المقالات

26 سبتمبر 2021

دور الكنيسة في الاستعداد للاستشهاد

كان دور الكنيسة الأساسي الذي قامت به أثناء الاضطهادات المُريعة التي صادفتها خلال الثلاثة قرون الأُولى، هو إعداد أبنائها لاجتياز تلك الاضطهادات التي كانت في عهد الأباطرة المُضطهدين:- (1) نيرون سنة 64 م. (2) دوميتيان سنة 81 م. (3) تراجان سنة 106 م. (4) أوريليوس سنة 161 م. (5) ساويرُس سنة 193 م. (6) مكسيميانوس سنة 235 م. (7) ديسيوس سنة 250 م. (8) ڤالريان سنة 257 م. (9) أورليان سنة 274 م. (10) دقلديانوس سنة 303 م. لكنه سالم الكنيسة منذ تَوَلِّيه سنة 284 م. حتى سنة 303 م.ومن إحصائية قام بها بعض المؤرخين للسنوات التي عاشتها الكنيسة تحت الحرمان والاضطهاد، تبيَّن ما يأتي:- القرن الأول سِت سنوات اضطهاد ، مُقابِل 28 سنة تسامُح. القرن الثاني 86 سنة اضطهاد، مُقابِل 14 سنة تسامُح. القرن الثالِث 24 سنة اضطهاد، مُقابِل 76 سنة تسامُح. القرن الرابِع 10 سنوات اضطهاد ، حتى صدور مرسوم ميلان. فالكنيسة عاشت تحت الحرمان والاضطهاد والمُطاردة ابتداءً من عصر نيرون سنة 64 م إلى سنة 313 م، حتى مرسوم ميلان السلامي الذي أصدره قسطنطين الكبير... ومع أنَّ الاضطهادات لم تكن بدرجة واحدة في العُنف، إلاَّ أنَّ الكنيسة من سنة 249 م حتى تملَّك قسطنطين الكبير ذاقت اضطهادات ومُطاردات ومذابِح عظيمة.وكانت الأجيال المُتلاحِقة تُدرِك تمامًا أنها تعيش تحت خطر الاستشهاد الذي ينبغي الاستعداد له... فكان هذا واجب الأساقفة وقادة الكنيسة من إكليروس وعلمانيين.فكانت تُلقِن أولادها إنهم مُجاهدون لأنَّ حياة المُجاهِد تستوجِب التدريب على النُسك والجهاد ويذكُر التاريخ والتقليد الكنسي أنَّ هناك شُهداء لم يكونوا مُستعدين ولا مُدربين لذلك عجزوا عن الشهادة، وكذلك نجد أنَّ القديس كبريانوس الأسقف والشهيد سنة 249 م يُؤكد على حمل سلاح الله.. فصار تدريب الكنيسة الروحي المُستمر هو الاستعداد للموت وتصفية النَّفْس.وتكلَّم أيضًا العلاَّمة ترتليان عن مبدأ الاستعداد بقوله: يجب أن تجعل النفس تألف السجن وتُمارِس الجوع والعطش وتقبل الحرمان من الطعام حتى يمكن للمسيحي أن يدخل السجن، بنفس الكيفية كما لو كان خارجًا منهُ حالًا، فيصير تعذيب العالم لنا ممارسة عادية... فلنمضي للجهاد بكل ثقة دون جزع كاذِب، وليصير الجسد مُدرع بسلاح فيوجد يابسًا. لذلك نقرأ في سيرِة الشهيد يوحنا الهرقلي أنه عاش كيوحنا المعمدان بتولًا، والشهيد أنبا إيسي من صعيد مصر الذي فضَّل البتولية وحذا حذو أُخته تكلة. القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج عن كتاب الاستشهاد في فكر الآباء
المزيد
20 سبتمبر 2021

كيف أعدت الكنيسة أولادها للاستشهاد؟

إنَّ الاستشهاد اختبار تَقَوِي يومي يحيا فيه المؤمن، والكنيسة كجسد المسيح المُتألِم، يلزمها قبول سِمَات المسيح الرأس حتى تكون لها شَرِكة الحُب الحقيقي والوحدة التي بين العريس المُتألم وعروسه، بين الرأس والجسد (الأعضاء).لذلك الكنيسة العروس تُكمِّل نقائِص شدائِد المسيح بالألم (كو 1: 24) فالمسيح هو العريس والرأس وحجر الزاوية ولمَّا كانت الكنيسة أُم جميع المؤمنين، لذلك سلَّمت أولادها صراحة الإيمان، وجعلتهم يستعدون للمعركة الروحية غير واضعين أمامهم سوى مجد الحياة الأبدية وإكليل الاعتراف بالرب، غير مُهتمين بما يُقابلهم من عذابات، لأنها ستكون كتلك التي عبرت وانتهت ولأنَّ الحرب قاسية وشديدة تلك التي تُهدد جنود المسيح، لذلك هيَّأتهم ليشربوا كأس دم المسيح اليومي حتى يُعطيهم إمكانية تقديم دمهم مسفوكًا لأجله، لأنَّ من قال أنه ثابِت فيه ينبغي أن يسلُك كما سَلَكَ ذاك (1يو 2: 6).المسيح عريس الكنيسة ورأسها وأُسقفها هو الذي يُتوِج خُدامه الذين أُعِدَّت أفكارهم وحياتهم للاعتراف والاستشهاد... فهو لا يرغب في دَمِنَا بل يطلُب إيماننا.لهذا حرصت أُمنا البيعة المُقدسة على إعداد أولادها للاستشهاد لا بخوف كالعبيد بل بحُب كما يليق بأبناء أحرار، فيا لها من كنيسة مجيدة ومُطوبة تلك التي صار فيها دم الشُهداء مُمجدًا!! لقد كانت بيضاء قبل استشهاد هؤلاء العِظَام، والآن بعد أن أعدَّتهُم الكنيسة للشهادة فشهدوا، صارت قُرمُزية بدم الشُهداء، ولم يعُد ينقُصها زهور بيضاء ولا زنابِق حمراء. لذلك تُجاهد الكنيسة لتُعِد أولادها بجهاد عظيم غير مُتزعزِع لأجل المجد، فينال أولادها أكاليل بيضاء بجهادِهِم في غير زمن الاستشهاد، وينالون أكاليل قُرمُزية مُخضبَّة بدِماء شهادتِهِم في زمن الاستشهاد، عندئذٍ يكون في السماء لكلٍ منهم زهوره التي يتمجد بها جنود المسيح. القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج عن كتاب الاستشهاد في فكر الآباء
المزيد
13 سبتمبر 2021

موقف المسيحيين في وسط العالم في أيام الاضطهاد

عدم مقاومة الشر:- تلخَّص موقف المسيحيين في عدم المُقاومة ولا حتى ظِل المُقاومة، وبالطبع دون أي مُقاومة مُسلحة.التزم المسيحيون تجاه الاضطهاد المُنظَّم ضدهم بالتطبيق المُباشِر والبسيط لمبدأ ”لا تُقاوموا الشر“ فتركوا أنفسهم بهدوء وتسليم للإبادة وأحنوا رؤوسهم ورِقابِهِم للسيف لا صاغرين بل فَرِحين غالبين الآلام، الأمر الذي أدهش الوثنيين.وعندما أدركتهم الضيقات قبلوا الموت بقلب راضِ وأحنوا رؤوسهم للسيَّاف بلا مُقاومة ولا حتى مُجادلة، وهم شاكرين قابلين الآلام، حتى ارتجف الجنود من شدة إيمانِهِم.تعال لترى معي إستفانوس العظيم رئيس الشمامسة وأول الشهداء ماذا قال لراجميه؟ ”يارب لا تقِم لهم هذه الخطية“.فكما غفر المسيح ربنا ورب الجميع لصالبيه لأنهم لا يعرفون ماذا يفعلون، هكذا فَعَلْ إستفانوس شهيد المسيحية الأول، وهكذا سلك كل شهود وشُهداء المسيح.. شهادِة الحق بوداعة، شهادِة الدم بلا مُقاومة ولا حتى مُجادلة.إنَّ الاضطهاد والآلام هِبة وهدية مُقدمة من الرأس إلى أعضاء جسدهِ حتى تنمو الكنيسة بلا مُقاومة ولا إكراه، بل بالحب والكرازة وبشارِة الفرح. الصلاة:- كانت الصلاة هي حصنهم المنيع سواء الصلاة الفردية أو الصلوات الجماعية (الليتورچيَّة)، لأنها سلامهُم الوحيد، مواظبين على الصلوات مُدركين وِحدتهم الروحية مع رب المجد يسوع وفي ذلك كمال الفرح وكثرِة التعزية فأي فرح يشملنا لأننا شُركاء المسيح ومن أجله نتألم!!.. ”نالني ضيق وحُزن وباسم الرب دعوت“ (مز 116).حتى أنَّ كثير من الشهداء صلُّوا لكي ينالوا عطيِة الشهادة فنالوها، وصلُّوا لكي يهِبهُم الله روح النُّصرة عندئذٍ رأوا ولمسوا عمل الله في شهادتِهِم، واقترنت العبادة بحدوث المُعجزات والعجائِب، بنعمة الرب العاملة فيهم. ازدهار الكِتابات اللاهوتية والروحية:- في عصور الاستشهاد، صاحب الصلوات والعبادة ازدهار الكِتابات اللاهوتية والروحية لأنَّ الآلام والاضطهاد كما قال القديسون هي بمثابِة معصرِة العنب أو فرك الزهور ذات الرائِحة الطِّيِبة فهي تُسفِر عن رؤية روحية ومعرفة إلهية لأعماق حقائِق الإيمان... لذا نجد الآباء المُلتمسين أو المُدافعين Apologists مثل أكليمنضُس السكندري والعلاَّمة أوريجانوس وهيبوليتيس والبابا ديونيسيوس السكندري وخُلفائِهِم وتلاميذِهِم الذين ازدهرت كتاباتِهِم اللاهوتية والدفاعية وكذا رسائِلهم مثل رسائِل كبريانوس وأوريجانوس (الحث على الاستشهاد) والمُدافِع ترتليان (ترياق العقرب Scorpiacum)، ودِفاعات لكتانتيوس ويوستين الشهيد وغيرِهِم من الآباء الذين تركوا لنا تُراثًا حيًا. المحبة:- إنَّ الثبات والاحتمال والوداعة التي أثبتها المُعترفون والشهداء بلا استثناء أمام أعدائِهِم، كانت خبرة المحبة المسيحية الحقيقية لم يثوروا ولم يتمردوا، بل أحبَّ الشهداء أعدائِهِم، وشهدوا بمحبتهم قبل أن يشهدوا بدمائِهِم وصمودِهِم وصبرِهِم ووداعتِهِم، فالتزم الكل بأعمال المحبة وهم في عمق أتون الاضطهاد، ومحبة لكل المُضطهدين والمُقاومين، فغلبوا بمحبتِهِم مُعذبيهم الذين اقتبلوا الإيمان لمَّا رأوا ولمسوا محبة شُهداء المسيحية، الذين حسبوا العالم كله نِفاية من أجل فضل معرفة الله، وحسبوا الشتائِم منفعة لهم، والاضطهادات بركة الحياة وشهادِة الدم أقصر طريق للأبدية.فالاستشهاد حُب مُنسكِب بالروح القدس في قلب الشهيد، حُب لرب المجد يسوع، وحُب للمُضطهدين والمُضايقين، فكثيرون قد تُسفك دمائِهِم وليس لهم نصيب مع الشهداء وكثيرون لم تُسفك دمائِهِم يُشارِكون الشهداء أكاليلهم.إنَّ هناك قُوة جبارة دفعت شُهداءنا لقبول الآلام، تلك هي المحبة التي جعلتهم يتقدمون الصفوف، وهناك من كانت قلوبهم تلتهِب حُبًا نحو الرب، ولم تُتَح لهم فرصة لسفك دمائِهِم.لقد أحبوا فاستحقوا، ولم يفصلهم عن محبة المسيح لا عُلو ولا عُمق ولا خليقة أخرى... فغمرتهم محبِة الفادي ليشهدوا حتى الدم لمحبتهم من أجل الرجاء العتيد. الارتباط السري بين الصلاة وقبول الآلام:- يظُن البعض أنَّ الاستشهاد عمل بطولي مثله في هذا مثل الأعمال البطولية الأخرى في كافة الميادين... لكن الاستشهاد المسيحي يتميز بأنه شَرِكة حقيقية مع آلام رب المجد يسوع المُتألِم... فالصلاة تنتعِش وتزكو رائِحتها في معصرة الاضطهادات إذا كانت بحق شَرِكة في الآلام والعذابات فهل نحن الآن نعيش بنفس الروح الإنجيلية الآبائية والرسولية التي تسلمناها في بدايِة المسيحية؟ هل نعيش ببساطِة الإيمان بقوة الروح وخبرِة المخافة وقبول الألم بشكر وصلاة؟ هذا الاختبار السرِّي اجتازه المسيحيون الأوائِل ببساطة لذلك تمجَّد الله في آلامهم وعذاباتهم وأظهر لهم قُّوته ومجده، حتى أنه كلما كان اضطهادهم شديدًا كلما كان عيدهم بهيجًا، وكان المكان الذي يذوقون فيه أشد العذابات لابد أن يُقيموا فيه أهم الاحتفالات ولقد ميَّز المسيحيين ظاهرتان واضحتان، هما شهوِة الاستشهاد ومحبة البتولية، تلك الروحانية العميقة التي عاشوها والسمو العجيب الذي حققوه باحتقار الجسد فحيث الاستشهاد لابد أن توجد الطهارة، لذلك كانت الحياة الرهبانية هي ظِل الاستشهاد، وجاءت الرهبنة بعد عصر الاستشهاد مباشرةً، وكأنَّ الاستشهاد والشهادة لم تنتهي... بل مستمرة وحتى مجيء ربنا يسوع الثاني ليأخذ كنيسته.وأكَّد الاستشهاد على صِدق الإيمان المسيحي فلو أنه مجرد خُرافات مُصطنعة لِمَا قدَّم هؤلاء الشهداء دماءِهِم رخيصة من أجل محبة الملِك المسيح، هو تألم وهم يتألمون من أجله. الاستعداد للآلام بفرح:- كانت نفسية الشُهداء والمُعترفين فَرِحة وشُجاعة واثقة، تسندهم المعونة الإلهية التي وعد الله بها جميع المُضطهدين من أجل اسمه (لو 21: 21).لقد أحس المُعترفون بشرف تألُّمهم (في 3: 10؛ كو 1: 24) مُتطلعين إلى المجد العظيم الذي ينتظرهم وينتظر جميع الذين يُحبون ظهوره أيضًا.. وقد تعزُّوا من الرؤى العظيمة المُشجعة، والتي جعلتهم يرون أكاليلهم ويتطلعون لميراثهم الأبدي حيث المسكن المُستعِد في المدينة التي لها الأساسات.لقد استعذبوا الألم وسعوا ورائه، فبهروا العالم كله لا في قبولهم الآلام واحتمالهم العذابات المُرَّة، بل بفرحِهِم بها وشكرهم عليها وسعيهم ورائها كعطية، فحوَّلوا السجون إلى كنائِس يُسمع فيها صوت التسبيح... ليُعطينا الرب أن نفرح في الضيق وأن نُسبِّح في الألم، عالمين أننا نتألم لنتمجَّد كثير من الأُمهات كُنَّ يرفُضنَ الاستشهاد، إلاَّ بعد الاطمئنان على استشهاد أبنائِهِنَّ أمام أعيُنهِن خوفًا عليهم من البقاء بين الوثنيين، وكثيرون أرسلوا يُشجعون أقربائِهِم في السجون ويحسدونهم على نعمة الاستشهاد، حقًا إنَّ الآلام صعبة لكن الانشغال بالمسيح الإكليل واللؤلؤة يُعطي للألم لذة وللنَّفْس سلام وثبات لقد عانق الشُهداء الموت في فرح وهدوء وتسليم عجيب أذهل مُضطهديهم، بعد أن أيقنوا حلاوة المجد الأبدي والميراث الذي ينتظرهم.ويُمكننا أن نقول أنَّ كل من تمتَّع بخلاص الله العجيب اتحد بالمُخلِّص المصلوب يُصلب عن العالم، ومن مات عن العالم تمتَّع بالعِشق الإلهي والفرح. القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج عن كتاب الاستشهاد في فكر الآباء
المزيد
30 مارس 2021

حِوَارُ السَّامِرِيَّةِ

كان حوار المسيح مع السامرية اختبارًا لأحضان الله المفتوحة مع كل إنسان؛ اختبار للقاء مع كل أحد مهما كان أصله وجنسه وسيرته؛ اختبار البحث عن الخروف الضال والدرهم المفقود.. في لقاء يتخطىَ القيود والحدود والموانع والأجناس. فقد جاء السيد ليلقي بذرة الإيمان الحي في تربة السامرة التي تقبلت الكلمة بالإيمان لا بالمعجزات خلال لقائه مع السامرية؛ إذ كان لا بُد له أن يجتاز السامرة عطشانًا إلى مائها كعطشه على الصليب من أجل خلاص العالم كله. أتى المسيح بنفسه متجسدًا متخليًا عن مجده الإلهي؛ ليقيم موتى الذنوب والخطايا؛ وليخلص العالم كله؛ وقد تعب من السفر والمشي من أجل التفتيش على كل نفس. واليوم سعى من أجل نفس المرأة السامرية؛ وهو في تدبيره الصالح يُعد لنا ولكل ضال ولكل سامرية ولكل مخلع ولكل مولود أعمى أجمل الاختبارات والبركات والتعزيات. سعى إلى كل من تركوه من أجل شهوات العالم... سعى في طلب الضال وتعب كأب حقيقي مع كل ساقط؛ ليربطه بالأدوية المؤدية إلى الحياة.. تعب وهو مريح التعابىَ. وعطش وهو يُنبوع الماء الحي. وجلس عند البئر وهو نهر الحياة الوحيد.. ترك خدمة أورشليم حيث الهيكل والمجد وكراسي التعليم؛ ليذهب ويفتش ويتعب بحثًا عن النفس البعيدة. وكما أنه استراح على الصليب في وقت الظهيرة وحمل أتعابنا وآثامنا وأعلن عطشه لكل نفس بشرية واجتاز المعصرة وحده.. هكذا مشى وتعب اليوم من أجل نفس واحدة... فرحلته وتعبه وجلوسه هو الجسد الذي أخذه من أجلنا ومن أجل خلاصنا، وطعامه الحقيقي في أن يتمم مشيئة الآب في خلاص النفوس.. فبينما السامرة فرغ ماؤها؛ فرغت قانا من الخمر.. فالأولى أعوزها سر الفرح؛ والثانية أعوزها سر الحياة، ولا فرح ولا حياة من دون خلاصه الثمين.. لم يكن مجيء السامرية عند البئر مجرد مصادفة؛ بل هو تدبير إلهي من أجل خلاص نفسها، إنه تدبير من يصنع الأمور المقضي بها على الأرض، وقد اشتمل هذا التدبير الإلهي تدبير الزمن في وقت الساعة السادسة ليكون وقتًا مقبولاً ووقت خلاص، وفي تدبير المكان ليكون عند البئر حيث ماء يُنبوع الحياة والتقديس والتجديد بالمعمودية.. فلم يكن تدبير الرب لخلاص السامرية سوى صورة لتدبيره الإلهي لخلاص البشرية؛ لأنه في ملء الزمان جاء ابن الإنسان وأخلى نفسه وظهر لنا بالظهور المُحيي... جاء إلى الخطاة وقرع بابهم وصرخ على الصليب أنا عطشان (أعطني لأشرب)؛ إذ أن عطشه لا إلى ماء بل إلى خلاص النفوس... أتى كمحتاج يمد ذراعه طول النهار؛ ليدعونا إلى ملكوت محبته؛ بينما نحن لا نعلم عطيته لنا؛ وأنه ليس ماءًا يروي ظمأ الجسد؛ بل ماءًا حياً لحياة أبدية... عطيته لنا ذبيحة ومائدة رتبها لنا المنّان أمام مضايقينا. عطيته لنا كلمته الحية في بشارة الخلاص المفرحة. عطيته لنا أن نكون أبناء وورثة ورعية مع القديسين. عطيته صارت لنا به لنتخطى كل الصعاب؛ فلا دلو ولا أعماق ولا قصور في الإمكانيات ولا مقاييس تحُول دون بلوغنا تطهير ضميرنا من الأعمال الميتة. لقد بدأ المسيح حديثه مع السامرية (واقف على الباب أقرع) رؤ ٢٠:٣؛ طالبًا إليها أن تعطيه ليشرب (أعطني لأشرب = يا ابني أعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي) أم ٢٦:٢٣.. فإذ بالحديث يتحول بأن تطلب هي إليه أن يعطيها لتشرب. فمسكين هو من يعتقد في جهله أن الرب هو المحتاج إليه.. ومسكين هو من يتعلل بالدلو والبئر ويصنع الحواجز بينه وبين المسيح (لم تكن أنت المحتاج إلى عبوديتي بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك). مسكين هو من يظن أن الرب محتاج إلى خدمته أو إلى دوره أو إلى عشوره وتقدماته.. إنه ملء الملء لا يزيد ولن ينقص.. نحن المحتاجون إلى ماء الحياة لنحيا ولا نعطش. فإن كانت ماديات العالم وأموره تروي ظمأ الإنسان إلى حين؛ إلا أنها لا تروي عطشه العميق إلى الأبد... الله وحده هو الذي يملأ كيان الإنسان؛ فبه نحيا ونوجد ونتحرك؛ وحتى ولو عملنا كل البر من أجل اسمه فنحن عبيد بطّالون. لقد كشف المسيح للسامرية عن نفسه كي تذهب وتدعو زوجها؛ لأنه قبل أن يعطينا ماء الحياة؛ لا بد أن نقر بخطايانا معترفين بها تائبين عنها؛ وعندئذ نرتوي بماء الحياة.. لقد رأى المسيح السامرية أمامه ميتة كلعازر الميت الذي أنتن في القبر؛ وكان لا بد له أن يقيمها من خطاياها ويمنحها ماء الحياة؛ وهو العالِم بكل أسرارها الخفية؛ لكنه لم ينهرها ولم يشهّر بها؛ بل مدح الحسن الذي فيها لأنها حسنًا قالت الصدق... إنه يُخرج من الآكل أُكلاً ومن الجافي حلاوة؛ لم يفضح شرها وزناها؛ لكنه بارك قولاً واحدًا اعتبره صدقًا.. إنه طبيب الرحمة والتحنن الذي لا يخرجنا خارجًا؛ بل يتأنى على كل فتيلة مدخنة وقصبة مرضوضة. إن قولك يا رب محسوب حسابه؛ فقد كلمت السامرية سبع كلمات بميزان العد والتصنيف؛ بلا زيادة ولا نقصان؛ وكلماتك محسوبة ومقننة في سُباعيات: سبع تطويبات في العظة على الجبل، وسبعة توسلات في الصلاة الربانية، وسبع كلمات على الصليب، وسبع رسائل يقولها الروح للكنائس؛ إنها سهام سباعياتك المحكمة الوزن والعد؛ فإسمح أن نسمع وننصت بحكمة لندرك ما أدركتنا لأجله ونشرب ماء تقديسك الحي الذي للحياة الأبدية؛ ماؤك الجاري كاليُنبوع؛ تمنحه لنا بسخاء أكثر مما نطلب أو نفتكر؛ لأنه فوق كل شيء وأنت الذي تسند المُعيَ بكلمة؛ وتمنحنا ماء التنقية والتطهير والفهم والراحة؛ وتسقينا من ماء الدسم والنعمة وفطنة الحكمة؛ وتصيّر الساقية نهرًا؛ والنهر بحرًا وغمرًا.. فما السامرية إلا أنا وأنت؛ وقد سعيت إلينا يا مسيحنا... تعبت وعطشت نحو الساعة السادسة من النهار لأجلنا. فهل نعلم الآن ما هي عطيتك لنا؟! وهل تيقنّا عن من هو الذي يكلمنا ويتحدث إلينا؟! وهل عرفنا الذي استعلن نفسه لنا كمخلص وفادٍ؛ وفتح عيوننا لنرى احتياجنا الحتمي له؛ لا كسيد ولا كنبي؛ بل كرئيس خلاصنا؟؟!! هل شربنا ماءه الفياض الحي المجاني والمُروي؟؟!! إنه اليوم قد صار لنا يُنبوعًا نشرب منه فلا نعطش إلى الأبد؛ وهو يوردنا إليه لكي تجري من بطوننا أنهار ماء حي؛ فتملأ الأواني والينابيع وتفيض بجداول النعم الحسنة؛ حيث ينابيع الخلاص والنهر الصافي ومياه الفرح؛ محسوبين مع الساجدين الحقيقيين لآلامه بالروح والحق؛ لأن الذي يكلمنا هو... وقد قال لنا كل ما فعلنا.. فلنذهب إذن لنبشر به ونخبر بكم صنع بنا ورحمنا. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
25 مارس 2021

الصوم عقيديًا

هبت على الكنيسة رياح تعاليم غريبة ولكن المسيح الذي اقتنى كنيسته بالدم الكريم قال للريح "اسكت إنكم. فسكت الريح وصار هدوء عظيم" (مر 4: 39)، ومازال المبتدعون والهراطقة والطوائف التي ارتدت عن الإيمان المسلم لنا مرة بالإنجيل (مت 24: 11 وتسا 2: 3).. ينكرون الصوم غير محتملين التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين مستحكمة مسامعهم مقاومين الحق الإلهي الكتابي، يجب علينا أن نصحو لهم نعرض عنهم لأنهم إخوة كذبة يندسون بيننا لخداعنا (غلا 2: 4) مستمسكين بالتعاليم التي تعلمناها (2 تسا 2: 2، 2 تيمو 4: 3) ولكي نحفظ وديعة الإيمان التي تسلمناها، من أجل خلاص أنفسنا وخلاص الذين نخدمهم وخصوصا في المناطق الشعبية النى نخدمها والتي تنتشر فيها هذه الأفكار المسمومة، لابد لنا أن نرجع إلى كلمة "كيريجما" الكتاب المقدس لأن كنيستنا كنيسة إنجيلية، وجميع عقائدها تستمد أصالتها ونقاوتها من الإنجيل، إنجيل خلاصنا الذي به نقاوم ونغلب المعاندين (أف 1: 13). * عقيدة الصوم عقيدة إنجيلية * أصوام جماعية * الأنبياء والرسل صاموا (الصوم في العهدين) * عقيدة الصوم عقيدة إنجيلية الجنس الشرير من الشياطين لا يخرج إلا بالصوم والصلاة (مت 17: 21). صوم الأربعين صوم كنسي رئيسي رسمه وصامه السيد المسيح (مت 4: 2). ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائيين فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين (مت 6: 16). الأصل في الصوم هو الانقطاع وذلك في معجزة إشباع الأربعة آلاف (مت 15: 32). لكن ستأتي ساعة أيام يرفع العريس عنهم حينئذ يصومون (مت 9: 16). الصوم سيرة ملائكية (مر 1: 2). وإن صرفتهم إلى بيوتهم صائمين يخورون في الطريق (مر 8: 3). الصوم موضوع من قبل رب المجد يسوع (مر 2: 20). الصوم في الكنيسة الأولى (أع 13: 3). الصوم والبركات الروحية (أع 9: 9). وفى الصوم نظهر كخدام لله (1كو 6: 5). ويتذرع البعض في إنكارهم للصوم بقول بولس الرسول:- "إنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان.. آمرين أن يمتنع عن أطعمة خلقها الله".وفى الواقع هذا لا يشير إطلاقًا إلى بطلان الصوم بل يشير إلى بدع نادى بها بعض الهراطقة تدعى نجاسة بعض الأطعمة وتحريم الزواج.. مانعين عن بعض الأطعمة، ألا أنها ليست محرمة أو نجسة، بل القصد من الامتناع عنها قمع الجسد وإذلاله وترويضه وإخضاعه للروح والسيطرة عليه بالإمساك عن بعض الأطعمة (1كو 9: 27). * أصوام جماعية ونجد أن الشعب صام كله في أيام الملكة إستير (إس 4: 3)، وصام الشعب بنداء عزرا الكاهن (عز 8: 21)،وكذلك في أيام نحميا (نح 9: 1)، وصام الشعب أيام يهوشافاط (2 أي 20: 3)، وصام الشعب أيام يهوياقيم بن يوشيا (أر 36: 9). وكذا أيام يوئيل النبي (3: 5)، وأيام يونان النبي (يون 3). * الأنبياء والرسل صاموا (الصوم في العهدين) صام موسى النبي (خر 40: 28)، وإيليا النبي (1 مل 19: 8)، وداود النبي (مز 35: 13 & مز 69: 10 & مز 109: 24 & 2 صم 12: 16). وصام دانيال النبي (دا 9: 3)، وصام حزقيال النبي أيضا (حز 4: 9). وصام نحميا النبي (نح 1: 3)، وكذا عزرا الكاتب والكاهن (عز 8: 21). وعن صوم بطرس الرسول (أع 10: 9). الصوم فعل روحاني وجهاد ممدوح (1كو 9: 27). صوم بولس الرسول (2كو 11: 27). وأوصى الرب الإله أدم قائلا من جميع شجر الجنة تأكل أكلًا، وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها (تك 2: 16). وكان موسى هناك عند الرب أربعين نهارا وأربعين ليلة لم يأكل خبزًا ولم يشرب ماء (خر 34: 28). وأخذوا عظامهم ودفنوها تحت الأثلة في يابيش وصاموا سبعة أيام (1 صم 31: 13). فسأل داود الله من أجل الصبي وصام داود صوما وبات مضطجعًا على الأرض (2صم 12: 16). ونادوا يصوم واجلسوا نابوت في رأس الشعب (1 مل 21: 9). وناديت هناك بصوم على نهر أهوا لكي نتذلل أمام إلهنا لنطلب أمام إلهنا لنطلب منه طريقا مستقيمة (عز 8: 21). اجتمع بنو إسرائيل بالصوم وعليهم مسوح وتراب (نح 9: 1). كانت مناحة عظيمة عند اليهود وصوم وبكاء ونحيب (أس 4: 3). أذللت بالصوم نفسي (مز 35: 13). وأبكيت بصوم نفسي فصار ذلك عارًا على (مز 69: 10). ركبتاي ارتعشتا من الصوم ولحمى هزل عن سمن (مز 109: 24). أليس هذا صوما اختاره حل قيود الشر (أش 58: 3-7). في بيت الرب في يوم الصوم (أر 36: 6). فوجهت وجهي إلى الله السيد طالبا بالصلوة والتضرعات والمسح والرماد (دا 10: 3). هكذا قال رب الجنود أن صوم الشعر الرابع والخامس والسابع والعاشر يكون لبيت يهوذا ابتهاجًا وفرحًا وأعيادًا طيبة فأحبوا الحق والسلام (زك 8: 18). وحنة النبية (لو 2: 27)، وبطرس الرسول (2كو 11: 27 & 2كو 6: 5 & أع 14: 23)، وكرنيليوس (أع 10: 30) كلهم صاموا. ورب المجد يسوع نفسه صام عنا أربعين يومًا بسر لا ينطق به وأوصى بالصوم (حينما يرفع عنهم العريس حينئذ يصومون) (مت 9: 10). القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية عن كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
المزيد
23 مارس 2021

رُجُوعٌ إلىَ بَيْتِ الآبِ

تضع الكنيسة إنجيل الابن الضال ضمن عبادة الصوم الكبير؛ لأن الصوم دعوة ومنهج للاقتداء بالمسيح مخلصنا كي نتبعه ونأخذ حياته لنا، حتى ننجو ونظفر ونُخرس خصمنا بالصوم والصلاة... لذلك كان تدبير الصوم قانونًا جماعيًا لكل أعضاء جسد الكنيسة... مثلما الرأس. ففِعل الصوم فعل إلهي ومُلزم في الاقتداء به، نتعلمه من السيد الرب كباكورة وكسابق من أجلنا، لأنه صار مثلنا لكي نصير مثله، نسير وراءه ونكون له تلاميذ مؤمنين بالأعمال التي عملها؛ نعملها من أجل اسمه ونثبت معه في تجاربه كي يُثبِّت هو لنا ملكوتًا؛ فنسير مسيرة صومنا كاملة؛ ولا نقف عند مظهر الصوم؛ بل نعود إلى حياة الفردوس. لقد خُلقنا لكي نحيا في الفردوس؛ بيت الآب؛ ولكي يكون لنا شركة شخصية حقيقية معه؛ لأنه أعطانا نعمة لأجل أن نعيش في رتبة ودالة البنين، إلا أننا بسقوطنا وابتعادنا انتقلنا من الفضيلة أصلنا الأول؛ وانحدرنا إلى الخطية والنفي للكورة البعيدة... الخطية هي الأحدث؛ هي العصيان والابتعاد والمشيئة الذاتية؛ هي الخطية الجدّية؛ بل وكل خطية؛ تؤدي بنا إلى فقدان شركة الاتحاد بالله. فالابتعاد عن الله هو الموت؛ وبعيدًا عن الله نكون أمواتًا بالذنوب والخطايا، حياتنا تافهة مُشرَّدة عارية من النعمة وفاقدة لنموذج جمالها الأصلي، تتمرغ من الشياطين حيث الخنازير والروث والخرنوب... مسجونة في سجن الفناء والفساد. لكن رجوعنا إلى الكنيسة؛ فردوسنا وبيتنا الروحي يزرع فينا قمح التعقل وكرمة الخلاص بعد القحط والحرمان. لقد عاد الابن الضال بعد أن ترك عنفه وعناده واعتداده... عاد بعد أن تطاول على أبيه وطالبه بالميراث؛ بينما هو بعد حي. عاد بعد أن بدد وزناته وطاقاته... غير أمين فيما في يديه من نِعم ومواهب؛ لكنه رجع بالتوبة إلى الأحضان الأبوية؛ ليظهر لابسًا الحُلة الجديدة وخاتم البنوّة؛ متمتعًا بالوليمة المجانية في بيت أبيه؛ وبالصورة الأولى الملوكية التي طمستها الأهواء والخطايا وطريقة عيش الكورة البعيدة... إنه ليس بالقليل؛ لأنه ابن ووارث لنور النعمة الدائمة؛ لذلك قبله أبوه وفتش عليه وعانقه وحمله إلى كنيسته؛ التي هي بيته ومستشفاه؛ ليشفيه بمراهم وأدوية الخلاص... يحمله على منكبيه التي هي ذراعا صليبه؛ حيث وُضعت خطايانا على الخشبة المُحيية؛ ففرحت الملائكة والطغمات بخلاصنا... رفعنا ليس من تراب الأرض؛ بل من تحت الأرض؛ من أسافل الجحيم والانحطاط؛ ليردنا إلى بهجة خلاصه مع بقية شعبه؛ لأننا موضع عنايته؛ منتمين إليه وهو الذي يُعيدنا إلى شركته الأبوية برجاء حي لا ينقطع. عاد الابن الضال بعد أن خرج من بيت أبيه؛ حاسبًا أن حريته في إرادته المنحرفة التي أوصلته إلى الجوع الكياني وعبودية المذلة، وبعد أن بدد حياته ووزناته بعيش مُسرف؛ واستغلها في الشر وفي معاشرة طريق الأشرار... بدد كرامته الروحية كإبن؛ ولازم الأُجَراء والغرباء؛ وكان معهم تحت نير؛ جاحدًا نعمة البنوة المجانية؛ تاركًا بيت الآب... وهكذا كل من يبتعد عن الكنيسة يبدد ميراثه؛ إذ لا خلاص لأحد خارجها؛ وهي البيت والميناء والحظيرة والمستشفى والفُلك الحقيقي؛ مَن يبقى خارجها هو خارج مُعسكر المسيح. عندما يسافر كل ابن ضال إلى الكورة البعيدة؛ إنما يترك بغباوة الحياة السماوية؛ يهرب من الله ويتركه منفصلاً عن مشيئته؛ متكلاً على ذاته؛ متغربًا عن إخوته؛ رعية وأهل بيت الله؛ حيث الفراغ والخواء والاكتئاب ومرارة الحسرة؛ حيث مجاعة الأعمال الصالحة والسلام والمسرة التي من السموات... والابتعاد عن النور والحق والماء والخبز والحياة وكنوز الحكمة والعلم والخيرات السماوية... فهناك تكون شهوات أطعمة الخنازير والخرنوب مع أولئك الذين آلهتهم بطونهم. لكننا عندما نحاكم أنفسنا ونرجع إليها ذلك لأننا تركناها؛ لذا نرجع إليها؛ نرجع إلى عقولنا؛ بعيدًا عن التمزق والذهن المرفوض؛ نلوم أنفسنا ونراجعها؛ فنرجع إلى حالتنا الأولى التي سقطنا منها؛ نعود من الهلاك إلى الوجود ومن المنفىَ والاغتراب إلى المسكن... من الحرمان إلى الوفرة؛ من الخِنزيرية والشهوانية إلى القداسة والكمال. من اليُتم والموت إلى الأبوة والحياة. نرجع إلى أنفسنا مدركين الشرور التي نرتكبها؛ ونبكتها على خطاياها؛ ونقف على حقيقة ضعفنا وذلنا ومسكنتنا؛ التي أسقطتنا من رتبتنا إلى أحطّ الدرجات؛ وعندئذٍ نتطلّع إلى غنىَ ومجد وخلاص أبينا السماوي؛ واثقين أنه يهبنا البركات ويقبلنا لا كعبيد وأجراء؛ بل كأبناء وورثة؛ حتى ولو رجعنا في الهزيع الأخير مع أصحاب الساعة الحادية عشرة... يدفع لنا ذات الأجر؛ ويهب لنا ذات الحياة؛ ولا يشاء هلاكنا جوعًا وعوزًا ومهانة... لكنه يُعيدنا من المنافي ويُدخلنا إلى منازله الكثيرة؛ ما دُمنا قد قمنا لنرجع إليه (أقوم وأرجع إلى أبي). فمشاركتنا وتجاوبنا في المسيرة يهبنا القيام من سقطتنا ويُدخلنا إلى سر معرفته من قوة إلى قوة ومن مجد وراء مجد؛ ومن نعمة فوق نعمة؛ لأن الغمر ينادي غمرًا؛ معترفين بخطايانا "يا أبي أخطأتُ إلى السماء وقدامك ولستُ مستحقًا بعد أن أُدعىَ لك ابنًا؛ اجعلني كأحد أجرائك" (لو ١٩:١٨)؛ لأن كل من يتوب ويعترف هكذا يُحسب مستحقًا لأكثر مما يطلب.. ويقبله الآب لا كأجير ولا كغريب؛ بل كإبن يُعيده إلى الحياة كما من الموت؛ ويحسبه أهلاً للوليمة وللثوب السابق النفيس... بدلاً من الفساد يلبس ثوب عدم الفساد؛ وبدل الجوع يُطعمه العجل المسمَّن؛ وبدل السفر البعيد يُسكنه مواضع الراحة ويترقب عودته ويكسي عُريه؛ ويزين قُبحه بخاتم المجد. إن احتياجنا للتوبة والخلاص تقابلها محبة الآب السماوي؛ الذي غلبته محبته وتحننه؛ لأنها طبيعته... أبوته لا تقهرنا ولا تُلزمنا بالرجوع؛ لكنها تقبلنا متى أردنا ومتى رجعنا... يرانا ويركض نحونا مسرعًا... يقبلنا ما دمنا نُقبل إليه تائبين ومعترفين بزلاتنا. لا يرفضنا ولا يوبخنا ولا يحسبنا كأجراء؛ بل يكرمنا كأبناء ويعانقنا ويُقيمنا في بيته ويفك نير خطايانا ويمنحنا عطاياه الأبوية: الحُلة الأولى؛ وخاتم اليد؛ وحذاء الأرجل؛ والعجل المسمَّن في وليمة دسمة مُحاطة بالملائكة وفرح السمائيين. فبالرغم من أننا عندما ضللنا لم يعُد لنا أي أحقية شرعية ولا أي نصيب عند أبينا بعد أن تركناه وانفصلنا عنه بجفاء وجفاف؛ وبعد أن جرّدنا أنفسنا من كل مشروعية؛ وبعد أن بذرنا كل ما يخصنا؛ واحتقرنا بنوّتنا لله؛ وشوهنا صورة واسم وكرامة البنوة؛ إلا أنه يقبلنا ولا يتركنا نهلك جوعًا؛ حالما نأتي إليه وندخل إلى وليمة مصالحته في سفينة النجاة. هناك نخلع الرداء المُميت وفساد الطين لنلبس الحُلة التي أمر الآب أن نلبسها؛ تلك الحلة الروحية الأصلية؛ التي هي لُباس العُرس المصنوعة من نار الروح القدس والمنسوجة من الماء التطهيرية؛ فنتزين ونُولد من جديد؛ من رحم الكنيسة؛ وكاننا نأخذ حياة من أم بيولوچية؛ بعد أن تركنا ظلمة الكآبة المثلثة التي لليأس والجهل العقيم... ونقتني خاتم عُربون الشركة والعهد الروحي والتبنّي... ونجعل الحذاء في أرجلنا كقوة؛ حتى لا يجدنا الشرير حُفاة فيضربنا بسهامه؛ بل ندوس عليه تحت الأقدام؛ حاذين أرجلنا باستعداد إنجيل السلام؛ ثم نتقدم إلى الوليمة المسمَّنة لنأكل ونفرح بدواء وقُوت الخلود؛ فتمتلئ أفواهنا فرحًا من قبل تناولنا من الأسرار غير المائتة؛ بانضمامنا إلى الجسد الإلهي وشركة الملائكة في تسبيح مُفرح مقترن بالحياة المقدسة التي فيها تسبق حياتنا أفواهنا؛ بتكميلنا للشركة مع الثالوث القدوس؛ الذي يعيد تشكيلنا لنسترجع جمال بنوتنا الأصلي؛ وشبهنا الإلهي؛ ويختم فينا حضوره الفائق (صورة السمائي)؛ وبكل ما أعدده وأنعم به علينا نحن الأطفال الصغار الذين لكنيسته المقدسة. لقد نقش أبونا السماوي أسماءنا على كف يده؛ وجعل لكل واحد منا مكانًا محفوظًا عنده؛ يسعى وراءنا كراعٍ يرعىَ قطيعه؛ وبذراعه يجمع حملانه؛ وفي حضنه يحملنا ويقود المرضعات... يفتشنا عناية ويودعنا الحظيرة؛ يحملنا على كتفيه بصليبه؛ حتى يسهل علينا وعورة الطريق... صانعًا لنا وليمة فاخرة مقدمًا فيها نفسه وعطاياه؛ لنشبع ونفرح؛ فرجوعنا وتوبتنا هو عيد؛ وهو فرحة للسماء والأرض؛ ولولا صليبك يا ربنا؛ ما صار لنا عودة وقبول وحياة من بعد موت (كان ميتًا فعاش)... تركض وراءنا طافرًا على الجبال قافزًا على التلال... تتطلع من وراء الكوى وقد امتلأ رأسك من الطل ومن ندى الليل؛ وعند رجوعنا إليك تترك لنا ما علينا؛ بعد أن بددنا كل شيء؛ وتقبلنا بعد أن أدرنا لك ظهورنا؛ وتعيدنا إلى رتبتنا ومركزنا الأول بمقتضى رحمتك يا محب البشر الصالح. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
16 مارس 2021

حِوَارٌ عَلَىَ جَبَلِ التَّجْرُبَة

كم من مرة جعتُ وكان جسدي يريد أن يأكل؛ لكنني امتنعتُ عن تناول الطعام كي أستحق الطوبىَ بالجلوس على مائدة السمائن الروحية... عطش جسدي الذي جُبل من طين الأرض وترابها، ورغبتُ أن أشرب الماء؛ لكنني صمتُ حتى أرتوي من ندى النعمة والرحمة... ناظرًا إلى صومك عني ولأجلي لأنك لم تكن محتاجًا لأن تصوم، فقلتُ كم أنا المحتاج للصوم حتى تتصور أنت فيَّ وتشكِّلني على شكلك الخاص... عندما استهوتني الشهوة والترف؛ تطلعتُ إلى مرارة الخل التي تجرعتَها لأجلي يا مخلصي؛ فأقمتُ من نفسي لك كنيسة محسوسة؛ أقدم لك فيها العبادة العقلية الناطقة بأتعاب جسمي؛ بخورًا وعطورًا لتشتمّها رائحة رضىً ومسرة عندك. عند رؤيتي لك صائمًا؛ أتدرب لأجعل ذهني وإرادتي مذبحًا لك؛ لعلني يا مخلصي أقدم ذاتي قربانًا وصعيدة لك؛ كي تكملها وتقبلها... نسيتُ الجوع ومرارة الحلق لمّا رأيتُك مصلوبًا بين اللصين تتذوق مرارة الأفسنتين لأجل خلاصي... نسيتُ ضيق العطش وكأنه لم يكن؛ لأنك أنت تُرويني حلاوة من نبعك ومَعِين جنبك المفتوح الذي لا ينضب... لن أُعيرَ للأطعمة اهتمامًا؛ بعد أن تطلعتُ إليك وأنت معلقًا على عود الصليب؛ تمتص الخل من الأسفنجة. لذا صمتُ لأتشبه بفعل صومك؛ كي أميت بالروح أعمال الجسد وشغبه... أذللتُ بالصوم نفسي (مز ١٣:٣٥) لأنك من أجلي احتملت المحقرة ومذلة الجلد والبصاق. سأرجع إليك بالصوم من كل قلبي لأنك رؤوف ورحيم. أعمل بإسمك ولحسابك وبإمكانياتك؛ فأكتشف الكنز وأنتصر في التجربة؛ وأرجع إليك مع الابن الشاطر؛ وأشرب من نبعك الحي مع السامرية، وأقوم مع المخلع وأستنير مع المولود أعمى ومع كل شعبك، مقدمين لك ذبائح حية بخدمة محبة حارقة مبتعدة عن كل مَناهيك (مناهي الله)... تقدمة عاقلة لك بنار السجود والتوبة؛ وذبيحة متحدة بذبيحتك التي بها حملتَ العقاب الذي كان علينا. خاضعًا للتأديبات التي نستحقها؛ متنازلاً لما نحن عليه؛ منحنيًا لتحمل عنا اللعنة وترفعنا إلى مركزك المبارك... بإقامتك لنفسك أمامنا نموذجًا لنا؛ مجهزًا إيانا بسلاحك الكامل من أجل نصرة مشيئتك؛ التي تجعلنا نصير من أجلك كما صرتَ أنت من أجلنا. صرتَ مثالاً عمليًا لنا في كل شيء؛ جعتَ وأنت الخبز النازل المعطي الحياة؛ قوام كل شيء؛ لأنك الأعلىَ من الكل بلاهوتك والمساوي لنا في بشريتك؛ صمت عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة؛ لتؤسس لنا طريق الجهاد الروحي؛ ولتعلمنا كيف نواجه عدونا اللعين الذي يعمل في أبناء المعصية؛ مهيئًا لنا طريق السموات منتصرًا على الشيطان الذي كان غالبًا لنا؛ فطرحته إلى أسفل وعريته من قوته؛ ونزعت سلاحه كي تمنحنا نصرتك في رحلة صومك؛ ولكي يصير لنا الإدراك الروحي والعِلم الخاص بك؛ فنصعد معك على جبل التجربة لنُميت شهوات أجسادنا؛ ونضبط أنفسنا؛ ونبرأ من نزف دم الحرفية والناموسية والشكلية والنفسانية... فلا نتلاهىَ عن أبديتنا فيما بعد؛ لأنك صنعت من نفسك طريقًا لنا كي نتبع خطواتك. عندما تصوم حواسنا ونجوع لك؛ تكون أنت شبعنا وخبزنا ومِلئنا؛ حينئذ نتكل عليك يا الله الحي؛ فلا ننهار من التخاويف؛ ولا نسقط تحت وطأة وعيد وتهديد الأشرار؛ ولا تؤذينا حرارة نيران هذا العالم... صومنا يليِّن قلوبنا المتعاظمة المُتخمة من قساوتها وغلاظتها؛ فترجع وتتوب إليك؛ لأنك لا تسكن في المستريحين والمدللين؛ والرخاوة عندك لا تُمسك صيدًا. ننعم بفصحك على أعشاب الصوم المرة؛ مرافقين لك مسيرة جبل التجربة في أمانة الشركة حذرين من غش الشركة؛ لنصير شركاء طبيعتك الإلهية. كيف لنا أن نجوع وأنت قد رتبت لنا مائدة تجاه مضايقينا؟! كيف نجوع بينما كل شيء مُعَد؛ ووليمة السمائن موضوعة لجميع الشعوب؟! إنك تعرف ضعفنا ونقصنا ولا تقسو علينا؛ لكنك تريدنا مثلك؛ فاتحًا لنا طريق الغلبة بإنتصارك على المجرِّب في موقعة جبل التجربة... كي لا نسقط ثم يُسرع العدو ويتهمنا ثم يلتهمنا؛ بل نُبطل حيله هادمين كل ظنون وإرادة ذاتية؛ عندئذ نردّ لك وديعتنا سليمة كاملة على ذات الحال الذي أخذناها عليه؛ وصورتك المقدسة قائمة وصحيحة فيها؛ لأنك تطلب بهاءك المغروس فينا: فلا نخدم سيدين؛ ولا نهتم بالغد؛ ولا نكنز كنوز الأرض. إن التجربة على الجبل هي إحدى شوامخ تدبيرك الإلهي؛ عندما تقدمت لتصارع وتغلب العدو كباكورة لنا -(آدم الثاني الجديد)- عدو جنسنا الشيطان؛ فتُسلمنا خبرة حياة؛ لأن آدم الأول كان عِلة سقوط؛ بينما أنت موضع النصرة... فالأول نفساني ترابي؛ لكنك أنت روح مُحيي الرب من السماء... علمتنا أن لا نطيع الشيطان؛ ولا ندخل معه في حوار البتة؛ فنتعلم منك الطاعة التي تألمت بها؛ بالخبرة والعمل؛ فتعليمك فعل وممارسة... علمنا في صومك أن نصنع صدقة ونقدم صلاة وصومًا في الخفاء. علمنا أن لا نعود نكسر وصاياك ولا نأكل من المحرَّمات؛ بل نتناول كل طعام وعمل ومشيئة من يدك؛ مدركين أن حياتنا ليست من اللباس ولا من الطعام؛ لكنها نسمة من عندك؛ وأنت الذي تمنحنا كل شيء بغنى للتمتع؛ فنلتقي بك عند ماء بئر يعقوب؛ وعند بركة بيت حسدا؛ وقبالة بركة سلوام؛ حتى لا نعود نطعن أنفسنا بأوجاع كثيرة؛ بل نسجد لك بالروح والحق؛ ونجحد إبليس علانية وكل أعماله وكل أفكاره وكل بقية نفاقه... كما يقول مار إسحق: (إن السجود يُرعب الجن؛ لأنه يشتهي أن يُطاع هو؛ وأن يخضع له الناس). إننا نسجد لك صائمين؛ لأنه من غير الجائز أن نسجد ونحن ممتلئو البطون؛ كي نخرج معك بالروح؛ ونتعلم إجتياز كل ما عملته؛ حتى لا نكون عاطلين؛ بل نتيقن مما أودعته لنا من كنوز أدويتك؛ ففيك نربح كل شيء؛ لأنك قمت وأعنتنا. في صومك في البرية؛ علمنا أن نقاوم إبليس فيهرب منا؛ أنك أُصعدتَ بحسب ما يقتضيه منطق التدبير كي تُجرَّب؛ لتعلمنا أن نلتصق بك ونتحد مع بقية القطيع؛ فننتصر... قدمت لنا صومك كي ترسم لنا طريق نصرة الخلاص. كمثل طبيب تعفينا من الموت؛ وتشفينا من كل سهام. وضعت على نفسك الصوم بدلاً عنا؛ كي تكون لنا مثالاً؛ وكي تردنا إلى الفردوس؛ وتنجينا من طوفان هذا العالم ومن بروق سدوم وعامورة الحارقة؛ التي كان إثمها الكبرياء والشبع من الخبز والإسراف في التنعم (حز ٤٩:١٦)؛ وبهذا تدلنا على أدوية خلاصنا؛ وعلى تصديق حقيقة وعظمة تدبيرك. بك ومعك تصير ثمرة صومنا نافعة؛ فلا تهزمنا التجربة ولا تغطينا ظلمة الآلام؛ لأنك قتلتها بآلامك الشافية المُحيية... سمحت لنفسك أن تُجرَّب باعتبارك الوسيط بيننا وبين الآب؛ مريدًا أن تُعيننا كي ننتصر بك يا من تقدر أن تعين المجربين... صمت أربعين يومًا ولم تصم أكثر من موسى وإيليا؛ لأنك أخذت جسدًا مثل أجسادنا ولم تُزد عنهم لئلا يكون تدبير تجسدك غير مصدَّق... أجبتَ أيها الكلمة بالكلمة الإلهية التي خرجت من فمك والمكتوبة والتي بها وحدها ننتصر؛ وأتيت بشهادة سفر التثنية؛ لأن كل من لا يعيش بك وبكلمتك لا يحيا. كلمتك التي هي أنفاسك ومشيئتك التي أعلنتها في الأسفار الإلهية؛ وهي التي تحمينا من تربُّص إبليس بنا؛ حتى في الأماكن المقدسة... عندما يوقفنا على جناح الهيكل ويحاربنا بالمجد الباطل وبالنصيب الأكبر؛ كي يطرحنا إلى أسفل بفخاخه... إنه يستخدم كلامك ويوظفه بقصد شرير ليخدعنا؛ لأن كل واحد يلقي بنفسه إلى أسفل بمشورته؛ إنما يهلك بمشورة نفسه. حقًا إن عدونا لا يقدر على أحد؛ لكن كل من يتهاون بخلاص نفسه؛ إنما شهوته هي التي تصرعه. في صومك يا رب نقتفي خطواتك؛ لأنك أنت وحدك الأقوى من القوي... والقادر وحدك أن تغلبه وتنزع سلاحه وتعلن سلطانك وقوتك؛ التي بها نعبر برية هذا العالم ونقاوم فظاعة مساكنة الوحوش والذئاب؛ ونحن محاطين بقوة خدمة ملائكتك وبوعدك لنا بأن الشيطان يسقط مثل البرق... إنه يقف ضدًا لنا في تحدٍّ... يجول ويزأر كي يبتلعنا منذ يوم معموديتنا وهو يحاربنا ويهدد وجودنا؛ إذ أن باب التجربة سيستمر مفتوحًا على طول المدى؛ حتى وإن تركنا إلى حين؛ لكنك أعطيت النصرة كميراث وكحق لكل من يجاهد على قدر طاقته ضد هذا المعاند والمشتكي. بإسمك ننتهر هذا المعتنف والقتَّال للناس حتى لا نسقط وحتى لا يشتكي هو علينا؛ معلنين أننا لسنا من خواصه وأنه ليس له فينا نصيب. متمسكين برجائنا فيك؛ حتى لا نيأس من مجاذباته. متذكرين أننا وُلدنا منك؛ وأنك أنت قد أدنت الخطية في الجسد؛ فلن تسود علينا. فلنلتقط أسلحتك يا رب؛ حافظين أسفارك لنحيا بكل كلمة تخرج من فمك؛ ونُشهر كلمتك في وجه الشيطان الذي يخدعنا بكلمات مكتوبة؛ لكنها معسولة؛ كدافع للتجربة. أنت من سمائك ترعى أعوازنا؛ وتهب لنا منَّك السماوي... فشتّان بين تدبيرك وبين حيل الشرير الجهنمية... إنك لن تطرحنا إلى أسفل ولن تدعنا نسقط أو نرتد إلى خلف؛ لأنك تحملنا على الأذرع الأبدية... فكل شيء قد دُفع لك؛ وأنت تعطيه لمن تريد؛ تعطيه لكل من لا يخر ولا يسجد لإبليس ولا لمجد ممالك عالمه الدنيوي الفاني؛ تلك التي يملك فيها على رقاب العباد بالغش والخداع والظلم وإزهاق الأرواح... إننا نتمسك بنصرتك يا مسيحنا ونسلمك مشيئتنا في ساعات الظلمة؛ لنغلب بك أعوان الشيطان (اذهب يا شيطان) فلك وحدك نسجد وإياك وحدك نعبد... في جبالك تقود نصرتنا وأمجادنا من جبل التجربة إلى جبل التجلي إلى جبل الجلجثة ونحن تحت مشيئتك؛ إذ أنك تعطينا مع كل تجربة المنفذ؛ فلا نتجرب فوق ما نستطيع؛ لكن بك ننجو من الشرير. بصومك تعضدنا ضد مجاذبات الشهوة؛ وتعلمنا كيف نظفر بالشيطان. بصومك تردنا دفعة أخرى إلى الفردوس الذي منه طُردنا بسبب عصيان آدم الأول. علمتنا أن لا نسقط في الحفرة؛ ولا نبتلع الطُعم؛ لكن نعبر من البرية إلى الفردوس؛ وننظر إلى طريقك لنسلكها. بصومك أربعين يومًا؛ وبهذا الرقم السري؛ فتحت لنا طريق الدخول بمجد إنجيلك؛ لأنك في صومك لم تجُع إلى خبز الجسد؛ بل إلى خلاصنا... عدونا المحتال ظن أنه سيجربك ويظفر بك... فبدأ بما سبق وغلب به آدم من قبل؛ لكنك ظفرت به لأجلنا كي نتغذى بكلمتك الحية بدلاً من خبز الأرض؛ ولكي ننشغل بالخبز الجوهري غير المنظور الذي يثبت قلوب البشر (مز ١٥:١٠٣)... فنحن لا نحيا بالخبز وحده؛ بل كلمتك الآتية من عندك هي قُوت وقوام نفوسنا. وصومك يعلمنا أنه لا بد أن ننقاد بالروح حتى تصير لنا الغلبة ونبتعد عن المجد الفارغ والافتخار وشهوة الأعمال الخارقة والتزويق لئلا ننحدر إلى أسفل في الهاوية. فعدونا لا يقدر أن يؤذي إلا ذاك الذي يلقي بذاته إلى أسفل؛ فمن يترك عنه السماء ليختار الدنيا تتدنى حياته؛ ويسقط في الهُوَّة وقبض الريح؛ لأن هذا العالم وممالكه التي نراها في لحظة من الزمان هي أيضًا ستفنىَ وتنحل في لحظة؛ إنه عالم بائد وفانٍ؛ وهو من الهزالة والزوال؛ بحيث أنه يمضي قبل أن يأتي؛ لأنه سراب ولم يخرج منه أحد بشيء. لقد قبلت بإرادتك أن تُجرَّب من الشيطان لتحولنا إلى شخصك؛ ففيك نُجرَّب؛ لأنك أخذت جسدنا وموتنا لتعطينا حياتك وخلاصك... منا أخذتَ الإدانة والتجربة وأعطيتنا البر والغلبة؛ وإن كنا نتجرَّب فيك؛ ففيك أيضًا الغلبة على الوحوش الرابضة في أعماقنا؛ وعلى الوحوش الرابضة من حولنا؛ لأننا لن نفوز بالإكليل إلا إذا غلبنا؛ ولا يمكن أن نغلب إلا إذا جاهدنا؛ ولا يمكن أن نجاهد إلا بنعمتك غير المغلوبة... فالمجد لك يا محب البشر؛ يا من أبطلت قوة العدو وحيله وحججه؛ وفضحت المجرِّب؛ وعلمتنا المسلك. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
09 مارس 2021

عِبَادَةُ الصَّوْمِ الكَبِيرِ الليتُورْچِيَّة

وضعت (أمّنا) الكنيسة عبادة خاصة للصوم الكبير؛ كي تغذي نفوسنا بالطعام الإلهي (الكلمة)؛ فتثبت قلوبنا بالنعمة لا بالأطعمة التي لم ينتفع بها الذين يستعملونها... نحفظ صومنا فصحيًا كما يليق، ونستقبل الآلام المقدسة؛ ونعيِّد للقيامة المجيدة، عندما يتحول الزمن العالمي إلى زمن ليتورچي كنسي؛ زمن خلاص مقدس؛ بعبادة نسكية مُفعمة بالعمق اللاهوتي؛ وبها نصطبغ بالتوبة كمعمودية ثانية... ننمو كموعوظين ومؤمنين؛ حتى لا يفوتنا القطار المتجه بنا إلى البصخة وفرح القيامة. وهكذا ترتب الكنيسة كل شيء في وقته وأوانه؛ لكي نميز الأوقات، مثلما كانت الأبواق قديمًا رموزًا تدعو تارة إلى الأعياد؛ وتارة أخرى للصوم؛ وثالثة إلى الحرب. والآن تبوِّق الكنيسة بوق الصوم الأربعيني؛ حتى نتمكن أن نأتي إلى ما وعِينا من أجله؛ حسب قصدها في أن تجعل هذا الزمن "وقت الإصلاح" (عب ١٠:٩) فنعيِّد لا بخميرة الشر والخبث العتيقة؛ بل بفطير الإخلاص والحق. وتصير عبادة الكنيسة في زمن الصوم مدرسة لاهوت تكوينية لحياتنا وفكرنا، تتخلل كياننا بعمق كمَعين لا ينضُب للمعرفة والحياة، حتى ينمو ما للإيمان بما للعبادة، وتُكتشف العقائد إلهيًا خلال خدمة العبادة الكنسية الخلاقة التي تحتضن ملء الكنيسة، وتتيح الفرصة لاختبار "فعل الصوم" في ضوء جديد يجدد لقاءنا مع المسيح الحي الذي صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة. في مسيرة نحو الفصح تنتهي في جمعة ختام الصوم الذي فيه نختتم زمن الصوم الكبير كموسم ليتورچي، يتميز بطابعه النسكي المِستيكي والتعليمي لننتقل إلى ذكرى آلام الرب المقدسة وفصح العبور للقيامة. إنها رحلة روحية غايتها الأخيرة؛ التهيئة للكشف الحقيقي؛ ومعايشة التدبير؛ كعبور دائم إلى فصح الملكوت الأبدي (سرٌ عظيم يفوق عقول البشر هو سعي مخلصنا محب البشر... صام عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة... وكان مع الوحوش لمّا صام في البرية لكي نصنع مثله) إنه عبورنا نحن؛ وصومنا نحن؛ وفصحنا إلى الحياة الجديدة؛ من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا... نتذوقه ونعيشه عبر طقوس الكنيسة وعبادتها الصومية في دسم وشبع روحي؛ وبرؤية صحيحة لملكوت الله وبره، وللكنز السماوي، ولنوال الصحة الروحية لرؤوسنا المريضة وقلوبنا السقيمة، بروح الإحراق والقضاء والتنقية وقمع الجسد بطهارة وبر، والنصرة على التجارب بكل كلمة تخرج من فم الله، وبسلاح الإنجيل وثمار التوبة والعودة إلى الأحضان الأبوية والرجعة إلى البيت الأبدي، والارتواء من ينبوع الماء الحي مع كل ابن ضال وكل سامرية وكل مُخلع وكل مولود أعمى... فما كل هؤلاء إلا أنا!!! وهذه ليست قصصًا وأمثالاً وحكايا؛ لكنها لقاؤنا نحن وتجاوبنا وقبولنا الآن وهنا، فتبيضّ خطايانا كالثلج؛ ويصير فينا لكل مجد غطاء... غنانا ومجدنا من الداخل لا يُسرق بل يحفظ لنا أجرنا... ننادي مسيحنا الصائم عنا ونسبح مراحمه إلى أبد الآباد ومن جيل إلى جيل نخبر بحقه؛ ونناجيه قائلين له: (أنا أعرف أنك صالح ورؤوف ورحيم؛ اذكرني برحمتك... نطلب إليه أن لا يبكتنا بجهالاتنا؛ لأنه لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا... نطلب إليه أن لا ينظر إلينا بغضب وأن لا يحرق عدم معرفتنا مثل سدوم ولا يهلكنا مثل عمورة ولا يحاكمنا من أجل ضعفنا وخطايانا... وأن يحل ويغفر لنا زلاتنا؛ كصالح ومحب للبشر يرحمنا). لقد رتبت الكنيسة قطماروسًا خاصًا لخدمة الصوم؛ كي تجعل له نبوات وقراءات وتزين عبادة الصوم بجمال فن التوبة وحُسن العبادة العقلية؛ فاختارت القراءات ووضعت الطلبات والميطانيات والذكصولوجيات والمردات والطروحات والقِسَم التي تحمل طابع (الحزن المضيء البهي) فتُحدث تحولاً سريًا في أعماقنا؛ به ندخل لجهادنا الروحي ولتقديس الحواس؛ حتى نتحرر من العالم الساقط؛ عالم آدم القديم؛ المعتمد على الأطعمة والمادة؛ فنوقن أنه لا خلاص ولا كنيسة من دون صوم ومن دون نسك. نذهب باكين نلقي بذارنا لنرجع فرحين حاملين أغمارنا... مشتاقين بالصوم والصلاة؛ لالتماس رضى وجه الله، فتطيب لنا العِشرة ونتابع المسيرة الفردوسية مع المسيح الصائم ومن خلفه؛ حتى نتماهىَ مع كامل حياة الكنيسة كجسد المسيح؛ ونخاطب مسيحنا (رأسنا) باعتباره رئيس الكهنة إلى الآباد (لحن ميغالو) وبأنه رب الجيوش العلوية؛ متطلعين إليه وعيوننا نحوه وحده (تعالوا انظروا مخلصنا؛ علمنا المسلك لكي نسلك مثله... أبطل قوة العدو وحِيله وحججه؛ وافتُضح المجرِّب أمامه). فالمسيح هو قائدنا في مسيرة الصوم وهو محور عبادتنا وأيقونتها الفريدة، بحيث يتضاعف البعد الكتابي في الأيام الصيامية كأيقونة كلامية للمسيح والكنيسة... فنتلو النبوءات والقراءات المختارة في مطابقة لتدبير الله الخلاصي حسب الدورة الليتورچية وحبكة الطقس. ندخل إلى الحدث في توالي آحاد الصوم؛ حيث تجربة الرب كواقع تدبيري حدث من أجلنا؛ وكقوة في حياتنا نرفض بها الكذبة الكونية التي روّجها الشيطان؛ بأننا نحيا بالخبز وحده، لكننا بالصوم والعبادة نتحدى الكذاب وأبو الكذاب عمليًا؛ ونغلبه باعتماد المسيح لشركة ذبيحة صومنا... نغلبه بالسلاح والسيف الإلهي الذي هو البرهان الوجودي على أننا بنعمة العبادة نصير روحانيين لا جسدانيين فيما بعد، حياتنا في الله ومنه ولأجله... وحتى جوعنا هو جوع بالأكثر إلى البر... ولا صوم من غير تجارب، ولا نصرة من غير جهاد ومعونة... الله هو نصيبنا؛ نصيب الابن الضال والسامرية والمُخلع والمولود أعمى، وملكوته هو مطلبنا، وكنزنا عنده (أناجيل آحاد الصوم). لذلك نسأله أن يقبل صومنا وأن يذكرنا برحمته؛ لأن آثامنا علت على رؤوسنا وثقُلت علينا؛ فليسمع تنهدنا ويطرحها عنا. ومثلما تضع العبادة الصومية المسيح مخلصنا باعتباره النموذج والمثال الأصلي (تعالوا انظروا مخلصنا)، كذلك تضع العبادة أيقونة صوتية لنماذج تضم العشار والزانية واللص اليمين، عندما نتوسل إلى الله ليجعلنا مثلهم وفي محلّتهم ويضمنا إلى زُمرة صحبتهم... يتراءف علينا ويغفر خطايانا ويخلصنا وينقذنا وينجينا؛ لأننا (كأعضاء) و(كجماعة) قد أخطأنا (أخطأتُ أخطأتُ؛ لا تحسب علينا خطايانا... فلتدركنا رحمتك وتخلصنا من الشدائد المضادة لنفوسنا) وبإقرار واعتراف جماعي نقول (أنا أيضًا الخاطئ يا يسوع إلهي وملكي الحقيقي تحنن عليّ واجعلني كواحد من هؤلاء). وكأننا في موكب كنسي كبير يجمع العشار والزانية واللص اليمين مع كل الصوامين التائبين؛ ويتقدم هذا الموكب مسيحُنا القدوس شخصيًا؛ حاملاً الجميع في معيته. وفي هذا الحاضر المكرس ليتورچيًا نتذوق شركتنا مع الثالوث القدوس ومع السمائيين ومع جماعة المؤمنين الذين اختبروا الصوم كدواء أول؛ يضمد الجرح الأول؛ لأن السقوط كان بالعصيان والأكل، أمّا القيام فهو بالطاعة والصوم... الوصية الأولى أن لا نأكل؛ ولما لم تُطَع؛ سقط آدم الأول فخاب وزلّ، لكن آدم الثاني السماوي قد وفىَ الدين بالصوم ليُنهضنا من سقطتنا؛ وليُبرئ جرح آدم الأرضي. قام المسيح بفعل الصوم الذي رفضه آدم فسقط (أكل فمات) لذلك عدونا المحتال يفتح باب الخطية على الدهور بالأكل، لكن صومنا سلاحنا؛ يُسقطه مثل البرق، وقاضينا العادل رؤوف ورحيم؛ وصام معنا كي يرحمنا كعظيم رحمته؛ وهو لن ينظر إلينا بغضب. نحني ركبنا في عبادة الصوم للمسيح إلهنا الذي عنده كنوز التحنن؛ حتى لا يتركنا في الجهالات والأفكار الردية؛ وحتى نُرضيه أمامه وندخل معه في ديالوج خشوعي؛ كصديق يتكلم مع صديقه، سائلينه أن لا يطرحنا على شماله؛ وأن لا يقول لنا أنه لا يعرفنا... ونعترف له بأننا خطاة كي يعطينا توبة؛ قبل أن يسد الموت فمنا في أبواب الجحيم، وكي يعطينا جوابًا عن كل ما فعلناه... وبذلك تكون عبادتنا صومية جماعية محسوسة؛ في علاقة متبادلة نتخطى البعد الزماني والمكاني، ونذهب إلى جبل التجربة ونصلي ليتورچيًا؛ كدليل لاقتفاء آثار تلك المسيرة؛ ونغرف من ينبوع الكتاب المقدس؛ في لقاء ورجاء ننادي مسيحنا وجهًا لوجه، باعتبار أن كنوز التحنن عنده، ونلحّ عليه وننطق بكرامة الصوم والصلاة، وبالنغم الصومي الذي لهذا الزمن الطقسي ننادي المسيح الحاضر معنا في برية غربتنا، ونطلب إليه (أيها الطويل الأناة) مع رفع صعيدة البخور بتوسل وركوع؛ نخرج خارج انفسنا وخارج محيطنا الاجتماعي والفكري والعائلي؛ من أجل شركة خلاصية مسكونية، نصلي من أجل المسافرين والمرضى والمتضايقين والمسبيين والموعوظين والذين في كل شدة، ومن أجل كل المخلوقات. طالبين رحمة المخلص؛ لأنه ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران. كذلك في منهج العبادة تقوم الكنيسة بعمل إعادة تفعيل الوظيفة النوسية في القلب (وضع القلب في العقل)؛ لشفاء الوجود البشري من خلال موقفنا الكلي نحو الله، ومن خلال قيمة الرمز في العبادة؛ فنتعطر بالمر واللبان؛ ونتزين بأزرة التاجر؛ ونتذرب على عبادة الروح والحق في الخفاء حتى لا تكون عبادتنا مزيفة؛ مكروهة ومغشوشة، لأن عبادة الكبرياء والرياء والشفاة هي زغلاً. متكلين على الله كنزنا بلا سند ولا ركن... نتحاجج معه ونتعلم فعل الخير، وتتنقى حياتنا من الشوك والحسك ونُثمر عنبًا صالحًا في ميعاد طلب الثمر، ولا نُجاري العالم؛ ولا يكون ثمرنا كثمره. وفي إبداع جمالي وليتورچي تصبح العبادة غنية بكلماتها وأنغامها وطقسها؛ وعملها الكلي الذي يسلب العقول؛ ويجعلها عبادة تجسد وتشرح مضمون إيمان الكنيسة ولاهوتها المرنَّم؛ الذي نقوله بصوت ولسان العشارين والخطاة، فيكون الصوم للنفس ثباتًا / يخلص من الضربات / صومًا عن الزلات والأرضيات / نسلكه في الخفيات بالجهادات كل أيام غربتنا العابرات؛ فتهرب منا الظلمات / صومًا عن السيئات والحسرات والشهوات والآفات والسقطات والمهلكات والعقوبات / صومًا ننال به الخيرات والكرامات ونتغذى فيه بالقداسات مبشرين بالأبديات؛ ونحيا الروحيات والصياميات بعَبرات وحُسن رجعات / صومًا يفتح لنا باب الهبات والصالحات ووافر البركات ونصعد به لأعلى الدرجات كالعذارى الحكيمات / نُثمر به ثمرات ونربح بالوزنات ونرث ملكوت السموات. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
04 مارس 2021

الصوم الكبير تاريخيًا

إن الصوم الأربعيني تقليد رسولي وهو تعليم كنيسة الإسكندرية منذ زمن بعيد فالقديس كيرلس الأول عمود الدين يقول في عظاته بخصوص الصوم الكبير إنه "حسب التقليد الرسولي"، ومن قبله البطريرك ثيؤفيلس يقرر ذلك أيضًا في خطاباته الفصحية، كما تحدث القديس ايريانوس "أبو التقليد الكنسي" عن أهمية الصوم الأربعيني الكبير، وأكد انه قديم العهد جدًا، وان طقسه يراعى في أنحاء العالم كله، ويرجع إلى أيام الرسل (Im. Epist. Ad. Vict. ).فالصوم هو أقدم وصية عرفتها البشرية منذ آدم الأول (تك 2: 16-17)، وقد أثبت ذلك أيضًا القديس يوسابيوس القيصري في تاريخه (5: 24) وقرر المؤرخ سقراط سوزمين في تاريخه الكنسي (7: 19) ان كنيسة مصر القبطية تصوم هذا الصوم سبعة أسابيع كاملة، ويقول القديس يوحنا كاسيان أن الصوم الكبير يقدم فيه الأقباط عشور السنة صومًا.وفى قوانين ابوليدس الروماني والمعروفة باسم التقليد الرسولي لهيبوليتس صيغة إخبارية تقول في وضوح وقوة أيام الصوم الكبير التي تثبت هي الأربعاء والجمعة والذي يزيد عليها ينال أجرًا. Hippolytus وتأتي الديسقولية فتقرر "فليكن عندكم جليلا صوم الأربعين المقدسة"، وتؤكد في الباب العاشر "وان تصوموا في كل عام أربعين يوما كما صام موسى وإيليا النبيان العظيمان، وجميع الأنبياء في العتيقة، وابتدأ سيدنا المسيح بذلك ليعلمنا أن نفعل ذلك قبل آلامه المحيية".وقد جاء في كتاب مصباح الظلمة "للأب القس أبو البركات المعروف بابن كبر" عن الصوم الكبير:- "وقد كان الآباء الرسل القديسون الأطهار ومن تبعهم من المؤمنين يصومون الأربعين المقدسة". ويذكر العلامة أوريجين فيقرر قائلًا "الأصوام التي نلتزم بها هي الأربعون المقدسة والأربعاء والجمعة"، كما وذكره روفنيوس المؤرخ ناسِبًا ذكره إلى العلامة اوريجين في تفسيره لسفر اللاويين. وقد وضعت الدسقولية عقوبة على من لا يصوم "أي أسقف أو قس أو شماس أو أيبذياكون أو أغنسطس أو مرتل لا يصوم صوم الأربعين المقدسة وصوم يوميّ الأربعاء والجمعة فليقطع ما خلا إذا امتنع لأجل مرض جسدي وإذا كان عاميا فليفرز".وبعض الآباء القديسين القدامى عندما كانوا يتأملون في الأربعين المقدسة، كانوا يقارنونها بعدد الساعات التي قضاها الرب في القبر وهي أربعون ساعة محسوبة، أي إننا نصوم عن كل ساعة قضاها الرب في القبر يومًا كاملًا فالصوم الأربعيني كان منذ العصر الرسولي، موجودًا منذ القرن الأول المسيحي ومارسته الكنيسة في كل أنحاء العالم وصامه المسيحيون(1). وقد ورد عن الأربعين المقدسة في الرسائل الفصحية لباباوات الإسكندرية، فنجد أن البابا أثناسيوس الرسولي حامى الإيمان البطريرك العشرين يقرر قاعدة الصوم الكبير في الرسالة الفصحية الثانية وفي الرسالة الثالثة والسادسة والسابعة(2). ونجد أن طقس تكريس الميرون المقدس، كان يتم في الأربعين يومًا، وهو ما قام به أيضًا قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث ، فقد قام غبطته بعمل الميرون مرتين في عهده المبارك - في زمن الأربعين المقدسة.ويتكلم أيضًا البابا كيرلس الكبير عمود الدين في رسائله الفصحية عن الأربعين المقدسة، وهنا تتقرر من رسائل القديس أثناسيوس والقديس كيرلس، وطقس الميرون، قاعدة الصوم الكبير.كما أشار إليه القانون الخامس من قوانين مجمع نيقية، كشيء ثابت ومقرر في الكنيسة المسيحية في العالم كله وذكرته قوانين الرسل، وقالت إنه تم إتباعا لما فعله السيد المسيح(3).لقد كان الصوم الأربعيني من الممارسات الروحية التي مارستها كنيسة الرسل عمود الحق وقاعدته، هيا مع الكنيسة التي هي باب السماء فلك نوح الجديد بل والحقيقي لنخلص لأن كل من كان خارجها هلك (1 بط 3: 20)، ولنتمتع باختبار الصوم الكبير المقدس من أجل بنيان حياتنا وشعبها الحقيقي، فنجتاز الصوم مع المسيح الذي صامه عنا (مت 4: 2)، وكما صام داود النبي (مز 35: 13)، ودانيال النبي (دا 9: 3)، وحزقيال النبي (حز 4: 9)، ونحميا النبي (نح 1: 3)، وعزرا الكاتب والكاهن (عز 8: 21).. فنكون غالبين للعالم والشيطان لأن (هذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة). القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية عن كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل