المقالات

08 أغسطس 2020

العذراء كل حين

لساني العاجز الخاطئ الضعيف كيف له أن يتجاسر ويتكلّم بمديح يسير عن والدة الإله القديسة الطاهرة مريم "دائمة البتولية".لقد وَلدَتْ إلهنا الصالح بدون زرع بشر كنبوات الكتب، فتكلّم إشعياء النبي مفتوح العينين من وراء الزمان قائلاً: «وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ "عِمَّانُوئِيلَ» (إشعياء 7: 14)؛ لقد دعاها "العذراء" لأنها دائمة البتولية. وتنبأ حزقيال النبي الطاهر برؤيا واضحة قائلاً: «ثُمَّ أَرْجَعَنِي إِلَى طَرِيقِ بَابِ الْمَقْدِسِ الْخَارِجِيِّ الْمُتَّجِهِ لِلْمَشْرِقِ، وَهُوَ مُغْلَقٌ. فَقَالَ لِيَ الرَّبُّ: "هذَا الْبَابُ يَكُونُ مُغْلَقًا، لاَ يُفْتَحُ وَلاَ يَدْخُلُ مِنْهُ إِنْسَانٌ، لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَ إِسْرَائِيلَ دَخَلَ مِنْهُ فَيَكُونُ مُغْلَقًا".» (حزقيال 44: 1-2).وسليمان الحكيم في نشيد الأنشاد مجَّد دوام بتوليتها قائلاً: «أُخْتِي الْعَرُوسُ جَنَّةٌ مُغْلَقَةٌ، عَيْنٌ مُقْفَلَةٌ، يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ» (نشيد 4: 12).لقد نذرت العذراء الطاهرة بتوليتها لله، ولذلك اندهشت حينما بشَّرها الملاك جبرائيل بالحَبَل الإلهي الطاهر، وتساءلت في حيرة: «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟» (لوقا 1: 34).لم يكن ممكنًا للعذراء الطاهرة أن تسأل هذا السؤال إن لم يكن هناك نذرٌ مسبق بأن تقدِّم بتوليتها لله، فقد وضعت في قلبها وضميرها أن تحقّقه.لقد خافت العذراء أن تُحرَم من بهاء البتولية، وانزعجت بهدوء، وتساءلت في براءة.. ثم استراح ضميرها الملائكي وقالت: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لوقا 1: 38)، عندئذ طمأنها الملاك بأنها ستظلّ بتولاً، وأن الحَمل سيكون بفِعل الروح القدس: «فَأَجَابَ الْمَلاَكُ وَقَالَ لَها: "اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لوقا 1: 35).كان قلبها وجسدها وكيانها كله مكرّسًا لله، كمثل رئيس كهنة العهد القديم الذي كان ينقش على عمامته عبارة "قُدسٌ للرب". إنها قُدسٌ للرب، مُقدَّسة ومُخصَّصة لله فقط.. أكثر من الصينية التي تحمل جسد الرب على المذبح، ولا يمكن أن تُستَخدَم في غرض آخر غير الذي كُرِّست ودُشِّنت من أجله.لقد حَبَلت العذراء بالطفل الإلهي، ووَلَدت، وظلّت عذراء وبتوليتها مختومة.. واعتادت الكنيسة منذ فجرها الأول أن تلقِّب القديسة مريم بالعذراء (بارثينوس) والدائمة البتولية (ايبارثينوس)، للتعبير عن دوام بتوليتها قبل وأثناء وبعد الحَمل والولادة.ولكن يظل السؤال.. كيف وَلدَت القديسة مريم ومع ذلك ظلّت عذراء؟! الإجابة هي أنه كما خرج الرب يسوع المسيح من القبر والقبر مُغلق، وكما دخل على التلاميذ والأبواب مغلّقة حتى إنهم ظنوه شبحًا.. هكذا أيضًا خرج من العذراء وظلّت العذراء كما هي وبتوليتها مختومة. قال القديس جيروم: "مع أن الباب كان مغلقًا، دخل يسوع إلى مريم، القبر الجديد المنحوت في الصخر، الذي لم يرقد فيه أحد من قبله ولا بعده. إنها جنة مغلقة، ينبوع مختوم. هي باب المشرق الذي تحدّث عنه حزقيال، المُغلق إلى الدوام، المملوء نورًا... ودعوهم يخبروني كيف دخل يسوع والأبواب مغلّقة، وأنا أجيبهم كيف تكون القديسة مريم أمًّا وعذراء بعد ميلاد ابنها؟". قال القديس مار أفرام السرياني: "كما دخل الرب والأبواب مغلّقه هكذا خرج من حشا البتول وبقيت بتوليتها سالمة لم تُحلّ".قال القديس أوغسطينوس: "بعد قيامة المسيح عندما ظُنّ أنه روح قال لتوما: «هاتِ يدك وانظر، لأن الروح ليس له جسد وعظام كما ترى». وبالرغم من أن جسده جسد شخص في سن الرجولة، فإنه دخل إلى حيث يوجد تلاميذه خلف الأبواب المغلّقة. فإذا كان قد استطاع أن يدخل خلال الأبواب المغلّقة وهو في جسد في سن الرجولة، فكيف لا يستطيع إذًا كطفل أن يترك جسم أمه دون إتلاف بتوليتها؟ الذي يؤمن أن الله ظهر في الجسد يصدّق الأمرين كليهما، أما غير المؤمن فلا يصدّق هذا ولا ذاك".قال ذهبي الفم: "نحن نجهل أمورًا كثيرة، وعلى سبيل المثال: كيف وُجد غير المحدود في رَحِم العذراء؟ ثم كيف الذي يحوي جميع الأشياء حملته امرأة؟ ثم العذراء كيف ولدت وهي كما هي عذراء؟".قال القديس كيرلس الكبير: "لنمجِّد مريم دائمة البتولية بتسبحة الفرح".قال القديس غريغوريس الثيئولوغوس: "وُلِد من عذراء وحفظ أيضًا عذريتها وبتوليتها بلا تغيير".قال القديس غريغوريوس أسقف نيصص: "إن رَحِم العذراء الذي اُستخدم لميلاد بلا دنس هو مبارك، لأن الميلاد لم يبطل أو يحلّ عذريتها، كما أن العذراوية لم تمنع أو تعق ذلك الميلاد العالي، كما أعلن عنه في الإنجيل: «طوبى للبطن الذي حَملك والثديين اللذين رضعتهما»."وجاء في ثيئوطوكية يوم الخميس: "يا للطلقات الإلهية العجيبة التي لوالدة الإله مريم العذراء كل حين. هذه التي منها اجتمع معًا بتولية بلا دنس وميلاد حقيقي. لأنه لم يسبق الميلاد زواج، ولم يحلّ الميلاد أيضًا بتوليتها، لأن الذي وُلِد إلهًا بغير ألم من الآب وُلِد أيضًا حسب الجسد بغير ألم (الشهوة) من العذراء".ونقول في المَجمَع في القداس الإلهي: "وبالأكثر القديسة المملوءة مجدًا، العذراء كل حين، والدة الإله القديسة الطاهرة مريم، التي وَلدتْ الله الكلمة بالحقيقة".طوباكِ أنتِ يا أمي البتول.. اشفعي فينا ليعطينا الرب الإله ابنك جزءًا يسيرًا جدًّا من طهارتك وحُسن بتوليتك نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
06 أبريل 2020

مفهوم المعجزة

أولاً: ماهية المعجزة:- المعجزة هى عمل يفوق الطبيعة، ويفوق التوقع الطبيعي، كأن يُشفى إنسان مريض بمرض عضّال فجأة وبدون علاج، أو يقوم ميت من الموت، أو غير ذلك من الأحداث فائقة الطبيعة وأعمال الله التى يعملها يوميًا معنا يمكن أن تُعتبر معجزات بالنسبة لنا، ولكنها شىء طبيعى بالنسبة لقدرة الله الفائقة لكن المعجزة الإلهية قد صارت شيئًا زهيدًا بسبب التكرار والاعتياد.. فالشمس تشرق كل يوم، وتغرب فى مواعيد محددة، وحركة الأفلاك السمائية التى لا تضطرب، بل ومعجزة جسم الإنسان وما فيه من أجهزة وعمليات فسيولوجية، والعقل البشرى وما يحويه من غنى، والإبداع والقدرة على التفكير، وعدد الخلايا العصبية التى فيه وكيف تعمل، بل لو تأملنا فى كل ما يحيط بنا، لأدركنا مقدار الإعجاز فيه لولا أننا اعتدنا.. فصار كل شىء لنا طبيعيًا، وبدأنا نبحث عن الأشياء الخارقة وعندما تجسّد الله وحل بيننا، كان الشىء الطبيعى بالنسبة له أن تخرج منه قوة لشفاء الناس "الذى جالَ يَصنَعُ خَيرًا ويَشفى جميعَ المُتَسَلطِ علَيهِمْ إبليسُ" (أع 38:10)"وكانَتْ قوَّةُ الرَّب لشِفائهِمْ" (لو 17:5)"وحَيثُما دَخَلَ إلَى قُرىً أو مُدُنٍ أو ضياعٍ، وضَعوا المَرضَى فى الأسواقِ، وطَلَبوا إليهِ أنْ يَلمِسوا ولو هُدبَ ثَوْبِهِ. وكُلُّ مَنْ لَمَسَهُ شُفىَ" (مر 56:6)"فقالَ يَسوعُ: قد لَمَسَنى واحِدٌ، لأنى عَلِمتُ أنَّ قوَّةً قد خرجَتْ مِنى" (لو 46:8).لقد كان الرب يسوع وسط الناس كمثل التيار الكهربائى، الذى تخرج منه قوة تُنير، وتُحرك، وتُسخن، وتُبرد. كذلك كانت القوة الخارجة من الرب تشفى، وتُطهر، وتغفر الخطايا، وتُبارك الأكل، وتُقيم الموتى... كان كل ذلك مُعجزيًا فى نظر الناس، ولكنه كان طبيعيًا جدًّا بالنسبة للرب يسوع.يمكننا أن نعتبر قيامة السيد المسيح من الموت، ليست معجزة لأنها الشئ الطبيعى بالنسبة له.. فهو ينبوع الحياة"فيهِ كانَتِ الحياةُ، والحياةُ كانَتْ نورَ الناسِ" (يو 4:1)"قالَ لها يَسوعُ: أنا هو القيامَةُ والحياةُ. مَنْ آمَنَ بى ولو ماتَ فسَيَحيا" (يو 25:11)والمعجزة الحقيقية التى تجرى فى حياتنا هى تجديد طبيعة الإنسان، واقتناؤه الحياة السمائية. ثانياً: الله وحده هو صانع المعجزات:- الله وحده هو صانع المعجزات لأنه هو وحده القادر على كل شىء، ولا يعسُر عليه أمر."مَنْ مِثلُكَ بَينَ الآلِهَةِ يارَبُّ؟ مَنْ مِثلُكَ: مُعتَزًّا فى القَداسَةِ، مَخوفًا بالتَّسابيحِ، صانِعًا عَجائبَ؟" (خر 11:15) "مُبارَكٌ الرَّبُّ اللهُ إلهُ إسرائيلَ، الصّانِعُ العَجائبَ وحدَهُ" (مز 18:72) ثالثاً: القديسون والمعجزات:- أحيانًا يُعطى الله رجاله القديسين أن يصنعوا عجائب باسمه "وصارَ خَوْفٌ فى كُل نَفسٍ. وكانَتْ عَجائبُ وآياتٌ كثيرَةٌ تُجرَى علَى أيدى الرُّسُلِ" (أع 43:2)"وجَرَتْ علَى أيدى الرُّسُلِ آياتٌ وعَجائبُ كثيرَةٌ فى الشَّعبِ. وكانَ الجميعُ بنَفسٍ واحِدَةٍ فى رِواقِ سُلَيمانَ" (أع 12:5)"وأمّا استِفانوسُ فإذ كانَ مَملوًّا إيمانًا وقوَّةً، كانَ يَصنَعُ عَجائبَ وآياتٍ عظيمَةً فى الشَّعبِ" (أع 8:6) رابعاً: الهدف من المعجزة:- إن الهدف من المعجزة هو إظهار قوة الله، وتمجيد اسمه القدوس، حتى يُؤمن به الناس "هذِهِ بدايَةُ الآياتِ فعَلها يَسوعُ فى قانا الجليلِ، وأظهَرَ مَجدَهُ، فآمَنَ بهِ تلاميذُهُ" (يو 11:2)"فآمَنَ بهِ كثيرونَ مِنَ الجَمعِ، وقالوا: ألَعَلَّ المَسيحَ مَتَى جاءَ يَعمَلُ آياتٍ أكثَرَ مِنْ هذِهِ التى عَمِلها هذا؟" (يو 31:7)وهناك سبب آخر أجرى من أجله السيد المسيح معجزاته الكثيرة.. فلقد جاء السيد المسيح ليعمل معجزات غير حسية فى الطبيعة البشرية، وهى:- - إخراج الشيطان من سلطانه المزيف على البشر. - تجديد الطبيعة البشرية، ومنحها نعمة الاستنارة. - أن يُقيمنا من موت الخطية، ويُحيينا حياة أبدية. - أن يعطينا أن نأكل جسده ودمه الأقدسين. كل هذه معجزات باهرة جدًّا، ولكنها غير محسوسة، ولن يصدقها الناس لأننا لا نؤمن إن لم نرَ بأعيننا!! فما الدليل على أن طبيعة الإنسان تتجدد بالمعمودية؟إننا لا نرى شيئًا ظاهريًا يحدث لمَنْ يعتمد باسم الثالوث وما الدليل على أن خطايا المعترف تُغفر له؟ إننا لا نرى شيئًا ملموسًا وهكذا لذلك عمل السيد المسيح معجزات ظاهرية محسوسة وملموسة ومرئية، ليبرهن بها على ما يعمله داخليًا فينا، دون أن نرى أو نحس أو نلمس هذه الحقيقة يمكن أن ندركها من كلام السيد المسيح مع اليهود، فى معجزة شفاء المفلوج "ولكن لكَىْ تعلَموا أنَّ لابنِ الإنسانِ سُلطانًا علَى الأرضِ أنْ يَغفِرَ الخطايا، قالَ للمَفلوجِ لكَ أقولُ قُمْ واحمِلْ فِراشَكَ واذهَبْ إلَى بَيتِكَ!" (لو 24:5) المسيح وهو شفقة الله على الناس والخليقة فى معجزة إشباع الجموع، قال الرب يسوع "إنى أُشفِقُ علَى الجَمعِ، لأنَّ الآنَ لهُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ يَمكُثونَ مَعى وليس لهُمْ ما يأكُلونَ" (مر 2:8) وفى معجزة شفاء الأبرص قيل"فتَحَنَّنَ يَسوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقالَ لهُ: أُريدُ فاطهُرْ!" (مر 41:1)وقيل كذلك "فلَمّا خرجَ يَسوعُ أبصَرَ جَمعًا كثيرًا فتَحَنَّنَ علَيهِمْ وشَفَى مَرضاهُمْ" (مت 14:14) خامساً: علاقة المعجزة بالإيمان:- هل يعمل الله معجزة بسبب إيمان الناس، أم أنه يعمل المعجزة لكى يؤمنوا به؟!!إن الإيمان هو "الثقَةُ بما يُرجَى والإيقانُ بأُمورٍ لا تُرَى" (عب 1:11)، فيجب أن يكون الإيمان نابعًا من القلب دون احتياج إلى معجزة. لذلك عاتب السيد المسيح توما قائلاً "لأنَّكَ رأيتَنى يا توما آمَنتَ! طوبَى للذينَ آمَنوا ولم يَرَوْا" (يو 29:20)إن الناس - من جهة هذا الأمر - ينقسمون إلى عدة أنواع:- 1- أناس نالوا المعجزة بسبب إيمانهم، مثل :- أ- نازفة الدم : وقد قال لها السيد المسيح: "ثِقى يا ابنَةُ، إيمانُكِ قد شَفاكِ. فشُفيَتِ المَرأةُ مِنْ تِلكَ السّاعَةِ" (مت 22:9) ب- الأعميان : "حينَئذٍ لَمَسَ أعيُنَهُما قائلاً: بحَسَبِ إيمانِكُما ليَكُنْ لكُما" (مت 29:9) ج- المرأة الكنعانية : "يا امرأةُ، عظيمٌ إيمانُكِ! ليَكُنْ لكِ كما تُريدينَ. فشُفيَتِ ابنَتُها مِنْ تِلكَ السّاعَةِ" (مت 28:15) 2- أناس آمنوا بسبب المعجزة :- أ- معجزة قانا الجليل : "هذِهِ بدايَةُ الآياتِ فعَلها يَسوعُ فى قانا الجليلِ، وأظهَرَ مَجدَهُ، فآمَنَ بهِ تلاميذُهُ" (يو 11:2) ب- "ولَمّا كانَ فى أورُشَليمَ فى عيدِ الفِصحِ، آمَنَ كثيرونَ باسمِهِ، إذ رأَوْا الآياتِ التى صَنَعَ" (يو 23:2) ج- شفاء ابن خادم الملك : "ففَهِمَ الأبُ أنَّهُ فى تِلكَ السّاعَةِ التى قالَ لهُ فيها يَسوعُ: إنَّ ابنَكَ حَىٌّ. فآمَنَ هو وبَيتُهُ كُلُّهُ" (يو 53:4) 3- أناس لم يُؤمنوا بالرغم من المعجزة :- أ- "ومع أنَّهُ كانَ قد صَنَعَ أمامَهُمْ آياتٍ هذا عَدَدُها، لم يؤمِنوا بهِ" (يو 37:12) ب- "فجَمَعَ رؤَساءُ الكهنةِ والفَريسيّونَ مَجمَعًا وقالوا: ماذا نَصنَعُ؟ فإنَّ هذا الإنسانَ يَعمَلُ آياتٍ كثيرَةً. إنْ ترَكناهُ هكذا يؤمِنُ الجميعُ بهِ، فيأتى الرّومانيّونَ ويأخُذونَ مَوْضِعَنا وأُمَّتَنا" (يو 47:11-48) 4- أناس لم تعمل لهم معجزة بسبب عدم إيمانهم :- أ- عندما سأل التلاميذ: "لماذا لم نَقدِرْ نَحنُ أنْ نُخرِجَهُ (الشيطان)؟ فقالَ لهُمْ يَسوعُ: لعَدَمِ إيمانِكُمْ" (مت 19:17-20) ب- "حينَئذٍ أجابَ قَوْمٌ مِنَ الكتبةِ والفَريسيينَ قائلينَ: يا مُعَلمُ، نُريدُ أنْ نَرَى مِنكَ آيَةً. فأجابَ وقالَ لهُمْ: جيلٌ شِريرٌ وفاسِقٌ يَطلُبُ آيَةً، ولا تُعطَى لهُ آيَةٌ إلا آيَةَ يونانَ النَّبى" (مت 38:12-39) ج- هيرودس الملك عند محاكمة السيد المسيح.. "ترَجَّى أنْ يَرَى آيَةً تُصنَعُ مِنهُ" (لو 8:23)ومع ذلك لم يعمل له السيد المسيح معجزة بسبب عدم إيمانه. سادساً: الشيطان والمعجزات هل هناك معجزات يستطيع الشيطان أن يعملها؟ نعم وهنا تكمن الخطورة، فالشيطان يستطيع أن يعمل معجزات ليُضلِّل بها الناس، مستخدمًا فى ذلك قدرته كملاك (ساقط)ولذلك ينبغى على الناس أن يحذروا من السقوط فى خداع الشيطان وأوهام المعجزات الكاذبة، وذلك بشهادة الأسفار المُقدَّسة"ويَقومُ أنبياءُ كذَبَةٌ كثيرونَ ويُضِلّونَ كثيرينَ" (مت 11:24)"اِحتَرِزوا مِنَ الأنبياءِ الكَذَبَةِ الذينَ يأتونَكُمْ بثيابِ الحُملانِ، ولكنهُمْ مِنْ داخِلٍ ذِئابٌ خاطِفَةٌ!" (مت 15:7)"لأنَّهُ سيَقومُ مُسَحاءُ كذَبَةٌ وأنبياءُ كذَبَةٌ ويُعطونَ آياتٍ عظيمَةً وعَجائبَ، حتَّى يُضِلّوا لو أمكَنَ المُختارينَ أيضًا" (مت 24:24)"إذا قامَ فى وسطِكَ نَبىٌّ أو حالِمٌ حُلمًا، وأعطاكَ آيَةً أو أُعجوبَةً، ولو حَدَثَتِ الآيَةُ أو الأُعجوبَةُ التى كلَّمَكَ عنها قائلاً: لنَذهَبْ وراءَ آلِهَةٍ أُخرَى لم تعرِفها ونَعبُدها، فلا تسمَعْ لكلامِ ذلكَ النَّبى أو الحالِمِ ذلكَ الحُلمَ، لأنَّ الرَّبَّ إلهَكُمْ يَمتَحِنُكُمْ لكَىْ يَعلَمَ هل تُحِبّونَ الرَّبَّ إلهَكُمْ مِنْ كُل قُلوبِكُمْ ومِنْ كُل أنفُسِكُمْ" (تث 1:13-3)لقد فعل العرافون معجزات أمام فرعون بقوة الشيطان، حتى يشوش على عمل الله، ولكن عمل الله ظاهر وقوى.. سابعاً: هل المعجزة علامة القداسة وصحة الإيمان؟ يعتبر البعض أن برهان قداسة إنسان هو أنه يُجرى المعجزات، بينما يشهد الكتاب المُقدَّس بعكس ذلك:- أ- قديسون لم يعملوا معجزات :- قيل عن يوحنا المعمدان"إنَّ يوحَنا لم يَفعَلْ آيَةً واحِدَةً" (يو 41:10) هذا الرجل الذي شهد عنه السيد المسيح بنفسه قائلاً "لأنى أقولُ لكُمْ: إنَّهُ بَينَ المَوْلودينَ مِنَ النساءِ ليس نَبىٌّ أعظَمَ مِنْ يوحَنا المعمدانِ، ولكن الأصغَرَ فى ملكوتِ اللهِ أعظَمُ مِنهُ" (لو 28:7)وكذلك لم يُسمع عن كثيرين من الآباء أنهم عملوا معجزات مثل: إبراهيم، وإسحق، ويعقوب، ويوسف، وصموئيل، وإشعياء فليست المعجزة برهان على قداسة السيرة، بل قداسة السيرة برهان صدق المعجزة، وأنها من عمل الله. ب- أشرار عملوا معجزات :- "كثيرونَ سيقولونَ لى فى ذلكَ اليومِ: يارَبُّ، يارَبُّ! أليس باسمِكَ تنَبّأنا، وباسمِكَ أخرَجنا شَياطينَ، وباسمِكَ صَنَعنا قوّاتٍ كثيرَةً؟ فحينَئذٍ أُصَرحُ لهُمْ: إنى لم أعرِفكُمْ قَطُّ! اذهَبوا عَنى يا فاعِلى الإثمِ!" (مت 22:7-23)لقد تنبأ "بلعام بن يعور"، ولكنه كان مرفوضًا من قِبَل الله "ويلٌ لهُمْ! لأنَّهُمْ سلكوا طريقَ قايينَ، وانصَبّوا إلَى ضَلالَةِ بَلعامَ لأجلِ أُجرَةٍ، وهَلكوا فى مُشاجَرَةِ قورَحَ" (يه 11) "لكن عِندى علَيكَ قَليلٌ: أنَّ عِندَكَ هناكَ قَوْمًا مُتَمَسكينَ بتعليمِ بَلعامَ، الذى كانَ يُعَلمُ بالاقَ أنْ يُلقىَ مَعثَرَةً أمامَ بَنى إسرائيلَ: أنْ يأكُلوا ما ذُبِحَ للأوثانِ، ويَزنوا" (رؤ 14:2)وتنبأ قيافا رئيس الكهنة بخصوص السيد المسيح "فقالَ لهُمْ واحِدٌ مِنهُمْ، وهو قَيافا، كانَ رَئيسًا للكهنةِ فى تِلكَ السَّنَةِ أنتُمْ لستُمْ تعرِفونَ شَيئًا، ولا تُفَكرونَ أنَّهُ خَيرٌ لنا أنْ يَموتَ إنسانٌ واحِدٌ عن الشَّعبِ ولا تهلِكَ الأُمَّةُ كُلُّها! ولم يَقُلْ هذا مِنْ نَفسِهِ، بل إذ كانَ رَئيسًا للكهنةِ فى تِلكَ السَّنَةِ، تنَبّأَ أنَّ يَسوعَ مُزمِعٌ أنْ يَموتَ عن الأُمَّةِ، وليس عن الأُمَّةِ فقط، بل ليَجمَعَ أبناءَ اللهِ المُتَفَرقينَ إلَى واحِدٍ" (يو 49:11-52)وطبعًا لم يكن قيافا قديسًا، فلقد تورط فى صلب السيد المسيح بقلب قاس جاحد حقًا "ليس كُلُّ مَنْ يقولُ لى يارَبُّ، يارَبُّ! يَدخُلُ ملكوتَ السماواتِ بل الذى يَفعَلُ إرادَةَ أبى الذى فى السماواتِ" (مت 21:7) وكذلك حق ما قاله القديس بولس الرسول: "وإنْ كانَتْ لى نُبوَّةٌ، وأعلَمُ جميعَ الأسرارِ وكُلَّ عِلمٍ، وإنْ كانَ لى كُلُّ الإيمانِ حتَّى أنقُلَ الجِبالَ، ولكن ليس لى مَحَبَّةٌ، فلستُ شَيئًا" (1كو 2:13)من أجل ذلك لا يجب أن نقبل كل مَنْ يعمل آيات قائلاً إنه قديس، بل يجب أن يُمتحنوا ويُخِتبروا على رأى القائل لا تصدقوا كل روح، بل جربوا إن كان ذلك الروح من الله، لأن أنبياء كثيرين كذابين قد خرجوا إلى العالم والرسول يقول إن هؤلاء رسل كذابون وفعلة غاشون، متشبهون برسل المسيح، وأن الشيطان يظهر بشكل ملاك النور، فلا عجب أن كل خدامه يتشكلون بشكل خدام العدل. ثامناً: هل يجوز التباهى بالمعجزة والإعلان عنها؟ لقد تعلّمنا من السيد المسيح عدم الافتخار "لا تفرَحوا بهذا أنَّ الأرواحَ تخضَعُ لكُمْ، بل افرَحوا بالحَرى أنَّ أسماءَكُمْ كُتِبَتْ فى السماواتِ" (لو 20:10)"تبِعَتهُ جُموعٌ كثيرَةٌ فشَفاهُمْ جميعًا. وأوصاهُمْ أنْ لا يُظهِروهُ" (مت 15:12-16)وفى حادثة التجلى "وفيما هُم نازِلونَ مِنَ الجَبَلِ أوصاهُمْ يَسوعُ قائلاً: لا تُعلِموا أحَدًا بما رأيتُمْ حتَّى يَقومَ ابنُ الإنسانِ مِنَ الأمواتِ" (مت 9:17)وإن كان السيد المسيح فى مواقع أخرى أمر الناس أن يذيعوا مجد الله، مثلما فعل مع مريض كورة الجدريين الذى خرجت منه الشياطين، فقال له: "ارجِعْ إلَى بَيتِكَ وحَدثْ بكَمْ صَنَعَ اللهُ بكَ. فمَضَى وهو يُنادى فى المدينةِ كُلها بكَمْ صَنَعَ بهِ يَسوعُ" (لو 39:8). لكن ذلك على أساس: "مَنِ افتَخَرَ فليَفتَخِرْ بالرَّب" (1كو 31:1) تاسعاً: المعجزة الحقيقية:- لقد طلب اليهود من السيد المسيح آية (معجزة)، فكان رده: "جيلٌ شِريرٌ وفاسِقٌ يَطلُبُ آيَةً، ولا تُعطَى لهُ آيَةٌ إلا آيَةَ يونانَ النَّبى. لأنَّهُ كما كانَ يونانُ فى بَطنِ الحوتِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ، هكذا يكونُ ابنُ الإنسانِ فى قَلبِ الأرضِ ثَلاثَةَ أيّامٍ وثَلاثَ لَيالٍ" (مت 39:12-40)إن السيد المسيح هو المعجزة الحقيقية.. "ولكن يُعطيكُمُ السَّيدُ نَفسُهُ آيَةً: ها العَذراءُ تحبَلُ وتلِدُ ابنًا وتدعو اسمَهُ عِمّانوئيلَ" (إش 14:7)المعجزة هى أن الله تجسّد ورأينا مجده، وأنه مات عنَّا ولأجلنا، وأنه ارتضى أن يسكن فى قلبى الحقير النجس ما أجمل إجابة الثلاثة فتية القديسين عندما هددهم نبوخذنصر الملك بإلقائهم في أتون النار المتقدة "فأجابَ شَدرَخُ وميشَخُ وعَبدَنَغوَ وقالوا للمَلِكِ يا نَبوخَذنَصَّرُ، لا يَلزَمُنا أنْ نُجيبَكَ عن هذا الأمرِهوذا يوجَدُ إلهنا الذى نَعبُدُهُ يستطيعُ أنْ يُنَجيَنا مِنْ أتّونِ النّارِ المُتَّقِدَةِ، وأنْ يُنقِذَنا مِنْ يَدِكَ أيُّها المَلِكُ. وإلا فليَكُنْ مَعلومًا لكَ أيُّها المَلِكُ، أنَّنا لا نَعبُدُ آلِهَتَكَ ولا نَسجُدُ لتِمثالِ الذَّهَبِ الذى نَصَبتَهُ" (دا 16:3-18)أى إنه يمكن أن يعمل الله معنا معجزة وينقذنا من يديك، وإن لم يعمل المعجزة فإننا سوف نستمر على إخلاصنا وخضوعنا له وعبادته دون كل الآلهة وقد تكلّم بعض الآباء عن المعجزة الحقيقية التي يمكن أن تحدث فى النفس بالتوبة فمثلاً جاء فى بستان الرهبان"حدث أن تقدم بعض الرهبان إلى أنبا باخوميوس يسألونه "قل لنا يا أبانا ما الذى يمكننا أن نعمله لنحظى بالقدرة على إجراء الآيات والعجائب؟"أجابهم بابتسامة "إن شئتم أن تسعوا سعيًا روحيًا ساميًا فلا تطلبوا هذه المقدرة لأنها مشوبة بشىء من الزهو، بل اسعوا بالحرى لتظفروا بالقوة التى تمكنكم من إجراء العجائب الروحية فإن رأيتم عابد وثن وأنرتم أمامه السبيل الذى يقوده إلى معرفة الله فقد أحييتم ميتًا، وإذا رددتم أحد المبتدعين فى الدين إلى الإيمان الأرثوذكسى فتحتم أعين العميان، وإذا جعلتم من البخيل كريمًا شفيتم يدًا مشلولة، وإذا حولتم الكسول نشيطًا منحتم الشفاء لمُقعد مفلوج، وإذا حولتم الغضوب وديعًا أخرجتم شيطانًا، فهل هناك شىء يطمع الإنسان أن يناله أعظم من هذا؟". نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
17 مارس 2020

الصوم الكبير عودة الى الله

أول وصية:- "من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر، فلا تأكل منها؟ لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت" (تك 16:2،17)أنها أول وصية بل الوصية الوحيدة فى الفردوس أن يصوم الإنسان عن نوع معين من الطعام ولا يتناول طعاماً إلا من يد الله أراد الله أن يقول لآدم "ليست حياتك من الطعام، بل بى. إذا أكلت بدونى فستموت" وأراد الشيطان أن يثبت العكس لآدم "أن الحياة، بل والألوهة تكمنان فى الأكل فقط، حتى ولو كان مخالفاً لوصية الله الصالحة"وانطلت الخدعة على آدم فعاش ليأكل وكرسّ الناس كل جهدهم وعمرهم من أجل "لقمة العيش"، وبات الناس لا يفكرون إلا فى المال والأكل والمتع الحسية حاسبين أنها وحدها سبيل السعادة والحياة بمعزل عن الله مع أن الواقع نفسه يعلن فشل هذه الأفكارفليست سعادة الإنسان بالمادة بل بالله الحى الذى يمنحنا كل شئ بغنى للتمتع" (1تى 17:6)أما المادة فى حد ذاتها - وبعيداً عن الله؛ فتصير وثناً بغيضاً، وينبوع موت لكل من يتعلق بها "لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذى إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (1تى 10:6) وتمركز الحياة - هذا - حول الطعام، تسرب دون أن ندرى حتى إلى الروحيين والمؤمنين؛ فصار الصوم فى نظرهم هو امتناع عن الأكل أنه أيضاً تمركز سلبى ولكن الصوم كما تعلّم الكنيسة وتشرحه هو العودة إلى الله:- 1- العودة ألى الله كمركز للحياة:- فليست الأموال بل الصدقة، وليست الإرادة بل الصلاة، وليست الأطعمة والشهوات بل الصوم والتعفف وهذا أول درس تلقنه لنا الكنيسة... (فى أحد الرفاع) قبل أن نجتاز معاً رحلة الصوم المقدسة. أ- ففى الصدقة:- يعلن الإنسان أن ما لديه من أموال هى نعمة استأمنه الله عليها أعطاها له كوكيل صالح ليخدم بها الآخرين بكل فرح "المعطى المسرور يحبه الرب" (2كو 7:9) وإن سعادته ليست فى تخزين الأموال بل فى إنفاقها فى الخير "مغبوط هو العطاء أكثر من الآخذ" (أع 35:20) كذلك فى الصدقة يعلن الإنسان أن حياته وتأمينها فى يدى الله، وليس فى خزائن البنوك إن القضية ليست فى كثرة المال أو قلّته، بل فى نظرة الإنسان له ومحبته واتكاله هل على الله (حتى ولو كان غنياً) أم على الأموال (حتى ولو كان فقيراً) فهناك غنىّ لا يتعلق بالمال وآخر يعبده وهناك فقير يشكر الله ويسعد وآخر ما زال يعبد المال ليست حياتنا من أموالنا بل من الله الذى يعطينا. ب- الصلاة:- هى شركة حب يسلم فيها الإنسان ذاته وإرادته وتدبير حياته ليدى ذاك الذى معه أمرنا الصلاة هى عودة إلى الله كمركز للحياة ومحرك لها قديماً قالوا "الصلاة تحرك اليد التى تحرك العالم"، وربنا يسوع المسيح وعدنا أن "كل ما تطلبونه فى الصلاة مؤمنين ستنالونه" (مت 22:21) إن مأساة العالم اليوم أنه قد ترك الصلاة، وسعى وراء العقل والحرية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية بمعزل عن الله ولا يوجد من ينكر قيمة التفكير بالعقل، والمناداة بالحرية، وتحقيق حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وغيرها من مبادئ سامية رفيعة ولكن دعنا نعترف - باتضاع - أن هذه المبادئ لم تحل مشكلة الإنسان فى كل مكان آه لو اقترنت هذه، بروح التقوى والصلاة آه لو اعتنقناها فى نور الإنجيل وليس بمعزل عن الله آه لو ارتقى الضمير وتنزه عن الأغراض لصار العقل بالحقيقة خلاقاً للخير وصارت الحرية سعادة بالمسيح "فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً" (يو 36:8)وصارت حقوق الإنسان مصانة بالحب وبالنعمة وبالعلاقات السليمة بين الناس وليس بالتحايل على القانون وبالغش وبالمحاباة ليست الحياة بإمكانيات الناس بل الله الذى نطلبه فى الصلاة. ج- والصوم:- الصوم عن الطعام هو إعلان عملى عن أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله" (لو 4:4) لقد كانت هذه هى الخبرة التى تعلمها بنو إسرائيل فى البرية وصاغها قائدهم العظيم موسى فى هذه العبارة بالروح القدس "وتتذكر كل الطريق، التى فيها سار بك الرب إلهك، هذه الأربعين سنة فى القفر لكى يذلك ويجربك، ليعرف ما فى قلبك، أتحفظ وصاياه أم لا؛ فأذلك، وأجاعك، وأطعمك المن الذى لم تكن تعرفه، ولا عرفه أباؤك لكى يعلّمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان" (تث 2:8،3) والسيد المسيح فى تجسده كان يقصد أن يطعم تابعيه بالبركة فى معجزتى إشباع الجموع؛ لكى يقول لهم ليس السر فى الخمسة أرغفة ولا السمكتين ولكن فى اليد التى تقدم هذا القليل سيشبع الناس ويفضل عنهم بالبركة ليست حياتنا من الأكل بل من يد الله، التى تقدم لنا الأكل بشبع وبركة وفيض كثير فالصوم هو عودة إلى الله ينبوع كل الخيرات وكأننى حينما أصوم أتقدم لله بذبيحة جسدى كمثلما فعل إبراهيم مع ابنه الحبيب الوحيد اسحق الذى بسببه قبل المواعيد أتقدم رافعاً سكين الجوع على جسدى الضعيف المنهك مقدماً إياه ذبيحة حب وطاعة وإعلان إيمان أن الله أهم لدىّ من جسدى ومن كل نفسى حينئذ يتكلم معى ملاك الرب "لا تمد يدك إلى الغلام (جسدى)، ولا تفعل به شيئاً، لأنى الآن علمت أنك خائف الله؛ فلم تمسك ابنك وحيدك عنى" (تك 12:22) ويرفع الصائم عينيه - كما فعل إبراهيم - وينظر "وإذا كبش وراءه ممسكاً فى الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم، وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضاً عن ابنه" (تك 13:22) وكبشنا المذبوح عنا وعن جسدنا هو ربنا يسوع المسيح المذبوح على المذبح فى سر الأفخارستيا التى لابد أن ينتهى الصوم بها ليحقق لنا هذا المعنى الجميل لم تكن حياة إبراهيم مرهونة بحياة اسحق بل بالله وعندما قدم إبراهيم اسحق برهن على إيمانه هذا ونحن حياتنا ليست مرهونة بالجسد بل بالله والصوم يبرهن على ذلك وكما أن الله افتدى اسحق بكبش كذلك يفتدينا بدمه وجسده على المذبح وكما أن المذبح لم يميت اسحق بل عظمَّه وصار بالحقيقة بركة وجداً للمسيح بالجسد كذلك لا يميتنا الصوم بل يباركنا ويعظمنا ويجعلنا أهلاً لبيت الله ورعية مع القديسين. 2- العودة إلى الله كنز الخيرات:- تطبيقاً لما علمتّه لنا الكنيسة فى أحد الرفاع تواصل معنا الدرس فى الأحد الأول من الصوم "لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض بل اكنزوا لكم كنوزاً فى السماء" (مت 19:6-20) فالمسيح هو كنزنا الحقيقى الذى لا يفقد ولا يشيخ ولا يخسر والعودة إلى المسيح هى عودة إلى الغنى الحقيقى. أ- فالعين شبعانة:- "سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً" (مت 22:6). ب- القلب شبعان:- "لا يقدر أحد أن يخدم سيدين... لا تقدرون أن تخدموا الله والمال"(مت 24:6). ومن يعبد الله بالحقيقة يستهن بمحبة المال ويدوس كبرياء الغنى. ج- والنفس شبعانة:- "فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل؟ وماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم (النفوس الجائعة والبعيدة عن الله والتى لم تجعل الله محور حياتها بل ما زالت منهوكة - ومهمومة بالعالم وتفاصيله المغرقة فى العطب والهلاك) لأن أباكم السماوى يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت 32:6،33). 3- العودة إلى الله ينبوع النصرة:- وفى الأحد الثانى تصور لنا الكنيسة أيقونة رائعة فيها المسيح منتصر على الشيطان بكل قوته ودائسا على كل اغراءاته لم يكن المسيح محتاجا أن يحارب الشيطان ويهزمه فالشيطان بكل تأكيد مهزوم وساقط تحت قدمى المسيح ولكنه حارب لنا وعنا لكى يرينا الطريق لقد انتصر المسيح فى ثلاث تجارب: 1- الجسد:- "أن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً" (مت 3:4) ومن يصوم بالحق ينتصر على تجربة الجسد سواء كانت الشراهة أم الجنس أم محبة الراحة والرفاهية وميوعة الحياة فمن يمسك بمفتاح الصوم يستطيع أن يستأمن على كنوز الجسد ومواهبه وقواه. 2- المجد الذاتى:- "أن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل" (مت 6:4) ومن يصلى بالحق ينجو من فخ المجد الباطل لأن حياته وتدبيرها سيكونان بالله بواسطة الصلاة وكل خدع وحيل إبليس ستنكشف له ويفضحها كما فعل السيد المسيح على الجبل وفى الصليب. 3- القنية والمال:- "أعطيك هذه جميعها أن خررت وسجدت لى" (مت 9:4) ومن يتصدق بأمواله بفرح وسعادة لا يصير مربوطاً بشهوة الغنى، ولا يستطيع إبليس أن يخترقه ويسيطر عليه لأنه داس بعز على كل مغريات العالم هكذا تأخذنا الكنيسة كأم رؤوم تعلم أولادها وتكشف لهم عن سر أبيهم السماوى وتتدرج بنا فى المعرفة شارحة أساسات الممارسة الروحية (الصوم والصلاة والصدقة) ثم ترينا الكنز الحقيقى المخبوء فى السماء وأخيراً تكشف عن عيوننا لنرى قائدنا وأبانا ظافراً بالشيطان لأنه تسلح بنفس السلاح الذى تطالبنا الكنيسة بأن نتمسك به لننتصر 4- العودة إلى حضن الاب:- وفى الأحد الثالث من الصوم يسرد لنا السيد المسيح مثل الأبن العائد إلى أبيه لعل الأبن الأصغر هو الأمم الذين شردوا بعيداَ عن الله، والأبن الأكبر هو اليهود الذين عاشوا فى كنف الله ولكنهم لم يكونوا بحسب قصده وفكره الأصغر تاه بعيداَ والأكبر تاه داخل البيت الأصغر هو الشاب المشغول بتفاهات العالم وشهواته، حتى إنه رفض الأب السماوى وابتعد عنه والأكبر لا يفضله كثيراً فهو الشاب المتدين بكبرياء وانحراف ،حتى إنه رفض فرحة الأب بعودة الخاطئ ذروة القصة تكمن فى هذه العبارة المقدسة "أقوم وأذهب إلى أبى فقام وجاء إلى أبيه" (لو 18:15،19). الصوم الكبير هو موسم هذه العودة المحببة. عودة الأبن الذى أكل من شهوات الخنازير ولم يعطيه أحد - أى لم يشبع وعودة الابن الذى استكبر أو قل تحجر من كثرة الممارسة الروحية الباردة الآلية دون روح ودون إحساس بالآب السماوى. ماذا سينتظر العائد هناك :- - الآب السماوى يتحنن فليس الأب شرطيا ولا جلاداً بل أب. - الآب السماوى يركض فهو يتوقع أننى متهالك ومتعثر وينتظر منى خطوة واحدة، ليركض هو ويكمل المشوار. - الآب السماوى يقع على عنقه ويقبله فالحضن الإلهى مفتوح لأعتى الخطاة ولأنجس الأشرار حتى يتطهر بقبلات فم المسيح. - الحلة الأولى يستعيد الإنسان بهاء معموديته والاستنارة. - خاتم فى يده الروح القدس يتجدد فينا ويملأنا من مواهبه وثماره. - العجل المسمن ذبيحة الأفخارستيا العظيمة التى بها نتحد بالله وننال الغفران والثبات والحياة الأبدية. - نأكل ونفرح طوبى لمن يأكل فى حضور المسيح وفى كنفه. - الحياة كان ميتا فعاش وكان ضالاً فوجد حقاً بعيد عن الله لا توجد حياة بل وهم وموت ودمار وفى المسيح وحده الحياة. - كل مالى فهو لك أخيراً يعطينا السيد الآب كل ماله فنصير بالحق أغنياء به وبخيراته المقدسة ليتنا نعود إلى حضن الآب فى هذا الموسم العظيم الذى للعودة المقدسة. 5- العودة إلى الينبوع الحى :- "لأن شعبى عمل شرير. تركونى أنا ينبوع المياه الحية؛ لينقروا لأنفسهم آباراً. آباراً مشققة لا تضبط ماء" (أر 13:2) الماء الذى كانت تشرب منه السامرية كان ماء غير مروٍبل كانت تعطش أيضا إلى الشهوات والنجاسات "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا" (يو13:4) وهى مسكينة لأنها عطشانة لم تجد ما يرويها فلجأت، إلى آبار العالم المشققة، لعلها ترتوى ولكن عطشها كان يزيد فى كل مرة "وكان لكِ خمسة أزواج والذى لكِ الآن ليس هو زوجك" (يو18:4) عندما رجعت إلى ينبوع ماء الحياة هناك الارتواء بالحق "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذى يقول لكِ أعطينى لأشرب لطلبتِ أنتِ منه؛ فأعطاكِ ماءً حيا" (يو 10:4) "من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذى أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو14:4) مسكينة هى النفس التى لم تلتق بعد بينبوع ماء الحياة من يستطيع أن يطفئ لهيب ظمأ الناس من يستطيع أن ينجو من هلاك العطش إلى الشهوات الينبوع وحده قادر أن يروى ويشفى ويسعد الإنسان "يا سيد أعطنى هذا الماء لكى لا أعطش ولا آتى إلى هنا لأستقى" (يو 15:4) أعطنى من مياه ينبوعك النقى؛ لكى لا احتاج مرة أخرى إلى قاذورات العالم، ولكى لا آتى هنا مرة أخرى إلى حيث أماكن العثرة والخطية والضياع حقا إن "النفس الشبعانة تدوس العسل وللنفس الجائعة كل مر حلو" (أم 7:27) فأعطنى يا سيدى القدوس أن أرجع إليك؛ لأشبع بك فأدوس على عسل العالم المروأنكر الفجور والشهوات، وأكون لك إلى المنتهى. 6- العودة إلى الله الشافى:- كان المفلوج ملقى على الأرض به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة، ينتظر تحريك الماء حتى يبرأ إنه عاجز عن الحركة لا يستطيع العودة يا للعجب أن الطبيب بنفسه جاء إليه ليشفيه وقال له "أتريد أن تبرأ" (يو6:5) ما هذه العذوبة يا للرقة هل تستأذن منه لكى تشفيه؟‍‍!! يقول يسوعنا الحبيب لقد انتظرته كثيراً (38 سنة) لكى يعود، لكنه تقاعس حتى ضمرت أطرافه، وضاعت منه أى فرصة للعودة كان لابد أن آتى بنفسى لأفتقده ولكن ليس دون رأيه لم يكن مرضه مرضا عاديا بل كان ثمرة خطية "ها أنت قد برأت؛ فلا تخطئ أيضا لئلا يكون لك أشر" (يو14:5). سيدى المحبوب ها أنا مفلوج ولى زمان طويل متكاسل فى فراش المرض والخطية حتى ماتت فىّ كل رغبة فى التوبة وذبلت فىّ كل رغبة للصلاة والعودة إليك فهل لى فى هذا الموسم المبارك أن تفتقدنى بصلاحك وتبرئنى أننى عاجز عن العودة فهل لى أن تأتى إلىّ؟ لقد فشلت معى بركة بيت حسدا بكل أروقتها الخمسة فهل تأتى إلىّ لتشفينى بالكلمة؟ ليس لى ملجأ سواك وليس لى طبيب إلا إياك فدعنى أقبل نعمتك كما قبلها المفلوج فحمل سريره، ونهض ليخدمك ويبشر باسمك فى كل مكان. 7- العودة إلى نور العالم:- كان المولود أعمى يعيش فى الظلام ككل إنسان محروم من نور المسيح جاء إليه النور "مادمت فى العالم؛ فأنا نور العالم" (يو 5:9) "مضى واغتسل وأتى بصيراً" (يو 7:9) ورأى النورلم يكن النور الذى رآه هو الشمس بل نور المسيح كان شاول الطرسوسى يظن انه يرى بنور الناموس، ولم يكن يدرى أن هناك قشور على عينيه كان يحتاج أن يعتمد من حنانيا؛ لتتساقط القشور ويستعيد رؤية نور المسيح سيعيش العالم فى ظلام الخطية والجهل والشهوة والدمار؛ حتى يعود إلى المسيح النور الحقيقى الذى يضئ لكل إنسان إن الصوم الكبير هو موسم استعادة الاستنارة التى أخذناها فى المعمودية إنه موسم ملء المصباح بزيت الصوم والقداس حتى نكون فى زمرة العذارى الحكيمات أصحاب المصابيح الموقدة، والآنية المليئة بالزيت، والمستعدات للقاء العريس السماوى فعريسنا سيفرح باستنارتنا وسيضفى حينئذ علينا من بهاء مجده "استنارت الأرض من بهائه" (رؤ 1:18) طوبى للنفس التى تعود إليه تتأمل فى وجهه "نظروا إليه واستناروا، ووجوههم لم تخجل" (مز5:34) مأساة الإنسان انه قد تلهى عن الله ليتنا فى الصوم نعود إليه فى هدوء، ونجلس تحت قدميه بسكون "بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (إش 15:30). نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة عن كتاب الصوم الكبير عوده الى الله
المزيد
10 مارس 2020

الصوم الكبير والمعمودية

1- المعمودية والصليب والقيامة أن المعمودية المسيحية هى موت ودفن وقيامة مع المسيح؛ فيقول معلمنا بولس الرسول: "نحن الذين متنا عن الخطية. كيف نعيش بعد فيها؟. أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح، اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً فى جدة الحياة؛ لأنه أن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته" (رو 6: 3-5).لذلك فقد كانت أنسب فرصة لمعمودية الموعوظين فى العصور الأولى، هى ليلة عيد القيامة، حيث الموت والقيامة فعلاً مع المسيح.يقول فى ذلك العلامة ترتليانوس: "الفصح هو أكثر الأيام ملاءمة لإقامة المعمودية، ففيه تمت آلام الرب وإليها نعتمد..." (فى المعمودية 19).وما زالت "الزفة" التى نعملها للمعمدين فى الكنيسة، هى نفسها دورة القيامة التى كانوا يشتركون فيها عقب معموديتهم ليلة العيد والكنيسة فى اختيارها لقراءات عيد القيامة فى القطمارس، لم تغفل ارتباط القيامة بالمعمودية؛ ففى فصل الكاثوليكون يورد معلمنا بطرس الرسول مقارنته الشهيرة بين الطوفان والمعمودية: "إذ كان الفلك يبنى، الذى فيه خلص قليلون، أى ثمانى أنفس بالماء، الذى مثاله يخلصنا نحن الآن، أى المعمودية. لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح" (1بط 3: 20-21) وفى فصل البولس يورد معلمنا بولس مقارنة بين بنى القيامة (المعمدين) وبنى الموت "ليس الروحانى أولاً (المولود من الروح بالمعمودية) بل الحيوانى (المولود بالجسد من أبويه)، وبعد ذلك الروحانى... وكما لبسنا صورة الترابى (آدم) سنلبس أيضاً صورة السماوى (المسيح ... فى المعمودية بالعربون، وفى الأبدية بالحقيقة)، فأقول هذا أيها الأخوة: أن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله (المولود حسب الجسد) ولا يرث الفاسد (بدون المعمودية) عدم الفساد (الأبدية)" (1كو 15: 46-50)، لاحظ أن نفس التعبير استخدمه الرب يسوع فى حواره مع نيقوديموس: "الحق الحق أقول لك إن كان أحد، لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله... المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يو 3: 3-6) وحقيقة الأمر أن الكنيسة كانت تبذل جهداً كبيراً فى إعداد الموعوظين للمعمودية، ثم تقدمهم للأب الأسقف ليختبر جدية نواياهم، وصدق إيمانهم.. ثم يسجل أسماءهم فى سجل الموعوظين، الذى يسميه القديس يوحنا ذهبى الفم "السفر السماوى" أو "سفر الحياة" ، ثم يرسم الأب الأسقف على جبهة الموعوظ إشارة الصليب، ويباركه... وكان هذا التسجيل يتم - أيام القديس يوحنا ذهبى الفم - فى بداية الصوم الكبير... ويستمر الموعوظون طيلة الصوم الكبير يتلقون تعاليم الكنيسة، خاصة ما يختص بسر المعمودية، وفعلها فى حياتهم، حتى ينتهى الصوم المقدس بالبصخة فالقيامة، فيتم تعميدهم ليكونوا بالحقيقة قد ماتوا وقاموا مع الرب يسوع المسيح له المجد.والملاحظ أن ترتيب قراءات آحاد الصوم الكبير المقدس قد جاءت بإلهام إلهى تشرح طقس المعمودية، وفعلها فى تغيير وتجديد طبيعة الإنسان وفى تبنيه لله الأب وفى استنارته وفى منحه الحياة الأبدية. 2- ارتباط قراءات أحاد الصوم الكبير بشرح فعل المعمودية:- أ- أحد الرفاع (مت 6: 1-18) :- تعلمنا الكنيسة المقدسة فى أحد الرفاع المنهج المسيحى فى الحياة، ويقوم على (الصدقة - والصلاة - والصوم) وكأنها تهمس فى أذن الموعوظ.. "صديقى.. ستكون معنا - بالمعمودية - وستسلك كما يليق بهذه المعمودية: الصدقة هى الزهد فى المال والقنية.. والصلاة هى جحد الذات وكسر المشيئة... والصوم هو ضبط الجسد"... الكنيسة تضع أمام الموعوظ علامات الطريق، وسر النصرة.. وتميز له ما بين ممارسة المسيحية، والممارسة التى كان يعيش فيها قبل المعمودية سواء كان وثنياً أم يهودياً... فالمسيحية تعرف الخفاء فى الممارسة.. والعلاقة الباطنية بين الابن (بالمعمودية) والآب السماوى الذى يرى فى الخفاء. ب- الأحد الأول (مت 19:6-34) (أحد الكنوز):- فى بداية الطريق... تضع الكنيسة الحافز المناسب أمام الموعوظ لئلا يخور ويتراجع... إن كنا قد علمناه فى أحد الرفاع أن يتخلى عن (المال - الذات - الجسد). فلنضع أمامه الآن المكافأة: أنها الكنز السماوى الذى لا يفسد ولا يسرق ثم تشرح الكنيسة للموعوظ قيمة التمسك بهذا الكنز السماوى... - العين تكون مستنيرة بالبساطة (المعمودية هى سر الاستنارة). - الله سيهتم باحتياجاتى (أبوكم السماوى يقوتها). - نفوز بملكوت السموات (اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره... وهذه كلها تزاد لكم). فالمعمودية تنقل الإنسان من سيرة علمانية إلى سيرة سمائية روحانيةالسيرة العلمانية تقوم على كنوز الأرض وعبودية المال، والعين الشريرة والاهتمامات المفسدة الرديئة فلا نكون مثلهم بل لنا الكنز السماوى، وخدمة المسيح، والعين البسيطة والاهتمامات الأخروية لأننا صرنا أبناء الملكوت، وأبناء النور بالمعمودية. ج- الأحد الثانى (مت 4: 1-11) (أحد التجربة) :- بعد إعداد الموعوظين بوعظهم، والصلاة عليهم (كما بطقس المعمودية)، تتمم الكنيسة لهم طقس جحد الشيطان، وكما انتصر السيد المسيح على الشيطان فى ثلاثة تجارب، كذلك يصرخ الموعوظ فى وجه الشيطان (نحو الغرب) قائلاً "أجحدك.. أجحدك.. أجحدك". أنها نفس النصرة التى فاز بها الرب يسوع لنا على الجبل لقد انتصر الرب يسوع فى تجارب الجسد (الحجارة تصير خبزاً)، والمجد الباطل (اطرح نفسك إلى أسفل)، وتجربة القنية (أعطيك هذه جميعها).. وهى نفس مواطن الضعف التى يحارب بها أبليس كل أولاد الله (الجسد - الذات - القنية)؛ لذلك فسبق لنا أن نتسلح ضد هذه الهجمات بأسلحة (الصوم - الصلاة - الصدقة).. إننا فى سر المعمودية نصرخ مع المسيح (أذهب يا شيطان). فيتركنا مهزوماً... ولكنه "إلى حين" (لو13:4)، لأنه سيعاود حربنا، ولن يتركنا نهائياً إلا عندما نخلع الجسد، ونحتمى فى الفردوس بالحقيقة، حيث تنتهى الحرب ، وتعلن النصرة فى الأبدية السعيدة. د- الأحد الثالث (لو 15: 11-32) (الابن الشاطر):- إن قصة الابن الضال هى شرح رائع لسر المعمودية.. فالمعمودية هى استعادة التبنى لله الآب.. لقد كان الإنسان أصلاً ابناً لله (بالتبنى)، فقد قيل عن آدم أنه "ابن الله" (لو 38:3) ولكن أدم فقد بنوته بسبب ضلالته، وانفصاله عن الله، وعيشه بعيداً بعيش مسرف فى الخطية.. والموعوظ فى توجهه للمعمودية، كأنه يقول مع الابن الضال: "أقوم وأذهب إلى أبى" (لو 18:15) إن الآب السماوى ما زال يحمل لنا مشاعر الأبوة ، وسوف يغدقها علينا فى المعمودية (الحلة الأولى).. فقال الأب لعبيده (الكهنة): "أخرجوا الحلة الأولى والبسوه (المعمودية هى لباس المسيح)" واجعلوا خاتماً فى يده (الميرون ختم الروح القدس)، "وحذاء فى رجليه" (الإنجيل الذى ينير الطريق ويهدى الخطوات): "حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام" (أف15:6)، "وقدموا العجل المسمن، وأذبحوه" (وليمة الافخارستياً التى يشترك فيها الأبناء فقط)، "فنأكل ونفرح" (بالتسبيح الدائم والشركة المقدسة فى الكنيسة) "لأن ابنى هذا كان ميتاً فعاش" (المعمودية موت وقيامة) "وكان ضالاً فوجد" الابن الأكبر هو رمز لليهود، الذين لهم علاقة مع الله منذ زمن بعيد، والابن الأصغر هو رمز للأمم الذين جاءوا متأخرين الابن الأكبر كان يعيش مع والده ولكن ليس بقلبه.. لذلك لم يكن فكره ولا قلبه كأبيه نحو الأخ الأصغر، بل تذمر كما تذمر اليهود عند قبول الأمم فى المعمودية (راجع فى ذلك قصة قبول كرنيليوس فى الإيمان والمعمودية، وكيف خاصم المسيحيون من أصل يهودى - معلمنا بطرس لأنه قبل الأمم، وكيف شرح لهم بطرس الرسول قصة إعلان الله له قبول الأمم (أع 10،11).. ولكن الآب السماوى يطمئن قلوب الموعوظين (الابن الأصغر) "كان ينبغى أن نفرح ونسر لأن أخاك هذا كان ميتاً (بفساد الطبيعة) فعاش (بالمعمودية) وكان ضالاً فوجد". هـ- الأحد الرابع (يو 4: 1-42) (السامرية):- السامرية جاءت لتشرب من ماء غير مرو، فقابلها يسوع وقال لها "لو كنت تعلمين عطية الله (المعمودية)... لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً.... كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، ولكن من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد (لا تعاد معموديته). بل الماء الذى أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء (الروح القدس) ينبع إلى حياة أبدية" جاءت السامرية لتشرب من بئر يعقوب وقلبها متعلق بخمسة أزواج وأخر ليس زوجاً.. فوجدت هناك بئر يسوع (المعمودية) والعريس الأوحد مخلص كل البشرية لقد رفع يسوع ذهنها إلى الحياة بالروح والحق، التى تليق بالمسيحيين؛ ليفطم قلبها من عبادة الحرف التى تليق باليهود والوثنيين... أن المعمودية حد فاصل... و- الأحد الخامس (يو 5: 1-18) (المخلع):- لقد كان هذا الرجل مريضا منذ زمان، رمزاً للبشرية التى تعانى من فساد الطبيعة منذ أدم.. وكان ملقى مطروحا عند البركة (رمزاً للمعمودية) يتوقع تحريك الماء مع باقى البشرية المريضة - "جمهور كثير من المرضى عمى وعرج وعسم لأن ملاكاً (رمزاً للروح القدس) كان ينزل أحياناً فى البركة، ويحرك الماء.. فمن نزل أولاً بعد تحريك الماء (الماء والروح)، كان يبرأ من أى مرض أعتراه (البرء من فساد الطبيعة)" والخمسة أروقة التى كانوا مطروحين فيها دون شفاء، لعلها تشير إلى إمكانيات العهد القديم التى كان - على غناها وغزارتها- عاجزة عن تخليص الإنسان، فأسفار موسى الخمسة، وأنواع الذبائح الخمسة لم تكن كافية لبرء الإنسان.. جاء يسوع ليخلصنا بالمعمودية، ولكنه يسأل الإنسان (أتريد أن تبرأ)؟، كما يسأل الكاهن الموعوظ (هل آمنت)؟ ى- فى الأحد السادس (يو1:9-41) (المولود أعمى):- ومعجزة المولود أعمى هى قصة معمودية بكل تفاصيلها.. فالرجل ولد مشوهاً رمزاً للطبيعة الفاسدة، التى نولد بها من آدم وحواء.. وجاء الرب يسوع ليعيد خلقة الإنسان، ويجددها، لذلك فقد استخدم - بصفته الخالق - عناصر خلق الإنسان الأول نفسها.. (الطين).. وقال أذهب اغتسل فى بركة سلوام (المعمودية).. فمضى واغتسل وأتى بصيراً (سر الاستنارة).. ونتيجة هذه المعمودية انفصل هذا الرجل عن مجمع اليهود وصار فى مجمع المسيح (الكنيسة). ز- الأحد السابع الشعانين :- بعد أن شرحت الكنيسة للموعوظين فعل المعمودية فى حياتهم: التبنى (الابن الضال)، ماء الحياة (السامرية)، البرء من الطبيعة الفاسدة (المخلع)، والاستنارة (المولود أعمى) الآن تقتادهم ليروا المجد المعد لهم فى ملكوت الآب السماوى، سندخل أورشليم فى موكب المسيح، وسنهتف منتصرين حاملين سعف النخل.. وسننتمى إلى مملكة داود الروحية الحقيقية، ولكن هناك صليب سيقابلنا، وآلام لابد أن نجتازها.. وما يشجعنا ويعزينا أن هناك قيامة بعد الصليب.. وهناك المجد بعد الهوان.. وهناك النصرة بعد الحرب. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة عن كتاب الصوم الكبير عوده الى الله
المزيد
03 مارس 2020

قدسوا صوما نادواباعتكاف

هلموا معى يا أصدقائى وأخوتى الأحباء لنبحر معاً عبر هذا النهر العظيم (الصوم الكبير) حاملين معنا زاداً يكفى رحلتنا التى - بلا شك - سنتزود فيها بزاد آخر يكفى لرحلة العمر إلى السماء.دعنا الآن نرى ما هو الزاد اللازم لرحلة الصوم. الصوم يحتاج:- أ- التوبة القلبية : "ارجعوا إلىّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح. ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم. وارجعوا إلى الرب إلهكم؛ لأنه رؤوف رحيم بطئ الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر" (يؤ 12:2،13). إن الصوم الكبير هو موسم التوبة وتجديد العهود... موسم العودة إلى أحضان المسيح نرتمى فيه ونبكى... نبكى على الزمان الردئ الذى مضى "لأن زمان الحياة الذى مضى، يكفينا لنكون قد عملنا إرادة الأمم سالكين فى الدعارة والشهوات وإدمان الخمر، والبطر والمنادمات وعبادة الأوثان المحرمة" (1بط 3:4). "أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم. فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. قد تناهى الليل وتقارب النهار؛ فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور، لنسلك بلياقة كما فى النهار" (رو 11:13-13). آه... لو تحرك قلب الكنيسة نحو التوبة بحس واحد... آه لو تحرك قلبى وسط الجماعة المقدسة للعودة إلى المسيح... إن الكنيسة سبقت وأبرزت لنا نموذج توبة أهل نينوى، لنرى ونعجب كيف وماذا تفعل التوبة الجماعية... وتظل الكنيسة طوال الصوم تبرز لنا نماذج رائعة للتوبة: الابن الضال، السامرية، المخلع، المولود أعمى... وكيف أن لمسة الرب يسوع المسيح شافية للنفس والجسد والروح ومجددة للحواس وباعثة للحياة. ربى يسوع.. سامحنى وأعف عنى وأسندنى لكى لا أخطئ إليك ثانية... دعنى أقبل قدميك وأبلهما بدموعى وحبى... دعنى أرتمى فى حضنك الإلهى كطفل فى حجر أمه... أبكى بفرح العودة... أبكى برجاء النصرة.. أبكى بروح القيامة من سقطاتى الرديئة... سأكون لك بنعمتك... لن يستعبدنى العالم ثانية... لن يسبينى الشيطان مرة أخرى... لن يخدعنى الجسد بأوهامه... لقد ذقت مرارة الخطية واكتشفت وهمها الردئ... كنت أظنها حرية مفرحة وجدتها عبودية قاسية... الآن أدرك بنعمتك أنك وحدك فيك الحرية والفرح والسعادة... وبدونك حياتى مرة وكئيبة... الآن أدرك لماذا يفرح الصائم "متى صمتم فلا تكونوا عابسين" (مت 16:6)... أننى أفرح الآن بعودتى إليك بعد التوهان... الآن أستقر فى حضنك بعد الضياع... الآن نفسى تتوق إلى القداسة بعد أن دنست نفسى وجسدى بأفعالى الذميمة.. الآن يتغير اتجاه حياتى ليكون المسيح هدفى ومحور اهتمامى بل و"لى الحياة هى المسيح" (فى 21:1) بعد أن كان العالم ولقمة العيش، والجسد، والزلات قد استولوا على اغتصاباً؛ فأفقدونى هويتى ومعنى وجودى وسلبوا منى فرحتى، وتركونى ملقى بين حى وميت أنتظر سامرياً صالحاً يضمد جراحاتى. ب- الهدوء والصمت : "لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (أش 15:30) إن إيقاع الحياة الصاخب، وعنف متطلبات المعيشة، وكثرة الحركة والانشغال والهموم، افقدوا الإنسان معناه وإنسانيته وحولوه إلى مجرد ترس فى ماكينة ضخمة يتحرك بتحركها، ويقف بوقوفها إن وقفت... الإنسان اليوم يعيش فى تشتت مرعب يبدد قوى الجسم والنفس والعقل فكم بالحرى قوى الروح... إننا أحوج ما نكون إلى فترات هدوء واعتكاف نعود فيها إلى أنفسنا ونغوص فى أعماقنا بدون تأثير المشتتات الخارجية... إنها رحلة إلى أعماق الإنسان لاكتشاف الهوية وضبط الاتجاهات... دعنا نختزل من برنامجنا اليومى كل ما هو غير ضرورى: الثرثرة والأحاديث الباطلة، والتليفزيون، والمكالمات التليفونية الطويلة دون داع، والزيارات غير الضرورية، والملاهى والمآدب... ألا ترى أنه سيتجمع لدينا وقت كاف للتمتع بالهدوء والاعتكاف فى جلال الصمت وخشوع العبادة... والتأمل والتعمق واكتشاف سطحيتنا وزيف علاقاتنا مع الآخرين... إن كلامنا الثرثار فى طوفان الأحاديث الباطلة قد فقد قوته ومعناه... الصوم بجلاله يعيد إلى الكلمة قدسيتها ووقارها وسلطانها... "إن كان أحد لا يعثر فى الكلام فذاك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً" (يع 2:3)، آه لو نستطيع أن نقتطع من برنامجنا اليومى الصاخب لحظات للهدوء والاعتكاف والتزام الصمت. اسمع الصوت الذى كلم ارسانيوس قديماً: "يا ارسانيوس الزم الهدوء والبعد عن الناس، وأصمت، وأنت تخلص لأن هذه هى عروق عدم الخطية". فإن كان ارسانيوس قد لزم الصمت والبعد عن الناس طول العمر فليس بكثير علينا أن نلزمها لحظات يومياً خاصة فى الصوم.العالم اليوم يحتاج إلى شهادة حية، لا بالوعظ والكلام، بل بقديسين يحملون نوراً وفرحاً وعمقاً، ورزانة ووقاراً، ولهم سر الصمت وقوة الهدوء، كعلامة وبرهان على حضور الله فيهم. ج- العطاء : "طوبى للرحماء على المساكين، فإن الرحمة تحل عليهم، والمسيح يرحمهم فى يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم". "يقولون لماذا صمنا ولم تنظر؟ ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟".. "أمثل هذا يكون صوم أختاره؟... هل تسمى هذا صوماً ويوماً مقبولاً للرب؟ أليس هذا صوماً أختاره: حل قيود الشر. فك عقد النير، وإطلاق المسحوقين أحراراً، وقطع كل نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك" (أش 3:58-7). "لا تنسوا فعل الخير والتوزيع (على الفقراء) لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله" (عب 16:13) لأن "الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هى هذه، إفتقاد اليتامى والأرامل فى ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يع 27:1) والقديس اشعياء سجل لنا ما قاله أبو مقار لرهبان من الإسكندرية "إن من لم يشأ أن يصنع رحمة من فلس واحد فلن يعمل رحمة من ألف دينار"وقال القديس الأنبا موسى القوى "الصدقة بمعرفة تولد التأمل فيما سيكون وترشد إلى المجد ،أما الإنسان القاسى القلب فإنه يدل على انعدامه من أى فضيلة""أعط المحتاجين بسرور ورضى لئلا تخجل بين القديسين وتحرم من أمجادهم" "اجذب المساكين لتخلص بسببهم فى أوان الشدة" إن الرحمة وروح العطاء إنما هما دليل على القلب الزاهد المحب لله... أنه القلب الذى يسعد بالعطاء ويفرح لفرح الآخرين والصوم المقدس فرصة رائعة لتدريب النفس على الزهد فى حطام الدنيا.. والعودة إلى الفلسفة الحقيقية التى بها نكتشف أن مكاسب العالم هى نفاية، وأن الممتلكات هى معوقات وثقل كان من الأجدر بنا أن نستثمرها فى كسب أصدقاء يقبلوننا فى المظال الأبدية (راجع لو9:16) بل والأكثر من هذا سيكون العطاء وسيلة لتقديسنا "بل أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شئ يكون نقياً لكم" (لو 41:11)... وكذلك الصدقة هى طريق للكمال: "إن أردت أن تكون كاملاً؛ فأذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء؛ فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى" (مت 21:19)، إذن فالصوم المقدس فرصة للتعبير العملى عن إيماننا بأنه "ليس بالخبز وحده (ولا بأى ممتلكات للدنيا) يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4:4)، "فإنه متى كان لأحد كثير، فليست حياته من أمواله" (لو15:12). خطورة الإفطار:- المسيحى الحقيقى هو عضو فى جسد المسيح الذى هو الكنيسة... وبرهان عضويته أنه مشارك للكنيسة فى كل ممارساتها... فنحن نصوم - ببساطة - لأن الكنيسة تصوم... لأننا منها ومعها وفيها... والروحانية الأرثوذكسية هى روحانية شركة.. كما كانت الكنيسة فى عصر الرسل تحيا حياة الشركة الكاملة، إذ كان المؤمنون يواظبون معاً على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات... فالذى يحرم نفسه من نعمة شركة الكنيسة يخطئ إلى نفسه ويسئ إلى الكنيسة.. وكأنه باع انتماءه للجسد المقدس (بأكلة عدس).. لذلك تحذر الكنيسة أولادها من كسر الصوم، لئلا يخسروا الكثير. والعجيب أن نفس القانون الذى يمنع الفطر فى الصوم، يمنع أيضاً الصوم فى الفطر (الخماسين والآحاد والأعياد)، ليبرهن أننا لا نقصد الأكل أو عدمه، لكننا نقصد الشركة والحب والعمل المشترك، يجب أن (نكون معاً)، "مجاهدين معاً بنفس واحدة لإيمان الإنجيل" (فى 27:1). نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة عن كتاب الصوم الكبير عوده الى الله
المزيد
25 فبراير 2020

قراءات الصوم الكبير وترابطها

إن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية العميقة في كل شيء، العميقة في طقوسها وقراءاتها، رتبت أن يكون هناك هدف يربط بين قراءات الصوم المقدس في الكنيسة، وهذا يتضح من خلال وجود : 1- موضوع عام للصوم المقدس. 2- موضوعات عامة لأسابيع الصوم. 3- موضوعات عامة لأيام الصوم. 4- موضوعات خاصة لأيام الصوم. 5- وهناك أيضاً موضوعان لقسمي الصوم. 6- وموضوعات للسبوت والآحاد. أولاً: الموضوع العام للصوم المقدس : إن الكنيسة رتبت لنا أن تدور القراءات التي تتلى خلال الصوم المقدس حول موضوع واحد وهو "الجهاد الروحي"، لأنها تعلِّم مع بولس الرسول "لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية" (عب 4:12) وهى تناشد كلاًّ منا أن يجاهد الجهاد الحسن كما كان بولس الرسول يناشد تلميذه تيموثاوس قائلاً وهى تناشد كلاًّ منا أن يجاهد الجهاد الحسن كما كان بولس الرسول يناشد تلميذه تيموثاوس قائلاً: "جاهد جهاد الإيمان الحسن وأمسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت أيضاً واعترفت الاعتراف الحسن أمام شهود كثيرين" (1تى 12:6). ثانياً: الموضوعات العامة لأسابيع الصوم : قسمت الكنيسة الأربعين المقدسة إلى ستة أسابيع يبدأ كل منها يوم الاثنين وينتهي يوم الأحد، وأضافت في أولها أسبوعاً للاستعداد وهو مقدمة للصوم. ثم جعلت جميع القراءات التي تتلى في أيام كل أسبوع من هذه الأسابيع السبعة تدور حول موضوع واحد وهدف واحد يعتبر حلقة من حلقات الموضوع العام للصوم. الأسبوع الأول : تدور قراءاته حول الاستعداد للجهاد، وإذا حذفنا قراءات هذا الأسبوع سوف نجد أنها لن تؤثر على الموضوع العام للصوم لأنه استعداد. الأسبوع الثاني : وموضوع قراءاته هو الجهاد الروحي وطبيعته. الأسبوع الثالث : وتدور قراءاته حول التوبة أو طهارة الجهاد. الأسبوع الرابع : هو أسبوع الإنجيل أو دستور الجهاد. الأسبوع الخامس : أسبوع الإيمان أو هدف الجهاد. الأسبوع السادس : أسبوع المعمودية أو صبغة الجهاد. الأسبوع السابع : أسبوع الخلاص "خلاص الجهاد". ثالثاً: الموضوعات العامة لأيام الصوم : أيام الأسبوع الأول : وقراءات هذا الأسبوع بمثابة الاستعداد لرحلة الجهاد، حيث أن قراءات الأيام السبعة لهذا الأسبوع تسير على الترتيب الآتي : ترك الشر - الالتصاق بالخير - محبة الآخرين - النمو الروحي - الاتكال على الله - السلوك بالكمال - الهداية إلى الملكوت. أيام الأسبوع الثاني : بعد أن أعدت الكنيسة نفوس أولادها للجهاد الروحي على النحو السابق، فهي في هذا الأسبوع تبين من خلال قراءاتها طبيعة الجهاد المطلوب منهم فتتحدث عن: صلاة الجهاد - صدقة الجهاد - أمانة الجهاد - دستور الجهاد - ثبات الجهاد - ضيقات الجهاد - نصرة الجهاد. أيام الأسبوع الثالث : وفى الأسبوع الثالث توضح لنا الكنيسة أن الجهاد لابد أن يكون متسماً بطهارة القلب والفكر عن طريق التوبة الحقيقية من خلال قراءات الأيام السبعة وهى كالتالي: اعتراف التوبة - بر التوبة - تجارب التوبة - دينونة التوبة - أمان التوبة - مغفرة التوبة - قبول التوبة. أيام الأسبوع الرابع : وقراءات هذا الأسبوع تتحدث عن دستور الجهاد؛ الذي هو الكتاب المقدس وهكذا تشير موضوعات هذا الأسبوع على الترتيب التالي إلى : روح الإنجيل - الكرازة بالإنجيل - سلام الإنجيل - إنارة الإنجيل - الإيمان بالإنجيل - العمل بالإنجيل - عزة الإنجيل. أيام الأسبوع الخامس : إن الهدف من الكرازة بالإنجيل هو أن يؤمن به سامعوه، والكنيسة تعالج موضوع الإيمان من خلال قراءات الأسبوع الخامس كما يلى: اتكال الإيمان - خدمة الإيمان - رجاء الإيمان - تحرير الإيمان - قصاص الإيمان - هداية الإيمان - تشديد الإيمان. أيام الأسبوع السادس : إن العضوية في كنيسة المسيح لا تتم لمن يؤمن إلا إذا نال سر المعمودية، وقد رتبت الكنيسة أن توزع أبحاثها فى هذا السر على أيام الأسبوع في ضوء عقيدتها والطقس المتبع في إتمامه، لذلك فالقراءات تدور حول: توبة المعمودية - اعتراف المعمودية - دينونة المعمودية - حياة المعمودية - قيامة المعمودية - خلاص المعمودية - إنارة المعمودية. أيام الأسبوع السابع : إن الخلاص هو غاية الذين يتوبون ويؤمنون بالإنجيل ويعتمدون، وقد رتبت الكنيسة أن تبحث في موضوع الخلاص ممثلا في شخص الرب يسوع من النواحي الآتية: شهود المخلص - الاعتراف بالمخلص - الإيمان بالمخلص - قيامة المخلص - دينونة المخلص - بركة المخلص - فداء المخلص. وعلى ذلك تسير الموضوعات طوال أيام الصوم، ويلاحظ أن هذه القراءات تتألف من فصول العهد القديم والجديد لكل يوم من أيام هذا الصوم. رابعاً: الموضوعات الخاصة لأيام الصوم : إن المتأمل في القراءات الموضحة لكل يوم من أيام الصوم المقدس يرى أنها تتألف من ثلاث مجموعات هي النبوات والأناجيل والرسائل. وهذه المجموعات بينها ارتباط وثيق، وكلها تدور حول موضوع واحد هو الموضوع العام لليوم. خامساً: موضوعا قسمي الصوم : لقد قسمت الكنيسة الصوم إلى قسمين : القسم الأول : يتألف من أسبوع الاستعداد والأسابيع الثلاثة التالية له، وموضوعات هذا القسم كلها تدور حول ما هو مطلوب من هذا الشعب من مظاهر الجهاد الروحي، مثل ترك الشر، وممارسة الصلاة، والصدقة، والتوبة، وإطاعة الإنجيل وما إلى ذلك. والقسم الثاني : ويشمل الأسابيع الثلاثة الأخيرة، والقراءات في هذا القسم تدور كلها حول ثمرة الجهاد، أي مدى استجابة المؤمنين له، كإيمانهم بالإنجيل والتمتع بثمار المعمودية والفوز بالخلاص. سادساً: موضوعات السبوت والآحاد : إن الكنيسة ميزت موضوعات السبوت والآحاد عن أيام الصوم الانقطاعي الخمسة بميزتين، فمن يدقق النظر في نظامهما يلاحظ ذلك: أ- الميزة الأولى : أن موضوعات الأيام الخمسة تنصب على ما يبذله الشعب من جهاد، في حين أن موضوعات السبوت والآحاد تنصب على نعم المخلص المتعددة التي يمنحها لهم جزاء لهذا الجهافإذا تابوا مثلاً يقبل توبتهم مثل الابن الضال. وإذا سمعوا الإنجيل وعملوا به روى نفوسهم كما ارتوت السامرية وإذا آمنوا شدد إيمانهم كما شدد وإذا اعتمدوا أنار بصيرتهم كما استنار المولود أعمى. ب- الميزة الثانية : هي الارتباط الوثيق بين موضوعات السبوت وموضوعات الآحاد، فحلقات الموضوع العام في أي أسبوع تبدأ بيوم الاثنين وتنتهي بيوم الجمعة، لأن هذه الأيام الخمسة مرتبطة ببعضها، قائمة بذاتها، مستقلة عما عداهاثم تستأنف الكنيسة نفس الموضوع يوم السبت، ولكن بحلقة جديدة من الحلقات. فتطالب الشعب بناحية جديدة من الجهاد، حتى إذا قام بها حمل إليه إنجيل الأحد ثواب المخلص له على هذا الجهاد.على سبيل المثال قراءات الأسبوع الثالث تدور حول التوبة، ففي يوم الاثنين الحلقة الأولى منه تدور حول الاعتراف به، يليها تبرير المعترف، ثم تعرضه للتجارب وهكذا.. أما في يوم السبت فإن الكنيسة تحث التائب على المغفرة لغيره، فإذا فعل ذلك قبلت توبته، كما يوضح ذلك إنجيل الأحد.. أي أن إنجيل السبت يمثل جهاد الشعب وإنجيل الأحد يمثل نعمة المخلص له على هذا الجهاد.. وهكذا في كافة الأسابيع.هذه هي موضوعات الصوم كما وضعتها الكنيسة، ولابد أن نلاحظ أن الاهتداء إلى هذه الموضوعات ليس بالأمر الهين، فقد يقتضى ذلك أن نبدأ بقراءة إنجيل القداس ورسالة البولس والنبوة الأولى عدة مرات لمعرفة سر الارتباط بينها، ثم قراءة النبوات واحدة واحدة لمعرفة موضوعها الخاص، وكذلك الحال في بقية الأناجيل والرسائل - ثم البحث في مدى ارتباط قراءات اليوم ببعضها البعض لاستخراج الموضوع العام لقراءات هذا اليوم، ثم الموضوع العام للأسبوع الذي يربط بينها، فإذا انتهينا من الموضوعات العامة للأسابيع توصلنا إلى معرفة الموضوع العام للصوم كله. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
18 فبراير 2020

إحتياجات الصوم الكبير

1- التوبة القلبية:- إن الصوم الكبير هو موسم التوبة وتجديد العهود هو موسم العودة إلى أحضان المسيح نرتمي فيه ونبكي علي الزمان الردئ الذى مضي (1 بط 3:4).وتظل الكنيسة طول الصوم تبرز لنا نماذج رائعة للتوبة: الابن الضال، السامرية، المخلّع، المولود أعمى...إلخ وتوضح أيضاً كيف أن لمسة الرب يسوع شافية للنفس والجسد والروح ومجددة للحواس وباعثة للحياة. 2- الهدوء والصمت:- إن ايقاع الحياة الصاخب وعنف متطلبات المعيشة وكثرة الانشغال والهموم جعلوا الانسان يفقد معناه وانسانيته، وحوّلوه لمجرّد ترس في ماكينة ضخمة يتحرك بتحركها ويقف بوقوفها والانسان اليوم يعيش في تشتت مرعب يبدد قوي الجسم والعقل والنفس فكم بالحري قوي الروح، فنحن في أكثر الاحتياج إلي الهدوء والصمت حتى نغوص ونبحث فى أعماق نفوسنا بعيداً عن تأثير المشتتات الخارجية ونعتبرها رحلة لضبط الاتجاهات ونختزل كل شئ غير ضروري في برنامجنا اليومي مثل: الأحاديث الباطلة، الثرثرة، والمكالمات التليفونية الطويلة. وغيرها، وبذلك نجد وقت للتمتع بالهدوء والصمت وخشوع العبادة والتأمل ومعرفة ضعفاتنا وإيجاد نفوسنا مع الله. 3- العطاء:- " لا تنسوا فعل الخير والتوزيع لأنه بذبائح مثل هذه يُسرّ الله " (عب 16:13). إن الرحمة وروح العطاء إنما هما دليل علي القلب الزاهد المحب لله إنه القلب الذى يسعد بالعطاء يفرح لفرح الآخرين. والعطاء هو وسيلة لتقديسنا وكذلك الصدقة هي طريق الكمال، فالصوم هنا فرصة للتعبير العملي عن إيماننا الحقيقي. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
04 فبراير 2020

التوبة طريق القداسة

عوامل عديدة تشابكت لتفسد الفكر الأرثوذكسى الآبائى من جهة حياتنا مع الله وعلاقتنا به، ولعل أبرز هذه العوامل "النزعة الفردية فى الخلاص" التى يتبناها المنهج البروتستانتى أو كذلك "النسكيات المتطرفة" التى كانيتبناها المنهج الكاثوليكى الغربى، ولعل أهم الموضوعات التى أصابها الغموض والانحراف موضوع "توبتنا"، وأزعم أننى أستطيع تلخيص ما يدور بذهن الشباب من جهة التوبة فى هذه النقاط:- 1- أن التوبة هى رجعة حاسمة عن الخطية يعقبها قداسة السيرة بدون سقطات. 2- أن الرجوع للخطية بعد الاعتراف معناه أن توبتى لم تكن حقيقية وهى غير مقبولة. 3- أن ارتباطى بالمسيح يستلزم قداسة السيرة.. وهذه القداسة تحتاج مجهوداً عنيفاً واستمرارية فى عدم الخطأ. 4- بما أننى - عملياً - لا أستطيع ألا أخطئ، وليس لدى مقدرة على السلوك فى نسكيات عنيفة.. لذلك فـإما. أن: صديقى الشاب.. لعلك توافقنى فى هذا الزعم.. ولكن دعنا الآن نتلمس مفهوم التوبة فى ضمير الكنيسة كما صاغته فى نصوص الليتورجيا (القداس).. لعلنا نخرج منه بتحديدات تنير أمامنا الطريق فيسهل، ولنبحر معاً فى أعماق أنهار القداس الإلهى إذ أن القداس - فى الحقيقة - يحوى منهج توبة متكامل بفكر أرثوذكسى أبائى أصيل.. لأول وهلة سنلحظ أن: أ- أعيش بقلبين أحدهما يليق بالكنيسة ويكون لى صورة التقوى فيها دون قوتها. والأخر يليق بحياتى الخاصة وبالعالم وأوافقه على كل انحرافاته. ب- أو أنه لا فائدة ولنترك الكنيسة لمن يستطيع، أما أنا "فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت". أن: 1- التوبة هى عمل مستمر ومتكرر ومدى الحياة: يبدأ الكاهن القداس بصلاة سرية يرددها أثناء فرش وتجهيز المذبح فيقول "أيها الرب العارف قلب كل أحد، القدوس المستريح فى قديسيه. الذى بلا خطية وحده، القادر على مغفرة الخطايا. أنت يا سيد تعلم أننى غير مستحق لهذه الخدمة المقدسة التى لك، وليس لى وجه أن اقترب وأفتح فمى أمام مجدك المقدس، بل ككثرة رأفتك اغفر لى أنا الخاطئ وامنحنى أن أجد نعمة ورحمة فى هذه الساعة وأرسل لى قوة من العلاء.. الخ". تأمل كيف تنضح هذه الصلاة بالتوبة والانسحاق والشعور بالخزى بسبب كثرة الخطايا.. ومن الذى يقدمها؟ أنه الكاهن المحسوب فى ضمير الكنيسة أنه شفيع فى المذنبين أمام الله.. ثم يستمر الكاهن فى تقديم توبة عميقة منسحقة طوال القداس حتى يختمه بهذه الصلوة قبل التناول: ".. لا تدخلنا فى تجربة، ولا يتسلط علينا كل إثم، لكن نجنا من الأعمال غير النافعة، وأفكارها وحركاتها ومناظرها وملامسها، والمجرب أبطله، واطرده عنا، وانتهر أيضاً حركاته المغروسة فينا، وأقطع عنا الأسباب التى تسوقنا إلى الخطية، ونجنا بقوتك المقدسة.. الخ" أنك تستطيع أن تلمس روح التوبة المتغلغلة ليست فى هذه الصلوة فقط بل فى كل صلوات القداس الإلهى، وكأن القداس قد وضع فقط للتائبين، ما يعنينى هنا أن: 1- استمرار صلوات التوبة طوال القداس إنما يشير إلى ضرورة استمرارية التوبة فى حياتنا. 2- أن يبدأ القداس وينتهى، معناه أن التوبة هى عمل يستمر مدى الحياة، منذ أن أدرك ذاتى وحتى الانتقال إلى السماء. 3- تكرار القداس يومياً بنفس النمط ونفس الصلوات يدل على أن التوبة - فى ضمير الكنيسة - هى عمل متكرر يومياً، فلو كانت التوبة هى مجرد مرحلة يعقبها قداسة بدون سقطات، لصار فى الكنيسة نوعان من القداسات أحدهما للمبتدئين التائبين ويكون مليئاً بعبارات التوبة والانسحاق، والآخر للمتقدمين القديسين (الذين لا يخطئون) ويكون مليئاً بالحب والتسبيح والفرح، ولا مجال فيه للتوبة والانسحاق إننا نتطلع أحياناً إلى يوم نتحرر فيه تماماً من الضعفات والسقطات ونعيش القداسة فى ملئها وبهجتها وعندما يتأخر هذا اليوم نصاب بالإحباط واليأس والفشل.. غير عالمين أنه سيأتى ولكن فى الدهر الآتى.. أما فى هذا الدهر فإننا فى زمان التوبة والنمو لذلك فالكنيسة الملهمة رتبت لنا توبة فى كل يوم حاسبة فى ضميرها إننا ضعفاء ساقطون لأنه "ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران" مرد إنجيل الصوم الكبير. ليست الكنيسة مكاناً للقديسين فقط، ولكنها مستشفى للتائبين أيضاً. إننا ندخلها خطاة فى كل يوم فتبررنا بدم المسيح الذى تستجلبه لنا بالتوبة والاعتراف والحل.. لاحظ هذا الحوار الذى يدور بين الكاهن والشماس والشعب فى نهاية كل صلاة طقسية (خاصة القداس) يقول الشماس : احنوا رؤوسكم للرب (وهى دعوة للتوبة والاعتراف السرى أما المسيح فى حضور الكنيسة كلها) يرد الشعب : أمامك يا رب أى ها نحن أمامك منحنين معترفين بذنوبنا وآثامنا وميولنا الرديئة. يقول الشماس : ننصت بخوف الله (مشيراً إلى قرار خطير سيصدر بعد قليل يجب أن ننصت لنسمع بمخافة). يقول الكاهن : السلام للكل (أى أن هذا القرار الخطير سيحمل سلاماً للكنيسة كلها). يرد الشعب : ولروحك أيضاً. ثم فى هدوء وصمت عميق يحنى كل مصلى كالأسلة رأسه ويقرع صدره ويعترف أمام الله بخطاياه.. والكاهن كذلك يتوب عن نفسه وعن الشعب ثم يقرأ عليهم التحليل. لاحظ أن: توبة + اعتراف + تحليل = غفران وهذا يدفع الشماس لأن يصرخ (خلصت حقاً ومع روحك أيضاً) شاهداً للكاهن والشعب أن خلاصنا قد حضر بسبب الغفران.. فيفرح الشعب ويتهلل ويصرخ بنغم الفرح قائلاً آمين كيرياليصون كيرياليصون كيرياليصون وفى القداس خاصة يكمل الكاهن الحوار قائلاً: القدسات للقديسين (أى هذا الجسد والدم يأخذهما فقط القديسون التائبون الآن) فتصرخ الكنيسة بانكسار ووداعة: واحد هو الآب القدوس، واحد هو الابن القدوس، واحد هو الروح القدس (معترفة بذلك أن واحداً قدوس هو الله وأن كل قداسة فينا هى مجرد انعكاسات لقداسته فى وجوهنا).. وعلى هذا الرجاء وبهذه الثقة نتقدم للتناول من الأسرار المحيية.. ونخرج من الكنيسة مبررين بدم المسيح.. ولكن غير معصومين من الخطأ.. لذلك فنحن مدعوون للعودة للكنيسة مراراً وتكراراً.. ندخل خطاة ونخرج متبررين.. وبتكرار التوبة والعودة للمسيح تضمحل الخطية من أعضائنا ويزداد الاشتياق للمسيح وطهارته.. ولكننا سنظل خطاة وسيظل المسيح (الذى بلا خطية وحده، القادر على مغفرة الخطايا) مهما ترقينا فى الفضيلة والحب والالتصاق بالمسيح فنحن "تراب ورماد".لكن بينما أنا خاطئ متعثر فى خطواتى، وميولى الرديئة تدفعنى للسقوط، أجد الكنيسة تدعونى قديساً. القداسات للقديسين، لأن "أحباء الله مدعوين قديسين" (رؤ 1:7) فكيف يكون ذلك؟ الإجابة هى الركيزة الثانية فى مفاهيم التوبة بالفكر الأرثوذكسى: 2- التوبة هى عمل كل الكنيسة بكل أعضائها: فلا يوجد فى الكنيسة فئتان: خطاة مبتدئون، وقديسون كاملون، بل الكل خطاة قديسون لأن التوبة تجعل الزانى بتولاً، والخاطئ قديساً لا تتخيل - صديقى الشاب - أنك وحدك تخطئ.. أبداً.. كلنا نخطئ وكلنا نحتاج التوبة.. اسمع الأب الكاهن يصلى فى القداس قائلاً: أذكر يا رب ضعفى أنا المسكين، وأغفر لى خطاياى الكثيرة، وحيث كثر الإثم فلتكثر هناك نعمتك؟ ومن أجل خطاياى خاصة، ونجاسات قلبي لا تمنع شعبك من نعمة روحك القدوس. حاللنا وحالل كل شعبك من كل خطية ومن كل لعنة ومن كل جحود ومن كل يمين كاذبة ومن كل ملاقات الهراطقة الوثنيين أنعم علينا يا سيدنا بعقل وقوة وفهم لنهرب إلى التمام من كل أمر ردئ للمضاد.. الخ لو كان الحال أن الحياة الروحية مفصولة إلى مرحلتين: التوبة والقداسة لكان من البديهى أن يكون الكاهن قد أنتهى من مرحلة التوبة؟ ولا حاجة له أن يصلى مثل هذه الصلوات المفعمة بالانكسار والتذلل وليتركها للخطاة المبتدئين. ولكن فكر الكنيسة هو أن التوبة والقداسة صنوان يسيران معاً، فأنا خاطئ لأننى إنسان ضعيف، وأنا قديس لأن المسيح يقدسنى بنعمته "أن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطاينا ويطهرنا من كل إثم" (1يو 1: 8، 9) نحن خطاة (هذا طبع) والمسيح يطهرنا (لأنه أمين وعادل) فلا تظن صديقى أن القداسة بعيدة المنال أو أنك غريب عن القديسين، بل أنت وأنا والأب الكاهن وكل الكنيسة تائبون.. ورجوعنا للخطية لا يلغى انتمائنا للمسيح وبنوتنا له، فالأحرى أن ننتبه سريعاً ونقوم من سقطاتنا بدون يأس.. متمثلين بذلك الراهب الحاذق الذى قال للشيطان "ألست أنت تضرب مرذبة" العبرة بالنهاية "والذى يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص"والأكثر من هذا أنك تسمع الأب الكاهن يطلب عن خطاياه وعن جهالات الشعب "أعط يا رب أن تكون ذبيحتنا مقبولة أمامك عن خطاياى وجهالات شعبك" حاسب خطايا الشعب أنها جهالات خطيته وعندما يتقدم الكاهن ليغسل يديه قبل تقدمة الحمل، وقبل البدء فى القداس لا يكون هدفه فقط نظافة اليدين، وإنما نظافة القلب من الخطية والشهوات، لأنه يصحب الغسيل بالصلاة "تنضح على بزوفاك فأطهر، تغسلنى فأبيض أكثر من الثلج..."لقد جاء المسيح لأجل الخطاة ليدعوهم للتوبة.. والأبرار (فى أعين ذواتهم ليس لهم نصيب فى عمل المسيح وعندما أدركت الكنيسة هذه الحقيقة سلمتنا - أولادها - سر التوبة مدى الحياة لنكون دائماً فى مجال عمل رب المجد.. فإذا كنت خاطئاً فلا تيأس بل أعرف أنك من صميم عمل المسيح لأنه قال: "لم أت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة.. لأنه.. لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى" وإذا اعترضت بأن توبتك ضعيفة وأنك تميل إلى الخطية والسقوط فأعلم أن: 3- الغفران يعتمد على قوة السر وأمانة الله: لذلك قيل عن سر التناول "السر العظيم الذى للخلاص" (صلاة الاستعداد)، "السر العظيم الذى للتقوى" (الرشومات) ويخاطب الكاهن الله قائلاً: "اللهم معطى النعمة، مرسل الخلاص، الذى يفعل كل شئ فى كل أحد".. فثق صديقى، أن الله "رحمته قد ثبتت علينا" (مرد اسباتير)، وأن الله يرفع هناك خطايا الشعب من قبل المحرقات "الجسد والدم" ورائحة البخور "الصلوات" (مرد الأبركسيس).. وكل الكنيسة تصرخ بهذا المرد الرائع "كرحمتك يا رب ولا كخطايانا" ولا نستطيع أن ننسى الإعلان المقدس عن الجسد والدم أنه "يعطى عنا خلاص وغفراناً للخطايا"وهناك حركة طقسية غاية فى الإبداع تطمئنك أن خطاياك قد ألقيت على دم المسيح.. فالكاهن يغطى يديه بلفافتين الأولى على يده اليسرى تمثل الخطايا والضعفات، والثانية على يده اليمنى تمثل بر المسيح (لأنه أخذها من فوق الحمل) وقبلما يرشم الكاهن الشعب بكلمة أجيوس (قدوس) يبدل اللفائف ويضع ما كانت بيده اليسرى على الكأس ويمسك ما كانت على الكأس بيده اليمنى ليرشم بها الشعب، معلناً بذلك أن خطايانا جميعاً قد ألقيت على الدم المقدس وأننا ننال البر بدم المسيح (اللفافة التى على الكأس) راشماً إيانا بكلمة قدوس ليقدسنا حقيقة أن توبتنا ضعيفة ومريضة ولكن لنا رجاء فى الله "الذى يحى الموتى ويدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة" (رؤ 4: 3) وتصرخ مع "أبو الولد" بدموع "أؤمن يا سيد فأعن عدم إيمانى" (مز 9: 24) فلو كانت توبتى عدما، فأومن أنك ستعمل فيها عجباً وتخلصنى بنعمتك لأننى عاجز بجهدى ولكننى لن أيأس من رحمتك لذلك فإن التوبة الأرثوذكسية فيها: 4- ينتفى الإحساس بالإنجاز والبر الذاتى: لأنه ليس بمقدرتى ومهارتى، ولا بإرادتى بل بالكنيسة وبالكاهن وبالسر.. لذلك يتكرر طوال القداس المرد الشهير "كيريليصون - يا رب أرحم" عالمين أننا مهما تقدسنا أو تبررنا فنحن بحاجة شديدة لراحة الرب.. ودائماً تسمع التعبير "نحن عبيدك الخطاة غير المستحقين.."، "نحن الأذلاء غير المستحقين.."، "ضعفى أنا المسكين" بينما نشكر الله فى انكسار أنه جعلنا أهلا الآن أن نقف فى هذا الموضع المقدس..، ولأنه "جعلنا مستحقين" وبروح العشار التائب نصرخ "نسألك يا سيدنا لا تردنا إلى خلف.. لأننا لا نتكل على برنا بل على رحمتك، هذه التى بها أحييت جنسنا.. "صك الحجاب".. وتستطيع أن تستشف هذه الروح المنسحقة طوال صلوات القداس لأن الكنيسة المقدسة قد أدركت بروح الله أن "القلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله" أن التوبة الأرثوذكسية هى عملنا الوحيد المتكرر طوال الحياة واللازم لكل أعضاء الكنيسة، وهى ستجلب لنا غفران خطايانا بدم المسيح ونعمته المجانية اعتماداً على أمانته وحبه لذلك فالتائب المسيحى لا ينتفخ ولا يتفاخر، بل يظل طوال عمره محتاجاً لراحة الله وغفرانه. ربى يسوع الغالى القدوس لن أيأس بعد اليوم، ولن استهتر أيضاً.. لن أتوانى عن القيام عقب السقوط، وكذلك لن أتوانى عن دعوتك لحمايتى من السقوط إكراماً لجسدك واحتراماً لكنيستك.. واثقاً أنه بكثرة غفرانك ستضمحل الخطية من أعضائى، وسأثر فى الفضيلة حتماً وسيجئ اليوم بنعمتك الذى فيه يزداد لهيب حبك فى قلبى أعلى من لهيب الشهوة فى جسدى.. "نفس تنتظر الرب أكثر من المراقبين الصبح" (مز130: 6). نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد
26 نوفمبر 2019

المسيح في سفر التكوين - يوسف الصديق

كان يوسف شخصية رائعة، فيها الكثير من الإشارات والرموز التي ترمز إلى شخص ربنا يسوع المسيح، نستطيع أن نلمح بعض هذه الرموز في الأمور التالية:- (1) الابن والعبد: بالرغم من أن يوسف كان الابن المحبوب لدى أبيه يعقوب "وأما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه" (تك37: 3) إلا أنه اشتغل كعبد عند إخوته "كان يرعى مع إخوته الغنم وهو غلام عند بني بلهة وبني زلفة امرأتي أبيه" (تك37: 2) فهو الابن المُدلل المحبوب، وفي نفس الوقت أطاع أن يكون عبدًا وغلامًا عند إخوته بني الجاريتين، وهو في هذا مشبه بابن الله الذي هو من حيث اللاهوت مساو للآب في الجوهر، وهو الابن الوحيد الذي في حضن أبيه، ومن أجلنا صار عبدًا ليرعى غنم أبيه "الذي إذ كان في صورة الله، لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله لكنه أخلى نفسه، آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب" (في2: 6-8). (2) صنع يعقوب قميصًا ملونًا لابنه الحبيب يوسف وهذا القميص هو رمز للكنيسة التي لبسها المسيح متحدًا لها والألوان المتعددة في القميص ترمز إلى شعوب الأرض الذين يجتمعون في كنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية، لها إيمان واحد كمثلما لها رب واحد ومعمودية واحدة. (3) أحب يعقوب ابنه بينما أبغضه إخوته "ولم يستطيعوا أن يكلموه بسلام" (تك37: 4) وهكذا مثلما أحب الآب الابن بينما أبغضه بني البشر وقاموا عليه وصلبوه بحقد وحسد وبغضة شديدة. (4) أرسل يعقوب يوسف ابنه قائلاً: "اذهب. انظر سلامة إخوتك وسلامة الغنم ورد لي خبرًا" (تك37: 14)، وهذا إشارة إلى أن الآب السماوي قد أرسل ابنه الوحيد الحبيب ليفتقد سلامتنا، ويعود إلى الآب السماوي بالصعود المقدس (ليرد له الخبر). (5) بينما سعى يوسف لمنفعة إخوته وافتقادهم تشاوروا هم ليقتلوه "احتالوا له ليميتوه فقال بعضهم لبعض: هوذا هذا صاحب الأحلام قادم فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول: وحش رديء أكله فنرى ماذا تكون أحلامه" (تك37: 18-20) وهكذا أيضًا بينما جاء المسيح إلينا متجسدًا طالبًا خلاصنا قابله البشر بالبغضة والتهكم والرفض والصلب. (6) "فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه، القميص الملون الذي عليه، وأخذوه وطرحوه في البئر وأما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء" (تك37: 23-24) خلعوا قميصه ونزل إلى البئر بدون قميص كمثلما مات المسيح، فخلع الجسد، ونزل إلى الجحيم بروحه بدون الجسد. (7) أشار يهوذا أخو يوسف على إخوته أن يبيعوه لقافلة التجار الإسماعيليين، وباعوه بعشرين من الفضة (ثمن العبد في عصر يوسف) أما ربنا يسوع المسيح فقد باعه يهوذا أيضًا لكهنة اليهود بثلاثين من الفضة وهو (ثمن العبد في عصر المسيح). (8) "فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيسًا من المعزى وغمسوا القميص في الدم" (تك37: 31) إشارة إلى صبغ الكنيسة بدم المسيح في سر المعمودية. (9) "أما يوسف فأنزل إلى مصر" (تك39: 1) إشارة إلى نزول السيد المسيح من بيت الآب السماوي إلى أرضنا، وكما صار يوسف الابن عبدًا في بيت فوطيفار هكذا صار المسيح الابن الكلمة عبدًا في بيت آدم. (10) كما هرب يوسف من زوجة فوطيفار وترك ثيابه في يديها كذلك خرج المسيح من الموت تاركًا الأكفان في يد القبر لقد كانت زوجة فوطيفار قبرًا من الشهوات النتنة، وانتصر يوسف عليها كمثلما انتصر المسيح على الموت، وخرج منه ظافرًا به في الصليب. (11) خرج يوسف من بيت فوطيفار، ونزل إلى السجن قبل صعوده إلى العرش وهكذا أيضًا خرج السيد المسيح من بيت آدم (الأرض)، ونزل إلى الجحيم من قبل الصليب قبل أن يقوم ويصعد إلى السماء بمجد الآب. (12) تقابل يوسف في السجن مع شخصية (الساقي وخباز الملك)، كان أحدهما مذنبًا والآخر بريئًا وكذلك على الصليب صُلب مع المسيح لصان أحدهما هلك والآخر خلُص وقد تنبأ يوسف للساقي بأنه سيعود إلى خدمة الملك، أما للخباز فقد تنبأ له بهلاكه، وكذلك عندما نزل المسيح إلى الجحيم أخرج البعض منه إلى الفردوس وهم الأبرار، أما الأشرار فقد تركهم في الجحيم بسبب شرورهم وعدم إيمانهم. (13) عندما أرسل فرعون ليأخذ يوسف من السجن "فأسرعوا به من السجن. فحلق وأبدل ثيابه ودخل على فرعون" (تك41: 14) لقد بدّل ثيابه إشارة إلى الجسد الممجد الذي قام به رب المجد السيد المسيح من الأموات، وإشارة أيضًا إلى أنه نزع عنا عار الخطية، وذل سجن الشيطان، وفي حياتنا الروحية يرمز هذا إلى خلع الإنسان العتيق مع أعماله المظلمة وشهواته الرديئة. (14) كما شرح يوسف رموز الأحلام لكل من الساقي والخباز ثم أيضًا لفرعون هكذا كشف لنا السيد المسيح عن أسرار العهد القديم ورموزه "ثم ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" (لو24: 27)، "حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب" (لو24: 45). (15) "فقال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله؟" (تك41: 38).. يشير هذا إلى إيمان الأمم بلاهوت المسيح بينما رفضه اليهود كمثلما فعل إخوة يوسف معه "وخلع فرعون خاتمه من يده وجعله في يد يوسف، وألبسه ثياب بوص. ووضع طوق ذهب في عنقه" (تك41: 42) بالمقارنة بما فعله به إخوته، حينما خلعوا عنه القميص الملون وأهانوه، وهذا يرمز إلى رفض اليهود لمُلك المسيح عليهم بينما قبله الأمم وصاروا مملكته بالحقيقة التي هي الكنيسة. (16) "ودعا فرعون اسم يوسف صفنات فعنيح" (تك41: 45)، وهذا الاسم معناه "مخلص العالم" أو "طعام الحياة" وربنا يسوع المسيح هو مخلص العالم الحقيقي، وهو طعام الحياة وكما خلص يوسف العالم من المجاعة بتوفير القمح لهم كذلك خلصنا ربنا يسوع من الهلاك بأن أعطانا القمح الحقيقي الذي هو جسده ودمه الطاهرين. (17) تزوج يوسف من أسنات بنت فوطي فارع كاهن أون إشارة إلى اقتران كنيسة الأمم بالسيد المسيح وقد تركت عبادة آبائها لتدخل في عبادة الله الحقيقي إله يوسف زوجها كمثلما ترك الأمم عباداتهم الوثنية ليرتبطوا بإله السماء ربنا يسوع المسيح نفسه. (18) جاء إخوة يوسف إليه في مصر وسجدوا له كمثلما آمن الآباء الرسل بالمسيح، وسجدوا له من بعد قيامته المقدسة. (19) بارك يعقوب ابني يوسف ونقل البكورية من منسى إلى أفرايم بعلامة الصليب كذلك انتقلت البكورية من آدم إلى المسيح بالصليب، وصار السيد المسيح "بكرًا بين إخوة كثيرين" (رو8: 29) بدلاً من آدم. نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل