يتحدث الكتاب المقدس في الأصحاح الثالث عشر من إنجيل معلمنا يوحنا ، عن عمل قام به المسيح لفت نظر الجماهير ، وأصبح أيضا عملا متميزا عبر الأجيال كلها وهو " غسل الأرجل " . كون المسيح له المجد يغسل الأرجل لتلاميذه ، هذا درس عملي يقدمه المعلم ، والمعلم الناجح يقدم وسيلة إيضاح عندما يشرح درس ، لأن الإنسان بطبيعته روح مرتبط بجسد ، فالإنسان يتأثر بالمحسوسات أكثر من التعليم النظري ، التعليم النظري قابل لأن ينسي ، وقابل أيضا بأن يشرد عنه الذهن فلا يلتفت الإنسان إليه ، أو يمر عليه مروراً سطحياً أو عابرا . إنما النموذج العملي والممارسات العملية ووسائل الإيضاح الحسية ، تطبع في الإنسان أثراً أعمق وأقوى مما يطرحه التعليم النظرى القابل لأن ينسى .
القيمة الأولي إراحة الآخر :
فسيدنا له المجد كونه يضع ماء في مطهرة أو في مغسل أو في حوض أو ما نسميه اللقان في خميس العهد ويأخذ وضع الخادم ، في العهد الذي ظهر فيه سيدنا في فلسطين لم يكـن هناك طرق مواصلات متوفرة مثل زماننا الحاضر ، ولم يكن هناك سيارات ، وكان الإنسان يمشى على رجليه ، ومع قطع المسافات الطويلة كان الإنسان يشعر بالإعياء ، فكان أول شيء يصنعوه له عندما يدخل بيت ، أن يغسل رجليه ، سواء كان في بيته فالشخص بنفسه أو خادمه يغسل له رجليه . وأيضا إذا دخل بيت آخر كضيف ، لهذا كان من أولى واجبات الضيافة أن الضيف تغسل رجليه ، فكان يكلف الخادم أن يأتى بحوض ويضع فيه ماء ثم يغسل رجلي هذا الإنسان ، غسل الأرجل مع التعب تعطيه راحة ، فتعد هذه خدمة للإنسان المتعب والمرهق من قطع المسافات وهم وأيضا عندما كنا نذهب إلى الأديرة في الثلاثينيات ، كنا نلاحظ أن الآباء الرهبان أول شيء عندما نصل لأننا كان نسير على أرجلنا ، كانوا يحضروا حوض به ماء دافيء وأحياناً يضعوا فيها شيء من الملح البسيط ، فأول شيء يصنعوه عند استقبالنا هو غسل الأرجل ونحن كنا شباب صغير فكنا نتمنع أو نستكلف ، وهم آباء كبار كيف يغسلوا أرجلنا ؟ فكانوا يقولوا لنا لا تحرمونا من هذه البركة ، لماذا ؟ لأنه يشعر أنه يعمل العمل الذي عمله السيد المسيح ، فيشعر أنه يتمم واجب ويعمل فضيلة ، وتسمعوا في الكنيسة عن الأنبا بيشوى ومذكور عنه حتى في القداس أنه غسل قدمی مخلصنا الصالح ، فسيدنا له المجد من محبته للأنبا بيشوى ظهر له شكل إنسان كأنه ضيف من مكان بعيد ، فقام الأنبا بيشوى بغسل قدميه وهو لا يعلم أنه هو المسيح ، فسيدنا له المجد تلطف به وظهر له بكامل حقيقته ، فذهل الأنبا بيشوى أن سيدنا له المجد بذاته نزل إلى قلايته أو إلى غرفته وشرفه بهذا الشرف ، ولاشك أنه نال بركة كبيرة جدا لأنه غسل قدمي المسيح نفسه ، فهذه تعتبر بإستمرار فضيلة ، وكان في بداية المسيحية إختيار المرأة الشماسة يقوم كما جاء في رسالة بولس الرسول إلى تلميذه تيموثيئوس ، على أنها قد غسلت أرجل القديسين . كأول مؤهلاتها لكي تنال درجة الشماسية . فهنا بالنسبة للكل رجال ونساء هذه فضيلة ، فسيدنا له المجد كونه هو نفسه يأخذ هذا الوضع وينحنى كخادم ، وقال أنا بينكم كالذي يخدم وكلمة " يخدم " في اليوناني " دياكون " وهي المصطلح الكنسي لكلمة " الشماس " فالمسيح مارس مهمة الشماس كما مارس أيضا مهمة القارىء ، عندما قرأ الفصول المقدسة التي يقرأها الأناغنوستيس ، ومارس جميع درجات الكهنوت بما فيها الأسقفية ولذلك يقول الكتاب : " لأنكم رجعتم الآن إلى راعي نفوسكم وأسقفها " ( 1 . بط ٢ : ٢٥ ) ، المهم أنه عندما غسل المسيح الأرجل ، بطرس الرسول استعظم هذا الأمر وقال له " لن تغسل رجلي ، فقال له " أنت لا تفهم الآن ولكنك ستفهم فيما بعد، لماذا أنا عملت ذلك ، هناك هدف وراء هذا العمل ، يوجد درس أنا أعطيه وسيلة إيضاح ، " إن كنت لا أغسلك فليس لك معى نصيب " ، هدده ، وأصر المسيح على أن يغسل.رجليه ، فقال له : " ياسيد ليس رجلي فقط بل يدي ورأسي " لأنه يهمنى أن يكون لي نصيب معك . وبعد أن غسل الأرجل جلس ، لاحظوا في عملية غسل الأرجل كونه أخذ مئزرة وائتزر بها وأخذ وضع الخادم ، لأنه في هذا الوقت كان الناس يلبسوا ملابس طويلة فيحتاج أن يرفع ملابسه ، لأن عملية الغسل تحتاج منه أن ينحنى فلا تبتل ملابسه ، رجال الكهنوت يلبسوا ما يسمى بالحياصة أو المنطقة ، وقد ظهر بها السيد المسيح في سفر الرؤيا للقديس يوحنا الحبيب ، عندما رأه في الرؤيا العظيمة ، يصفه في الأصحاح الأول من سفر الرؤيا أنه كان يلبس ملابس بيضاء إلى القدمين ومتمنطقا بمنطقة عند صدره ، ولهذا السبب يلبس الأسقف مثل هذه الملابس لأنه يمثل سيده ، وهذه المنطقة دليل أو علامة أنه خادم ، وفي بعض الكنائس الأخرى يعطوا الكهنة رغم أنه ليس أسقفاً لقب مونسنيير وتعنى سيدنا ، ولذلك يلبس حزام أحمرلكي يشير به إلى أنه خادم . وقال لهم السيد المسيح : أنتم تدعوني معلماً وسيداً وحسنا تقولون لأني أنا كذلك ، أي هذا ليس نفاق ولا ادعاء ، فأنا المعلم وأنا السيد ، ولكن إن كنت أنا المعلم والسيد قد غسلت أرجلكم فأنتم يجب عليكم أن يغسل بعضكم أرجل بعض ، لم يطلب منهم أن يخدموه أو أنه يقوموا بغسل رجليه ، إنما طلب منهم أن يصنعوا ذلك بعضهم نحو بعض . ما الحكمة في هذا ؟ !! عملية غسل الأرجل في ذاتها خدمة ، أذكر رجل الآن في العالم الآخر ، كان يذكر من بين فضائل زوجته ، يقول : حتى لو دخلت الساعة ١٢ بالليل تدفىء الماء وتغسل رجلي ، لم ينس لها هذا الفضل ، لأن هذه فعلا خدمة مريحة ، فعندما نريح إنسان تعبان تعد خدمة .
نيافة مثلث الرحمات الأنبا غريغوريوس أسقف عـام للدراسات العليا اللاهوتية والثقافة القبطية والبحث العلمى
عن كتاب الخدمة والخدام المفاهيم والمجالات والمؤهلات والمعوقات
وللحديث بقية
القيم التي تنبع من غسل الأرجل ج١
01 يوليو 2022
عدد الزيارات 452