
ما أجمل أن يصلي الإنسان إنه يشعر في صلاته إنه قد انتقل من مستوى الأرضيين إلي مستوي السمائيين، لكي يشارك الملائكة في طقسهم إن الصلاة شرف عظيم لا نستحقه فنحن بها ندخل في عشرة مع الله، ونذوق وننظر ما أطيب الرب وفيها تكون أذنا الرب ملتصقة بأفواهنا ما هي الصلاة أذن..؟
1 - الصلاة في معناها البسيط هي حديث الله؟
ولكن هل هي حديث اللسان، أم هي حديث القلب؟ لاشك أنها حديث القلب ولذلك فإن السيد المسيح وبخ الذين يصلون بشفاههم فقط، وذكرهم بقول الكتاب "هذا الشعب يكرمني بشفتيه أما قلبه فمبتعد عني بعيدًا" (مر 6:7) إذن الصلاة ليست مجرد كلام، ولا مجرد محفوظات أو تلاوات.
2- أنما الصلاة -من الناحية الروحية- اشتياق إلي الله.
وفي هذا يقول داود النبي "كما يشتاق الإيل إلي جداول المياه، هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله عطشت نفسي إلي الله، إلي الإله الحي متى أجيء وأتراءى قدام الله" (مز 42: 1،2) ويقول أيضًا "يا الله أنت إلهي، إليك أبكرعطشت نفسي إليك" (مز 63: 1) كلما تشتاق نفسك إلي الله، وتكلمه عن شوق، تشعر أنك تكلمه من قلبك، وتستفيد من الصلاة.
3 - لآن الصلاة ليست مجرد اشتياق، إنما اشتياق صادر عن حب.
فالصلاة تبدأ أولًا في القلب حبًا، ثم ترتفع إلي الذهن أفكارًا، ثم ينطق بها اللسان ألفاظا هي أصلا حب يقول فيه المرتل "محبوب هو اسمك يا رب، فهو طول النهار تلاوتي" (مز 119) من محبته لله، اسم الله لاصق بعقله، لاصق بقلبه، هو طول النهار تلاوته بل يقول له أيضًا "باسمك أرفع يدي، فتشبع نفسي كما شحم ودسم" (مز 4:63).
4 - فالصلاة هي إذن شبع روحي بالله:
كما يتغذى الجسد بالطعام، تتغذى الروح بالوجود في حضرة الله وبالحديث مع الله، وبالصلة القلبية مع الله إن كنت تصلي ولا تشعر بشبع، فأنت في الواقع لا تصلي كما تسري نقطة الماء في النهر إلي أن تصب في البحر الكبير وتندمج فيه، هكذا قلب الإنسان يسري في الصلاة إلي أن يتحد بقلب الله،و أول وسيلة لذلك هي الصلاة لذلك قيل:
5 - ان الصلاة هي جسر ذهبي، يصل بين المخلوق والخالق.
أنها تذكرنا بسلم يعقوب الواصل بين السماء والأرض، يصعد عليه الملائكة، يوصلون الصلوات، وينزلون باستجابة الله.
6 - قيل أن الصلاة هي عمل الملائكة، أو هي أنشودة الملائكة.
تصوروا السارافيم وقوفًا أمام العرش الإلهي يقولون "قدوس قدوس قدوس" (أش 6) وترتوي بهذا نفوسهم هذه هي الصلاة. صدقوني إن كثيرين يقولون إنهم يتحدثون إلي الله، بينما في الواقع هم لا يصلون لأنه حديث لا مشاعر فيه ولا عواطف، ولا صلة.
7 - لذلك الصلاة هي صلة مع الله:
وهكذا تشعر بالوجود في الحضرة الإلهية تشعر بوجود الله، وبوجودك مع الله، وبالصلة بينكما البعض يظنون الصلاة مجرد ألفاظ ينتقونها وينمقونها، بينما لا توجد بينهم وبين الله صلة أريد أن اضرب لكم مثلا لنفرض أن أمامنا لمبات كهربائية قوية جدًا، ونجفات جميلة، وكشافات، ومع ذلك هي ليست متصلة بالتيار الكهربائي فما قيمتها إذن؟ وما فائدتها للإنارة؟! لا شيء كذلك في صلاتك لابد أن تشعر بهذا التيار يجري في عروقك..
8 - تشعر بلذة في الوجود مع الله. تري الصلاة متعة روحية.
وهكذا إن بدأت الصلاة، لا توجد قدرة علي إنهائها كلما تريد أن تختم صلاتك، لا تستطيع بل تقول له "دعني أبقي معك فترة أخري يا رب لا أريد أن أفارقك لا أريد أن اقطع حديثي معك" وتتشبه بعذراء النشيد التي قالت "أمْسَكْته ولم أرخه" (نش 4:3).
9 - هذه الصلاة هي تنقية للقلب..
مع الصلة مع الله يتطهر القلب، ويستحي الذهن أن يتقبل أية فكرة خاطئة أو يتعامل معها يقول لنفسه "كيف أفكر في هذا الأمر، وأنا الذي كان كل فكري مع الله؟! "وهكذا تراه يصد كل فكر خاطئ يأتي إليه بل أن الصلاة تجعله يزهد هذا العالم وكل ما فيه كما قال الشيخ الروحاني "إن محبة الله غربتني عن البشر والبشريات" أي جعلتني غريبا عنها، لأني صرت من وطن آخر سمائي سئل القديس يوحنا الأسيوطي مرة "ما هي الصلاة الطاهرة؟!" فقال " هي الموت عن العالم " أي أن الإنسان الذي ينشغل قلبه مع الله بالتمام في الصلاة، يكون العالم ميتًا بالنسبة إليه لا يحيا فيه هو يصلي والعالم لا وجود له في زمنه لا يحس بهذه الدنيا وما فيها..
10 - الصلاة شرف بالنسبة إلي الإنسان، وتواضع بالنسبة إلي الله:
فمن نحن التراب والرماد، حتى نتحدث إلي الله ملك الملوك ورب الأرباب؟! حقًا إن هذا شرف عظيم بالنسبة إلينا، لا نستحقه وهو تواضع من الله إذ يتحدث إلينا بينما قد نجد صعوبة في التحدث إلي بعض عبيده من البشر!!
11- الصلاة هي اخذ وليست عطاء..
احذر من أن تفكر في وقت من الأوقات، أنك حينما تصلي، إنما تعطي الله وقتًا، وتعطيه مشاعر! ولذلك تعتذر عن الصلاة أحيانًا وتقول "ليس لدي وقت !" كلا، بل أنت في الصلاة تأخذ من الله الكثير، تأخذ بركة، وعشرة طيبة، ومتعة روحية، وهبات لا تحصي وهكذا نقول لله في القداس "لست أنت محتاجًا إلي عبوديتي، بل أنا المحتاج إلي ربوبيتك" أنا المحتاج أن أخذ منك حينما أصلي يريحني ويسعدني مجرد الشعور بأنني في حضرتك الشعور بالأمان في حضرة الله القوي والمتحنن والرحيم في حضرة الآب الذي يحب أولاده، ويمنحهم من قلبه ومن عطفه.
12 - الصلاة هي أغنية نقدمها إلي الله من قلوب سعيدة به.
داود النبي حينما كان يغني مزاميره، لم يكن يصلي بالمزمار فقط بل أحيانًا بالعود، وبالقيثارة، والعشرة الأوتار وأحيانًا معه جوقة عجيبة من المغنين والموسيقيين، يستخدمون هذه الآلات الموسيقية، وأيضا البوق والصنج والصفوف والدفوف وباقي آلات العزف الكل معًا يغنون للرب أغنية جديدة، في فرح بالرب كما حدث مع مريم النبية أخت موسى وهرون، إذ أخذت الدف في يديها، وخرجت وراءها النساء بدفوف ورقص، وهي تقول "رنموا للرب، فإنه قد تعظم.." (خر 15: 20،21) حقًا ما أجمل أن تكون الصلاة أغنية يقول الرسول "بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب" (أف 5: 19)..
13 - إذن فالصلاة هي وقت فرح بالرب:
وهكذا نجد غالبية صلواتنا ملحنة ومنغمة ولها موسيقاها، تغني بها للرب أغنية جديدة وبالمثل صلاة القداس الإلهي، هي أيضا أغنية روحية مرتلة وكذلك صلوات الإبصلمودية وكل التسابيح حتى قراءة المزمور والإنجيل أثناء القداس الإلهي هو أغنية نقدمها إلي الله إنها قلوب فرحة بالرب،تقف أمامه وتغني لا نضرب علي أوتار عود، بقدر ما نضرب علي أوتار قلوبنا فالألحان عندنا هي صلاة، والصلاة هي لحن، هي أغنية كلما نوجد في حضرة الله، تمتلئ قلوبنا فرحًا بالرب، ونغنى له في كل المناسبات بكل عواطفنا حتى في مناسبات الحزن، نغني أيضًا في حضرة الرب بأسلوب الحزن، إنما هي عواطف مقدمة لله قديمًا كان كل مزمور له لحن، مثل المزامير الأخيرة التي تكون الهوسات الثاني والثالث والرابع هذا هو العنصر العاطفي في الصلاة وهنا نذكر ان الصلوات المقبولة لها صفات:
صفات الصلاة المقبولة
ليست كل صلاة مقبولة أمام الله فهناك صلوات رفضها، مثل صلوات المرائين، وصلوات قساة القلوب الذين قال لهم "حين تبسطون أيديكم، أستر عيني عنكم، وإن أكثرتم الصلاة، لا أسمع أيديكم ملآنة دمًا" (أش 1: 15) فما هي صفات الصلاة المقبولة إذن؟
1 - ينبغي أولًا أن نصلي بفهم:
بحيث كل كلمة تقولها في الصلاة، تكون فاهما لمعناها، كل كلمة تقولها لها عمقها عندك كل كلمة في صلاتك، يشترك فيها اللسان مع العقل، والقلب، والمشاعر، والجسد يشترك فيها الإنسان كله كما نقول في بعض صلواتنا " قلبي ولساني، يسبحان القدوس" فالصلاة ليست مجرد كلام بل لسانك يتحدث، وعقلك مركز في الكلام ومعانيه،وتشترك بمشاعرك وكل قلبك،وروحك تقود العملية كلها
2 – وأيضا يشترك جسدك وتشترك حواسك في الصلاة:
جسدك يشترك بالركوع، بالسجود، بالخشوع، برفع اليدين، ورفع النظر إلي فوق وجمع الحواس، فلا يتشتت السمع والبصر هنا وهناك، ولا تتشتت الحركات، بل يكون الإنسان ثابتًا، باحترام شديد في صلاته يعرف أمام من هو واقف إن الشاروبيم والسارافيم وهم يقفون أمام الله، بجناحين يغطون وجوههم، وبجناحين يغطون أرجلهم، من هيبة الله الذي يقفون أمامه فكم بالأولي نحن إن الأب الكاهن في صلاة الصلح في القداس، يمسك لفافة أمام وجهه، رمزًا لهيبة الله الذي هو يقف أمام عظمته.
3 – وهكذا ينبغي أن تكون الصلاة أيضا بفكر مجتمع، غير مشتت:
فلا يصح أن تتكلم مع الله،وأفكارك شاردة في موضوعات أخري بل حاول أن تجمع أفكارك وتركزها في الصلاة ويحسن أن تمهد لذلك بقراءة روحية أو بترتيلة أو تأمل ولا تقف للصلاة وعقلك مشغول بشتى الموضوعات البعض يغمض عينيه أثناء الصلاة حتى لا ينشغل بصره بأمور تجلب له أفكارًا المصلي الحقيقي لا يحس بكل ما حواليه هو مع الله فقط، وحده كما أن الإنسان إذا صلي بفهم، سيصلي حتما بتركيز وعمق كما يقول داود "من الأعماق صرخت إليك يا رب" (مز130: 1) من عمق قلبي من عمق مشاعري من عمق احتياجي من عمق مشاكلي وسقطاتي أريد أن أرتفع إليك.
4 – مثل هذه الصلاة لابد أنها تكون بحرارة:
لأن الإنسان يسكب نفسه أمام الله، انظروا إلي حنة التي صارت أمًّا لصموئيل النبي، يقول الكتاب عنها إنها "صلت إلي الرب، وبكت بكاءً،ونذرت نذرًا" وإنها كانت تتكلم في قلبها، وشفتاها فقط تتحركان، وصوتها لا يسمع حتى أن عالي الكاهن ظنها سكري" (1صم 1: 10-13) بكل عواطفها كانت تصلي، بكل حرارة، بنفس منسكبة أمام الله وما أجمل ما قيل عن إيليا النبي أيضا إنه "صلي صلاة" (يع 5: 17) ماذا تعني عبارة "صلي صلاة".؟ تعني أنها ليست أي كلام بل صلاة لها عمقها ولها حرارتها يصلي صلاة، أي يصلي بالمعني العميق لهذه الكلمة فقد يقف كاهن أمام المذبح، وتشعر في أعماقك أنه يصلي بينما يقول كاهن آخر نفس القطعة من القداس، فتلحظ أنه يتلو كلامًا ولا يصلي وقد تسمع لحنًا واحدًا من اثنين من المرتلين، فتحس أن أحدهما يصلي، أما الآخر فيقدم نغمات وألحانًا بلا روح، بلا صلاة هناك إنسان يزعم انه يصلي، ولا يصل إلي السموات من صلاته شيء بينما آخر يصلي، فإذا واحد من الأربعة والعشرين كاهنًا الذين تحدث عنهم سفر الرؤيا، يأتي ومعه مجمرته الذهبية، فيحمل فيها هذه الصلاة لتصعد كرائحة بخور أمام الله إنه صلي صلاة بعض الملائكة في السماء يشتمون رائحة بخور زكية، فيبحثون عن سببها، ويكون أن (فلانًا) قد وقف يصلي الصلاة بحرارة، قد تظهر في ألفاظ الصلاة أو في قوتها، أو في لهجتها، وقد تظهر في دموع تصاحب الصلاة أما عبارة أن الإنسان يسكب نفسه في الصلاة، فلست أجد ألفاظًا في اللغة يمكن أن تعبر عنها أتركها لكم لتفهموها بأنفسكم. ولكن علي الأقل أقول إن الإنسان يعصر نفسه عصرًا، ويسكبها أمام الله.
5 – تصلي أيضًا بتأمل..
فمثلًا إن صليت الصلاة الربية، ووصلت إلي عبارة ليأت ملكوتك، يمكن أن تدخل إلي عمق مفهوم هذا الملكوت، كأن يملك الله علي قلوب الناس وأفكارهم،وعلي أهدافهم ووسائلهم أو أن تتأمل ملكوت الله علي الأمم والشعوب والممالك إلى لا تعرفه أو تسرح في الملكوت الأبدي في أورشليم السمائية وهكذا تجد نفسك -في تأملاتك- وأنت داخل في عمق أعماق هذا الملكوت.
6 – صفات أخري كثيرة:
هناك صفات أخري كثيرة للصلاة المقبولة، كأن تكون صلاة بحب كما سبق أن قلنا، وكذلك صلاة بخشوع، وصلاة بإيمان يؤمن المصلي أن الله سيستجيب صلاته، أو علي الأقل يؤمن أن الله سيعمل ما فيه الخير له.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب أبانا الذي في السموات