٦). هكذا يكون ثابتًا وقويًا كما بدرع (القديس يوحنا الذهبي الفم).
ج. "وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ".هكذا يتسلح المؤمن بأسلحة روحية تمس كل كيانه حتى قدميه، وكما يقول الشهيد كبريانوس: [لنتسلح أيها الإخوة المحبوبون بكل قوتنا، ونستعد للمعركة بذهن غير فاسد وإيمان مستقيم، وشجاعة جادة. ليذهب معسكر الله إلى أرض المعركة المعدة لنا... ليته حتى الساقطين أيضًا يتسلحون، لعلهم يعودون فيربحوا ما قد خسروه....]إن كانت المنطقة تؤهل الجندي للحركة بلا عائق وسط الميدان فإن الحذاء ضروري لسرعة الجري في الحروب القديمة وأيضًا للوقاية من الزلق ولتسلق الجبال حيث كانت النعال العسكرية تحمل مسامير بارزة الكرات للوقاية.لن نستطيع السير بسرعة وسط المعركة التي يثيرها العدو ما لم يكن إنجيل السلام حافظًا لأقدامنا الروحية، لنتحرك حسب مشيئة الله وإنجيله.بينما يثير العدو الحرب ضدنا نحتذي نحن بإنجيل السلام، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد أظهر لنا أن الصراع ضد الأرواح الشريرة يستلزم إنجيل السلام... فإن حربنا ضدهم تنهي حربًا أخرى، أي تهني الحرب التي بيننا وبين الله. حين نكون في حربٍ ضد إبليس نكون في سلام مع الله. لذلك لا تخف أيها الحبيب، إنه "إنجيل" أي أخبار مفرحة، تهب نصرة.]
د. "حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ" [١٦].
إذ كان العدو لا يكف عن تصويب سهام ليست معدنية، وإنما نارية ملتهبة تقتل النفس، فإن الإيمان هو الترس الذي يحطم هذه السهام ويطفيء لهيبها. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن الترس يُوضع أمام الجسد كله بكونه نوعًا من الحاجز، هكذا أيضًا بالنسبة للإيمان حيث يخضع كل شيء له... فإن هذا الترس لا يقدر أن يقاومه شيء. اسمع ما يقوله المسيح لتلاميذه: "الحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل" (مت ١٧: ٢٠)... يُقصد أيضًا بسهام الشرير الملتهبة التجارب والرغبات الفاسدة، أما كونها "ملتهبة" فهي سمة هذه الرغبات. فإن كان الإيمان يسيطر على الأرواح الشريرة فبالأولى يستطيع أن يسيطر على شهوات النفس.]
ه."وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ" [١٧].
إن كانت الخوذة هي الواقية للرأس، فإن انشغالنا بالخلاص، ورجاءنا في التحرر من العقوبات الآتية والتمتع بالميراث السماوي الأبدي هو الخوذة الروحية التي تحمي رأسنا أي إيماننا بالسيد المسيح الرأس.أما سيف الروح الذي نمسك به لنحارب فهو كلمة الله، به نضرب في داخلنا فنعزل بقوة بين ما هو لله وما هو خارج الله، به نبتر في داخلنا كل فساد ونلقي به خارجًا، كلمة الله كالسيف يجرح لكنه يشفي!
يرى الأب بينوفيوس أن هذا السيف، كلمة الله، يجب أن يسفك الدم، دم خطايانا التي نعيش فيها، لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة (عب ٩: ٢٢)، وقد جاء في إرميا "ملعون من يمنع سيفه عن الدم" (إر ٤٨: ١٠)، وكأن المؤمن لا يكف عن أن يقتل بالوصية كل خطية تكمن في قلبه أو فكره أو أحاسيسه حتى يتقدس بالكامل في الرب.يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: أننا بهذا السيف الروحي نقتل رأس الحية.
و. "مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهَذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ" [١٨].
يختم حديثه عن أسلحة محاربتنا الروحية بالصلاة، لا لأنها تحتل المكانة الأخيرة وإنما لكي تثبت في الذهن. فإن الأسلحة السابقة كلها هي في حقيقتها عطية إلهية لا نستطيع أن ننعم بها بدون الصلاة. وكأنه يختم الحديث بفتح الباب الذي به ننال الأسلحة المقاومة لإبليس وكل مكايده.إن كان حديث الله معنا (كلمة الله) هو السيف الروحي الذي به نحطم كل شر يهاجمنا في الداخل، فإن حديثنا معه (الصلاة) هو سندنا لنوال العون الإلهي خلال جهادنا المستمر.[عن صديقه الناسك بونسيوس]إنه لا يبالي (بمحاربات الشيطان)، ولا يخف، إذ هو متسلح بأسلحة الرسول من رأسه إلى قدميه. يصغي إلى الله إذ يقرأ الكتاب المقدس، ويتحدث مع الله إذ يصلي إلى الرب... في اختصار سيحاربه الشيطان، لكن المسيح يدافع عنه. بالصوم الصارم مع السهر (في الصلاة) تُطفي نيران سهام إبليس (القديس چيروم).
ز. الجهاد الروحي الجماعي:
ختم الرسول بولس حديثه الخاص بالجهاد ضد إبليس بالكشف عن جانب إنجيلي كنسي هام، وهو إن كان العدو يحارب كل عضو على إنفراد، إنما يعمل العدو بكل جنوده، أي تعمل الأرواح الشريرة معًا ضد مملكة المسيح. فبالأولى جدًا في جهادنا نحن ألاَّ نحارب إبليس منفردين، وإنما كجماعة مقدسة. حقًا هي حرب داخلية تمس علاقتنا الشخصية بالله لكن خلال إتحادنا معًا، لذا يؤكد الرسول السهر الدائم والطلبة المستمرة من أجل جميع القديسين، فالكل يطلب معًا بروحٍ واحدٍ، فيشعر إنه في جهاده ليس بمعزلٍ عن إخوته.لنطلب صلوات الآخرين حتى يسندنا الله، ولنصلِ نحن من أجل إخوتنا علامة شركتنا معهم وحبنا لهم ووحدتنا في الروح.أُفرز الرسول بولس من البطن لخدمة الكرازة، والذي دعاه الرب علانية وهو في الطريق إلى دمشق، والذي نال مواهب كثيرة، يشعر بحاجة شديدة لصلوات الشعب من أجله ليسنده الرب ليس فقط في جهاده الروحي وإنما في كرازته بالإنجيل، إذ يقول: "وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ، الَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ" [١٩-٢٠].إن كانت قيوده تشفع فيه لدى الله كسفير أمين احتمل الآلام من أجل الإنجيل لكنه كان في عوز إلى شفاعات كل الكنيسة عنه ليتمم رسالته بلا عائق. لهذا اعتادت الكنيسة أن تصلي من أجل البطريرك والأسقف والكهنة والشمامسة وكل الخدام، ويصلي البابا البطريرك وكل الخدام من أجل الشعب. حقًا نحتاج في جهادنا إلى صلوات مشتركة!في تعليق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارات الرسولية، يقول: [الصلاة قادرة على تحقيق عظائم.]
4. الخاتمة والبركة الرسولية
ختم الرسول بولس هذه الرسالة بالآتي:
أولًا: أعلن لهم أنه يبعث إليهم تيخيكس، لا حاملًا الرسالة فحسب، وإنما كشاهدٍ عيان يطمئنهم على حاله وهو في السجن كيف يستخدمه الله للكرازة وبنيان الملكوت فتتعزى قلوبهم. هذا وبإرساله تيخيكس الخادم الأمين في الرب يسمعون كلمة الله منه لبنيانهم، إذ يقول: "وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ أَيْضًا أَحْوَالِي، مَاذَا أَفْعَلُ، يُعَرِّفُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ تِيخِيكُسُ الأَخُ الْحَبِيبُ وَالْخَادِمُ الأَمِينُ فِي الرَّبِّ، الَّذِي أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ لِهَذَا بِعَيْنِهِ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَحْوَالَنَا، وَلِكَيْ يُعَزِّيَ قُلُوبَكُمْ" [٢١-٢٢].
ثانيًا: يختم بالبركة الرسولية: "سَلاَمٌ عَلَى الإِخْوَةِ، وَمَحَبَّةٌ بِإِيمَانٍ مِنَ اللهِ الآبِ، وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. آمِينَ" [٢٣-٢٤].إذ كتب الرسالة عن الكنيسة التي هي حقيقتها وجوهرها "سلام مع الله والإخوة، ومحبة صادرة عن الله والرب يسوع، ونعمة مقدمة لنا"، لذا جاءت البركة متناغمة مع جوهر الرسالة.ابتهل من أجلهم يسأل لهم "السلام والمحبة بإيمان". نطق حسنًا، إذ لم يرد لهم أن ينظروا إلى المحبة بذاتها بل ممتزجة بما هو من الإيمان.إن وُجد سلام وُجدت محبة، وإن وُجدت محبة يوجد سلام أيضًا."بإيمان"، إذ بدونه لا تبلغ المحبة شيئًا، بل ولا يكون لها وجود بالكلية..."فِي عَدَمِ فَسَادٍ"... أما يعني "في طهارة" أو "من أجل الأمور غير الفاسدة"، أي ليس من أجل الغنى والمجد والكنوز التي تفسد. "خلال عدم الفساد"، أي "خلال الفضيلة"، لأن كل خطية هي فساد (القديس يوحنا الذهبي الفم).هذه صورة مبسطة للملامح الرئيسية لهذه الرسالة الحية التي تعلن عضويتها في جسد السيد المسيح، وتمتعنا بشركة حياته وسماته، في كل عملي خفي وظاهر، حتى في جهادنا ضد قوات الظلمة، من أجل بلوغنا الميراث الذي لا يفنى ولا يضمحل.
إنجيل القداس من يوحنا 4: 1-42:
فَلَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تَلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا،مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تَلاَمِيذُهُ،تَرَكَ الْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضًا إِلَى الْجَلِيلِ.وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ.فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ الضَّيْعَةِ الَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ابْنِهِ.وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ.فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»لأَنَّ تَلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَامًا.فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ.أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا».قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا.وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هذَا الْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ».قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى ههُنَاجَابَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالتْ: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَنًا قُلْتِ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ،لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ».قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ».قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ.أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ . لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ.وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا».قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ».قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ».وَعِنْدَ ذلِكَ جَاءَ تَلاَمِيذُهُ، وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ امْرَأَةٍ. وَلكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: «مَاذَا تَطْلُبُ؟» أَوْ «لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا؟»فَتَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ«هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟».فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ.وَفِي أَثْنَاءِ ذلِكَ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، كُلْ»فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ»فَقَالَ التَّلاَمِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «أَلَعَلَّ أَحَدًا أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟»قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ.أَمَا تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ.وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَرًا لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعًا.لأَنَّهُ فِي هذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِدًا يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ.أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ».فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: «قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ»فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ، فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدًّا بِسَبَبِ كَلاَمِهِ.وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: «إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ».
في الطريق عبر السيد المسيح على السامرة، والتقى عند البئر بامرأة سامرية تزوجت قبلا بخمسة رجال والذي معها ليس برجلها. دخل معها السيد في حوار بالرغم من العداء بين اليهود والسامريين، فاجتذبها إلى خلاصها، بل وجعلها كارزة بالخلاص. اجتذبها فتمتعت بالمعرفة، وأدركت أنه المسيا الذي يخبرنا بكل شيء. وبعد دقائق تركت جرتها لتجتذب المدينة بأسرها ويؤمن كثيرون بالسيد المسيح. حقًا من يلتقي برابح النفوس العجيب يشاركه سماته، فيصير هو أيضًا رابحًا للنفوس خلال هذا اللقاء يحثنا السيد المسيح على العبادة الجديدة، حيث قدم لها ولأهل مدينتها ماءً حيًا يفيض في داخلهم. لقد أعلن السيد أنه عوض بئر يعقوب يقدم المياه التي من يشرب منها لا يعطش إلى الأبد، إذ تهب حياة جديدة أبدية. وأن الساعة قد أتت لتتحقق العبادة على مستوى أعظم من جبل جرزيم أو الهيكل، حيث يسجد العابدون للآب بالروح والحق[23]. وأن له طعام جديد وهو أن يفعل مشيئة الذي أرسله..
مجيئه إلى السامرة
"وكان لا بد له أن يجتاز السامرة". [4]
أبرز السيد اهتمامه بالسامرة والسامريين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فمدح الأبرص السامري غريب الجنس، الذي وحده دون التسعة اليهود البرص عاد ليشكر السيد على تطهيره له (لو 17: 15-18). كما قدم لنا مثل السامري الصالح الذي تحرك قلبه بالحب العملي ليهتم بجريح يهودي أكثر من الكاهن اليهودي واللاوي (لو 10: 33-36). وأخيرا قبل صعوده وضع علي عنق الرسل الالتزام بالخدمة في السامرة: "تكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أع 1: 18).
"وكانت هناك بئر يعقوب،فإذ كان يسوع قد تعب من السفر،جلس هكذا على البئر،وكان نحو الساعة السادسة". [6]
نحو الساعة السادسة، أي الظهيرة، تعب السيد المسيح بسبب السير في وسط حر الظهيرة. كإنسان حقيقي خضع للضعف الجسدي فتعب. في تواضع كان يمارس رحلاته مشيًا على قدميه، ولم يكن لديه مركبة ولا دابة يمتطيها. وإذ كان جسده رقيقًا لم يحتمل السير حتى الظهيرة بينما لم يجد التلاميذ صعوبة أن يدخلوا المدينة ليشتروا طعامًا. ليس عجيبًا أن نسمع عن السيد أنه تعب وعطش في وقت الظهيرة، وهناك تركه تلاميذه، فإن هذا المنظر يحمل صورة للسيد المسيح علي جبل الجلجثة حيث استراح علي الصليب في وقت الظهيرة وقد حمل أتعابنا وأعلن عطشه لكل نفس بشرية. هناك أيضًا تركه تلاميذه هاربين، ليجتاز المعصرة وحده.إنه يسأل أن يشرب ذاك الذي في طريقه أن يعطي. لكنه يشرب لا من ماء جدول يفيض، بل يشرب خلاصك. إنه يشرب من تصرفاتك الصالحة، يشرب الكأس أي الآلام التي يكفر بها عن خطاياك، حتى إذ تشرب من دمه المقدس تروي عطش هذا العالم.هكذا تمتع إبراهيم باللَّه بعد أن حفر بئرًا (تك30:21). واسحق تقبّل زوجته وهو سائر بجوار البئر (تك62:24)، التي كانت قادمة إليه كرمزٍ للكنيسة... رفقة وجدت من يبحث عنها عند البئر..
"فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء،فقال لها يسوع:أعطيني لأشرب". [7]
مجيء المرأة عند الظهيرة بعد أن حمل الرجال والنساء مياههم إلى منازلهم يكشف عن موقف الشعب منها؛ إذ لم تكن لها الجرأة أن تواجه أحدًا، فجاءت في وسط الحرّ لتستقي ماء من البئر بمفردها. مسيحنا هو إله المرذولين والمطرودين، يخرج منهم أبناء الملكوت وكارزين بالحق.هذا اللقاء يذكرنا برفقة وراحيل وابنة يثرون كيف تزوجن خلال اللقاء عند البئر بزيجات مباركة بإسحق ويعقوب وموسى. هكذا وجدت السامرية عريس نفسها عند بئر يعقوب. ونحن نجد مسيحنا عريسًا لنا عند جرن المعمودية.بدأ السيد المسيح حواره معها بطلب متواضع: أن يشرب ماءً. ذاك الذي من أجلنا افتقر، الآن من أجلنا صار شحاذًا لكوب ماء، ليس لاحتياج شخصي، وإنما ليكشف لها عن احتياجها هي إليه،فتشرب وترتوي من ينابيع نعمته الغنية.بينما مضى التلاميذ إلى المدينة ليشتروا طعامًا استغل السيد هذه الفرصة ليدخل في حوارٍ مع المرأة السامرية، ويسحبها هي وأهل المدينة لخلاصهم. هذا هو طعامه الحقيقي أن يتمم مشيئة الآب، وهي خلاص النفوس.
"فقالت له المرأة السامرية:كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية؟لأن اليهود لا يعاملون السامريين". [9]"أجاب يسوع وقال لها:لو كنتِ تعلمين عطية الله،ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب،لطلبت أنت منه،فأعطاك ماءً حيًا". [10]
سحب السيد المسيح هذه المرأة إلى طريق الخلاص، لا بالهجوم على العبادة في السامرة، بكونها منشقة، وأنها قد شوهت الإيمان والعبادة، وإنما بسحب فكرها من الانشغال بالعداوة القائمة بين الفريقين إلى الدخول إلى أعماق نفسها لتعطش إلى الماء الحي، وتدرك حاجتها إلى المخلص. الآن ليس الوقت للنزاع، بل للجلوس الهادئ مع النفس والتمتع بعطايا الله المجانية. فقد حان وقت افتقاد الله للعالم كله بإرسال المسيّا المخلص. شهوة قلب السيد المسيح أن نعرفه، فنطلبه ونقتنيه، فنرتوي منه أبديًا!
السامرية لم تكن تدرك عطية الله الذي أرسل ابنه الوحيد ليبذل ذاته عن العالم (يو ٣: ١٦)، ولا عطية الروح القدس الذي يفيض في النفس كنهرٍ يرويها ويروي آخرين، ويقدم الروح مواهب روحية لا حصر لها لخلاص العالم. هذه العطايا إلهية مجانية قدمها الله من أجل مبادرته بالحب لنا ونحن بعد أعداء "الماء الحي" هو تعبير شائع لينابيع المياه التي تفيض بلا توقف، يقابله "الماء الميت" الراكد في البرك والمستنقعات ومخازن المياه حيث تتعرض للتلوث. يشير الماء الحي إلى الروح القدس الذي يروي النفس ويحول قفرها إلى فردوسٍ مثمرٍ، ويغسل ما في النفس من دنس.
"أجاب يسوع وقال لها:كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا". [13]"ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا،فلن يعطش إلى الأبد،بل الماء الذي أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء، ينبع إلى حياة أبدية". [14]
لم يجبها: "نعم، أنا أعظم من يعقوب"، لكنه بلغ هذا الهدف بحديثه معها الماء الذي في البئر هو ملذات العالم في أعماقه المظلمة، من هذا يسحب البشر بأوانيهم التي للشهوة... لتحسبوا الشهوة هي الدلو، واللذة هي الماء الذي من عمق البئر. عندما يحصل شخص على لذة هذا العالم، فإن هذا بالنسبة له طعام وشراب وحمَّام وأبهة وسلاح، فهل يمكنه ألا يعطش مرة أخرى؟[471]في لطفٍ شديد بدأ يكشف لها عن الماء الحي، مقارنًا إياه بماء بئر يعقوب. أوضح أنه لا وجه للمقارنة بين ماء يروي الجسد إلى حين، وماء يسند النفس أبديًا ويرويها، فلا تعتاز إلى شيء..
الماء الذي يقدمه السيد له ميزات خاصة:
هو عطية إلهية "أنا أعطيه"، لذا يهب فرحًا إلهيًا..
يهب حياة أبدية بلا احتياج، "لن يعطش إلى الأبد"..
ماء داخلي في النفس "يصير فيه"لذا يناجيها واهب المياه الحية، قائلا: "أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش 4: 12).
يحول الأعماق إلى ينبوع فياض على الغير. "مَنْ آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو 7: 38).
"قالت له المرأة:يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي". [15]
وهنا نرى كيف أن المرأة صعدت قليلًا إلى التعاليم العلوية؟ لقد ظنت أن هذا الماء أعلى قدرًا من الماء المحسوس أرأيت كيف أن المرأة فضلت المسيح على رئيس الآباء إذ أوضحت رأيها في يعقوب ومقدار عظمته وعرفت الأفضل منه؟
هنا اكتسبت بصيرة أكثر جلاءً. لكنها لم تكن قد أدركت بعد الصورة الكاملة، لأنها قالت: "أعطيني هذا الماء حتى لا أعطش، ولا آتي إلى ههنا لأستقي".
"ولكن تأتي ساعة وهي الآن،حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق،لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له". [23]
عوض الانشغال بمكان العبادة يلزم الانشغال بحال الفكر الداخلي، وهيكل الله داخل النفس، وكيفية تقديم العبادة لله الذي هو روح. فالله الآب يطلب العابدين بقلوبهم، ونادرًا ما يوجدون..
العبادة بالروح تحول القلب إلى صهيون الحقيقية التي يشتهيها الله كقول المرتل: "لأن الرب اختار صهيون، اشتهاها مسكنًا له؛ هذه هي راحتي إلى الأبد؛ ههنا أسكن لأنه اشتهيتها (مز ١٣٢: ١٣-١٤).
"الله روح،والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا". [24]"قالت له المرأة:أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي،فمتى جاء ذاك،يخبرنا بكل شيء". [25]
أخيرًا جاء الحوار بخصوص المسيا، فإذ لم تعترض السامرية على ما يقوله بل شعرت بقوة في داخلها سألته عما كان يدور في أذهان اليهود والسامريين، وهو: متى يأتي المسيا؟ فمع العداوة القائمة بين اليهود والسامريين إلاَّ أن أمرًا واحدًا كان الكل يترقبه، وربما تحدث كثير من المعلمين عنه في ذلك الوقت، وهو تحقيق الوعد الإلهي الخاص بمجيء المسيا وحلول مملكته.مع ما لحق بها من فساد بسبب خطيتها لكن شوقها لمعرفة الحق وترقبها في تواضع لمجيء المخلص هيأها للالتقاء مع السيد والتعرف عليه والشهادة له.
"قال لها يسوع:أنا الذي أكلمك هو". [26]لم يتحدث السيد المسيح مع اليهود، ولا حتى مع تلاميذه بعبارات مباشرة هكذا: "أنا الذي أكلمك هو".الحصاد قد أُعد، فقد قام الأنبياء بالغرس لينمو، والآن قد جاء إلى النضوج وينتظر الرسل كحاصدين له... فبالنسبة للمرأة السامرية كان اسم "المسيا" ليس بجديدٍ عليها، كانت بالفعل تترقب مجيئه. لقد آمنت بالفعل أنه قادم. من أين كان لها أن تؤمن بهذا لو لم يغرسه موسى؟
كرازة المرأة السامرية الناجحة
"وعند ذلك جاء تلاميذه،وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة،ولكن لم يقلأحد ماذا تطلب؟أو لماذا تتكلم معها؟" [27]
لم يكن في ذهن التلاميذ أن معلمهم الذي كانوا يترقبون ملكوته العظيم على الأرض يتحدث مع امرأة فقيرة سامرية. إنها ليست من قطيع إسرائيل الضال، وفي ذهنهم لا يمكن أن يكون لها دور في ملكوته، فلماذا يتحدث معها؟
هذا ومن جانب آخر فإنه لم يكن من عادة الرجال أن يتحدثوا مع نساء في الطريق، حتى وإن كانت زوجاتهم، وقد وجدت قوانين كثيرة سنها الحاخامات في هذا الشأن.
"فتركت المرأة جرتها،ومضت إلى المدينة،وقالت للناس". [28]"هلموا انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت،ألعل هذا هو المسيح؟" [29]
إذ تمتعت السامرية بالحق الإلهي تركت جرتها، ونسيت ما جاءت من أجله، وعادت إلى المدينة دون الماء، إنما لتقدم ماء الحق لأهل المدينة. تركت جرتها لأنها لم ترد أن تعوقها الجرة عن الإسراع نحو المدينة لتشهد للحق. أخبرت الجميع في الشوارع أنها وجدت الكنز الذي تبحث عنه، ووجدت ينبوع سرورها الداخلي.سبق أن طلب السيد منها أن تدعو زوجها [16]، وها هي قد دعت كل رجال المدينة ونجحت في مهمتها.لم تخبرهم أنه حاورها في أمور دينية خطيرة خاصة بمكان العبادة وطريقة ممارستها، بل ما لمس قلبها حقًا أنه عرف أسرارها واجتذبها بقوة كلمته إليه، فتعرفت على شخصه، إنه هو المسيا.هنا امرأة أعلنت عن المسيح للسامريين، وفي نهاية الأناجيل أيضًا امرأة رأته قبل كل الآخرين تخبر الرسل عن قيامة المخلص (يو 20: 18).جاءت السامرية لتستقي ماءً، وعندما استنارت وعرفت الينبوع الحقيقي للتو احتقرت الينبوع المادي. وهي في هذه الواقعة البسيطة تعلمنا أن نتجاوز عن أمور الحياة المادية عندما نصغي للروحيات... دون أن يوجه لها أحد أمرًا تركت جرتها، وعلى جناحي الفرح والبهجة أسرعت وصنعت ما فعله الإنجيليون، ولم تدعُ واحدًا أو اثنين، كما فعل أندراوس وفيلبس، إنما دعت مدينة بأكملها، وأتت بهم إلى الرب يسوع.آمنت المرأة السامرية على الفور، وبذلك اتضح أنها أكثر حكمة من نيقوديموس، بل وأكثر شجاعة وثباتًا. لأن نيقوديموس بعد أن سمع قدر ما سمعت المرأة آلاف المرات لم يذهب ويدعو آخرين لسماع هذه الكلمات، ولا تحدث بصراحة على الملأ. لكن هذه المرأة فعلت ما لم يفعله الرسل، إذ قامت بالكرازة للجميع تدعوهم إلى المسيح. بذلك قادت مدينة بأكملها إلى الإيمان بيسوع المسيح.
ونرى السيد المسيح يستكمل حديثه قائلًا:"أما تقولون أنه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد.ها أنا أقول لكم:ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول إنها قد ابيضت للحصاد". [35]
يطلب السيد المسيح الحصاد الذي لن يتحقق بدون العمل الجاد بسرورٍ ومثابرة. فالعملٍ ضرورة حتمية وملحة للتمتع بالحصاد.إنه يرى الحصاد القادم حيث يأتي كثير من السامريين إليه خلال خدمة المرأة السامرية، يؤمنون به ويتأهلون للبس الثياب البيضاء.
"والحاصد يأخذ أجرة،ويجمع ثمرًا للحياة الأبدية،لكي يفرح الزارع والحاصد معًا". [36]
الآن يتقدم السيد المسيح بكونه الزارع الذي غرس الكلمة في قلب السامرية، وفي ساعات قليلة جدًا قام بدور الحاصد، وفرح وتهلل من أجل الثمر حيث آمن به كل أهل المدينة قائلين: "إن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم" [٤٢].
"لأنه في هذا يصدق القول إن واحدًا يزرع،وآخر يحصد"."أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه.آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم". فالأنبياء هم الذين زرعوا ولم يحصدوا، وأما الذين حصدوا فهم الرسل. لكن لم يُحرم الذين زرعوا فقط من الفرح بالمكافأة على أتعابهم، إنما تهللوا وابتهجوا بالرغم من أنهم لم يحصدوا."فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين،بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد أنه قال لي كل ما فعلت". "فلما جاء إليه السامريون،سألوه أن يمكث عندهم،فمكث هناك يومين". لم يرَ أهل سوخار معجزة ما، لكن ما اجتذبهم إلى السيد المسيح هو شخصه وحديثه الإلهي. تمتعوا بكلمة المسيح الواهبة الحياة فلنجتهد أيها الأحباء أن نتمثَّل بالمرأة السامرية لنكرز بالسيد المسيح لكل الناس بأعمالنا الحسنة، ونحيا بـ: "لكي يروا أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت 5: 16).
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
02 أبريل 2021
الجمعة الرابعة من الصوم الكبير: الإيمان بالإنجيل
ارتباط فصول القراءات:
الإيمان بالإنجيل
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "الإيمان بالإنجيل"، فالنبوة الأولى تتكلم عن وجوب الإيمان به كما أوصى الرب بنى إسرائيل بحفظ شريعته، والثانية عن بركات الله للمؤمنين به كما وعد بذلك المساكين من بنى إسرائيل، والثالثة عن إهلاكه لمحتقريه كما توعد بذلك الشرير في يوم الدين، والرابعة عن تمجد الله في المؤمنين به كما تمجد في دانيال حين وجد سالما في جب الأسود.
ويتكلم إنجيل باكر عن قوة المؤمنين بالإنجيل في طرد الشياطين من الناس كما انتهر المخلص الشيطان من الرجل في المجمع، وإنجيل القداس عن استجابة الله لصلواتهم كما استجاب المخلص لصراخ المرأة الكنعانية وشفى ابنتها.ويحثهم الرسول في البولس على ضرورة الاعتراف به، ويوصيهم يوحنا في الكاثوليكون بضرورة الثبات فيه، ويهيب بهم الإبركسيس أن ينادوا به بين الأمم.
النبوات (تث 10: 12 – 11: 28)
غنى عطايا الله لهم
لم يقف موسى النبي عند السلبيات مهاجما اتكال الشعب على برهم الذاتي، وإنما سألهم أن يسلكوا بروح إيجابية. كان يليق بهم أن يتأملوا في فيض نعمة الله وغنى عطاياه لهم. فإنه حتى بعد سقوطهم في العبادة الوثنية وتعلقهم بالعجل الذهبي، وتعبدهم له ؛ قبل الرب أن يغفر لهم، ويهبهم عطايا بلا حصر. يذكر منها أربع عطايا: إعادة كتابة لوحي الشريعة، إبقاء الكهنوت اللاوي بعدما ارتكب هرون أول رئيس كهنة خطأ فاحشا، إفراز سبط لاوي لخدمته، قبوله شفاعة موسى عنهم.
الإصحاح الحادي عشر من سفر تثنية
أيامنا كأيام السماء
تحدث في الإصحاح السابق عن بركات الرب وعطاياه، وأوضح ماذا يريد الله من شعبه، غير مشير إلى الذبائح الحيوانية والطقوس بل إلى ضرورة الالتصاق به والاستماع لكلماته، ثم ختمه بعطية الرب الفائقة أنه عوض السبعين نفسًا التي نزلت إلى مصر خرج الشعب كنجوم السماء في الكثرة.وفي هذا الأصحاح يوضح مكافأة الله للأمناء وهي أن تصير أيامهم كأنها أيام السماء على الأرض [21]. هذا ما يدفعنا أن نحب الله ونحفظ وصاياه، نثبتها على قلوبنا ونربطها كعلامة على أيدينا، فنتمتع ببركات الطاعة، أي التمتع بأيام السماء على الأرض، عوض السقوط تحت لعنة العصيان، أي الانحدار إلى أيام الجحيم.إن كان إسرائيل قد اتسم بالعصيان [1 – 7]، فإنه يليق أن يترجم الحب بلغة الطاعة لله الكلى الصلاح والعطاء [8 – 25] ليختبر الحياة السماوية. الآن وهو على أبواب الدخول إلى أرض الموعد يجدون الفرصة للتعبير عن أمانتهم لله وإخلاصهم للعهد معه [26 – 32].
البولس من العبرانيين (عب 13: 7 – 16)
محبة الرعاة:
"اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ، فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ" [٧].لنذكر الآباء الرعاة الذين يختفون وراء كلمة الله، فيشهدون لا بما لهم بل بالكلمة الإلهي المعلن في كرازتهم وفي سلوكهم. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [أي نوع من الإقتداء هو هذا؟ بالحق نتمثل بما هو صالح فيهم. إذ يقول: "انظروا حياتهم، فتمثلوا بإيمانهم". فإن الإيمان إنما يعلن في الحياة النقية.]
الهروب من الهرطقات
"يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ.لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَّوِعَةٍ وَغَرِيبَةٍ" [٨-٩].إذ أراد أن يوصيهم بعدم الانسياق وراء التعاليم الغريبة المتنوعة أكد لهم أن "يسوع المسيح هو أمس واليوم وإلى الأبد". إنه ابن الله الحيّ الذي لم ولن يتغير، نقبله كما قبله آباؤنا بالأمس، ونسلم الإيمان به للأجيال المقبلة بلا انحراف.إنه رئيس الكهنة السماوي الذي عمل في آبائنا، ولا يزال يعمل لحسابنا، ويبقى عاملًا إلى الأبد حتى يدخل بالكنيسة كلها إلى مجده الأبدي.إذ نتمسك بالسيد المسيح نرفض البدع والهرطقات، لا نطلب جديدًا، إذ مسيحنا لا يشيخ ولا يقدم، بركاته جديدة في حياتنا كل يوم.هنا أيضًا يلمح إلى الهرطقات التي ظهرت في عهده، إذ حملت فكرًا غنوسيًا يحرم الأطعمة لا لأجل النسك الروحي، وإنما كدنسٍ يلزم الامتناع عنها كما يدنسون الزواج. فيقول الرسول: "لأَنَّهُ حَسَنٌ أَنْ يُثَبَّتَ الْقَلْبُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِأَطْعِمَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الَّذِينَ تَعَاطَوْهَا" [٩].حتى في تلميحه يتحدث الرسول بلطف لينزع عنهم النظرة الغنوسية، مقدمًا إليهم نظرة مقدسة إلى كل شيء حتى الطعام.
التألم مع السيد المسيح
انتقل بهم الرسول من عدم الانسياق وراء البدع والهرطقات إلى ضرورة التأمل في آلام السيد المسيح المصلوب، وعوض الانشغال بالأطعمة الزمنية يليق بنا أن نرفع قلوبنا إلى الذبيح السماوي القدوس!
لقد أراد الرسول بالتأمل في الصليب أمرين: نزع المرارة التي لحقت بالعبرانيين الذين آمنوا بالمسيح لأنهم حُرموا من الطقوس اليهودية وطردوا من المحلة، وقبول الآلام مع المصلوب بفرح وسرور. يقول الرسول: "لَنَا مَذْبَحٌ لاَ سُلْطَانَ لِلَّذِينَ يَخْدِمُونَ الْمَسْكَنَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ. فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ" [١٠-١١].وكأنه يقول إن كان في الطقس اليهودي يحرم على الكهنة الأكل من الحيوانات التي يُدخل بدمها عن الخطية بيد رئيس الكهنة وتحرق أجسامها خارج المحلة، فبالأولى جدًا ألاَّ يقدر كهنة اليهود أن يتمتعوا بذبيحة السيد المسيح الذي صُلب خارج المحلة وارتفع إلى السماوات! حُرموا مما ننعم به، جسد الرب ودمه المبذولين من أجلنا، حرموا من سرّ الإفخارستيا الواهب التقديس! هنا يطمئنهم الرسول أنهم ليسوا هم محرومين بل أصحاب الطقس اليهودي الذين لا يزالوا في الظل والرمز محرومين من أكل الذبائح الحيوانية التي يقدسها رئيس الكهنة عن الخطية ومن الذبيحة الحقيقية التي وهبها السيد لمؤمنيه.هذا العمل الطقسي أيضًا حمل رمزًا أن السيد المسيح يُطرد خارج المحلة ويُصلب خارج أورشليم، حتى نلتزم بالخروج معه وإليه لنحمل عار صليبه، ونشترك معه في آلامه خلال طردنا من أورشليم. "لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضًا، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ. فَلْنَخْرُجْ إِذًا إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ" [١٢-١٣].فإن كان هؤلاء العبرانيون قد طردهم مجلس السنهدرين كمرتدين، لا يخجلوا، فقد سبق أن طُرد مسيحهم قبلهم. إنه لمجد عظيم أن نُطرد معه، ونبقى خارج المحلة عربون خروجنا من هذا العالم وتمتعنا بالمدينة العتيدة؛ "لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ" [١٤]. الطرد من أورشليم الأرضية عربون الدخول إلى أورشليم العليا.وعن ذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لقد صلب خارجًا كمدين، فلا نخجل نحن من طردنا خارجًا.] بخروجه كمذنبٍ صار لنا شرف الطرد خارجًا؛ وإن لم يخرجنا الناس خلال مضايقتهم لنا، نخرج نحن عن محبة الزمنيات، حاملين الصليب في داخلنا، مشتهين المجد السماوي.ويستكمل لسان العطر بولس كلامه فيذكر ضرورة فعل الخير قائلًا "وَلَكِنْ لاَ تَنْسُوا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هَذِهِ يُسَرُّ اللهُ" [١٦].كأن التسبيح ليس مجرد كلمات تنطق بها الشفاه وإنما هي طبيعة يعيشها المؤمن، يعلنها في قلبه بالمشاعر المملوءة حبًا لله، وبالشفاه خلال كلمات التسبيح، وبالعمل الصالح الروحي.
إنجيل القداس من متى 15: 21 – 31
ثم خرج يسوع من هناك وانصرف الى نواحي صور وصيدا واذا امراة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت اليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جدا فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا اليه قائلين اصرفها لانها تصيح وراءنا فاجاب وقال لم ارسل الا الى خراف بيت اسرائيل الضالة فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعني فأجاب وقال ليس حسنا ان يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب فقالت نعم يا سيد والكلاب أيضًا تاكل من الفتات الذي يسقط من مائدة اربابها حينئذ أجاب يسوع وقال لها يا إمراة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين فشفيت إبنتها من تلك الساعة ثم انتقل يسوع من هناك وجاء الى جانب بحر الجليل وصعد الى الجبل وجلس هناك فجاء اليه جموع كثيرة معهم عرج وعمي وخرس وشل واخرون كثيرون وطرحوهم عند قدمي يسوع فشفاهم حتى تعجب الجموع اذ راوا الخرس يتكلمون والشل يصحون والعرج يمشون والعمي يبصرون ومجدوا إله إسرائيل
لقاء مع الكنعانيّة
إن كان قد تحوّل رجال الكتاب المقدّس -الكتبة والفرّيسيّون- بعمى قلوبهم عن الكلمة الإلهي المتجسّد، فصاروا مقاومين له ومناضلين لمملكته الروحيّة، عِوض أن ينعموا بها ويكرزوا، لهذا يقول الإنجيلي: "ثم خرج يسوع من هناك، وانصرف إلى نواحي صور وصيدا". وكأنه يُعلن تركه للشعب اليهودي الرافض الإيمان ليبحث عن أولاده من بين الأمم. بخروجه ينزع الأغصان الأصيلة بسبب كبريائهم وعدم إيمانهم، لكي يطعم فيه الأغصان البرّيّة لتنعم بثمر روحه القدّوس.بينما انهمك اليهود -في أشخاص قادتهم- في حرفيّة الناموس وشكليّات التقليد بغير روح، صاروا يبحثون عن خطأ يرتكبه المسيّا المخلّص، وإذا بكنيسة الأمم ممثّلة في هذه الكنعانيّة تخرج إليه لتطلب منه احتياجها."وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه؛ قائلة: ارحمني يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدًا" [22].لقد حُرمت زمانها كلّه من سماع كلمة الله، ولم تتسلّم الناموس ولا ظهر في وسطها أنبياء بل عاشت حياتها في عبادة الأوثان، لكنها بالسماع عرفت القليل عن المسيّا "ابن داود"، فخرجت من تخومها، كما من كُفرها وعبادتها الوثنيّة، لتلتقي به. رفضه الذين لديهم قوائم الأنساب وبين أيديهم الرموز والنبوّات تحدِّد شخصه، وجاءت إليه غريبة الجنس، لا لتدخل في مناقشات غبيّة ومجادلات، إنّما لتغتصب حبّه الإلهي ومراحمه، لينقذ ابنتها المجنونة جدًا، لقد قبلته مخلّصًا لها، إذ شعرت بالحاجة إليه لأن نفسها كابنة لها مجنونة جدًا، فقدت تعقلها وحكمتها!
حقًا إذ انطلق السيّد إلى نواحي صور وصيدا، إذا بالمرأة تخرج من تخومها، وكأن السيّد وهو محب للبشر ينصرف إليهم، لكنّه لا يلتقي بهم داخل تخوم الأوثان بل خارجها. لقد حقّقت بهذا ما لم يعلنه لها داود النبي: "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنك، واِنسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيّدك فاُسجدي له" (مز 45: 10-11). لقد تمّمت الوصيّة وخرجت من شعبها، وتركت بيت أبيها تطلب الملك الحقيقي.يقول الإنجيلي: "لم يجبها بكلمة" [23].. لماذا؟
أولًا: عدم إجابته لها في البداية هو إعلان عن عمله الخلاصي، فقد جاء وسط بني إسرائيل وركّز غالبية أعماله وقوّاته على هذا الشعب، الذي تمتّع بالوعود والنبوّات والشرائع، حتى إذا ما رفضه يكون قد امتلأ كأسه، فيرفضه الرب، ليفتح الباب على مصراعيه للأمم. لقد ركّز على هذا الشعب في البداية ليكون الخميرة المقدّسة لتخمير العجين كلّه، خلال الكرازة والتبشير. ونحن لا ننكر أنه وإن رفضه اليهود لكن قلّة منهم كانوا التلاميذ والرسل الذين كرزوا في العالم.
ثانيًا: كان صمت السيّد إلى حين يثير التلاميذ لكي يتقدّموا من أجلها. لقد أراد أن يكشف لهم رسالتهم أن يهتمّوا بالعالم الوثني المتألّم والفاقد وعيه الروحي وخلاصه.
ثالثًا: كان السيّد صامتًا في الخارج، لكن يده غير المنظورة تسند قلبها وإيمانها، وعيناه تترقّبان بفرح تواضعها الفائق. لقد أراد بصمته لا أن يتجاهلها، وإنما بالأحرى يزكّيها أمام الجميع. ولذلك نجد القديس أغسطينوس يقول: [إذا كانت تشغف على الحصول على الرحمة صرخت وبجسارة قرعت، فظهر كأنه لم يسمعها. لم ترفضها الرحمة إلى النهاية، إنّما ما حدث كان لكي يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها. صرخت وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يدبّر الأمر بهدوء.]كما يقول: [كانت دائمة الصراخ، داومت على القرع، وكأنها سبق فسمعت قوله: "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم" (مت 7: 7).] "فتقدّم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا.فأجابهم وقال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" [23-24].والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف لم يُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، وهو القائل لنيقوديموس "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو3: 16)؟ بل وسبق فشهد الأنبياء في العهد القديم عن مجيء المسيّا للعالم كله، اليهود والأمم معًا؟
يجيب القديس أغسطينوس علي هذا التساؤل قائلًا: [إننا نفهم من هذا أنه لاق به أن يُعلن عن حضوره بالجسد وميلاده، وعمل معجزاته وقوّة قيامته وسط هذا الشعب، فإنه هكذا قد دبّر الأمر منذ البداية. ما سبق فبُشِّر به قد تحقّق بمجيء المسيح يسوع لأمّة اليهود كي يُقتل، لكنّه يربح منهم الذين سبق فعرفهم، فإنه لم يدن الشعب كلّه، إنّما فحصهم فوجد بينهم تبنًا كثيرًا، ووجد أيضًا حنطة مختفية. منهم ما هو يُحرق، ومنهم ما يملأ المخازن، فإنه من أين جاء الرسل؟!]كما يقول: [لأنه لم يذهب بنفسه للأمم، بل أرسل تلاميذه، فيتحقّق ما قاله النبي: "شعب لم أعرفه يتعبّد لي" (مز 18: 43). انظر كيف أوضحت النبوّة الأمر كيف تحقّق؟! تحدّثت بوضوح: "شعب لم أعرفه"؛ كيف؟ يكمّل قائلًا: "من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 44)، أي يؤمنون لا خلال النظر بل خلال السمع، لهذا نال الأمم مديحًا عظيمًا. فإن (اليهود) رأوه فقتلوه، الأمم سمعوا عنه وآمنوا به.]لقد أكمل السيّد حديثه، قائلًا: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب؟" [26]. لماذا نطق هكذا؟ هل كان يحتقر الأمم فيدعوهم كلابًا؟! بلا شك لا يحتقر السيّد خليقته، ولكنه ربّما قال هذا مردِّدًا ما كان يردِّده اليهود لكي يمجِّد من ظنَّهم اليهود كلابًا، معلنًا كيف صاروا أعظم إيمانًا من البنين أنفسهم. هذا ومن ناحية أخرى، فإن الأمم بإنكارهم الإيمان بالله، وصنعهم الشرور الكثيرة حتى أجاز الكثيرون أطفالهم في النار، وقدّموا بنيهم ذبائح للأصنام، فعلوا ما لا تفعله الكائنات غير العاقلة. إنه لا يقصد تمييز اليهود عن الأمم، إنّما يكشف عن فعل الخطيئة فينا، كما كشف عن أعماق قلب المرأة الكنعانيّة التي سبقت بتواضعها العجيب أبناء الملكوت. فقد قالت: "نعم يا سيّد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها" [27].
وهنا يقول القديس أغسطينوس: [أنها لم تثُرْ ولا غضبت، لأجل دعوتها ككلبٍ عندما طلبت البركة وسألت الرحمة، بل قالت: "نعم يا سيّد". لقد دعوتني كلبًا، وبالحق أنا هكذا، فإنّني أعرف لقبي! إنك تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا.. فإن الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الساقط من مائدة أربابها. ما أرغبه هو البركة بقدر معتدل، فإنّني لا أزحم المائدة، إنّما أبحث فقط عن الفتات. انظروا أيها الإخوة عظمة التواضع الذي أمامنا!.. إذ عرفت نفسها، قال الرب في الحال: "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن كما تريدين" [28]. لقد قلتِ عن نفسكِ إنكِ "كلبًا"، لكنّني أعرفك إنكِ "إنسان".. لقد سألتي وطلبتي وقرعتي، فيُعطَى لك وتجدين ويُفتح لك. انظروا أيها الإخوة كيف صارت هذه المرأة الكنعانيّة مثالًا أو رمزًا للكنيسة؟! لقد قدّمت أمامنا عطيّة التواضع بدرجة فائقة!] ما حُرم منه اليهود أصحاب الوعود بسبب كبريائهم نالته الأمم المحرومة من المعرفة خلال التواضع. الذين ظنّوا في أنفسهم أبناء، حُرموا أنفسهم من مائدة الملكوت خلال جحودهم، والذين كانوا في شرّهم ودنسهم كالكلاب، صاروا بالحق أبناء يدخلون وليمة أبيهم السماوي.لقد حقّقت هذه المرأة الخارجة من تخوم صور ما سبق فأعلنه النبي عنها: "بنت صور أغنى الشعوب تترضَّى وجهك بهديّة" (مز 45: 12). أيّة هدية تقدّمها بيت صور هذه إلا إعلان إيمانها الفائق خلال صمت السيّد، وتظاهره بعدم العطاء في البداية. لقد وهبها الفرصة لتقديم أعظم هديّة يشتهيها الرب، إذ يقول "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لكِ كما تريدين" [28]. لقد فتحت بهذه الهديّة كنوز السيّد، لتنال كل ما تريد، بينما أغلق قادة اليهود أبواب مراحم الله أمام أنفسهم. قبل هديّتها القلبيّة الفائقة، وردّ لها الهديّة بما هو أعظم، إذ مدَحها أمام الجميع، فاتحًا أبواب محبّته أمامها، مقيمًا إيّاها رمزًا لكنيسة الأمم التي اغتصبت الرب نفسه بالإيمان.
انجذاب البسطاء إليه
مرة أخرى يصعد السيّد إلى الجبل ليجلس هناك، فتجتمع الجماهير البسيطة، تحمل إليه العرج والعمي والخرس إلخ.، يطرحونهم عند قدميه فيشفيهم. إن كان القادة بريائهم الذي أعمى قلوبهم فلم يعاينوا شمس البرّ، فإن الغرباء (الأمم) في شخص المرأة الكنعانيّة التقوا به خلال الشعور بالاحتياج إليه، وهكذا أيضًا بسطاء اليهود أدركوا في بساطة قلوبهم في يسوع المسيح ملكهم المخلّص، الأمر الذي حُرم منه القادة.فليعطنا الرب إيمان المرأة الكنعانية لكي نسمع من فمه الطاهر عظيم هو إيمانك ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
01 أبريل 2021
ما بين الروح والجسد
الكثير منَّا يكون اهتمامه الأول وشغله الشاغل هو (الجسد)، وكل متطلباته واحتياجاته.. يغذي الجسد ويربيه، ويهتم به، ويهتم بالحالة الصحية، والمظهر العام... وغيره.وفي وسط المشغولية ننسي الروح تبدأ المعادلة العكسية في الوضوح الجسد يقوى ويقوى.. والروح تضعف وتضعف.الجسد يزدهر والروح تذبل.الجسد يكون صحيحًا.. والروح تصبح مريضة ويصبح كل اهتمامنا بالجسد وتُهمَل الروح نهائيًا.في حين أننا نجد مُعلِّمنا بولس الرسول يتكلم كلامًا صريحًا عن الروح والجسد فيقول"فإنَّكُمْ إنَّما دُعيتُمْ للحُريَّةِ أيُّها الإخوَةُ. غَيرَ أنَّهُ لا تُصَيروا الحُريَّةَ فُرصَةً للجَسَدِ، بل بالمَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكُمْ بَعضًا" (غل5: 13). ثم يقول أيضًا: "وإنَّما أقولُ: اسلُكوا بالرّوحِ فلا تُكَملوا شَهوةَ الجَسَدِ. لأنَّ الجَسَدَ يَشتَهي ضِدَّ الرّوحِ والرّوحُ ضِدَّ الجَسَدِ، وهذانِ يُقاوِمُ أحَدُهُما الآخَرَ، حتَّى تفعَلونَ ما لا تُريدونَ" (غل5: 16-17).دائمًا الجسد يشتهي ضد الروح.. خذوا مثلًا:
الصوم
حينما يأتي علينا وقت الصوم.. نجد الجسد يشتكي باستمرار.. وإذا كنَّا لم نستطيع أن نلّجمه من قبل.. يشتكي ويعترض على الصوم.. ويبدأ الجسد بأعراض الضعف والهزل وعدم التركيز!! وذلك لأنه لا يريد أن يصوم.. لا يريد أي ممارسات روحية.. يهمه الأكل الكثير.. فهو في صراع مع الروح.. يريد أن يقوى على الروح لأنه إذا قويت الروح فسوف تقوده وهو لا يريد ذلك نجد الإنسان يعترض على الصوم ويقول إن أصوامنا كثيرة جدًا.. هذه الأصوام سوف تضعف جسدنا.. سوف لا يقدر على تأدية رسالته.. أنا محتاج أن يكون جسدي قوي لكي أستطيع أن أحيا وأتحرك وأمارس كل متطلبات الحياة.هذه هي النظرة البشرية العادية التي تشفق على الجسد!!
ولكن الإنسان الذي يسلك حسب الروح لا يهمه الجسد.. هذا الجسد هو صورة لكي نعيش بها فترة على الأرض، وهذه الفترة يكون هدفنا هو نمو الروح، لكي نصل للعِشرة مع الله، ونعمل أعمال تزكيتنا للملكوت.. وليس أن يصبح بالنسبة لنا معطل أساسي للروح وللحياة الروحية كلها.إذا اهتممنا بالجسد بطريقة زائدة عن المطلوب.. فسوف تضعف الروح، ونصبح أناسًا جسدانيين لا روح لهم.. فمُعلِّمنا بولس الرسول تيقظ لهذه النقطة وقال"أقمَعُ جَسَدي وأستَعبِدُهُ، حتَّى بَعدَ ما كرَزتُ للآخَرينَ لا أصيرُ أنا نَفسي مَرفوضًا" (1كو9: 27).وعاد وقال لنا أيضًا في رسالة غلاطية "وأعمالُ الجَسَدِ ظاهِرَةٌ، التي هي: زِنىً، عَهارَةٌ، نَجاسَةٌ، دَعارَةٌ، عِبادَةُ الأوثانِ، سِحرٌ، عَداوَةٌ، خِصامٌ، غَيرَةٌ، سخَطٌ، تحَزُّبٌ، شِقاقٌ، بدعَةٌ، حَسَدٌ، قَتلٌ، سُكرٌ، بَطَرٌ، وأمثالُ هذِهِ التي أسبِقُ فأقولُ لكُمْ عنها كما سبَقتُ فقُلتُ أيضًا: إنَّ الذينَ يَفعَلونَ مِثلَ هذِهِ لا يَرِثونَ ملكوتَ اللهِ" (غل5: 19-21).نلاحظ أن مُعلِّمنا بولس الرسول ذكر لنا ستة عشر عمل (خطية) من أعمال الجسد وقال: "وأمثال هذه".. أي أن أعمال مسيئة للجسد أخرى يعملها الجسد.من منَّا مستيقظ لهذه الخطايا؟
وهل كل منَّا يحرص أن تكون روحه هي التي تقود جسده أم العكس؟
إذا كان العكس.. فسوف نجني ثمرة مُرّة.. وهي أعمال الجسد هذه التي سوف تبعدنا عن الله وعن العِشرة معه لأنه (لا يجتمع النور مع الظلمة) إن تقييمنا للروح هو الذي يُحدد طريقنا في الحياة.. "لأنَّ الجَسَدَ يَشتَهي ضِدَّ الرّوحِ والرّوحُ ضِدَّ الجَسَدِ، وهذانِ يُقاوِمُ أحَدُهُما الآخَرَ" (غل5: 17)
من منَّا يريد أن يحيا في سلاسل الجسد وظلمة الحياة،ولا يريد أن يسلك في النور؟
نحن كلنا نتفق في مبدأ أن: "إذا قوي الجسد ضعفت الروح".. فماذا يكون اهتمامنا بالجسد؟ هو الاهتمام الأول (كيف يأكل.. كيف يشرب.. كيف يعالج.. كيف يلبس....)، نوفي له كل رغباته، وكأنه شخص آخر يقف أمامنا،ودائمًا يطالب بجميع حقوقه ونحن لا نملك إلاَّ أن نقول في كل طلب: "حاضر سوف أوفيك إياه.. إنني لا أستطيع أن أمنع عنك أي طلب تطلبه" إذا وصلنا إلى هذه المرحلة فسوف نحيا كجسديين وليس كروحين تعالوا بنا نسمع مُعلِّمنا بولس الرسول وهو يقول لنا "اسلُكوا بالرّوحِ فلا تُكَمّلوا شَهوةَ الجَسَدِ" (غل5: 16) "ولكن الذينَ هُم للمَسيحِ قد صَلَبوا الجَسَدَ مع الأهواءِ والشَّهَواتِ" (غل5: 24) "إنْ كُنّا نَعيشُ بالرّوحِ، فلنَسلُكْ أيضًا بحَسَبِ الرّوحِ" (غل5: 25) "لأنَّ مَنْ يَزرَعُ لجَسَدِهِ فمِنَ الجَسَدِ يَحصُدُ فسادًا، ومَنْ يَزرَعُ للرّوحِ فمِنَ الرّوحِ يَحصُدُ حياةً أبديَّةً" (غل 6: 8) هيا بنا نراجع أنفسنا جميعًا مَنْ الذي يغلب علينا: الروح أم الجسد؟!
كيف نحيا حياتنا الحالية على الأرض؟
هل نعيش حسب الروح أم حسب الجسد؟
ليتنا جميعًا نسلك بالروح فلا نكمل شهوة الجسد.. نعيش في حياة روحية.. نتمتع بالسيد المسيح.. نمارس الممارسات الروحية عن حب وليس عن تغصب.. يصبح فكرنا روحي وليس جسدي.. ولا يتحول خوفنا على جسدنا أن يأتي وقت يقف الجسد ومتطلباته ضد الروح ويعطلها.. إلى أن نصل إلى أن نهمل الروح ويقوى الجسد بكل ممارسة الخاطئة.ربنا يعطينا جميعًا أن نحيا حسب الروح وليس حسب الجسد..ولإلهنا كل المجد والإكرام في كنيسته المقدسة.من الآن وإلى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
28 مارس 2021
أحد الابن الشاطر: الأحد الثالث من الصوم الكبير: قبول التوبة
ارتباط قراءات الفصول:
قبول التوبة
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "قبول التوبة"، ففي إنجيل العشية يحذر المخلص المؤمنين مما يخرج من الفم فينجس الإنسان، وفي إنجيل باكر يبين لهم أن الذين يختارون منهم قليلون، ويصرح في إنجيل القداس أنه يقبل توبة التائبين، ويقرر في إنجيل المساء أنه يصعد أنفسهم من الجحيم.ويوصيهم الرسول في البولس أن يكونوا متسعين لقبول التائبين والصفح عنهم، وينبههم يعقوب في الكاثوليكون إلى ضرورة ضبط لسانهم حين يرشدون هؤلاء التائبين، ويحضهم الإبركسيس على ألا يثيروا بتعليمهم الشغب كما دافع بولس بذلك عن نفسه أمام الوالي.
البولس من (2 كو 6: 2 – 13)
لأنه يقول في وقت مقبول سمعتك وفي يوم خلاص أعنتك هوذا الآن وقت مقبول هوذا الآن يوم خلاص ولسنا نجعل عثرة في شيء لئلا تلام الخدمة بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله في صبر كثير في شدائد في ضرورات في ضيقات في ضربات في سجون في اضطرابات في أتعاب في أسهار في أصوام
في طهارة في علم في أناة في لطف في الروح القدس في محبة بلا رياء في كلام الحق في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار بمجد وهوان بصيت رديء وصيت حسن كمضلين ونحن صادقون كمجهولين ونحن معروفون كمائتين وها نحن نحيا كمؤدبين ونحن غير مقتولين كحزانى ونحن دائمًا فرحون كفقراء ونحن نغني كثيرين كان لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون قلبنا متسع لستم متضيقين فينا بل متضيقين في أحشائكم فجزاء لذلك أقول كما لأولادي كونوا انتم أيضا متسعين
"لأنه يقول في وقت مقبول سمعتك، وفي يوم خلاص أعنتك. هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص"[2]يقول اللَّه في إشعياء النبي: "في وقت القبول استحيتك، وفي يوم الخلاص أعدتك، فأحفظك، وأجعلك عهدًا للشعب لإقامة الأرض، لتمليك أملاك البراري" (إش ٨:٤٩). وقد اقتبسها الرسول عن الترجمة السبعينية.
ما هو الوقت المقبول؟ مجيء المسيا هو وقت مسرة اللَّه ومراحمه الذي يتوقعه كل المؤمنين. ويوم الخلاص هو اليوم الذي فيه يقبل الإنسان خلاص اللَّه بالصليب ويتجاوب معه.كأن الرسول يقول ما قد تنبأ عنه إشعياء النبي واشتهاه مؤمنو العهد القديم قد تحقق الآن. لقد صالحنا مع الآب، وسلم التلاميذ والرسل كلمة المصالحة خلال ذبيحة المسيح، إذ به تمت المغفرة عن الخطايا ونلنا فيضًا من النعمة الإلهية. بهذا صار الرسل يعملون معًا مع اللَّه، ويقبلون نعمة اللَّه ليس باطلًا.
"الآن" هو ملكنا، هو وقت مقبول ويوم خلاص، أما "غدًا" فليس في أيدينا ولسنا ندرك ما سنكون عليه إن أجّلنا قبول عمل اللَّه الخلاصي.
اليوم وقت لقبول الروح القدس الذي يكشف جراحاتنا الخفية، وينير أعيننا لإدراك خطورة مرضنا الروحي، لكي يحملنا إلى الطبيب السماوي، فيهبنا غنى نعمته المجّانية الواهبة برّه الإلهي العجيب عِوض ضعفنا. ويقدم لنا خبرة عربون عدم الفساد، ونتمتع بقيامة النفس لكي يشاركها الجسد فيما بعد قيامتها ومجدها الأبدي. هذا هو يوم الخلاص، الوقت المقبول قبل أن تعبر من هذه الحياة فنجد الباب مغلقًا.
+ يقول الرسول: "الآن وقت مقبول، الآن يوم الخلاص".عن ذلك اليوم يقول القديس باسيليوس الكبير:[هذا هو وقت التوبة، أما الحياة المقبلة فهي للمكافأة. الآن هو وقت للاحتمال، وعندئذ سيكون يوم التعزية.الآن اللَّه هو المعين للرجوع عن الطريق الشرير، عندئذ سيسأل بمهابة دون أن يخطئ عن الأفكار والكلمات والأعمال التي للبشرية.الآن نتمتع بطول أناة، عندئذ سنعرف قضاءه العادل عندما نقوم، البعض في عقوبة لا تنتهي، والآخرون إلى حياة أبدية، فيتقبل كل واحدٍ جزاءً حسب أعماله.إذ يلتقي الإنسان باللَّه مخلصه يتأسف على الزمن الذي ضاع منه.]
بلا عثرة
"ولسنا نجعل عثرة في شيء لئلا تُلام الخدمة" [3]
فإيمان الرسول بولس وغيرته المتقدة وعمله الدائم من أجل خلاص نفسه والآخرين لم تدع مجالًا قط للعثرة. فقد كان الرسول بولس حريصًا كل الحرص ألا يعثر اليهود أو الأمم، فقد مات المسيح من أجل الكل. حينما يتحدث عن الناموس يحرص على تأكيد إنه صالح، وأنه لا يأخذ موقف المقاومة للناموس وإنما للحرف القاتل. وفي نفس الوقت لكي يربح الأمم يؤكد إنه لا حاجة للفرائض والتطهيرات الحرفية والرمزية.
ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم:-
+ لقد تركنا (الرب) هنا لنكون أنوارًا، لنعلم الآخرين، لنكون خميرة، نسلك كملائكة بين البشر، كرجالٍ مع أولادهم، كروحيين مع أناس طبيعيين فينتفعون منا، ونكون بذار تخرج ثمارًا.لا حاجة للكلمات مادامت حياتنا تضئ! لا حاجة للمعلمين ما دمنا نظهر أعمالًا! ما كان يوجد وثني لو كنا مسيحيين بحق!
لو أننا نحفظ وصايا المسيح، ونحتمل الألم، ونسمح للغير أن يستفيدوا منا، إذ نُشتم فنُبَارك، نعامل معاملة سيئة فنصنع خيرًا، لما بقي أحد بعد متوحشًا ولا يرجع إلى الصلاح.
+ ما أسوأ أن نكون فلاسفة في الكلمات لا في الأعمال!
+ لماذا هذا الكبرياء؟ لأنك تعلم بالكلام! ما أسهل ترديد الكلمات! علمني بحياتك هذا أفضل.
+ نحن محتاجون إلى سلوك حسن لا إلى لغة منمقة إلى الفضيلة لا إلى الخطابة الفذة، إلى الأعمال لا إلى الكلام!
جهاده
"بل في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام اللَّه، في صبر كثير، في شدائد، في ضرورات، في ضيقات" [4]
يكمل الرسول حديثه مظهرًا أنه هو وشركاءه في الخدمة يبذلون كل الجهد من أجل تحقيق خدمة المصالحة، مهما كلفتهم من ثمنٍ أو جهدٍ. ليس فقط يتحاشون أية عثرة، وإنما يعملون كي يظهروا خدامًا حقيقيين للَّه.يمدح القديس يوحنا الذهبي الفم الرسول بولس فيقول:[آه لو أعطيت أن ألقى بنفسي على جسد بولس، والتصق بقبره وأتطلع إلى تراب ذلك الجسد الذي أكمل نقائص (شدائد) المسيح، وحمل السمات وبذر الإنجيل في كل موضع؟! نعم! تراب ذلك الجسد الذي تكلم المسيح خلاله!
يا لسروري أن أنظر تراب العينين اللتين عميتا بالمجد ثم استردتا بصيرتهما مرة أخري من أجل خلاص العالم! هاتان العينان اللتان وهما بعد في الجسد استحقتا معاينة المسيح! رأتا الأمور الأرضية وفي نفسي لم تنظراها رأتا الأمور التي لا ترى..أود لو أتطلع إلى تراب قدميه اللتين جابتا المسكونة بلا كلل.]ويقول مار اسحق السرياني:
+ دعى الرسول الطوباوي ذلك عطية علانية متى كان الإنسان مستعدًا في الإيمان أن يتألم من أجل رجائه في اللَّه. إنه يقول: "لقد وُهب لكم من اللَّه لا أن تؤمنوا بالمسيح فحسب، وإنما أن تتألموا أيضًا من أجله" (في 29:1).كما كتب القديس بطرس في رسالته: "إن كنتم تتألمون من أجل البر فطوباكم فإنكم تصيرون شركاء في آلام المسيح" (1 بط 14:3؛ 13:4). لذلك عندما تكون في طريق سهل ومتعة لا تفرح، وعندما تحل ضيقة عليك لا تكن متجهّم الوجه، ولا تحسب هذا كأمرٍ غريب عن طريق اللَّه. لأن طريق اللَّه قد طُرق بواسطة كل الأعمار وخلال كل الأجيال، خلال الصليب والموت. من أين أتيت بفكرة أن الأحزان التي بالطريق لا تخص الطريق؟ ألا ترغب في أن تتبع خطوات القديسين؟ أتودّ أن تسافر بطريق خاص من عندك ليس فيه ألم؟
الطريق إلى اللَّه هو صليب يومي. لا يصعد أحد إلى السماء بالطريق السهل. نحن نعلم إلى أين يقود الطريق السهل.ويستكمل القديس بولس الرسول كلامه فيقول:"كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا، كمؤدَّبين ونحن غير مقتولين" [9]
كان الذين يَبغضون الرسول بولس ومن معه يحسبون أن ما يحل بهم من ضيقات يومية هو ثمرة شرورهم، لكن هؤلاء الخدام إذ يكرزون بالكلمة يختبرون كل يوم قوة قيامة المسيح المبهجة في الضيقات."كمجهولين ونحن معروفون": وهنا كأن بولس الرسول يريد أن يقول لنا: قد يستخف الناس بالكارز ويحسبونه مجهولًا لا كيان له. بلا مركز مرموق في المجتمع، بينما السماء عينها تمجده. كان الرسول بولس ورفقاؤه غير معروفين للأشرار بينما كانوا معروفين تمامًا للمؤمنين المقدسين في الرب.
كأننا نكرز خفية في خوف وخجل بينما نحن نشهد لخلاصنا علانية أينما وُجدنا، لا نفعل شيئًا في الخفاء.
"كمائتين وها نحن نحيا" وذلك خلال المخاطر المستمرة والاضطهادات والأتعاب حيث نعاني من ميتات كثيرة، لكننا في هذا كله نختبر الحياة الجديدة المقامة كعطية توهب لنا خلال الشركة مع المسيح غالب الموت.ويستكمل الرسول بولس حديثه فيقول:"كحزانى، ونحن دائمًا فرحون، كفقراء، ونحن نُغني كثيرين، كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء" [10]
+ "كحزانى ونحن دائما فرحون": في كل الظروف وبالرغم من كل الاضطهادات والشدائد نبدو كحزانى لكن الفرح لا يفارقنا، لأننا نتمتع بتهليل الغلبة والنصرة: فقد غلبنا ونغلب ونبقى بالنعمة الإلهية غالبون. تعزيات الروح القدس وسط الضيق لا تفارقنا.
+ "كفقراء ونحن نغني كثيرين": يُحتقر الكارز كفقيرٍ لا يقتني شيئًا من هذا العالم بينما يقدم للقلوب الفارغة من فيض غنى مخازن المسيح. ليس له فضة ولا ذهب، ولا بيوت وأراضٍ لكنه يقدم ملك السماء والأرض الذي في أعماقه ليتمتع الكثيرون به ويشبعون.
+ "كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء": في المظهر لا نملك شيئًا، في الأعماق نتمتع بكنوز النعمة الفائقة، وشركة المجد الداخلي، وعربون ميراث الملكوت الأبدي!
الإنجيل من لو 15: 11 – 32
وقال إنسان كان له ابنان فقال أصغرهما لأبيه يا أبي أعطني القسم الذي يصيبني من المال فقسم لهما معيشته وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة وهناك بذر ماله بعيش مسرف فلما انفق كل شيء حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازير وكان يشتهي أن يملا بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله فلم يعطه احد فرجع إلى نفسه وقال كم من أجير لأبي يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعا أقوم واذهب إلى أبي وأقول له يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقا بعد أن ادعى لك ابنا اجعلني كأحد أجراك فقام وجاء إلى أبيه وإذ كان لم يزل بعيدا رآه أبوه فتحنن وركض ووقع على عنقه وقبله فقال له الابن يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقا بعد أن ادعى لك ابنا فقال الأب لعبيده اخرجوا الحلة الأولى والبسوه واجعلوا خاتما في يده وحذاء في رجليه وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح لان ابني هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد فابتدأوا يفرحون وكان ابنه الأكبر في الحقل فلما جاء وقرب من البيت سمع صوت آلات طرب ورقصا فدعا واحدا من الغلمان وسأله ما عسى أن يكون هذا فقال له أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن لأنه قبله سالما فغضب ولم يرد أن يدخل فخرج أبوه يطلب إليه فأجاب وقال لأبيه ها أنا أخدمك سنين هذا عددها وقط لم أتجاوز وصيتك وجديا لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن فقال له يا بني أنت معي في كل حين وكل ما لي فهو لك ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر لان أخاك هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد مثل الابن الضال (مثل الابن الشاطر) (لو 15: 11 – 32).يدعى " مثل الابن الضال " أو " مثل الابن الشاطر " أو " مثل الأب المحب "لأنه بقدر ما يكشف عن جفاف قلب الابن الهارب من وجه أبيه المحب يشتاق الأب إلى عودته ليستقبله بالقبلات دون عتاب أو جرح لمشاعره، بينما وقف أخوه خارجًا في تذمر من أجل محبة الأب له." إنسان كان له ابنان، فقال أصغرهما لأبيه يا أبى أعطني القسم الذي يصيبني من المال، فقسم لهما معيشته، وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شيء وسافر إلى كورة بعيدة، وهناك بذر ماله بعيش مسرف " (لو 15: 11 – 13).
المثل الذي بين أيدينا يقدم صورة مرة لعلاقة الإنسان بأخيه فيظهر الأخ الأكبر رغم ما يبدو عليه من تعقل وأمانة في العمل لكنه لا يستطيع بسهولة أن يتقبل أخاه الراجع إلى بيت الآب، بل يقف موقف الناقد لأبيه على اتساع قلبه للابن الراجع إليه.إن ظهور ابنين في المثل يكشف عن أمور كثيرة منها: لا يمكن الحكم على أحد ما دام لا يزال في طريق الجهاد، فقد ظهر الأصغر في بدء حياته إنسانًا محبا للملذات،.. لكنه يرجع بالتوبة إلى الأحضان الأبوية ليظهر لابسًا الثوب الجديد وخاتم البنوة وحذاء في قدميه ومتمتعًا بالوليمة في بيت أبيه، أما الآخر فقد بدأ حياته إنسانًا لطيفًا في معاملاته،.. لكنه يختم حياته بالوقوف خارجًا ينتقد أباه على حبه ويغلق قلبه نحو أخيه فيفقد سلامه الداخلى وفرحه ليعيش بقلب مناقض لقلب أبيه.كان الابن الأصغر متجاسرًا إذ طلب نصيبه من الميراث ووالده لا يزال حيا، أراد أن يتمتع بنصيبه بخروجه خارج بيت أبيه، حاسبًا الارتباط ببيت أبيه هو مذلة وعبودية وقيد يجب التحرر منه ليعيش حسب إرادته الذاتية وهواه، فإذا به ينفق ماله في عيش مسرف.إن الشخص المسيحي الساقط في البر الذاتي هو أبشع من الأممي (غير المؤمنين) ومن اليهودي الذي بسبب كبرياءه لم يتمتع بالخلاص الأبدي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. لأن المسيحي يتمتع ببركات جديدة وعطايا إلهية فائقة يستغلها للشر، على أي الأحوال يفتح ربنا يسوع خلال هذا المثل أبواب الرجاء للجميع، لا يزال الله ينتظرنا فاتحًا ذراعيه ليتقبلنا كأولاد له نعود إلى بيت أبينا.نعود إلى الابن الضال لنراه هاربًا من بيت أبيه، حاسبًا في هذا تمتعًا بالحرية، إن من يبتعد عن الكنيسة يبدد ميراثه، وما هذه الكورة البعيدة التي سافر إليها سوى " الأنا "، فينطلق الإنسان في كمال حريته بغباوة من الحياة السماوية، التي هي " الحب " إلى الأنانية حيث يتقوقع الإنسان حول ذاته، فيصير كمن هو في كورة بعيدة.
"فلما أنفق كل شيء حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج" ع 14.إذ تهرب النفس من الله مصدر الشبع وكنز الحكمة تجد نفسها قد دخلت إلى حالة فراغ داخلي فتكون كمن في " مجاعة ".خلقت النفس البشرية على صورة الله ومثاله، لن تشبع إلا به بكونه الأصل، العالم كله بإغراءاته والجسد بشهواته والحياة الزمنية بكل أحداثها لن تملأ فراغ النفس التي تتطلب ذاك اللانهائي يملأها.
" فمضى وألتصق بواحد من أهل تلك الكورة فأرسله إلى حقوله، ليرعى خنازير، وكان يشتهى أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلم يعطه أحد " ع 15، 16.يبدو أن هذا الرجل يشير إلى رئيس هذا العالم، وقد ذهب هذا الابن إلى حقوله (حقول الخنازير)، وفيها يرعى الخنازير التي طلبت الشياطين أن تدخل فيها فاندفعت إلى جرف هذا العالم (مت 8: 32) هذه الخنازير تعيش على النفايات والنتانة.الخاطئ لا هم له سوى أن يملأ بطنه، الطعام المناسب لهم هو الخرنوب الفارغ في الداخل ولين في الخارج، " فلم يعطه أحد " إذ لا يمكن لأحد غير الله أن يهب الحياة.
"فرجع إلى نفسه، وقال: كم من أجير لأبى يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعا ؟! أقوم وأذهب إلى أبى.. " ع 17، 18.هذا هو طريق التوبة: " رجع إلى نفسه "، ماذا يعنى هذا؟
ليتنا نميز بين" الذات "وحب الإنسان لنفسه بمعنى حبه لخلاصها، هذا ما أكده السيد المسيح حين أعلن من يهلك نفسه يخلصها.فرجوع الإنسان إلى نفسه يحتاج إلى عمل إلهي ينير بصيرة الإنسان الداخلية ليكتشف فقره التام بل وموته وفي نفس الوقت يدرك عمل الله الخلاصي ومحبته له فيمتلئ رجاء."وأقول له: يا أبي أخطأت إلى السماء وقدامك، ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك أبنا، اجعلني كأحد أجراءك.. " ع 18، 19
ونلاحظ هنا أن الروح القدس الذي يعمل فينا للتوبة يفتح قلبنا بالرجاء في الله واهب القيامة من الأموات، لكن بروح الاتضاع يهبنا أن نعترف بخطايانا، فالابن الضال بثقة يقول " يا أبى "، وبروح الاتضاع يعلن أنه مخطئ وغير مستحق للبنوة طالبًا قبوله كأجير.
"أخطأت إلى السماء وقدامك".. هذا هو الاعتراف الأول.. قدام سيد الرحمة، أمام ديان الخطية.عندما يلوم الإنسان نفسه يخفف ثقل ضلاله، ويقطع عنه حدة الاتهام.. إننا لا نخسر شيئًا عندما نعترف بما معروف لديه.
"فقام وجاء إلى أبيه" ع 20
إذ رجع الابن الشارد بذهنه إلى بيت أبيه أدرك أن المسافة مهما طالت بينه وبين أبيه لا تمثل عائقا. جذبته أبوة أبيه وسحبت ذهنه ليجد طريق العودة ليس طويلًا ولا مستحيلًا، فقام منطلقًا أيضًا بالعمل، سائرًا نحو أبيه، وكأنه يسمع صوت النبي زكريا هكذا قال رب الجنود: ارجعوا إلى يقول رب الجنود فأرجع إليكم يقول رب الجنود " (زك 1: 3)." وإذ كان لم يزل بعيدًا رآه أبوه فتحنن، وركض، ووقع على عنقه وقبله، فقال له الابن: يا أبى أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك ابنًا، فقال أبوه: أخرجوا الحلة الأولى.. " ع 20 – 22.يكشف هذا المثل عن أبوة الله الحانية، فإنه وإن كان لا يلزم الإنسان بالرجوع إليه، لكنه إذ يراه من بعيد منطلقًا نحوه يركض هو مسرعًا لا ليعاتبه أو يوبخه وإنما ليقع على عنقه ويقبله.. إنه ينصت لاعتراف ابنه المخطئ لكنه لا يسمح له بالمذلة، فلا يتركه يقول: " اجعلني كأحد أجراءك "، إنما يطلب له ثوب الابن وخاتمه، مكرمًا إياه في بيته!
" فقال الأب لعبيده: أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه، واجعلوا خاتمًا في يده، وحذاء في رجليه، وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح، لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش، وكان ضالًا فوجد، فابتدأوا يفرحون " ع 22 – 24.أن الأب لا يوجه حديثه لابنه الراجع بل لعبيده، أو وكلائه، فإن كان التائب هو الذي جاء متوسلًا لكنه ينال الإجابة لا خلال كلمات موجهة إليه، وإنما خلال أعمال الرحمة التي تقدم له.إن هؤلاء العبيد هم الأرواح الخادمة، والملائكة، فالحلة الأولى هي الكرامة التي فقدها آدم، وهي ثوب الحكمة التي بها غطى الرسل عرى جسدهم، وبها يكتسي كل إنسان.الخاتم الذي في اليد هو عربون الروح القدس،وهو صك الإيمان الصادق وختم الحق.الحذاء في القدمين هما الاستعداد للبشارة بالإنجيل كي لا تمس الأرضيات هذه الأمور الثلاثة (الثوب، الخاتم، الحذاء) قدمها السيد المسيح للبشرية الخاطئة، ليقيم منها أبناء الله الحي، الذين يرتدون ثوب العرس اللائق بالوليمة السماوية، ويحملون خاتم البنوة، ويسترون أرجلهم ويحفظونها من أتربة هذا العالم ودنسه أثناء عبورهم خلال كلمة الكرازة.ما هو العجل المثمن الذي قدم في الوليمة ليأكل الكل ويشبعوا ويفرحوا سوى الرب يسوع، الذي دعى هكذا مقدمًا جسده الذي بلا عيب ذبيحة، وسمى "المُسَمَّن" بسبب غناه وتكلفته إذ قادر على خلاص العالم كله.إن كان الابن قد أسلم جسده ذبيحة من أجل خلاص البشرية، والآب قد فرح وتهلل من أجل هذا العمل المفرح وطالب السمائيين أن يتقدموا لينظروا ويفرحوا بالإنسان القائم إلى الحياة السماوية بعد موته إلا أن الابن الأكبر الذي يشير إلى المتكبرين من اليهود قد وقف خارجًا لا يريد أن يدخل ويفرح مع الكل، إذ يقول السيد المسيح."وكان ابنه الأكبر في الحقل، فلما جاء وقرب من البيت سمع صوت آلات طرب ورقصا، فدعا واحدا من الغلمان وسأله ما عسى أن يكون هذا فقال له: أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن لأنه قبله سالما. فغضب ولم يرد أن يدخل، فخرج أبوه يطلب إليه. فأجاب وقال لأبيه: ها أنا أخدمك سنين هذا عددها، وقط لم أتجاوز وصيتك، وجديا لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي، ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزواني ذبحت له العجل المسمن.فقال له: يا بنى أنت معي في كل حين، وكل ما لي فهو لك، ولكن كان ينبغي أن نفرح ونسر لأن أخاك هذا كان ميتا فعاش وكان ضالا فوجد " ع 25 – 32.يُعلِّق القديس أمبروسيوس على تصرف هذا الابن الأكبر، قائلًا:[دين الابن الأكبر، لأنه جاء من الحقل. هنا الحقل يشير إلى الاهتمام بأعمال الأرض والجهل بأعمال روح الله (1 كو 2: 11).اشتكى لأنه لم يُعط جديًا ليذبحه، مع أن حمل الله قد ذُبح لغفران الخطايا، لا لذة الجسد.يطلب الحاسد جديًا ليذبحه، بينما يشتهي البار أن يُذبح من أجل حمل الله!
بسبب الحسد أصيب الأكبر بشيخوخة (روحيَّة) مبكرة، وقد ظل خارجًا بسبب عدم محبَّته. الغيرة (الشرِّيرة) التي فاض بها قلبه طردته خارجًا!
إنه أحد الذين لا يبصرون الخشبة التي في أعينهم، بينما ينتقدون القذى التي في الآخرين.إنه يغضب، لأن الغير ينال غفرانًا ونعمة!
يا لعدم احتمال جنود الشر الروحيَّة، إذ لا تطيق أن تسمع ترانيم الفرح وتلاوة المزامير! وهنا يشير الابنان إلى شعبين، الأصغر يمثل الأمم، والأكبر إسرائيل الذي يحسد الآخر من أجل تمتعه بالبركات الأبديَّة. احتج اليهود عندما دخل المسيح ليأكل عند الأمم، لذا طلبوا جديًا كتقدَّمة أثيمة مكروهة.يطلب اليهودي الجدي (باراباس)، والمسيحي يطلب حملًا (المسيح)، لذلك أطلق لليهود بارباس وقدَّم لنا المسيح ذبيحة. حل بهم منذ ذلك الحين فساد الإثم بينما نلنا نحن غفران الخطايا يشير الابن الأكبر للفرِّيسي الذي برر ذاته في صلاته المملوءة غرورًا، هذا الذي حسب نفسه أنه لم يكسر وصيَّة الله مطلقًا، بممارسته لحرف الناموس (18: 11). بقسوة اتهم أخاه أنه بدد ميراث أبيه مع الزواني، مع أنه كان يجب أن يحترس في كلماته لأن الرب يسوع جاء لأجل العشارين والزواني.لم يُطرد الابن الأكبر، إنما وقف على الباب ولم يرد أن يدخل، إذ لم يقبل إرادة الله التي دعت الأمم للإيمان، بهذا صار الابن عبدًا، "لأن العبد لا يعرف إرادة سيِّده" (يو 10: 14)، وعندما عرفها غار وصار معذبًا من أجل سعادة الكنيسة، وبقي هو خارجًا. مع هذا أراد الأب المحب أن يخلصه، إذ قال له: "أنت معي في كل حين".. يا حبذا لو أبطلت حسدك، "كل ما هو لي فهو لك"، فإذ لك أسرار العهد القديم كيهودي، وتنال أسرار العهد الجديد إن اعتمدت أيضًا.]
+ الآن إذ كان أخوه الأكبر في الحقل وقد جاء إلى البيت سمع صوت موسيقى ورقصًا، فدعى أحد العبيد وسأله ما عسى أن يكون هذا. الابن الأكبر يُفهم بكونه الشعب اليهودي الذي كان في الحقل يخدم الله لأجل التمتع بممتلكات أرضية. ففي العهد القديم على وجه الخصوص كانت السعادة الأرضية وعدًا لمن يعبد الله.جاء إلى البيت وسمع موسيقى. الصوت المتناغم معًا يُسمى موسيقى، لأنه حينما يتفق كل الذين يخدمون الله في محبَّة يتممون قول الرسول: "أطلب إليكم أن تقولوا جميعكم قولًا واحدًا" (1 كو 1: 10) حينما يصير المسيحيون هكذا يبعثون موسيقى، أي صوتًا متناغمًا يسرّ الله، ويتحقَّق فيهم المكتوب: "كان لهم قلب واحد ونفس واحدة" (راجع أع 4: 32).
لقد سأل أحد العبيد، أي قرأ أحد الأنبياء.. إشعياء أو إرميا أو دانيال، إذ كرز الكل بمجيء المسيح وبالفرح من أجل مصالحة الأمم.قال له العبد: "أخوك جاء فذبح أبوك العجل المسمن" [27]، فغضب ولم يرد أن يدخل [28].غضبه هذا يعني مقاومة الشعب اليهودي لخلاص الأمم. حقًا فإنهم إلى هذا اليوم في غيرة من الكنيسة يقاومونها.
أما الحقيقة التاليَّة هي أن الأب "خرج يطلب إليه" [28] ربَّما تعني أنه في نهاية العالم سيقبل كل اليهود الإيمان خلال رحمة الله، كقول الرسول بولس: "إلى أن يخلص ملئ الأمم وهكذا سيخلص جميع إسرائيل" (رو 11: 25-26) بقوله: "قط لم أتجاوز وصيتك" [29] عني أن اليهود بدوا كمن عبدوا الله الواحد، وعندما اشتكى: "وجديًا لم تعطني قط" تُفهم عن المسيح. فإن المسيح وهو حمل الله دين كجدي بواسطة اليهود، أي دين كخاطئ. لهذا فالمسيح بالنسبة لنا هو حمل، وبالنسبة لهم هو جدي. الذين اعتقدوا أنه خاطئ وليس بارًا لم يستحقوا التمتع بوليمة جدي مذبوح أو حمل كذبيحة.عندما قال الأب: "أنت معي في كل حين وكل ما لي فهو لك" [31] يعني بذلك عبادة الله الواحد وكتابات العهد القديم والأنبياء الأمور التي بالتأكيد تخص الله وقد بقيت مع اليهود على الدوام.فليعطنا الله أن نحيا حياة التوبة لنرجع إلى حضن أبونا السماوي قائلين له "أخطأت في السماء وقدامك ولست مستحقًا أن أدعي لك ابنًا بل اجعلني كأحد أجرائك أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد