المقالات

13 يناير 2023

ختان القلب

قال القديس استفانوس شهيد المسيحية الأول لرؤساء كهنة اليهود : « یا قساة الرقاب ، وغير المختونين بالقلوب والأذان ! أنتم دائما تقاومون الروح القدس » ( أعمال 7 : 51 ) ، فبرغم كونهم مختونين بالجسد وهم حفظة الناموس والطقوس والعبادات إلا أنهم غير مختونين بالقلوب والأذان ، فقلوبهم غطتها غلفة الكبرياء ومحبة المال ونجاسات العالم ، وأذائهم الغلفاء ثفل سماعها فلم تميز الحق ولم تعرف صوت الراعي الصالح ، كانت ظواهرهم تبدو مثل الصديقين وبواطنهم مملوءة رياء وخبثا ، وقد قال لهم الرب إنهم يشبهون القبور المبيضة ، لم ينفعهم ختان الجسد في شيء بل لما تعدوا الناموس الحقيقي وقاوموا الروح القدس ، حسب أهل الغرلة " الوثنيون " أفضل منهم ، عندما فتحوا قلوبهم وأذائهم لصوت الروح وقبلوا الكرازة بالإنجيل بفرح . عهد الختان الأول كان علامة في الجسد لأن الإنسان كان جسديا مبيعا تحت الخطية ، وحتى الوصايا كتبها الله على لوحي حجر لأن قلب الحجر كان داخل الإنسان . فلما جاء ملء الزمان وولد مخلصنا من القديسة مريم متحدا بطبيعتنا صائرا في شبه الناس - أكمل الختان في اليوم الثامن ، وسالت القطرات الأولى من الدم الزكي وحقق في جسده الطاهر كمال العهد بين الله والناس . فإن كان الختان هو عهد الله مع إبراهيم حيث قول الله : « سز أمامي وكن كاملا » ( تكوين ۱۷ : ۱ ) ، فقد ارتفع ربنا يسوع بهذا العهد إلى الكمال المطلق في الفعل والقول ، وما عجز عنه جميع الآباء والأنبياء أكمله المسيح بجسد بشريتنا فسمع صوت الاب من السماء : « هذا هو ابني الحبيب الذي به سررتُ ". الختان الجديد ... ختان المسيح : عن الختان الحقيقي يقول معلمنا بولس : « وبه أيضا ختنتم ختانا غير مصنوع بيد ، بخلع جسم خطايا البشرية ، بختان المسيح » ( كولوسي ٢ : ١١ ) ، فإن كان الختان القديم يتم بقطع غلفة الجسد فإن الختان الجديد صار لنا بخلع جسم خطايا البشرية ... أي دفن القديم بأكلمه هذا ما أخذناه في المعمودية المقدسة .. التي هي شركتنا في موت المسيح وقيامته ، في المعمودية خلعنا الإنسان القديم مع شهواته ، وجحدنا سيرتنا الأولى ولبسنا الجديد الذي يتجدد بحسب صورة خالقه « لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح » ( غلاطية 3 : ٢٧ ) ، وإن كان الختان القديم علامة في الخارج فالمعمودية هي ختان القلب في الداخل ، وإن كان الختان يجعل الإنسان محسوبا من شعب إسرائيل وله الحق في أكل الفصح ، فالمعمودية جعلتنا أعضاء جسد المسيح ولنا الحق التناول من الذبيحة المقدسة ، وإن كان بالختان يأخذ الإنسان اسما في جماعة الرب فإنه بالمعمودية صارت أسماؤنا مكتوبة في السماوات ، وإن كان الكتبة والفريسيون ورؤساء الكهنة لما خانوا العهد وأسلموا نفوسهم للخطايا لم ينفعهم الختان وصارت قلوبهم واذانهم غير مختونه ... فماذا نحن عاملون ؟ لقد أخذنا العهد الجديد بدم المسيح ... واستنرنا بالمعمودية المقدسة وذقنا كلمة الله الصالحة والمواهب السماوية . فإن كنا بعد ذلك نجاري العالم ونسلك بحسب الطبيعة القديمة وشهوات الجسد وأساليب الناس في المكر والخبث ومحبة المال والكبرياء والنجاسات والبغضة ... إلى آخر هذه الامور التي متنا عنها وجحدناها ... فإننا نكون قد شابهنا أولئك الذين قيل عنهم " غير المختونين في القلوب والآذان " . لنحفظ يا إخوة عهد ختاننا .. عهد المعمودية ، لنحفظ القلب مختونا حساسا لمحبة الله ومحبة القريب لأن البغضة تحرم الإنسان من الله ، لنحفظ ثياب المعمودية بيضاء مغسولة بدم الذي فدانا ، لنحفظ الحواس مكرسة لله مختومة بختم الله الحي حتى متى ظهر في مجيئة الثاني نلاقية بوجه مكشوف ويكون لنا ثقة ولا نخجل منه . المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
01 يناير 2022

القديس يوسف البار ج4

في خضوع الرب: الأمر الذي يُربِك الذهن، كيف احتمل القديس يوسف خضوع الربّ وامتثاله له، لكلّ ما يؤمَر به أو يُوَجَّه إليه. فالأمر ليس يومًا أو بعض أيام.. بل سنوات وسنوات، منذ الميلاد إلى أن أكمل القديس يوسف غربته على الأرض، وهذه بحسب التقليد تربو على سبع عشرة سنة. عاش الرب خلالها كابن مع أبيه بكلّ ما تحمل هذه الكلمة من معنى، في الحياة اليومية، وفي النمو الطبيعي، في كلّ الأطوار بالطبع يجوز الأطفال في أيّام الصحّة والمرض.. ولكنّنا ننحاز إلى الفكر أنّ الرب لم يمرض، وإن كان في أيّام خدمته لخلاصنا حمل أمراضنا عليه، وحمل تأديب سلامنا، بل وحمل موتَنا على الصليب. فإن كان المرض شيء طبيعي للطبيعة الساقطة التي تحمِل الموت فيها، إذ اجتاز الموت إلى جميع الناس، وهكذا يَظهَر المرض كعلامة من علامات ضدّ الحياة، أي الموت.لذلك نقول إنّ المسيح له المجد في تجسّده اتّحد بطبيعتنا البشرية دون أن يكون عنصر الخطية فيها. فالروح القدس حلّ في أحشاء البتول، قدَّسها وطهَّرها وملأها نعمة. لذلك عَبَر الربّ سنوات الطفولة بكلّ ما فيها، ولكن بدون مرض أو نقص، فهو الكمال المُطلَق الذي لا يشوبه عوار. ولكن كطفل طبيعي سهر عليه القديس يوسف والأم العذراء وقاما بكلّ ما تتطلّبه رعاية الطفولة عاش الصبي يسوع، ونما في النعمة والقامة، وتسلّم مِن القديس يوسف صَنعة النجارة، وصار يمارسها حتّى دُعِي نجّار الناصرة، واشتُهِرَ بها حتى قالوا: «أَلَيْسَ هذَا النَّجَّار ابْنَ يُوسُفَ؟ (لو4: 2، مت13: 55). في البداية كان يساعد القديس يوسف كصبيّ نجار، يحمل الأخشاب ويجهّزها.. ويمسك بطرفها عند نشرها، ويساعد في تثبيتها.. يقضي مُعظم نهاره يراقب ويساعد إلى أن تَسَلّم تفاصيل الصنعة. وتعامَل مع طلبات الناس يلبّيها، ولم يخلُ الأمر من تفاوُت أمزِجة الناس، فمنهم الطيّب المسالِم، ومنهم غير ذلك، ومنهم الأمين الملتزِم، ومنهم على غير ذلك.. ومنهُم مَن يشكر ويمدح العمل، ومنهم غير ذلك ونحن يتملّكنا العجب حينما يذهب بنا الفكر إلى تفاصيل الحياة اليومية آنذاك، ومعاملات الناس على اختلاف أنواعهم، وحين نفكّر أنّ الربّ فاحص القلوب، ومُختبر الكُلَى الذي عيناه تخترقان أستار الظلام.. وكلّ شيء مكشوف وعريان أمامه، حتّى نيّات الناس وخفيّات أسرارهم كانت أمامه. ولكنّه تعامَلَ معهم كمن أخلى ذاته آخذًا شكل العبد «ناظِرٌ كَثِيرًا وَلاَ يُلاَحِظُ. مَفْتُوحُ الأُذُنَيْنِ (العينين) وَلاَ يَسْمَعُ (يبصر)» كما تنبّأ عنه إشعياء (إش42). فنيَّات الناس وأفكار قلوبهم مكشوفة أمامه، ولكنّه كان كمَن لا يَرى ولا يعرف، وذلك بحسب تدبير الإخلاء الذي أكمله بإرادته وحده. قيل عن القديس يوسف البار إنّه كان قد تزوّج في شبابه، وإنّه أنجب أولادًا وبنات، وهُم مَن دُعوا أخوة الرب. وقد أيّد هذا الرأى بعض الآباء الأولين، بينما عارضه آباء آخرون، وقالوا ببتولية القديس يوسف، وفسَّروا أمر أخوة الرب أنّ العادة في تلك الأيام أن يلقَّب أولاد الخالة إنّهم أخوة. وقالوا مثلاً إنه مكتوب: «وَكَانَتْ وَاقِفَاتٍ عِنْدَ صَلِيبِ يَسُوعَ، مريم أُمُّهُ، وَأُخْتُ أُمِّهِ مَرْيَمُ زَوْجَةُ كِلُوبَا أُمُّ يَعْقُوبَ وَيُوسِي» (يو19: 25). فليس من المعقول أن تكون مريم أم يسوع ومريم الأخرى أختَيْن بنفس الاسم، فهما أولاد خالات، ولذلك دُعِيَ أولاد مريم زوجة كلوبا أخوة ليسوع، باعتبار إنّهم أولاد أختَيْن. وقد مالت الكنيسة الكاثوليكيّة إلى هذا الرأي، وهكذا معظم آباء كنيستنا. على أيّ الأحوال، سواء كان ذلك الرأي، أو الرأي الآخر، فالأمر لا يغيّر شيئًا من الرسالة العظمى التي اضطلع بها، والدور المحوري الروحي الذي اختاره الروح القدس لتكميله، والذي بسببه صار للقديس يوسف مَنزلة منفردة لم يشاركه فيها أحد من القديسين، كحارس للسر الإلهي، كمُعتنٍ ومُربٍّ وقائم بالعناية والتربية، وبدور ربّ البيت، كرجلٍ للسيّدة البتول، وكأبٍ للطفل الإلهي. قائمة نسب المسيح: القديس متّى الإنجيلي بدأ إنجيله هكذا: «كِتَابُ مِيلاَدِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ ابْنِ إِبْراهِيمَ». وبدأ يتتبّع التناسل من أب الآبّاء إبراهيم حتّى داود الملك، وقد رصد أنّ هذه الحقبة أربعة عشر جيلاً. ثم من داود إلى أيام سبي بابل أربعة عشر جيلاً، ثم من سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً. وتتبّع القديس متى ما كان مُسَجّلاً من الأسماء واحدًا فواحدًا دون إغفال أيّ اسم مهما كان شأنه، فبعضهم قديسون مشهودٌ لهم من الروح القدس في الأسفار، وبعضهم كانوا غير ذلك. وقد سَجّل بالروح أيضًا بعض التلميحات، مثل يهوذا ولد فارص من ثامار [ثامار كنّته.. أي زوجة ابنه عندما رفض أن يزوّجها لابنه خوفًا عليه من الموت، فتظاهَرَتْ كأنّها زانية، وجلست على الطريق حينما عَبَرَ يهوذا، وزنى معها، وأخذَتْ مِنه رَهنًا، وإذ قِيل أنّ ثامار حامل، قال يهوذا أن تُرجم.. ولكنّها أظهرَت الرّهن، وقالت مِن الرجُل الذي له هذه أنا حُبلَى -الرهن كان خاتمه وعصابته وعكازه-. فقال يهوذا أنتِ أبَرّ مِنِّي]. لم يَعبُر الروح على هذه رغم آلاف السنين!! هكذا عندما سجّل أنّ داود وَلَد سليمان.. قال الروح: «مِنَ الَّتِي لأُورِيَّا».. أي مِن التي ليسَتْ له. على الرغم من التوبة التي قدّمها داود.. وعلى الرغم من ألف سنة مَضَتْ. لكن تَسَجَّلت هذه الواقعة وغيرها في سجلاّت الأبد. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
17 ديسمبر 2021

القديس يوسف البار ج3

في الهيكل ابن 12 سنة «وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ. وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا. وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ. فَقَالَ لَهُمَا: لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟. فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا. ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ» (لو2: 41–52). كُتب كثيرة دخيلة تكلّمت عن طفولة الرب، وأحاطتها بغرائب ومعجزات وأمور فائقة لطبيعة الأطفال حتى في اللعب.. ولكنّ الكنيسة لم تقبلها ورفضتها، لأنّ الإنجيل هنا يتكلّم عن الكلمة المتجسِّد الذي «أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ» (في2: 7، 8). فهو طفل في وسط الأطفال، وهو غير منعزل ولا مُختلِف.. مع أطفال الأقارب والمعارف رفيقًا لهم ومعهم. الشيء الوحيد الذي يجب الانتباه إليه هو خلُوّ حياة القدوس من عنصر واحد وهو الخطية.. لأنّ الوحي الإلهي يؤكّد هذا قائلاً: «فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلاَ خَطِيَّةٍ» (عب4: 15). وكما نقول في القداس الغريغوري: «وشابهتنا (اشتركتَ معنا) في كلّ شيء ما خلا الخطيّة وحدها». على ذلك كانت سنوّ الطفولة والصِّبا والشباب حياة بشرية كاملة طبيعيّة في كلّ شيء تتّصف بالكمال المطلق اللائق بربّنا القدوس «الَّذِي لَمْ يَفْعَلْ خَطِيَّةً، وَلاَ وُجِدَ فِي فَمِهِ مَكْرٌ (غش)» (1بط2: 22). هكذا خَلَتْ طفولة الربّ وصِباه من نقص الطفولة، وظواهر الطبيعة الساقطة، التي تُلاحَظ في الأطفال، من الأنانية والغضب والصياح والشراسة أحيانًا.. وما إلى ذلك. فهو بطفولته قدّس قامة الطفولة في ذاته، وأظهرها جديدة كلّ الجِدّة إذ كان هو الجمال المطلَق، الذي على صورته كان مُزمِعًا أن يخلق إنساننا الجديد. وهكذا أيضًا خَلَتْ حياة الرب من نَزَق الصِّبا وحركاته وميوعته، وكلّ ما يخصّ هذه المرحلة من العمر أدخَلها أيضًا إلى الكمال والانضباط، كنموذج إلهي لفترة من العمر يفتقِر فيها الإنسان إلى الاتزان ورجاحة العقل وضبط اللسان وباقي أنماط السلوك. هذا الأمر يجب أن يكون واضحًا للذين يقتربون بالفكر أو التأمل في طفولة الرب أو مراحل نموّه فهو كما قال الكتاب: «كَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ» (لو2: 52). أليس هو الكلمة الذاتي الواحد مع الآب في الربوبيّة. ولكن لمّا اتّخذ له جسدًا كان كطفلٍ كامل وصبيّ كامل وإله كامل في ذات الوقت، لأنّ اتّحاد لاهوته بناسوته هو اتحاد بغير افتراق.. ولكنّ أَمرَ نموِه بقدر الحكمة التي تَظهر للناس، كان بتدبيره الخاص الذي لا يُمكِن إدراكه أو الاقتراب إلى كَنَهِ طبيعته.. لأنّ أفكار الله وطرقه تعلو عن أفكار البشر كعلوّ السماء عن الأرض. لقد ظلّ القديس يوسف والعذراء الطاهرة يبحثان عن يسوع بعد ما رجعا إلى أورشليم ثلاثة أيّام، وبحسب تعبير القديسة الأم «كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!». في يقيني أنّ الخليقة بجملتها من ملائكة وبشر لم تتعرف على الله أو تدركه كما أدركته القديسة العذراء مريم. لأنّ التجسُّد الإلهي خصّها بملء النعمة، وحلول الله فيها وسُكناه في أحشائها تسعة أشهر كاملة. بل وأرضعته من ثديها الطاهر، ونما ناسوته بعد أن وُلد من لبنها، فهي إذن تعرفه معرفة الأم فهو ابنها وإلهها، وهذه معرفة تفرّدت بها، وصارت قاصِرة عليها لا يشاركها فيها ملائكة ولا بشر. ولكن رغم كلّ هذا فعاطفة الأم في القديسة غالبة.. فهى تقول: «كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ!». هكذا نطقت بصدق مشاعر الأمومة. وهذا يُلقي ضوءًا على حقيقة العلاقة الفائقة التي ربطت الأم القديسة بابنها الإلهي. وقد بدا من كلام العذراء القديسة أيّ توقير تقدّمه للقديس يوسف البار حينما قالت: «أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ». وقد قدّمت القديس يوسف على نفسها، مع العلم أنّها ارتفعَتْ أعلى من السموات وصارت أرقى من السيرافيم. وأنا أتعجب من صمت البار يوسف الذي يرفع مكانته ويُعلي قدره جدًا. + قال الرب لأمه: «لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟». تقول له مجازًا "أبوك" وهو فى واقع الأمر واقف في بيت أبيه. لماذا كنتما تطلباني؟ سؤال الرب هنا تجاوَزَ الواقع المنظور، وهما، وبالأكثر القديسة مدرِكة كلّ الإدراك رسالته وارساليته وتدبيره الذي وُلد لأجله. ولكن نعود للمشاعر البشرية الصادقة التي عاشوها، وهي التي سادت خلال ثلاثة أيام البحث التي أرهقَت شعورهم الطبيعي. هنا رد المسيح ابن الاثنتي عشرة سنة على كلمة العذراء «أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ». في الواقع هو تصحيح سِرِّي لمقولة العذراء إذ كان هو في (بيت أبي) وهو كائن فيما لأبيه فكأنّه يقول لها: تقولين أبي كان يبحث عنِّي، هذا جيد ولكنّ الحقيقة إنّني في بيت أبي، وأبي فيَّ وأنا كائن مع الآب كلّ حين، وها أنا في بيت أبي الذي جعله اليهود مغارة لصوص، «يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي». وقول الرب: «أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي». في الواقع يَرُدّ الشعور البشري وعاطفة الأمومة إلى الهدف الأسمى الذي لم يَغِب لحظةً عن حياة الرب بالجسد، رغم حداثة السنّ، ولكن مجد الآب وتكريمه وطاعته كانت هي بدء وغاية التجسّد. حتى في نهاية أيام الخدمة قال للآب: «أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ... أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ» (يو17: 4، 6). ومنذ البدء شهد الآب من السماء قائلاً: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (مت3: 17). + يقول الوحي: «فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا» (لو2: 50). ثم يعود فيقول: «أَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا» (لو2: 51). ربما اختلط الأمر في كلام الرب، وعسر فهمه على القديس يوسف، فقيل إنّهما لم يفهما. ولكن عاد الروح فخَصّ العذراء بحِفظ الأمر في القلب كأسرار الله التي لايدركها أحدٌ غيرها. ولم يكن مُمكِنًا في سياق الحديث أن يُفَرِّق بين يوسف والعذراء فجمعهما في كلمة أنّهما لم يفهما.. إذن من غير المعقول أن يُنسَب عدم الفهم إلى القديس يوسف وحده. + ثم أنّ الرب بعد أن كشف كَنَه عمله الإلهي ورسالته، ذهب معهما إلى الناصرة «وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا».. ومَن يُطيق مثل هذه الكلمة.. فهو الذي تَخضَع وتسجُد له كلّ ركبة ما في السماء وما على الأرض. ولكن هذا هو الإخلاء الذي صنعه الرب لأجل خلاصنا. السير بحسب التدبير: منذ اللحظة التي ظهر فيها الملاك للقديس يوسف ليخبره عن سِرّ الحَبَل الإلهي.. نقول منذ تلك اللحظة صار القديس يوسف في تحرّكاته خاضعًا لتوجيهات السماء.. يسمعها ويتبعها بطاعة وخضوع وبساطة شديدة. وكان الروح يقود خطواته في الخِطّة الإلهيّة لخلاص العالم. ولم يكُن مُعاندًا للرؤيا السماويّة كقول بولس الرسول، بل قد انحاز بكلّ كيانه خادمًا للسرّ الأقدس. فتدبير الهروب إلى مصر مَثَلاً، كان ممكنًا إذا فَكَّرَ بفكره الخاصّ أن يسأل.. لماذا مصر؟ وإن كان ثمّة هروب من وجه هيرودس فالأماكن كثيرة وقريبة. شيء مثل هذا لم يخطر على بال القديس يوسف.. بل في الحال قام وأخذ الصبي وأمّه وجاء إلى أرض مصر. فتحملا مشاق الطريق وبُعد المسافات.. وهكذا إذ أتى إلى أرض مصر مُكمِّلاً النبوّات، وتنقّل فيها من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها. لقد بدا كآلة طيِّعة في يد الروح يحرّكها كما يشاء وحيثما يشاء وأينما يشاء. (يُتَّبَع) المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
10 ديسمبر 2021

القديس يوسف البار ج2

لمّا صدر أمر الامبراطور بالاكتتاب، وأنّ كلّ واحد يُكتَتَب في مدينته، كان لابد للقديس يوسف والعذراء المباركة أن يذهبا إلى مسقط رأسيهما، إلى بيت لحم مدينة الملك داود. وسلوك الأبرار من جهة خضوعهم للملوك والرؤساء والقوانين والتنظيمات وكلّ ترتيب بشري.. معروف منذ القِدَم، هو روح الله الذي يقود خطواتهم لكي يقضوا أيام غربتهم في السلام الكامل. ورغم أنّها كانت الأيام الأخيرة لحَمْل العذراء.. لم يكن هذا عذر يمنعهم عن تكميل الأمر. كان على القديس يوسف أن يصطحب العذراء، وبحسب الامكانيات القليلة كفقراء، أن يهيّئ لها -على قدر الإمكان- أسباب الراحة في السَّفَر.. وإن بدا الأمر يسيرًا ظاهريًّا بحسب الظروف المُحيطة، ولكنّ الحقيقة أنّ التدبير الإلهي من جهة دخول ابن الله الظاهر في الجسد إلى العالم، كان معروفًا سابقًا بكلّ تفاصيله قبل كون العالم. فلم يكن شيء خاضعًا للصدفة أو للظروف.. بل كان الكلّ مُهيًّأ زمانًا ومكانًا وكيفيّةً بكلّ إتقانِ التدبير الإلهي. كما ذَكَرَ الوحي أنّهما حال وصولهما إلى بيت لحم، كانت الساعة التي كان الرب مُزمِعًا أن يدخل عالم الإنسان مُتجسّدًا قد حلّتْ. وكانت القرية بسبب الاكتتاب قد ازدحمت بالوافدين إليها من كلّ مكان. ولم يكن للرب مكان في المنزل فاستضافه عالَم الحيوان، ليولد بحسب التدبير في المذود.. كحَمَل الله الذي يحمل خطيّة العالم. وليس جُزافًا أن يقول الوحي إنّ العذراء ولدته وقمّطته بيديها الطاهرتين وأضجعته فى المذود. وهذا معناه أنّه لم يكن معها في تلك الساعة أحدٌ قَطّ. لأنّ المعروف أنّ في ساعة الولادة يجتمع الأهل الأقربون حول الوالدة يساعدون ويساندون ويعتنون بالمولود. ولكنّ العذراء وَلدَتْ وبقيَتْ عذراء، وليس مَن يطَّلِع على هذا السرّ الأعظم لا البشر ولا الملائكة. وفي لحظة ولادة ابن الله المتجسّد انفتحت السماوات.. وُلد ملك الملوك ورب الأرباب.. ألاّ تتهلّل الملائكة.. نقول الخليقة كلّها تهلّلت بمجيئك. كان العالم لاهيًا في ليلٍ، أمّا الملائكة فقد كان مَنوطًا بهم أن يُبشِّروا مَن يجدونه ساهرًا. سبَّحوه ويسبحونه على الدوام بلا فتور أو سكوت، ولكن صار الآن وجودهم منظورًا، وتسبيحهم مسموعًا، لأنّ ابن الله طأطأ السموات ونزل. ولمّا جاء الرعاة، تقودهم قوّات عُليا وإلهام سماوي، لينظروا طفل المذود العجيب، رأوا الذي كان منذ البدء، الذي دخل العالم، وكُوِّن به العالم، والعالم لم يعرفه. كانت أمّه والقديس يوسف يسمعان ما وصفه الرعاة البسطاء عن منظر الملائكة وتسبيحهم، ولم يكن هذا بحال من الأحوال جديدًا على مَسمَع العذراء القديسة، لأنّ الشاروبيم والسيرافيم كانوا منذ اللحظة الأولى للتجسّد يظللون عليها يسبّحون خالقهم في بطنها. فقد ألِفَتْ أذنها الطاهرة سماع ما لا يمكن أن يدركه بشر من أصوات السمائيين ومجد السموات العليّ. محطّات ذَكَرَها الإنجيل.. اليوم الثامن يوم الختان، يوم دخول الهيكل بعد أربعين يومًا. كان للقديس يوسف بحسب وضعه الظاهر كأب للطفل أن يكون حاضرًا، فهو الذي يسمِّي الطفل، وهو الذي يذهب به إلى الهيكل، ويقدم ذبيحة التطهير، يشتريها أو تُعطَى له مجّانًا إذا لم تكُن تمتلك يداه. كلّ هذا والقديس بوعي كامل وإدراك كلّي يعلم أنّه يُمثِّل دور الأب دون أن يكون، والزوج دون أن يعرفها. والمسئول وهو يَعلَم تمامًا المظلّة الإلهيّة التي تَحُوط السرّ بالقوّات غير المرئية. ثُمّ الهروب إلى مصر.. صار يوسف البارّ في صُلب الخِطّة كجزء رئيسي لتكميل القصد الإلهي، وصار يتحرّك بإلهام بحسب ما يُعلَن له بالرؤيا الإلهية.. «قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ وَأُمَّهُ وَاهْرُبْ إِلَى مِصْرَ» (مت2: 13). فقام وجهّز كلّ ما يلزم لسفرٍ طويل مملوء بالأخطار، لأنّهم لأيامٍ وشهور بلا زاد وبلا مأوى. ولكن كما قلنا إنّه بالإيمان بما رأى وسمع وشاهد واختبر لم يعد يُقِيم لتلك الأمور وَزنًا. شَدّ الرِّحال وسار قاصدًا مصر. وقِصص التقليد كثيرة والأماكن متعدّدة.. تَنَقّل في مصر هو وعائلته بحسب الإلهام، وأقام الربّ مَذبحًا في وسط أرض مصر، وأسّس كنيسته وبارك مصر أرضًا وشعبًا. ثم أُوحِيَ ليوسف أن يرجع إلى اليهودية.. وسَكَنَ هناك في ناصرة الجليل لكي يتمّ ما كُتب عن يسوع: «إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيًّا» (لو2: 23). وهو لقب لا للتكريم والتبجيل بل للاحتقار، لأنّ الجليل هو أحقر ما في بلاد اليهود في تلك الأيام. ولم يَقُم ولا نبيّ واحد في تاريخ إسرائيل من الجليل. وكان من المتعارَف عليه أن لا يَخرج من الجليل (الناصرة) شيء فيه صلاح. ولكن كان الرب مُزمعًا أن يُخرج من الجافي حلاوة الملكوت، ومن مكان الحقارة صارت كرامة رسل المسيح، وأغلبهم من الجليل.هكذا استقرت العائلة المقدسة في الناصرة. وكان يوسف بحسب صناعته نجّارًا. ويقول التقليد إنّ الرب عاش في الناصرة بعد رجوعه من أرض مصر إلى سنّ الثلاثين عامًا، لمّا بدأ خِدمة الخلاص علانيةً بعماده من يوحنا المعمدان. ويقول التقليد أيضًا إنّ يوسف البارّ انضمّ إلى آبائه، ورقد وكان الرب في عُمْر 16 أو 17 سنة على الأكثر. والذي يَذكُرُه الإنجيل عن هذه الفترة شيء قليل، فغاية الإنجيل هو الصليب والقيامة. لقد أخبرنا الوحي عن أعمال الخلاص التي عملها الرب كارزًا وشافيًا للأمراض، ومُخرِجًا للشياطين ومُقيمًا للموتى ومُفَتِّحًا أعين العميان، ومُعافيًا كلّ الذين تسلّط عليهم إبليس. ولما اقترب إلى الصليب صار التركيز على كلّ ساعة وكلّ حدث ذي معنى لخلاص البشرية.فإن كان الوحي قد عَبَرَ على السنوات الأولى الثلاثين عبورًا سريعًا، لأنّ الربّ فيها شاء أن يعيش الإخلاء بكامل معناه. (يُتّبَع) المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
03 ديسمبر 2021

القديس يوسف البار ج1

الروح القدس هو الذي أعطى القديس يوسف لقب البار، هكذا وصفه الإنجيلي مار متّى في بشارته «لمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا» (مت1: 18، 19). يقول الإنجيلي مار متّى عن العذراء القديسة إنّها «وُجِدَتْ حُبْلَى»، أي ظهرَتْ عليها ملامح الحمل لدى الذين يرونها من الأهل أو الجيران. فمن جهة هؤلاء فمعروف أنّها مخطوبة ليوسف، وهي مُقيمة معه، فلا غرابة إن وُجدت حُبلى، حتى وإن تكن مراسم الزواج من كُتُبِ ورقِ الزواج بشهود من العائلة وحضور الأهل والأقارب، وتسجيل الزواج في سجّلات المَجمَع، وعمل حفل العُرس وما إلى ذلك.. لم يكن شيء من ذلك قد حدث. ولكن من جهة أخرى فإنّ التقليد يقول أنّ العذراء دخلَتْ إلى الهيكل في سن الثلاث سنوات وبقيَتْ إلى سنّ اثنتي عشرة سنة، إذ كان يواقيم أبوها وحَنّة أمها قد رقدا وهي بعد صغيرة. فكان لابد فى حال خروجها من الهيكل أن تصير لأقرب وليّ من سبطها. ولما وقعت القرعة على يوسف أخذ العذراء القديسة إلى خاصته، واعتُبِرت أنّها مخطوبة له إلى أن تكمل مراسم الزواج.. هكذا كانت العادات في تلك الأيام. «لَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا» (مت1: 19) + لما كشف الروح القدس في الإنجيل عمّا دار في ذِهن يوسف النجّار عندما رأى علامات الحَمْل على العذراء الطاهرة.. واضحٌ أنّه لم يفاتح العذراء القديسة في ذلك الأمر، لا عاتبها ولا لامها.. بل تفكّر في نفسِهِ كيف يتصرّف. وهنا ومن مُنطَلَق هذا التفكير ممكن أن نستدل على مدى النُّبل في الأخلاق والسموّ في الروح. كان للناموس حُكم واضح من جهة هذا الأمر. وكان ما أسهل أن ينحاز ذهنه إلى الناموس، وهذا ليس فيه عيبٌ ولا ملامة. ولكنه تجاوز أوامر الناموس التي تقضي برجم مَن ترتكب هذا الأمر.. يشهد عليها شهود في حالةِ إن أُمسكت في ذات الفعل، أو تكون علامات الحَمل أكبر دليل لا يحتاج الأمر معه إلى شهود. ولكن على عكس ذلك جاء تفكير القديس يوسف البار. + لم يُرِد أن يُشهِرها.. إن أُخذ الأمر بحسب الظواهر فإنّ هذا يكون عارًا على القديس يوسف نفسه، وكم ينشئ هذا الأمر من الغيظ ومن الغضب، بل ومن الانتقام وحتى القتل. ألا يصير هذا الأمر – لو كان صحيحًا – خيانةً ووصمة عار؟ ولكنّ نفسَه البارّة كانت أعلى قدرًا وأسمى شأنًا. لقد تجاوز وارتفع فوق المشاعر الطبيعيّة والأعراف البشريّة، وفي كرمٍ بالغ ونبل فائق لم يُرِد أن يشهرها. وجد في نفسه مَيلاً قويًّا وشعورًا عميقًا أن لا يُعرِّض العذراء لأيّ مكروه مهما بلغ الأمر. إنّه هو نفسه لم يفاتحها في الأمر، وإن كان قد بلغ به الاضطراب أيّ مبلغ. لقد فوجئ بالأمر فأذهله، وما رأته عيناه أبعد عن التصديق. منذ أن استلم العذراء وهي طِفلة ذات اثني عشر ربيعًا إلى هذا اليوم.. لم يرَها إلاّ ملاكًا بل أفضل من ملاك، ولم يلاحظها إلا مُشرقة كالصباح، جميلة كالقمر من كثرة الصلاة والتأمل. لقد فارقت الهيكل، ولكن رآها يوسف في تلك الفترة من الزمن كأنّها لم تترك الهيكل ولا فارقته.. بل رآها كأقدس من الهيكل وأطهر من الطُّهر ذاته. فكيف إذن، فماذا حدث؟ إنّها لم تفارق البيت ولا خلطةَ لها مع الناس؟ إنّ ما يراه الآن من علامات الحَمْل، وقد لاحظه ربّما بعد ثلاثة أو أربعة أشهر من زيارة رئيس الملائكة جبرائيل، التي احتفظت بها العذراء كَسِرّ إلهيّ ولم تُطلِع عليه أقرب الأقربين. نعم لقد ذهبت لمدة ثلاثة شهور لزيارة زكريا الكاهن وزوجته أليصابات. وهذه الزيارة كانت مقدسة من كلّ جانب، فهي مَضَت تخدم وتعضد امرأة متقدّمة في أيامها، وزوجها شيخ وقور لفَّهُ الصمت وعدم الكلام. لقد بَدَت الحيرة ودارت الأسئلة التي ليس لها جواب في رأس القديس يوسف. سؤال وألف سؤال، وليس من جواب شافٍ، أو سبب واضح يُريح الفكر. ولكن أيّ عقل هذا، الذي فيما هو مفتكر بهذا، لم يُرِد أن يُشهِرَها؟ كيف ارتاح لهذا الفكر النبيل في وسط عاصفة الأفكار الأخرى؟! لقد كشف هذا عن هذه الروح العالية، والشهامة الفائقة لهذا الرجل البار. أمّا أنّه أراد تخليتها سِرًّا، فهذا أمرٌ فاق قِمّة أخلاق البشر.. أراد أن يُخلِي سبيلها، ويُطلِقها سِرًّا بلا ضجّة وبلا معرفة للناس. تُرى ماذا جال في خاطر هذا البار؟ لماذا سِرًّا.. هل خَوفًا على شعورها.. إنّه لغزٌ ليس له حلّ؟ كيف هداه الفكر إلى السّتر وعدم الفضيحة، أو إلى عدم الإساءة والإيذاء..؟! لقد كانت الجوهرة الغالية الثمن، فإن لم يكن يعرِف سِرّها، وإن يكُن الفكر يلحّ عليه ويعذّبه، فَكّر أن يدَعَها تذهب، ولكن في سلام وفي عدم جَلَبَة. لقد كشف هذا الفكر الفاضل عن قلب رجل فائض بالسلام، جزيل الحبّ والغفران. والعجيب أنّه لم يكُن في عَجَلَةٍ من أمرِه، ولا تَصَرّف تصرُّف الطّياشة والتسرع، ولا تهوَّرَ في إصدار الأحكام، أو دفعَهُ الشعور القاسي بسبب ما رآه إلى ارتكاب جهالة أو فِعل لا يليق. بل بالعكس صار متفكِّرًا متأنّيًا، وبالتأكيد مُصلّيًا طالبًا أن يكشف له الرب سِرًّا عَصَى عليه إدراكه. ربّما أخذ هذا الأمر مِنه أيّامًا.. طار منه النوم وصار في يقظة العقل والروح معًا. على أنّ الربّ لا يترك صفيّه نَهبًا للأفكار، لئلاّ يستثمر عدو الخير هذه الظروف، ويعمل عمله المُشين فيُسيء للأمر كلّه. «إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً: يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (مت1: 20). لم يَقُل الكتاب مَنْ مِنَ الملائكة أرسله الربّ إلى القديس يوسف. ولكن غالب الظن أن يكون رئيس الملائكة جبرائيل؛ إذ كان هو الموكّل بالبشارة المفرحة، حين انفتحت السموات بعد مئات السنين من الجفاف وانعِدام الرؤيا. وليس عَجَبًا أن يخاطب الملاك القديس يوسف داعيًا إيّاه ابن داود، حقًّا إنّ يوسف ينتسِب لداود بحسب النسل الجسدي. ولكن ذِكْر داود هنا يُسلِّط الضوء الإلهي على قيام مملكة داود حسب المكتوب، فالذي في بطن العذراء هو الملك ابن داود بحسب الجسد، الكائن على الكل إلهًا مباركًا، وهو الذي لا يكون لمُلكِهِ انقضاء. فطوبى ليوسف ابن داود إذ بلغ إليه زمن الخلاص ووصل إليه ملكوت الله.. بل طوباه لأنّه صار مُشارِكًا بالفِعل في استعلان الملكوت، وصار صاحب الاسم الحسن "ابن داود". قال الملاك رَدًّا على ما كان يوسف يتفكّر فيه: «لاَ تَخَفْ يَا يُوسُفُ».. وقول الملاك هنا كان مصحوبًا بقوّة إلهية، طردَتْ الخوف والجزع، وطردت الحيرة والارتباك. فحين يُعطي الملاك السلام فهو قوّة لا كلام، وحين يقول لا تخف يكون الخوف قد ولّى وهرب. «لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ».. فهي على ما عهدتَها من الطُّهر والنقاء. بل زادت بحلول الكلمة في أحشائها على نقاء السماء، وارتفعَتْ أعلى من الشاروبيم. كشف رئيس الملائكة ليوسف البار كَنَهَ السّرّ الأقدس من جهة ما رآه يوسف ظاهرًا. إنّ الحَبَل المقدّس هو من الروح القدس، فالجنين في بطنها هو من الروح القدس ومن العذراء، هو الكلمة صار جسدًا «فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ». فيوسف ظاهريًّا دُعِيَ أبًا ليسوع وهو المَنُوط أن يسمّيه، كما هو العُرف المألوف أنّ والد الطفل يسمّيه. لقد صار ليوسف هذا الشرف العظيم، فهو أوّل مَن نادى الاسم المبارك، اسم الخلاص. لقد أَطلَعَ الملاك القديس يوسف البار على كلّ تدبير التجسُّد الإلهي، وعمَل المسيح الخلاصي وغُفران الخطايا، كلّ هذا في كلماتٍ بسيطة قليلة. وهكذا خضعَتْ نفسُ البار لتدبير الرب الإله، كخضوع القديسة والدة الإله لمّا بشّرها الملاك، واستوضَحَتْ مِنه على قدرِ الإمكان «كَيْفَ يَكُونُ هذَا؟». فلما استوثقَتْ أنّ التدبير الإلهي حاصلٌ، أحنَتْ رأسها مُذعِنَةً في التسليم الكامل بقولها: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». في تسليمٍ كامل سكنَتْ أمواج الأفكار وصارت سفينة القديس يوسف في السلام الكامل، بل قُلْ لقد حلّت السماء في بيته وفي قلبه في آنٍ واحد. تحوّل البيت الصغير الذي احتوى غير المُحوَى إلى سماوات العَلِيّ، وسَمعتْ أذان الروح تسبيحات الشاروبيم. وهكذا صارت بقيّة شهور الحَمْل الإلهي تكتنفها الأسرار التي لا يمكن وصفها. فالأمر يفوق فَهْمَ الملائكة الذين في السموات، فكَم بالحريّ الإنسان؟! ولكننا ننحاز إلى أنّ بساطة الفكر ونقاء الإيمان يجعل الأمر بعيدًا عن ارتباك العقل، إذ أنّ أمور الله يستوعبها البسطاء بدون فحص العقل، الذي في معظم الأحيان يصير مُعطِّلاً ومُفسِدًا لبساطة الإيمان. وهذا يجعلنا نرى أنّ القديس يوسف البار استوعَبَ ببساطة الإيمان ما بشّره به الملاك في الرؤيا. وهكذا صار في روح التصديق والفرح واستقبال الحدث الأجَلَّ بنفسٍ تغمرها أنوار الميلاد العجيب. (يُتّبَع) المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
27 نوفمبر 2021

النساء والزينة

«لاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ الزِّينَةَ الْخَارِجِيَّةَ، مِنْ ضَفْرِ الشَّعْرِ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبْسِ الثِّيَابِ، بَلْ إِنْسَانَ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ فِي الْعَدِيمَةِ الْفَسَادِ، زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ، الَّذِي هُوَ قُدَّامَ اللهِ كَثِيرُ الثَّمَنِ. فَإِنَّهُ هكَذَا كَانَتْ قَدِيمًا النِّسَاءُ الْقِدِّيسَاتُ أَيْضًا الْمُتَوَكِّلاَتُ عَلَى اللهِ، يُزَيِّنَّ أَنْفُسَهُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِهِنَّ، كَمَا كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ دَاعِيَةً إِيَّاهُ سَيِّدَهَا. الَّتِي صِرْتُنَّ أَوْلاَدَهَا، صَانِعَاتٍ خَيْرًا، وَغَيْرَ خَائِفَاتٍ خَوْفًا الْبَتَّةَ» (1بط3: 3–6). في صميم الخِلقة، تميل النساء، إلى التزيُّن وإلى الظهور بمظهر الجَمال.. هذه طبيعة وهي رأس زاوية تقف عند مفارق الطرق في تدبير الحياة.. فلا يمكن بصورة من الصور أن تُغيَّر الطبيعة!! ولكن إن انحازت النفس إلى العالم فجرفها في تيّاراته، فإنّ المظهَر يصير كلّ رأس مالها.. وتبتدئ الزينة الخارجيّة تملك على الكيان.. وعندئذ تتبارَى مَلَكات الإنسان وامكانياته تخدم الخارج والجسدانيّات.. فتُكرِّس كلّ الطاقات الماديّة والفِكرية والعِلميّة لفنون الجسد وزينة الخارج، الذي يَبلَى يومًا ولا بديل. ومُجرَّد نظرة بسيطة إلى ما هو موجود في عالَم الموضات، مِن اللبس والحُليّ والماكياچ والعطور وتصفيف الشعر.. شيء رهيب حقًّا لا يقع تحت حَصر.. تيّار جارف وأمواج مُزبِدة تجرِف الملايين بل ومئات الملايين. ولا يستطيع أحد أن يقف في وجه تلك التيّارات المخيفة، فأقلّ ما يَصفه به العالم هو الجنون وعدم الواقعيّة وأنّه يحيا في الوهم والخيال. بينما أولاد الله إذ قد اكتشفوا زوال أباطيل هذا العالم الخدَّاع، واستنارت بصيرتهم فأدركوا السماويات، صرفوا العمر كلّه يعتنون بالداخل ومجد الداخل، كمثل العذراء القديسة التي قيل عنها «كُلُّ مَجْد ابْنَةِ الملِكِ مِنْ داخِل. مشْتمِلةٌ بأطرافٍ مُوَشّاةٍ بالذَّهَبِ، مُزَيَّنَةٍ بأشْكالٍ كَثيرةٍ» (مز44 الأجبية).. مجد لا يوصَف.. ولا يعرفه العالم. قُلْ أنّ الاهتمام الزائد بالزينة الخارجية هو تغطية لعوار الداخل الذي تشمئزّ منه النفس. ألَمْ يكن هذا حال الفرّيسيين الذين قال لهم الرب: «تُشْبِهُونَ قُبُورًا مُبَيَّضَةً تَظْهَرُ مِنْ خَارِجٍ جَمِيلَةً، وَهِيَ مِنْ دَاخِل مَمْلُوءَةٌ عِظَامَ أَمْوَاتٍ وَكُلَّ نَجَاسَةٍ (نتانة)» (مت23: 27). فالنزوع إلى التزيّن الخارجي والانحصار فيه، يعني عدم الالتفات للداخل، بل وإهماله، بل وفي أحيان كثيرة هو محاولة للتغطيّة لِما قد يُخجَل منه إذا انكشف. لذلك جاءت الوصيّة صريحة للنساء القدّيسات «لاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ هى الزِّينَةَ الْخَارِجِيَّةَ... بَلْ إِنْسَانَ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ فِي الْعَدِيمَةِ الْفَسَادِ، زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ». الزينة المختفية بالروح.. في القلب الخفي عن عيون الناس، ولكن مستعلَنَة لدى الله، في الإنسان العديم الفساد، لأنّ كلّ ما هو خارجي يفسد، لأنّ إنساننا الخارج يفنى ولا محالة!! زينة الروح الوديع.. وإن فطنت إلى هذه الفضيلة النادرة والغالية جدًّا، ليس قدّام الناس بل هي قدّام الله كثيرة الثمن.. فكم بالحري لدى الناس؟ قَلَّ أنْ تجد امرأة تتحلّى بالوداعة والهدوء الروحي.. فإن وجدتَها فثمنها يفوق اللآلئ، لأنّها مُشتَرَاه بدم زكي كريم ومُقدَّسة فيه!! أمّا الصفة الثانية وهي الاتكال على الله، فهي رصيد الزوجة المسيحيّة.. عليها يؤسَّس استقرار البيت، فهي لا تتّكل على أشياء ومقتنيات، ولا على ذراع البشر، بل على الله الحيّ.. تتّكل عليه مِن كلّ قلبها، وتسوس بيتها، وتشيع في أولادها عدم الخوف وعدم القلق وعدم الاضطراب، بإيمانها واتكالها على الله.. تُطَيِّب قلب زوجها وتُطَمئنه.. فهي لا تُرهِقه بكثرة المطالب في العالميات، ولا تدفعه إلى الأطماع لتلبية رغباتها، بل اتكالها على الله هو كفايتها وكنزها. «يُزَيِّنَّ أَنْفُسَهُنَّ بزِينَةَ الرُّوحِ ولباس الحشمة خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِهِنَّ» أمّا مِن جهة لباس الحشمة، فهذا يأتي من الإدراك الروحي، فالإنسان الروحي «يَحْكُمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ لاَيُحْكَمُ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ» (1كو2: 15). فلا يوجد زِيّ يُقَال له الزِيّ المسيحي.. ولكن تُدرِك المرأة المسيحيّة بروحها، وتُمَيِّز بين ما يليق وما لا يليق، وما يوافق ومالا يوافق، بحسب ما هو مكتوب «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوَافِقُ» (1كو10: 23). + والإدراك الروحي والحياة في المسيح، يجعَل الإنسان يحرِص على نقاوة قلبه وطهارة جسده، عالِمًا أنّ الجسد هو هيكل الروح القدس الساكن فينا «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟» (1كو3: 16). وأيضًا يقول: «مَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ للهِ» (1كو6: 20). فنحن أعضاء جسد المسيح وأعضاؤنا أعضاء جسده. لذلك لباس الحشمة يليق بمن أدركوا أنّ أجسادهم مِلكٌ للذي اشتراهم. فالخلاعة من أي نوع أو التشبُّه بأهل العالم، هي مجاراة للمجتمع لا تليق بأولاد الله. في تاريخ المسيحيّين الأوائل، لما ألقوا إحدى الشابات في ساحة، لثور وحشي، بسبب إيمانها بالمسيح، ومزّقها الثور بقرونه، كانت تلملم ثيابها لتستر نفسها غير عابئة بالموت، لأنّ عفّتها ومحبّها للقداسة كانت أغلى من الحياة (الشهيدة بِربِتوا). والقصص كثيرة جدًّا التي تؤكِّد أنّ المسيحيّات منذ الأيام الأولى كُنّ مِثالاً لقداسة السيرة والمظهر الذي يليق بأولاد الله. والشهيدات العفيفات: دميانة وبربارة ويوليانا صِرنَ نموذجًا لملايين، تَبعْنَ سيرتهن الطاهرة وتمثّلنَ بهنّ. في ستينيّات القرن الماضي ورَدَتْ إلى مصر موضة من أوربّا، هي لِبس الملابس القصيرة، وتأثّر بها معظم سيّدات وفتيات مصر.. وفي يوم أحد أثناء القداس، في كنيستنا في سبورتنج بالاسكندرية، دخلت إحدى السيّدات الشابّات بفستان قصير جدًّا بشكل لا يليق، وصار اشمئزازٌ من كثيرين.. وكان من عادتنا، أنّنا في نهاية القداس بعد انصراف الشعب، نقف على باب الكنيسة، لنسلّم على كلّ الشعب. (كانت أيّام جميلة محفورة في ذاكرتي..) كان يومها أبونا بيشوي هو الذي يُصلّي القدّاس، وفيما هو يُسَلِّم على الشعب لفَتَ نظره هذه الأخت، ولم يكُن يعرِفها.. سلّم عليها بمَوَدّة وسألها أين تسكن؟ وفي ذات اليوم زار أبونا منزلها هي وزوجها، وكان لها بنتان صغيرتان.. صلّى معهم وكلّمهم بكلمات النعمة، فدخلت إلى أعماق قلوبهم. بعد ذلك بوقت قصير، كانت الحياة قد تغيّرت، وأصرّت هذه الأخت أن تحرق هذه الملابس غير اللائقة. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
20 نوفمبر 2021

إنجيل المرأة الخاطئة

رُبَّ سائل: ألم يوجد في المدينة خُطاة غير هذه المرأة؟ لأنّ الكتاب يقول: «امْرَأَةٌ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً» (لو7: 36-50). الواقع أنّ الخُطاة في تلك المدينة أو غيرها من المدن لا يمكن حصرهم لأنّه «أَغْلَقَ عَلَى الْكُلِّ تَحْتَ الْخَطِيَّةِ... أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ» (غل3: 22، رو3: 10). بل أنّ العكس هو الصحيح إن وجد أبرار في مدينة فهُم الأقليّة المعدودة. ولكن مَن حرّك قلب هذه المرأة الخاطئة للتوبة؟ والجواب: أنّ التحريض على التوبة، وتحريك الضمير لترك حياة الخطيّة، هو من الله «الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ» (1تي2: 4)، وهو مخلّص البشر. إذن هل اختار الرب هذه المرأة ليخصّها بهذه النعمة، إذ يحرك ضميرها ويثقّله من جهة حياة النجاسة والفجور؟ وهل إليها وحدها بلغ هذا الصوت الإلهي؟ ولماذا؟ والواقع أنّ رسالة الله ودعوته هي للجميع بلا تمييز ولا تفريق. ولكنّنا نَخلُص إلى القول أنّ وراء هذه المرأة الخاطئة سِرّ.. هو سرّ القبول، وسرّ الاستجابة.. إذ سمعَتْ الصوت داخلها يحرّك قلبها ويوخز ضميرها.. فلبّت للحال صوت الداعي، واستجابت له بكلّ مشاعرها، وتحرّكت لفورها بخضوع عملي لتلبِّي متطلّبات الحركة الإلهيّة داخل القلب. وكم من مرّات لا تقع تحت حصر يصير هذا الصوت، ينادي في قفار الأرض وجَدْب العالم المُظلم «تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ» (مت4: 17). ويختلف الناس اختلافًا بَيِّنًا من جهة الاستجابة والتجاوب. فمِن سامع سريع الانفعال ثمّ في لحظة يخبو الصوت ويتلاشى، ومِن مستهتر لا يُعِيرُ الصوتَ التفاتًا، ومِن غير مصدِّق ولا مؤمن بهذا الصوت إنّما يَعزوه إلى غير الله الموجود، ومِن يائس لكثرة السقوط وارتياد الطرق المعوجّة. مئات بل ملايين السامعين، والتمايُز بين واحد وآخر شيء مهول حقًّا. وبين الملايين الكثيرة يوجد مَن يلين قلبه، عند سماع أول هاتف للخير، وأول شعاع لفجر القيامة.. ومِن هؤلاء كانت هذه المرأة الخاطئة، فلما سمعت جاءت إلى مَن ناداها. ولم تكن تجرؤ أن تنظر إلى عينه، فهو فاحص القلوب ومختبر الكُلى. ولم تكن تستطيع أن تريه وجهها وقد غطاه خزى الخطايا. كان الذي يحرّكها في الداخل شيء لا يُقاوَم، وحنينها إلى الحياة الأفضل كانت تُزكّيه هذه الشعلة البسيطة من نار الروح الذي بدأ يشتعل قليلاً قليلاً في داخلها. تُرى ماذا سيقول؟ بل ماذا عساها أن تقول؟ فإن قال وكشف ما هو مستور في قبر هذا القلب المسكين.. فسوف يزلزِل صوته السماء والأرض.. وأساسات المسكونة. فكم بالحريّ قلب ملوث بالخطايا. وإن نَظَرَ فتذوب الجبال وتُدخِّن لأنّ السماء غير طاهرة قدام عينيه.. «وَإِلَى مَلاَئِكَتِهِ يَنْسِبُ حَمَاقَةً» (أي4: 18). فمن الأجدر أن تتكلّم هي، وماذا عساها أن تقول إن استجمعت شجاعتها وحزمت كلّ ما تبقّى لها من قوّة بدّدتها الخطايا.. من أين تجد كلامًا تضعه في شفتيها.. من يعطيها كلامًا كقول هوشع «خُذُوا مَعَكُمْ كَلاَمًا وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ» (14: 2). تُرى هل تحتاج إلى كلمات داود أو صلوات منسّى التائب؟ وهل تحتاج إلى من يعمل في فكرها لترتيب الكلام حتى تجد نعمة لدى القدير؟ إن ملايين الكلمات لا تكفي ولا تفي! لذا جاءت من ورائه.. وهل تحسِب أنّه له وراء وقُدّام؟ لأجل تجسّده إذ صار إنسانًا، صار هكذا، غير المَرئي صار مرئيًّا، وغير الزمني صار تحت الزمن. هكذا عرفَتْهُ إذ صار قريبًا من الخطاة، بل مُحِب للعشّارين والخطاة. فلما وقعَتْ عند قدميه.. وصارت إلى التراب في المذلّة والاتضاع.. انفجرَتْ ينابيع الماء من الداخل كقول الرب للسامرية، وهي أيضًا المرأة التي تمتّعت بالغفران قبل غيرها. لذلك لما عجزَتْ عن الكلام باللسان تكلّمت العينان بالدموع. جاءت من ورائه باكية: للدموع فعل عجيب حقًّا لدى أصحاب القلوب الطيّبة وأصحاب المشاعر الرقيقة. فكم بالحريّ تكون أمام مخلّصنا ينبوع الرحمة والحنان؟ فهي تستدرّ عطفه الإلهي كما هو مكتوب: «كَمَا يَتَرَأَفُ الأَبُ عَلَى الْبَنِينَ يَتَرَأَفُ الرَّبُّ عَلَى خَائِفِيهِ»، لقد قال الرب في سفر النشيد: «حَوِّلِي عَنِّي عَيْنَيْكِ فَإِنَّهُمَا قَدْ غَلَبَتَانِي» (نش6: 5). اقتربَت الباكية من قدميّ المخلّص.. سبقَتْها دموعُها تتساقط بغزارة، وبجرأة لمسَتْ قدميه، وهي تَعلَم في نفسها مقدار نجاستها. شعرتْ لوقتها نفس شعور نازفة الدم.. وقف نزيف دمها.. زال المرض.. تبدّدَت النجاسة والشعور بالنجاسة. فهل تقف الظلمة إذا غشاها النور الإلهي؟ لقد لمسَتْ الخلاص، لمستْ الحياة التي أُظهِرت، الحياة المتجسّدة في شخص يسوع. حَلّ في قلبها في الحال سلام الله لما مسّت قدميّ الذي صالَحَ الخطاة مع الآب. «لاَ سَلاَمَ، قَالَ الرَّبُّ لِلأَشْرَارِ» (إش48: 22). + لم يُحرِّك الربُّ قدمَيْه أو يمنعهما.. ترك لها قدميه المزمعتين أن تتسمرا على الصليب بلا حراك لتدفع ثمن خطايا العالم كلّه. لقد بخل سمعان الفريسي بالماء لغسل قدميّ المُخَلِّص.. حسنًا صنع دون أن يدري، فقدمَيّ المخلّص ليستا بحاجة لغسل الماء كباقي البشر.. هو غاسل الأوزار والخطايا عن الأقدام كما فعل مع الرسل ومع كلّ أجيال الكنيسة. + كمّ الدموع لغسيل الرجلين من يقدر أن يصِفَهُ أو يقدّره؟ هل يُكال بمكيال أو يقدّر بمقدار؟ ما قدَّرَهُ سمعان ولا المتّكئون، بل حسبوه مياهًا تُسكَب على الأرض. لكن قابِل الخطاة ومخلّص الأثمة هو الذي ثَمَّن الدموع وعظَّمها. وَكَانَتْ تُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ: تُرى من دلّكِ إلى ذلك؟ ومن علّمكِ؟ القُبلات للفم وللوجنتين. ولكنّكِ ألقيتِ بنفسِكِ على الأرض، إذ حسبتِ نفسَكِ خاطئةً، لا تستحقّين القيام أمامه فعكفْتِ على تقبيل قدميه. فلمّا استنشقتِ رائحة الحياة الأبديّة لم تَكُفِّي عن فعل ذلك. سكبتِ الدمع فغسلتِ القدمَين، وعِوَضًا عن المنشفة للتجفيف قدّمتِ شعر رأسك، ثم سكبتِ طيبك المُخَبّأ تحت إزارك، فامتلأ البيت من عَبير التوبة الحقيقيّة التي اشتمّها الله قَبلَ البشر. يا للعجب، كلّ ما بِعْتِهِ للخطيّة وما بذلتيه للتلذُّذ والخلاعة.. استردَّتيه مُضَاعَفًا أضعافًا أبدية.. فالدموع وعواطف الحُبّ والقُبلات التي ألهَبَتْ الجسد بالشهوات، وعِطر الطِّيب وشعر الرأس التي اُستخدِمت للهلاك، عندما قدّمتيها ذبيحة حبّ حقيقي على مذبح قدمَيّ يسوع.. نزعتِ عنها كلّ شوائب الجسد وعار السلوك النجس، وكأنّها أُلقيَتْ في آتون النار، فاحترقَتْ الخطايا وخرجَتْ العطايا كالذهب المُصَفّى. فيا جميع خُطاة الأرض، تعالوا.. تعلّموا اقتناء الخلاص وتعجّبوا كيف أنّ المرأة الخاطئة في المدينة صارت أيقونة المرأة التائبة في الكنيسة. سَمْعَانُ الْفَرِّيسِيِّ عَجَبِي مِن مسلك هذا الفريسي الأعمى، الذي نسِيَ تطهير خطاياه، مبرِّرًا ذاته، وناظرًا إلى المرأة الخاطئة.. وعجبي أنّنا كثيرًا ما تصرّفنا تصرُّفَهُ وحَكَمْنا حُكمَهُ وبرّرنا أنفسنا. قال الفريسي في نفسِهِ، لم يجسُر أن يكلّم الربّ علانيةً فأمرُه مَكشوف. ولكنّ المُطّلِع على الخفايا وفاحص القلوب كَلّمَه علانيةً، مُجيبًا على أفكاره، لأجل منفعتنا ولتعليمنا. فإن كُنّا نُصدِر الأحكام على الآخرين وندينهم، فنحن بالأولى يليق بنا أن نحكُم على أنفسنا وندين أنفسنا. وإن افتكرنا بأنّنا مَدِينون بالقليل بينما غيرنا مَدِينون بالكثير، فقد أخطأنا إذ لم نَحسِب حساب حُبّ الآخرين الكبير. وإن كنا عجزنا عن أن نوفي الدين الذي علينا فلنسرع بالتوبة. وبدل المتّكأ العالي فلنُلقِ بأنفسنا عند قدمى يسوع، القادر أن يسدّ الديون عنّا. ولنبكِ بحُرقة قلب، ونَبلّ قدميه بدموعنا، ونُقَبِّل قدميه اللتان اعتقتانا من طريق الضلالة.. كفى دينونة للآخرين.. وكفى حُكمًا على الناس. + أمّا قول الرب كلّه فكان في صفّ المرأة المبرَّرة التائبة. فالمسيح دائمًا في صفّ الراجعين إليه، يَدْفَع عنهم كلام الناس وأحكام الناس ودينونة الناس. طوباكِ أيتها المرأة حين سمعتِ صوت الرب إلهك، أنّكِ أحببتِ كثيرًا.. طوبى للدموع التي طهّرَتْ عينيك، وقبلاتك التي قدّسَتْ شفتيكِ.. ومباركٌ هو طِيبك الذي استمدّ معناه من طيب الروح القدس؛ المنبثق من الآب الحالّ على رأس المسيح ومُنسكِب على القدمين. طوباكِ لما سمعتِ صوت الرب مغفورة لكِ خطاياكِ. لقد أدركتِ الفرح الأبدي، إذ محا الربّ عنكِ صكّ خطاياكِ.. طوباكِ لَمّا أظهرَكِ للعالم كلّه، حاصلةً على سلامه الإلهي، وأرسلكِ تكرزين بالتوبة والخلاص « اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ». المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
13 نوفمبر 2021

المُعطي فبسخاء

الحياة المسيحيّة بحسب الإنجيل هي حياة عطاء وبذل من كلّ جانب، لأنّها هي حياة المسيح فينا الذي بذل نفسه حتّى الموت حبًّا فينا. فإنْ كان المسيح يحيا فيَّ فحياتي كلّها عطاء وكلّها سخاء، بعيدًا عن البُخل والشُحّ والأنانيّة وتفضيل الذّات على الآخرين. والعطاء المادّي هو أقلّ أنواع العطاء، لأنّ الممتلكات أشياء تَفنَى، لها قيمة ماديّة متغيّرة وهي خارجة عن الذّات. فأنا شيء وما أملكه شيء آخر يَبقَى منفصلاً عنِّي. أمّا العطاء المسيحي فهو عطاء النفس، أن يضع أحد نفسه عن أحبائه، على مثال صليب المسيح الذي أحبّنا إلى المنتَهَى. فإن وضَع الإنسان نفسه، وفرَّط فيها وكفر بذاته وسعى وراء مخلصه حاملاً الصليب، فإنّه يعيش متنعّمًا في ملكوت المسيح وهو بعد في الجسد «هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ» (لو17: 21). وإن وُجِد هذا المثال المسيحي حيًّا.. فلا مكان للصراعات ولا الخلافات ولا التحزّبات ولا السياسات في الكنيسة.. ولا مكان للمشاكل في العائلة ولا انحراف ولا طغيان للمادة والطمع.. إلى آخر هذه الأمور. العطاء الحقيقي هو حالة فيض داخلي فحينما يمتلئ القلب يفيض. فالقلب الممتلئ حبًّا يفيض حبًّا.. الامتلاء يسبق الفيض.. الفيض بدون ملء هو نوع من الغشّ. فالعطاء الحقيقي يكون من ملء الروح وفيض الروح. فإن لم نحيا بالروح يكون عطاؤنا المادي بلا قيمة. الكنيسة منذ البداية رفضت عطايا الناس غير المتقدّسين فلا تقبل عطايا من يُتاجر في النجاسة أو يكسب أمواله عن طريق غير مقدس. هذه بعض الآيات الإنجيليّة التي تنير الطريق وتوضّح الأهداف الحقيقيّة: + «أَعْطُوا تُعْطَوْا» (لو6: 38). + «مَغْبُوطٌ هُوَ الْعَطَاءُ أَكْثَرُ مِنَ الأَخْذِ» (أع20: 35). + «الْمُعْطِي فَبِسَخَاءٍ» (رو12: 8). + «مَنْ يَزْرَعُ بِالْبَرَكَاتِ فَبِالْبَرَكَاتِ أَيْضًا يَحْصُدُ» (2كو9: 6). + «لَيْسَ أَنِّي أَطْلُبُ الْعَطِيَّةَ، بَلْ أَطْلُبُ الثَّمَرَ الْمُتَكَاثِرَ لِحِسَابِكُمْ» (في4: 17). + «فِي اخْتِبَارِ ضِيقَةٍ شَدِيدَةٍ فَاضَ وُفُورُ فَرَحِهِمْ وَفَقْرِهِمِ الْعَمِيقِ لِغِنَى سَخَائِهِمْ» (2كو8: 2). + «لأَنَّهُمْ أَعْطَوْا حَسَبَ الطَّاقَةِ، أَنَا أَشْهَدُ، وَفَوْقَ الطَّاقَةِ، مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ، مُلْتَمِسِينَ مِنَّا، بِطِلْبَةٍ كَثِيرَةٍ، أَنْ نَقْبَلَ النِّعْمَةَ وَشَرِكَةَ الْخِدْمَةِ الَّتِي لِلْقِدِّيسِينَ» (2كو8: 3، 4). + «وَلَيْسَ كَمَا رَجَوْنَا، بَلْ أَعْطَوْا أَنْفُسَهُمْ أَوَّلاً لِلرَّبِّ، وَلَنَا، بِمَشِيئَةِ اللهِ» (2كو8: 5). ويبدو واضحًا أنّ الرسل الأطهار الذين جرَّدهم الربّ منذ البداية من كلّ ما هو مادي، وملأهم من الروح إلى كلّ الملء لم يطلبوا شيئًا.. بل لم يشتهوا شيئًا «فِضَّةَ أَوْ ذَهَبَ أَوْ لِبَاسَ أَحَدٍ لَمْ أَشْتَهِ» (أع20: 33). ولكن بحركة عطاء تلقائيّة، منذ أن حلّ الروح القدس وملأ كيان الكنيسة، كان «كُلَّ الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ حُقُول أَوْ بُيُوتٍ كَانُوا يَبِيعُونَهَا، وَيَأْتُونَ بِأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ، وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ» (أع4: 34، 35). دون أن يطلب الرسل ذلك. كان هذا شعورًا تلقائيًّا للتخلِّي عن الماديات لمّا حصلوا على ملء الروح. والآيات توضّح المنهج الروحي من ناحية الرسل ومن ناحية المؤمنين. فالمؤمنون كانوا يتوسّلون إلى الرسل أن يقبلوا العطايا، والرسل الأطهار لم يمدّوا أيديهم للأخذ فوُضِعت العطايا تحت أقدامهم، كانوا «يَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ». «أَعْــطُــوا تُعْــطَــوْا» يقول القديس يوحنا ذهبيّ الفم "إنّنا كثيرًا ما نتبادل المواقع.. ففي أوقات كثيرة يأتي إلينا من يسألنا حاجّة، ونكون نحن في مكان الذي يُعطي ويُحسِن إلى مَن يسأله، ثم في أحيان أخرى نمدّ أيدينا نسأل ونطلب.. ونكون في موضع المُستجدي المحتاج". فإنّ تصرُّف الإنسان في موقعه الأول تَصَرُّف السخي المُعطي، الذي لا يردّ حاجّة السائل. فإنّه حين يكون في وَضع المُحتاج من الله سيعامله بذات السخاء، وبالكيل المُلَبَّد المهزوز يعطيه في حِضنه. والعكس صحيح فإنْ بَخَلَ الإنسان وصَدّ مَن يَطلب إليه فإنّه حين يطلب هو تُصدُّ صلاته ولا يُستجاب لطلبه. هذا ما عاشّه القديسون في كلّ جيل، لقد عرفوا الطريق إلى استجابة صلواتهم وعرفوا كيف يستدرُّون مراحم الله، إذ صاروا رحماء و«أَسْخِيَاءَ فِي الْعَطَاءِ، كُرَمَاءَ فِي التَّوْزِيعِ» (1تي6: 18). - يُحكَى عن المعلم إبراهيم الجوهري الذي كان بمثابة رئيس للوزراء.. أنّه كان منقطع النظير في سخائه، ويُذكَر عنه أنّ شحّاذًا قابله وهو خارج من منزله في الصباح ذاهب إلى ديوان الوزارة وطلب منه شيئًا (صدقةً) فأعطاه، ثم استدار الشحّاذ وقابله في منعطف الشارع وطلب منه فأعطاه، ثم لفّ من شارع آخر وقابله وطلب فأعطاه.. حتى في نهاية المشوار صرخ الشحّاذ وقال: طوباك يا رجل الله، فهوذا طلبتُ منك هذه المرّات الكثيرة ولم تضجر منِّي ولا أرجعتني خائبًا. فأجابه المعلم إبراهيم في اتضاع كثير: هذا مالك يا ابني، أعطاه الله لي لأعطيه لمَن يسأل. + وقد تقابلتُ في حياتي مع كثيرين من الأسخياء المُحبّين للعطاء بسرور. والحريصون منهم كانوا يحيون حياة العطاء بحسب الإنجيل، وبحسب الذي تسلّموه من الأبرار الذين أرضوا الرب قبلهم. لأنّ كثيرًا من المراحم تحيط بحياة العطاء، «مَنْ يَرْحَمُ (يعطي) الْفَقِيرَ يُقْرِضُ الرَّبَّ، وَعَنْ مَعْرُوفِهِ يُجَازِيهِ» (أم18: 17). والمزمور يقول: «طُوبَى لِلَّذِي يَنْظُرُ إِلَى الْمَسْكِينِ (لمن يتعطف على المسكين والفقير). فِي يَوْمِ الشَّرِّ (السوء) يُنَجِّيهِ الرَّبُّ» (مز40 أجبية). ولكن بالأكثر يقول: «صالِحٌ هُوَ الرَّجُلُ الَّذي يَتَرَأَّفُ ويُقْرِضُ... مَجْدٌ وغِنى فى بَيْتِهِ، وبرُّهُ يَدومُ إلَى الأبَدِ» (مز111 أجبية). فالعطاء في المسيح هو من فيض النعمة وحياة البرّ، وليس كما يظنّ البعض أنّه مجرّد عطاء مادي ومساعدات تُقَدَّم.. يجب أنّ الذي يقدّم العطايا يقدّمها بيد طاهرة، بقلبٍ عابد للمسيح. وليست الصَدَقة بغرض التكفير عن ذنوب، فالحسنات لا يُذهِبن السيّئات لأنّ هذا مبدأ غير مسيحي، السيئات يمحوها دم المسيح الذي يُطهِّر من كلّ خطية.. والاعتراف بها وغفرانها من فم المسيح بيد الكاهن وتكميل التوبة يكون في الحياة البعيدة عن السيرة الأولى. ناهيك لِمَا يشوب العطايا ويلوّثها من حبّ التفاخُر والتظاهر ومدح الناس. وهذا ضدّ الوصية الغالية.. «مَتَى صَنَعْتَ صَدَقَةً (رحمة) فَلاَ تُعَرِّفْ شِمَالَكَ مَا تَفْعَلُ يَمِينُكَ» (مت6: 3). لذلك أقول إنّ من بين الأتقياء الذين عايشتهم من كان كثير العطاء في الخفاء، يسلك سلوك القدّيسين الذين أنكروا ذواتهم، رغم أنّهم صنعوا آيات وعجائب. + على أن وصية العطاء غير قاصرة على ذوي الأملاك والمقتدرين، فقد رأينا فقراء ومُعدمين مُحبّين للعطاء ويقدّمون للرب فوق طاقتهم بفرحٍ لا يُعبَّر عنه. فبعض المساكين كانوا يأخذون بركة صغيرة من الكنيسة، وكانوا يتصدّقون منها، ويُشاركون من هم أفقر منهم وأكثر احتياجًا. كيف يكون الفقير والمعدَم كريمًا سخيًّا مُحبًّا للعطاء؟.. هذه هي نعمة المسيح التي أجزلها بكلّ حكمة وفطنة، حتّى صار أولاده كفقراء وهم يغنون كثيرين. + «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2كو8: 9).. فقر المسيح هو الغِنَى الذي لا يُستقصَى.. فكلما زاد الإنسان التصاقًا بالمسيح وقبل آلامه المُخلِّصة المُحيية ليحيا بها وفيها، كلّما زاد غِنى الإنسان وفاضت ينابيعه من فيض نعمة المسيح مخلصنا. «أَمَا اخْتَارَ اللهُ فُقَرَاءَ هذَا الْعَالَمِ» (يع2: 5) ليُخزي بهم الأغنياء. قيل في البستان عن أحد الآباء النُسّاك العظام، إنّه حلّ فى زمانه غلاء عظيم وقَلَّ الخير. وكان في قلايته ثلاث خبزات. وبعد غروب الشمس، شرع في تناول طعامه، فقرع بابه سائل فقام وأعطاه خبزة. وقبل أن يأكل قرع بابه آخر فقام وأعطاه الخبزة الثانية. وجلس ليكسر الخبزة الباقية فقرع بابه سائل آخر. فيقول البستان أنه ساورته أفكاره عما إذا أعطى آخر خبزة له فما عساه أن يفعل وماذا يكون مصيره؟ ولكنه غلب أفكاره وقفز بشجاعة إيمانية وأعطى الخبزة للسائل. وظلّ هو بلا طعام، وقد استمرّ على هذه الحال يومين وهو صائم شاكراً الله. وبعد هذا ظهر له ملاك الرب وعزَّاه وقال له: من أجل عملك هذا فقد أحسنَ الربّ إلى المنطقة كلّها وأزال الغلاء. وفي ذات اليوم قَدُمَت إلى الدير جمالاً مُحمَّلة بالخيرات. + هناك حروب كثيرة من عدو الخير ضدّ عمل الخير والصدقات وعمل الرحمة والإحسان. ولكن الذين عاشوا بالإيمان غلبوه بقوّة الله ومؤازرة النعمة. ويكفي أن نذكُر فلسي الأرملة التي مدحها الرب ذاته، أنّها أعطت «كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا» (مر12: 44)، أمّا الأغنياء فقال الرب: إنّهم «مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا (أعطوا)». هذا اختبار عميق يعرفه الذين مارسوه وتنعموا به، إنّه اختبار إيماني عاشه المُعدمون بحسب الظاهر، فاختبروا قمّة عناية الله بهم. لقد عاش القديس أنبا انطونيوس هذا الاختبار مدى الحياة لمّا تنازل طوعًا عن كلّ ملكيّته، وألقى رجاءه بالكمال على الله الذي اعتنى به حتى آخر أيّامه على الأرض. وهكذا القديس أنبا بولا لمّا تنازل عن الإرث المادي الغالي وعاش ناسكًا بلا مأوى ولا كسوة ولا قوت.. كيف عاله الله سبعين سنة.. أليس هو الذي عال الشعب الإسرائيلي (2 مليون نسمة) في البرّيّة أربعين سنة، «لَمْ تَبْلَ ثِيَابُهُمْ، وَلَمْ تَتَوَرَّمْ أَرْجُلُهُمْ» (نحميا9: 21) ونعالهم لم تتهرّأ؟ المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
06 نوفمبر 2021

لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا ج2

ثالثاً: أمّا مِن جِهة أن لا يجهلوا «أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيًّا لإِسْرَائِيلَ» (رو11: 25)، فقد كان الذين آمنوا بالمسيح من الوثنيين بدأوا في الافتخار، وشعروا بأنّهم أفضل.. فهُم قبلوا الإيمان بالمسيح وأطاعوه وأحبّوه وقبلوا نعمة التبنّي.. الخ. فأراد القديس بولس أن يحذّرهم ويكشف لهم الحقّ.. أنّ القساوة من اليهود التى يرونها الآن، هي جُزئيّة محصورة في الزمن. وقد أوضح لهم الخطّة الإلهية لخلاص اليهود والأمم كليهما، وقد أوضح ذلك كثيرًا بالشرح.. أنّ اليهود «لَهُمُ الْعُهُودُ وَالاشْتِرَاعُ... وَمِنْهُمُ الْمَسِيحُ حَسَبَ الْجَسَدِ» (رو9: 4، 5).فإن كانت قد قُطعت بعض الأغصان من الزيتونة الأصليّة، لسبب عدم الإيمان، و«أَنْتَ (يقصد المسيحي الذي كان وثنيًّا) قَدْ قُطِعْتَ مِنَ الزَّيْتُونَةِ الْبَرِّيَّةِ، وَطُعِّمْتَ بِخِلاَفِ الطَّبِيعَةِ فِي زَيْتُونَةٍ جَيِّدَةٍ (الزيتونة الأصلية)... فَلاَ تَفْتَخِرْ عَلَى الأَغْصَانِ» (رو11: 17–28). هم لسبب عدم الإيمان قُطعوا وأنت بالإيمان ثَبَتّ، وهم إن لم يثبتوا في عدم الإيمان فإنّهم يُطعّمون. الأمر إذن ينحصر في الثبات في الكرمة الحقيقية.. «كُلُّ غُصْنٍ يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يو15: 2).. وكلّ غصن لا يأتي بثمر يُقطع. إذن الجهل بهذا الأمر جعلهم يصيرون حكماء عند أنفسهم، ويقتنعون بأفكارٍ ليست من الله، تدفعهم إلى الكبرياء. وهذا ضد روح المسيح. رابعاً: «أَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوَاهِبِ الرُّوحِيَّةِ... فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا. أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أُمَمًا مُنْقَادِينَ إِلَى الأَوْثَانِ الْبُكْمِ، كَمَا كُنْتُمْ تُسَاقُونَ» (1كو12: 1، 2). فالأمر جدّ خطير، فقد انبهر هؤلاء المؤمنون الجُدُد بالآيات والعجائب والتكلّم بالألسنة، وقد شغلهم هذا الأمر حتى صاروا يتسابقون، فيمن هو الأعظم، ومَن يتكلّم بألسنة أكثر من الآخر، حتى صارت اجتماعاتهم كغوغاء من كثرة المتكلّمين بألسنة، وكان بعضهم على حقّ من جهة هذه الموهبة، أمّا كثيرون فكانوا مُدّعين، وقد طغى عليهم إنسانهم العتيق مع بقايا عبادات الأوثان.وقد سمع القديس بولس عن البعض من مُدّعي التكلّم بالألسنة أنّه يقول «يَسُوعُ أَنَاثِيمَا» (1كو12: 3)، ويبدو من الحديث أنّهم لم يكونوا على معرفة بقوّة اللغة، بل كانوا ينطقون بلا فهم. لذلك حذّرهم القديس بولس، وأرادهم أن لا يجهلوا مِن جِهة المواهب. وأوضح بالروح وبالتفصيل أنّ المواهب ليست للافتخار أو التباهي والرجوع إلى الذات. ولكن المواهب الحقيقية يعطيها الروح القدس للكنيسة لبنيان المؤمنين.. وأنّ الموهبة الحقيقيّة تُعطى للإنسان، ليس لأجل ذاته، ولكن الروح يقسِّم لكلّ واحد كما يشاء. وأنّ الكنيسة هي جسد واحد، وأنّنا أعضاء في الجسد الواحد، وإن كُرِّم أحد الأعضاء فللباقين، ولا يستغني الجسد عن أقلّ أعضائه، ولا يقُل عضو في الجسد لباقي الأعضاء: «لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكِ» (1كو12: 21)، ولا يفتخر أحد بما نال من المواهب من الروح القدس كأنّه الأفضل. فالعين وإن كانت وظيفتها الإبصار، والأذن للسمع.. فما تقوم به العين يختلف عما تؤديه الأذن. ولكن بالنهاية كلّهم موضوعون في الجسد بانسجام للخدمة وللتآلف.. فليس أحد يحيا لنفسه، ولكنّ حياته في الجسد وبالجسد وللجسد. فلا يتصوّر أحد أنّ العين قائمة بمفردها بعيدًا عن الجسد، فهي في هذه الحالة كعضو منفصل عن الجسد تصير بلا قيمة وبلا منفعة.هكذا شرح الرسول على ضوء ذلك طبيعة الكنيسة كجسد المسيح، وأنّ المؤمنين وإن كانوا أفراد ولكنهم بالأكثر أعضاء في الجسد الواحد يحيون بالروح الواحد. فالحياة تسري في جميع الأعضاء، وهذه الحياة هي بالروح القدس الكائن في جميع المؤمنين وبلا تفريق. فإن اختلفت المواهب لكنّ الروح واحد وهو المصدر الوحيد. خامسًا: وأخيرًا صَحّح الرسول كلّ هذه المفاهيم من جهة المواهب في الكنيسة، ثم وجههم إلى ما هو أعظم من كلّ المواهب، وهو تكميل المحبّة المسيحيّة لأنّه إن كان أحد قد حاز كلّ الإيمان حتى ينقل الجبال وليس له محبة فهو ليس بشيء. إلى آخر ما كتبه للكنيسة مؤكِّدًا أنّ المحبة هي العَصَب، وهي الرباط الذي به تقوم الكنيسة. وتَوّج حديثه الملهَم بأنّ الإيمان سيبطُل، أمّا المحبة فلا تسقط أبدًا. وفي كلّ أجيال الكنيسة شَغَلَ هذا الأمر الكثيرين، واستهوى الكثيرين من جِهة المواهب والمعجزات، وانجرف في هذا التيّار كلّ مَن جَهَل كلام القديس بولس. أما مَن استنارت عقولهم بالكلام الإلهي فقد ثبتوا في المحبة ومارسوها مدى الحياة، وفاقت حياتهم حتى أصحاب المعجزات أما عن التدبير الإلهي في خِدمة الرسول وحركته وأسفاره والأماكن التي يقصدها ومُدّة وجوده فيها. فلا يتخيّل أحد أنّه مُنقاد بمقاصد بشرية أو خطّة إنسانية، فمادام هو رسول يسوع المسيح، ومنقاد بالروح القدس فحيثما أرسله الروح يذهب وحيثما وجَّهَهُ يتّجه. فمرّات مَنَعَهُ الروح أن يتكلّم، ومرّات أخرى قال له الروح: «لاَ تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ، لأَنَّ لِي شَعْبًا كَثِيرًا فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ» (أع18: 9، 10). ومرّات قصد أن يذهب إلى مكان، ولكنّه أُعيق عن رغبته، لأنّ الروح كان له تدبير آخر وقصد آخر، من جهة الرسول نفسه، ومن جهة المخدومين أيضًا. لذلك أوضَحَ الرسول هذا الأمر قائلاً: «لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّنِي مِرَارًا كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ» (رو1: 13)، ولكن كان في تدبير الروح أنّ غياب الرسول عنهم في تلك الفترات، قد يثمر الروح فيهم أكثر إذ يعمل فيهم باجتهاد في حفظ وصايا الرب، وممارسة الأعمال الروحيّة. وكأنّ الروح كان بالنسبة لهم كأمٍ تُعلِّم ابنها المشي وبينما لا يريد الابن أن يترك يد أمه وينتصب واقفًا، ولكنّها لمنفعته تتركه، وأحيانًا يسقط ويبكي، ولكن هذا التخلِّي الوقتي يصير بالنهاية للمنفعة. وهذا الإدراك عند المؤمنين يجعلهم ينمون في النعمة والقامة، وإن كان يفطمهم من حضور القديس بولس إلى حين. والجهل بهذه الحقيقة الإلهيّة يربك المؤمنين ويجعلهم في حيرة، وربما تعلُّقهم يصير كشبه مرض، أو كطفل لا يريد أن ينسلخ من الطفولة إلى طور الرجولة في الروح. في الختام نقول: ما أفدح الخسارة التي تصيب المؤمن والكنيسة من الجهل! وتأتي الكلمات الخمس كأنّها بوق إنذار لجميع الكنائس، وطبعًا تنطبق على كلّ أنواع الجهل.. لأنه قيل: «قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ» (هو4: 6). وليست المعرفة العقلانية التي شاعت في هذه الأيام الأخيرة، بل الجهل الروحي في التوصُّل إلى الحقّ والتمتُّع به.انظر كمّ الجهل بعمل الروح في الأسرار.. تأمّلْ وتعجّبْ! وانظر كمّ الجهل فيما يُمارَس من عبادات، ورغم الحضور الكثير والمتواتر ولكن اسألْ عن الممارسات ومدى الثمر.. سيصيبك الدهش! كنت أزور كثيرًا من البيوت، وأدفع الإنجيل إلى ربّ البيت ليقرأ.. وقد قابلتُ كثيرًا من المفارقات، فالبعض عنده حاسّة تذوُّق الإنجيل والانفعال به والخضوع له.. بينما وجدتُ كثيرين كأنّهم لا يعرفون القراءة رغم عِلمهم، وكأنّ الإنجيل طلاسم لا تُفهم، فيقرأ الإنسان ولا يعي. وقد يبدو هذا جليًّا من الذين يقرأون الفصول الكنسية قبل القداس الإلهي.عمومًا، نرجو أن ينير الروح ذهننا، ويمحو جهلنا وضعف معرفتنا. المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل