المقالات
05 نوفمبر 2021
مَثَــل عُـرس ابن الملك ج2
قلتَ يا مخلّصي أنّ الملك لمّا دخل وجد «إِنْسَانًا لَمْ يَكُنْ لَابِسًا لِبَاسَ ٱلْعُرْسِ. فَقَلت لَهُ: يا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ ٱلْعُرْسِ؟».. فناله ما ناله من خزي، وطرحه الخدام خارجًا أنا أعلم يا مخلّصي أنّ دعوتك إلى العرس هي نعمة مجانية، ولكنّها ليسَت رخيصة، هي تُعطَى مجّانًا لأنّ لا أحد يستطيع أن يشتريها «بِفِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، مِنْ سِيرَتِكُمُ (سيرة الناس) الْبَاطِلَةِ» (1بط1: 18).دمك الغالي، هو الذي اقتنى لي الملكوت.. وصليبك المحيي، هو الدعوة بعينها.. فمن دُعِيَ إلى عرسك الأبدي واستحق هذا النصيب الصالح لابد أن يسلك بحسب قانون بيتك وعرس مجدك وما يليق.. لأنّه «بِبَيْتِكَ تَلِيقُ الْقَدَاسَةُ» (مز93: 5).. كيف «يَرِثُ الْفَسَادُ (الفاسد) عَدَمَ الْفَسَادِ» (1كو15: 50)؟ وكيف يدخل اللباس البالي القديم إلى حفل عرس ابن الله؟
الحُلّة الأولى، حلّة الفرح ألبستها لي يا مخلّصي بيديك يوم معموديتي.. هذا هو الثوب الناصع البياض المغسول في دم الخروف.مسكين هذا الذي أبقى على اللباس البالي والطبيعة الساقطة مع أعمالها، وعاش بحسب شهوات الجسد ونجاسات الطبيعة وظنّ أنّه يبقى في العرس. ومسكين مَن تمسّك بذاته وإرادته الخاصة وعمل مشيئته دون مشيئة الله. وسلك برأيه دون وصايا مخلّصه. وظنّ أنّه وارث الملكوت ومدعو للوجود في العرس الأبدي.
يا سيّدي الربّ.. عرِّيني من العتيق وألبسني حلّة الخلاص كلّ يوم.. يارب دعني أَخضَع خضوعًا كليًّا لكلّ وصيّة وكلّ ترتيب توعز به إلى كنيستك وخدام بيتك والداعين إلى عرس مجدك.. فأطيع وأستلهِم كلّ ما هو لائق ونافع لخلاص نفسي.
يا سيدي.. اجعلني أعتبر أنّ من لا يوجد في كمال هيئة المستحقّين للعرس يُطرَد خارجًا.. يا إلهي أنا أرى في كنيستك عربون العرس السماوي.. فهي الفرح والمسرة الروحية والشبع من دسم بيتك.. لذلك فالتناول من جسدك ودمك الأقدسين هما الغاية التي ترنو إليها نفسي.. وأن أسلك بحسب ما تعلّمني الكنيسة، ويؤهلني للتناول من ذبيحة العُرس، لا أسلك بحسب هواي أو أصنع ما استحسنه أنا، بل بحسب قانون الكنيسة وترتيب الآباء مُعلِّمي البَيعة أخضع وأسير.
علّمني أن أحترم بكلّ قلبي وأُخضِع نفسي للتدبير الإلهي، إن كان في صوم أو صلاة أو طقس أو عيد أو لحن، أو كلّ مايختصّ بنظام بيعتك. لا أنسى يا سيدي ما نال "عُزَّة" أحد أبطال داود حين أقحم نفسه في عمل ما لا يخصّه، إذ حاول أن يلمس تابوت العهد، الأمر الذي كان موكَّلاً لبني لاوي فقط (2صم6: 1-9). وهذا يعلمني إنّه يجب أن أسلك بحسب التدبير، لا بحسب رأيي الشخصي أو ما أراه أو ما يعجبني، مستهينًا بالتدبير بكلّ تأكيد يا مخلّصي، فإنّ هذا الشخص الذي لم يلبس لباس العرس كان يسلك بذاته. ويُخيَّل إليَّ أنّ خُدّامك وحرَّاس أسرارك والداعين كلّ أحد إلى العرس.. يُخيَّل إليَّ أنّهم قالوا له إنّه يجب عليه أن يخلع ثيابه ويلبس ثياب العرس.. ويُخيَّل إليَّ يا مخلّصي إنّهم نبّهوه مرارًا ونصحوه كثيرًا، ولكنّه لم يأبه للنصائح ولا خضع لما قيل له.. بل ألقى الكلام خلفه، ولم يُعطِ أذنًا صاغية ولا أذعن لوصية، بل أصرَّ على أن يسير على هواه ويعمل ما بدا له فاصنع مع عبدك رحمة وجنّبني هذا السلوك المشين.. واجعلني أتمسّك بثياب العُرس وأحفظها، بل إذا حدث بسبب إهمالي وكسلي وعدم حرصي أن اِتّسخَتْ الثياب، أو أصابها تلف بسبب ميلي إلى العالم وما فيه، فأعطِ عبدك توبة صادقة ورجوع من القلب، لكي أغسل ثيابي مُجددًّا مرارًا وتكرارًا، وأبيّضها في ينبوع دم الصليب، فتبدو جديدة لائقة بلا دنس ولا عيب..
وإن أحسستُ أنّني فقدتُ ثيابي وصرتُ في خزي العري فأسمِعني صوتك القائل: «أُشِيرُ عَلَيْكَ أَنْ تَشْتَرِيَ مِنِّي ذَهَبًا مُصَفًّى بِالنَّارِ لِكَيْ تَسْتَغْنِيَ، وَثِيَابًا بِيضًا لِكَيْ تَلْبَسَ، فَلاَ يَظْهَرُ خِزْيُ عُرْيَتِكَ. وَكَحِّلْ عَيْنَيْكَ بِكُحْل لِكَيْ تُبْصِرَ» (رؤ3: 18).. فأسعى أن أقتني لي عمرًا نقيًّا بالتوبة، وأستتِر بسترك، يا من سترتَ عراء أبونا آدم في الفردوس.اِحسبني أهلاً للوقوف أمامك بلا خجل، وإن لم أكن مستحقًا لشيء كعبد كسلان، ولكن اجعلني احتمي فيك، واستتِر بسترك، واجعَل باب بيتك مفتوحًا أمامي، ودعوتك للعرس قائمة في وعيي مُتجدّدة كلّ يوم، فأسلك بحسب الدعوة التي دُعيتُ إليها. ولا أخيب من البلوغ إلى ملكوتك، أنا وكلّ أخوتي أعضاء جسدك، المدعوّين إلى وليمتك الأبدية. آمين.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
30 أكتوبر 2021
لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا ج1
1- «فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا أَنَّ آبَاءَنَا جَمِيعَهُمْ كَانُوا تَحْتَ السَّحَابَةِ، وَجَمِيعَهُمُ اجْتَازُوا فِي الْبَحْرِ، وَجَمِيعَهُمُ اعْتَمَدُوا لِمُوسَى فِي السَّحَابَةِ وَفِي الْبَحْرِ» (1كو10: 1).
2- «وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْمَوَاهِبِ الرُّوحِيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا» (1كو12: 1).
3- «لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ» (1تس4: 13).
4- «فَإِنِّي لَسْتُ أُرِيدُ أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ تَجْهَلُوا هذَا السِّرَّ، لِئَلاَّ تَكُونُوا عِنْدَ أَنْفُسِكُمْ حُكَمَاءَ. أَنَّ الْقَسَاوَةَ قَدْ حَصَلَتْ جُزْئِيًّا لإِسْرَائِيلَ إِلَى أَنْ يَدْخُلَ مِلْؤُ الأُمَمِ» (رو11: 25).
5- «لَسْتُ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنَّنِي مِرَارًا كَثِيرَةً قَصَدْتُ أَنْ آتِيَ إِلَيْكُمْ، وَمُنِعْتُ حَتَّى الآنَ، لِيَكُونَ لِي ثَمَرٌ فِيكُمْ» (رو1: 13).
أولاً: حذر القديس بولس الأخوة من الجهل بهذه الأمور الخمسة. وحذر أيضًا من نتائج هذا الجهل بهذه الأمور. فالواجب يحتم على كلّ إنسان مسيحي أن يكون على علم واستنارة، ويمحو الجهل بالتعليم والتبصُّر في هذه الأمور، ومن دراسة روحية جادة لكلمة الله وتقليد الآباء الذين علّمونا وسلّمونا.
حذر القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، الأصحاح العاشر، من الجهل بالمكتوب في الكتب المقدسة في العهد القديم «لأنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا»، (رو15: 4)، وكذلك بطرس الرسول «لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (2بط1: 21).
وكلّ الأحداث في كلّ الأزمنة ومعاملات الله، وتدبيره من أجل الخلاص، كلّ هذا متضمَّن في المكتوب. وكلّ مواعيد الله وكلّ رموز الخلاص وكلّ فكر الله تحويه الكتب المقدسة.
فماذا إذا جَهَلَ الإنسان كلّ ذلك؟ يكون كأنه يُهمل الخلاص الذي تنبأ عنه الآباء والأنبياء، وكشفوا للمؤمن كنوز العهد القديم، وأسهبوا في التأمُّل في الأحداث والأشخاص مثل إبراهيم واسحق ويعقوب وداود.. وتركوا تراثهم الذي تعتزّ به الكنيسة، محفوظًا في خزائنها إلى يوم مجيء الربّ.
فماذا إذا كان أحد يجهل كلّ هذا؟ ويكفي أن نقرأ مَطلَع الرسالة إلى أهل رومية: «بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الْمَدْعُوُّ رَسُولاً، الْمُفْرَزُ لإِنْجِيلِ اللهِ، الَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ابْنِهِ. الَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ الْجَسَدِ...» أو ما كتبه الإنجيليّون عن عمل الخلاص الذى صنعه الرب بتجسده وخدمته وصلبه وقيامته، وكيف كرروا القول «كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ... لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ فِي الأَنْبِيَاءِ».
ليكن هذا الدرس نافعًا لحياتنا وخلاص أنفسنا. لذلك يجب أن ندرِس العهد القديم، ليس مجرد دراسة عقلانيّة، أو تحليل ودراسة شخصيات أو تاريخ أناس وأحداث. بل لاستلهام الروح وإدراك الكُتُب المقدّسة التي تُحَكِّم الإنسان للخلاص كقول الرسول.
والعيّنة التى اختارها الرسول بولس في هذه الآيات، هي عمل الله العظيم في خلاص شعبه من العبوديّة القاسية في أرض مصر. فلما سلَّط القديس بولس نور وجه يسوع على القديم، لمع ببريق يخطف الأبصار. فلما أنار على الظلّ انكشف العمل الإلهي من وراء الدهور، فالسحابة التي ظلّلت على الشعب العابر البحر الأحمر، مع سور الماء من اليمين واليسار، كانت بمثابة المعمودية المقدسة التي فصَلت بين العبودية والحرية، وبين أرض الغربة وأرض الميعاد.
جميعهم اعتمدوا لموسى. وجميعهم أكلوا طعامًا، هو المَنّ.. ولكن تحت نور وجه يسوع، عرفنا أنّ المَنّ كان طعامًا روحيًّا نازلاً من السماء.. وفي شخص المسيح يسوع تَجَسَّد المعنى الروحي في كماله المُطلَق، عندما قال الرب: «آبَاؤُكُمْ أَكَلُوا الْمَنَّ فِي الْبَرِّيَّةِ وَمَاتُوا... أنا هُوَ الْخُبْزُ (المن) النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ، لِكَيْ يَأْكُلَ مِنْهُ الإِنْسَانُ وَلاَ يَمُوتَ» (يو6: 48–51).. هو المن الحقيقي وخبز الحياة.
«وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا... مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ» (1كو10: 4). بالطبع لم يدرك أحد هذا المعنى أو الحقّ المُخفَى في الظلّ، كما قيل «شِبْهَ السَّمَاوِيَّاتِ وَظِلَّهَا» (عب8: 5). ولكن عندما تكلّم القديس بالروح بحسب درايته بسِرّ المسيح، أنار التدبير الإلهي الذي يعجز البشر عن إدراكه.
على هذا النحو قرأت الكنيسة العهد القديم، وسار آباء الكنيسة العظام: مثل القديس كيرلس الكبير، والقديس اثناسيوس الرسولى، وآباء البرية العظام: أنطونيوس ومكاريوس، ساروا على نفس الدرب.
ثانيًا: أمّا من جهة الراقدين بالرب، فكان الأمر مختلِطًا على المؤمنين في البداية، وكانوا في احتياجٍ إلى المعرفة الحقيقيّة المستمَدَّة من الإيمان بالمسيح، فقد كانوا في لهفة الانتظار لمجيء المسيح الثاني، وظهوره المخوف والمملوء مجدًا، حتّى أنّهم كانوا يتوقّعونه كلّ يوم.
وقد كتب لهم الرسول «أَنَّهُ لاَ يَأْتِي إِنْ لَمْ يَأْتِ الارْتِدَادُ أَوَّلاً» (2تس2: 3). وكانوا يتساءلون فيما بينهم: ماذا عن النفوس التي رقدَت في أيامهم قبل مجيء الرب؟ فأراد أن يوضح لهم حقيقة الأمر، لكي لا يحزنوا على الذين رقدوا في الرب، حُزن غير المؤمنين الذين ليس لهم رجاء القيامة. وهكذا شرح لهم أنهم أعضاء جسد المسيح، وهم الآن ينتظرون مجد ظهوره، وفي مجيئه الثاني سيُحضرهم الربّ معه، فهم وإن سبقونا ولكنهم في المسيح يحيون، وعلى رجاء القيامة رقدوا.
ومن جهة القيامة، فإنّ قيامة ربنا يسوع من الأموات وكسرِهِ شوكة الموت، هي الركيزة التي نتمسّك بها. فإن كان المسيح قد قام من الأموات بقوّة واقتدار، فإنّ الراقدين في يسوع سيقومون بقيامته.
وقد كَتَبَ القديس بولس لأهل رومية عن روح القيامة، الذي نُلناه قائلاً: «وَإِنْ كَانَ رُوحُ الَّذِي أَقَامَ يَسُوعَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَاكِنًا فِيكُمْ، فَالَّذِي أَقَامَ الْمَسِيحَ مِنَ الأَمْوَاتِ سَيُحْيِي أَجْسَادَكُمُ الْمَائِتَةَ أَيْضًا بِرُوحِهِ السَّاكِنِ فِيكُمْ» (8: 11). هكذا نبّه القديس بولس المؤمنين أن لا يجهلوا هذا الأمر. لأنّ بدون هذا الرجاء، يصير الإنسان في رعبة الموت وفقدان الأمل، ويَحسِب أنّ الموت هو النهاية الأسيفة، ويحزن ولا عزاء.
(يُتّبَع)
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
29 أكتوبر 2021
مَثَــل عُـرس ابن الملك ج1
«وَجَعَلَ يَسُوعُ يُكَلِّمُهُمْ أَيْضًا بِأَمْثَالٍ قَائِلًا: يُشْبِهُ مَلَكُوتُ ٱلسَّمَاوَاتِ إِنْسَانًا مَلِكًا صَنَعَ عُرْسًا لِٱبْنِهِ، وَأَرْسَلَ عَبِيدَهُ لِيَدْعُوا ٱلْمَدْعُوِّينَ إِلَى ٱلْعُرْسِ، فَلَمْ يُرِيدُوا أَنْ يَأْتُوا. فَأَرْسَلَ أَيْضًا عَبِيدًا آخَرِينَ قَائِلًا: قُولُوا لِلْمَدْعُوِّينَ: هُوَذَا غَدَائِي أَعْدَدْتُهُ. ثِيرَانِي وَمُسَمَّنَاتِي قَدْ ذُبِحَتْ، وَكُلُّ شَيْءٍ مُعَدٌّ. تَعَالَوْا إِلَى ٱلْعُرْسِ! وَلَكِنَّهُمْ تَهَاوَنُوا وَمَضَوْا، وَاحِدٌ إِلَى حَقْلِهِ، وَآخَرُ إِلَى تِجَارَتِهِ، وَٱلْبَاقُونَ أَمْسَكُوا عَبِيدَهُ وَشَتَمُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ ٱلْمَلِكُ غَضِبَ، وَأَرْسَلَ جُنُودَهُ وَأَهْلَكَ أُولَئِكَ ٱلْقَاتِلِينَ وَأَحْرَقَ مَدِينَتَهُمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَبِيدِهِ: أَمَّا ٱلْعُرْسُ فَمُسْتَعَدٌّ، وَأَمَّا ٱلْمَدْعُوُّونَ فَلَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ. فَٱذْهَبُوا إِلَى مَفَارِقِ ٱلطُّرُقِ، وَكُلُّ مَنْ وَجَدْتُمُوهُ فَٱدْعُوهُ إِلَى ٱلْعُرْسِ. فَخَرَجَ أُولَئِكَ ٱلْعَبِيدُ إِلَى ٱلطُّرُقِ، وَجَمَعُوا كُلَّ ٱلَّذِينَ وَجَدُوهُمْ أَشْرَارًا وَصَالِحِينَ. فَٱمْتَلَأَ ٱلْعُرْسُ مِنَ ٱلْمُتَّكِئِينَ. فَلَمَّا دَخَلَ ٱلْمَلِكُ لِيَنْظُرَ ٱلْمُتَّكِئِينَ، رَأَى هُنَاكَ إِنْسَانًا لَمْ يَكُنْ لَابِسًا لِبَاسَ ٱلْعُرْسِ. فَقَالَ لَهُ: يا صَاحِبُ، كَيْفَ دَخَلْتَ إِلَى هُنَا وَلَيْسَ عَلَيْكَ لِبَاسُ ٱلْعُرْسِ؟ فَسَكَتَ. حِينَئِذٍ قَالَ ٱلْمَلِكُ لِلْخُدَّامِ: ٱرْبُطُوا رِجْلَيْهِ وَيَدَيْهِ، وَخُذُوهُ وَٱطْرَحُوهُ فِي ٱلظُّلْمَةِ ٱلْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلْأَسْنَانِ. لِأَنَّ كَثِيرِينَ يُدْعَوْنَ وَقَلِيلِينَ يُنْتَخَبُونَ» (مت22: 1–14).
ملكوتك يا إلهي الذي أعدَدْتَهُ لمختاريك ودعوتَ إليه أحباءك، هو عُرسٌ حقيقيٌّ وفرح لا يُنطَق به. هو حفل أبدي، حيث العريس الحقيقي هو ابن الآب، بالحقّ والمحبّة.. حين تزفّ عروسك الحقيقيّة التي اقتنيتها لنفسك وبذلت ذاتك لأجلها.. أورشليم السمائية كما رآها عبدك يوحنا «نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا (للعريس السماوي)» (رؤ21: 2).ما أبهاه من فرح.. ما لا يخطر على بال الناس.. فرح لا يُعبَّر عنه بلُغة بشريّة.
أنت قدّستَ كلّ شيء، وهيّأتَ الكلّ قبل كون العالم لنعيم أولادك وشركة الحياة الأبدية.. وأرسلت عبيدك الأنبياء ينادون المدعوّين كي يلبّوا دعوة حبّك يا سيّدي.
يا حسرتي، حينما أسمع أنّ البعض توانَى عن الدعوة التي دُعِيَ إليها، يجوز في نفسي شعور بالأسى كلما أتذكّر التواني والكسل والاهمال وعدم المبالاة بدعوة حبّك وشركة أسرار فرحك.ماذا كان يدور في خَلَدي في تلك الأوقات؟.. أهو عدم إدراك حقيقي للدعوة؟..أم هو انشغال بالباطل؟.. أم هي أعذار واهية بلا مبرّر؟.. أم هي طبيعتي الترابية متمسّكة بالأرضيات غير ناظرة إلى فوق؟!!
حين أفكّر فيمن اعتَذَرَ بأنّه اشترى بَقَرًا، وهو ماض ليمتحنها بعد أن اشتراها، أو من ارتبط بزواج جسداني فكبَّله برباط الجسد، لا يقدر أن يتحلّل منه أو يتحرّك إلى السماويّات، إلى فوق.كلما جال بخاطري هؤلاء وأولئك أرجع إلى نفسي الشقيّة التي كثيرًا ما كان هذا هو حالها.. الآن يا سيدي كلمات هذا المثل توقِظ ضميري وتعيد إلى سمعي نداء قديسيك "هلمّوا إلى العرس".نعم يا سيدي.. «الرُّوحُ وَالْعَرُوسُ (الكنيسة) يَقُولاَنِ: تَعَالَ» (رؤ22: 17).. أحضانك فتحتها على الصليب للقبول بالمحبّة الأبديّة.. من يدخُل إليك يدخل إلى الفرح الأبدي.. صليبك هو ذبيحة الحبّ، والعشاء في السماء هو «عَشَاءِ الْخَرُوفِ القَائِمٌ كَأَنَّهُ مَذْبُوحٌ... لأَنَّكَ ذُبِحْتَ وَاشْتَرَيْتَنَا للهِ» أبيك وأقمتنا فيك (رؤ5: 6، 9 و19: 9).أتوسّل إليك يا سيدي.. ألاّ تحرم نفسي من دسم مائدة فرحك التي أخذتُ عربونها هنا على الأرض باشتراكي في ذبيحة القداس، إلى أن يكمُل الفرح بالدخول الحقيقي إلى السماويّات عينها.
لا يعرِف هذا الفرح إلاّ الذي يدخُل إليه يا سيّدي، حين يَسمَع صوتك الإلهي يقول له شخصيًّا: «اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (مت25: 23).
أدخِلني إلى الفرح، وعَزِّ نفسي في غُربة هذا العالم التي يشوبها الكَدَر دائمًا.. أدخِلني إلى داخل ولا تطرحني خارجًا.. أدخلني كدخول العذارى إلى الخدر السمائي حيث عريس نفسي.خارجًا ظلمة ومرارة نفس.. بكاء وصرير أسنان.. دعني أحتمي فيك يا سيّدي.. وحين تضمّني ذراعاك أكون داخل الفرح الحقيقي، وأمان وسلام النفس.
الذين حَرموا أنفسهم من حبّك، وفرح بيتك، بانحراف إرادتهم، كمَن رفضوك مَلِكًا عليهم. وأهانوا رسلك واحتقروا كلمات دعوة حبّك.. هؤلاء قال الملك إنّهم غير مستحقين ولا مستأهلين للكرامة.. فأحرق مدينتهم وحكم عليهم بحسب عدله، أنّهم لا يذوقون عشاءه، ولا يرون مجد الفرح، بل صار نصيبهم في الخزي، إذ جلبوه على أنفسهم جزاء انحراف إرادتهم.أمّا العُرس فمُعَدّ وأما المدعوّون فلم يكونوا مستحقين.. والآن ماذا يا سيّدي.. إنّ قلبي وعقلي يتوه حين أسمع أمرك لعبيدك أن ينادوا مناداة الكرم الإلهي للذين في الطرقات عابري السبيل، بل وللذين قضوا العمر عند الأسوار (السياجات)، كمَن ليس لهم أحد يذكُرهم أو يعتبرهم.. هؤلاء وأولئك لم يكن لهم اعتبار، ولا اسم، ولا مركز، ولا شكل ولا قيمة.. وأين هم من دعوة ملك الملوك وحفل عرس ابنه الحبيب؟
هؤلاء المساكين انفتحت أمامهم أبواب السماء فجأة وبلا مقدمات، وبلغتهم البشارة المفرحة الفائقة للعقل.. هلّموا إلى العرس إنّ عبدك المسكين يا سيّدي، هو أحد هؤلاء.. الدعوة لا يصدّقها العقل.. أنا! أنا مدعوٌّ إلى العرس السمائي؟ هل هذا يُصدَّق؟!
نعم يا سيّدي الربّ، أنا أعرف أنّ وعودك هي بلا ندامة.. اِجعل في قلبي وعقلي ثِقة في كلمتك، وصدق لمواعيدك ودعوتك.. أنا فعلاً بنعمتك مدعوٌّ إلى العرس الأبدي.. أنا غير مستحقّ ولا مُستأهل.. مَن أنا حتّى أجلس إلى مائدة الملك؟!.. عندما تغمرني بلطفك ولُجج حبّك تتدفّق بسخاء النعم العجيبة، أشعر بحقارة نفسي بالأكثر. يا سيّدي الرب.. إذا دُعِيَ إنسانٌ من عامّة الشعب إلى مجالسة ملك أرضي أو رئيس من رؤساء العالم، فإنّ الدنيا كلّها تتحدّث عن هذا الأمر الفائق.. فكم إذا دُعِيَ «الْمَسَاكِينَ، الْجُدْعَ، الْعُرْجَ، الْعُمْيَ» (لو14: 13) بحسب مقياس الروح. والمعتبَرين أنّهم عادمي كلّ خير وكلّ صلاح.. أخطى الخطاة.. يُدعَوْن إلى ميراثك الأبدي وفرح عُرس السماء؟
ثبِّتْ دعوتك وسمِّرها في أعماقي لكي أسلُك بحسب دعوتك إليّ أن أبلغ أعتاب السماء يا سيّدي الرب.
(يُتّبَع)
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
22 أكتوبر 2021
مهمّة رئيس الملائكة ميخائيل
قيل في سِفر التثنية إنّ الربّ دَفَنَ موسى في الجواء (الوادي)، بعد أن أراه أرض الموعد من بعيد، ولم يَعرِف أحدٌ قبر موسى إلى هذا اليوم (تث34: 6).. فقد أخفى الله جسد موسى بحسب تدبيره الخاص.
ولكن ذَكَرَ القديس يهوذا الرسول في رسالته، أنّ رئيس جند الربّ ميخائيل «خَاصَمَ إِبْلِيسَ مُحَاجًّا عَنْ جَسَدِ مُوسَى، لَمْ يَجْسُرْ أَنْ يُورِدَ حُكْمَ افْتِرَاءٍ، بَلْ قَالَ لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ».
وواضح من ذلك أنّ الشيطان أراد أن يعمل ضلالة عظيمة ضدّ تدبير الله لأنّه هو مقاوم وعدو كلّ خير. أراد أن يُظهِر جسد موسى ويحوِّل قلب شعب إسرائيل عن عبادة الله وطاعته، ليتعلّقوا بجسد موسى كنوع من عبادة البشر، إذ كان موسى عندهم هو كلّ رجائهم.
فلمّا ظهرت نيّة إبليس محاولاً أن يُخرِج جسد موسى من مكان دفنه المُخفَى عن عيون البشر، أوعز الله إلى ميخائيل رئيس جند الرب أن يوقِف الشيطان ويتصدّى له. ولما كان إبليس رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل في أبناء المعصية - هو قوّة هائلة وروح ظلمة مُريع – وله قدرات فائقة، إذ كان رئيسًا للملائكة، وأوصافه التى وصفها به الأنبياء تُنبئ عن ذلك، إذ يقول عنه إشعياء: «كَيْفَ سَقَطْتِ مِنَ السَّمَاءِ يَا زُهَرَةُ، بِنْتَ الصُّبْحِ؟» (14: 12). وقال عنه حزقيال: «أَنْتَ خَاتِمُ الْكَمَالِ، مَلآنٌ حِكْمَةً وَكَامِلُ الْجَمَالِ... أَنْتَ الْكَرُوبُ الْمُنْبَسِطُ الْمُظَلِّلُ، وَأَقَمْتُكَ. عَلَى جَبَلِ اللهِ الْمُقَدَّسِ كُنْتَ. بَيْنَ حِجَارَةِ النَّارِ تَمَشَّيْتَ. أَنْتَ كَامِلٌ فِي طُرُقِكَ مِنْ يَوْمَ خُلِقْتَ حَتَّى وُجِدَ فِيكَ إِثْمٌ» (28: 12، 14، 15).
على هذا كانت مهمة رئيس الملائكة ميخائيل في التصدّي لإبليس مهمّة غاية في الصعوبة، توصَف بأنّها حرب في السماء.
ميخائيل كاسمِه "مَن مِثل الله" يستمدّ قوّته من خضوعه لله. بينما إبليس أو الشيطان هو كروح ظلمة مضاد لطبيعة الله الذي هو النور، والساكن في النور الذي لا يُدنَى منه.
+ «بَارِكُوا الرَّبَّ يَا جَمِيعَ مَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً، الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ ، الْعَامِلِينَ مَرْضَاتَهُ» (مز103: 20، 21).
+ «الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا وَخُدَّامَهُ لَهِيبَ نَارٍ» (عب1: 7).
لذلك فإنّنا ندرك أنّ ميخائيل تصدّى لقوّة الظلمة الهائلة، أي لإبليس وجنوده، ليوقِف عمله ويبطل مشورته. وهذا ما عبَّر عنه سِفر الرؤيا بقوله: «حَدَثَتْ حَرْبٌ فِي السَّمَاءِ: مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا التِّنِّينَ، وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ» (رؤ12: 7).
وقد كانت مهمّة رئيس الملائكة ميخائيل هكذا مهمّة خطيرة وصعبة جدًّا. ولم يستطِع إبليس أن ينفّذ إرادته الشريرة، بل توقّف عن تقدّمه، بسبب قوّة ميخائيل وتصدّيه الحاسم. ويمكننا أن نتخيّل هذه المواجهة الصعبة، عندما نتذكّر أنّ ملاكًا واحدًا قتل «مِئَةَ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا مِنْ جَيْشِ سَنْحَارِيبُ» (2مل19: 35) المحاصِر لأورشليم في أيام حَزَقِيَّا الملِك.
فما بالك برئيس الملائكة!!؟
وقول رئيس الملائكة ميخائيل وصرخَتُهُ في الشيطان «لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ» فيه لنا قدوة وسِرّ، به كيف نواجه هذا العدوّ، إذ نلتجئ إلى اسم الرب.. ولاسيّما بعد أن نلنا نعمة البنوّة، وأخذنا من المسيح الإله قوّة وسلطانًا على الأرواح النجسة، حتى طَرْدها وإخراجها وغلبتها بقوّة الروح القدس المُعطَى لنا، لأنّ الرب قال: «أَنَا بِرُوحِ اللهِ أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ» (مت12: 28) وقال الرسول يعقوب: «قَاوِمُوا إِبْلِيسَ فَيَهْرُبَ مِنْكُمْ» (يع4: 7) وقال الرسول بطرس أيضًا: «قَاوِمُوهُ، رَاسِخِينَ فِي الإِيمَانِ» (1بط5: 9). وقال الرب أيضًا: «هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوّ» (لو10: 19).
فليكن في فمنا قول رئيس الملائكة «لِيَنْتَهِرْكَ الرَّبُّ». نقوله الليل والنهار في كلّ ما يقابلنا من حروب أو معاكسات أو فخاخ أو مضايقات أو هجمات العدو. وكان عوام (عامّة) المؤمنين يقولون: "ربنا يخزيك يا شيطان". وكانوا يؤمنون إنّه بمجرّد رشم علامة الصليب يهرب الشيطان، ويصيبه الخزي، لأنّ الرب يسوع سحق الشيطان بالصليب.
ثم بعد ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة، لمّا تجسّد ابن الله وظهر في الهيئة كإنسان من أجل خلاص العالم. وصُلِبَ على الصليب حاملاً خطيّة العالم كلّه. وأسلم الروح في يديّ الآب. طار صواب عدو الخير لما اكتشف أنّ الذي وُلد في مذود، وصار في الهيئة كإنسان، وصار مُجرَّبًا في كلّ شيء وتعب وبكى ونام.. إلى آخر هذه الأمور، واحتمل الآلام ومات.. لم يكن سوى أقنوم الكلمة، الذي في ذات الله، والواحد مع أبيه في الربوبيّة.
وعندما نزل بلاهوته المتّحد بالنفس البشرية إلى الجحيم وسبى سبيًا، وخلّص آدم وبنيه من سجن الأرواح أي قبضة إبليس، أسرع إبليس في جنونه الشيطاني ليعمل ضلالته العظمى، إذ أدرك أنّ المسيح لا يمكن أن يُمسكه الموت، بل هو سيقوم حتمًا كما قال، لأنّه هو هو القيامة والحياة. فراح يعمل في فِكر رؤساء كهنة اليهود، لكي بكلّ وسيلة يخفي القيامة، فأسرعوا إلى بيلاطس لكي يضبطوا قبر المخلّص بأختام وعساكر. وقالوا عن الرب: «أَنَّ ذلِكَ الْمُضِلَّ قَالَ وَهُوَ حَيٌّ: إِنِّي بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَقُومُ... لِئَلاَّ يَأْتِيَ تَلاَمِيذُهُ لَيْلاً وَيَسْرِقُوهُ، وَيَقُولُوا لِلشَّعْبِ: إِنَّهُ قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، فَتَكُونَ الضَّلاَلَةُ الأَخِيرَةُ أَشَرَّ مِنَ الأُولَى» (مت27: 63، 64).
فتصوّر أنّ الشيطان المُضِلّ والكذّاب وأبو الكذّاب يقول عن الرب إنّه مُضِلّ وأنّ قيامته ضلالة.. وإنّي أـتعجّب لشرّ الشرير وظُلمة الظالم. فذاك الذي أسقطه كبرياؤه ليصير مثل العليّ.. أحدَرَتْهُ أفكاره إلى أسفل السافلين.
فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة الذين انقادوا لمشورة الشيطان "عندكم جنود فاضبطوا القبر كما تشاءون". كانت هذه المحاولة اليائسة والمشورة الغبيّة هي آخر حصون العدو التي هدمها المسيح بقيامته. لأنّه عندما أشرق نور قيامة المسيح هربَتْ قوات الظلمة وتبدّدت في الحال.
لأنّه هل ممكن أن يحجِز الظلام نور شمس البرّ؟ وهل ممكن للذي وُلد من العذراء بدون زرع بشر الذي لم يفعل خطيّة، القدوس الذي بلا شرّ أن تسود عليه شوكة الموت؟ وهل يُعقل أنّ الأزلي الأبدي تكون له نهاية أيام؟
لذلك قام المسيح من الأموات، ونقض أوجاع الموت وكسر شوكته، وأنار الحياة والخلود.
في هذه المرّة أيضًا، أوعز الربّ لرئيس جنده الملاك ميخائيل أن ينزل، ولكن لم تكن هذه المرّة كسابقتها.. فإبليس انسحق سحقًا بقيامة المسيح الإله، وشوكة الموت والظلام انكسرت إلى الأبد. وقوّة المعاند تحطّمت، والقيود التي كان يقيِّد بها النفوس ويستعبدها رجعت عليه فصار هو مقيدًا ومذلولاً.
بل إله السلام وملك السلام أعطى عبيده سلطانًا على إبليس، وأن يدوسوا الحيّات والعقارب وكلّ قوّة العدو.
فنزل ميخائيل بقوّة لا ليواجه شيطانًا مقهورًا، وقوّات ظلمة فَزِعة فارّة (هاربة) بل ليُعلِن قيامة المسيح، فلما رآه الجنود وهزّتهم الزلزلة صاروا كأموات وهربوا من الخوف، لذلك دَحرَج الحجر عن باب القبر الفارغ وجلس عليه.
وهنا العجب العجاب أنّ الملائكة وهم أرواح فائقة غير متجسّدة.. لا يتعبون ولا يجلسون. ولكن من فرط فرح القيامة جلس ميخائيل على الحجر وبشّر النسوة حاملات الطيب قائلاً: المسيح قام.
معونة الملائكة وشفاعتهم:
بسبب طبيعتهم الخيِّرة - المخلوقين عليها - فإنّهم يحبّون الخير ويخدمونه ويتمنّونه. وعلى العكس فهم ضدّ الظلام والشرّ والخراب الذي تصنعه أرواح الظلمة في العالم. انظر إلى الملاك الذي شفع في أورشليم في أيّام زكريا النبي كيف قال للرب: «إلىَ مَتَى أَنْتَ لاَ تَرْحَمُ أُورُشَلِيمَ وَمُدُنَ يَهُوذَا الَّتِي غَضِبْتَ عَلَيْهَا هذِهِ السَّبْعِينَ سَنَةً؟". فأجابه الرب بكلام طيب وكلام تعزية.والأمر المؤكَّد أنّه لم تكن هذه هي المرّة الأولى التي وقف فيها الملاك يطلب ويستعطف الله ويطلب الخير لأورشليم. إذ أنّ الملائكة موجودون في حضرة الله كلّ حين، يباركونه ويسبّحونه من أجل خيراته، ومن أجل أعماله المملوءة صلاحًا. فهُم بالحقيقة شُفَعَاء طالبون الخير وكلّ ما هو مرضِيّ أمام الله.«إِنَّ السَّيِّدَ الرَّبَّ لاَ يَصْنَعُ أَمْرًا إِلاَّ وَهُوَ يُعْلِنُ سِرَّهُ لِعَبِيدِهِ الأَنْبِيَاءِ» (عاموس3: 7). أيّ أنّ أسرار الله وتدابير نعمته يُعلنها لقديسيه. ألم يقُل في سِفر التكوين: هل أُخفي عن عبدي إبراهيم ما أنا صانع؟ لذلك ليس كثيرًا أن يصير القديسون شُفعَاء أمامه.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
15 أكتوبر 2021
مثَل حبة الخردل ج2
-2-
لقد قلتَ لرسلك الأطهار، مشجعًا حياتهم في الإيمان: «لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ... فَيَنْتَقِلُ».
إنّ حبّة الخردل صلبة جدًّا، في صغرها المتناهي. تحمِل أيضًا صفات الإيمان الصلب الذي لا يلين، إيمان الأقباط نَقَلَ الجبل فعلاً، وهي معجزة لا ينساها الأقباط مهما مضى عليها من زمن، فهي حدثت في أيام البابا أبرام بن زرعة، وحُكم المُعِزّ لدين الله الفاطمي، حدَثَت في وضح النهار وقدّام جماهير المصريين، انتقلَ الجبل وسار بقوة الإيمان، المشبَّه بحبّة الخردل.. إيمان لم تَنَلْ منه التجارب ولا الاضطهادات، ولا شكوى عدو الخير.. بل زادته التجارب صلابة وقوّة، وصقَلته المحن والضيقات.. فهل تسند إيماني بك وتوطِّد رجائي فيك.
ولكن هذه البذرة يا مخلصي، لابد أن تَسقط في الأرض وتموت، كقولك عن ذاتك وصليبك «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ» (يو12: 24).. هذا قلتَه يا مخلصي الصالح عن موتِك المُحيي. لابد أن تعاني بذرة الملكوت في القلب، ما تعانيه البذرة، حبّة الخردل في تراب الأرض، لابد أن تصارِع حتى الموت في مواجهة عوامل الفناء والموت والتحلُّل.. تموت لتنمو، تُدفَن لتقوم، تتحلّل لتصير أعظم.. تفنى في باطن الأرض لترتفع إلى السماء.. سرّ عجيب!!
والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني، من أين هذه الفروع العظيمة، الكبيرة؟ مِن تلك البذرة المتناهية في الصغر. من أين أتت الحياة المُزهِرة التي للقدّيسين حتى صاروا عظماء ممجَّدين في كلّ العالم؟ مِن حبّة الخردل الصغيرة في القلب، من بذل الحياة والفناء من أجل ملكوت الله. فلما كمُل البذل وإنكار الذات وحمل الصليب، أخرجَتْ شجرة الملكوت، وأغصانها صارت تملأ الدنيا كلّها. وصارت حبّة الخردل سبب راحة وخلاص لطيور السماء، صارت مسكنًا لألوف، وعشًّا تضع فيها أفراخها للإكثار، وملجأ من السيل والحر، ووطن للغريب.
متى يُستعلَن ملكوت الله، ينمو ممتدًّا حتّى يظلّل على الكثيرين؟ إنّ حبة الخردل تبدو بلا فائدة وبلا قيمة حتى تتحوّل إلى شجرة عظيمة. أي لا تصير لذاتها أو قائمة بذاتها بل تُصبِح وتعيش للآخرين.
علِّمني الخروج من ذاتي وإنكار ذاتي، بل وبذل ذاتي. هكذا سيظل ملكوتك يا إلهي محصورًا فيَّ إلى أن يُستعلن خادمًا للآخرين، يأوي إليه طيور السماء..
- أغصان حُبّ ورحمة تظلّل الضعفاء.. أغصان اتضاع ومسكنة تحمل الأثمار. ومِن ثقل الأثمار تراها متّجهة إلى أسفل..
- أغصان قداسة تفيح رائحتها، تملأ المسكونة من رائحة المسيح الزكية..أغصان زيتون الروح الجُدُد المتجدّدين، محيطين بمائدة المذبح.
- أغصان خشبة الصليب، وحمل الصليب، وحبّ الصليب..
أتوسل إليك أن تصير حبّة الخردل التي ألقيتَها في أرضي.. في قلبي، واستودعتها سرّ حياتك الخاصّة، فصارت كائنة من أقاصي المسكونة إلى أقصاها. وها أنا أطلب في الصلاة أن تحفظها بسلام.
+ قلتَ يا سيدي عن حبّة الحنطة «إِنْ لَمْ تَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا».. إنّ قِشْرتها الصغيرة تجدها في حجمها الصغير، فلابد أن تنحل هذه القشرة، وتتكسّر وتفنى في تراب الأرض، لتعطي فرصة للجنين الحي ليشقّ طريقه، مثل قشرة البيضة محيطة بالفرخ الحي، لابد أن تتهشم ليخرج هو إلى الحياة. القشرة الخارجية هي الذّات التي أحرص عليها، والمظهر الخارجي، وحياة إنساني الخارجي، إنسان الجسد والتراب.
إنكار الذات والتفريط فيها، وجحد مشيئتها وصلب الجسد مع الأعضاء.. و«مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ» (رو8: 36).. كلّ هذا تعبير عن خلع العتيق ليفسح مكانًا للجديد.
+ إنّ النمو والزيادة، هما قانون حياة الروح وملكوتك يا إلهي. فحبّة الخردل، لا تبقى دومًا محجوزة داخل قشرتها الصغيرة، هذا مستحيل.. فما أن تبدأ رحلة نموها حتى تحطِّم كلّ مقاييس الصغر.
ملكوتك زيادة، لا تعرف النقصان، يُفاجَأ العالم بها وإذ هي شجرة كبيرة.. نمّيني في النعمة، وفي معرفة ربِّي يسوع المسيح.. اجعلني أنمو كلّ يوم، دَعْ بذرة الملكوت تنمو داخل قلبي كلّ يوم.
+ الكنيسة هي ملكوتك يا إلهي على الأرض، وهي الملجأ والظلّ، ومكان الاحتماء «العُصْفورُ وجَدَ لهُ بَيْتاً واليَمامَةُ عُشّاً لِتضَعَ فيهِ أفْراخَها، مَذابِحُكَ يا رَبُّ إلَه القُوّاتِ مَلِكي وإلَهي. طوبَى لِكلِّ السُّكانِ فى بَيْتِكَ» (مز83 أجبية).
الصليب صار كحبّة الخردل، عندما زُرع في الأرض، وارتوى بدم المسيح، صار شجرة أبدية، تحت ظلّه تشتهي النفوس أن تبيت وتستريح. وطيور السماء المُحلِّقة في الروحيّات لا تجد راحتها سوى في الصليب يا إلهي.. كلّ من أوى إلى أغصان الصليب يكون قد دخل لكي يحتمي تحت جناحيّ المسيح.
والآن.. هل وصلتْ إليَّ كلمة الملكوت؟ هل وجدَتْ في قلبي مكانًا تختبئ فيه؟ هل وجدَتْ فيه رطوبة وليونة وسقي ماء الروح؟ هل وجدَتْ أيضًا عمقَ أرضٍ حتى تفسح لها مكانًا تعمل فيه جذورها لتتأصّل؟
إن وجد كلّ هذا، فكلمة الملكوت سوف يُستعلَن وجودها لا محالة. سوف تظهر أغصانها ويمتدّ الملكوت فيَّ وبيَّ. ولكن أنا أعلم أنّ ساق النبات وأوراقه يظهر في مرحلة أولى، بينما الأثمار هي آخر مراحله.
فأطلب إليك وأتوسل أن تتأصّل فيَّ كلمة الملكوت، لكي أُثمر لك يا إلهي ومخلّصي.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
08 أكتوبر 2021
مثَل حبة الخردل
-1-
«وَقَالَ: بِمَاذَا نُشَبِّهُ مَلَكُوتَ اللهِ؟ أَوْ بِأَيِّ مَثَل نُمَثِّلُهُ؟ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل، مَتَى زُرِعَتْ فِي الأَرْضِ فَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُذُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ. وَلكِنْ مَتَى زُرِعَتْ تَطْلُعُ وَتَصِيرُ أَكْبَرَ جَمِيعِ الْبُقُولِ، وَتَصْنَعُ أَغْصَانًا كَبِيرَةً، حَتَّى تَسْتَطِيعَ طُيُورُ السَّمَاءِ أَنْ تَتَآوَى تَحْتَ ظِلِّهَا» (مر4: 30-33).
~~~~~~~~~
هكذا يا مخلّصي أعلنتَ سرّ ملكوتك في كلمات بسيطة ليدركها أولادك البسطاء، فالأمر يا سيدي ليس فلسفة كلام، فملكوتك ليس كلامًا ولا خيالاً، بل هو حقّ كلّ الحقّ. وحبّة الخردل الصغيرة تُلقيها أنت بذاتك في القلب. ولكن فيها سرّ الحياة، سرّ الخلود. وأنا أؤمن يا سيدي أنّ زرعك الإلهي كائن في داخلي. وقد نبّهت رسلك الأطهار قائلاً: «لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل لَكُنْتُمْ تَقُولُونَ لِهذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ... فَيَنْتَقِلُ» (مت17: 20).
ليس الأمر يخصّ نقل الجبال، وإن كان هذا قد حصل فعلاً بقوّتك في ساعة ضيقة أولادك الذين وقع عليهم الاضطهاد.. ليس عسيرًا عليك يا إلهي أن تنقل الجبال، فأنت خالق الجبال. لكن على ما يبدو لعبدك أنّك توجِّه ذهني إلى أنّ الإيمان يقدر على المستحيل، لاسيّما فيما يواجه عبدك من تجارب وحروب، أو ما يبدو عائقًا أمام نمو عبدك.
فالإيمان بك يجعل الجبل سهلاً ويُزيل العوائق.. أتوسّل إليك بحقّ حبّك الحاني أن تجعل هذه البذرة تنمو في قلبي.. في أعماقي.
+ يا سيدي الرب.. ما أكثر ما شبَّهت ملكوتك ببذور النبات، تسقط على الأرض وتُدفَن وتموت فيها، ثم تحيا، وتنبت، وتعطي أثمارها.. وفي الواقع فإنّ تعليمك يا مخلّصي مُنصبٌّ دائمًا على كون البذرة هذه تحوي سرّ الحياة الأرضية، فهي والحال كذلك تصير أصدق تعبير عن سرّ الحياة الدائمة الذي هو ملكوتك الأبدي.
إنّ سرّ الحياة الأرضية، لم يصل إليه عِلم العلماء، ولا فهم الفهماء بعد. إنّ كلّ ما يعرفه العلماء هو مظاهر الحياة. أمّا ماهيّة الحياة، فهذا أمر يفوق مستوى الإدراك البشري، إذ أنّ الحياة مستمَدّة مِنك يا إلهي الحيّ الأبدي الأزلي الذي يُدرَك ولا يُدرَك كماله، كما يقول أحد أولادك.
فمظاهر الحياة في الكائن الحيّ مُدرَكَة بالحواس: كالتنفّس، والحركة، والنمو والتكاثر والتغذية، إلى آخر هذه الظواهر التي لا تخطئها حواس الإنسان مهما كان بسيطًا في إدراكه. وهذا ما يميّز الكائن الحي من الميت. أما إدراك الحياة ذاتها، فكيف يُدرَك غير المحسوس بالحواس؟
+ إنّ اختيارك يا سيدي في هذا المثل، لِحبّة الخردل، ووصفها بأنّها أصغر جميع البذور، ولكن فيها يكمن سرّ الحياة، فقط هيِّئ لها تربة صالحة، وتعهّدها بسقي الماء، وأعطها وقتًا للنمو، ثم تأمّلها.. إنّها أعجوبة وآية باهرة، حيث تصير أكبر من جميع البقول وتصنع أغصاناً كبيرة. وهذا هو صميم عملك في امتداد ملكوتك.
والاعتبار الأول الذي تَنَبَّه ذهني إليه في هذا المثل، أنّ الحبّة صغيرة متناهية في الصغر، فهل من هذا الصِغَر يمكن أن تخرج شجرة كبيرة؟! إنّ ملكوتك يبدأ داخل القلب كبذرة صغيرة، كحبّة خردل. وأنّ ملكوتك داخل العالم يبدأ كبذرة صغيرة كحبّة خَردل. ماذا كان الرسل بالنسبة لحقل العالم المتّسع، المترامي الأطراف يا سيدي؟ لقد كانوا قِلّة صغيرة جدًّا، اثني عشر تلميذًا، وسبعين رسولاً. ما هؤلاء بالنسبة لملايين البشر، هل تستطيع حبّة الخردل هذه أن تنمو، أن تُخرِج أغصانًا، أن تصير شجرة كبيرة تأوي إليها طيور السماء؟
لقد حَوَتْ سِرّ الحياة الأبدية، الحياة هي المسيح، لقد حمل التلاميذ سرّ حياة المسيح فيهم، وسرّ الحياة يتحدّى كلّ معوّقات الطبيعة وكلّ ظلمة الأرض وبرودتها المائتة.. أتوسّل إليك أن تستودع قلبي سرّ الحياة هذه!
إمكانيّات الرسل كانت ضئيلة، لا عِلم ولا معرفة علميّة، ولا صيت ولا اسم، ولا مركز ولا سُمعة، ولا أموال، ولا مقتنيات، ولا كيس ولا مزود، ولا حتى عصا للطريق، ولا ثوبين.. حقًّا كانوا كحبّة خردل، صغيرة، صغيرة في كل شيء. ولكن هذه الحَبّة، إذ روتها دماء الشهداء، وعَرَق النسَّاك، ودموع التائبين، نَمَت بسرعة أذهلت العالم، وصارت فروع أغصانها تظلّل المسكونة، إذ تعهّدتها يا واهب الحياة، إذ وضعت حياتك فيها واستودعتها روح الحياة، نبتت ونمت وأخرجت أغصانها.
ملكوتك يا إلهي، ليس بالقوة ولا بالقدرة، هو كخميرة صغيرة ولكن حيّة. هو قطيع صغير ولكن راعيه الحنون قائم يرعاه، والآب سُرَّ أن يعطيه الملكوت.
لا أخاف إذا وجدتُ نفسي كحبّة الخردل، صغير في وسط العالم، أو في وسط المجتمع، أو حتى في وسط أهل بيتي.
إنّ الإنسان الأمين لإلهه يبدو كحبّة خردل في وسط بذور الشرّ المنتفخة والمتضخّمة بالكذب. الشاب الطاهر يبدو كحبّة خردل صغيرة في وسط بذور النجاسة المنتشرة في كلّ مكان. الشابّة العفيفة تبدو كحبّة الخردل الصغيرة في مواجهة تيارات التسيُّب والانحلال.
اجعل روحك في داخلى يُطَمْئن قلبي.. إنّ سرّ الحياة فيك، فلا يستهين أحدٌ بك، أنا قوي بحياة إلهي فيَّ، سرّ الدم الإلهي يسري في أعماقي، إنّه سرّ الحياة التي لا تموت، ولا يقوى عليها الموت.
(يُتّبَع)
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
01 أكتوبر 2021
كلمات روحيّة للحياة
شفاعة السيدة العذراء والقديسين
سألني أحدهم كيف نطلب شفاعة العذراء من أجل غفران الخطايا؟ إنّ الغفران فقط بدم يسوع لأنّ دم يسوع يُطهِّر من كلّ خطيّة، وأنّه ليس لنا شفيع عند الآب إلاّ يسوع الذي هو كفَّارة لخطايانا، وليس خطايانا فقط بل خطايا كلّ العالم. وأنّه ليس بأحد غيره الخلاص.
قلت لصديقي هذا.. كلّ ما تقوله حقّ.. ولكن دعني أراجع معك واقعة مشوّقة جدًّا، دوَّنها الوحي الإلهي في أيام داود النبي الملك في الأصحاح 14 في سفر صموئيل الثاني. وما حدث عندما قتل أبشالوم ابن داود أمنون أخاه انتقامًا لِمَا فَعَلَه مع أخته من قباحة. وبعدما قتل أبشالوم أمنون هرب من وجه داود وهرب من الناموس الذي كان يحكُم بأنّ القاتل يُقتل. وظلّ أبشالوم هاربًا إلى أن جاء يوآب بامرأة حكيمة من تقوع، ولبست ثياب الترمُّل وجاءت إلى الملك داود كَمَن لها شكوى وهي تصرخ من الظلم وتتوجّع وتقول: "أَعِنْ أَيُّهَا الْمَلِكُ". فلما استفسر داود منها حكت له وضعًا مؤلمًا.. إذ أنّها أرملة، مات زوجها ولها ولدان، تشاجرا في الحقل وقام أحدهما وقتل الآخر. وها كلّ العشيرة حولها تطلب أن تنفِّذ الناموس وهو قتل القاتل. فقالت المرأة.. إنّها والحال كذلك ستعدِم كلا الاثنين. فهي أرملة مسكينة وما الفائدة من تنفيذ الناموس في هذه الحالة.. إنّها تريد رحمة.
فقال لها الملك: اذهبي وأنا سأدرس الأمر. فقالت: لا. وتوسّلت إليه. فقال: سأوصي بكِ. فأصرَّت وصارت تستعطف. إلى أن قال لها الملك، وهو صاحب الأمر، لن يموت ابنك.
فقد جعلت المرأة القضيّة بين يديّ الملك، وبالتوسُّل والاستعطاف استخلصت للقاتل حكم براءة، وكلمة من فم الملك أنّ الولد لن يموت.
قلت لصديقى هذا.. ما رأيك؟! نعم الناموس حقّ وأحكامه حقّ وواجبة النفاذ. ولكن ما رأيك في واضع الناموس وهو صاحب الحقّ كلّ الحقّ في كلّ أحكامه. فإنْ كانت هذه المرأة استطاعتْ بالتوسُّل والاستعطاف أن تصنع هذه الشفاعة، فكم بالحري أمّنا العذراء..؟!
هي تقف أمام الملك الديَّان لتشفع في الخطاة، وتستعطِف قلبه نحو بنيها.. هي أمّ القاضي والملك الديَّان.. وهي أمّ الخاطئ المُدان.
وبكلّ تأكيد كثيرة هي شفاعتها، قويّة ومقبولة لدى مخلّصنا.. هي تقف كأمّ حنون، قلبها نحو كلّ ضعيف. وهل تؤثِّر خطايا الأولاد وإخفاقاتهم على عاطفة الأمومة؟! وهل يُعقَل أنّ الأمّ تبغض أبناءها بسبب جحودهم أو أخطائهم؟ وهل تنسى الأمّ رضيعها؟!
إنّ طبيعة الأمّ الجسديّة وحبّها وعاطفتها في صميم الخليقة شيء مهول، لا يمكن التعبير عنه. فكم بالحري التي صارت أم المسيح، أم الرحمة المتجسّدة. مَن يقدر أن يصف عاطفتها وحبّها نحو أولادها الخطاة أو المرضى أو المتغرّبين عن المسيح؟!
شفاعة القديسين:
أمّا مِن جِهة أنّ القدّيسين يشفعون ويقفون أمام الله من أجل الشعب، فهذا أمر يخصّنا بالدرجة الأولى إذ نشعر أنّنا فِعلاً في حاجة شديدة لمِثل هذا الأمر. ألَم يقِف إبراهيم أمام الله يطلُب من أجل أشرّ الناس في جيله. وقال وقفتُ أمام المَولَى وأنا تراب. واستعطَفَ الربّ من أجل سدوم.. وهل يوجد أعظم من هذا؟! بل وزاد على ذلك أنّه تجرّأ بحسب الدالة التي له مع القدير، إذ دُعِيَ خليل الله، أنْ يطلُب أن يرحم الرب سدوم بسبب وجود قديسين وأبرار بها. فقال: لا تُهلِك البارّ مع الأثيم. وكان إبراهيم يفتكِر بحسب قلبه الطيّب أنّه لا يمكن أن تخلو مدينة بأكملها مثل سدوم، على الأقل، من خمسين بارًا. ولكن كشفَ له القدير أنّه لو وُجد خمسون بارًا لا يُهلِك المدينة. وظلّ إبراهيم يستعطِف ويطلب، ويتواضع أمام الله، إلى آخِر مَرّة، حتّى قال إبراهيم: اسمعني هذه المرّة فقط، ألا يوجد عشرة أبرار؟ وإذ كان الجواب مِن الله بالنفي، صَمَتَ إبراهيم عن شفاعته في سدُوم. ونالَت ما نالَت من عقاب استوجبته خطايا الشذوذ والنجاسات.
ولذلك نقول إنّ حاجَتنا إلى شفاعة القدّيسين شديدة ومُلِحّة للغاية. فقد استخلص أبو الآباء بفعلِهِ هذا أنّ وجود الأبرار في مدينةٍ، يُنقذها من مُكابدة العقاب والغضب. وهكذا يكون في البيت والمدرسة والمصنع والجامعة والكنيسة والمدينة والقرية. إن خَلَتْ من الأبرار أدركها الفناء.
+ وهذا هو موسى الذي حمَل شعبه على عنقه، بحُلمِه وصبرِه وطول أناته، التي وصفها الكتاب، أنّ الرّجل موسى كان حليمًا جدًّا أكثر من جميع الرجال الذين على وجه الأرض. لما اشتدّ غضب الرب على الشعب العاصي الجاحد للنعمة، والراجع بقلبه إلى مصر مُرتّدًّا عن الذي فداه. وقف موسى أمام الله من أجل هذا الشعب الصلب الرقبة، وقال الرب لموسى: دَعني أفنيهم وأجعلك لأمّةٍ أعظم. فتشفّع موسى في الشعب، وحَجَبَ الغضب الإلهي. وبما له من دالّة تَكَلّم مع الله. قال للربّ: إنْ تفعل هذا امحُ اسمي مِن كتابك الذي كتبتَ. وأرجَعَ الربّ عن حموّ غضبِهِ.
ما أحوجنا نحن الخُطاة إلى مَن يقف لأجلنا أمام الله.
+ قال الرب لإرميا النبي: لا تطلُب من أجل هذا الشعب. ولا ترفع صلاة لأجلهم. وقال «وَإِنْ وَقَفَ مُوسَى وَصَمُوئِيلُ أَمَامِي لاَ تَكُونُ نَفْسِي نَحْوَ هذَا الشَّعْبِ». أرأيت هذا الاقتدار لطلبات الأبرار. ألم يقُل يعقوب الرسول إنّ طلبة البارّ تقتدر كثيرًا في فِعلِها.
+ إنّنا لا ننسى أنّ الآية الأولى التي صنعها ربنا يسوع في عُرس قانا الجليل كانت بتوسّلات وشفاعة أمّنا العذراء القديسة. فهي كما يبدو من المكتوب أنّها رأَت أهل العرس وقد صاروا في ورطة بسبب نفاذ الخمر، ربما لكثرة المدعوّين أو رِقّة حالهم كفقراء، وقد يتعكّر صفو الجميع وينقلب الفرح إلى غمّ، ويُلام منهم من يُلام، ويقع في الإحراج ذات العريس وعائلته.. وقد يترتّب على ذلك ما لا تُحمَد عُقباه. رأت الأم كلّ ذلك، وبروحها النقيّة أدركَتْ الأمر قبل أن يدركه أحد، وبحنانها الفائق تقدّمت دون أن يسألها أحد، إذ هي الأم للعريس الحقيقي مَصدَر الفرح. ذهبَت إليه وقالت: ليس لهم خمر. ثلاث كلمات لا غير.. فهي في الإنجيل كلّه صاحبة الكلمات القليلة، ولكنّها صاحبة الدالّة التي تفوق دالّة الملائكة والأنبياء ورؤساء الآباء. طرحت طلبتها وسؤالها من أجل الذين ليس لهم، أمام ابنها الذي له الكلّ في الكلّ. ابنها افتقر وهو الغني بل هو الغِنَى ذاته. ولا أحد يعرِف سرّ إخلائه إلاّ هي. لذلك اتّجهت إليه ليخلّص الذين كانوا في ورطة العوَز والفقر. فهي كانت ومازالت تشفع في المُعوَزين والمعدومين. فإنْ قالت ليس لهم خمر، فهي قائمة دائمًا مازالت تطلُب إليه من جهة كلّ من ليس لهم. فها أناس مِنّا ليس لهم حبّ، بل افتقروا جدًّا في الجحود والعداء. وآخرون ليس لهم فرح بل لهم النَكَد والحزن. وآخرون ليس لهم قداسة بل طُرِحوا أسرى الخطايا. وافتقروا جدًا. وغيرهم ليس لهم اتضاع بل عدِموه بحياة الاعتداد بالذّات وفقر الكبرياء. وغيرهم ليس لهم سلام. وما أكثر مَن أعوزهم مجد الرب.
وها هي واقفة أمام ابنها، تَطلُب فتُجاب، وتسأل ولا يَرُد طلبتها. ورغم أنّ استعلان صليبه لم يكن قد حان بعد بحسب كلامه لها، إلاّ أنّه صنع الآية وأظهر مجده. ويا للعجب.. قد كان من الممكن أن يعطيهم ما يكفي، وما نقُص عنهم. ولكن قال: املأوا الأجران.. فملأوها إلى ما فوق.. إلى أقصى اتساعها بدون نقص، 36 صفيحة ماء.. ما هذا الفيض؟!
ألا نَذكُر ما قاله فيلبس من جهة الخمسة الآلاف إنّه لا يكفيهم بمئتيّ دينار خبز لكي يأخذ كلّ واحد منهم شيئًا يسيرًا. غِنَى المسيح الذي لا يُستقصَى يتعارض تمامًا مع الشُّحّ والقِلّة، فهو حين يُعطي بسخائه الإلهي.. «فَأَكَلُوا وَشَبِعُوا جَمِيعًا. ثُمَّ رُفِعَ مَا فَضَلَ عَنْهُمْ مِنَ الْكِسَرِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قُفَّةً» (لو9: 17). لذلك فاض سخاؤه الإلهيّ للارتواء والشبع وسدّ الإعواز للغنى والفيض. وبالطبع الأمر الجوهري لا يخصّ الخيرات الزمنية ولكن غِنى المسيح أبديّ يخُصّ بالدرجة الأولى الحياة الأبدية.
+ ألم يُصلِّ أيوب لأجل أصحابه لكي يرفع الربّ عنهم غضبه. لأنّ الرب قال: «قَدِ احْتَمَى غَضَبِي عَلَيْكَ وَعَلَى كِلاَ صَاحِبَيْكَ، لأَنَّكُمْ لَمْ تَقُولُوا فِيَّ الصَّوَابَ كَعَبْدِي أَيُّوبَ» (أي42: 7). فهم إن كانوا يظنون أنهم يدافعون عن الله وأحكامه وعدله، لكنّهم لم ينالوا الرضى لأنّ حياتهم لم تكن على مستوى التقوى والعشرة الحقيقيّة، بل كلام في كلام. فأمرهم أن يأخذوا «سَبْعَةَ ثِيرَانٍ وَسَبْعَةَ كِبَاشٍ وَاذْهَبُوا إِلَى عَبْدِي أَيُّوبَ، وَأَصْعِدُوا مُحْرَقَةً لأَجْلِ أَنْفُسِكُمْ، وَعَبْدِي أَيُّوبُ يُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُمْ، لأَنِّي أَرْفَعُ وَجْهَهُ لِئَلاَّ أَصْنَعَ مَعَكُمْ حَسَبَ حَمَاقَتِكُمْ".
هذه هي معاملات الله نحو قدّيسيه.. ومختاريه في كلّ الأجيال. لقد بدا أنّ أيّوب يجترئ في الكلام، وظنّوه يتجاوز الحدود في الحديث. ولكنّ تَقواه وصِلته العميقة مع الله كانت تشفع له، فلم يحسِب الرب عليه ما تفوّه به، بل عاتبه وكشف له المستُورات، ورَدّه إلى اتضاعه. وقال للرب: «بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي. لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ» (أي42: 5، 6).
هذه الدالة التي للقدّيسين قد ظهرت بأجلى بيان في نهاية سفر أيّوب. ولولا صلاة أيّوب من أجل أصحابه لنزل بهم غضب الله. فِعلاً طلبة البار تقتدر كثيرًا في فِعلها.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
25 سبتمبر 2021
أُدَرِّبُ نَفْسِي
يقول القديس يعقوب الرسول في رسالته: «إنَّ كُلَّ طَبْعٍ لِلْوُحُوشِ وَالطُّيُورِ وَالزَّحَّافَاتِ وَالْبَحْرِيَّاتِ يُذَلَّلُ، وَقَدْ تَذَلَّلَ لِلطَّبْعِ الْبَشَرِيِّ» (3: 7) وذلك عندما تكلّم عن اللسان وكيف أنّه لا يقدر «أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنْ يُذَلِّلَهُ».
فإن كان الأمر كذلك مع طباع الخلائق غير الناطقة فكيف يستقيم الأمر مع الإنسان الذي يفوق ويتفوق على الخليقة؟ والمتأمِّل يرى فعلاً أنّ الإنسان صاحب السلطان على الخليقة، قد أَخضَعَ ودرّب وذلّل طباع الوحوش والطيور وخلافه.. وبالتدريب والتمرين طوّع الطباع المتوحشة وصيّرها تخضع وتطيع.
والذي نراه في هذا المجال في العالم كلّه يفوق حدّ التصوُّر، ويصل بالإنسان إلى العجب والدهشة كيف يكون هذا؟! فأنت ترى في السيرك كيف تدرّبت الأسود والنمور والأفيال وهي تقوم بالعروض المُذهِلة التي تخالف طباعها الشرسة والمفترسة.. كيف صارت مُستأنسة هكذا؟ وأيضًا في عالم البحار والكائنات البحريّة كيف طوّع الإنسان هذه الكائنات وأصبحت تقدِّم عروضًا وألعابًا غايّة في الإعجاز.
هذا ما كتبه القديس يعقوب، وهذا ما نراه ونسمعه حولنا كلّ يوم وفي كلّ مكان.
+ نعود إذن إلى الطّبع البشري، وما هو مزروع فينا من غرائز في جسم بشريتنا، وما تربّى فينا من عادات وطباع، منها ما هو موروث، وما هو مكتَسَب من التعليم في المدارس، ومن أعراف المجتمع وعاداته وتقاليده. ونقول إنّ كثيرًا من هذه الطباع يخصّ الطبيعة البشرية والساقطة، والذي نُعَبِّر عنه بإنساننا العتيق. فطباع مثل: الطمع والعنف والغضب والمراوغة والخبث وحُبّ الذات والشراسة وعدم النزاهة وحُبّ الانتقام والتَشَفِّي. وباقى الطباع الرديّة التي يصعب حصرها.
والسؤال: هل هذه الطباع ممكن أن تتغيّر، وهل ممكن أن تُذلَّل. وهل من وسيلة لتدريبها؟
+ والحقيقة الإيمانية أنّنا حصلنا بالنعمة على الخليقة الجديدة «إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ» (2كو5: 17).. وهذه الخليقة والإنسان الجديد ليست فكرًا ولكن فعل ولادة «مَوْلُودِينَ ثَانِيَةً، لاَ مِنْ زَرْعٍ يَفْنَى، بَلْ مِمَّا لاَ يَفْنَى» (1بط1: 23) والإنسان الجديد المولود من الله، قال عنه القديس يوحنا: «كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ لاَ يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لأَنَّ زَرْعَهُ (زرع الله) يَثْبُتُ فِيهِ، وَلاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللهِ» (1يو3: 9).
وهذه الطبيعة الجديدة والميلاد الثاني والخليقة الجديدة لإنساننا الداخلي، بها صرنا أولاد الله. فالآن نُدرِك أنّنا بإنساننا الجديد، وخِلقتنا التي نلناها بالنعمة، وتجديد الروح القدس بولادتنا من الماء والروح، صرنا مخلوقين ثانية على شبه المسيح ومثاله كرأس الخليقة الجديدة. وأنّنا بحسب الجسد ورثنا الطبيعة البشرية بكلّ قصورها وعيوبها. وأصبح الأمر بالنسبة لنا واضحًا غاية الوضوح.. وهو إمّا أن يسلك الإنسان بروحه ووعيه المسيحي ويعيش بحسب الروح ويثمر لله ثمر الروح، أو أن يسلك بحسب طبيعته البشرية، ويحيا بالجسد وللجسد وبحسب مفاهيم العالم «إِنْ عِشْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ فَسَتَمُوتُونَ، وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِالرُّوحِ تُمِيتُونَ أَعْمَالَ الْجَسَدِ فَسَتَحْيَوْنَ» (رو8: 13)، «مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (غل6: 8). «وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ... » (غل5: 19–21)، «وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غل5 :21، 22).
والصراع إذن قائم بين كياننا وإنساننا الجديد وطبيعة جسدنا العتيقة. والإنسان الروحي مدعو أن يعيش بالروح ويسلك بالروح.. وعليه إذن أن يدرّب نفسه ويُخضِع جسده بتداريب روحية. وكما قلنا سابقًا إن كانت طباع الوحوش تُذلَّل فبالأولى يستطيع الإنسان بالنعمة أن يُدرِّب نفسه ويُقمِع شهواته ويضبط غرائزه، بل يستأسرها لعمل الخير والفضيلة والبذل والحبّ، ويستعمل جسده كآلات بر وصلاح.
على أنّنا نرى هذه الوحوش الكاسرة قد أُخضعت بالتدريب المتواصل والمستمرّ وبدون هوادة أو مهادنة.. وإلاّ إذا ما غُفِل عن تدريبها عادت إلى طبعها الأول. فالحال إذن أنّ الطباع التي للوحوش لم تمُتْ ولكنها تدرّبت لتكون على شكل أفضل، وقد اختفى منها ما هو وحشي ومخيف.
قال أحد الآباء في هذا المجال -وهو يحيا حياة النسك الكثير والصوم المتواصل- : «نحن غير قاتلين أجسادنا بل قاتلون شهواتنا». فالأمر إذن يكمن في المواظبة بدون اهمال لتدريب النفس وتهذيبها لتخضع للروح، وتتعلّم الخضوع والطاعة فيما تتدرّب عليه. وأي غفلة أو اهمال في التدريب سرعان ما تُظهِر قُبح الطبائع القديمة، حتى لو كانت قد أُخضِعَت لسنين. «الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ» (غل5: 7).
+ الإنسان الطبيعي بدون المسيح خاضع عنوة لناموس الجسد ومستعبد، حتى إذا أراد أن يفعل الخير يجد الشرّ ماثلاً أمامه، ويجد نفسه مغلوبًا على أمره ويقول: «وَيْحِي أَنَا الإِنْسَانُ الشَّقِيُّ مَنْ يُنْقِذُنِي مِنْ جَسَدِ هذَا الْمَوْتِ؟» (رو7: 24).
أمّا في المسيح، فقد خُلِقَ فينا ناموس روح الحياة في المسيح، وصار فينا روح الله يرشدنا ويهدينا إلى جميع الحق «وهُوَ الْعَامِلُ فِيكُمْ أَنْ تُرِيدُوا وَأَنْ تَعْمَلُوا مِنْ أَجْلِ الْمَسَرَّةِ» (في2: 13). هذا الناموس الإلهي يُثمر فينا ثمر الحياة الأبدية. فعمل النعمة يغلب كلّ عوار الطبيعة، ويداوي جراحاتها، ويجعل الإنسان يحيا حياة القيامة والنصرة والشكر للذي أعطانا الغلبة.
+ أمّا من جهة التدريب، فهو يلذّ لأولاد الله أن يُميتوا أعضائهم التي على الأرض ويقولوا مع الرسول: «أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ» (1كو9: 27) وأُدرب نفسي كلّ يوم لكي يكون لي ضمير صالح. وقد أتقن الآباء القديسون في كلّ عصور الكنيسة فنون التأديب، عندما كبرت أرواحهم المؤازَرة بنعمة الروح القدس، وسيطرت على الحياة برمّتها في الكلام والصمت معًا، والتصرُّف والسلوك في المعاملات مع الناس، في أعمال المحبّة والاتضاع، وكلّ الفضائل المسيحية.
وبالصلاة المستديمة، وتهذيب النفس بالصوم، وأعمال التوبة في الحزن على الخطايا وتبكيت النفس حتى على الهفوات، والتدريب على ضبط النفس وضبط العين واللسان وجميع الحواس.
وكان إذ اتقنوا التدريب، وواظبوا على السهر على خلاص النفس، أنْ تحلّتْ حياتهم بأجمل الفضائل، وظهروا كأنّهم أناس سماويّون، أو كأنّ طبيعتهم مختلفة وأخلاقهم وسلوكهم ليس من هذا العالم. والواقع أنّهم كانوا كسائر البشر ولكنهم اختلفوا جدًّا عندما أَخضعوا إنسانهم الخارجي لأرواحهم، فصاروا بالتداريب وعمل النعمة فعلاً مختلفين.
والحياة الروحية ليست قَصرًا على مَن سكنوا الجبال والبراري. ولا التداريب الروحية صارت وقفًا على النُسّاك، بل هي حياة المسيحي أينما وُجد، وفي أي ظروف يعيش. وكلّ واحدٍ على قدر طاقته.
وفي النهاية إذ يكون الإنسان قد تدرّب «أَنْ يكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا فِيهِ.. يعْرِفُ أَنْ يجُوعَ، وَأَنْ يسْتَفْضِلَ، فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّب أَنْ يشْبَعَ وَأَنْ يجُوعَ، وَأَنْ يسْتَفْضِلَ وَأَنْ ينْقُصَ» (في4: 11، 12)، يقدر بالنعمة أن يصرخ بصوت الغلبة: «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (في4: 13).
أحتمي فيك واستتر بسترك.. اِجعل باب بيتك مفتوحًا أمامي، ودعوتك للعرس قائمة في وعيي مُتجدّدة كلّ يوم، فأسلك بحسب الدعوة التي دُعيت إليها. ولا أخيب من البلوغ إلى ملكوتك أنا وكلّ أخوتي أعضاء جسدك المدعوّين إلى وليمتك الأبدية. آمين.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
18 سبتمبر 2021
«لاَ تَهْتَمُّوا لِلْغَدِ»
قال ربنا يسوع هذا القول الإلهي ليرفع عنا ثقل ونير الهمّ.
أولاً: لأنّه مهتم بمستقبلنا، ليس للغد فقط، بل بمستقبلنا الأبدي، فإن كان الأمر كذلك وقد وضعنا الغد في يده، فما أسعده غد! كثيرًا ما نضع أمرًا يخصّنا في عهدة إنسان كبير أو حكيم أو صاحب سلطان من أيّ نوع. ونطمئن أنّ هذا الموضوع صار في عنايته ونحن نثق فيه.. فكم بالأولى إذا سمعنا أنّ أبانا السماوي مهتمّ بنا ويرعى حياتنا بعنايته الفائقة.
لقد عرَّفنا الرب يسوع على الآب، وقال: «مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا أَبَانَا» (لو11: 2)، وقال: «الآب نَفْسهُ يُحِبُّكُمْ» (يو16: 27)، ومن جهة الاحتياجات قال: «لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ» (مت6: 8).. وقال: «فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ (وأنتم أباء) تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (مت7: 11). ولكشف الأمر بأكثر عمق قال: «حَتَّى شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ» (مت10: 30). وليس في الأمر تشبيه ولا مغالاة، فقول المسيح هو الحقّ كلّ الحقّ.
فتفكر يا أخي أنّ عناية الآب السماوي تشمل حياتك، الأمور الكبيرة والصغيرة معًا.. حتّى شعر رأسك معدود، واحدة منه لا تسقط بدون إذن أبيك.
أتذكر لمّا أُصيب أبونا بيشوي كامل بمرض السرطان وبدأ العلاج الكيماوي، تساقط شعر رأسه ولحيته، فلمّا رأى أنچيل زوجته منزعجة، قال لها: ألا تعلمين أنّ كلّ شعرة سقطت بإذن الآب.
ثانياً: الغد بالنسبة لأي إنسان مجهول.. قال الرسول يعقوب: «أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ» (يع4: 14). فماذا ينفع إن كان الإنسان (يعول) الهَمّ من جهة الغد؟ هل يغيِّر هذا شيئًا؟
أمّا أبونا السماوي فهو غير الزمني ليس عنده ماض ولا مستقبل، بل الكلّ مكشوف، معروف، ليس شيءٌ مَخفيًّا أو مجهولاً.
قال الحكيم: «الْغَمُّ (الهم) فِي قَلْبِ الرَّجُلِ يُحْنِيهِ» (أم12: 25) وهذا حقٌّ. الإنسان (عوّال) الهموم، كثير الأوجاع وكثير الأمراض، ليس من جهة الجسد فقط، بل الهموم تجعل نفسه في اضطرابٍ وخوف وتوجس، تُرى ماذا يخبئ الزمن؟
وهذا ضدّ الثقة والإيمان في الله مدبر أمورنا. إنّ حياة الاتكال على الله مريحة، تملأ النفس سلامًا وطمأنينة «أَلْقِ عَلَى الرَّبِّ هَمَّكَ فَهُوَ يَعُولُكَ» (مز55: 22)، «وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟» (مت6: 27).
قال لنا ربنا: «اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا... تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو... إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا» (مت6: 26–30).
لنا في حياة أبائنا القدّيسين الذين ألقوا رجاءهم بالتمام على الله، أعظم دروس الإيمان والثقة بالله والاتكال عليه وحده. لقد عال الذين سكنوا الجبال والمغائر وشقوق الأرض. واعتنى بالذين ساحوا (طافوا) جائلين في جلود غنم وجلود مِعزى، مكروبين ومُذلين.. وفى الواقع «لَمْ يَكُنِ الْعَالَمُ مُسْتَحِقًّا لَهُمْ» (عب11: 38).
ثالثاً: قد تتوقّع بحسب فكرك أنّك ستواجه مشاكل أو أمورًا صعبة أو أشياء مخيفة.. وتظلّ مهمومًا قلِقًا، وقد تأتي الأمور على غير توقع.
كنت أقرأ في سفر التكوين عن يعقوب أب الآباء، لما ترك خاله لابان وقصد أن يرجع.. وكان الخوف كلّ الخوف من أخيه عيسو. لقد صارت قطيعة بينهما أكثر من عشرين عامًا.. وقتها هرب يعقوب من وجه عيسو لأنّ عيسو كان مفتكرًا أن يقتله. وقد ملك الخوف على يعقوب وصار يتفكّر عسى ماذا سيحدث، وصار مهمومًا وطار نومه.. وصارعه إنسان حتى الفجر. ولما اقترب من المكان قال: أسترضي وجه أخي بالهدية.. فعمل قطعان صغيرة من الغنم والبقر.. وجعلها تسير أمامه وأوصى الغلمان أن يقولوا: هذه هدية لعيسو. وكان عيسو قد جهّز نفسه للقاء أخيه، ومعه أربعمائة رجل، وهذا ألقى الرعب بالأكثر في قلب يعقوب. ثم من كثرة الخوف أيضًا رتّب بمكرٍ أملاكه وأسرته.. جاعلاً الخادمات وأولادهن أولاً.. ثم ليئة وأولادها.. وأخيرًا راحيل وابنها.. وكأنه يقول إن أصابه الشر.. فأبقى المحبوبة آخر الكل.
ولكن للعجب العجاب كانت كلّ هذه التهيؤات وهذا الهم القاتل مجرد نتاج الفكر البشري، الذي إذا سلّم الإنسان نفسه له يتزايد، لأنّ الفكر الرديء لا يقف عند حَدّ.
ولك أن تتخيّل كيف قابل عيسو يعقوب بالأحضان والبكاء والكرم والشهامة. وقد نسى الإساءة وغلَّب الحُبّ والأُخوّة، وتبدّدت مخاوف يعقوب، وحسب كلّ ما عاناه من الهم في حساب الخسارة وبقت عنده بقيّة من ظلّ الخوف، فطلب من أخيه أن يرحل واعتذر له أنّه يريد أن يسوق على مهل لئلا يكدّ الأملاك، ثم إذ وصل لم يسكن في كنعان بل عبر الأردن إلى سكوت ثم إلى شكيم.
بقِيَ أن ندرك الفرق الهائل بين الهموم والاهتمام: فالاهتمام بالأمور يُظهِر الروح المسيحيّة في العناية والتدبير، ويبرهن على الأمانة في العمل الموكَّل به إلينا لكي نعمله بدِقة وأمانة واخلاص، وهو ضدّ التواكل والكسل واللامبالاة.
فالإنسان المسيحي السالك بالتدقيق هو كثير الاهتمام، كثير العمل، دقيق في كلّ طرقه، طالب أن يرضي الرب في كلّ شيء، وبحسب مسئوليته التي من الله يتدبّر الأمور بالحكمة.
أمّا أن (يعول) الإنسان الهمّ ويصير مهمومًا، مُضطربًا وخائفًا ومتشائمًا من المستقبل.. فنجده دائمًا قد فَقَد حتى الابتسامة والفرح.. ويُصاب بالكآبة ولا يتوقّع الخير. وهذا كلّه ضدّ الإيمان وضدّ الرجاء بالرب وضدّ الاتكال عليه.
قال المرنم: «إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي» (مز23: 4)، وقال: «وَلَوِ انْقَلَبَتِ الْجِبَالُ إِلَى قَلْبِ الْبِحَارِ... فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ» (مز46: 2، 27: 3). وقال عن الرجل الخائف الرب إنّه «لاَ يَخْشَى مِنْ خَبَرِ سُوءٍ. قَلْبُهُ ثَابِتٌ مُتَّكِلاً عَلَى الرَّبِّ» (مز112: 7)، وقال: إنّ «الْمُتَوَكِّلُ عَلَى الرَّبِّ فَالرَّحْمَةُ تُحِيطُ بِهِ» (مز32: 10).
يا أخي ضعْ كلمات الرب يسوع أمامك كلّ يوم.. يكفي اليوم.. يكفي أن نُقدِّس اليوم وبعمل اليوم، قال الرب في المَثَل: «يَا ابْنِي، اذْهَب الْيَوْمَ اعْمَلْ فِي كَرْمِي» (مت28: 21).
وهذا المنهج الإلهي مريح للنفس، يطرد عنها الهموم، إذ تتسلم اليوم جديدًا في كلّ صباح تشكره وتعمل لحسابه على قدر المستطاع. أمّا الغد فهو مضمون بضمان إلهي أنّه في تدبير الرب الصالح، الذي وهو مُخَبَّأ عنّا ولكنّه في يد الآب، كمثل ما يخفي الأب يده عن الابن ويقول له: خمّن ماذا في يدي وماذا أخبئ لك؟ بكلّ تأكيد ما يخفيه الآب هو أفضل وأعظم ممّا نظنّ أو نفتكر.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد