الراهب سارافيم البرموسي

Large image

الاسم بالإنجليزية: Reverend Monk Father Seraphim El-Baramousy.
الرسامة على دير: دير البرموس وادي النطرون مصر.
هو مسئولًا عن بيت خلوة دير البرموس بدءًا من مايو 2013. ...more

المقالات (5)

19 مايو 2025

قام لنقوم

«بقوَّة عظيمة كان الرسل يؤدون الشهادة بقيامة الربِّ يسوع» (أع 4: 33) هكذا دوَّن لنا سفر الأعمال فحوى الرسالة الكرازيّة التي انطلقت من أروقة أورشليم اليهوديّة لتزلزل المسكونة كلّها القيامة هي لُغة إيماننا المسيحي بل ومنطقه، فهي معنيّة بحياتنا وكرازتنا فالعالم لم يكن ليؤمن بإله مصلوب دونما قيامة، إنّها برهان فاعليّة الصليب من جهةٍ أخرى، بدون القيامة نفقد قيامتنا الذاتيّة من انطراح الموت وسقطة الفناء والفساد الذي ألمّ بنا جرَّاء الخطيئة نحن لا نؤمن بقيامة المسيح كإعجاب وانبهار بحدثٍ بطولي أشبه بمشاهد الدراما الأسطوريّة التي ينتصر في نهايتها البطل؛ كما حدث مع رومولوس الذي أسَّس مدينة روما وملك عليها (مدينة الله للقديس أغسطينوس مجلّد3، كتاب 22، 6) فضُمَّ إلى مجمع الآلهة الرومانيّة، ولا كديونيسيوس بن زفس الذي قيل إنّه صعد إلى السماء بعد أنْ قُطِّع إربًا إربًا (الدفاع الأوّل عن المسيحيين للقديس يوستينوس، 54) إيماننا بالقيامة هو تلامسنا مع القيامة فنحن لسنا مشاهدو الحدث ولكننا أطرافه؛ فجسد المسيح القائم من القبر حُمِلَت فيه الطبيعة البشريّة جُملةً، ليقوم بها، بقوة لاهوته، مُقدِّمًا إياها للآب، كطبيعة قائمة لذا، فإنّ احتفالنا بالقيامة هو في واقعه احتفال بنجاتنا من الفخ الذي نُصب ليتصيَّدنا للهاوية المسيح قام، هذه نصف الحقيقة؛ إنه قام، لنقوم فيه، هذا هو النصف الآخر وانطلاقًا من قيامة المسيح تستمد توبتنا شعلتها على الدوام دونما توقُّف إنْ لم يكن المسيح قد قام فباطلة توبتنا وباطل سعينا للتحرُّر هنا يلتقي اللاّهوت بالحياة فالرجاء المسيحي والممارسة النسكيّة والسرائريّة تُبنى على وعي لاهوتي بحدث القيامة، الذي لولاه لما أمكننا معاودة التواصل مع الآب بعد خطايانا وآثامنا المسيح قائمٌ كقوَّة تدفع الخائر على طريق الحياة الجديدة وتهب الرجاء لطرحَى الخطيئة المسيح قائمٌ بنورٍ لا يخبو، كما هو منذ دحرجة القبر، ليُشجِّعنا على دحرجة حجارة قبورنا الذاتيّة إنْ كان الموت هو الفعل المُحرِّر فإنّ القيامة هي الحركة الأولى نحو العالم الجديد، إنّها الانتقال من المعرفة الإيمانيّة إلى المشاهدة والمعاينة وانطلاقًا من المشاهدة التي رصدها لنا الإنجيليون بُني الإيمان المسيحي وكأننا أمام ثلاث مراحل؛ بدأَت بالمعرفة الإيمانيّة الاستباقيّة (النبويّة)، حتّى كانت القيامة، والتي منها انطلق الإيمان، لا كرؤية استباقيّة، ولكن كرؤية مُحقَّقة في الزمان الحاضر، كعربون لملكوت الله ولكن، الإيمان المُستنِد على ضوء القيامة كان ولا يزال مُضطَّهدًا مُتألِّمًا مرفوضًا ممّن تمركزوا حول الجسد الفاسد والفاني ويكتب القديس أغسطينوس في مؤلَّفه “مدينة الله” (مجلّد3، كتاب 22، 7) حول العَلاقة بين الإيمان القيامي واضطهاده وبين انتشاره وقبوله، فيقول “وهكذا، وبالرغم من الاضطهادات العنيفة والرهيبة، فقد أصبحت قيامة المسيح بالجسد ودخوله المجد الأبدي موضوعَ إيمانٍ عميق ورسالةً جريئةً وبذارًا كُتب له أنْ يُخصب ويُكثِّر، في كلّ الأرضِ، دم الشهداء؛ لأنّ ما حكَى عنه الأنبياء، في العهد القديم، شهدت له المعجزات، حتّى ظهرت الحقيقة عينها، مناقضة للعادة، أكثر ممّا هي مناقضة للعقل، فاعتنق الكون، بإيمانٍ، ما كان يضطهده، بغضبٍ”. أبونا الراهب سارافيم البرموسي
المزيد
27 أغسطس 2024

مصطلح "آباء الكنيسة".. هل من أصول؟؟

كانت هناك قاعدة في المجامع التي تلت مجمع نيقيه وهي: “إن قانون إيمان مجمع نيقيه كافٍ للحُكْمِ على أرثوذكسيّة أي تعليم” كما كان القديس كيرلس الكبير كثيرًا ما يستهلّ كلماته بالعبارة الآتية: “آباؤنا المغبوطون علّمونا”. لقد أراد بهذه العبارة التأكيد على أنّه لم يأتِ بجديد، وأنّ ما يعيد صياغته وفقًا لمتغيّرات عصره لم يخالف ما تسلّمه، ولكنه يبني عليه. فالبناء الآبائي قائم على أساس واحد هو المسيح؛ رأس الزاوية. ولكن مَنْ هو المسيح؟ فَهْمُ المسيح هو ما كان يحميه الآباء من تشويهات الهراطقة وادعاءات الجهَّال، « كي لا نكُون فيما بعد أطفالاً مُضطربينَ ومحمولينَ بكلّ ريح تعليمٍ، بحيلة النّاس، بمَكْرٍ إلى مَكيدة الضَّلال » (أفسس 4: 14) لم يكن تعبير “الآباء” وليد الصدفة؛ فلقد أسميناهم آباء لأنهم ولدونا من الروح في المسيح من خلال كرازتهم وتعاليمهم، وبذلك صرنا أبناء شرعيين لآباء شرعيين أجمعت عليهم الكنيسة، لا كالهراطقة الذين وَلَدوا لهم بنينًا من رحمٍ آخر غير كلمة الله الحيّة والباقية إلى الأبد كثيرًا ما نقرأ في كتابات الآباء العبارات التالية: نحن نؤمن.. كما قال المسيح.. كما تسلّمنا من الرُسُل.. كما تؤمن الكنيسة.. كما تُعلِّم الكنيسة.. إلخ، وهي كلّها عبارات تؤكِّد على أنّ الآباء لم يكونوا أفرادًا منعزلين يُخلِّقون إيمانًا ولاهوتًا، ولكنهم كانوا امتدادًا حيًّا لمَنْ سبقوهم، كما أنّهم بذارٌ حيّة لنا نحن الذين جئنا من بعدهم لذا فقد كان لآبائنا، آباءٌ، تتلمذوا عليهم وقبلوا الروح من أفواههم. لم يبزغوا فجأة في سماء الكنيسة، ولكنّهم عرفوا كيف يتتلمذوا، لذا صاروا فيما بعد مُعلِّمين إنّ الأمور التي نتعلّمها في الصبا تنمو مع النفس وتصبح معها واحدًا فأستطيع هكذا أن أقول في أي مكان كان الطوباوي بوليكاربوس يجلس للتحدُّث. كما أذكر كيف كان يدخل ويخرج ويعيش،وأيًّا كان منظره الطبيعي ومحادثاته إلى الجماعة،وكيف كان يتكلّم على علاقاته بيوحنّا وبالآخرين الذين رأوا الربّ،وكيف كان يُذكِّر بأقوالهم،وما هي الأمور التي سمعها منهم بشأن الربّ ومعجزاته وتعليمه،وكيف حصل بوليكاربوس على كلّ ذلك من شهود عيان على كلمة الحياة،وكان يرويها وفقًا للأسفار المُقدّسة،وتلك الأمور أيضًا بالرحمة الإلهيّة التي صُنعت إليّ، أصغيت إليها بعناية،محافظًا على ذكرها،لا في الورقة، بل في قلبي.(القديس إيريناؤس) كانت عادة قديمة أن يكون المُعلِّم أبًا لتلاميذه، لذا فقد خاطب القديس بولس أهل كورنثوس في رسالته الأولى قائلاً: « لأنّه وإن كان لكم ربواتٌ من المرشدين في المسيح، لكن ليس آباءٌ كثيرون. لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل » (1كو4: 15). من يتعلَّم من فمٍ آخر،فإنّه يُدعَى له ابنًا،كما يُدعَى الأخير له أبًا(القديس إيريناؤس) والآباء هم الأقرب زمنيًّا لعصر المسيح، يفصلهم عنه بضعة أجيال. منهم مَنْ تتلمذ على تلاميذه المباشرين وذهب ينقل الخبر والخبرة إلى الكنيسة، ومَنْ صار منهم مُكرَّس القلب والذهن تسلَّم من التلاميذ عصا الرعاية، لتبقَى الخبرة منقولة فمًا لأذن، لتشرح وتُفسِّر ما يختلط على البعض من نصوص دوّنها التلاميذ الأوائل. الكلمات وليدة النفس لذا ندعو أولئك الذين علّمونا، آباءوكلّ من تعلَّم هو بمثابة ابن لمعلِّمه (كليمندس السكندري) إنّ البعض يتردَّد في قبول مصطلح الآباء استنادًا إلى كلمات الإنجيل القائلة: « ولا تَدْعُوا لكم أبًا على الأرْضِ، لأنّ أباكم واحدٌ الذي في السّماوات » (مت23: 9). وهذا يدفعنا للتساؤل عن مخاطبة الآباء الجسدانيين بهذا اللّقب؛ فمَنْ منّا لم يدعُ أباه الجسدي: أبي!! هل في هذا النداء الحميمي والذي يُوصِّف العلاقة بين الابن والوالد ما يُناقِض تعاليم المسيح؟؟ إنّ هذا الأمر يلقي بظلاله على إشكاليّة الفهم الحرفي للنصوص الكتابيّة والذي يُصدِّر وجهًا للمسيحيّة به سمات الأصوليّة ومَنْ يقرأ السياق الذي وردت فيه كلمات المسيح يُدرِك تمامًا أنّ الخطاب كان موجّهًا للكتبة والفريسيين نقدًا وإدانةً لممارساتهم الزائفة؛ فهُم يُحبّون أن يظهروا في الطرقات بملابسهم الفخمة وأهدابهم الطويلة وعصائبهم العريضة على جباههم، ليدعوهم الناس: سيّدي سيّدي “رابي رابي”، إرضاءً لغرورهم الزائف. لذا كانت كلمات المسيح واضحة وقاطعة أنّ المُعلِّم والسيِّد هو المسيح الواحد مع الآب، ومن الآب تستمد كلّ أبوّه قيمتها كما يُوجد فارقٌ كبيرٌ بين مَنْ يمشي بصولجان العظمة ليستقطب مديح وإعجاب وتكريم الآخرين، وبين مَنْ نالوا التكريم بعد نياحتهم. فتقنين مُصطلح “آباء الكنيسة” جاء في مرحلة لاحقة بعدما انتقل هؤلاء الآباء إلى الأقداس العُليا، وتمّ تقييم تعاليمهم على ضوء الإجماع الكنسي ونقاوة الحياة هناك دائمًا خلط يحدث حينما يُستخدم التعبير بمعنَى مزدوج؛ فمثلاً نجد أن المسيح أعلن عن نفسه كـ“نور العالم”، ولكنّه دعَى المسيحيين أيضًا “نور العالم” هل هذا يعني أنّ المسيحيين متطابقين مع المسيح؟ بالطبع لا. كذلك نجد أنّ المسيح هو “الكرمة الحقيقيّة”، والعذراء تُلقِّبها الكنيسة بـ“الكرمة الحقيقيّة”، فهل العذراء مساوية للمسيح؟ بالطبع لا. لذا من الضروري أن نُفرِّق بين التعبير النسبي والتعبير المطلق لنفس الكلمة، لنستطيع أنْ نتعرّف إلى فكر المسيح المُدوَّن في الكتاب المُقدَّس يروي لنا جان بوتي في كتابه “الله أبونا” أنّ الرابيين أرسلوا إلى رابي حنّان حفيد رابي هوني، لكيما يُصلِّي من أجل الأمطار، فلما جاءه التلاميذ أمسكوه من أهداب ثوبه قائلين: “أبَّا أبَّا، أعطنا المطر!” فما كان منه إلاّ أن صلَّى قائلاً: “يا سيّد الكون، افعل هذا لهؤلاء الذين لا يعرفون أن يميِّزوا ‘الأبَّا’ الذي يستطيع أن يمنح المطر، و‘الأبَّا’ الذي لا يستطيع.” فالاثنان آباء؛ ولكنّ ما بين أبوّة الله وأبوّة البشر بونٌ شاسع وفي التقليد اليهودي نجد أنّ مُصطلح “الآباء” نعني به، بالدرجة الأولى، الآباء الأُوَّل؛ إبراهيم واسحق ويعقوب، فضلاً عن الآباء القدامَى الذي جاء ذكرهم في المشناه اليهوديّة تحت عنوان أقوال الآباء Pirqe Aboth وفي العهد الجديد نجد أنّ داود هو « رئيس آباء » (انظر: أع2: 29). كما كان كلّ الشعب الفار من مركبات فرعون هم أيضًا « آباء » (انظر: 1كو10: 1) وفي المشناه اليهوديّة، كان اللَّقب الذي يُدعَى به كلّ من شمَّاي وهلِّل صاحبي المدرستيْن الأشهر في التأثير على المجتمع اليهودي قبل ولادة المسيح هو: “آباء العالم”، وهو نفس اللَّقب الذي أُطلق على رابي عقيبا ورابي إسماعيل فيما بعد. وقد كان لقب “أب” يُعطَى لمؤسّسي المدارس اليهوديّة من الرابيين الكبار حسبما جاء في تفسير Pulpit على إنجيل متّى وبحسب الموسوعة اليهوديّة، كتب سولومون شختر Solomon Schechter وكاسبر ليفياس Caspar Levias أنّ موسَى يُدعَى “أبو الحكمة / أبو الأنبياء” كما كان رابي هوشعيا “يُدعَى أبو المشناه” لذا فالأبوّة التي رفضها المسيح هي الأبوّة المذهبيّة والتي تنتمي لأحد المدارس اليهوديّة القديمة، تلك التي كانت تستقطب اليهود لتعيد صياغة فهمهم لنصوص العهد القديم وأوامره ونواهيه. لذا فرّق المسيح بين ما هو من موسَى وما هو من الآباء؛ « لهذا أعطاكم موسَى الختان، ليس أنّه من موسَى بل من الآباء، ففي السبت تختنون الإنسان » (يو 7: 22). وفي الخطبة التي ألقاها الشهيد إستفانوس قبيل استشهاده، دعى الحاضرين: « الأخوة والآباء » (انظر: أع 7: 2)، وهو نفس التعبير الذي استخدمه القديس بولس (انظر: أع 22: 1). كما ذكر القديس بولس والقديس يوحنّا، «الآباء»، في سياق الحديث عن العَلاقة بين الأب وبنيه (انظر: أف 6: 4؛ 1يو 2: 13-14) ومن الشهادت المُبكِّرة، نقرأ في وثيقة “شهادة بوليكاربوس” (70 م. - 166 م.) أنّ بوليكاربوس دُعي “أبو المسيحيين”؛ كما كان يُخاطِب أوريجانوس، بعض الأساقفة بكلمة “بابا”، في حوراه مع هيراقليدس، وهو التعبير الذي أصبح يُعبِّر عن البطريرك السكندري أولاً، ومن بعده الروماني، حسبما جاء في “موسوعة المسيحيّة” The Encyclopedia of Christianity في جزئها الأوَّل. ويُحدِّث كليمندس الروماني، الكورنثيين، داعيًا إياهم للعيش في وئامٍ؛ “متناسين الإهانات، سالكين في المحبّة والسلام، ثابتين على الرصانة، في كلّ ظرفٍ، نظير آبائنا (يقصد الرسل) الذين أظهرنا لكم مَثَلَهم” ومن الجدير بالذكر أنّ تلك الكلمة كانت مُستخدمة في دوائر تعليم الفلاسفة مثل؛ فيثاغورث وسينيكا يُطالِعنا ديفيد ل. هولمز David L. Holmes بعنوان لمقالٍ مثير للدهشة: “هل لقب الأب / الأم يصلح للقادة البروتستانت؟” وهو المقال الذي نشره في عدد ديسمبر من دوريّة “القرن المسيحي” The Christian Century. ومن اللاّفت للنظر أنّه أكّد، في المقال، أنّ بعض الكنائس البروتستانتيّة في بداياتها التكوينيّة أطلقت على مؤسِّسيها لقب “أب” ومنهم جون ويسلي مؤسِّس الميثوديست والذي أطلقوا عليه لقب “الأب ويسلي”. ويكمل في مقالاته أنّ لفظة “أب” قد تلاشت من القاموس البروتستانتي الحديث كنتيجة لحصول القادة البروتستانت على درجات علميّة فصار لقب من حصل على الدرحة العلميّة؛ “دكتور” وجاءت كلمة “راعٍ” لتتماشَى مع السند الكتابي الذي يبحثون عنه في مواقفهم وقناعتهم الإيمانيّة، حسبما كتب وفي بحثنا عن استخدام الكلمة بين الجماعات البروتستانتيّة يجب أن نُراعي أنّ المواقف البروتستانتيّة مختلفة من طائفةٍ لأخرى ومتباينة من مجتمعٍ لآخر، فاللّفظة تبقَى خيار الجماعة وليست قانونًا يسري على الجميع. من هنا يمكننا أن نلمح أن الرفض المعاصر لكلمة “أب” لم يكن موقفًا أيديولوجيًّا بروتستانتيًا منذ عهد التأسيس ولكنّه تحوُّلٌ حديثٌ نسبيًّا، ممّا يغلق الجدل حول إمكانيّة استخدام الكلمة من عدمه. فالإشكاليّة البروتستانتيّة مع الآباء هي في دور الأب في الكنيسة ومدى “سلطة” كلماته في التعبير عن الإيمان والحياة. أبونا الراهب سارافيم البرموسي
المزيد
05 مارس 2024

جوهر الصوم

"ما ألذُّ وأطيب خبز الصوم لأنه معتوق من خمير الشهوات "القديس نيلُس كلمة صوم هي كلمة عبرية الأصل؛ צום (تس وم)، والصوم في معناه اللُّغوي هو الانقطاع عن الطعام، إلاّ أن المعنى الروحي للصوم يترجّى الحواس والقلب والذهن، هو صوم الكيان الإنساني بجملته بحثًا عن الله بعيدًا عن مجاذبات المادة التي تحيط بنا حتى في صميم أجسادنا الترابيّة. وقد يعتقد البعض أن الصوم ينحصر في التوقف عن الطعام أو في تغيير نوع الطعام!! إلا أنه، في جوهره، يبدأ بتوقف حركة الطعام، ليتهيّأ الجسد للدخول في عباءة الروح السابحة نحو الله؛ فالروح لا تنطلق بمعيّة الجسد الممتلِئ والمنغمس في طلب غذاءه، ولكنها تنطلق حينما يُخضِع الروح، الجسد، في رحلة الأبدية ولقد صام المسيح على الجبل قبل البدء في خدمة الخلاص والفداء العلنيّة، وهذا لكيما يرشدنا إلى نقطة البداءة في أي عمل يتطلّع للأبدية ويسعَى للملكوت، فالمسيح لم يكن في حاجة جسديّة للصوم، وذلك لنقاوة روحه الإلهيّة التي لم تنفصل عن الجوهر الإلهي، وبالتالي لم تتدنّس بالميل للتراب والتلوث بالشهوة ولكن كان صوم المسيح، بجانب حمله للبشريّة في جسده الصائم، كما تحدث الكثير من الآباء، هو بمثابة درس تعليمي لمن يريد أن يخطو أولى الخطوات بالروح، ولمن يريد أن يضع يده على المحراث في تلك الرحلة التي تمتد بمدى الحياة في الجسد ولقد أدركت الكنيسة ذلك الدرس الأولي والبدائي، في الحياة بالروح، وقنّنت الصوم وجعلته موسميًّا، لكي تستحث المسيحيّين لتذوق دسم الصوم بعيدًا عن دسم الغذاء، وأيضًا لكي تحيي حياة الشركة بين أعضاء الكنيسة، حينما يقولون بفمٍ واحد “لا للمادة” و“نعم للروح”، هنا تصبح الشركة في الكنيسة ليست مفهومًا نظريًّا ولكن واقعًا يظهر في التوقُّف الجماعي عن الطعام، واستبداله بالصلاة، غذاء الروح إنَّ الصوم هو صرخة يطلقها الجسد المتألّم بالخطيئة، حتى تتدخّل الروح، برفع أيديها العقليّة إلى السماء، لينزل سكيب الطهارة والنقاوة -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى- ليغمر الجسد والروح معًا.. فالإنسان ليس كيانًا مجزَّئًا، يمكنه أن يتطهّر في الروح بينما يبقَى الجسد متدنسًا خاطئًا مائتًا!! كما لا يمكن للجسد أن يتطهّر بمعزل عن الروح، فالإنسان كيانًا متكاملاً يسعَى بجملته للأبديّة، بالجسد وبالروح والصوم يمنحنا القدرة على التفطُّن والتيقُّظ لتلك الحرب التي تدور أحداثها على أرض قلوبنا الداخليّة، ذلك الصراع القائم بين روح الله وروح العالم، بين صورة الله وصورة إبليس، بين منطق الزمن ومنطق الأبديّة هنا ويبقَى الصوم هو الوقت المثالي الذي نستطيع فيه أن نرتحل داخل ذواتنا حاملين مصباح الروح بحثًا عن الزوان الذي بذره الشيطان على أرضيّة قلوبنا ونحن سكارى بالطعام والشراب واللّذة ندخل حاملين كلمة الله، لكيما تُنَقِّي ذلك الحقل الداخلي، ونحن في صلاة، تترجّى التطهُّر من رائحة الدنس، التي تفوح من جذور الخطيئة المتعفّنة في تربة قلوبنا وحينما نصوم فإننا نُفقِد نبتة الشر والخطيئة، الضاربة قلوبنا، قوَّتها، فيسهل على الروح انتزاعها من جذورها، باذرًا عوضًا عنها، بذار السلام السمائي الذي هو عربون ملكوت السموات الصوم هو رياضة روحيّة لترويض الغرائز قبل أن يكون عمل جسدي يستهدف البطن!! فهو بمثابة السكين الباتر لأجنحة الغرائز والتي تريد أن تتحكّم في مسيرة الإنسان وتصيّره عبدًا لمتطلباتها؛ فالجسد يريد أن يأكل ويشرب ويمرح دون حدود وضوابط، يتعدّى احتياجه الطبيعي في محاولة مستمرّة لاستدامة اللّذة بإعطائها ما تنشده على الدوام وهذا يؤول في النهاية إلى ضمور في قوى الإنسان الروحيّة التي تنمو فقط من خلال ضبط الجسد وتقنين حاجته حسب الطبيعة وليس حسب اللّذة في النهاية يجب أن تدرك أنّ الصوم ليس عملاً بطوليًّا، بل هو نعمة إلهيّة، نقرع باب مراحم الله حتى نتأهّل لها، من أجل كسب جولة هامة وأساسيّة في معاركنا الروحيّة؛ ألا وهي ضبط الجسد كمدخل لضبط الذهن والقلب. ولكن الصوم إن تحوّل إلى جهد ذاتي صرف، فإنه يقود الشخص للكبرياء والشعور بالتفوّق والتميُّز عن الآخرين، وهو شعور يبتعد بالإنسان بعيدًا عن مساكن الروح، ويجعله يحيا خدعة العبادة من خلال الصوم، وهو في واقع الأمر يتعبّد لذاته لذا فإنّ الصوم والصلاة يجب ألا يفترقا؛ فالصوم مدخل لضبط الحواس والقلب والذهن، والصلاة مدخل لرفع الصوم كذبيحة مقبولة أمام الله، لأنها نابتة من بين وديان التواضع والوادعة والشعور بالاحتياج والمعونة دنس قلوبنا، فلنطهره بالمحبة بواسطة الصلاة والصوم والأعمال اللائقة عن إبصالية واطس (للأربعين المقدسة) أبونا الراهب سارافيم البرموسي
المزيد
10 يناير 2022

ميلاديات ج2

كان اختيار الرب يسوع مكان الميلاد وطريقة الميلاد ورفقة الميلاد مبادئ أراد أن يرسيها؛ فالحياة الجديدة لن تنسكب في الأواني المُذهّبة ولن تتفتّح أزهارها تحت أضواء مصطنعة ولن تُحقّق توقعات البشر بألوهة القوّة وتسامي الملوكيّة؛ فالمزود مبدأ يبدأ في التثبُّت منذ الآن فصاعدًا كأحد أعمدة الإيمان الجديد. لذا فإنّ مَنْ لم يستطِع اكتشاف المسيح ملكًا في قماط الطفولة في بيت لحم، يصعب عليه الاعتراف بربوبيّته عند الصليب أبونا الراهب سارافيم البرموسي
المزيد
03 يناير 2022

ميلاديات ج1

لم يكن ميلاد المسيح مجرّد حدث عظيم تناقلته البشريّة في مؤلفاتها التاريخيّة وسطرته أقلام المسيحيين في كتاباتهم التقويّة. ولم يكن مقدم المسيح هو إعلان عن مولد ملك يحمل الرفاهيّة لشعوب ترزح تحت سطوة الفقر والفاقة والمرض والشقاء. ولكنه كان الحدث الذي أدخل الفرح من جديد للكيان البشري المنهار من قسوة العبوديّة تحت سلطان الموت وإمرة الشيطان وأصفاد الخطيئة؛ فالشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا وتناقل الفضاء أصوات الملائكة بالفرح العظيم الذي لامس الأرض البشريّة الجدبة، وأصبحت الحياة -بعد مولد المسيح- هي احتفالية إنسانيّة / إلهيّة، بالتصالح الذي تمّ بتجسد الابن الوحيد، مخلِّص العالم. وهو ما دعا القديس كليمندس ليقول في كتابه المتفرقات (Strom. vii, 49) بأنّ: [كلّ هذه الحياة بمثابة احتفاليّة مقدّسةΑπας δὲ ὁ βὶος πανὴγυρις ἁγὶα]. إنّها احتفالية بالنور الذي بدَّد غياهب الظلمة والحق الذي حرَّر الوعي الإنساني من ضبابية الباطل وزيف المسلمات البشريّة. من هنا كان الفرح المسيحي هو التعبير الصادق عن الوعي بما تمّ بتجسُّد المسيح. إنّ ميلاد المسيح هو الحدث الذي رفع أعين البشريّة نحو الملكوت الغائب عن واقع البشر، وهو الذي دفعهم لتبني أعين اسخاطولوجيّة ترصد ببصيرة ممسوحة بالروح، ما لا تره عين، لأن قياسها تحرَّر من مركزيّة المادة والزمن، وأصبحت تشخص في الأبديّة كما لو كانت موطن سكناها الآني. لذا فإن هذا الميلاد قد قسَّم التاريخ إلى حقبتين؛ قبل الميلاد وبعد الميلاد، الحقبة الأولى هي حقبة الرموز والتساؤلات والحيرة، بينما الحقبة الثانية هي حقبة المعاينة والملامسة والسكنى الدائمة لله في الإنسان وللإنسان في ملكوت الله. أبونا الراهب سارافيم البرموسي
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل