المقالات

10 ديسمبر 2020

شخصيات الكتاب المقدس إسحق

"وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام" تك 26: 31 مقدمة لست أعلم إن كان كتاباً يعطي أنماطاً لا تنتهي، وصوراً مختلفة للناس، كما يفعل كتاب الله العظيم الكتاب المقدس، إنه أشبه الكل بالبستان الواسع الرحب، الذي تجد فيه الصنوف المتعددة المختلفة من الأزهار والأشجار والأثمار، وهو الساحة الكبرى أن تنتقل فيها، وأنت تعرض لقصص الناس، بين الجبال والوهاد، والسهول والمروج، والصحاري والوديان، والجداول والأنهار، حتى يمكن أن تقع العين على العملاق والقزم، المنتصب والقميء، الجميل والقبيح، الخير والشرير، الأبيض والأسود على حد سواء،.. فإذا كنت تقرأ مثلاً قصة أبي المؤمنين إبراهيم، وترى نفسك إزاء عملاق من عمالقة العصور، وبطل من أبطال الأجيال، ورجل من أعظم رجالات التاريخ، فإنك عندما تتحول فجأة إلى ابنه إسحق، ستجد نفسك إزاء رجل آخر يختلف تمام الاختلاف عن أبيه، فإذا كان أبوه يتسم بالحركة، فإن الابن أدنى إلى السكون، وإذا كان إبراهيم أظهر في الإقدام والجسارة، فإن إسحق أركن إلى الهدوء والدعة،.. وإذا كان أبو المؤمنين نموذجاً غير عادي لمن يطلق عليهم النوادر من بني البشر، فإن إسحق أقرب إلى الإنسان العادي الذي تكاد تلاقيه بين عامة الشعوب، وإذا كانت ميزة إبراهيم الإيجابية المندفعة إلى الأمام، فإن ميزة ابنه السلبية القابعة الساكنة الرابضة في كل هدوء،.. وإذا كان أبو المؤمنين يكشف في مجمل حياته عن "الصداقة الكريمة المتعمقة مع الله" فإن السمة البارزة في حياة إسحق، هي سمة "السلام" فهو الإنسان الهاديء الذي يحب السلام، وينشده من كل وجه، وهو الذي يرغب دائماً في الجلسات الهادئة دون معكر أو منازع،.. وهو ضيق أبلغ الضيق، مرير أبلغ المرارة، إذا شابت سماءه غيوم أو عواصف، وهو لا يسلم من هذه العواصف داخل بيته، أو من الجيران المتربصين الحاقدين الحاسدين خارج هذا البيت،.. ولكنه مع ذلك هو الإنسان الذي يبذل كل جهد أو ثمن في سبيل الحصول على السلام، وهو متعثر في ذلك حيناً، ناجح على الأكثر والأرجح في أغلب الأحيان،.. وهو في كل الحالات النموذج الكتابي العظيم للإنسان الذي يحب السلام، ويسعى إليه، ويطلبه من كل وجه، ولذا يحسن أن نراه في معرض الكتاب في الصور التالية: إسحق.. من هو؟!! إن الصورة التي يرسمها لنا الكتاب عن إسحق، تعطينا الانطباع، بأنه الإنسان الضعيف البنية، وربما نشأ هذا في ذهن الكثيرين من الشراح لمجيئه المتأخر من أبوين مسنين، إذ هو ابن الشيخوخة، وليس هو كما وصف يعقوب رأوبين: "أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز".. ولعل الذي زاد هذا التصور عند هؤلاء الشراح، أو رجحه هو القول الذي ورد في رسالة غلاطية عن علاقة إسحق بأخيه: "ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح، هكذا الآن أيضاً" ومن المعلوم أن أخاه كان أوفر قوة، وأصح بدناً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه،.. وهيهات أن يقارن به إسحق من الوجهة البدنية، والذي كان يقع دائماً تحت سطوته ورهبته إلى الدرجة التي أصرت معها سارة على طرد هاجر وابنها، الأمر الذي ساء في عيني إبراهيم، واستجاب له عن ضيق وألم واضطرار،.. وقد يكون هذا الاضطهاد المبكر، من الوجهة البشرية الخالصة، هو الذي أورث إسحق نوعاً من الحياة الانطوائية المنعزلة، فهو ليس الإنسان الذي يتفتح قلبه للجلسات مع المجتمع الصاخب حوله، وهو ليس الإنسان الذي يهرع إلى الناس، يبادلهم الزيارة والحديث والتعامل والضجيج، بل هو على العكس من الصبح الباكر في حياته، إنسان يأنس إلى الوحدة، ويلوذ بها، ويعيش في كنفها، وليس أحب إليه أن يجلس أياماً وليالي، دون أنيس أو صديق،.. فإذا سئل كيف يمكنه أن يعيش هذه الحياة، ويؤثرها، وتحلو له؟!! ربما أجاب إجابة برنارد شو عندما سأله أحدهم: لماذا يحب العزلة؟ فكان جوابه: "لأني أريد أن أجلس مع إنسان ذكي وهو يقصد بذلك نفسه، إذ يجلس إليها مفكراً متأملاً، مع هذا الفارق البعيد أن برنارد شو مهما اتسع في حديثه مع النفس، لم يصل إلى الحياة المتأملة مع الله التي كان يعيشها إسحق طوال حياته على هذه الأرض،.. كان إسحق منعزلاً ولكنه كان ابناً لله، ولقد أطلق عليه أحدهم "ورد ثورت عصره" أي الإنسان الذي كان يتمشى مع الله في سفوح الجبال، وكأنما الطبيعة كلها قد تحولت عنده إلى هيكل أو معبد لله،.. ولعله مما يجدر ذكره أن رفقة رأت إسحق لأول مرة عندما "خرج إسحق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء".. وهكذا كان إسحق على الدوام في الحقل أو الصحراء، في المساء أو الشروق، هو الإنسان المتأمل الذي ينصت في السكينة إلى صوت الله، ويتحدث في عمق وهدوء وتأمل إلى سامع الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر!!.. كان إسحق إذاً ذلك الإنسان الهاديء الساكن المجبول على الوحدة والعزلة، والإنصات والتأمل، وهو أدنى إلى الله منه إلى الناس، وهو أقرب إلى المولى منه إلى البشر، وهو في كل الحالات الإنسان الذي يؤثر الهدوء، ويغري بالسكينة، ويمتليء فرحاً بالنسمة الهادئة، والجدول الرقراق، والعصفور الصغير الذي يزقزق في عشه من غير خوف أو فزع أو اضطراب،.. هل كان عنف أخيه كما ألمعنا هو الذي حبب إليه الحياة الهادئة من مطلع العمر؟ أم أنه ورث الهدوء عن أمه، وكان أقرب في طباعه إلى هذه الأم من أبيه؟؟. أغلب الظن أنه أعجب بالحياة الساكنة الهادئة لأمه، وأن هذه الأم كانت حضنه الهاديء الآمن الذي يلوذ به من عنف أخيه وقسوته وشراسته، وأن هذا الفارق البعيد بين دعة أمه، وعنف أخيه هو الذي جعله يتشبث بالسلام، وينزع إليه، ويحبه، وينشده طالما وجد السبيل إلى ذلك، في رحلته الأرضية التي طالت إلى المائة والثمانين من عمره بين الناس!!على أن هذا كله في عقيدتي كان يبدو ضعيفاً وناقصاً ومبتوراً، ما لم يعثر إسحق على السر الأكبر في حياته في اتجاه السلام مع الناس، ألا وهو السلام مع الله، وذلك لأن السلام مع الله، هو أساس كل سلام، وسر كل سلام في حياة الإنسان على هذه الأرض،.. كان إسحق إنسان الصلاة، أو الإنسان الذي إذا ضاق بالحياة، وضاقت الحياة به، أو إذا عكر صفو سلامه لأي سبب كان يشق طريقه إلى الله ليغلب همه وينتصر على ضيقه بالصلاة،.. وبعد مئات من السنين وقد طافت الهموم بواحد من أبنائه إذ غشيه الاضطراب والضيق، ولعله في تلك اللحظة كان يرى طائراً يرف بجناحيه في أجواز السماء فصاح: "ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير وأستريح هاأنذا كنت أبعد هارباً وأبيت في البرية كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء".. على أنه سرعان ما أدرك غباء فكره، وحماقة تصوره، فاتجه إلى المصدر الوحيد للأمن والهدوء والسلام، وقال: "الق على الرب همك فهو يعولك لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد".. أجل.. وفي يقيني الكامل أن الصلاة عند إسحق كانت العلاج الأعظم لمشاكله المتعددة وهو يمد يده من أجل السلام مع جميع الناس!!.. إسحق وقصة السلام مع الناس وربما نستطيع أن نفهم قصة إسحق مع السلام في علاقته بأقرب الناس إليه وأبعدهم عنه، إذا سرنا وإياها مع التتابع الزمني: إسحق وأخوه كان أخو إسحق الأكبر قبلة النظر ومحط الآمال، عندما جاء مولوداً من هاجر الجارية المصرية، وكان –كما أشرنا- قوي البنية، متين البنيان، ومن غير المتصور أن يقبل التزحزح إلى الظل عند مولد أخيه الأصغر، ومن ثم كان لابد أن يظهر بطبيعته البطاشة وذراعه القوي، تجاه من هو أصغر منه وأضعف،.. ولم تقبل سارة هذا الوضع أو تحتمله على الإطلاق، فأكرهت زوجها إبراهيم على طرد الجارية وابنها،.. وكانت العزلة الواسعة بين الولدين شديدة الوقع على نفس أبي المؤمنين إبراهيم، لكنه يبدو أنه أنصت إلى صوت الله في الأمر، ولعل هذا هو الذي خفف وقعها، وهون أمرها، وسار الولدان كل في طريقه مع الحياة والأيام، ونهج المسلكين المختلفين، والأسلوبين المتباينين، والغايتين المختلفتين، وكانت العزلة –وهما يدريان أو لا يدريان- هي السبيل الأصلح والأنجح لحفظ السلام بينهما،.. فإذا كان المزاح الأول، والاضطهاد الأول، والولدان صبيان، هو الذي شجع في إسحق الرغبة الانطوائية المسالمة التي صاحبته الحياة كلها، فإن الفرقة بين الاثنين كانت ولا شك أصلح الطرق وأفضلها، في القضاء على كل نزاع يمكن أن يثور بين أخوين يجمعهما بيت واحد وأسرة واحدة، ومكان واحد، يسهل أن يتطاير فيه لأتفه الأمور، وأقل الأسباب!!..إن الكثيرين تحت سوق العاطفة أو التهاب المشاعر، لا يستطيعون تطويق النزاع بين أخوين أو قريبين، بمثل هذا الحل من التفريق بينهما، لكن إبراهيم أدركه كالحل الوحيد في المنازعة مع لوط يوم قال له: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان، أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عني إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً وإن يميناً فأنا شمالاً".. وأدركه كالحل الدائم بين ولديه المختلفي المشارب والنزعات، والميول والغايات.. ومن المؤكد أن البتر ليس شيئاً يشتهيه الطبيب الجراح، ولكنه قد يكون العلاج الأوحد لسلامة الجسد، وحفظ الحياة!!.. إسحق وأبوه كان إسحق من مولده الشمعة المنيرة المضيئة في بيت أبيه، كان هو كما أطلق عليه "ضحك" البيت ومسرته وبهجته، ولا أحسب أنه في يوم من الأيام سبب لأبويه تعباً أو مشقة أو ألماً أو ضيقاً بأية صورة من الصور، كان هو أنشودة السلام في هذا البيت القديم العظيم، على أنك لا تستطيع أن ترى إسحق في أروع مظهر من مظاهر السلام، إذا لم تره أو تعرفه فوق جبل المريا مع إبراهيم، كان إسحق في ذلك التاريخ –كما يعتقد المفسرون- في الخامسة والعشرين من عمره، شاب في ميعة الصبا وأوج الشباب، ولندع "يوسيفوس" يعطينا صورة الحوار بينه وبين أبيه، بعد أن بنى كلاهما المذبح الذي انتوى إبراهيم أن يقدمه عليه، قال إبراهيم لابنه: "أي ولدي: لقد رفعت من أجلك صلوات متعددة حتى جئت ابناً لي، ومنذ ذلك التاريخ كانت مشيئة الله أن أكون أباك، والآن إنها مشيئته أن أقدمك له، ‎.. ولنحمل يا بني هذا التكريس بذهن متفتح، إذ يلزم يا ابني أن تموت، وليس بطريق من طرق الموت العادي، ولكن الله يريدك ذبيحة له، ‎.. أنا أعتقد أنه يراك جديراً بأن تخرج من هذا العالم، لا بالمرض أو الحرب، أو بأي وسيلة أخرى قاسية، بل سيقبلك بالصلاة وعلى مذبح الدين، وسيجعلك قريباً منه.."الخ. وأجاب إسحق في الحال، إنه ليس أهلاً أولاً للحياة لذا خزل إرادة الله وأبيه، ولم يتمم شهوة قلبيهما.. وصعد بنبل في أروع تكريس على المذبح مجهزاً عنقه لطعنة أبيه!!.. ومع أني أتفق مع الرسول بولس أكثر من يوسيفوس، أن إبراهيم قدم ابنه وهو يعلم أنه سيذبحه، وبعد ذلك سيقوم من الأموات، كما جاء في الرسالة إلى أهل رومية،.. لكن هذا الضرب العظيم من الولاء والتكريس ينسي الناس أن فضل إسحق فيه لا يقل عن فضل إبراهيم. ومن الواجب أن نرى هذا الشاب العظيم رمزاً للأعظم الذي سيأتي بعد ألفي عام ليصيح في جسثيماني "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".. وسنرى إسحق فوق المذبح في سلام الشهداء وعظمتهم، وأن السلام العميق الذي يربطه بالله حياً هو هو بعينه الذي يربطه به مذبوحاً وشهيداً،.. وهو ليس في كل الأحوال جهداً بشرياً أو شجاعة إنسانية، بل هو سلام علوي يأتي في أدق الظروف وأرهبها وأتعسها على وجه الإطلاق، ليعلم إسحق أن ينام هادئاً فوق المذبح، كما لو كان فوق فراش من حرير ودمقس، ويعلم الشونمية العظيمة، عندما تفقد ابنها، ويرسل إليشع غلامه يسألها! "أسلام لك: أسلام لزوجك، أسلام للولد؟ فقالت سلام".. حقاً إنه سلام الله الذي يفوق كل عقل عرفه إبراهيم وعرفه ابنه إسحق في أعظم امتحان لبشري أمام الله!!.إن هذا السلام يتحقق في العادة لمن يبلغون نقطة "التسليم التام" لله، التسليم الذي توثق فيه الذبيحة بربط إلى المذبح، التسليم الذي يصعد فيه الإنسان رغم قسوة الامتحان ودقته، بقدميه على المذبح مكتف اليدين والرجلين، مادا عنقه لما يقضي به الله ويأمر به، ولا حاجة إلى القول أنه سيكون على الدوام مصحوباً بالفرح والبهجة، كما يقول يوسيفوس إن إبراهيم بعد أن قدم كبش الفداء، احتضن ابنه، وضمه بقوة إلى صدره، وعاد كلاهما أسعد اثنين على هذه الأرض، يتمتعان ببهجة السلام الذي تموت فيه النفس عن رغبة في الأرض. إلا بأن تعطي أولاً وأخيراً المجد لله!!.. وإن كنت لا أثق في التقليد القديم الذي جاء في ترجوم في أورشليم، والذي فيه يرد عمى إسحق في أخريات حياته، إلى أن أباه وهو يقيده فوق المذبح مد نظره فرأى عرش المجد، ومن تلك اللحظة بدأت عيناه تضعفان عن النظر في الأرض لكني أعلم تماماً أن الحياة التي تعطي الله مجداً على هذه الصورة، لابد أن تصل، وبكل يقين، إلى سلام الله الذي يفوق كل عقل!!.. إسحق وولداه وهنا نأتي إلى المعاناة والاضطراب والعواصف البيتية التي عكرت الكثير من هذا السلام، ومن المؤسف أن إسحق كان الملوم الأول في هذا الأمر، إذ غلب فهمه البشري على إرادة الله جل جلاله، ومع أنه يعلم وعد الله، عندما ذهبت رفقة وهي حبلى لتسأل الرب: "فقال لها الرب في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير".. وخرج الاثنان إلى العالم، وأحب إسحق عيسو لأن في فمه صيدا، وأما رفقة فكانت تحب يعقوب،.. كان الأبوان يحب كل واحد منهما الشخص الذي يعتبر مكملاً لحياته، فإسحق الهادي الوادع الساكن، كان أميل إلى الابن الأشعر المهيب الطلعة الممتليء الحركة، الذي تخشاه القبائل، وتحسب له ألف حساب وحساب،.. في الوقت الذي كانت رفقة المتحركة المتحفزة تميل إلى الابن المطيع المحب الوادع، ‎.. وأمعن كل من الأبوين في التعبير عن حبه دون مبالاة أو تغطية أو تحفظ، ولم يدريا بذلك أنهما يصنعان الصدع أو الشرخ في البيت، في السلام الذي لا يمكن أن يتحقق على الإطلاق للأسرة المنقسمة على ذاتها، وما يتبع هذا الانقسام من فرقة وتحزب وتحيز.. أجل.. ولعله من الواجب أن ترفع هنا صوت التحذير، لكي يتعلم الأب أو الأم أنه إن عجز بينه وبين نفسه أن يميز ابناً عن آخر، لما قد يكون في هذا الابن من السمات أو الصفات، ما يجعله أقرب أو أدنى إلى عواطفه وحبه ونفسه،.. فإن الخطأ الذي يقترب من الجريمة أن يحس واحد من الأبناء بأن هناك تفرقة أو تمييزاً في المعاملة بين ولد وآخر. كان أحد الآباء يميز ولداً من أولاده على الآخرين، وذات يوم أبصر صغيراً يتحرك من غرفة النوم، ظنه الابن المدلل، فهتف قائلاً: تعال يا حبوب، وجاءه الرد: أنا يوسف فقط ولست الحبوب، وكان هذا ابناً صغيراً آخر من أولاده،.. وكانت هذه العبارة وما فيها من رنة أسى وأسف وحزن، آخر عهد الأب بالتمييز بين أولاده بكافة الصور والألوان،..هل أفسد إسحق عيسو بهذه التربية المتحيزة المتميزة المدللة؟ وهل كان من المتعين أن يكون عيسو إنساناً آخر لو أن أباه اهتم برائحة حياته الروحية، قدر اهتمامه برائحة ثيابه الفاخرة التي تعود أن يشمها كلما جاءه الابن الأكبر بصيد دسم سمين؟.. إننا نظلم إسحق كثيراً إذ اتهمناه بالبطنة التي ضيعت كل شيء في حياة عيسو، على ما يذهب الكسندر هوايت، وهو يصب جام غضبه عليه، عندما يأخذ من يد ابنه بنهم كبير، وشهوة بالغة، مما صاد بسهمه وقوسه، من الصيد أو الطعام الذي كان يحبه ويشتهيه،.. ولكننا في الوقت عينه –وإن أخفى عنا قصد الله السرمدي الذي أحب من البطن يعقوب وأبغض عيسو- لا نملك إلا أن نلوم- إلى درجة السخط- إسحق الذي ترك الحبل على الغارب لابنه، ونسى النبوة الإلهية الخاصة به، حتى وصل عيسو إلى الوصف الرهيب القبيح الذي وصفه به كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لئلا يكون أحد زانياً, أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته، فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع".. وجاء عيسو إلى بيت أبيه بيهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة بنت إيلون الحثي، زوجتيه اللتين أضحتا ينبوعاً من المرارة لرفقة وإسحق والبيت كله!!.. فإذا أضفنا إلى هذا كله قصة الصراع الرهيب المديد الطويل، الخفي حيناً، والظاهر أحياناً، حول البركة، والبكورية، وما لحقهما من تهديد عيسو بقتل أخيه، وغربة هذا الأخير لفترة ظن أول الأمر أنها لشهور قليلة، فإذا بها تطول إلى عشرين من الأعوام، ماتت أثناءها رفقة على الأغلب، وعاد يعقوب إلى أرضه، ولو رحمة من الله وضمانه الأبدي، لهلك في الطريق، وفي الصراع مع الأخ المتحفز المتربص، الذي لم يهدأ الثأر في قلبه طوال هذه السنوات بأكملها.. أجل وإنه لأمر مؤسف حقاً، أن الرجل الذي نجح في السلام مع العالم الخارجي، كان في حاجة إلى الصرخة القائلة: أيها الطبيب اشف نفسك، وحقق السلام قبل وبعد كل شيء بين ولديك التوأمين المتنازعين!!.. إسحق والعالم الخارجي ومن الغريب أن الرجل الذي تعثر السلام في بيته نجح أكبر النجاح مع العالم الخارجي، المتربص به، والمتحفز له، والذي كان من الوجهة البشرية الخالصة يمكنه أن يقضي عليه، ويأتي على كل ما يمتلك،.. كانت حياة إسحق في مجملها حياة الإنسان الهاديء الطيب، وربما كانت طيبته المتزايدة نوعاً أكثر من مجرد المرونة المحبوبة التي ينبغي أن نتصف بها في معاملة الناس،.. أو إن شئنا الحقيقة كانت في الكثير من المواطن نوعاً من الليونة التي تنتهي في العادة إلى العكس مما يقصد صاحبها، ومن المؤكد أن إسحق كان من الممكن أن يكون أهنأ حالاً وأسعد بيتاً، لو أنه أخذ بيته بنوع من الحزم، لا يشجع استباحة عيسو، أو خداع يعقوب، أو استهانة الزوجة،.. ولكنه وقد جبل على الوداعة والطيبة، شجع هذه الأطراف على أن تتصرف بما لا يليق من أفعال أو تصرفات،.. ومع ذلك فهذا الرجل المسالم أعطى أروع الأمثلة وأعظمها على القدرة التي يستطيع بها المؤمن أن يعيش في وسط الوحوش والأشبال،.. لقد أدرك إسحق أن الهدوء والأمن والسلام تسير أطرادا مع ثقته الموطدة والممكنة في الله، فهو مثلاً على شفا الضياع إذ خاف وفزع وفعل ما فعله أبوه إذ زعم أن رفقة أخته، خوفاً من أن يقتلوه ويأخذوها لأنها كانت جميلة فاتنة حسنة المنظر،.. وهو قوي إذا طرح الخوف، وآمن أن الله أقوى وأقدر من كل القوات التي تتربص به، وتتعرض له أو تحاول أن تنال منه بأية صورة من الصور،.. وقد أكد الله هذا إذ ظهر له وشجعه وأعاد له العهد الذي سبق فأعطاه لإبراهيم أبيه، وإذ أراد الله أن يعطيه البرهان الفائق العظيم، باركه في سنة المجاعة القاسية: "وزرع إسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف" "وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً" فإذا كان إسحق يريد أن يطمئن ويهدأ ويستريح في النهار، وينام قرير العين في الليل، فلن يكون ذلك إلا بشيء واحد ألا وهو التأكد بأن الذي معه أقوى من الذي عليه، وأن العين التي تحرسه لا تنعس أو تنام، في الوقت الذي تغفو أو لا تغفو عيون الناس المتربصة به، الحاسدة له، والراغبة كل الرغبة في الإيقاع به والقضاء عليه،.. إن الولد الصغير الباسم يقف في حديقة الحيوان أمام الأسد المخيف دون أن يفزع أو يضطرب، ليقينه الكامل أن الموازنة بين قوته الواهنة وقوة القضبان الحديدية وقوة الأسد ووحشيته، تقع على الدوام في جانبه وإلى صالحه، ومن ثم فهو يضحك ويطرب ويداعب ويلاعب الأسد نفسه، لأنه مهما كانت قوة ملك الوحوش، فإن الصغير وقد أضاف قوة القضبان إلى قوته هو، يعلم بالتأكيد أنه الأقوى والأعظم.. كان الذين حول إسحق وحوشاً ازدادت قسوتهم ووحشيتهم لأن إسحق، دائماً ينجح وهم فاشلون، وإسحق دائماً يتعاظم وهم متهاونون، وإسحق في وقت الجدب والمجاعة يزرع ويحصد مائة ضعف وهم يزرعون وتجف مزارعهم ويتحول ما يزرعون إلى عصافة تدفعها العواصف وتذروها الرياح، وإسحق يربي الماشية فتتوالد وتتكاثر، وهم يربون ومواشيهم تضمر وتموت، وإسحق يحفر آبار فتنفجر وتروي، وهم يحفرون فلا يجدون إلا رمالاً وجفافاً، وخيبة أمل فيما يحفرون، فإذا ضاقوا بجهدهم وحسدهم، فما أسهل أو أيسر عليهم إلا في المشاكسة والمنازعة والخصومة، فإذا بهم يطمون الآبار التي حفرها أو يغتصبونها، وينازعون في حقه فيها، ويتحرشون به، لعلهم يجرونه إلى المصارعة والمنازلة عليها،.. والرجل مع ذلك هاديء قرير، لم يخرجه الاستفزاز يوماً عن طوره، أو الظلم عن طبع السلامة والمسالمة فيه،.. وهو أشبه الكل بالولد الصغير أمام الأسد المتوحش المحبوس في قفصه لأنه يعلم علم اليقين أنه الأقوى والأعظم بربه وسيده ومخلصه وفاديه،.. فإذا نازعوه في مرعى، فإن ‎الأرض واسعة ومراعي الله الأخرى في كل مكان،.. وإذا طموا له بئراً، فإن الله سيعطيه غيرها آباراً، فليترك البئر "عسق" بئر المنازعة، ويترك البئر "سطنه" بئر المخاصمة لأن الله سيعطيه بئر "رحوبوت" حيث يمكنه أن يقول: "إنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" ثم بئر "شبعة" التي تزيد شبعاً ورياً، حيث يعطيه الله الفيض الذي لا يمكن أن يحجزه الإنسان!!..فإذا كان الإنسان يحقد أو يحسد، فإن إسحق المسالم قد وجد الحل الأعظم والأمثل للحقد أو الحسد، إذ أنه يحول قضيته من الإنسان إلى الله، ومن حقد البشر إلى عدالة الله، ومهما كان الإنسان عنيفاً، فإن الخصومة في العادة تحتاج إلى طرفين، فإذا تعدي أحد الطرفين ورفض الآخر أن يرد العداء أو يقاوم الشر، فإن المعتدي لا يمكن أن يستمر في شره وعدائه، وتخف أو تموت حدة النزاع مهما بدأت عنيفة شرسة مخيفة قوية، بل في أغلب الحالات تنتهي إلى المصالحة والسلام،.. كان إسحق رائداً من أقدم الرواد وأعظمهم في هذا السبيل، وهو الرائد الذي انتصر آخر الأمر عندما سعى إليه أبيمالك وأحزات من أصحابه وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم، فقالوا إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك ونقطع معك عهداً أن لا تصنع بنا شراً كما لم نمسك وكما لم نصنع معك إلا خيراً، وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب فصنع لهم ضيافة فألكوا وشربوا ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام. وحدث في ذلك اليوم أن عبيد إسحق جاءوا وأخبروه عن البئر التي حفروا وقالوا له قد وجدنا ماء فدعاها سبعة لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم.. وفي الحق أن هذه البئر ليست مصادفة أن تفجر ماءها في اليوم الذي يتعاهد فيه إسحق مع أبيمالك على السلام.. إذ هي في الحقيقة مكافأة الله وجزاؤه لصانعي السلام، ومحبيه بين الناس في كل مكان وزمان، على توالي العصور وامتداد الأجيال!! إن مقاومة الشر بالشر لا تبقى عليه شراً واحداً بل تضاعفه إلى اثنين، كما أن آثار الشر لا يمكن أن تنال طرفاً وتترك الآخر، فهي كالحرب، ويل فيها للغالب والمغلوب على حد سواء، ولقد فطن الحكيم القديم إلى هذه الحقيقة فقال: "إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه ماء فإنك تجمع حجراً على رأسه والرب يجازيك" وسار في أعقابه بولس يوم قال: "لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس، لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. ولعل أمثلة حديثة من هذا القبيل يمكن أن تعطي الصور الناجحة لانتصار الروح المسالمة على العناد والقسوة والخصومة،.. عاش جوزيف برادفورد مساعداً أميناً لجون ويسلي وهو يصاحبه في رحلاته وخدماته التبشيرية سنوات متعددة، وحدث ذات مرة أن اشتد النزاع بين الصديقين إلى الدرجة التي قررا فيها في مساء يوم من الأيام أن يفترق الواحد منهما عن الآخر في اليوم التالي،.. وفي الصباح سأل ويسلي زميله: هل ما يزال مصراً على الرحيل، وجاءه الجواب: نعم.. وقال ويسلي: وهل هذا ضروري ولازم.. وجاء الرد جافاً: "سل نفسك يا سيدي.. وقال ويسلي لبرادفورد: ألا تعتذر؟وقال الآخر: لا يا سيدي؟وعنئذ قال ويسلي برقة ولطف.. إذا أنا أعتذر لك يا برادفورد، ولم يكمل ويسلي العبارة حتى فاضت الدموع من عيني زميله، وقال: أنا أعتذر، وتصالح الأخوان اللذان كانا على أبواب المفارقة والمقاطعة.. آه لو يعلم الناس أن الجواب اللين يصرف الغضب، وأن جلسة هادئة صغيرة، قد تصرف نزاعاً طويلاً مديداً مريراً"..كان أحد المحامين واسمه هاكت وكان من أبرع المحامين وأطيبهم، وكان من مبدئه الدائم أن يدعو الناس إلى فض الكثير من أسباب النزاع دون الالتجاء إلى المحكمة. وقد حدث أنه اشترى قطعة أرض، كان الناس يرفضون شراءها لشراسة وقسوة مالك الأرض المجاورة لها.. غير أن هاكت اشتراها، وعندما ذهب ليستلمها واجهه الجار المتحفز للمخاصمة والصراع، بأكثر عنف وضراوة ‎، وهو يقصد أن يفهمه أنه لا يبالي على الإطلاق بما يمكن أن يكون لديه من الإلمام بالقانون أو الاتجاه إلى القضاء، غير أن هاكت سأل الجار عن الحد بين الأرضين،.. وقال الجار: إن حقه معتدى عليه، وأن الحد الصحيح يلزم أن يدخل في أرض هاكت قدمين من بدء الحد، وقدماً عند النهاية،.. وقال المحامي: حسناً يا صديقي وإني أرجوك أن ترسم الحد أربعة أقدام عند الابتداء، وقدمين عند النهاية،.. وصاح الجار: ولكن هذا ضعف ما أطلبه؟.. فقال هاكت: قد يكون هذا، ولكني قد جئت مصمماً ألا أجعل من هذه الأرض نقطة مخاصمة أو نزاع بيني وبينك، وأنا أود أن أرضيك تماماً، وأرجو أن تعلم أن هذا يسعدني ويبهجني أكثر من أي مسطح من الأرض يمكن أن نختلف أو نتنازع عليه!!.. وإذ قال هذا رد عليه الرجل: يا صديقي.. إن هذا الحد بيننا لن يتزحزح عما هو عليه الآن بوصة واحدة، لتذهب الأرض كيفما تذهب، فإن الهدوء والسلام والصداقة أولى وأجمل وأسعد وأبقى..لم يكن "غاندي" مسيحياً، ولكنه وعى كلمات المسيح المباركة في الموعظة على الجبل: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وقد قيل أنه في صدر شبابه كان يشرف على مجموعة من الشباب في جنوب أفريقيا، وفي فترة غيابه ظهر بينهم شاب ارتكب أخطاء جسيمة دون أدنى مبالاة،.. وعندما عاد غاندي سمع عما فعله الشاب، فناداه وتحدث إليه عما فعل، وتبين إصرار الشاب على تصرفه دون أدنى إحساس بألم أو ندم أو توبة.. فما كان من غاندي إلا أن قال: إن هناك خطأ قد حدث، ويبدو أني فشلت، ولابد من علاج لهذا الفشل، ولقد قررت أن أعالجه بالصوم عشرين يوماً، ولم يدرك الشاب في أول الأمر قسوة القرار حتى جلس إلى مائدة الطعام، وهنا أردك أنه لا يستطيع أن يأكل، وآخر جائع لا يتذوق طعاماً بسببه،.. ذهب إلى غاندي، وحاول أن يقنعه بتناول الطعام، وغاندي يرفض، وعذب الشاب، وقيل أنه أخذ من هذا الدرس ما لم يأخذه من دروس أخرى،.. لقد كسرت الوداعة الطيبة المسالمة قلبه، وجعلته فيما بعد من أحسن الشباب الذين عمل غاندي في وسطهم!..لم يكن إسحق عملاقاً إذا قسنا حياته في ضوء حياة إبراهيم من قبله أو يعقوب من بعده، لكن هذه الحياة هي الدرس الذي يحتاجه العالم الباحث عن السلام في كل مكان وزمان، وهيهات له الوصول إليه قبل أن يصل إلى المعادلة التي نجح إسحق في حلها، معادلة السلام التي تأخذ سلامها من الله لتقتل به الحقد والنزاع والخصومة والضغينة، بروح من الحب والتسامح والتساهل والوداعة: "وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"..
المزيد
31 مايو 2020

الأحد السادس من الخماسين

كتابات القديس اغسطينوس فى هذا الإنجيل، يقول ربنا يسوع المسـيح: ” قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فى سلام. فى العالم سيكون لكم ضيق ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم “. الرب يسوع المسيح يحدثنا من خلال هذه الآية عن: 1- السلام. 2- الضيق. 3- غلبة العالم ( النصرة- الغلبة ). دعنا نبحث عما قاله الآباء عن هذه الموضوعات.1-السلام: قال القديس يوحنا ذهبى الفم: لقد دعى السيد المسيح ” رئيس السلام ” (أش 6:9) ، وإنجيله هـو ” إنجيل السلام ” (أف 6: 15) وملكوته ” بر وفرح وسلام فى الروح ” (رو 17:14). وأما ثمن هذا السلام فهو دمه الثمين المبذول على الصليب. وقال أيضا: نعم قد صار هذا هو عمل الإبـن الوحيـد، أن يوحـد المنقسمين ويصالح الغرباء. ويرى القديس أغسطينوس أن صنع السلام ليـس عمـلا خارجيـا يمارسه الإنسان وإنما هو طبيعة ينعم بها أولاد الله فى داخلهم، خـلال السلام الداخلى الذى يحل بين الروح والجسد بـالروح القـدس فـى المسيح يسوع فيظهر ملكوت الله داخلنا.. لذلك قال: ( يكـون كمـال السلام حيث لا توجد مقاومة، فأبناء الله صانعوا سلام لأنهم ينبغـى أن يتشبهوا بأبيهم. أنهم صانعوا سلام فى داخلهم إذ يسيطرون على حركات أرواحهم ويخضعونها للصواب أى للعقل والروح، ويقمعـون شهواتهم الجسدية تماما، وهكذا يظهر ملكـوت الله فيـهم فيكـون الإنسان هكذا.. كل ما هو سام وجليل فى الإنسان يسيطر بلا مقاومة على العناصر الأخرى الجسدانية ). وقال أيضا: ( ليكن السلام حبيبا لك وصديقا، واجعل قلبك مضجعـا نقياً له. ولتكن لك معه راحة مطمئنة بدون مرارة، وعنـاق عـذب، وصداقة لا تنفصم عراها ). وقال القديس جيروم: (المسيح ربنا هو السلام.. لنحفظ السلام فيحفظنـا السـلام فـى المسيح يسوع). وقال ايضا: السلام هو قوة المسـيحيين ” سلام الله الذى يفوق كل عقل ” (فى 7:4)، ” وطوبى لصانعى السلام ” (مـت 5: 9)، لا بإعادة السلام بين المتخاصمين فحسب وإنما للذين يقيمون سلاماً فى داخلـهم. فإنه إن لم يوجد سلام فى قلبى مـاذا يفيدنـى أن يكـون الآخريـن فى سلام. أما القديس كبريانوس فله تأمل فى عبارة السيد المسـيح: ” سلاما أترك لكم. سلامى أعطيكم ” (يو 27:14).. إذ يقول: لقد أعطانا هذا ميراثاً، فقد وعدنا بكل العطايا والمكافآت التى تحدث عنها خلال حفظ السلام. إن كنا ورثة مع المسيح فلنسكن فى سلامه. إن كنا أبناء الله، يلزمنا أن نكون صانعى سلام، إذ يليق بأبناء الله أن يكونوا صانعى سلام، ذوى قلب شفوق، بسطاء فى الكلام، متحدين فى المحبـة، مـترابطين معاً إرتباطاً وثيقاً بربط المودة الأخوية. وقال ايضاً: يليق بإبن السلام أن يطلب السلام ويتبعه. الذى يعـرف رباطات الحب ويحبها يلزمه أن يمنع لسانه عن شر الخصام. وقال القديس اغريغوريوس اسقف نزينزا : (لنكرم عطية السلام التى تركها لنا المسيح عند رحيله. فالسلام علـى وجه الخصوص يخص الله الذى يوحد كل الأشياء معا فى واحد). 2-الضيق: “فى العالم سيكون لكم ضيق”… قال القديس اغسطينوس: +الذى يرفض أن يتحمل الضيق لا ينجيـه عـدم صـبره مـن الضيقات التى تحل به. + لا يوجد علاج مؤثر لشفاء الأوجاع مثل الصديق الصادق الـذى يسليك فـى ضيقاتك. + إن الضيقات التى تتحملها فى حياتك ها هنا هى بمثابـة عصـا تأديب من الله + فى الضيق لايجد المرء مجالا ليسمع.. إسمع فى وقت الرخاء. + ضيق الزمان يعلمك وتجارب الحياة الحاضرة تصقل مـا فيـك من شوق. + الضيقات وإن كثرت سبيل إلى الكمال وليست سببا للهلاك. + الرب يمتحن الإنسان بالضيقات لكـى يعرفه حقيقة نفسه فيلومها. + النار تمتحن إناء الفاخورى، والتجربة تمتحن الأبرار. + إذا كان الأصدقاء يفسدونك بكثرة مدائحـهم فالأعداء يصلحـون عيوبك بما يوجـهونه لك من اتهامات. + كيف تعرف أن الله لا يريد لـك الشـفاء والتـأديب لا يـزال مفيدا لك. + لا العنقود يصير خمراً ولا حبة الزيتون تصير زيتاً ما لم يمـر فوقهما حجر المعصرة. + إن الشهداء وسط آلامهم وعذاباتهم كـانوا يطلبـون خلاص مضطهديهم. + لا ترجع النفس إلى الله إلا إذا أنتزعت من العالم، ولا ينزعـها بحق إلا التعب والألم. القديس يوحنا ذهبى الفم والضيقات: عندما عانى القديس يوحنا ذهبى الفـم الآلام والإضطـهادات مـن الإمبراطورة أفدوكسيا، كتب من سجنه إلى الأسقف قرياقص قـائلاً: عندما استبعدت من المدينة لم أقلـق بـل قلـت لنفسـى: إن كـانت الإمبراطورة ترغب أن تنفينى فلتفعل ذلك، فإنه ” للرب الارض وملئها “. وإن أرادت إغراقى فى المحيط. أفكر فى يونان. وإن ألقيت فى النار.. أجد الثلاثة فتية قد تحملوا ذلك فى الأتون. وإن وضعت أمام وحوش ضارية.. أذكر دانيال فـى جب الأسود. وإن أرادت رجمى.. فإن استفانوس أول الشهداء أمامى. وإن طلبت رأسى.. فلتفعل.. فإن المعمدان يشرق أمامى. عريانا خرجت من بطن أمى وعريانا أترك العالم، وبولس يذكرنى: ” إن كنت بعد أرضى الناس فلست عبدا للمسيح “. العلامة أوريجانوس والضيقات: كتب العلامة أوريجانوس إلى القديسين أمبروسيوس وبرينكتيـوس، وهما تحت المحاكمة فى ظل الإضطهاد الـذى أثـاره مكسـيميانوس تراكس، قائلاً لهما: “فى أثناء محاكمتكما القائمة الآن بـالفعل أود أن تتذكرا دائمأ تلك المجازاة العظيمة التى يعدها الآب فى السـماء مـن أجل المظلومين والمزدرى بهم بسبب البر ومن أجل إبن الإنسان. إفرحا وابتهجا كما فرح الرسـل وابتـهجوا ” لأنهم حسبوا أهلا أن يهانوا من أجل إسم المسيح ” (أع 5: 41)، وإذا شعرتما بالحزن فاستغيثا بروح المسيح الذى فينا لكـى يرد روح الحـزن ويـنزع القلـق مـن قلبيكما. ” لماذا أنت حزينة يا نفسى ولماذا تزعجيننى. ترجى الـرب لأنى أقدم له التسبيح ” (مز 42: 5). إذن فلا تجزع أرواحنا، بل حتى أمام كراسى القضاء وفى مواجـهـة السيوف التى شحذت لتقطع رقابنا تظل أرواحنا محفوظة فـى سلام الله الذى يفوق كل عقل.. نستطيع أن نشعر بالطمأنينة والـهدوء عندمـا نتذكر أن الذين يفارقون الجسد يعيشون مع إله الكل (2 كو 8:5). عن الضيقات، قال الأب اسحق: الله لا يريد النفس المتشامخة التى فى تهور لا تحتاط فى التجربـة أو الضيقات، إنما يريد النفس المتضعة فيكون نصرتها بالله أكثر مجـدا وهزيمة الشيطان أكثر تأكيداً. + أيوب جرب لكنه لم يدخل فى تجربة، إذ لم ينطق ضد الله بـأى تجديف ولا استسلم لفم الشرير كرغبة الشرير نفسه. + إبراهيم جرب ويوسف جرب لكن لم يدخل أحدهما فى تجربـة لأنهما لم يستسلما ليرضيا المجرب. وقال الأنبا بولا اول السواح : من يهرب من الضيقة يهرب من الله. 3-الغلبة والنصرة: ” ثقوا أنا قد غلبت العالم “… قال القديس اغسطينوس: + انتصر على ذاتك فينهزم العالم أمامك. + ليت الرب ينصركم، ليس من الخارج على عدوكم وإنمـا مـن الداخل على انفسكم. + لا ترهب العدو الذى يأتى من الخارج فإنك إن غلبـت نفسـك ستصير غالباً للعالم. + فكيف تنتصر على عدو غضبان إذا لم تتمكن مـن الإنتصـار عليه متى لاطفك. وقال أيضاً: مع كل حركة حب وجهاد فى الرب يرفعنى بتعزياتـه الإلهية كما إلى جبل قدسه ليعلن لى بهاء مجده الداخلى، فـأعود مـن جديد لأدخل فى معركة جديدة روحية ” لا ضد لحم ودم بل ضد أجناد الشر الروحية فى السموات ” (أف 6: 12). لذلك قال داود النبى: ” الذى يعلم يدى القتال فتحنى ساعدى قوسا من نحاس. ومنحتنى نصرة خلاصك. ويمينك عضدتنى ” (مز 18: 34، 35). وقال أيضاً: يعلمنى الله أن أكون ماهراً فى القتال ضـد الشـياطين الذين يهدفون إلى إقامة حاجز يحجبنى عن ملكوت السموات. القديس كيرلس الاورشليمى والغلبه والنصرة: فى تأمل له عن قيامة المسيح قال: إفرحى يا أورشـليم.. إصنعـوا عيدا عظيما يا جميع محبى المسيح، لأنه قام. إفرحوا يا من نحتم من قبل حين رأيتم جسارة اليهود وشرهم، لأنـه قد قام. فليفرح السامعون بأخبار القيامة المبهجة.. ليتحول الحزن إلى فـرح والنوح إلى سرور وليمتلئ فمنا فرحا وتهليلا به، إذ قال بعـد قيامتـه ” إفرحوا ” (مت 9:28). الآن قد قام الميت الذى كـان ” حرا بين الأموات ” وهـو مخلـص الأموات، ذاك الذى أهين محتملا بصبر إكليل الشوك.. لقد قام متوجـاً بإكليل النصرة على الموت. فى مقالة عنوانها ” آدم الثانى واهب النصرة “.. قال القديس سـرابيون: إن كان بولس الرسول قد أوضح بكلماته أن ربنا يسوع المسـيح ” قد جرب فى كل شىء مثلنا ” إلا أنه قيل عنه أنه ” بلاخطية ” (عب 4: 15). إى لم تنتقل إليه عدوى الشهوات لأنه لا يعرف إغراءات الشـهوات الجسدية التى بها نضطرب ضد إرادتنا وبغير معرفتنا. وقد وصف رئيس الملائكة غبريال حالة الحبل بـه قـائلاً: ” الروح القدس يحل عليك وقوة العلى تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى إبن الله ” (لو 1: 35). وكان يلزم بحق لربنا أن يجرب بنفس التجارب التى جرب بها أدم حيـن كان فى صورة الله قبل إفسادها، والتى هى: النهم، الإفتخار، الطمع، الكبريـاء.. والتى تشبكت وأفرخت بعدها تعدى الوصية وإفساد صورة الله وشبهه. لقد أعطانا الرب بمثاله كيف نستطيع أن ننتصر كما إنتصـر هـو حين جرب. لقد لقب كلاهما بــ ” أدم ” ” أحدهما كان الأول فى الخراب والمـوت وأما الثانى فكان الأول فى القيامة والحياة. بالأول صارت البشرية كلها تحت الدينونة وبالثانى تحررت البشرية.
المزيد
15 مارس 2019

اليوم الخامس ( الجمعة ) من الاسبوع الثاني من الصوم الكبير

القراءات : باكر قراءات القداس تث 8 : 1 – 9 : 4 مز 116 : 7 ، 8 عب 12 : 28 1بط 4 7 - 16 أع 15 : 22 - 31 مز 29 : 10 ، 11 1صم 17 : 16 – 18 : 8 مت 15 : 39 – 16 : 12 لو 6 : 39 - 49 الانجيل و ضرب لهم مثلا هل يقدر اعمى ان يقود اعمى اما يسقط الاثنان في حفرة ليس التلميذ افضل من معلمه بل كل من صار كاملا يكون مثل معلمه لماذا تنظر القذى الذي في عين اخيك و اما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها او كيف تقدر ان تقول لاخيك يا اخي دعني اخرج القذى الذي في عينك و انت لا تنظر الخشبة التي في عينك يا مرائي اخرج اولا الخشبة من عينك و حينئذ تبصر جيدا ان تخرج القذى الذي في عين اخيك لانه ما من شجرة جيدة تثمر ثمرا رديا و لا شجرة ردية تثمر ثمرا جيدا لان كل شجرة تعرف من ثمرها فانهم لا يجتنون من الشوك تينا و لا يقطفون من العليق عنبا الانسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج الصلاح و الانسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر فانه من فضلة القلب يتكلم فمه و لماذا تدعونني يا رب يا رب و انتم لا تفعلون ما اقوله كل من ياتي الي و يسمع كلامي و يعمل به اريكم من يشبه يشبه انسانا بنى بيتا و حفر و عمق و وضع الاساس على الصخر فلما حدث سيل صدم النهر ذلك البيت فلم يقدر ان يزعزعه لانه كان مؤسسا على الصخر و اما الذي يسمع و لا يعمل فيشبه انسانا بنى بيته على الارض من دون اساس فصدمه النهر فسقط حالا و كان خراب ذلك البيت عظيما اهتم الآباء - خاصة آباء البريّة - بالتدقيق في عدم الإدانة، فحسبوا أنه ليس شيء يغضب الله مثلها، إذ تنزع نعمته عمَّن يرتكبها ويرفع رحمته عنه حتى إذا ما ترفَّق بأخيه ينال هو النعمة الإلهيّة ومراحم الله. يرى الأب بومين والأب موسى أن من يدين أخاه ينشغل بخطايا الغير لا بخطاياه، فيكون كمن يبكي على ميِّت الآخرين ويترك ميِّته. يقول الأب دوروثيؤس: [إننا نفقد القوَّة على إصلاح أنفسنا متطلِّعين على الدوام نحو أخينا]، [ليس شيء يُغضب الله أو يعرِّي الإنسان أو يدفعه لهلاكه مثل اغتيابه أخيه أو إدانته أو احتقاره... أنه لأمر خطير أن تحكم على إنسان من أجل خطيّة واحدة ارتكبها، لذلك يقول المسيح: "يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تُبصر جيِّدًا أن تُخرج القذَى الذي في عين أخيك" [42]. أنظر فإنَّه يشبِّه خطيَّة الأخ بالقذَى أما حُكمك المتهوِّر فيحسبه خشبَة. تقريبًا أصعب خطيَّة يمكن معالجتها هي إدانة أخينا!... لماذا بالحري لا ندين أنفسنا ونحكم على شرِّنا الذي نعرفه تمامًا وبدقة والذي نعطي عنه حسابًا أمام الله! لماذا نغتصب حق الله في الإدانة؟! الله وحده يدين، له أن يبرِّر وله أن يدين. هو يعرف حال كل واحد منَّا وإمكانيَّاتنا وانحرافاتنا ومواهبنا وأحوالنا واستعداداتنا. فله وحده أن يدين حسب معرفته الفريدة. أنه يدين أعمال الأسقف بطريقة، وأعمال الرئيس بطريقة أخرى. يحكم على أب دير، أو تلميذ له بطريقة مغايرة، الشخص القديم (له خبراته ومعرفته) غير طالب الرهبنة، المريض غير ذي الصحَّة السليمة. ومن يقدر أن يفهم كل هذه الأحكام سوى خالق كل شيء ومكوِّن الكل والعارف بكل الأمور؟] يكمل الأب دوروثيوس حديثه عن عدم الإدانة بعرض قصَّة يتذكَّرها عن سفينة كانت تحمل عبيدًا، إذ تقدَّمت عذراء قدِّيسة إلى صاحب السفينة واِشترت فتاة صغيرة حملتها معها إلى حجرتها لتدرِّبها على الحياة التقويّة كابنة صغيرة لها، ولم يمضِ إلا قليلاً حتى جاءت فرقة للرقص، اشترت أخت هذه الفتاة الصغيرة لتدرِّبها على أعمال اللهْو والمُجون والحياة الفاسدة... هنا يقف الأب دوروثيؤس مندهشًا، أن الفتاتين قد اُغْتصِبتا من والديهما، إحداهما تتمتَّع بمخافة الله تحت قيادة قدِّيسة محبَّة وأخرى بغير إرادتها اُغْتُصبت لممارسة الحياة الفاسدة. لهذا يتساءل: أليس لله وحده أن يدين الفتاتين بطريقة يصعب علينا إدراكها؟! فنحن نتسرَّع في الحكم، أما الله فعالم بالأسرار طويل الأناة، وحده قادر أن يبرِّر أو يدين. يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على كلمات السيِّد عن عدم الإدانة، قائلاً [بينما يطلب منَّا التعمق في فحص أنفسنا حتى ينطبق سلوكنا على أوامر الله وتعاليمه نجد البعض يشغلون أنفسهم بالتدخُّل في شئون الآخرين وأعمالهم، فإذا وقفوا على خطأ في أخلاق الغير عمدوا إلى نهش أعراضهم بألسنة حدَّاد، ولم يدروا أنهم بذم الآخرين يذمون أنفسهم، لأن بهم مساوئ ليست دون مساوئ الغير في المذلَّة والمهانة. لذلك يقول الحكيم بولس: "لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها" (رو 2: 1). فمن الواجب علينا والحالة هذه أن نشفق على الضعيف، ذاك الذي وقع أسيرًا لشهواته الباطلة وضاقت به السُبل، فلا يمكنه التخلُّص من حبائل الشرّ والخطيّة. فلنصلِ عن مثل هؤلاء البائسين القانطين، ولنَمِدْ لهم يدْ العون والمساعدة، ولنَسعَ في ألاَّ نسقط كما سقطوا. فإنَّ "الذي يذم أخاه، ويدين أخاه، يذم الناموس ويدين الناموس" (يع 4: 11). وما ذلك إلا لأن واضع الناموس والقاضي بالناموس هو واحد، ولما كان المفروض أن قاضي النفس الشريرة يكون أرفع من هذه النفس بكثير، ولما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاة بسبب خطايانا وجب علينا أن نتنحَّى عن القيام بهذه الوظيفة، لأنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين وندينهم؟! إذن يجب ألا يدين أحد أخاه، فإن حدَّثتْك نفسك بمحاكمة الآخرين، فأعلم أن الناموس لم يُقِمك قاضيًا ومُحاكمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقِعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك حُرمته.فكل من طاب ذهنه لا يتصيَّد معاصي الغير، ولا يشغل ذهنه بزلاَّتهم وعثراتهم، بل عليه فقط أن يتعمَّق في الوقوف على نقائصه وعيوبه. هذا كان حال المرنِّم المغبوط وهو يصف نفسه بالقول الحكيم: "إن كنت تُراقب الآثام يارب يا سيِّد، فمن يقف" (مز 130: 3)، وفي موضع آخر يكشف المرنِّم عن ضعف الإنسان ويتلمَّس له الصفح والمغفرة إذ ورد قوله: "أذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 14).] "لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك،وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها" [41]. يكمل القدِّيس كيرلس الكبير حديثه: [سبق أن بيَّن السيِّد الخطر الذي ينجم عن نهش الآخرين بألسنة حداد فقال: "لا تدينوا لكي لا تدانوا". والآن أتى السيِّد على أمثلة كثيرة وبراهين دافعة تحضّنا على تجنُّب إدانة الآخرين والحكم عليهم بما نشاء ونهوى، والأجدر بنا أن نفحص قلوبنا ونجرِّدها من النزعات التي تضطرم بين ضلوعنا سائلين الله أن يطهِّرنا من آثامنا وزلاَّتنا. فإنَّ السيِّد ينبهنا إلى حقيقة مُرَّة مألوفة، فيخاطبنا بالقول: كيف يمكنك نقد الآخرين والكشف عن سيئاتهم وشرورهم وفحص أسقامهم وأمراضهم وأنت شرِّير أثيم ومريض سقيم؟! وكيف يمكنك رؤيّة القذَى الذي في عين الغير وبعينك خشبَة تحجب عينك فلا ترى شيئًا؟! أنك لجريء إذا قمت بذلك، فالأولي بك أن تنزع عنك مخازيك وتطفئ جذوة عيوبك، فيمكنك الحكم بعد ذلك على الآخرين، وهم كما سترى مذنبين فيما هو دون جرائمك أتريد أن تنجلي بصوتك فتقف على مبلغٍ ما في اغتياب الآخرين من مقت وشرْ؟ كان السيِّد يجول يعمل خلال الحقول النضرة، فاقتطف تلاميذه المبارَكون سنابل القمح وفركوها بأيديهم، ثم أكلوا ثمارها طعامًا شهيًا لذيذًا، وسرعان ما وقع نظر الفريسيِّين على التلاميذ إلا واقتربوا من السيِّد وخاطبوه بالقول: أنظر كيف أن تلاميذك يعملون في السبت ما ليس بمحلَّل مشروع. نطق الفرِّيسيُّون بهذا القول وهم الذين عبثوا بحُرْمَة القدس وتعدُّوا على وصاياه وأوامره على حد نبوَّة إشعياء عنهم: "كيف صارت القرية الآمنة زانية؟! ملآنة حقًا كان العدل يبيت فيها، وأما الآن فالقاتلون، صارت فضتك زغْلاً، وخمرك مغشوشة بماء، رؤساؤك متمرِّدون ولُغفاء اللصوص، كل واحد منهم يحب الرشوة ويتبع العطايا، لا يقضون لليتيم ودعوى الأرملة لا تصل إليهم" (إش 1: 21-22). رغمًا عن هذه المُنكرات المُخزيات التي ارتكبها هؤلاء الناس تمادوا في خِزيهم ومكرهم ودسُّوا لتلاميذ السيِّد المباركين، واتَّهموهم بالتعدِّي على يوم السبت المقدَّس. إلا أن المسيح ردَّ خِزيهم إذ أجابهم بالقول: "ويلٌ لكم أيها الكتبة والفرِّيسيُّون المراءون، لأنكم تعشِّرون النعنع والشبت والكمُّون، وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان، أيها القادة العميان الذين يُصفُّون عن البعوضة ويبلعون الجمل" (مت 23: 23-24) كان الفرِّيسي كما ترى مرائيًا غادرًا يحاسب الناس على التعدِّيات الواهية، بينما يسمح لنفسه بارتكاب أشد المخازي نكرانًا، وأعظم الشرور فُجورًا، فلا غرابة أن دعاهم المخلِّص: "قبورًا مبيضَّة تَظهر من خارج جميلة، وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة" (مت 23: 27). هذا هو شأن المرائي وهو يدين الآخرين ويرميهم بأشنع المساوئ والعيوب وهو عن نفسه أعمى، إذ لا ينظر شيئًا، لأن الخشبة في عينيه تحجب الضوء عنه إذن يجب أن نعني بفحص أنفسنا قبل الجلوس على منصَّة القضاء للحكم على غيرنا، خصوصًا إن كنَّا في وظيفة المُرشد والمعلِّم، لأنه إذا كان المُربِّي نقي الصفحة طاهر الذيل، تزيِّنه نعمة الوقار والرزانة، وليس على معرفة بالفضائل السامية فحسب بل يعمل بها ويسلك بموجبها، فإنَّ مثل هذا الإنسان يصح له أن يكون نموذجًا صالحًا يُحتذى به، وله عند ذلك حق الحكم على الآخرين إذا حادوا عن جادة الحق والاستقامة، أما إذا كان المُرشد مهمِلاً ومرذولاً فليس له أن يدين غيره، لأن به نفس النقص والضعف الذي يراه في الآخرين. كذلك ينصحنا الرسل المغبوطون بالقول: "لا تكونوا معلِّمين كثيرين يا إخوتي، عالمين أننا نأخذ دينونة أعظم" (يع 3: 1). ويقول المسيح وهو يكلِّل هامات الأبرار بالتيجان المقدَّسة، ويعاقب الخطاة بشتَّى التأديبات: "فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلَّم الناس هكذا، يُدعَى أصغر في ملكوت السماوات، وأما من عمِل وعلَّم فهذا يُدعَى عظيمًا في ملكوت السماوات" (مت 5: 19).] يقول أيضًا الأب مار إسحق السرياني: [حينما تمتلئ النفس من ثمار الروح، تقوى تمامًا على الكآبة والضيق... وتفتح في قلبها باب الحب لسائر الناس... تطرد كل فكر يوَسْوس لها بأن هذا صالح وذاك شرِّير، هذا بار وذاك خاطئ. تُرتب حواسِها الداخليّة، وتصالحها مع القلب والضمير، لئلا يتحرَّك واحد منها بالغضب أو بالغيرة على واحد من أفراد الخليقة. أما النفس العاقرة الخالية من ثمار الروح، فهي لابسة الحقد على الدوام والغيظ والضيق والكآبة والضجر والاضطراب، وتدين على الدوام قريبها بجيِّد ورديء.] وأيضًا من الكلمات المأثورة في عدم إدانة الآخرين: إيَّاك أن تعيب أحدًا من الناس لئلاَّ يبغض الله صلاتك. القدِّيس أنبا أنطونيوس الكبير الذي يدين، فقد هدم سوره بنقص معرفته. القدِّيس أنبا موسى الأسود الإنسان الذي يطلق لسانه على الناس بكل جيِّد ورديء لن يؤهَّل للنعمة من الله . الأب مار إسحق السرياني لا تدن أحدًا، ولا تقع بإنسان، والله يهب لك الهدوء والنِياح في القلاّية.الأنبا بيمن قيل أخطأ أحد الاخوة فطُرد، فقام الأب بيصاريون، وخرج معه، وهو يقول: "وأنا أيضًا خاطئ".القدِّيس بالاديوس إذا اِنشغلتَ عن خطاياك، سقطتَ في خطايا أخيك. الأنبا إشعياء (في قصة المرأة الزانية): يسوع قد دان الخطيّة لا الإنسان.القدِّيس أغسطينوس حدَّثنا السيِّد المسيح صديقنا السماوي عن الحب، مترجمًا عمليًا خلال العطاء، والستر على ضعفات الآخرين، بهذا يقدِّم لنا مفتاح الدخول إلى حضرة الله للتمتُّع بحبِّه، وكأن هذا يسلِّمنا مفتاح خزانته الإلهيّة، إذ يقول: "اغفروا يُغفر لكم، اعطوا تُعطوا" [37]. وقد دعا القدِّيس أغسطينوس هذين العمليْن: السَتْر على الآخرين، والعطاء جناحي الصلاة، يرفعانها إلى العرش الإلهي بلا عائق. فمن كلماته: [البِرْ الأول يمارس في القلب عندما تغفرون لأخيكم عن أخطائه، والآخر يُمارس في الخارج عندما تعطون الفقير خبزًا. قدِّموا البِرِّين معًا، فبدون أحد هذين الجناحين تبقى صلواتكم بلا حركة]، [إن أردتم أن يُستجاب لكم عندما تطلبون المغفرة: اغفروا يُغفر لكم، اِعطوا تُعطوا.] أخيرًا أكَّد السيِّد المسيح أنه في تقديم وصاياه عن المحبَّة يطلب تغيير القلب في الداخل، يطلب في المؤمن أن يكون شجرة صالحة ليأتي بالثمر الصالح، إذ يقول"لأنه ما من شجرة جيِّدة تُثمر ثمرًا رديًا، ولا شجرة رديَّة تثمر ثمرًا جيِّدًالأن كل شجرة تُعرف من ثمرها،فإنَّهم لا يجتنون من الشوكِ تينًا، ولا يقطِفون من العُلِّيق عنبًا الإنسان الصالح من كِنز قلبه الصالح يُخرج الصلاح، والإنسان الشرِّير من كنز قلبه الشرِّير. فإنَّه من فضلة القلب يتكلَّم فمه" [43-45]. اعتمد أتباع فالنتينوس على هذه العبارات وما شابهها ليُعلنوا اختلاف طبائع النفوس، إذ في نظرهم توجد نفوس صالحة بطبيعتها لا يمكن أن تفسد، وتوجد نفوس شرِّيرة بطبيعتها لا يمكن إصلاحها، الأولي هي الشجرة الصالحة التي تُثمر صلاحًا، والأخرى هي الشجرة الرديئة التي تُنتج رديًا. وقد انبَرى كثير من الآباء يفنِّدون هذا الفكر مؤكِّدين حرِّيَّة إرادة الإنسان وإمكانيَّتِه في المسيح يسوع إصلاح حياته... فإن كان شجرة رديئة تبقى تعطي ثمرًا رديًا حتى تتحوّل إلى شجرة جيدة في الرب. هذا ما أكَّده القدِّيس أغسطينوس في عظاته المنتخبة على العهد الجديد. في القرن الثاني الميلادي يقول العلامة ترتليان: [لا يمكن أن تكون هذه النصوص من الكتاب المقدَّس غير متَّفقة مع الحق، فإنَّ الشجرة الرديئة لن تقدِّم ثمارًا صالحة ما لم تُطعم فيها الطبيعة الصالحة، ولا الشجرة الصالحة تُنتج ثمارًا شريرة ما لم تفسد. فإنَّه حتى الحجارة يمكن أن تصير أولادًا لإبراهيم إن تهذَّبت بإيمان إبراهيم، وأولاد الأفاعي يمكنهم أن يقدِّموا ثمارًا للتوبة إن جحدوا طبيعتهم المخادعة. هذه هي قوَّة نعمة الله التي هي بالحق أكثر فاعليَّة من الطبيعة ذاتها.] لو أن الطبيعة البشريّة مسيَّرة تلتزم بالخير أو الشرّ بغير إرادتها، وليس هناك من رجاء في التغيير لما كان السيِّد المسيح يحثُّنا: "اجعلوا الشجرة جيدة"، ولما كان الحديث في ذاته ذا نفع. فالرب يتحدَّث معنا لكي نقبل عمله فينا، فيكون تنفيذ وصاياه لا خلال السلوك الخارجي وحده، وإنما تغيير طبيعتنا القديمة، إذ يقول: "الإنسان الصالح من كنز قلبه الصالح يخرج صلاحًا". الحاجة إلى البناء على الصخر يعود فيؤكِّد السيِّد المسيح غاية وصاياه أن تكون ثمرًا طبيعيًا للقلب الجديد الذي يتأسَّس عليه، إذ شبَّه حياتنا ببناء يليق أن يُقام على السيِّد المسيح "صخر الدهور" فلا تستطيع زوابع الأحداث أن تهدِمه. إيماننا بالمسيح هو الصخرة الداخليّة، خلاله نتقبَّل السيِّد المسيح نفسه كسِرْ قوَّتنا، يعمل فينا بروحه القدِّوس ليرفعنا إلى حضن أبيه. أما من لا يتأسَّس على "الصخرة الحقيقيّة" فيهتز بناؤه يمينًا وشمالاً بتيَّارات عدوْ الخير المتقلِّبة، الذي لا يهدأ حتى يحطِّمه تمامًا.
المزيد
26 أبريل 2019

قراءات يوم الجمعة العظيمة (يوم الصلب)

محاكمة المخلص وصلبه وموته ودفنه الساعة الأولى: محاكمة المخلص. النبوات: تث 8: 19 الخ 9: 1-24 أنكم تهلكون لا محالة كبقية الأمم التي أبادها الرب من أمام وجهكم. إش 1: 2-9 ربيت بنين ونشأتهم أما هم فعصوا عليّ... تركتم الرب وأغضبتم قدوس إسرائيل إش 2: 10-21 سيذل ارتفاع البشر ويتعالى الرب وحده. أر 22: 29 الخ و 23: 1-6 ها أنذا أنتقم منكم حسب أعمالكم الشريرة. أر 18: 2-6، 20: 2، 3 ، زك 11: 11-14 كنتم مع آبائكم مقاومين للحق وأولادكم الذين يأتون بعدكم يصنعون خطية أشر منكم لأنهم يثمنون الذي ليس له ثمن ويؤلمون الذي يشفي الأمراض ويغفر الذنوب يأخذون الثلاثين من الفضة التي اشترط عليها بنو إسرائيل ويدفعونها في حقل الفخاري. إش 24: 1-13 اللعنة تأكل الأرض لأن سكانها أثموا... كف فرح الطبول وصوت القيثارة وفني تعاظم المنافقين. حك 2: 12-22 يقاوم أعمالنا ويرذلنا بسبب مخالفتنا للناموس ويظهر علينا خطايا العصيان وعنده علم من عند الله ويسمى ابن الله. أي 12: 18 الخ، 13: 1 الذي يكشف أعمال الظلمة زك 11: 11-14 إن حسن لديكم فأعطوني أجرتي... فقرروا أجرتي ثلاثين من الفضة وقال لي الرب القها في الخزانة (كما فعل يهوذا تمامًا). ميخا 1: 16 ، 2: 1-3 ويل للذين يفكرون بالظلم ويخترعون شرورًا على مضاجعهم ثم في نور النهار يتممونها. ميخا 7: 1-8 لا يفرح بي أعدائي فإني إذا سقطت سأقوم أيضًا. وإن جلست في الظلمة فالرب سينير لي (أنها نبوة عن قيامته المؤكدة بعد موته ودفنه). المزمور 26: 12، 34: 11، 12 لأنه قام علي شهود زور وكذب الظلم لذاته... جازوني بدل الخير شرًا صارّين عليّ بأسنانهم. الأناجيل: مت27: 1-14 ولما كان الصباح تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب (مجمع السنهدريم) على يسوع لكي يقتلوه (محاكمة دينية رسمية). مر 15: 1-5 أوثقوا يسوع وأخذوه وأسلموه إلى بيلاطس (المحاكمة المدنية الأولى). لو 22: 66 الخ، 23: 1-12 لما علم بيلاطس أن يسوع من سلطنة هيرودس (الجليل) أرسله إلى هيرودس إذ كان هو أيضًا في تلك الأيام في أورشليم فازدراه هيرودس وهزأ به (المحاكمة المدنية الثانية). يو 18: 28 الخ... أني لا أجد علة في هذا الإنسان (ظهور براءة المسيح في المحاكمة المدنية الثالثة). ملحوظة: بعد الانتهاء من الساعة الأولى من الجمعة العظيمة (باكر الجمعة العظيمة) يضعون دكة الصلبوت في مكانها المعتاد في الخورس الثاني من الكنيسة وعليها أيقونة الصلبوت وأمامها المجامر والصلبان والشموع وحنوط وورود الدفنة ثم يزينون دكة الصلبوت كلها بأغصان الأشجار والورود والرياحين. ثم يبتدئون بصلاة الساعة الثالثة. الساعة الثالثة: الحكم على المخلص بالصلب. النبوات: تك 48: 1-19 مد إسرائيل يمينه ووضعها على رأس افرام وهو الصغير ويساره على رأس منسى وخالف يديه (جعلهما على شكل صليب) وباركهما. إش 50: 4-9 بذلت ظهري للضرب وخدي للطم ولم أرد وجهي عن خزي البصاق. إش 3: 9-15 ويل لنفوسهم لأنهم تآمروا قائلين لنوثق البار لأنه غير نافع لنا. إش 63: 1-7 من ذا الآتي من أدوم وثيابه حمراء من بصرة. بهي هكذا في حلة الاعتزاز بالقوة. أنا المتكلم بالعدل وحكم الخلاص. ما بال ثيابك حمراء (ملطخة بالدم) ولباسك كدائس المعصرة. إني دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد (هروب تلاميذه). عا 9: 5-10 إني أثبت عيني عليهم للشر لا للخير واجعل الأرض تضطرب عندما ألمسها وينوح جميع الساكنين فيها (عقاب الأشرار المقاومين). أي 29: 21-الخ، 30: 1-10 - هزأ بي أصاغر الناس... ابغضوني وابتعدوا عني ولم يشفقوا عليّ وبصقوا في وجهي. المزمور 37: 17، مز21: 15 أما أنا فمستعد للسياط (جلد المخلص) ووجعي مقابلي في كل حين. قد أحاطت بي كلاب كثيرة وزمرة الأشرار أحدقت بي. الأناجيل: مت 27: 15-26 وفيما هو جالس على كرسي الولاية (بيلاطس) أرسلت إليه امرأته قائلة لا تصنع شيئًا بذاك البار لأني تألمت كثيرًا هذه الليلة في حلم من أجله. مر 15: 6-25 أخذه الجند إلى داخل دار الولاية ودعوا كل الكتيبة عليه وألبسوه ثوبًا أرجوانيًا وضفروا أكليلًا من شوك ووضعوه على رأسه، وابتدأوا يسلمون عليه قائلين السلام يا ملك اليهود وكانوا يضربون رأسه بقصبة ويبصقون في وجهه... لو 23: 13-25 ألحوا بأصوات عالية طالبين منه (من بيلاطس) أن يُصلب وكانت أصواتهم تشتد فحكم بيلاطس أن تكون طلبتهم... وأسلم يسوع كإرادتهم (للصلب). يو 19: 1-12 بيلاطس حكم بصلب يسوع وهو عالم أنه بريء وبار "إني لست أجد فيه علة". الساعة السادسة: صلب المسيح النبوات: عدد 21: 1-9 قال الرب لموسى اصنع لك حية من نحاس وارفعها على سارية حتى إذا لدغت الحية إنسانًا ينظر إلى الحية النحاس فيحيا. وهذه الحية النحاسية الخالية من السم والمرفوعة على السارية ترمز للمسيح البار الذي رفع على خشبة الصليب (كما رفع موسى الحية في البرية). إش53: 7 الخ مثل خروف سيق إلى الذبح وكحمل صامت أمام الذي يجزه هكذا لم يفتح فاه... أسلم نفسه للموت وأُحْصِيَ مع أثمة وهو قد حمل خطايا كثيرين... إش 12: 2-الخ، 13: 1-10 هوذا الله خلاصي (الخلاص تم بالصليب) مجدي وتسبيحي هو الرب وقد صار لي خلاصًا (نزيد هذه العبارة على تسبحة البصخة ابتداء من ليلة الجمعة العظيمة). عا 8: 9-12 تغيب الشمس وقت الظهيرة (نبوة عن الظلمة التي حدثت وقت الصلب من الساعة 12 للساعة 3) ويظلم النور على الأرض في النهار. البولس غل 6: 14-18 الافتخار بالصليب: وأما من جهتي فحاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صلب العالم لي وأنا أيضًا صلبت للعالم... حامل في جسدي سمات الرب يسوع (آلامه وجراحاته). المزمور 21: 16، 17، 8، 9 ثقبوا يدي ورجلي وأحصوا كل عظامي. اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي القوا قرعة (نبوات واضحة وصريحة عن صلب المسيح واقتسام ثيابه). الأناجيل: مت 27: 27-45 ولما صلبوه اقتسموا ثيابه بينهم. مر 15: 26-33 وصلبوا معه لصين واحدًا عن يمينه والآخر عن يساره. لو 23: 26-44 ولما بلغوا المكان المسمى الأقرانيون kranion صلبوه هناك. يو 19: 12-27 فأخذوا يسوع ومضوا به فخرج وهو حامل صليبه إلى الموضع الذي يقال له الجمجمة وبالعبرانية يسمى الجلجثة حيث صلبوه. الساعة التاسعة: موت المخلص على الصليب النبوات: أر11: 18-الخ، 12: 1-13 وأنا كحمل بلا عيب يساق إلى الذبح... تشاوروا عليّ مشورة رديئة قائلين تعالوا نستأصله من أرض الأحياء... ها أنا أرسل عليهم هلاكًا فيسقط شبانهم بالسيف وبنوهم وبناتهم يموتون بالقحط. زك 14: 5-11 وفي ذلك اليوم لا يكون نور (الظلمة التي حدثت) ويكون ذلك اليوم أن ماء حيا يخرج من أورشليم (الماء الذي نزل من جنب المخلص عند طعنه)، وفي ذلك اليوم يكون الرب ملكًا على الأرض كلها (قولوا في الأمم أن الرب ملك على خشبة). يؤ 2: 1-10، 3: 11 لأن يوم الرب قريب. يوم ظلمة وقتام وغمام وضباب... قدامه النار تأكل وخلفه اللهيب يحرق.. (دينونة الله على الأشرار) ونبوة عن الظلمة التي حدثت من الساعة السادسة إلى الساعة التاسعة. البولس فيلبي 2: 4 - 11 ... وإذ وُجد في الهيئة كإنسان وضع ذاته وأطاع حتى الموت موت الصليب. المزمور: 68: 19... غرقت في حمأة الموت. الأناجيل: مت 27: 46: 50 صرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح: مر 15: 34-37 صرخ يسوع بصوت عظيم وأسلم الروح. لو23: 45، 46 قال يا أبتاه في يديك استودع روحي ولما قال هذا أسلم الروح. يو 19: 28 - 30 قال قد أكمل وأمال رأسه وأسلم الروح. الساعة الحادية عشر: الخلاص بموت المسيح النبوات: خر 12: 1-14 عن ذبح خروف الفصح ورش دمه على القائمتين والعتبة العليا (مثال الصليب) ونجاة أبكار الإسرائيليين من ضربة الملاك المهلك. لا 23: 5-15 في الشهر الأول في اليوم الرابع عشر وقت المساء فصح للرب يأمرهم الله بعمل الفصح تذكارًا لخلاصهم ونجاتهم من الملاك المهلك ومن يد فرعون. المزمور: 142: 6، 7 ثم مز 30: 3، 4 بسطت يدي إليك (على الصليب) في يديك أستودع روحي (موته المحيي). الأناجيل: مت 27: 51-56 انشقاق حجاب الهيكل معلنًا انتهاء العهد القديم. "وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى أسفل". مر 15: 38-41 إيمان قائد المائة "ولما رأى قائد المائة أنه أسلم الروح قال حقًا كان هذا الإنسان ابن الله". لو 23: 47-49 قرع الصدور ندمًا وخوفًا "وكل الجموع الذين أتوا لما عاينوا ما حدث رجعوا وهم يقرعون صدورهم". يو 19: 31-37 الطعنة "لكن واحدًا من العسكر طعن جنبه بحربة. وللوقت خرج دم وماء (بالدم كان الخلاص وبالماء صار التطهير" الماء يشير للمعمودية والدم يشير إلى الافخارستيا. الساعة الثانية عشرة: تكفين المخلص ودفنه النبوات: مرا 3: 1- الخ أجلسني في مواضع مظلمة مثل الموتى (دفنه) سيج عليّ حتى لا أخرج وضاعف ربطي (قفل القبر وختمه). يون 1: 10 - الخ، 2: 2-7 حملوا يونان وطرحوه في البحر... فأعد الرب حوتًا عظيمًا لابتلاع يونان. عظيمًا لإبتلاع يونان. فكان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال. (يونان في بطن الحوت يرمز للمسيح في بطن القبر ولنفس المدة) المزمور 87: 6، 22: 4، 44: 6 جعلوني في جب سفلي في مواضع مظلمة وظلال الموت (دفن المسيح بعد موته على الصليب) وإن سلكت في وسط ظلال الموت فلا أخشى من الشر لأنك معي. كرسيك يا الله إلى دهر الدهور. قضيب الاستقامة هو قضيب ملكك (الذي مات ودفن هو الإله المتجسد صاحب كرسي المجد الدائم وقضيب الاستقامة أي قضيب الملك). المر والميعة والسليخة من ثيابك (نبوة عن الحنوط والأطياب التي وضعت على جسد المخلص عند تكفينه ودفنه). الأناجيل: مت 27: 57-61 أخذ يؤسف الجسد ولفه بلفائف من الكتان النقي ووضعه في قبره الجديد. مر 15: 42 الخ و 16: 1 اشترى يوسف لفافة من الكتان ثم أنزله ولفه بها ووضعه في قبر كان منحوتًا في صخرة ودحرج حجرًا على باب القبر. لو 23: 50 الخ أبصر النسوة القبر وكيف وضعوا فيه جسده فرجعن وأعددن حنوطًا وأطيابًا. يو 19: 38-الخ جاء يوسف وحمل جسد يسوع وجاء أيضًا نيقوديموس ومعه حنوط مر وصبر نحو مائة رطل. فأخذا جسد يسوع ولفاه في لفائف كتان مع الأطياب كعادة اليهود أن يكفنوا. وكان في الموضع الذي صلب فيه يسوع بستان وفي بستان قبر جديد... وهناك وضعا يسوع. ملحوظة: شاءت إرادة الله أن يوضع في قبر جديد ليس فيه موتى حتى إذا قام لا يختلط الأمر ويقال أن الذي قام شخص آخر غير يسوع المسيح.
المزيد
17 مارس 2019

الاحد الثاني احد التجربة

عشية باكر قراءات القداس مز 51 : 1 ، 9 مز 57 : 1 رو 14 : 19 – 15 : 7 يع 2 : 1 - 13 أع 23 : 1 - 11 مز 27 : 8 - 9 مر 1 : 12 - 15 لو 4 : 1 - 13 مت 4 : 1 - 11 الانجيل ثم اصعد يسوع الى البرية من الروح ليجرب من ابليس فبعدما صام اربعين نهارا و اربعين ليلة جاع اخيرا فتقدم اليه المجرب و قال له ان كنت ابن الله فقل ان تصير هذه الحجارة خبزا فاجاب و قال مكتوب ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله ثم اخذه ابليس الى المدينة المقدسة و اوقفه على جناح الهيكل و قال له ان كنت ابن الله فاطرح نفسك الى اسفل لانه مكتوب انه يوصي ملائكته بك فعلى اياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك قال له يسوع مكتوب ايضا لا تجرب الرب الهك ثم اخذه ايضا ابليس الى جبل عال جدا و اراه جميع ممالك العالم و مجدها و قال له اعطيك هذه جميعها ان خررت و سجدت لي حينئذ قال له يسوع اذهب يا شيطان لانه مكتوب للرب الهك تسجد و اياه وحده تعبد ثم تركه ابليس و اذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه أحــــــد التجـــــربـــــة :- " ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرب من أبليس ... " ( مت 4 : 1 ) " ثم " أى عقب عماد مخلصنا الرب يسوع ، " أصعد يسوع " ، هناك عدة عوامل اشتركت فى اصعاد يسوع إلى البرية لم تذكر ، وأول هذه العوامل هى مسرة الله الآب فى أن ينزل ابنه إلى العالم متجسدا ليتألم بكل صنوف الآلام والتجارب ليخلص العالم ، إذ ترنمت الملائكة ليلة ميلاد أبنه قائلة : " وبالناس المسرة " ، والعامل الثانى هو مسرة الأبن نفسه كقول الرسول : " يسوع الذى من أجل السرور الموضوع أمامه احتمل الصليب مستهينا بالخزى " ( عب 12 : 2 ) والعامل الثالث هو أن يكون مجربا مثلنا كما يقول الرسول : " من ثم كان ينبغى أن يشبه أخوته فى كل شىء لكى يكون رحيما ورئيس كهنة أمينا فى ما لله حتى يكفر عن خطايا الشعب ، لأنه فيما هو قد تألم يقدر أن يعين المجربين " ( عب 2 : 17 ، 18 ) كل هذه العوامل دفعت الرب يسوع لأن يصعد إلى البرية بقيادة الروح القدس لمحاربة الشيطان وكسر شوكته وتخليص البشر الذين سباهم يوم كسر آدم وغلبه فى الجنة ، أما المقصود بالروح هنا فهو الروح القدس . " فبعدما صام أربعين نهارا وأربعين ليلة جاع أخيرا " ( مت 4 : 2 ) . صام مخلصنا كما صام موسى وإيليا ، ولكنه لم يكن صوما لكباح شهوة لأنه " أخذ كل ما لنا ما عدا الخطية " – " قدوس بلا شر انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات " ، ليس بحاجة إلى شفافية تساعده على الأتصال بالله لأنه هو والآب واحد وليس فيه ما يفصل بينه وبين أبيه ، لأنه فى كل حين يعمل إرادة أبيه ولكنه صام لأنه " يجب أن يكمل كل بر " ... صام مخلصنا وبصومه أكمل كل بر لأنه بصومه هذا فى البرية فى حربه مع الشيطان قد أكمل ما عجز البشر عن صوم نظيره ، إذ صام الصوم الذى أختاره الله كما قال قديما بلسان أشعياء النبى : " أليس هذا صوما أختاره .... " أش 58 : 6 صام المسيح ليجرب من أبليس فكسره فى البرية ودحره دحورا كمقدمة لكسرته النهائية على الصليب : " ومحى الصك الذى علينا فى الفرائض الذى كان ضدا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرا إياه بالصليب إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارا ظافرا بهم فيه " ( كو 2 : 15 ) . يســــــوع يجــــرب :- ومع أن الرب يسوع كان طاهرا قدوسا ولم تكن له أفكار الخطية لتقوم فى قلبه ، فقد جربه الشيطان ولكن جاءه أبليس من الخارج لأنه لم يجد فيه شيئا من الداخل كقوله له المجد " رئيس هذا العالم يأتى وليس له فى شىء " ( يو 14 : 30 ) . فعبرت تجارب أبليس على سطح نفسه الطاهرة ، ولكنها كانت نجارب حقيقية ، لأنه جاع مثلنا ، وبرغم أنه قد أحس بشهية الأكل إلا أنه أخضع الشهية لقوة إرادته المقدسة وكما أن صعود المسيح إلى البرية كان جزءا رئيسيا من عمله العظيم الذى جاء لأجله ، فإن تجربة المسيح كانت جزءا من تواضعه وآلامه " فتقدم إليه المجرب وقال له إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا " مت 4 : 3 لما رأى الشيطان أن هجماته السرية مدة أربعين يوما قد صدها الرب يسوع بقوته الفائقة دون أن يلين أمامها أو يميل معها إذ هو صخر الدهور الأبدى ، راح يجمع كل أدوات حربه : " شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة " ( 1 يو 2 : 16 ) . تلك الأسلحة التى هاجم بها آدم الأول فى الجنة وانتصر بها عليه فكبله بقيود الأثم مستعبدا إياه وذريته معه ، وهى الأسلحة التى لا يزال يحارب بها أولاد آدم إلى يومنا هذا السلاح الأول الذى تقدم به إلى ربنا يسوع بصفته آدم الثانى كان شهوة الجسد " إن كنت أبن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا " هذا هو الطعم الذى دس فيه خطية الشك والأرتياب فى أمانة الله وصدق مواعيده وعنايته ، خطية عدم انتظار مشورة الله ، وعدم الأتكال عليه ، خطية الأعتماد على الذات ، هذه الخطايا قد لفها الخبيث فى غلاف تكاد العين البشرية المجردة أن لا تراه ، هو الحرف " إن " وهو كلمة شك يريد بها زعزعة ثقة المسيح فى كونه أبن الله وتشكيكه فى صوت الآب الذى سمعه عند المعمودية يعلن : " هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت " رفض يسوع هذه المشورة المناقضة لقول الله الصريح : " ليس بالخبز وحده يحيا الأنسان بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الأنسان " ( تث 8 : 3 ) . " ثم أخذه أبليس إلى المدينة المقدسة وأوقفه على جناح الهيكل ، وقال له ان كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل لأنه مكتوب أنه يوصى ملائكته بك فعلى أياديهم يحملونك لكى لا تصدم بحجر رجلك ، فقال له يسوع مكتوب أيضا لا تجرب الرب إلهك " ( مت 4 : 5 – 7 ) . كثرت آراء المفسرين فى كيف أخذ ابليس الرب يسوع ، ولكن إذا علمنا أن الشيطان روح ، والأرواح تحمل البشر وتخطفهم لا فرق بين أنبياء ومبشرين كما ورد فى سفر الملوك الثانى ( ص 2 : 16 ) أن بنى الأنبياء قالوا لأليشع تلميذ إيليا عن معلمه : " لئلا يكون قد حمله روح الرب " . وقال حزقيال النبى : " ثم حملنى روح .... فحملنى الروح وأخذنى " ( حز 3 : 12 ، 14 ) . وإذا قيل كيف الروح النجس يحمل المسيح القدوس ؟ نقول : أما سمح المسيح لليهود الأشرار الذين قال لهم يوما ما " أنتم من أب وهو أبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا " سمح لهم أن يأخذوه ويسوقوه ويدخلوه إلى بيت رئيس الكهنة للمحاكمة ! فكما سمح لهؤلاء هكذا سمح للشيطان أن يأخذه أو يحمله لأكمال تجاربه التى انتصر فيها عليه وكسره وأنقذ البشر الذين أسرهم تحت عبوديته يلاحظ هنا أن الشيطان لما رأى الرب يسوع قد صده بآية من الكتاب راح هو الآخر يقدم غواية أخرى عن طريق الكتاب ، فقال : " مكتوب أنه يوصى ملائكته " متخذا من الكتاب الذى جعل لهداية الناس وسيلة للغواية والتضليل كما يلاحظ أيضا أن ابليس لم يكتف بأن يضع النص الكتابى فى غير موضعه ، بل راح يحذف ويهمل اهمالا خطيرا بعض النص الذى أورده من المزمور ( 91 : 11 ، 12 ) وهو : " لأنه يوصى ملائكته بك لكى يحفظوك فى كل طرقك " . أما الشيطان فحذف منه عبارة " فى كل طرقك " أى الطرق المميزة والمبينة من الله كقوله تعالى : " أعلمك أرشدك الطريق التى تسلكها " ( مز 32 : 8 ) " الطريق الصالح " ( أر 6 : 16 ) " طريق الحق " ( مز 119 : 30 ) رأى يسوع أعماق الشيطان فلم يشأ أن يجيبه إلى طلبه ويمتحن أمانة الله بدون داع ولا مسوغ ، لأنه مادام هناك طريق للنزول بسهولة ، فلماذا يطرح نفسه ويصنع معجزة ، والمعجزة لا تكون إلا عند العجز عن النزول ، كاليوم الذى أمسكه فيه أهل مدينته وأرادو أن يطرحوه من على الجبل ، فجاز بينهم وانطلق فلو فعل المسيح ما طلبه الشيطان ، لما كان عمله اظهارا لقوة إيمانه ، بل كان مظهرا من مظاهر التعدى على وصية الله القائلة : " لا تجرب الرب إلهك " إن يسوع لم يرد أن ديانته تنتشر بوسائل مادية بل بقوة الروح القدس لذلك رد يسوع كيد الشيطان فى نحره بتصحيح النص الذى نقله محرفا ، وتطبيقه تطبيقا يتفق مع وصية الله القائلة : " لا تجرب الرب إلهك " وراح يشهره سلاحا فى وجه الشيطان . " ثم أخذه أيضا ابليس إلى جبل عال جدا وأراه جميع ممالك العالم ومجدها ، وقال له أعطيك هذه جميعها ان خررت وسجدت لى " ( مت 4 : 8 – 9 ) . كانت هذه التجربة الأخيرة أقوى التجارب الثلاثة وأخطرها ، لأن أبليس عندها قد خلع ثيابه الخداعة وظهر كحقيقته الشيطانية ، وأعلن قصده الأثيم جهارا ، معترفا بأنه رئيس هذا العالم وأن بيده كل سلطان فى ممالك العالم القائمة على الفساد الكلى . كما أنه يرى فى يسوع ملكا متوجا من الله لسنا بحاجة إلى السؤال عن الكيفية التى أستحضر بها الشيطان جميع ممالك العالم أمام السيد المسيح ، ونحن الآن نعيش فى الدش والفضائيات الى تستحضر فى لمحة من جميع قارات العالم الأصوات والمناظر وتجعلها تحت سمع وبصر الناس ، فإذا كان البشر قد اكتشفوا واخترعوا ذلك فكم وكم يكون الشيطان رئيس هذا العالم ورئيس الهواء الواقف على ما فى عناصر الطبيعة من قوة وتأثير ! وبعد أن أرى الشيطان جميع ممالك العالم لربنا يسوع راح يقدمها له عطية مجانية ليغنيه عن الجهاد والآلام التى كان مزمعا أن يكابدها له المجد واعدا إياه أن يضع صولجان الملك فى يده وينقل إليه التكليف – حق التملك الذى له على ممالك العالم وكل مجدها ، فى لحظة بثمن زهيد جدا كما يراه الخبيث لا يكلف أكثر من أن يخر ساجدا أمامه . " أذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " ( مت 4 : 10 ) لقد طلب الشيطان فى التجربتين الأولى والثانية من ربنا يسوع برهانا على قوته الإلهية بقوله : " إن كنت ابن الله " ، فلم يجبه مخلصنا بالطريقة التى طلب بها ، ولكن فى التجربة الثالثة أعطاه البرهان على أنه ابن الله بطريقة شعر بها الشيطان فى ذاته عندما قال له : " اذهب يا شيطان للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد " فشعر الشيطان فى الحال أنه واقف أمام من يعرف أعماقه أعماق الهاوية ، أمام من لا يختفى عنه عمل الأثم ، شعر بقوة الأمر الصادر له من فم مخلصنا تدفعه إلى أعماق الجحيم دفعا ، ظل شاعرا بتأثيرها وخطرها حتى إذا ما رآه مارا فى الطريق ذات يوم صرخ قائلا : " آه ما لنا ولك يا يسوع الناصرى أجئت قبل الوقت لتعذبنا " ! . " ثم تركه أبليس وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه " ( مت 4 : 11 ) . إن ترك ابليس للسيد المسيح كان فرارا وانكسارا واعترافا بعظمة المسيح وجبروته ولكن ابتعاد الشيطان كان إلى حين ، كما يقول القديس لوقا : " فارقه إلى حين " لأن الحرب قد تكررت مرارا وخاصة فى اليوم الأخير من حياة المسيح المقدسة على الأرض " جاءت ملائكة فصارت تخدمه " بعد أن انتصر على الشيطان ، جاءت الملائكة فى الوقت الصحيح والحين المناسب وليس كما طلب الشيطان ، فلما رفض المسيح العمل بمشورة الشيطان جاءت الملائكة وصارت تخدمه .
المزيد
03 أغسطس 2019

أمنا القديسة العذراء.. فضائلها وإيمانها

لا توجد امرأة تنبأ عنها الأنبياء وأهتم بها الكتاب مثل مريم رموز عديدة عنها في العهد القديم وكذلك سيرتها وتسبحتها والمعجزات في العهد الجديد وما أكثر التمجيدات والتأملات التي وردت عن العذراء في كتب الآباء التي تلقبها بها الكنيسة مستوحاة من روح الكتاب إنها أمنا كلنا وسيدتنا كلنا وفخر جنسنا الملكة القائمة عن يمين الملك العذراء دائمة البتولية المملوءة نعمة القديسة مريم الأم القادرة المعينة الرحيمة أم النور أم الرحمة والخلاص الكرمة الحقانية.هذه هي التي ترفعها الكنيسة فوق مرتبة رؤساء الملائكة فنقول عنها في تسابيحها وألحانها: علوت يا مريم فوق الشاروبيم وسموت يا مريم فوق السيرافيم لم يرد بالكتاب المقدس تاريخ القديسة حنة والقديس يواقيم -أبويّ العذراء مريم- بل حتى تاريخ السيدة العذراء قبل خطبتها ذلك لأن الكتاب المقدس يركز كل اهتمامه على شخصية السيد المسيح وترك باقي الأشياء للتقليد ليدونها ويذكرها للكنيسة المقدسة يذكر التقليد انه كان في بلاد اليهودية رجل اسمه يواقيم (يهوه يقيم) وزوجته اسمها حَنَة (الحنون) وقد كانا متقدمين في السن ولم يرزقا بذرية. ولأن بنى إسرائيل كانوا يعيرون من لا ولد له لهذا كانا القديسان حزينين ومداومين على الصلاة والطلب من الله نهارًا وليلًا أن يعطيهما ابنًا يخدمه في بيته كصموئيل. فاستجاب الرب الدعاء فظهر ملاك الرب جبرائيل ليواقيم وبشره بان امرأته حَنَة ستحبل وتلد مولودًا يسر قلبه, كما ظهر جبرائيل الملاك لحَنَة وزف إليها البشرى بأنها ستلد ابنة مباركة تطوبها جميع الأجيال لان منها يكون خلاص آدم وذريته. وقضت حَنَة أيام حملها في صلوات وأصوام إلى أن ولدت بنتًا وسمياها مريم (سيدة), وكان ذلك في يوم أول بشنس. ولما بلغت مريم 3 سنوات قاما والداها بتقديمها للهيكل لتخدم الرب مع بقية العذارى, وظلت تخدم في الهيكل حتى بلغت الثانية عشر من عمرها, وكان أبواها قد ماتا وعندما بلغت سن الزواج تشاور الكهنة معًا على زواجها فاختار زكريا الكاهن من شيوخ وشبان يهوذا واخذ عصيهم وكتب عل كل واحدة اسم صاحبها ووضعهم داخل الهيكل فصعدت حمامة فوق العصا التي كانت ليوسف النجار ثم استقرت على رأسه فعقد الكهنة خطبتها على يوسف وعاشت في بيته الذي في الناصرة. بشارة الملاك جبرائيل للعذراء: ظهر جبرائيل الملاك للعذراء مريم وبشرها بميلاد الطفل يسوع (لو 1: 26-38) وذلك بعد ستة أشهر من ظهوره لزكريا الكاهن وبشارته بميلاد يوحنا المعمدان. فضائل العذراء: إذا كانت العذراء قد استطاعت ان تحوى بداخلها الغير المحوى فلقد تجملت بالفضائل الكثيرة التي أهلتها لذلك, ولو كان يوجد من يفوقها من بعدها نقاءً وقداسة لكان الله قد أبطأ قدومه حتى جاء منها لذلك نحن نقول عن العذراء إنها قديسة الأجيال وقديسة القديسين. 1- الاتضاع والوداعة لعل الفضيلة الأساسية والعظمى التي جعلت الرب ينظر إليها إنها كانت وديعة إذ قالت "لأنه نظر إلى اتضاع أمته" (لو 48:1) وقد ظهرت وداعة العذراء مريم في عدة أمور: ‌أ- احتمال الكرامة: قد يظن البعض إن احتمال الآلام صعب ولكن يجب أن نعرف إن احتمال الكرامة يحتاج إلى مجهود أكثر من احتمال الآلام والإهانات وقد قال أحد القديسين: "هناك الكثيرون يحتملون الإهانات ولكن القليلين يحتملون الكرامات"حينما صارت العذراء أمًا لله لم تتكبر بل قالت "هوذا أنا أمة الرب", واحتملت كرامة ومجد التجسد الإلهي منها.. مجد حلول الروح القدس فيها.. مجد ميلاد الرب منها.. ومجد جميع الأجيال التي تطوبها. احتملت كل ظهورات الملائكة لها وسجود المجوس أمام ابنها والمعجزات الكثيرة التي حدثت من ابنها في ارض مصر بل ونور هذا الابن في حضنها. ‌ب- إنكار الذات حينما كان الرب في الهيكل وهو طفل صغير وبحثت عنه العذراء ولم تجده مع الأقرباء والمعارف وكان معها يوسف النجار, وأخيرًا وجدته في الهيكل جالسًا وسط المعلمين (لو2: 44-49) قالت له العذراء".... هوذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين"العذراء كانت تعرف أن ابنها ليس ابنًا ليوسف ومع ذلك كانت تدعوه أبًا له, والأفضل من ذلك أنها كانت تقدمه على نفسها فتقول "... هوذا أبوك وأنا..." معطية له كرامة أكثر. ‌ج- خدمة الآخرين: خدمة الآخرين تكون مبنية على المحبة والتواضع. القديسة مريم ذهبت إلى أليصابات لتخدمها عندما علمت أنها حبلى مع إنها أم المسيح, إلا إنها لم تمنعها كرامتها من تذهب إلى أليصابات في رحلة مضنية شاقة ومضنية عبر الجبال وتمكث عندها 3 شهور تخدمها حتى ولدت يوحنا (لو 1: 39-56), فعلت ذلك وهي حبلى برب المجد. 2- الإيمان: قالت أليصابات للعذراء" ... طوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من قبل الرب.." (لو 45:1). فى بشارة الملاك للعذراء كشف لنا جوهر الإيمان العميق في حياتها, هذا الإيمان الذي تسلمته من أبويها وازداد نموًا بوجودها في الهيكل وصلواتها وتضرعاتها المستمرة وحفظها لكلام الرب الذي كانت تخبئه داخل قلبها و لكي ندرك مقدار وعظمة إيمان العذراء لنقارنه بإيمان زكريا الكاهن إن الكاهن الشيخ لم يصدق كلام الله الذي يتم في حينه (لو 20:1) فلم تكن معجزة ولادة يوحنا من أم عاقر وأب شيخ, هي المعجزة الأولى في التاريخ إذ سبقتها معجزات, فهوذا إسحق قد وُلد من إبراهيم ذو المائة عام وسارة العاقر (تك 18), وآخرون كثيرون : صموئيل من حَنَة (1صم1), وشمشون من منوح وزوجته (قض13), ويعقوب وعيسو من رفقة (تك 25), ويوسف من راحيل (تك 31:29) و لكن المعجزة التي لم يسبق أن حدث مثلها في التاريخ من قبل هي معجزة ولادة المسيح من عذراء بدون زرع بشر, ولكن مع ذلك فان الأمر السهل لم يصدقه زكريا, والأمر الأصعب قبلته العذراء إذ كان لديها رصيد جبار من الإيمان. كان إيمان العذراء يتصف بثلاث صفات: ‌أ- إيمان بلا شك: عندما بشر جبرائيل الملاك العذراء بميلاد المسيح قالت له مريم :"..ليكن لي كقولك..."(لو 38:1) لقد فاقت العذراء الكثير من القديسين والقديسات فهوذا سارة عندما سمعت بشارة الملائكة بميلاد إسحق ضحكت وقالت" ..أبعد فنائى يكون لي تنعم وسيدى قد شاخ.."(تك12:18) ليس سارة فقط لكن هذا توما الرسول يشك في قيامة السيد المسيح من بين الأموات, وبطرس الرسول الذي إشتهر بكلمة : " إن شك فيك الجميع فأنا لا أشك" قال له السيد المسيح : " ...يا قليل الإيمان لماذا شككت...."مع ان العذراء مريم سألت الملاك : "..كيف يكون هذا..." إلا إنها حينما رد عليها الملاك:"...الروح القدس يحل عليك.." لم تتساءل للمرة الثانية بل آمنت وقالت:"...ليكن لي كقولك..." ‌ب- إيمان بلا جدال: هناك الكثير من النعم التي نفقدها إذا جادلنا وناقشنا وسألنا بعقلنا الجسدى وحكمتنا البشرية.لم يكن غريبًا ان عاقرًا تلد ولكن الغريب ان تلد عذراء لهذا قال الرب على لسان أشعياء النبى العظيم:"....يعطيكم السيد نفسه آية, ها العذراء تحبل وتلد ابنًا...." (أش14:7) ومعروفة قصة سمعان الشيخ وتفكيره في هذه الآية. هناك الكثير من أنبياء العهد القديم قد طلبوا من الرب علامات: * موسى النبى حين أرسله الله وأعطاه علامات تحويل العصا إلى حية وتحويل يده السليمة إلى برصاء (خر4). * جدعون وعلامة جزة الصوف (قض6). * حزقيا الملك ورجوع ظل الشمس 10 درجات (2مل 20: 9) * زكريا الكاهن وعقوبته بالصمت . أما العذراء مريم فلم تطلب لا من الرب ولا من ملاك الرب أي علامة . ‌ج- إيمان بلا خوف: كثيرون من الذين رأوا الرب أو تكلموا معه أصابهم الخوف مثال أشعياء النبى (أش 5:6), ومنوح وزوجته (قض 23:13)أما العذراء فلم تؤمن لأنها خافت بل آمنت وهي في كامل ثباتها وقوتها. حقًا لقد اضطربت بعض الشيء. كان في قلب مريم خوف الله ولكن لم يكن في قلبها خوف من الله لأن المحبة الكاملة تطرد الخوف إلى خارج. بين إيمان إبراهيم وإيمان العذراء مريم: لقد وعد الله إبراهيم بنسل في الوقت الذي كان فيه قد صار شيخًا, وزوجته سارة كانت عاقرًا ولكن " آمن إبراهيم بالله فحسب له برًا" (تك 6:15)"فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء لكي يصير أبًا لأمم كثيرة... ولا بعدم إيمان إرتاب في وعد الله بل تقوى بالإيمان معطيًا مجدًا لله وتيقن أن ما وعد به الله قادر أن يفعله.."(رو 4: 18-21) فكان إبراهيم بهذا أعظم نموذج للإيمان في العهد القديم.لقد وضع الملاك غبريال القديسة مريم في موقف مشابه للموقف الذي كان فيه إبراهيم وسارة حينما سمعا كلمة الله من فم الملاك أخبر الملاك العذراء مريم عن حبل أليصابات التي كانت عاقرًا فآمنت. والثلاث رجال أخبروا إبراهيم عن حبل سارة أمرأته التي كانت عاقرًا فآمن الملاك يقول لمريم:" ليس شيء غير ممكن عند الله.."(لو37:1). وقال الرب لإبراهيم :"..هل يستحيل على الرب شيء.."(تك 14:18) على العكس تمامًا سارة لم تؤمن بكلام الملاك وكذلك زكريا الكاهن حتى إن نفس الكلام الذي قالته سارة في (تك 18: 12) كرره زكريا في (لو 1: 18) كل بركات العهد القديم من إبراهيم حتى العذراء مريم كان بدايتها إيمان إبراهيم, وكل بركات العهد الجديد كان بدايتها إيمان العذراء مريم ولإلهنا المجد الدائم أبديًا آمين.
المزيد
24 يناير 2022

نياحة القديسين العظيمين مكسيموس و دوماديوس

في هذا اليوم تذكار القديسين الجليلين مكسيموس وأخيه دوماديوس. وكان أبواهما والندينيانوس ملك الروم رجلا خائفا الله قويم المعتقد، فرزقه هذين القديسين. وكانا منذ صغرهما مثل الملائكة في الطهر والقداسة، ملازمين الصلاة ومطالعة الكتب المقدسة. ولما تحقق لهما زوال هذا العالم وكل مجده، قررا تركه وعزما علي العيشة الرهبانية. فطلبا من أبيهما أن يسمح لهما بالذهاب إلى مدينة نيقية، ليصليا في مكان اجتماع المجمع المقدس المسكوني الأول، الذي انعقد سنة 325م، ففرح أبوهما وأرسل معهما حاشية من الجند والخدم كعادة أولاد الملوك. ولما وصلا أمرا الجند أن يرجعوا إلى أبيهما ويقولوا له: "إنهما يريدان أن يمكثا هناك أياما". ثم كشفا أفكارهما لأحد الرهبان القديسين من أنهما يريدان لباس الأسكيم المقدس. فلم يوافقهما علي ذلك خوفا من أبيهما، وأشار عليهما أن يذهبا إلى الشام حيث يقيم الرجل القديس الأنبا اغابيوس، فذهبا إليه وظلا عنده حتى تنيح. وكان قبل نياحته قد ألبسهما شكل الرهبنة، وعرفهما بأنه رأى في الليل القديس مقاريوس وهو يقول له: "أوص ولديك أن يأتيا إلىَّ بعد نياحتك ويصيرا لي بنينا". ثم قال لهما: "إنني كنت اشتهي أن أنظر هذا القديس بالجسد، ولكنني قد رأيته بالروح. فبعد نياحتي أمضيا إليه بسلام". وقد أنعم الله عليهما بموهبة شفاء المرضي، وشاع ذكرهما في تلك البلاد وخصوصا بين التجار والمسافرين، وتعلما صناعة شراع (قلوع) السفن. فكانا يقتاتان بثمن ما يبيعان منه، ويتصدقان علي الفقراء والمساكين بما فضل عنهما. وذات يوم رأي أحد حجاب أبيهما شراع إحدى السفن مكتوبا عليه "مكسيموس و دوماديوس" فاستفسر من صاحب السفينة فقال له: "هذا اسم أخوين راهبين، كتبته علي سفينتي تبركا، لكي ينجح الله تجارتي". ثم أوضح له أوصافهما بقوله: "إن أحدهما قد تكاملت لحيته والآخر لم يلتح بعد، فعرفهما الحاجب وأخذ الرجل وأحضره أمام الملك. ولما تحقق منه الأمر أرسل إليهما والدتهما والأميرة أختهما. فلما تقابلتا بالقديسين وعرفتاهما بكتا كثيرا. ورغبت أمهما أن يعودا معها فلم يقبلا، وطيبا قلب والدتهما وأختهما. وبعد ذلك بقليل تنيح بطريرك رومية، فتذكروا القديس مكسيموس ليقيموه بدلاً عنه. ففرح والده بذلك. ولما وصل هذا الخبر إلى القديس مكسيموس وأخيه، وتذكرا وصية أبيهما الأنبا أغابيوس، فغير الاثنان شكلهما، وقصدا طريق البحر الأبيض. وكانا إذا عطشا يبدل الله لهما الماء المالح بماء عذب، وتعبا كثيرا من السير حتى أدمت أرجلهما، فناما علي الجبل وقد أعياهما التعب، فأرسل الله لهما قوة حملتهما إلى برية الإسقيط، حيث القديس مقاريوس، وعرفاه أنهما يريدان السكني عنده. ولما رآهما من ذوي التنعم، ظن أنهما لا يستطيعان الإقامة في البرية لشظف العيشة فيها. فأجاباه قائلين: "إن كنا لا نقدر يا أبانا فأننا نعود إلى حيث جئنا". فعلمهما ضفر الخوص ثم عاونهما في بناء مغارة لهما، وعرفهما بمن يبيع لهما عمل أيديهما ويأتيهما بالخبز. فأقاما علي هذه الحال ثلاث سنوات، لم يجتمعا بأحد، وكانا يدخلان الكنيسة لتناول الأسرار الإلهية وهما صامتين، فتعجب القديس مقاريوس لانقطاعهما عنه كل هذه المدة، وصلي طالبا من الله أن يكشف له أمرهما. وجاء إلى مغارتهما حيث بات تلك الليلة. فلما استيقظ في نصف الليل كعادته للصلاة. رأى القديسين قائمين يصليان، وشعاع من النور صاعدا من أفواههما إلى السماء، والشياطين حولهما مثل الذباب، وملاك الرب يطردهم عنهما بسيف من نار. فلما كان الغد ألبسهما الإسكيم المقدس وانصرف قائلا: "صليا عني" فضربا له ميطانية وهما صامتين. ولما أكملا سعيهما وأراد الرب أن ينقلهما من أحزان هذا العالم الزائل. مرض القديس مكسيموس فأرسل إلى القديس مقاريوس يرجوه الحضور. فلما أتى وجده محموما فعزاه وطيب قلبه. وتطلع القديس مقاريوس وإذا جماعة من الأنبياء والقديسين ويوحنا المعمدان و قسطنطين الملك جميعهم قائمين حول القديس إلى أن أسلم روحه الطاهرة بمجد وكرامة. فبكي القديس مقاريوس وقال: "طوباك يا مكسيموس ". أما القديس دوماديوس فكان يبكي بكاء مرا، وسأل القديس مقاريوس أن يطلب عنه إلى السيد المسيح لكي يلحقه بأخيه. وبعد ثلاثة أيام مرض هو أيضا، وعلم القديس مقاريوس فذهب إليه لزيارته. وفيما هو في طريقه رأي جماعة القديسين الذين كانوا قد حملوا نفس أخيه، حاملين نفس القديس دوماديوس وصاعدين بها إلى السماء. فلما أتي إلى المغارة وجده قد تنيح، فوضعه مع أخيه الذي كانت نياحته في الرابع عشر من هذا الشهر. وأمر أن يدعي الدير علي اسمهما فدعي دير البراموس نسبه إليهما، وهكذا يدعى إلى هذا اليوم. صلاتهما تكون معنا. آمين.
المزيد
06 مارس 2019

اليوم الثالث من الاحد الاول من الصوم الكبير

إنجيل القداس : لوقا 6 : 35 – 38 بل احبوا اعداءكم و احسنوا و اقرضوا و انتم لا ترجون شيئا فيكون اجركم عظيما و تكونوا بني العلي فانه منعم على غير الشاكرين و الاشرار فكونوا رحماء كما ان اباكم ايضا رحيم و لا تدينوا فلا تدانوا لا تقضوا على احد فلا يقضى عليكم اغفروا يغفر لكم اعطوا تعطوا كيلا جيدا ملبدا مهزوزا فائضا يعطون في احضانكم لانه بنفس الكيل الذي به تكيلون يكال لكم لم تأمر الشريعة ببغض العدوّ كوصيّة يلتزم بها المؤمن، في كسرها كسر للناموس وإنما كان ذلك سماحًا أُعطى لهم من أجل قسوة قلوبهم. لقد ألزمت بحب القريب وسمحت بمقابلة العداوة بعداوة مساوية، لكي تمهد لطريقٍ أكمل، أن يحب الإنسان قريبه على مستوى عام، أي كل بشر. يظهر ذلك بوضوح من الشريعة نفسها التي قدّمت نصيبًا من محبّة الأعداء ولو بنصيب قليل، فقيل: "إذا رأيت حمار مبغضك واقعًا تحت حمله وعدلت عن حلّه فلابد أن تحلّ معه" (خر 23: 5). وقيل أيضًا: "لا تكره أدوميًا لأنه أخوك، ولا تكره مصريًا لأنك كنت نزيلاً في أرضه" (تث 23: 7)، مع أن الأدوميّين والمصريّين كان من ألد أعدائهم. هذا من جانب ومن جانب آخر كان الشعب في بداية علاقته بالله غير قادر على التمييز بين الخاطي والخطيّة، لذا سمح الله لهم بقتل الأمم المحيطين بهم رمزًا لقتل الخطيّة، خاصة وأن اليهود كانوا سريعًا ما يسقطون في عبادة آلهة الأمم المحيطين بهم. لقد طالب السيّد المسيح المؤمنين أن يصعدوا بروحه القدّوس على سلّم الحب فيحبّون حتى الأعداء، ويحسنون إلى المبغضين لهم، ويصلّون لأجل المسيئين إليهم. وبهذا يحملون مثال أبيهم السماوي وشبهه. ويرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن السيّد المسيح قد جاء ليرفعنا إلى كمال الحب، الذي في نظره يبلغ الدرجة التاسعة، مقدّمًا لنا هذه الدرجات هكذا: الدرجة الأولى: ألا يبدأ الإنسان بظلم أخيه. الدرجة الثانية: إذا أصيب الإنسان بظلم فلا يثأر لنفسه بظلم أشد، وإنما يكتفي بمقابلة العين بالعين والسن بالسن (المستوى الناموسي الموسوي). الدرجة الثالثة: ألا يقابل الإنسان من يسيء إليه بشر يماثله، إنّما يقابله بروح هادئ. الدرجة الرابعة: يتخلّى الإنسان عن ذاته، فيكون مستعدًا لاحتمال الألم الذي أصابه ظلمًا وعدوانًا. الدرجة الخامسة: في هذه المرحلة ليس فقط يحتمل الألم، وإنما يكون مستعدًا في الداخل أن يقبل الآلام أكثر مما يودّ الظالم أن يفعل به، فإن اغتصب ثوبه يترك له الرداء، وإن سخّره ميلاً يسير معه ميلين. الدرجة السادسة: أنه يحتمل الظلم الأكثر ممّا يودّه الظالم دون أن يحمل في داخله كراهيّة نحو العالم. الدرجة السابعة: لا يقف الأمر عند عدم الكراهيّة وإنما يمتد إلى الحب... "أحبّوا أعداءكم". الدرجة الثامنة: يتحوّل الحب للأعداء إلى عمل، وذلك بصنع الخير "أحسنوا إلى مبغضيكم"، فنقابل الشرّ بعمل خير. الدرجة التاسعة والأخيرة: يصلّي المؤمن من أجل المسيئين إليه وطارديه. هكذا إذ يبلغ الإنسان إلى هذه الدرجة، ليس فقط يكون مستعدًا لقبول آلام أكثر وتعييرات وإنما يقدّم عوضها حبًا عمليًا ويقف كأب مترفّق بكل البشريّة، يصلّي عن الجميع طالبًا الصفح عن أعدائه والمسيئين إليه وطارديه، يكون متشبِّهًا بالله نفسه أب البشريّة كلها. يرى القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن غاية مجيء السيّد إلينا إنّما هو الارتفاع بنا إلى هذا السموّ إذ يقول: [جاء المسيح بهذا الهدف، أن يغرس هذه الأمور في ذهننا حتى يجعلنا نافعين لأعدائنا كما لأصدقائنا.] ليس شيء يفرح قلب الله مثل أن يرى الإنسان المطرود من أخيه يفتح قلبه ليضمّه بالحب فيه، باسطًا يديه ليصلّي من أجله! يرى الله فيه صورته ومثاله! لهذا يختم السيّد الوصيّة بقوله "لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" [متى 5 : 45]. إن كنّا في مياه المعموديّة ننال روح التبنّي، ننعم بالسلطان أن نصير أولاد الله (يو 1: 12)، فإنّنا بأعمال الحب التي هي ثمرة روحه القدّوس فينا نمارس بنوتنا له، وننمو فيها ونزكِّيها. أبوّته لنا تدفعنا للحب، والحب يزكِّي بنوتنا له، يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [هذا هو السبب الذي لأجله ندعوه في الصلاة أبًا، لا لنتذكّر نعمته فحسب، وإنما من أجل الفضيلة فلا نفعل شيئًا غير لائق بعلاقة كهذه.] فيما يلي بعض مقتطفات للآباء عن محبّة الأعداء: + لو لم يكن شريرًا ما كان قد صار لكم عدوًا. إذن اشتهوا له الخير فينتهي شرّه، ولا يعود بعد عدوًا لكم. إنه عدوّكم لا بسبب طبيعته البشريّة وإنما بسبب خطيّته! + كان شاول عدوًا للكنيسة، ومن أجله كانت تُقام صلوات فصار صديقًا لها. إنه لم يكف عن اضطهادها فحسب، بل وصار يجاهد لمساعدتها. كانت تُقام صلوات ضدّه، لكنها ليست ضدّ طبيعته بل ضدّ افتراءاته. لتكن صلواتكم ضدّ افتراءات أعدائكم حتى تموت، أما هم فيحيون. لأنه إن مات عدوّكم تفقدونه كعدوّ ولكنكم تخسرونه كصديق أيضًا. وأما إذا ماتت افتراءاته فإنكم تفقدونه كعدوّ وفي نفس الوقت تكسبونه كصديق. + عندما تعانون من قسوة عدوّكم تذكّروا قول الرب: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون" (لو 23: 34) . القدّيس أغسطينوس + لا تفيدنا الصلاة من أجل الأصدقاء بقدر ما تنفعنا لأجل الأعداء!... فإن صليّنا من أجل الأصدقاء لا نكون أفضل من العشّارين، أمّا إن أحببنا أعداءنا وصليّنا من أجلهم فنكون قد شابهنا الله في محبّته للبشر. + يجب أن نتجنّب العداوة مع أي شخص كان، وإن حصلت عداوة مع أحد فلنسالمه في اليوم ذاته... وإن انتقدك الناس (على ذلك) فالله يكافئك. أمّا إن انتظرت مجيء خصمك إليك ليطلب منك السماح فلا فائدة لك من ذلك، لأنه يسلبك جائزتك ويكسب لنفسه البركة. القدّيس يوحنا الذهبي الفم ++إن كانت الرحمة تدفعنا للتشبُّه بالله الرحيم نفسه؛ فإنَّنا إذ نطلب رحمة يلزمنا أن نرحم اِخوتنا ولا ندينهم: "ولا تدينوا فلا تدانوا، لا تقضوا على أحد، فلا يُقضى عليكم" [37]. اهتم الآباء - خاصة آباء البريّة - بالتدقيق في عدم الإدانة، فحسبوا أنه ليس شيء يغضب الله مثلها، إذ تنزع نعمته عمَّن يرتكبها ويرفع رحمته عنه حتى إذا ما ترفَّق بأخيه ينال هو النعمة الإلهيّة ومراحم الله. يرى الأب بومين والأب موسى أن من يدين أخاه ينشغل بخطايا الغير لا بخطاياه، فيكون كمن يبكي على ميِّت الآخرين ويترك ميِّته. يقول الأب دوروثيؤس: [إننا نفقد القوَّة على إصلاح أنفسنا متطلِّعين على الدوام نحو أخينا]، [ليس شيء يُغضب الله أو يعرِّي الإنسان أو يدفعه لهلاكه مثل اغتيابه أخيه أو إدانته أو احتقاره... أنه لأمر خطير أن تحكم على إنسان من أجل خطيّة واحدة ارتكبها، لذلك يقول المسيح: "يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك، وحينئذ تُبصر جيِّدًا أن تُخرج القذَى الذي في عين أخيك" [42]. أنظر فإنَّه يشبِّه خطيَّة الأخ بالقذَى أما حُكمك المتهوِّر فيحسبه خشبَة. تقريبًا أصعب خطيَّة يمكن معالجتها هي إدانة أخينا!... لماذا بالحري لا ندين أنفسنا ونحكم على شرِّنا الذي نعرفه تمامًا وبدقة والذي نعطي عنه حسابًا أمام الله! لماذا نغتصب حق الله في الإدانة؟! الله وحده يدين، له أن يبرِّر وله أن يدين. هو يعرف حال كل واحد منَّا وإمكانيَّاتنا وانحرافاتنا ومواهبنا وأحوالنا واستعداداتنا. فله وحده أن يدين حسب معرفته الفريدة. أنه يدين أعمال الأسقف بطريقة، وأعمال الرئيس بطريقة أخرى. يحكم على أب دير، أو تلميذ له بطريقة مغايرة، الشخص القديم (له خبراته ومعرفته) غير طالب الرهبنة، المريض غير ذي الصحَّة السليمة. ومن يقدر أن يفهم كل هذه الأحكام سوى خالق كل شيء ومكوِّن الكل والعارف بكل الأمور؟] يكمل الأب دوروثيوس حديثه عن عدم الإدانة بعرض قصَّة يتذكَّرها عن سفينة كانت تحمل عبيدًا، إذ تقدَّمت عذراء قدِّيسة إلى صاحب السفينة واِشترت فتاة صغيرة حملتها معها إلى حجرتها لتدرِّبها على الحياة التقويّة كابنة صغيرة لها، ولم يمضِ إلا قليلاً حتى جاءت فرقة للرقص، اشترت أخت هذه الفتاة الصغيرة لتدرِّبها على أعمال اللهْو والمُجون والحياة الفاسدة... هنا يقف الأب دوروثيؤس مندهشًا، أن الفتاتين قد اُغْتصِبتا من والديهما، إحداهما تتمتَّع بمخافة الله تحت قيادة قدِّيسة محبَّة وأخرى بغير إرادتها اُغْتُصبت لممارسة الحياة الفاسدة. لهذا يتساءل: أليس لله وحده أن يدين الفتاتين بطريقة يصعب علينا إدراكها؟! فنحن نتسرَّع في الحكم، أما الله فعالم بالأسرار طويل الأناة، وحده قادر أن يبرِّر أو يدين. يعلّق القدِّيس كيرلس الكبير على كلمات السيِّد عن عدم الإدانة، قائلاً: [بينما يطلب منَّا التعمق في فحص أنفسنا حتى ينطبق سلوكنا على أوامر الله وتعاليمه نجد البعض يشغلون أنفسهم بالتدخُّل في شئون الآخرين وأعمالهم، فإذا وقفوا على خطأ في أخلاق الغير عمدوا إلى نهش أعراضهم بألسنة حدَّاد، ولم يدروا أنهم بذم الآخرين يذمون أنفسهم، لأن بهم مساوئ ليست دون مساوئ الغير في المذلَّة والمهانة. لذلك يقول الحكيم بولس: "لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين، لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك، لأنك أنت الذي تدين تفعل تلك الأمور بعينها" (رو 2: 1). فمن الواجب علينا والحالة هذه أن نشفق على الضعيف، ذاك الذي وقع أسيرًا لشهواته الباطلة وضاقت به السُبل، فلا يمكنه التخلُّص من حبائل الشرّ والخطيّة. فلنصلِ عن مثل هؤلاء البائسين القانطين، ولنَمِدْ لهم يدْ العون والمساعدة، ولنَسعَ في ألاَّ نسقط كما سقطوا. فإنَّ "الذي يذم أخاه، ويدين أخاه، يذم الناموس ويدين الناموس" (يع 4: 11). وما ذلك إلا لأن واضع الناموس والقاضي بالناموس هو واحد، ولما كان المفروض أن قاضي النفس الشريرة يكون أرفع من هذه النفس بكثير، ولما كنا لا نستطيع أن ننتحل لأنفسنا صفة القضاة بسبب خطايانا وجب علينا أن نتنحَّى عن القيام بهذه الوظيفة، لأنه كيف ونحن خطاة نحكم على الآخرين وندينهم؟! إذن يجب ألا يدين أحد أخاه، فإن حدَّثتْك نفسك بمحاكمة الآخرين، فأعلم أن الناموس لم يُقِمك قاضيًا ومُحاكمًا، ولذلك فانتحالك هذه الوظيفة يوقِعك تحت طائلة الناموس، لأنك تنتهك حُرمته. فكل من طاب ذهنه لا يتصيَّد معاصي الغير، ولا يشغل ذهنه بزلاَّتهم وعثراتهم، بل عليه فقط أن يتعمَّق في الوقوف على نقائصه وعيوبه. هذا كان حال المرنِّم المغبوط وهو يصف نفسه بالقول الحكيم: "إن كنت تُراقب الآثام يارب يا سيِّد، فمن يقف" (مز 130: 3)، وفي موضع آخر يكشف المرنِّم عن ضعف الإنسان ويتلمَّس له الصفح والمغفرة إذ ورد قوله: "أذكر أننا تراب نحن" (مز 103: 14).]
المزيد
10 فبراير 2019

نياحة القديس أنبا بولا أول السواح

في مثل هذا اليوم من سنة 341 م تنيح القديس العظيم الأنبا بولا أول السواح . كان هذا القديس من الإسكندرية ، وكان له أخ يسمي بطرس ، وبعد وفاة والدهما ، شرعا في قسمة الميراث بينهما ، فلما أخذ أخوه الجزء الأكبر تألم بولس من تصرف أخيه وقال له : لماذا لم تعطني حصتي من ميراث أبى ؟ فأجابه لأنك صبي وأخشي ان تبدده ، أما انا فسأحفظه لك . وإذ لم يتفقا ، مضيا للحاكم ليفصل بينهما . وفيما هما ذاهبين ، وجدا جنازة سائرة في الطريق ، فسأل بولس أحد المشيعين عن المتوفى ، فقيل له إنه من عظماء هذه المدينة وأغنيائها ، وهوذا قد ترك غناه وماله الكثير ، وها هم يمضون به إلى القبر بثوبه فقط . فتنهد القديس وقال في نفسه : ما لي إذن وأموال هذا العالم الفاني الذي سأتركه وأنا عريان . ثم التفت إلى أخيه وقال له : ارجع بنا يا أخي ، فلست مطالبا إياك بشيء مما لي . وفيما هما عائدين انفصل عنه بولس وسار في طريقه حتى وصل إلى خارج المدينة . فوجد قبرا أقام به ثلاثة أيام يصلي إلى السيد المسيح ان يرشده إلى ما يرضيه . أما أخوه فإنه بحث عنه كثيرا ، وإذ لم يقف له على اثر حزن حزنا عظيما وتأسف على ما فرط منه . أما القديس بولس فقد أرسل إليه الرب ملاكا أخرجه من ذلك المكان وسار معه إلى ان آتى إلى البرية الشرقية الداخلية ، وهناك أقام سبعين سنة لم يعاين أثناءها أحدا . وكان يلبس ثوبا من ليف ، وكان الرب يرسل إليه غرابا بنصف خبزة في كل يوم . ولما أراد الرب إظهار قداسته وبره ، أرسل ملاكه إلى الأب العظيم أنطونيوس ، الذي كان يظن انه أول من سكن البرية ، وقال له : يوجد في البرية الداخلية إنسان لا يستحق العالم وطأة قدميه ، وبصلاته ينزل الرب المطر والندي على الأرض ، ويأتي بالنيل في حينه . فلما سمع أنطونيوس هذا قام لوقته وسار في البرية الداخلية مسافة يوم . فأرشده الرب إلى مغارة القديس بولس فدخل إليه وسجد كل منهما للآخر وجلسا يتحدثان بعظائم الأمور . ولما صار المساء أتى الغراب ومعه خبزة كاملة . فقال القديس بولس للقديس أنطونيوس : الآن قد علمت انك من عبيد الله . ان لي اليوم سبعين سنة والرب يرسل لي نصف خبزة كل يوم ، أما اليوم فقد أرسل الرب لك طعامك ، والان أسرع واحضر لي الحلة التي أعطاها قسطنطين الملك لأثناسيوس البطريرك . فمضى إلى البابا أثناسيوس أخذها منه وعاد بها إليه . وفيما هو في الطريق رأى نفس القديس الأنبا بولا والملائكة صاعدين بها . ولما وصل إلى المغارة وجده قد تنيح ، فقبله باكيا ثم كفنه بالحلة وأخذ الثوب الليف . ولما أراد مواراة جسده الطاهر تحير كيف يحفر القبر ، وإذا بأسدين يدخلان عليه وصارا يطأطأن بوجهيهما على جسد القديس ، ويشيران برأسيهما كمن يستأذناه فيما يعملان . فعلم انهما مرسلان من قبل الرب ، فحدد لهما مقدار طول الجسد وعرضه فحفراه بمخالبهما . وحينئذ واري القديس أنطونيوس الجسد المقدس وعاد إلى الأب البطريرك واعلمه بذلك ، فأرسل رجالا ليحملوا الجسد إليه . فقضوا أياما كثيرة يبحثون في الجبل فلم يعرفوا له مكانا ، حتى ظهر القديس للبطريرك في الرؤيا واعلمه ان الرب لم يشأ إظهار جسده فلا تتعب الرجال ، فأرسل واستحضرهم . أما الثوب الليف فكان يلبسه الأب البطريرك ثلاث مرات في السنة أثناء التقديس . وفي أحد الأيام أراد ان يعرف الناس مقدار قداسة صاحبه فوضعه على ميت فقام لوقته . وشاعت هذه الأعجوبة في كل ارض مصر والإسكندرية . صلاته تكون معنا آمين .
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل