اطلالة على المجتمع الغربي بعين راهب قبطى

07 أكتوبر 2024
Large image

كانت فرصة اقامتي في الولايات المتحدة ، ككاهن لكنيسة مارجرجس والأنبا شنوده بجرسی ستی ، وكطالب للدكتوراه في احدى جامعاتها الكبرى، مجالا للبحث والدراسة والمقارنة ، بين الثقافتين الشرقية والغربية ، وتأثير كل من المجتمعين على الشباب بصفة خاصة وليس من اليسير التعرف على اتجاهات الشباب العميقة ، وطرق تفكيره الداخلية، وبخاصة إذا كان الشرقي يعيش في دائرة محدودة الاتصالات والتفاعلات مع المجتمع الجديد ولكنه من حسن الحظ أنه على الرغم من وجودى في بيئة قبطية مصرية تماماً ، وهي شعب الكنيسة ، إلا أن إقامتى بعض أيام الأسبوع في الجامعة ، أعطاني فرص الحوار والدراسة والتحليل والمقارنة والذي تمرس في البحث العلمي ، لا يستطيع أن يقول من أول وهلة ان مجتمعنا الشرقي أفضل من الغربي ، أو أن الغربي أفضل لأن المقارنة يجب أن تكون وفقاً لمعايير وتجارب ودراسة عميقة وإلا كانت الأحكام سطحية لا تفيد كثيراً وإذا كان الإنسان خاضعاً للقوى الاجتماعية والثقافية والاقتصادية،
وإذا كان جانب كبير من حياته ، تشكله ظروف المجتمع الذي يحياه ،أدركنا أن كل ما نراه من عادات وطبائع الشباب الغربي ، له أصوله ومصادره في البيئة التي يحياها لأجل هذا يلزم أن تكون الأحكام موضوعية غير متحيزة .
بين الروحانية الغربية والشرقية :
أول ما استرعى نظرى أن روحانية الشباب الأمريكي تختلف جذرياً عما ألفناه في بلادنا فالشاب المتدين الأمريكي لا يرفض التدخين أو شرب قليل من الخمر بين الحين والحين . كما أنه يتخذ له صديقة يستريح لها ،وتستمر العلاقة العاطفية بينهما ، وتنتهى في أغلب الأحيان بالخطبة أو الزواج . وهو لا يمانع في اتخاذ جميع القرارات المصيرية في حياته ، دون اللجوء الى الكبار وأخذ مشورتهم بينما كل هذه المظاهر تعتبر في بلادنا من الأخطاء ،وقد ينظر إلى بعضها كأخطاء جسيمة يضاف إلى هذه أن المجتمع الرأسمالى مجتمع فردى ، يقوم على حرية الفرد ، وإطلاق كل رغباته وطاقاته ، وعدم تقييده . وليس للسلطة أن تتدخل في الحياة الشخصية ، وإنما هدفها فقط الحماية من طغيان هذه
الحياة على حريات الآخرين وقد يكون لهذه الأنماط أثرها على اللاهوت الغربي ، كما أنه قد يكون للاهوت الغربى أثره في تشكيل أنماط حياة الناس فاللاهوتيون الغربيون لا يركزون على موضوع الخطية والسقوط والعقوبة والدينونة ،وانما يعطون الأهمية لمحبة الله ولطفه ومغفرته لضعفات الانسان واللاهوتيون الغربيون لا يركزون كثيراً على القيامة ، بقدر اهتمامهم بالتجسد الإلهى . وقد انعكس هذا على أعيادهم . فعيد الفصح لا تشعر به إطلاقاً في كل بلاد الغرب ، بينما عيد الميلاد ( الكريسماس ) له بهجته وروعتة ، وإن كان غالباً ما يأخذ الطابع الإنساني [ بابا نويل - هدايا - زيارات - حفلات - مهرجانات ] فالغربي يقدس الانسان والانسانية، والتجسد الالهى أعطى للانسان والانسانية مركزا ساميا . ولهذا يعتز الشاب الغربي بانسانيته ولا يوافق كثيرا على أن خطية آدم تورث ، أو حتى الضعف البشرى ينحدر من جيل إلى جيل بل على العكس يعتز ببشريته ، ويفتخر بانجازاته . واللاهوت يخدم اعتزازه هذا ، ويشجعه على هذا النمط من التفكير أما القيامة فهي مرتبطة بإنهاض المائت الساقط . وهو لا يرى في القيامة إلا مزيداً من تدعيم إنسانية الإنسان والمجتمع الغربي مجتمع الرفاهية ، والسعى نحو اسعاد الانسان بكافة وسائل الراحة المادية ، لهذا لا تجد للنسك مكانا في كل كتب اللاهوت الغربية حتى إنى لم أسمع من أحد أساتذة اللاهوت كلمة صلب الذات ، أو الفقر الاختيارى ، أو الأصوام الطويلة ، أو الإماتات ، أو الصمت ،أو التذلل ، أو الدموع ... الخ
هذه كلها فضائل شرقية ، ليس لها مدلول عند الذين يدخلون الكنيسة نيفاً وساعة في الأسبوع، ويسرون بالكورال الكنسى، والعظة الشيقة المرتبة منطقياً ، والجو الاجتماعي، والأنشطة غير الروحية التي التي ترتبها الكنيسة الغربية لشعبها .
بين الحرية الغربية والشرقية :
يعتز الغربي بحريته بكافة أبعادها والحقيقة أنه ليست هناك حرية بمعناها الحقيقى الا فى اطار قيود تحددها وقد تكون هذه القيود دينيه أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية . ولكن المجتمع الرأسمالي ، وإن كانت تتحكم فيه قيود كثيرة ، أهمها المضاربات والمنافسات ، وسيطرة رجال رأس المال على الفكر الإنساني بوسائل الدعاية والإعلام ، إلا أن الغربى يشعر شعوراً مختلفاً عن شعور المواطن في المجتمع الشيوعي مثلا فالغربي يستطيع أن يحاكم نيكسون على الرغم من أنه قد يوجد كثيرون أسوأ من نيكسون يفلتون من الحكم والإدانة والغربي يستطيع أن يكتب ما يريد ، وينشر ما يشاء ، ويعبد بالطريقة التي تريحه وعندما سالت المصريين في استفتاء علمى ، وجدت أن نفسية الشرقي تستريح الى الحرية المضبوطة أكثر من الحرية التي بلا قيود فالشرقي يحب أن يكتب بحرية . ولكنه لا يحب أن يرى كتابة تطعن في قيم مجتمعه السائدة . والشرقي يحب أن يعبد ، ولكنه لا يحب
أن يجد من يجاهر باحتقار دينه لقد كنت أجد الأطفال الأمريكان ، بل والأقباط في أمريكا ، يناقشون ويعترضون وهذه ظاهرة صحية تأخذ بها بلادنا الآن ، مع أخذها بوجوب استخدام السلطة لاحترام حرية الآخرين .كذلك فإن تشجيع الجو الديني للشباب على الحوار والدراسة والبحث ، وإقامة تدينه على أسس من الحرية الشخصية ، أمر واجب .
النظرة إلى الحياة في المجتمعين :
يعتز الشاب الغربي بواقع حياته ، ويقبل على يومه برضى ، مهما كانت المعوقات وقد يرجع هذا إلى غنى البلاد وتقدمها المادى ، وتنافس الحكومات في تسهيل سبل الحياة للمواطنين ، وتركيز اللاهوت على الفضائل الاجتماعية ولكن يعيبه أن الغالبية لا يفكرون في الحياة الأبدية حتى المتدينون منهم ، يقولون إننا نستطيع أن نقابل الله ونتمتع به في ظروف حياتنا اليومية أما الشاب الشرقي فإنه يعتز بالأبدية والحياة الأخرى ولها آثارها الكبرى على حضارته وتفكيره وتدينه . ولكنه يحتاج إلى أن يستدين من الغربي كيفية مواجهة يومه بإيجابية وفرح وشكر . كما يحتاج الغربي إلى أن يستعير من الشرقى اهتماماً بالأمور التي لا ترى لأنها أبدية .
نيافة الحبر الجليل مثلث الرحمات المتنيح الانبا بيمن أسقف ملوى وأنصنا والاشمونين
عن مجلة الكرازة العدد الحادى الثلاثون عام ١٩٧٥

عدد الزيارات 163

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل