المقالات

14 يناير 2022

خِتَانُكَ يَا سَيِّدُنَا

في اليوم الثامن لميلادك، عندما تمت ثمانيه أيام على ولادتك، كان ختانك، وسُميتَ يسوع كما سمّاك الملاك قبل أن يُحبل بك في البطن ... كذلك قمت من بين الأموات في اليوم الثامن لبداية الزمن الجديد، لتعطينا الختان الروحي، بمقتضى ما أمرت به رسلك الأطهار القديسين، كي يذهبوا ويتلمذوا جميع الأمم، ويمنحوهم الختان الروحي في المعمودية باسم الثالوث القدوس . خُتنت ثم أبطلت طقس الختان بعد ختانك أيها الختن الحقيقي ... أعطيتنا نعمة المعمودية كي لا نختتن حسب ناموس العتيقة، بل ننضم ضمن شعب أهل بيت الله ورعيه القديسين، بختم ضمانك وحمايتك وملكيتك لنا، بين ورثة وأبناء الله المتبنين. خضعت للناموس وأكملته من أجل التدبير ومن أجل السرور الموضوع أمامك، فبدأت حياتك بسفك الدم في الختان وأكملته علي الصليب، عندما سلمت الروح وقلت (قد أكمل)؛ مبطلاً بذبيحتك جميع الذبائح الدموية ... ذبيحتك التي أعلنتها أيضًا في يوم ختانك، وفي صليبك حقًا ذبيحة طاهرة ناطقة حية ورحانية غير دموية، ذبيحة؛ ليس دم الناموس حولها ولا بر الجسد. أخذت صورة العبد صائرًا في شبه الناس، بينما أنت يا يسوع المسيح ذو الأسم المخلص، وهبتنا عهد ختان العهد الجديد، ليكون ختان الروح لا الحرف ... ختان لا يحتاج إلى أي مدح أو حكم بشري، لأنه يعتمد على الشهادة التي من فوق من عندك يا أبا الأنوار ... فبختانك انتهى طقس الختان إلى الأبد؛ وذلك بدخول المعمودية التي كان الختان رمزًا لها، وبسبب المعمودية لن نعود نمارس الختان فيما بعد، لأننا عُتقنا من ناموس الخطية والموت، إذ ليس ختانه في المسيح يسوع بل خليقة جديدة. ففي اليوم الثامن يوم التطهير ونوال ختم العهد والتأهيل للدخول في عضوية شعب الله، وهو يوم الذبيحة والتقديس والتكريس، أعطيتنا فيه الختان غير المصنوع بالأيادي، بخلع جسم خطايا البشرية ، بفعل دمك الثمين الذي بروح أزلي يطهر من الأعمال الميتة ... إنه يوم أول الأسبوع بعد انقضاء سبعة أيام، الذي صار لنا بداية جديدة بعد دورة الزمن، بانقضاء القديم وبداية عهد جديد ... وفي يومك الثامن هذا أيضًا قمت من بين الأموات؛ وفيه ظهرت للتلاميذ في أحد توما، وفيه أيضًا حل روحك القدوس على التلاميذ، ونحن أيضًا لن يمكننا أن نكون أطهارًا إلا بختان معموديتك - ( أما الحمل فروحي ، وأما السكين فعقلية وغير جسمية ) - حتى نبلغ يومك الثامن في مجيئك الثاني الآتي من السموات المخوف المملوء مجدًا. بختانك يا سيدنا أخذت محلتنا لنأخذ نحن محلتك، البار عوض الأشرار؛ والقدوس بدلاً عن الأثمة ... بختانك تممت البر وأطعت إلى كمال الوصية، وفصلت بين عهد ختان الجسد بالناموس، وبين عهد ختان القلب والحواس بالمعمودية والتقديس، وتكريس الحياة بختم سيادي لا ينفكّ، وبسِمة ملوكية موسومة لا تنحل ولا تنمحي. في يوم ختانك هذا اتخذت اسمًا - ( سُمّي يسوع ) - لتكشف لنا عن هويتك الحقيقية بأنك مخلص الجميع؛ ومن يتكل عليك لا يأتي إلى الدينونة ... فلنأتِ إليك يا سيدنا من أجل عهد ونذر ختاننا، ولنختبر ونتعرف إليك من اسمك الذي اتخذته من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، فنذوق قوة اسمك الخلاصي العجيب والمملوء مجدًا، وتتجمع فينا الحواس وننطق بكرامة اسمك الحلو المبارك الذي تمجد في أفواه قديسيك الأبرار سكان الأرض .. فإسمك في كل شيء كريم ومبارك ... وهو طيب مسكوب يقدم له البخور في كل مكان، وصعيدة طاهرة القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج
المزيد
13 سبتمبر 2020

حياة الكنيسة في عصور الاستشهاد بداية المخاض

لقد قال المسيح رب المجد لتلاميذه ”يُسلِّمونكُم إلى ضيقٍ ويقتلُونكم وتكونون مُبغضين من أجل اسمي. والذي يصبُر إلى المُنتهى ذاكَ يخلُص“ (مت 24: 9).وبهذا يكون المسيح رب المجد قد أوضح طبيعة الحياة معه، ونوعية المِحن والضِيق الذي سينال كل من يشهد لإنجيله، ومن ناحية أخرى أظهر عِظَم مكافأة مُحبيه الذين حفظوا صبره وإيمانه ”اِفرحوا وتهللوا لأنَّ أجركم عظيم في السموات“.لذلك نجد أنَّ التلاميذ بعد ما كرزوا بالمسيح قُبِضَ عليهم وقُدِّموا للمُحاكمات ”فلما سمعوا حنقوا وجعلوا يتشاورون أن يقتلُوهم“ (أع 5: 33)، ولكن التلاميذ ”ذهبوا فَرِحين لأنهم حُسِبوا مُستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه“ (أع 5: 41).لقد حلَّت التجربة الأولى بالكنيسة باستشهاد إستفانوس الذي سبَّب ألمًا عظيمًا للكنيسة، وضِيقًا وتشتيتًا للجميع... ولكن هذا التشتُّت أصبح بركة للعمل الكرازي، لأنَّ الذين تشتَّتوا جالوا مُبشرين بالكلمة ويُعد الشهيد إستفانوس رئيس الشمامِسة الذي رُجِمَ سنة 36 م (أع 8)، ويعقوب الكبير بن زبدي الذي قتلهُ هيرودِس بالسيف سنة 44 م. (أع 12: 2) من أشهر الشهداء.وكأنما منح هذا الاستشهاد الكنيسة قوة لتمتد أُفقيًا وتفترِش أراضي جديدة تنضم لحساب الملكوت، وصارت شهادة الدم سبب بركة للكنيسة المُقدسة بعد أن أصبح دم الشهيد بِذار للإيمان بالمسيح، وبعد أن أصبح الضيق والتشتُّت كرازة وبشارة لاسم المسيح رب الكنيسة وعريسها.ثم جاءت التجربة الثانية بقتل يعقوب بن زبدي أخي يوحنا الحبيب، إنه ثمن التبعية للمسيح والشهادة لاسمه العظيم القدوس لكي يتبارك ويرتفِع..وهنا تعمَّق في وجدان الكنيسة الأولى أنَّ الاستشهاد ليس أمرًا استثنائيًا ولا جزءًا إضافيًا، بل ضرورة حتمية للإيمان المسيحي... فجميع الذين يعيشون بالتقوى في المسيح يسوع يُضطهدون... ويقول لسان العِطر بولس الرسول، أنه يحمِل في جسده سِمات الرب يسوع، التي هي جروحه وآلامه المُخلِّصة المُحيية، لذلك يُوصي الكنائِس والمؤمنين أن يحملوا إماتات الرب حتى تظهر حياة يسوع فيهم (2كو 4: 10).وبانتقال الرعيل الأول من التلاميذ والرسل، الذين استُشهِد غالبيتهم، تسلَّمت الكنيسة ذخيرة حيَّة من التعاليم والتقاليد التي تحِث المؤمنين على الشجاعة والصبر والجَلَدْ، وتحبَّب إليهم الموت لأجل اسم المسيح، فيستعذِبون الألم لينالوا المجد، بالاِتحاد بذبيحته بواسطة الاستشهاد.وازدادت الشجاعة في بعض القديسين حتى صارت شوقًا وتلهُفًا إلى الاستشهاد، وانتقل الآلاف من دمنهور إلى الأسكندرية المدينة العُظمى لكي يستشهِدوا، والقديس أبا فام الجندي لمَّا دُعِيَ للاستشهاد، لَبَسَ أفخر ثيابه، وقال ”أنَّ هذا هو يوم عُرسي“.والقديس أغناطيوس الأنطاكي، خاف أن تأخذ المؤمنين الشفقة عليه فيحرموه من حلاوِة الاستشهاد، بل وازدادت قيمة الاستشهاد لمَّا اكتشفت فيه الكنيسة كرامة تجعل صاحبها على مستوى كرامة الرسل، الذي وعدهم المسيح أنه متى جلس على كرسي مجده سيجلسُون على اثني عشر كرسي، وكان أول من أعلن هذه الكرامة الشهيد الأنطاكي أغناطيوس -أحد الآباء الرسوليين- عندما ذهب ليستشهِد وقال: ”لقد ابتدأت أن أكون تلميذًا للمسيح“وأكَّد العلاَّمة أكليمنضُس السكندري، في أواخِر القرن الثاني، أنَّ الاستشهاد عقيدة راسخة في الكنيسة، ولم يعُد للكنيسة شرف أعظم من تقديم الشهداء للسماء، إذ ليس هناك ما يُعادِل كرامتهم.ولمَّا تزايد عدد الشهداء، رأت الكنيسة أنَّ كلمة ”شهيد“ وحدها ليست كافية للتعبير عن كرامِة الذين دفعوا دمائِهِم ثمنًا للإيمان وغلبوا العالم بكلمة شهادتِهِم، فألحقت بها صفات أخرى مثل: الكامِل - المغبوط - الطوباوي - السعيد... وغيرها من الألقاب التي أضفتها الكنيسة على شُهدائها.وكان الشهداء يرون أنَّ الاستشهاد هو أقصر طريق يؤدي إلى الأفراح الأبدية.إنها مجرد لحظات يكونون بعدها في أحضان آبائنا إبراهيم وإسحق ويعقوب، في نور القديسين، حيث مجد إلهنا وحيث لا تقف أمامه خليقة صامته.كانوا يرونه شَرِكة في آلام المسيح وفي موته، وأيضًا شَرِكة في مجده، لذلك كان كثير من الشهداء يرون أكاليلهم ومجد السموات وابن الله قائِم عن يمين العظمة، فكانوا يثقون بالإيمان بما أعدُّه الله لمُحبي اسمه القدوس لقد رأى هؤلاء الكاملون شُهداء المسيح، أنَّ الاستشهاد خير تعبير عن محبتهم لله وصِدق رجائهم الذي مَلَك على قلوبِهِم، فما كانوا يرون الموت إلاَّ انطلاقًا من سجن الجسد، بعد أن كشف لنا ربنا يسوع المسيح قائِد الشهداء وربهم عن أعماق مفهوم الاستشهاد الحقيقي، وبعد أن خرج غالِبًا ولكي يغلِب.. القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج عن كتاب الاستشهاد في فكر الآباء
المزيد
08 نوفمبر 2021

غَافِرُ خَطَايَانَا

قدَّموا إليه امرأة أُمسِكتْ وهي تزني متلبسة في ذات الفعل أرادوا أن يجربوه لكي يكون لهم ما يشتكون به عليه، أمَّا يسوع فانحنَى إلى أسفل وكان يكتب بإصبعه على الأرض؛ لأنه فيما هو القاضي والديان والحاكم العادل؛ إلا أنه هو أيضًا المحامي والفادي والمخلص والضامن لعهد جديد؛ الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا كتب بإصبعه التي كتب بها الشريعة العتيقة، ولا زال يكتب خطايانا أمامنا؛ حتى نكُفّ عن انتقاد ودينونة الآخرين والحُكم عليهم؛ وكي نستفيق وننظر إلى أنفسنا، لا إلى غيرنا نحكم على أنفسنا قبل أن يُحكم علينا.إن مسيحنا يضعنا أمام ضمائرنا وأمام ناموس وصاياه كي نستيقظ وننظر إلى حالنا، إذ لا يجوز للخاطئ أن يحاكِم خاطئًا مثله فمسيحنا وحده هو غافر خطايانا بدم صليبه، وهو نور العالم به نهتدي ونستنير ونمشي في نور نهار الحياة؛ فلا تغشانا الظلمة الحالكة سالكين بشهادة الحق التي تحررنا من سطوة الشهوات والأهواء والعبادات المزيفة، ولا نُستعبَد فيما بعد.هو يقدسنا ويُنير جهالاتنا؛ وينزع صك خطايانا وعار فسادنا؛ محولاً العقوبة إلى خلاص، والسقوط إلى قيامة، والضياع والرماد إلى وجود وفرح أبدي، فلنترك الحجارة والدبش والهدم والدينونة والانشغال الباطل بالآخرين؛ حتى ننصرف لنُخرج الخشبة التي في عيوننا؛ مستجمعين الحجارة والطاقة المستخدمة من أجل البنيان والارتقاء والتكميل والتجميع؛ لأن يسوع ما زال يقف في الوسط في المركز، مترفقًا بالحميع؛ وعنده غفران لا نهائي برجاء الخلاص الأبدي الذي لا يخزى إنه لا يهادن الخطية؛ فبينما هو عارف الأسرار والخفيات والضعفات والتقصيرات؛ لكنه جاء لا ليديننا بل ليخلصنا له المجد وحده على كل شيء في كل شيء. القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج
المزيد
01 نوفمبر 2021

نِهَايَةُ العُمْرِ

نهاية عمرنا هي نقطة بدايتنا نحو الأبد، وبدون استعدادنا للرحيل لا يكون لحياتنا معنى، ذلك هو ما سهر لإعداده الساهرون؛ كي يُعدوا للحظة خروجهم (عُريانًا خرجتُ من بطن أمي؛ عُريانًا أعودُ إلى هناك). فالموت أقرب إلينا مما نتصور؛ وطوبى لمن يقطر زيته ليوجد ساهرًا؛ ومصباح سراجه غير منطفئ؛ وساعته حاضرة أمامه؛ إذ ليس في القبر من يذكر ولا في الجحيم من يشكر.عمرنا كله أشبه بنفخة؛ وإيامنا تُحسب مثل ظل عابر... أشبه بشبر وعشب وظل.. إنها مجرد حُلم وبخار يظهر قليلاً ثم يضمحل. إنها نسمة الريح العابر؛ تدخل من نافذة وتخرج من أخرى. تنحصر بين شهقتي الولادة وخروج النفس من الجسد عند سكرة الموت، حياتنا تجري أيامها سريعة كالعَدَّاء وقد تعيَّن أَجَلُنا فلا نتجاوزه؛ مثل العشب أيامنا وكزهر الحقل تنحسر وتذبل... كالعنكبوت نسيجها وهي عابرة في خيمة تنقض، لا تثبت لها ثروة ولا تمتد لها مقتنيات، فقبل يومها تتوفى وسعفها لا يخضرّ؛ لأن صوت القائل ينادي (كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل. يَبَسَ العشب وذبل الزهر؛ لأن نفحة الرب هبَّت عليه، أمَّا كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد)، ولا أحد يستشير الموتى؛ لأن ذكرهم نسي. لذلك قيل عن نومنا بأنه رُقاد صغير؛ وتذوُّق مُسبَق للموت الذي أباده المخلص بقيامته وكسر شوكته، وهدمه بظهوره المحيي.. فمِن البدء خلقتني يارب؛ ومن العدم كوَّنتي وبصورتك الإلهية رسمتني؛ وكفخَّاري أعظم عُدت وعملتني وعاءًا آخر لمجدك... أعدت صياغتي وأصلحتني بيدك لتُرجعني إلى جمالك القديم، فعما قليل تفنى أيامي؛ وليس لي خلاص إلا برحمتك يا محب البشر الصالح، وضعتَ في نسمة الحياة.أوجدتني وجبلتَ نفسي حلوة سخية مروية وثمينة ومحفوظة؛ لأنك أنت لي مَرساة النفس واقتناؤها، فديتها بدمك الكريم، وتحفظها بسياج أسرارك الإلهية غير المائتة.. تنجيها من الفخ يا منجي النفوس؛ لتدرك تدابيرك وتميز الأمور المتخالفة، وما هو لخيرها وخلاصها وزمان افتقادها، فتمتحن الحق البعيد عن كل خداع وصغار، محترزة من كل خواء وخراب وتراخي الهلاك، عارفة مشيئتك؛ غير عاملة مشيئات الباطل، سالكة في جدة الحياة الذي لحرية مجد أولاد الله، مبقية الله أساس معرفتها لتثمر وتزهر وتعبد بجدة الروح؛ لا بعتق الحرف، فاعلة كل مايليق برضاك إلى النفس الأخير، عندئذٍ تموت موت الأبرار وتكون آخرتها كآخرتهم، وتصير أواخرنا أفضل من أوائلنا ( مت ١٢ : ٤٥). القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج
المزيد
14 سبتمبر 2020

عائلة الله عبر التاريخ

عائلة الله عبر التاريخ لم يقف الشيطان الذي واجه السيِّد المسيح على جبل التجربة، مكتوف الأيدي أمام امتداد الكنيسة شرقًا وغربًا، فَرَاحَ يشِن عليها موجات من الاِضطهادات والمُقاومة، فحرَّك رئيس هذا العالم الملوك والأباطرة ضدهاوسجَّل سِفر أعمال الروح القدس (الإبركسيس``Pra[ic ) ما تعرَّضت له الكنيسة من أتعاب ”وحدث في ذلك اليوم اضطهاد عظيم على الكنيسة“ (أع 8: 1).وأيضًا ”في ذلك الوقت مدَّ هيرودس الملك يديهِ ليُسِئ إلى أُناسٍ من الكنيسة فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف... وعاد فقبض على بطرس أيضًا... ولمَّا أمسكهُ وضعهُ في السجن“ (أع 12: 1-4).وتوالت الاضطهادات في عصر الدولة الرومانية من القرن الرابع الميلادي، أيام الأباطرة: نيرون (سنة 64 م)، تراجان (106 م)، وكان أشدها هولًا اضطهاد دقلديانوس (284 م)، وقيل أنَّ عدد الذين استُشهِدوا في عصره بلغ (144 ألفًا). وقال آخرون أنه (800 ألف)، ولكن بالرغم من أهوال الاضطهادات، ظلَّت كنيسة الله تنمو وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا (أع 6: 7).لأننا إذ نصير مسيحيين، نرى مجد الآلام التي بها نتشبه بموته، لذلك استشهد القديسون عبر التاريخ اِختياريًا.وتميزت أسماء المسيحيين في القرون الأولى بأنهم التلاميذ، المؤمنون، المُختارون، القديسون.. وثمة أمر هام ينبغي أن نُشير إليه ألا وهو أنَّ الاسم علامة من العلامات الأساسية للشخصية، ولذلك سجل يوسابيوس القيصري أنَّ الشهيد سانكتوس Sanctus وهو شماس من كنيسة ڤيينا عندما سُئِل عن بلده واسمه، وهل هو عبد أم حُر، أجاب إجابة واحدة ”أنا مسيحي“ (ك 5: 1)، وسجل ذهبي الفم نفس الإجابة على نفس الأسئلة التي وُجِّهت إلى الشهيد لوقيانوس (عظة 46 في مدح الشهيد لوقيانوس: 2 – 6)، وهؤلاء الشهداء هم أهل العقيدة dogma الذين حفظوا وديعة الإيمان بالدم الذين ذهبوا إلى العالم أجمع وكرزوا بإنجيل الملكوت للخليقة كلها الذين دعوا العالم كله إلى شخص المسيح ابن الله الوحيد، الراعي والفادي والمُخلِّص، الذي ليس بأحد غيرهِ الخلاص، حيث ملكوت النور والفرح الأبدي الذي ليس من هذا العالم وهكذا تحالفت قُوى الشر مُجتمعة ضد المسيح والمسيحيين. فوقفت ضد الكنيسة، وتمت نبوة المُرنم ”قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معًا على الرب وعلى مسيحه“، فماذا كانت النتيجة؟ ”الساكن في السموات يضحك بهم“ (مز 2). اضطهاد الوثنية للكنيسة المسيحية ما أعجب هذه الكنيسة الفتية!! فبعد كل هذا الذي تحملته، بقيت راسخة على مدى الدهور!! ما أكثر وأعتى العواصِف والتجارب التي حاولت أن تعصِف بها، لكنها في كثرِتها وعُنفوانها شهدت لاسم الله في الكنيسة من جيل وإلى جيل وحتى الآن، لصِدق نبوة المسيح مَلِكنا وربنا ورب الجميع، الذي وعدنا ”أنَّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها“ لقد مرت الكنيسة في عصور الاستشهاد بعشرة حلقات من الاِضطهاد وخرجت منها قوية مُرهبة كجيش بألوية، وقد اعتاد المؤرخون والكُّتاب المسيحيون منذ القرن الخامِس الميلادي تقدير الاضطهادات بعشرة أحقاب على مدى حوالي المائتين والخمسين عامًا خرجت منها الكنيسة وأبواب الجحيم حقًا لم تستطِع أن تقوى عليها ومن كثرِة المُعاناة التي تحمَّلها المؤمنون، كانت الكنائِس تُشيَّد على دِماء الشهداء (الجماعة الحيَّة)، واحتفظ لنا القديس چيروم باسم جميل لمبنى الكنيسة وهو (مجمع الشهداء) أو Conciliabula Martyrum.ويقول لكتانتيوس في دِفاعه عن المسيحية أنه في زمان اضطهاد دقلديانوس كان الوثنيون قد قرروا ”سفك دم المسيحيين حتى أنهم في فريچيا أحرقوا جماعة كاملة في الكنيسة حيث اعتادوا أن يجتمعوا“، ويسجِل أرنوبيوس نفس الكلام في دِفاعه ويقول ”لماذا تحرِق كُتبنا المُقدسة في النار؟ لماذا تُهدم كنائِسنا وتُحرق؟“. القمص أثناسيوس فهمي جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج عن كتاب الاستشهاد في فكر الآباء
المزيد
16 مارس 2021

حِوَارٌ عَلَىَ جَبَلِ التَّجْرُبَة

كم من مرة جعتُ وكان جسدي يريد أن يأكل؛ لكنني امتنعتُ عن تناول الطعام كي أستحق الطوبىَ بالجلوس على مائدة السمائن الروحية... عطش جسدي الذي جُبل من طين الأرض وترابها، ورغبتُ أن أشرب الماء؛ لكنني صمتُ حتى أرتوي من ندى النعمة والرحمة... ناظرًا إلى صومك عني ولأجلي لأنك لم تكن محتاجًا لأن تصوم، فقلتُ كم أنا المحتاج للصوم حتى تتصور أنت فيَّ وتشكِّلني على شكلك الخاص... عندما استهوتني الشهوة والترف؛ تطلعتُ إلى مرارة الخل التي تجرعتَها لأجلي يا مخلصي؛ فأقمتُ من نفسي لك كنيسة محسوسة؛ أقدم لك فيها العبادة العقلية الناطقة بأتعاب جسمي؛ بخورًا وعطورًا لتشتمّها رائحة رضىً ومسرة عندك. عند رؤيتي لك صائمًا؛ أتدرب لأجعل ذهني وإرادتي مذبحًا لك؛ لعلني يا مخلصي أقدم ذاتي قربانًا وصعيدة لك؛ كي تكملها وتقبلها... نسيتُ الجوع ومرارة الحلق لمّا رأيتُك مصلوبًا بين اللصين تتذوق مرارة الأفسنتين لأجل خلاصي... نسيتُ ضيق العطش وكأنه لم يكن؛ لأنك أنت تُرويني حلاوة من نبعك ومَعِين جنبك المفتوح الذي لا ينضب... لن أُعيرَ للأطعمة اهتمامًا؛ بعد أن تطلعتُ إليك وأنت معلقًا على عود الصليب؛ تمتص الخل من الأسفنجة. لذا صمتُ لأتشبه بفعل صومك؛ كي أميت بالروح أعمال الجسد وشغبه... أذللتُ بالصوم نفسي (مز ١٣:٣٥) لأنك من أجلي احتملت المحقرة ومذلة الجلد والبصاق. سأرجع إليك بالصوم من كل قلبي لأنك رؤوف ورحيم. أعمل بإسمك ولحسابك وبإمكانياتك؛ فأكتشف الكنز وأنتصر في التجربة؛ وأرجع إليك مع الابن الشاطر؛ وأشرب من نبعك الحي مع السامرية، وأقوم مع المخلع وأستنير مع المولود أعمى ومع كل شعبك، مقدمين لك ذبائح حية بخدمة محبة حارقة مبتعدة عن كل مَناهيك (مناهي الله)... تقدمة عاقلة لك بنار السجود والتوبة؛ وذبيحة متحدة بذبيحتك التي بها حملتَ العقاب الذي كان علينا. خاضعًا للتأديبات التي نستحقها؛ متنازلاً لما نحن عليه؛ منحنيًا لتحمل عنا اللعنة وترفعنا إلى مركزك المبارك... بإقامتك لنفسك أمامنا نموذجًا لنا؛ مجهزًا إيانا بسلاحك الكامل من أجل نصرة مشيئتك؛ التي تجعلنا نصير من أجلك كما صرتَ أنت من أجلنا. صرتَ مثالاً عمليًا لنا في كل شيء؛ جعتَ وأنت الخبز النازل المعطي الحياة؛ قوام كل شيء؛ لأنك الأعلىَ من الكل بلاهوتك والمساوي لنا في بشريتك؛ صمت عنا أربعين يومًا وأربعين ليلة؛ لتؤسس لنا طريق الجهاد الروحي؛ ولتعلمنا كيف نواجه عدونا اللعين الذي يعمل في أبناء المعصية؛ مهيئًا لنا طريق السموات منتصرًا على الشيطان الذي كان غالبًا لنا؛ فطرحته إلى أسفل وعريته من قوته؛ ونزعت سلاحه كي تمنحنا نصرتك في رحلة صومك؛ ولكي يصير لنا الإدراك الروحي والعِلم الخاص بك؛ فنصعد معك على جبل التجربة لنُميت شهوات أجسادنا؛ ونضبط أنفسنا؛ ونبرأ من نزف دم الحرفية والناموسية والشكلية والنفسانية... فلا نتلاهىَ عن أبديتنا فيما بعد؛ لأنك صنعت من نفسك طريقًا لنا كي نتبع خطواتك. عندما تصوم حواسنا ونجوع لك؛ تكون أنت شبعنا وخبزنا ومِلئنا؛ حينئذ نتكل عليك يا الله الحي؛ فلا ننهار من التخاويف؛ ولا نسقط تحت وطأة وعيد وتهديد الأشرار؛ ولا تؤذينا حرارة نيران هذا العالم... صومنا يليِّن قلوبنا المتعاظمة المُتخمة من قساوتها وغلاظتها؛ فترجع وتتوب إليك؛ لأنك لا تسكن في المستريحين والمدللين؛ والرخاوة عندك لا تُمسك صيدًا. ننعم بفصحك على أعشاب الصوم المرة؛ مرافقين لك مسيرة جبل التجربة في أمانة الشركة حذرين من غش الشركة؛ لنصير شركاء طبيعتك الإلهية. كيف لنا أن نجوع وأنت قد رتبت لنا مائدة تجاه مضايقينا؟! كيف نجوع بينما كل شيء مُعَد؛ ووليمة السمائن موضوعة لجميع الشعوب؟! إنك تعرف ضعفنا ونقصنا ولا تقسو علينا؛ لكنك تريدنا مثلك؛ فاتحًا لنا طريق الغلبة بإنتصارك على المجرِّب في موقعة جبل التجربة... كي لا نسقط ثم يُسرع العدو ويتهمنا ثم يلتهمنا؛ بل نُبطل حيله هادمين كل ظنون وإرادة ذاتية؛ عندئذ نردّ لك وديعتنا سليمة كاملة على ذات الحال الذي أخذناها عليه؛ وصورتك المقدسة قائمة وصحيحة فيها؛ لأنك تطلب بهاءك المغروس فينا: فلا نخدم سيدين؛ ولا نهتم بالغد؛ ولا نكنز كنوز الأرض. إن التجربة على الجبل هي إحدى شوامخ تدبيرك الإلهي؛ عندما تقدمت لتصارع وتغلب العدو كباكورة لنا -(آدم الثاني الجديد)- عدو جنسنا الشيطان؛ فتُسلمنا خبرة حياة؛ لأن آدم الأول كان عِلة سقوط؛ بينما أنت موضع النصرة... فالأول نفساني ترابي؛ لكنك أنت روح مُحيي الرب من السماء... علمتنا أن لا نطيع الشيطان؛ ولا ندخل معه في حوار البتة؛ فنتعلم منك الطاعة التي تألمت بها؛ بالخبرة والعمل؛ فتعليمك فعل وممارسة... علمنا في صومك أن نصنع صدقة ونقدم صلاة وصومًا في الخفاء. علمنا أن لا نعود نكسر وصاياك ولا نأكل من المحرَّمات؛ بل نتناول كل طعام وعمل ومشيئة من يدك؛ مدركين أن حياتنا ليست من اللباس ولا من الطعام؛ لكنها نسمة من عندك؛ وأنت الذي تمنحنا كل شيء بغنى للتمتع؛ فنلتقي بك عند ماء بئر يعقوب؛ وعند بركة بيت حسدا؛ وقبالة بركة سلوام؛ حتى لا نعود نطعن أنفسنا بأوجاع كثيرة؛ بل نسجد لك بالروح والحق؛ ونجحد إبليس علانية وكل أعماله وكل أفكاره وكل بقية نفاقه... كما يقول مار إسحق: (إن السجود يُرعب الجن؛ لأنه يشتهي أن يُطاع هو؛ وأن يخضع له الناس). إننا نسجد لك صائمين؛ لأنه من غير الجائز أن نسجد ونحن ممتلئو البطون؛ كي نخرج معك بالروح؛ ونتعلم إجتياز كل ما عملته؛ حتى لا نكون عاطلين؛ بل نتيقن مما أودعته لنا من كنوز أدويتك؛ ففيك نربح كل شيء؛ لأنك قمت وأعنتنا. في صومك في البرية؛ علمنا أن نقاوم إبليس فيهرب منا؛ أنك أُصعدتَ بحسب ما يقتضيه منطق التدبير كي تُجرَّب؛ لتعلمنا أن نلتصق بك ونتحد مع بقية القطيع؛ فننتصر... قدمت لنا صومك كي ترسم لنا طريق نصرة الخلاص. كمثل طبيب تعفينا من الموت؛ وتشفينا من كل سهام. وضعت على نفسك الصوم بدلاً عنا؛ كي تكون لنا مثالاً؛ وكي تردنا إلى الفردوس؛ وتنجينا من طوفان هذا العالم ومن بروق سدوم وعامورة الحارقة؛ التي كان إثمها الكبرياء والشبع من الخبز والإسراف في التنعم (حز ٤٩:١٦)؛ وبهذا تدلنا على أدوية خلاصنا؛ وعلى تصديق حقيقة وعظمة تدبيرك. بك ومعك تصير ثمرة صومنا نافعة؛ فلا تهزمنا التجربة ولا تغطينا ظلمة الآلام؛ لأنك قتلتها بآلامك الشافية المُحيية... سمحت لنفسك أن تُجرَّب باعتبارك الوسيط بيننا وبين الآب؛ مريدًا أن تُعيننا كي ننتصر بك يا من تقدر أن تعين المجربين... صمت أربعين يومًا ولم تصم أكثر من موسى وإيليا؛ لأنك أخذت جسدًا مثل أجسادنا ولم تُزد عنهم لئلا يكون تدبير تجسدك غير مصدَّق... أجبتَ أيها الكلمة بالكلمة الإلهية التي خرجت من فمك والمكتوبة والتي بها وحدها ننتصر؛ وأتيت بشهادة سفر التثنية؛ لأن كل من لا يعيش بك وبكلمتك لا يحيا. كلمتك التي هي أنفاسك ومشيئتك التي أعلنتها في الأسفار الإلهية؛ وهي التي تحمينا من تربُّص إبليس بنا؛ حتى في الأماكن المقدسة... عندما يوقفنا على جناح الهيكل ويحاربنا بالمجد الباطل وبالنصيب الأكبر؛ كي يطرحنا إلى أسفل بفخاخه... إنه يستخدم كلامك ويوظفه بقصد شرير ليخدعنا؛ لأن كل واحد يلقي بنفسه إلى أسفل بمشورته؛ إنما يهلك بمشورة نفسه. حقًا إن عدونا لا يقدر على أحد؛ لكن كل من يتهاون بخلاص نفسه؛ إنما شهوته هي التي تصرعه. في صومك يا رب نقتفي خطواتك؛ لأنك أنت وحدك الأقوى من القوي... والقادر وحدك أن تغلبه وتنزع سلاحه وتعلن سلطانك وقوتك؛ التي بها نعبر برية هذا العالم ونقاوم فظاعة مساكنة الوحوش والذئاب؛ ونحن محاطين بقوة خدمة ملائكتك وبوعدك لنا بأن الشيطان يسقط مثل البرق... إنه يقف ضدًا لنا في تحدٍّ... يجول ويزأر كي يبتلعنا منذ يوم معموديتنا وهو يحاربنا ويهدد وجودنا؛ إذ أن باب التجربة سيستمر مفتوحًا على طول المدى؛ حتى وإن تركنا إلى حين؛ لكنك أعطيت النصرة كميراث وكحق لكل من يجاهد على قدر طاقته ضد هذا المعاند والمشتكي. بإسمك ننتهر هذا المعتنف والقتَّال للناس حتى لا نسقط وحتى لا يشتكي هو علينا؛ معلنين أننا لسنا من خواصه وأنه ليس له فينا نصيب. متمسكين برجائنا فيك؛ حتى لا نيأس من مجاذباته. متذكرين أننا وُلدنا منك؛ وأنك أنت قد أدنت الخطية في الجسد؛ فلن تسود علينا. فلنلتقط أسلحتك يا رب؛ حافظين أسفارك لنحيا بكل كلمة تخرج من فمك؛ ونُشهر كلمتك في وجه الشيطان الذي يخدعنا بكلمات مكتوبة؛ لكنها معسولة؛ كدافع للتجربة. أنت من سمائك ترعى أعوازنا؛ وتهب لنا منَّك السماوي... فشتّان بين تدبيرك وبين حيل الشرير الجهنمية... إنك لن تطرحنا إلى أسفل ولن تدعنا نسقط أو نرتد إلى خلف؛ لأنك تحملنا على الأذرع الأبدية... فكل شيء قد دُفع لك؛ وأنت تعطيه لمن تريد؛ تعطيه لكل من لا يخر ولا يسجد لإبليس ولا لمجد ممالك عالمه الدنيوي الفاني؛ تلك التي يملك فيها على رقاب العباد بالغش والخداع والظلم وإزهاق الأرواح... إننا نتمسك بنصرتك يا مسيحنا ونسلمك مشيئتنا في ساعات الظلمة؛ لنغلب بك أعوان الشيطان (اذهب يا شيطان) فلك وحدك نسجد وإياك وحدك نعبد... في جبالك تقود نصرتنا وأمجادنا من جبل التجربة إلى جبل التجلي إلى جبل الجلجثة ونحن تحت مشيئتك؛ إذ أنك تعطينا مع كل تجربة المنفذ؛ فلا نتجرب فوق ما نستطيع؛ لكن بك ننجو من الشرير. بصومك تعضدنا ضد مجاذبات الشهوة؛ وتعلمنا كيف نظفر بالشيطان. بصومك تردنا دفعة أخرى إلى الفردوس الذي منه طُردنا بسبب عصيان آدم الأول. علمتنا أن لا نسقط في الحفرة؛ ولا نبتلع الطُعم؛ لكن نعبر من البرية إلى الفردوس؛ وننظر إلى طريقك لنسلكها. بصومك أربعين يومًا؛ وبهذا الرقم السري؛ فتحت لنا طريق الدخول بمجد إنجيلك؛ لأنك في صومك لم تجُع إلى خبز الجسد؛ بل إلى خلاصنا... عدونا المحتال ظن أنه سيجربك ويظفر بك... فبدأ بما سبق وغلب به آدم من قبل؛ لكنك ظفرت به لأجلنا كي نتغذى بكلمتك الحية بدلاً من خبز الأرض؛ ولكي ننشغل بالخبز الجوهري غير المنظور الذي يثبت قلوب البشر (مز ١٥:١٠٣)... فنحن لا نحيا بالخبز وحده؛ بل كلمتك الآتية من عندك هي قُوت وقوام نفوسنا. وصومك يعلمنا أنه لا بد أن ننقاد بالروح حتى تصير لنا الغلبة ونبتعد عن المجد الفارغ والافتخار وشهوة الأعمال الخارقة والتزويق لئلا ننحدر إلى أسفل في الهاوية. فعدونا لا يقدر أن يؤذي إلا ذاك الذي يلقي بذاته إلى أسفل؛ فمن يترك عنه السماء ليختار الدنيا تتدنى حياته؛ ويسقط في الهُوَّة وقبض الريح؛ لأن هذا العالم وممالكه التي نراها في لحظة من الزمان هي أيضًا ستفنىَ وتنحل في لحظة؛ إنه عالم بائد وفانٍ؛ وهو من الهزالة والزوال؛ بحيث أنه يمضي قبل أن يأتي؛ لأنه سراب ولم يخرج منه أحد بشيء. لقد قبلت بإرادتك أن تُجرَّب من الشيطان لتحولنا إلى شخصك؛ ففيك نُجرَّب؛ لأنك أخذت جسدنا وموتنا لتعطينا حياتك وخلاصك... منا أخذتَ الإدانة والتجربة وأعطيتنا البر والغلبة؛ وإن كنا نتجرَّب فيك؛ ففيك أيضًا الغلبة على الوحوش الرابضة في أعماقنا؛ وعلى الوحوش الرابضة من حولنا؛ لأننا لن نفوز بالإكليل إلا إذا غلبنا؛ ولا يمكن أن نغلب إلا إذا جاهدنا؛ ولا يمكن أن نجاهد إلا بنعمتك غير المغلوبة... فالمجد لك يا محب البشر؛ يا من أبطلت قوة العدو وحيله وحججه؛ وفضحت المجرِّب؛ وعلمتنا المسلك. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
03 نوفمبر 2020

الملكة هيلانة المحبة للمسيح

ذهبت الي اورشليم مدينة الهنا ،لتبحث تحت كوم رابية الجلجثة ،واستمرت في سعيها باجتهاد ،الي ان وجدت الخشبة العتيدة،مع الخشبتين اللتين صلب عليهما اللصان ،مع السيد عليهما،وقد وضعت ميتا علي الصلبان الثلاثة ،فلما وضع علي احدهم ،،،قام الميت حيا للوقت ،،،،كذلك تميز صليب المخلص بالمكتوب علية ...عظيمة هي هيلانة التي اجتهدت وسعت باشتهاء مقدس لتري خشبة عود الصليب ،،ولم تمل البتة حتي وجدتة ،فيالها من غنية صالحة وملكة تقية،اخذت الوف الجند ورافقتهم الي جلجلة الاقرانيون ،وهناك اظهر الرب صليبة ،وعندئذ سجدت الملكة لملك الملوك،وقد وجدت ايضا المسامير الخلاصية..الطوبي لك ايتها العظيمة الملكة هيلانة ام الملك قسطنطين ،لانك رفعت علامة الخلاص والافتخار. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
17 نوفمبر 2020

دُرُوس فِي ذِكْرَى أَنْبَا أَثَنَاسْيُوس مُطْرَانِ بَنِي سوِيف

عاش انبا أثناسيوس فقيرًا جدًا لا يملك شيئًا، وكل مَن اطَّلع على حياته يجد نذور الكفاف والعفة وفقر الاختيار وحفظ عهود الرهبنة وقوانينها. فكان راهبًا ناسكًا غير معجب بنفسه؛ ملازمًا للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم. وأنموذجًا للأسقف الكنسي "صورة الآب السماوي"، إنجيليًا روحانيًا ولاهوتيًا منهجيًا وراعيًا واقعيًا، وأبًا قائدًا صنع مدرسة من القادة، شغلوا مواقع ريادية في العمل الكنسي المعاصر. مؤسسًا لخدمة متكاملة؛ بناها على معرفه التقوى وبرهان الروح والقوة. لذا تتلمذت له أجيال من المكرسين والخدام والرعاة في كل أنحاء الكرازة المرقسية أحب الليتورجيا وقدم أعظم مثلٍ لليتورجيا ما بعد الليتورجيا في أعمال الدياكونيا والتوزيع والافتقاد والتنمية والرهبنة العاملة، محولاً إيبارشيته إلى خلية نحل وورشة عمل دائمة ودائبة في الكيان الالهي الكنسي الحي بالشركة في خدمة كيان البشر كسامري صالح .وبالرغم من ذلك؛ كان حضوره هادئًا رزينًا، لكنه أيضًا فاعل ومرهوب من دون ضجيج أو بهرجة، مرتقيا بتلاميذه؛ جاعلاً منهم شركاء معه في العمل والتدبير والرسالة علي مستوي حضاري لاهوتي راقي وواقعي .إنه بحق رجل المؤسسات الكنسية المبنية على أساس لاهوتي وعلى نور الإنجيل في واقعية آبائية؛ تعبُر إلى الذين في الشتات لتعينهم.. فكان له دوره الكبير والريادي في الأعمال الموسوعية والتنموية؛ والعمل المسكوني والدياكوني والاجتماعي المعاصر . عاش غريبا في هذا العالم ،معطيا المثل لكل الرعاة بحياته وقدوة سيرته ونسكه الصحيح ،فلم يجمع ويبني كأداة للتعبير عن كيانه وشخصه ،لانه اختبر ان كيانه ووجوده آت ومتطلع الي كمال حياة الدهر الاتي ، لذلك لم يعتمد مفاخر الإنجازات لتكون جوهر عمله الرعوي ، لانه كان يستمد وجوده الكياني من شركته الافخارستية ومن التصاقه بأعضاء المسيح المطروحة والمعذبة ومن تقواه ومخافته وخدمة محبته الكونية universal .كان أيضا فيلسوفًا في ترابط الإنسانية والكنيسة في صورتها الجامعة والخادمة.. لذا صار رائدًا في خدمة التفسير والتكريس والتدريب والتكوين وتربية النشئ ورعاية المغتربين والمهاجرين وجامعي القمامة "الزبَّالين "غير مبتغي أيَّة وجاهة أو صدارة.. فقد قال لي ذات مرة "أن نصيب من يخرج للحرب كنصيب الجالس عند الأمتعة"، وقال أيضاً "إن العبرة ليست في عدد الوزنات لكن فيمن تاجر بها وربح" فالكل من أجل رب واحد؛ له وحده أن يزيد.عاش انبا أثناسيوس ثابتًا علي الدوام في الحق الحاضر، كرجل الإنجيل والكنيسة والتفسير والمبادئ المعاشة بصمت عامل وعمل صامت.. مرتفعًا فوق الأحداث والمصاعب. وقد أرسل الله هيبته أمامه وعمل بسيرته التي تتكلم حتى اليوم تذكارًا وتمجيدًا لعمل الثالوث القدوس الممجد الآن وكل أوان. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
30 مارس 2021

حِوَارُ السَّامِرِيَّةِ

كان حوار المسيح مع السامرية اختبارًا لأحضان الله المفتوحة مع كل إنسان؛ اختبار للقاء مع كل أحد مهما كان أصله وجنسه وسيرته؛ اختبار البحث عن الخروف الضال والدرهم المفقود.. في لقاء يتخطىَ القيود والحدود والموانع والأجناس. فقد جاء السيد ليلقي بذرة الإيمان الحي في تربة السامرة التي تقبلت الكلمة بالإيمان لا بالمعجزات خلال لقائه مع السامرية؛ إذ كان لا بُد له أن يجتاز السامرة عطشانًا إلى مائها كعطشه على الصليب من أجل خلاص العالم كله. أتى المسيح بنفسه متجسدًا متخليًا عن مجده الإلهي؛ ليقيم موتى الذنوب والخطايا؛ وليخلص العالم كله؛ وقد تعب من السفر والمشي من أجل التفتيش على كل نفس. واليوم سعى من أجل نفس المرأة السامرية؛ وهو في تدبيره الصالح يُعد لنا ولكل ضال ولكل سامرية ولكل مخلع ولكل مولود أعمى أجمل الاختبارات والبركات والتعزيات. سعى إلى كل من تركوه من أجل شهوات العالم... سعى في طلب الضال وتعب كأب حقيقي مع كل ساقط؛ ليربطه بالأدوية المؤدية إلى الحياة.. تعب وهو مريح التعابىَ. وعطش وهو يُنبوع الماء الحي. وجلس عند البئر وهو نهر الحياة الوحيد.. ترك خدمة أورشليم حيث الهيكل والمجد وكراسي التعليم؛ ليذهب ويفتش ويتعب بحثًا عن النفس البعيدة. وكما أنه استراح على الصليب في وقت الظهيرة وحمل أتعابنا وآثامنا وأعلن عطشه لكل نفس بشرية واجتاز المعصرة وحده.. هكذا مشى وتعب اليوم من أجل نفس واحدة... فرحلته وتعبه وجلوسه هو الجسد الذي أخذه من أجلنا ومن أجل خلاصنا، وطعامه الحقيقي في أن يتمم مشيئة الآب في خلاص النفوس.. فبينما السامرة فرغ ماؤها؛ فرغت قانا من الخمر.. فالأولى أعوزها سر الفرح؛ والثانية أعوزها سر الحياة، ولا فرح ولا حياة من دون خلاصه الثمين.. لم يكن مجيء السامرية عند البئر مجرد مصادفة؛ بل هو تدبير إلهي من أجل خلاص نفسها، إنه تدبير من يصنع الأمور المقضي بها على الأرض، وقد اشتمل هذا التدبير الإلهي تدبير الزمن في وقت الساعة السادسة ليكون وقتًا مقبولاً ووقت خلاص، وفي تدبير المكان ليكون عند البئر حيث ماء يُنبوع الحياة والتقديس والتجديد بالمعمودية.. فلم يكن تدبير الرب لخلاص السامرية سوى صورة لتدبيره الإلهي لخلاص البشرية؛ لأنه في ملء الزمان جاء ابن الإنسان وأخلى نفسه وظهر لنا بالظهور المُحيي... جاء إلى الخطاة وقرع بابهم وصرخ على الصليب أنا عطشان (أعطني لأشرب)؛ إذ أن عطشه لا إلى ماء بل إلى خلاص النفوس... أتى كمحتاج يمد ذراعه طول النهار؛ ليدعونا إلى ملكوت محبته؛ بينما نحن لا نعلم عطيته لنا؛ وأنه ليس ماءًا يروي ظمأ الجسد؛ بل ماءًا حياً لحياة أبدية... عطيته لنا ذبيحة ومائدة رتبها لنا المنّان أمام مضايقينا. عطيته لنا كلمته الحية في بشارة الخلاص المفرحة. عطيته لنا أن نكون أبناء وورثة ورعية مع القديسين. عطيته صارت لنا به لنتخطى كل الصعاب؛ فلا دلو ولا أعماق ولا قصور في الإمكانيات ولا مقاييس تحُول دون بلوغنا تطهير ضميرنا من الأعمال الميتة. لقد بدأ المسيح حديثه مع السامرية (واقف على الباب أقرع) رؤ ٢٠:٣؛ طالبًا إليها أن تعطيه ليشرب (أعطني لأشرب = يا ابني أعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي) أم ٢٦:٢٣.. فإذ بالحديث يتحول بأن تطلب هي إليه أن يعطيها لتشرب. فمسكين هو من يعتقد في جهله أن الرب هو المحتاج إليه.. ومسكين هو من يتعلل بالدلو والبئر ويصنع الحواجز بينه وبين المسيح (لم تكن أنت المحتاج إلى عبوديتي بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك). مسكين هو من يظن أن الرب محتاج إلى خدمته أو إلى دوره أو إلى عشوره وتقدماته.. إنه ملء الملء لا يزيد ولن ينقص.. نحن المحتاجون إلى ماء الحياة لنحيا ولا نعطش. فإن كانت ماديات العالم وأموره تروي ظمأ الإنسان إلى حين؛ إلا أنها لا تروي عطشه العميق إلى الأبد... الله وحده هو الذي يملأ كيان الإنسان؛ فبه نحيا ونوجد ونتحرك؛ وحتى ولو عملنا كل البر من أجل اسمه فنحن عبيد بطّالون. لقد كشف المسيح للسامرية عن نفسه كي تذهب وتدعو زوجها؛ لأنه قبل أن يعطينا ماء الحياة؛ لا بد أن نقر بخطايانا معترفين بها تائبين عنها؛ وعندئذ نرتوي بماء الحياة.. لقد رأى المسيح السامرية أمامه ميتة كلعازر الميت الذي أنتن في القبر؛ وكان لا بد له أن يقيمها من خطاياها ويمنحها ماء الحياة؛ وهو العالِم بكل أسرارها الخفية؛ لكنه لم ينهرها ولم يشهّر بها؛ بل مدح الحسن الذي فيها لأنها حسنًا قالت الصدق... إنه يُخرج من الآكل أُكلاً ومن الجافي حلاوة؛ لم يفضح شرها وزناها؛ لكنه بارك قولاً واحدًا اعتبره صدقًا.. إنه طبيب الرحمة والتحنن الذي لا يخرجنا خارجًا؛ بل يتأنى على كل فتيلة مدخنة وقصبة مرضوضة. إن قولك يا رب محسوب حسابه؛ فقد كلمت السامرية سبع كلمات بميزان العد والتصنيف؛ بلا زيادة ولا نقصان؛ وكلماتك محسوبة ومقننة في سُباعيات: سبع تطويبات في العظة على الجبل، وسبعة توسلات في الصلاة الربانية، وسبع كلمات على الصليب، وسبع رسائل يقولها الروح للكنائس؛ إنها سهام سباعياتك المحكمة الوزن والعد؛ فإسمح أن نسمع وننصت بحكمة لندرك ما أدركتنا لأجله ونشرب ماء تقديسك الحي الذي للحياة الأبدية؛ ماؤك الجاري كاليُنبوع؛ تمنحه لنا بسخاء أكثر مما نطلب أو نفتكر؛ لأنه فوق كل شيء وأنت الذي تسند المُعيَ بكلمة؛ وتمنحنا ماء التنقية والتطهير والفهم والراحة؛ وتسقينا من ماء الدسم والنعمة وفطنة الحكمة؛ وتصيّر الساقية نهرًا؛ والنهر بحرًا وغمرًا.. فما السامرية إلا أنا وأنت؛ وقد سعيت إلينا يا مسيحنا... تعبت وعطشت نحو الساعة السادسة من النهار لأجلنا. فهل نعلم الآن ما هي عطيتك لنا؟! وهل تيقنّا عن من هو الذي يكلمنا ويتحدث إلينا؟! وهل عرفنا الذي استعلن نفسه لنا كمخلص وفادٍ؛ وفتح عيوننا لنرى احتياجنا الحتمي له؛ لا كسيد ولا كنبي؛ بل كرئيس خلاصنا؟؟!! هل شربنا ماءه الفياض الحي المجاني والمُروي؟؟!! إنه اليوم قد صار لنا يُنبوعًا نشرب منه فلا نعطش إلى الأبد؛ وهو يوردنا إليه لكي تجري من بطوننا أنهار ماء حي؛ فتملأ الأواني والينابيع وتفيض بجداول النعم الحسنة؛ حيث ينابيع الخلاص والنهر الصافي ومياه الفرح؛ محسوبين مع الساجدين الحقيقيين لآلامه بالروح والحق؛ لأن الذي يكلمنا هو... وقد قال لنا كل ما فعلنا.. فلنذهب إذن لنبشر به ونخبر بكم صنع بنا ورحمنا. القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل