خلق الله الإنسان ككائن متهلل ، يمارس على الأرض الحياة السماوية التي لا تعرف إلا الفرح الدائم . يرنم المرتل ، قائلا : " اهتفوا أيها الصديقون بالرب ، بالمستقيمين يليق التسبيح . احمدوا الرب بالعود ، بربابة ذات عشرة أوتار رنموا له . غنوا له اغنية جديدة ؛ احسنوا العزف بهتاف " ( مز ۳۳ : ۱-۳ ) .
آلة موسيقية فريدة
يذكر المرتل آلتين موسيقيتين هما العود والربابة ذات العشرة أوتار ، ليعلن أنه يليق بالإنسان كموسيقار فريد أن يسبح الله ويعزف التسابيح بكل كيانه بجسده كما بنفسه ؛ أو بلسانه كما بقلبه ، أو جهارا كما سرًا .يسبح الصديقون الرب بأجسادهم التي يقدمونها ذبيحة حية مقبولة ( رو ۱۲ : ۱ ) . يقول القديس أغسطينوس : [ ليته لا يفكر أحد في الآلات الموسيقية التي للمسارح ، فالأمر هنا يشير إلى أمور داخلية ، كما قيل في موضع آخر : في يا الله أرد لك التسبيح " . ]
كثيرا ما يحكم علي الآخرون إني جاد في حياتي ، أمين في دراستي وعملي ، مدقق في سلوكي حتى في الأمور الصغيرة ، لكنني أشعر في داخلي أنني مستهتر وغير أمين حتى مع نفسي . فماذا تعني الجدية ؟ هنا تثور في ذهني التساؤلات الآتية :
هل تتنافي الجدية في الحياة مع حياة الفرح والبشاشة ؟
ماذا تعني الجدية في الحياة ؟
هل للجدية سن معين ؟ بمعنى آخر ، لماذا لا أقضي شبابي في لهو بعيدا عن الانحناء لثقل المسئوليات المرهقة للنفس ؟ هل يكفيني أن أكون جادا في دراستي أو عملي وفي مسئولياتي الأسرية والاجتماعية ؟
هل من حاجة إلى الجدية في الحياة الروحية ؟ وما هي حدودها ؟
هل أفقد علاقتي بالآخرين من أجل التزامي بالحق في جدية ؟
يعاني الكثيرون من الشعور بالنقص ، أنهم لن يصلحوا قادة ؛ وليس لديهم مواهب خاصة تميزهم وتؤهلهم لعمل قيادي ، وكأنهم خلقوا ليكونوا ذيولا لا حول لهم ولا قوة . وقد جاء كلمة الله من السماء وتجسد ليصحح مفاهيمنا ، ويقدم لنا إمكانيات فائقة لممارسة العمل القيادي بمفهوم سليم سوي . جاء السيد المسيح لا ليصحح مفهومنا للقيادة فحسب ، وإنما قدم نفسه مثالا عمليا للقائد الحي ، كما وهبنا ذاته لكي إذ نتحد به نتدرب على القيادة الحقيقية ، وندرك أنه القائد الحقيقي الخفي العامل فينا وبنا ، كما نعمل معه ( ۱ کو ۳ : ۹ ) ! لتتحد به البشرية ، فيصيرون به قادة ، ملوكا وكهنة وأصحاب سلاطين ، لذا دعي ملك الملوك ورب الأرباب ورئيس الكهنة . حقا أخذ كلمة الله صورة عبد ، وبإرادته احتل آخر صفوف البشرية ، لكي ما بتواضعه هذا يحتضن كل البشرية ويهبهم روح القيادة الحقيقية ، حيث يتمتعون بالتواضع الفعال الذي لا يحثنا على الهروب من الالتزام الجاد والشعور بالمسئولية . إنه القائد الإلهي لقادة يحملون روحه !
إذ بلغ القديس أغسطينوس الثلاثين من عمره ، ولم يكن بعد قد قدم توبة عن حياته ، ولا رجع إلى الكنيسة ، أقام احتفالا غريبا بمناسبة عيد ميلاده الثلاثين . ما كان يشغله في الاحتفال الذي حضرته والدته وأيضا أصدقاؤه ليس أنه قد بلغ سن الرجولة الكاملة ، وإنما عرض سؤالا للمناقشة دام ثلاث ليال ، حسبه احتفالا مستمرا بعيد ميلاده . هذا السؤال هو : " ما هي الحياة السعيدة ؟ " . أبرز أغسطينوس أن كل إنسان في أعماقه يود أن يكون سعيدا ، لكن : ما هي السعادة ؟ حتى يسعى إليها ويطلب أن يقتنيها .
لقد نشر القديس فيما بعد هذا الحوار المشوق ، وحسب هذا العمل أحد الأعمال البارزة له والتي تمس حياة كل إنسان !
يقول القديس أغسطينوس إن السعادة هي أن يقتني الإنسان كل ما يشتهيه ، لكن حتى وإن اقتني كل ذلك يخشى الغد ، فقد يفقد كل ما اقتناه . بهذا يفقد الإنسان طعم السعادة حتى إن اقتنى ما اشتهاه ، يفقدها قبل أن يفقد من اقتناه ، وذلك بسبب الخوف والقلق من الغد ! فكيف يعيش سعيدا على الدوام ؟