
الدراسات الآبائية عمل ممتع وشاق للغاية شاق لقلة المصادر التي بين أيدينا ، ولبعض جوانب الغموض والتضارب التي يواجهها كل من يتصدى لهذه المجالات ولكنها دراسة ممتعة وهامة وضرورية ، لأنه كلما اقتربنا من العصر الرسولى ، اقتربنا من الأصالة والحياة المسيحية النقية والخبرة الروحية التي تعتبر نموذجا يحتذى ومعيارا يقيم به وفي الدراسات الآبائية تتكامل الجوانب اللاهوتية مع الروحية والاجتماعية بطريقة ممتازة ومنهج رائع وفي الدراسات الآبائية قضايا تصدت لها الكنيسة وأعطت رأياً وقد تختلف قضايانا ومعاناتنا عما كان في الأيام الأولى ، ولكن الباحث يستطيع أن يقدم لعصرنا منهجاً أصيلا لكيفية مواجهة تحديات الحياة اليومية والدراسات الآبائية لازمة للكنيسة الشرقية بنوع خاص ، لانها كنيسة تقليدية متجذرة في الاصول التاريخية والاعماق الايمانية وعلى ذلك فإن الدراسة الآبائية تمثل قنطرة ومعبراً ممتازاً يصل الماضي بالحاضر ، ويربط القديم بالجديد الحاضر يزداد خصوبة بالعمق الآبائي والماضي يزداد حيوية وقيمة بدينامية استخدامه في الحياة العملية إن النهضة الواضحة في بعث الدراسات الآبائية في العالم تمثل علامة صحية التقدم والنمو فى الجوانب اللاهوتية والكنيسة المسكونية
وبالرغم من أن الاباء لم يتعرضوا كثيرا للنظريات التربوية لان علم التربية بشكله المعروف لدينا حديث العهد الا اننا نجد أن بعض الاباء استطاعوا أن يقدموا لنا مناهج ونظريات تربوية غاية في العمق والاهمية تذكر منهم على سبيل المثال القديس اكلمينضس الاسكندري في الشرق ، والقديس اوغسطينوس في الغرب .
القديس اكليمنضس الاسكندرى :
وإذا ما أردنا أن نعالج النظرية التربوية عند اكليمنضس فإنه لا بد من سرد موجز لحياته لما لهذا من أهمية في إيضاح نظريته تيطس فلافيوس كليمنس Titus Flavius Glemens هو أحد عمداء مدرسة الإسكندرية اللاهوتية الشهيرة . كان فيلسوفاً وثنياً ونحن لا نعرف الكثير عن حياته الأولى ، ولا عن تاريخ ميلاده، وإن كان البعض يعتقد أنه سنة ١٥٠ م كذلك نحن غير متأكدين من مكان نشأته : هل هو الإسكندرية أم أثينا ، أغلب الغربيين ينادون بأنه أثينا ( وأغلب الظن أن هذا بسبب أنه كان يتكلم ويكتب اليونانية ) والبعض القليل من الشرقيين يؤكد أنه الاسكندرية .اسمه لاتيني الأصل وليس إغريقياً والشائع أنه من أسرة أرستقراطية رفيعة النسب والحسب كان الوالدان وثنيين، ومن العجيب أنه لم يترك لنا شيئاً عن تحوله وهدايته إلى المسيحية كان اكليمنضس ساعيا نحو التعرف على الحق الذي يشبع عقله وقلبه وخلقياته . لم يجد هذا الشبع في آلهة الأغريق رغم عمق دراساته للوثنية قام بجولة واسعة فى بلاد الحضارة ومهبط الأديان وشجعه على ذلك ما يمتلكه من ثروة وجاه إنه يخبرنا في عبارة مشهورة له أنه لم يوجد ما يشبعه وما يملأ نفسه فرحاً وسلاماً مثلما سمعه من المغبوط المبارك المستحق كل تقدير وإعزاز (يقصد هنا أستاذه ومعلمه بنتينوس عميد مدرسة الاسكندرية آنذاك ) انه كما يقول قد تتلمذ واستلم الحق من الذين سبقوه وهؤلاء استلموه من الرسل الأطهار بطرس ويعقوب ويوحنا وبولس هؤلاء الذين نلنا بركتهم ونعمتهم وتعاليمهم المقدسة عبر التقليد الرسولى في سنة ۱٨٠ ميلادية وصل أكليمنضس إلى الاسكندرية وبدأ يعمل مع بنتينوس وحوالى سنة ۱۸۹ صار عميداً لمدرسة الاسكندرية بعد نياحة سلفه ورسم قساً إما في هذا التاريخ أو بعده بقليل يقول الباحث فيرجسون أنه من المحتمل جداً أن يكون أكليمنضس قد تزوج، وأدلته على هذا كتاباته عن الزواج في كتاب المربى ، وبالأخص قوله إن الرجل بلا أسرة يفقد الكثير ( 12 : 7 .str ) وأثناء اضطهادات سافيروس رحل أكليمنضس من الاسكندرية ، واستقر فى أورشليم . والفترة الأخيرة من حياته يسودها غموض كبير وإن كان من الأرجح إنه تنيح حوالى ٢٢٠ م .
تقديرنا لهذا العلامة :
إن دراستي للعلامة اكليمنضس أعطتني احتراماً وتقديراً كبيراً للرجل فهو أول من وضع نظرية تربوية ذات طابع مسيحى وهو أول من نادى بأن الكلمة الابن هو المربى الحقيقي وهو أول من جمع بين الثقافات الإغريقة بكل مدارسها واليهودية والمسيحية الناشئة ، دون أن ينزلق في هرطقات وبدع وبذلك قدم للعالم نموذجا رائعا للعالم المسيحي الذي يصالح بين اللاهوت والعلم ، وبين الدين والفلسفة ، وبين الايمان والبحث والدراسة وهو من الرواد الأوائل الذين تلمذوا القيادات الفكرية التي عمت المسكونة كلها ، وواجهت الهرطقات والبدع وتحديات العصر الفكرية والاجتماعية وهو احدى ثمار المدرسة اللاهوتية الاسكندرية العظيمة ، كما أنه أيضا أحد الذين أعطوا لهذه المدرسة مكانتها وهيبتها وعظمتها الفكرية في كل بلاد العالم المتحضر تحية تقدير لاكليمنضس الذى لا تزال كليات التربية في العالم كله تدرس نظريته وتستلهم منها إشراقات على الرغم من كل التقدم المعاصر
في النظريات التربوية والنفسية .( يتبع )
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد السابع والعشرون عام 1975