المقالات

16 أغسطس 2020

بتولية مريم العذراء فى كتب أبوكريفا

كما كانت عقيدة "الدائمة البتولية" لمريم العذراء عقيدة راسخة فى الكنيسة، كانت أيضاً منتشرة فى الكتابات الأبوكريفيه التى إنتشرت فى القرن الثانى وحتى السادس والتى أعطاها مؤلفوها لقب أناجيل ونسبوها أو أسموها بأسماء بعض الرسل لتلقى رواجاً بين بعض المؤمنين، وكانت تعبر عن الفكر الشعبى المسيحى وأحياناً يعتبر بعضها تاريخاً. ومع أن الكنيسة رفضتها من البداية لأنها أخذت أفكارها الرئيسية من الأناجيل القانونية ولكن موضوعاتها كانت مخله مملؤه بالمعجزات الصبيانيه الخرافية ومع ذلك فهى لا تعدو كونها تراث فكرى وشعبى مبكر، خاصة وإن كانت أفكار تلك الكتب منسجمة مع فكر الكتاب المقدس والكنيسة، وهذه الكتب الأبوكريفية غير القانونية أو معظمها أكدت دوام بتولية مريم العذراء. وقد أكدت كتب أبوكريفا على دوام بتولية القديسة مريم وهى: 1- كتاب صعود أشعياء: وجد رحمها كما هو عليه قبل الحمل. 2- كتاب أناشيد سليمان: أنها ولدت أبناً بغير آلام المخاض 3- إنجيل العبرانيين المنحول: كاتب إنجيل العبرانيين يهودي متنصِّر جمع أخبار يعقوب بتدقيق يعوَّل عليه، وإنجيل العبرانيين هو أوثق كتابات الأبوكريفا وأقدمها حسب رأى العالِم ليتفوت وجاء فيه: أن يعقوب هذا كان قد قطع على نفسه أن لا يأكل خبزاً بعد أن شرب الرب الكأس (كأس الموت) حتى يراه قائماً من الأموات، وبعد القيامة ظهر له الرب، وأخذ خبزاً وباركه وكسر وأعطى يعقوب قائلاً: كُلْ خبزك يا أخي لأن ابن الإنسان قد قام من بين الأموات. وهذه الرواية تشابه قصة ظهور الرب ليعقوب، طبقاً لما جاء فى رسالة بولس الرسول الأولى لأهل كورنثوس، حسب ما إستلم وهو في أُورشليم في زيارته الأُولى: +(كونثوس الأولى 15: 5-8) 5وَأَنَّهُ ظَهَرَ لِصَفَا ثُمَّ لِلِاثْنَيْ عَشَرَ. 6وَبَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ أَكْثَرُهُمْ بَاقٍ إِلَى الآنَ. وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا. 7وَبَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَ لِيَعْقُوبَ ثُمَّ لِلرُّسُلِ أَجْمَعِينَ. 4- إنجيل بطرس المنحول: هو كتاب أبوكريفى من القرن الثاني أو قبل نهايته، وجده سيرابيون أسقف أنطاكية متداولاً في مدينة روسوس Rhossus إحدى مدن كيليكية وقد وصل ليوسابيوس القيصري قطعة من كتابة سيرابيون الأسقف هذا يقول فيها إن هذا الإنجيل كان متداولاً منذ أيام قديمة. ويقول العالِم المصري أوريجانوس إنه اطّلع على هذا الإنجيل وفيه أن أخوة الرب كانوا أبناء ليوسف القديس من زوجة سابقة. وهكذا يؤكِّد دوام بتولية القديسة مريم العذراء. 5- إنجيل يعقوب الأول المنحول: - دافع كتاب إنجيل يعقوب الأول غير القانوني عن بتولية القديسة مريم مشيرا إلى أن أخوة يسوع ليسوا إلا أبناء القديس يوسف من زواج سابق. هذه الفكرة انتقلت إلى الكتابات القبطية والسريانية واليونانية، كما نادى بها بعض الأباء العظام، فأشار إليها كل من القديس أكليمنضس الإسكندري وإغريغوريوس النيصيصي وكيرلس الإسكندري وأمبروسيوس والعلامة أوريجانوس وهيجيسيوس ويوسابيوس أسقف قيصرية وهيلارى من بواتييه وأبيفانيوس أسقف سلاميس بقبرص الذي دافع عن هذه الفكرة بحماس شديد حتى نسبت إليه: "الأبيفانية". ويقدم هذا الكتاب يوسف النجار كرجل متقدِّم في الأيام عندما خُطبَت له القديسة مريم العذراء، وكان له أولادٌ من زوجة سابقة ولكن لم يكن له بنات. - أن سيدة تدعى سالومى قد لاحظت بتولية القديسة مريم بعد ولادة يسوع. - "وقال الكاهن ليوسف أنت أخترت من الكثيرين لتأخذ عذراء الرب لتحفظها لديك وكان يوسف خائفاً وأخذها ليحفظها عنده". - أن القديسة مريم ولدت من يواقيم وحنة الشيخين، وأن والدتها قد نذرت أبنتها خادمة للرب كل أيام حياتها. وفي الثالثة من عمرها، قدمت مريم للهيكل، حيث كانت تتغذى بأيدي ملائكة. وبحسب التقليد القبطي يحتفل بعيد "دخولها الهيكل" في الثالث من شهر كيهك، فيه نذكر الطفلة مريم كعذراء تعيش بين العذارى، فنترنم باللحنين التاليين: - "في سن الثالثة قدمت يا مريم للهيكل، جئت كحمامة، وأسرعت الملائكة إليك!" - "كانت بين العذارى تسبح وترنم معهن، دخلت الهيكل بمجد وكرامة". وفي الثانية عشر من عمرها اجتمع الكهنة ليناقشوا أمرها إذ كان يلزم أن تترك الهيكل. فأحضروا اثني عشر رجلا من سبط يهوذا، وأودعوا عصيهم داخل الهيكل. وفي اليوم التالي أحضر أبيثار الكاهن العصي وقدم لكل منهم عصاه. وأن أمسك القديس يوسف بعصاه حتى جاءت الحمامة استقرت عليها، كانت بيضاء أكثر من الثلج وجميلة للغاية، صارت ترفرف لوقت طويل بين أجنحة الهيكل وأخيرا طارت نحو السماوات. عندئذ هنأ الشعب كله الشيخ، قائلين له: "هوذا قد صرت مطوبا في شيخوختك أيها الأب يوسف، فقد أظهرك الله مستحق الاستلام مريم. أما القديس ففي البداية أعتذر بشيخوخته، ولكنه أطاع الكهنة الذين هددوه بحلول غضب الله عليه إن رفض. 6- إنجيل متى المنحول: "ترتيب جديد فى الحياة إكتشف بواسطة مريم وحدها التى وعدت أن تظل عذراء لله". وذكر أن العذارى كن مع مريم وقت أكتشاف يوسف للعمل قلن له: "يمكن أن تختبر أنها ما زالت عذراء ولم تلمس". وجاء فيه أن سالومى لما شكت فى حقيقة بتولية العذراء ودوام هذه البتولية قالت: "أسمح لى أن المسك وعندما سمحت لها.. صرخت... بصوت عال وقالت: يارب يارب يا قدير أرحمنا‍‍ لم يسمع أبداً ولم يفكر فى أن واحد امتلأ ثدياها باللبن وأن ميلاد ابن يبين أن أمه ما تزال عذراء... عذراء حبلت، عذراء ولدت، وتظل عذراء". وهذه الواقعة تذكر أيضاً فى إنجيل يعقوب الأولى. 7- إنجيل طفولة مريم: - سوف لن تعرف إنساناً أبداً فهى وحدها بدون نظير، نقية، بلا دنس، بدون اجتماع رجل، هى عذراء، ستلد ابناً. - أخذ يوسف العذراء طبقاً لأمر الملاك كزوجة له وبرغم ذلك لم يعرفها ولكن أعتنى بها وحفظها فى طهارة. 8- كتاب تاريخ يوسف ومريم: يدعو كتاب "تاريخ يوسف ومريم" العذراء ب "السيدة مريم أمه العذراء". 9- كتاب نياحة وصعود مريم: يدعو مريم: المقدسة، والدة الإله، العذراء النقية، العذراء دائماً، مريم المطوبه، العذراء مريم. 10- كتاب طفولة المخلص: يدعو كتاب "طفولة المخلص" مريم ب "السيدة مريم أمه العذراء".
المزيد
08 مارس 2019

اليوم الخامس من الاحد الاول من الصوم الكبير

إنجيل القداس : لو 11 : 1 – 10 و اذ كان يصلي في موضع لما فرغ قال واحد من تلاميذه يا رب علمنا ان نصلي كما علم يوحنا ايضا تلاميذه فقال لهم متى صليتم فقولوا ابانا الذي في السماوات ليتقدس اسمك ليات ملكوتك لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الارض خبزنا كفافنا اعطنا كل يوم و اغفر لنا خطايانا لاننا نحن ايضا نغفر لكل من يذنب الينا و لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشريرثم قال لهم من منكم يكون له صديق و يمضي اليه نصف الليل و يقول له يا صديق اقرضني ثلاثة ارغفة لان صديقا لي جاءني من سفر و ليس لي ما اقدم له فيجيب ذلك من داخل و يقول لا تزعجني الباب مغلق الان و اولادي معي في الفراش لا اقدر ان اقوم و اعطيك اقول لكم و ان كان لا يقوم و يعطيه لكونه صديقه فانه من اجل لجاجته يقوم و يعطيه قدر ما يحتاج و انا اقول لكم اسالوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم لان كل من يسال ياخذ و من يطلب يجد و من يقرع يفتح له الصلاة الربانيَّة حدَّثنا الإنجيلي عن دخول السيِّد المسيح بيت مريم ومرثا، فعبَّرت كل منهما عن محبَّتها له بطريق أو بآخر، انطلقت مرثا تخدمه بينما بقيت مريم جالسة عند قدميه تسمع كلامه (10: 39)، يلتهب قلبنا شوقًا للجلوس مع مريم عند قدميه باللقاء معه والصلاة. لهذا جاء الحديث التالي مركزًا على "الصلاة" يقول الإنجيلي: "وإذ كان يصلِّي في موضع، لما فرغ قال واحد من تلاميذه: يا رب علِّمنا إن نصلِّي كما علَّم يوحنا أيضًا تلاميذه" [1].بلا شك حَفظ التلاميذ الكثير من الصلوات من العهد القديم أو خلال التقليد اليهودي، لكن سؤال التلميذ: "يا رب علِّمنا إن نصلِّي" يكشف عما رآه التلاميذ في السيِّد المسيح وهو يصلِّي. أدركوا صورة جديدة لم يذوقوها من قبل في عبادتهم، فاشتهوا إن يحملوا ذات الفكر والروح الواحد مرَّة أخرى نقول إن أردنا إن يدخل الرب بيتنا ونخدمه كمرثا أو نتأمَّله كمريم فلا طريق للتمتَّع باللقاء معه في الخدمة أو التأمُّل سوى الصلاة التي بها ننعم بحياة الكنيسة وكمالها على مستوى العمل والتأمُّل يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [إن كان السيِّد له كل الصلاح بفيض فلماذا يصلِّي مادام كاملاً ولا يحتاج إلى شيء؟ نجيب: يليق به حسب تدبير تجسُّده إن يمارس العمل البشري في الوقت المناسب. فإن كان قد أكل وشرب فبحق اعتاد إن يصلِّي، معلِّمًا إيَّانا ألا نكون متهاونين في هذا الواجب، بل بالأحرى مجتهدين وملتهبين في صلواتنا.] هذا وقد جاء رأسًا للكنيسة، يحملنا فيه كأعضاء جسده، إذ يصلِّي إنما يصلِّي نائبًا عنَّا ولحسابنا، حملنا بصلاته إلى حضن أبيه، وصارت صلواتنا مقبولة لدى الآب خلال ابنه موضع سروره. بمعنى آخر بصلاته قدَّس صلواتنا، وفتح لنا أبواب اللقاء مع الآب فيه إذ التهب قلب التلاميذ بحب الصلاة لما رأوه في السيِّد المصلِّي. بدأ يحدِّثهم عن الصلاة الربانيَّة، التي سبق لي الحديث عنها مستشهدًا بأقوال الآباء، لهذا اَكتفي بعرضها في شيء من الاختصار مع اقتباس أقوال أخرى للآباء غير التي سبق لي نشرها "فقال لهم: متى صليَّتم فقولوا: أبانا الذي في السماوات" [2] لا نستطيع إن نصلِّي كما ينبغي ما لم ندرك أولاً مركزنا بالنسبة له، فقد اختارنا أبناء الله، نحدِّثه من واقع بنوَّتنا التي نلناها كهبة مجانيَّة في مياه المعموديَّة بالرغم من شعورنا أننا لا نستحق إن نكون عبيدًا له. فيما يلي بعض تعليقات للآباء علي هذه العبارة: يا لعظمة حب الله للبشر! فقد منح الذين ابتعدوا عنه وسقطوا في هاوية الرذائل غفران الخطايا، ونصيبًا وافرًا من نعمة، حتى أنهم يدعونه أبًا: "أبانا الذي في السماوات". السماوات هي أيضًا هؤلاء الذين يحملون صورة العالم السماوي، والذي يسكن الله فيهم ويقيم القدِّيس كيرلس الأورشليمي حين تبدأ الصلاة اِنسى كل خليقة منظورة وغير منظورة، وابدأ الصلاة بمدح الله خالق الكل، لذلك قيل: "فقال لهم متى صلَّيتم فقولوا أبانا" القدِّيس باسيليوس الكبير اُنظر أي إعداد عظيم تحتاجه لكي تستطيع إن تقول بدالة "أبانا". فإن كانت عيناك مركَّزتين علي الأرضيَّات وتطلب مجد الناس ومستعبدة لشهواتك، فإن نطقتَ بهذه الصلاة يبدو لي إن الله يجيبك: "ما دمت تحمل الحياة الفاسدة فلتدعو الفساد أبًا لك، إنك تُدنِّس بشفتيك النجستين الاسم الذي لا يتدنَّس". لقد أوصاك إن تدعوه أبًا فلا تنطق كذبًا القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص تبدأ الصلاة بالشهادة عن الله (كأب لنا) كأنها مكافأة عن الإيمان... لقد وُضعت (هذه الصلاة) للذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا إن يصيروا أولاد الله (يو 1: 12). على أي الأحوال غالبًا ما يعلن الرب عن الله (الآب) كأب لنا، وقد أعطانا وصيَّة ألا ندعو لنا أبًا علي الأرض، بل الآب الذي في السموات (مت 23: 9)، فبهذه الصلاة نطيع الوصيَّة مطوَّبون هم الذين يعرفون أباهم! وقد وجَّه هذا التوبيخ ضد إسرائيل إذ يُشْهد الروح السماء والأرض، قائلاً: "ربَّيْتُ بنين ولم يعرفونني" (إش 1: 2)عندما نذكر الآب نستدعي أيضًا الابن، إذ يقول: "أنا والآب واحد" (يو 10: 30)، وأيضًا لا نتجاهل الكنيسة أُمِّنا، إذ تُعرف الأم خلال الآب والابن، وخلالها يظهر اسم كل من الآب والابن.بتعبير واحد عام، أو بكلمة، نحن نكرم الآب مع ابنه... ونذكر الوصيَّة، ونضع علامة للذين نسوا أبيهم العلامة ترتليان [إذ نصلِّي لله أبينا يليق بنا ألا ننشغل بغيره، لا بخليقة أرضيَّة ولا أرواح شرِّيرة أو حتى ملائكة.] كان قدِّيس آخر يعيش حياة الوحدة في البرِّيَّة، هاجمته الشيَّاطين وأحاطت به لمدة أسبوعين، يتقاذفونه في الهواء ويتلَّقونه علي حصيرة، لكنهم باطلاً حاولوا إن يسحبوه من صلاته الملتهبة وجاء ملاكان إلى آخر كان محبَّا لله، مكرِّسًا حياته للصلاة، فإذ كان سائرًا في البرِّيَّة وقد رافقاه في رحلته، واحد عن يمينه والآخر عن يساره، لكنه لم يلتفت إليهما لئلاَّ يفقد ما هو أفضل، واضعًا في ذهنه نصيحة الرسول بولس "لا ملائكة ولا رئاسات ولا قوات تقدر إن تفصلنا عن محبَّة المسيح" (رو 8: 38) بالصلاة الحقيقيَّة يصير الراهب ملاكًا آخر، إذ يتوق لرؤية وجه الآب في السموات في غيرة متَّقدة. من يحب الله يحيا معه ويصلِّي إليه علي الدوام كأب، متجرِّدًا من كل فكر هوَى.الأب أوغريس "ليتقدَّس اسمك" [2]. يرى العلامة أوريجينوس إن الوثنيِّين يُجدّفون على اسم الله إذ ينسبونه للأصنام، وكأن الصلاة هنا هي صرخة الكنيسة لله إن ينزع العبادة الوثنيَّة عن العالم ليُعرف اسمه مقدَّسا في كل البشريَّة. بنفس المعني يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [إذ يُزدرى باسم الله بين الذين لم يؤمنوا به بعد، فإنه عندما تشرق أشعَّة الحق عليهم يعترفون بقدُّوس القدِّيسين.]على أي الأحوال إن كان اسم السيِّد المسيح يمجد الآب، فإننا إذ نقتني اسمه بالحق فينا يتقدَّس اسم الآب في حياتنا ويتمجَّد فينا، فمن كلمات الآباء في هذا الشأن كما إذ تطلَّع إنسان إلي جمال السماوات يقول: المجد لك يا رب، هكذا من ينظر أعمال إنسانٍ فاضلٍ يرى فضيلته تمجِّد الله أكثر من السماوات القدِّيس يوحنا الذهبي الفم اسم الله مقدَّس بطبيعته، إن قلنا أو لم نقل، لكن بما أن اسم الله يُهينه الخطاة كما هو مكتوب: "اسمي يُجدَّف عليه بسببكم بين الأمم" (رو 2: 24؛ إش 52: 5)، فنحن نطلب إن يتقدَّس اسم الله فينا، لا بمعنى إن يصبح مقدَّسًا، كأنه لم يكن مقدَّسا فينا نحن الذين نسعى إلى تقديس أنفسنا وممارسة الأعمال اللائقة بتقديسنا القدِّيس كيرلس الأورشليمي يري العلامة ترتليان إن عمل الملائكة هو الترنُّم بتسبحة الثلاث تقديسات: "قدُّوس، قدُّوس، قدُّوس" (إش 6: 3، رؤ 4: 8)، ونحن أيضًا إذ نقدس اسمه نرتفع إلى الله لنمارس شركة المجد العتيد، نشارك السمائيِّين تسابيحهم إن كان السيد المسيح يمجد اسم الآب (يو 17: 6)، فإننا إذ نثبت فيه ونمارس حياته يتمجَّد الآب بابنه الحال فينا. "ليأت ملكوتك" [2]. يليق بالنفس الطاهرة إن تقول بثقة "ليأت ملكوتك"، لأن الذي يسمع بولس يقول: "لا تملُكن الخطيَّة في جسدكم المائت" (رو 6: 12)، يعمل علي تطهير نفسه بالفعل والفكر والقول، ويستطيع القول: "ليأت ملكوتك" القدِّيس كيرلس الأورشليمي نسأل أيضًا الرب إن يُخلِّصنا من الفساد لينزع الموت أو كما قيل "ليأت ملكوتك"، أي ليحل الروح القدس علينا ويطهرنا.القدِّيس غريغوريوس أسقف نيصص الذين ينطقون بهذا يبدو أنهم يرغبون في مخلِّص العالم إن ينير العالم مرَّة أخرى القدِّيس كيرلس الكبير إن كان الشهداء يتعجَّلون مجيء الرب لوضع حد للشرّ، قائلين: "حتى متى أيها السيِّد القدُّوس والحق لا تقضي وتنتقم لدمائنا من الساكنين علي الأرض؟" (رؤ 6: 10)، فإن المؤمنين وقد انفتح أمامهم باب السماء وأدركوا نصيبهم في الميراث الأبدي يتعجلون مجيئه الأخير لينالوا هذا المجد الأبدي. "لتكن مشيئتك، كما في السماء، كذلك علي الأرض" [2]. ملائكة الله الطوباويون الإلهيون يصنعون مشيئة الله كما يرنَّم داود قائلاً: "باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين قوَّة، الفاعلين كلمته" (مز 103: 20) فعندما تُصلِّي بقوَّة تود القول: كما تتم مشيئتك في ملائكتك، فلتتم هكذا فينا نحن علي الأرض يا رب القدِّيس كيرلس الأورشليمي كأنه يقول: اجعلنا يا رب قادرين إن نتبع الحياة السماويَّة، فنريد نحن ما تريده أنت القدِّيس يوحنا الذهبي الفم "خبزنا كفافنا أعطنا كل يوم" [3]. يوصينا الرب أن نطلب حتى الأمور الخاصة بإشباع الجسد من الله، إذ هو أبونا الذي يهتم بنفوسنا كما بأجسادنا. لكنه يسألنا لا إن نطلب ترف الجسد وتدليله إنما الكفاف، لكي يسندنا الجسد حتى نتمم رسالتنا. يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [ربَّما يظن البعض أنه لا يليق بالقدِّيسين إن يطلبوا من الله الجسديَّات، لهذا يعطون لهذه الكلمات مفاهيم روحيَّة، لكن وإن كان يليق بالقدِّيسين أن يعطوا الاهتمام الرئيسي للروحيات لكنهم يطلبون بلا خجل خبزهم العام كوصيَّة الرب. في الحقيقة يسألهم إن يطلبوا خبزًا، أي طعامًا يوميًا، وفي هذا دليل أنهم لا يملكون شيئًا بل يمارسون الفقر المكرم، فإنه لا يطلب الخبز من كان لديه خبزًا بل من هو في عوز إليه.]ويرى القدِّيس باسيليوس إن هذه الصلاة التي علَّمنا إيَّاها السيِّد تعني التزامنا بالالتجاء لله، لنخبره كل يوم عن احتياجات طبيعتنا اليوميَّة ويرى كثير من الآباء هذا الخبز اليومي هو "المسيح" يسوع ربَّنا، الذي ننعم به كخبز سماوي يومي، بدونه تصير النفس في عوَز. يقول العلامة ترتليان: [المسيح هو خبزنا، لأنه هو الحياة، والخبز هو الحياة. يقول السيِّد: "أنا هو خبز الحياة" (يو 6: 35)، يسبق ذلك قوله: "خبز الله هو (كلمة الله الحيّ) النازل من السماء" (يو 6: 33). جسده أيضًا يُحسب خبزًا.] ويرى القدِّيس أغسطينوس إن هذا الخبز اليومي هو التمتُّع بقيامة السيِّد المسيح، لكي نختبر كل يوم قوَّة قيامته عاملة فينا. "واغفر لنا خطايانا، لأننا نحن أيضًا نغفر لكل من يُذنب إلينا" [4]. الإساءات إلينا صغيرة وطفيفة، ومن السهل علينا إن نغفرها، أما إساءتنا نحن نحو الله فكبيرة ولا سبيل لنا غير محبَّته للبشر، فاحذر إذن من إن تمنع الله - بسبب ما لحق بك من إساءات صغيرة طفيفة - إن يغفر لك ما ارتكبته نحوه من ذنوب كبيرة القدِّيس كيرلس الأورشليمي "ولا تُدخلنا في تجربة" [4]. ربَّما تعني: لا تدع التجربة تغمرنا وتجرفنا باعتبار التجربة سيلاً عارمًا يصعب اجتيازه، فالذين لا تغمرهم التجربة يجتازون السيل كالسبَّاحين الماهرين الذين لا يتركون التيَّار يجرفهم القدِّيس كيرلس الأورشليمي لا يليق بنا إن نطلب الضيقات الجسديَّة في صلواتنا، إذ يأمر المسيح البشر بوجه عام إن يصلُّوا كي لا يدخلوا في تجربة، لكن إن دخل أحد فعلاً فيلزمه إن يطلب من الرب قوَّة اِحتمال لتتحقِّق فينا الكلمات: "الذي يصبر إلى المنتهي فهذا يخلُص" (مت 10: 22) القدِّيس باسيليوس يميِّز العلامة ترتليان بين التجربة التي هي بسماح من الله، وهي لا تعني "تجربة" بالمفهوم العام إنما "امتحان" لأجل تزكيتنا، أما عدو الخير فيجُرِّبنا بمعنى أنه يخدعنا، وكأننا نصلِّي ألا ندخل في تجربة بمعنى أن يسندنا ضد حِيَل إبليس وخداعاته. " لكن نجِّنا من الشرِّير" [4]. لو كانت عبارة: "لا تدخلنا في تجربة" تعني ألا نُجرَّب أبدًا، لما أضاف الرب "لكن نجِّنا من الشرِّير". الشرِّير هو عدوُّنا إبليس، ونحن نطلب النجاة منه القدِّيس كيرلس الأورشليمي أخيرًا فإن العلامة ترتليان يؤكِّد إن الصلاة الربَّانيَّة هي الأساس الذي وضعه السيِّد المسيح لصلواتنا؛ تفتح لنا بابًا للصلاة لكي يطلب كل منَّا ما يناسبه لكن خلال ذات الفكر الذي لهذه الصلاة. هذا وأن الصلاة الربَّانيَّة مع صِغر حجمها تحوي الكثير، ألا وهو: [مجد الله بالقول: "أبانا"، شهادة الإيمان بالقول: "يتقدَّس اِسمك"، تقديم الطاعة في "لتكن مشيئتك"، تذكار الرجاء في "خبزنا كفافنا"، المعرفة الكاملة لخطايانا (لديوننا) خلال الصلاة من أجل نوال المغفرة. الرعب الشديد من التجربة بطلب الحماية.يا للعجب! الله وحده يقدر إن يعلِّمنا بنفسه ما يريدنا إن نصلِّيه.] 2. الصلاة بلجاجة إن كان السيِّد قد قدَّم لنا نموذجًا حيًا للصلاة، فإنه إذ يطلب منَّا العبادة الملتهبة بالروح، سألنا إن نصلِّي بلجاجة، ليس لأنه يستجيب لكثرة الكلام، وإنما ليُلهب أعماقنا نحو الصلاة بلا انقطاع. يشتاق الله إن يعطي، وهو يعرف اِحتياجاتنا واِشتياقاتنا الداخليَّة، لكنه يطالبنا باللجاجة لنتعلَّم كيف نقف أمامه وندخل معه في صلة حقيقيَّة يقول الأب إسحق: [الله في اشتياقه إن يهبنا السماويات والأبديَّات يحثُنا إن نضغط عليه بلجاجتنا. أنه لا يحتقر اللجاجة، ولا يستخف بها، بل بالفعل يُسر بها ويمدحها.] ويقول القدِّيس أغسطينوس: [ما كان ربَّنا يسوع المسيح الذي في وسطنا يسألنا إن نطلب من الله كعاطي، يحثُّنا هكذا بقوَّة إن نسأل، لو لم يرد إن يعطي. إنه يُخجل تهاوننا، إذ يود إن يعطي أكثر من رغبتنا نحن في الأخذ. يود إن يُظهر رحمة أكثر من رغبتنا نحن في الخلاص من البؤس... الحث الذي يقدِّمه لنا إنما هو لأجلنا.] ويقول الأب أوغريس: [إن كنت لم تنل بعد موهبة الصلاة أو التسبيح فكن لجوجًا فتنل.] ويقول القدِّيس كيرلس الكبير: "علِّمنا المخلِّص من قبل في إجابته على سؤال تلاميذه كيف ينبغي علينا إن نصلِّي. ولكن ربَّما يمارس الذين يتقبُّلون هذا التعليم الصلاة بنفس الشكل الذي قدَّمه الرب، وإنما بإهمال وفتور، فإن لم يُسمع لهم في الصلاة الأولى والثانية يتركون الصلاة. ربَّما يكون هذا هو حالنا، لذلك يقدِّم لنا السيِّد هذا المثل ليعلن لنا إن التخوُّف في الصلاة مضِر، وأما الصبر فنافع جدًا.]قدَّم لنا الرب هذا المثل"من منكم يكون له صديق ويمضي إليه نصف الليل ويقول له يا صديق اِقرضني ثلاثة أرغفةلأن صديقًا لي جاءني من سفر، وليس لي ما أقدِّم له فيجيب ذلك من داخل، ويقول لا تزعجني، الباب مغلق الآن،وأولادي معي في الفراش،لا أقدر إن أقوم وأعطيك أقول لكم وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه،فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج" [5-8]. ويلاحظ في هذا المثال الآتي: أولاً: إن كان غاية هذا المثَل الأولى هي حثِّنا على اللجاجة في الصلاة حتى ننعم بطلبتنا، فإننا نلاحظ هنا إن السيِّد المسيح يقدِّم الأب صديقًا للبشريَّة، إذ يقول: "من له صديق ويمضي إليه نصف الليل". يقول الأب ثيوفلاكتيوس: [الله هو ذاك الصديق الذي يحب كل البشريَّة ويريد إن الكل يخلُصون". ويقول القدِّيس أمبروسيوس: [من هو صديق لنا أعظم من ذاك الذي بذل جسده لأجلنا؟ فمنه طلب داود في نصف الليل خبزات ونالها، إذ يقول: "في نصف الليل سبَّحتك على أحكام عدلك" (مز 119: 62)، نال هذه الأرغفة التي صارت غذاء له. لقد طلب منه في الليل: "أُعوِّم كل ليلة سريري" (مز 6: 6)، ولا يخش لئلاَّ يوقظه من نومه إذ أنه عارف إن (صديقه الإلهي) دائم السهر والعمل. ونحن أيضًا فلنتذكَّر ما ورد في الكتب ونهتم بالصلاة ليلاً ونهارًا مع التضرُّع لغفران الخطايا، لأنه إن كان مِثل هذا القدِّيس الذي يقع على عاتقه مسئوليَّة مملكة كان يسبِّح الرب سبع مرَّات كل يوم (مز 119: 164)، ودائم الاهتمام بتقدِّمات في الصباح والمساء، فكم بالحري ينبغي علينا إن نفعل نحن الذين يجب علينا إن نطلب كثيرًا من أجل كثرة سقطاتنا بسبب ضعف أجسادنا وأرواحنا حتى لا ينقصنا لبنياننا كسرة خبز تسند قلب الإنسان (مز 103: 15)، وقد أرهقنا الطريق وتعبنا كثيرًا من سبل هذا العالم ومفارق هذه الحياة.]كأن السيِّد المسيح يطالبنا إن نلجأ إليه كصديق إلهي حقيقي، في كل وقت، حتى في منتصف الليل، نتوسَّل إليه ليمدِّنا بالخبز السماوي المشبع للنفس والجسد. ثانيًا: إن كان الله يقدِّم نفسه صديقًا لنا نسأله في منتصف الليل ليهبنا خبزًا سماويًا من أجل الآخرين القادمين إلينا أيضًا في منتصف ليل هذا العالم جائعين، فإن السيِّد حسب هؤلاء أيضًا أصدقاء لنا؛ فنحن نطلب من الصديق الإلهي لأجل أصدقائنا في البشريَّة. يرى القدِّيس أغسطينوس إن هذا الصديق القادم من الشارع أي من العالم، قادم إلينا كما من طريقه الشرِّير، مشتاقًا إن يتمتَّع بالحق، فلا نستطيع إن نستضيفه ونشبعه ما لم نسأل الله أولاً فنتأهَّل للتمتُّع بالثلاث خبزات، أي بالإيمان الثالوثي. ثالثًا: إن كان الشخص قد جاء إلى صديقه في منتصف الليل يطلب من أجل صديقه الذي قدُم إليه من سَفر، أمَا كان يكفي إن يسأل رغيفًا واحدًا أو يطلب رغيفين، فلماذا طلب ثلاثة أرغفة؟ أ. إننا إذ نلتقي بعريسنا المخلِّص وسط هذا العالم بتجاربه الشرِّيرة، كما لو كنا في نصف الليل، نطلب لأنفسنا كما للآخرين ثلاثة أرغفة لكي تشبع أرواحنا ونفوسنا وأجسادنا؛ فالله وحده هو المُشبع للإنسان لكل كيانه. وكما يقول الأب ثيؤفلاكتيوس بطريرك بلغاريا: [نطلب من الله ثلاث خبزات، أي اشباع احتياجات جسد الإنسان ونفسه وروحه، فلا يصيبنا خطر في تجاربنا.]هنا ندرك الفهم الإنجيلي للحياة المقدَّسة أو للعفَّة، فالإنسان العفيف أو المقدَّس في الرب لا يعيش في حرمان، إنما يتقبَّل من يديّ الله ما يُشبع حياته كلها ويرويها، فتفرح نفسه وتتهلَّل روحه، ويستريح أيضًا جسده حتى وإن عانى أتعاب كثيرة من أجل الرب. لهذا كان المعمَّدون حديثًا في الكنيسة الأولى ينشدون بعد عمادهم مباشرة هذا المزمور: "الرب راعيّ فلا يعْوِزني شيء، في مراعٍ خضر يربضُني، وإلى مياه الراحة يورِدني، يرُد نفسي، يهديني إلى سبل البرّ..." ب. يرى القدِّيس أغسطينوس إن هذه الخبزات الثلاث هي إيماننا الثالوثي، فإن أرواحنا ونفوسنا وأجسادنا لن تشبع داخليًا إلا بالثالوث القدُّوس، ثالوث الحب الذي يملاْ الداخل ويفيض علينا بالطوباويَّة، إذ يقول: [من كان وسط التعب يلزمه إن يسأل الله فينال فهم الثالوث، به يستريح من متاعب هذه الحياة الحاضرة. فإن ضيقته هي نصف الليل التي تدفعه نحو طلب الثالوث. لنفهم الثلاث خبزات الثالوث الذي هو جوهر واحد حينما تنال الثلاث خبزات، أي طعام معرفة الثالوث، يكون لك مصدر الحياة والطعام، فلا تخف، ولا تتوقَّف، فإن هذا الطعام بلا نهاية، إنما يضع نهاية لعوزك. تعلَّم وعلِّم، عش واِطعِم.]في موضع آخر يقول: [ما هذه الخبزات الثلاث إلا طعام السرّ السماوي؟]وفي شيء من التفصيل أيضًا يقول: [الآن لا حاجة للخوف من قدوم غريب إليك من طريقه، وإنما باستضافتك له في الداخل يمكنك إن تجعله مواطنًا وابنًا للبيت، لا تخف فإن الخبز لن ينتهي. الخبز هو الله الآب والابن والروح القدس... تعلَّم وعلِّم، عش واِطعم الآخرين. الله هو الذي يعطيك، لا يعطيك أفضل من ذاته. أيها الطمَّاع ماذا تطلب بعد؟] ج. يرى أيضًا القدِّيس أغسطينوس في هذه الخبزات الثلاث عطايا الله الفائقة للبشريَّة، ألا وهي الإيمان والرجاء والمحبَّة، إذ يقول: [من الضروري إن تأخذ محبَّة وإيمانًا ورجاءً، فإن ما يعطيه لك يكون لك حلوًا. هذه الأمور ـ الإيمان والرجاء والمحبَّة ـ ثلاثة، وهي عطايا الله، فإنك تتقبَّل الإيمان من الله، إذ قيل: "كما قسَّم الله لكل واحدٍ مقدارًا من الإيمان" (رو 12: 3). وأيضًا الرجاء نتقبَّله من ذاك الذي قيل له: "جعلتني أترجَّاه" (مز 118: 49). ومنه نتقبَّل المحبَّة، إذ قيل: "لأن محبَّة الله قد اِنسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا" (رو 5: 5).] رابعًا: يقول السيِّد: "فيجيب ذلك من داخل، ويقول: لا تزعجني، الباب مغلق الآن، وأولادي معي في الفراش، لا أقدر أن أقوم وأعطيك" [7]يصوِّر لنا السيِّد المسيح هذا الصديق أنه يجيب من داخل، لا يخرج إليه مع إن الوقت حرج، وكان يليق بالصديق إن يفتح ليطمئن على القارع؛ وفي إجابته يعلن أن تصرُّف هذا السائل أو القارع مزعج، وأن الباب مغلق، وأولاده في الفراش، وأنه عاجز عن القيام والعطاء. ومع هذا استطاع صديقه بلجاجته أن يغتصب منه طلبه! فكم بالأكثر الله يهب سائليه إن طلبوا بإلحاح، علامة صدق طلبهم، خاصة وأن الله ليس كهذا الصديق يجيب من داخل، بل خرج إلينا خلال التجسَّد، وجاءنا كلمة الله حالاً في وسطنا، يحدِّثنا فمًا لفمٍ، نازعًا الحجاب الحاجز بين السماء والأرض. وهكذا لم يعد بعد الباب مغلقًا بل هو مفتوح للجميع، يريد إن الجميع يخلُصون وإلى معرفة الحق يُقبلون. أولاده ليس معه في الفراش، إذ هو لا ينام وملائكته وقدِّيسوه أيضًا يسهرون، عاملين بصلواتهم وتضرُّعاتهم من أجل النفوس التائهة والمحتاجة. لا يقول الرب: "لا أقدر إن أقوم وأعطيك"، إذ قام الرب من الأموات وأعطانا حياته المُقامة عاملة فينا! هكذا قدَّم لنا الرب صورة مؤلمة للصديق البشري، الذي ننال منه طلباتنا خلال اللجاجة، بالرغم من الظروف المقاومة، فكم بالأكثر ننال من الرب نفسه؟ يقول القدِّيس أغسطينوس: [إن كان الشخص النائم التزم إن يعطي قسرًا بعد إزعاجه من نومه لذاك الذي يسأله، فكم بالحري إن يُعطى بأكثر حنو ذاك الذي لا ينام، بل ييقظنا من نومنا لكي نسأله إن يعطينا؟] لعلَّ قوله: "الباب مغلق الآن" يشير إلى إغلاق باب فهمنا عن إدراكه، فإن الله لا يريد بابًا مغلقًا يحجب أعماقنا عن الالتقاء معه، لكننا نحن نُحكم إغلاق الباب خلال عِصياننا وجهلنا لأعماله الخلاصيَّة. يقول القدِّيس أوغسطينوس: [الوقت الذي يُشار إليه هنا هو وقت مجاعة الكلمة حين يُغلَق الفهم، والذين يوزِّعون حكمة الإنجيل كخبزٍ، خلال الكرازة في العالم الآن هم في مواضع راحة مع الرب.] فإن كان العالم قد أغلق الباب بعصيانه، فإن عمل الكنيسة إن تطلب ليفتح الرب هذا الباب للكارزين، حتى ينطلقوا بالنفوس إلى حيث الراحة والشبع في الرب. يقول القدِّيس أمبروسيوس: [اِطرح عنك نوم الغفلة لتقرع باب المسيح. لقد طلب بولس إن يُفتح له هذا الباب ليتكلَّم عن سِرّ المسيح (كو 3: 4)، ربَّما هذا هو الباب الذي رآه يوحنا مفتوحًا: "بعد هذا نظرت، وإذا باب مفتوح في السماء، والصوت الأول الذي سمعته كبوق يتكلَّم معي قائلاً: اِصعد إلى هنا، فأُريك ما لابد إن يصير بعد هذا" (رؤ 4: 1) فُتح الباب ليوحنا وأيضًا لبولس لينالا من أجلنا أرغفة لغذائنا، لأنهما ثابَرَا وقرعا الباب في وقت مناسب ووقت غير مناسب (2 تي 4: 2)، ليُعيد الحياة للأمم الذين تعِبوا وأُرهَقوا من طريق العالم بوفرة الغذاء السماوي.] خامسًا: يحثُّنا ربَّنا يسوع على الصلاة بلجاجة، إذ يختم المثَل بقوله: "أقول لكم وإن كان لا يقوم ويعطيه لكونه صديقه، فإنه من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج. وأنا أقول لكم: اِسألوا تعطوا، اُطلبوا تجدوا، اِقرعوا يفتح لكم" [8-9]. يقول القدِّيس أغسطينوس: [ماذا يعني بقوله: لأجل لجاجته؟ لأنه لم يكف عن القرع، ولا رجع عندما رُفض طلبه... قد يبطئ الله أحيانًا في إعطائنا بعض الأمور، لكي يُعرِّفنا قيمة هذه الأشياء الصالحة، وليس لأنه يرفض إعطاءها لنا. الأمور التي نشتاق إليها كثيرًا ما ننالها بفرحٍ عظيم، أما التي توهب لنا سريعًا فإنها تُحسب زهيدة. إذن لتسأل وتطلب وتلح، فبالسؤال نفسه والطلب أنت نفسك تنمو فتنال أكثر.] كما يقول: [بالصلاة التي نمارسها خلال الطلبات التي نشتهيها ننال ما هو مستعد أن يمنحه. عطاياه عظيمة جدًا لكننا نحن صغار وضيِّقون في إمكانيَّاتنا عن أن ننالها.] يقول القدِّيس باسيليوس: [ربَّما يؤخِّر الطلبة عن عمد لكي تضاعف غيرتك ومجيئك إليه، ولكي تعرف ما هي عطيَّة الله، وتحرص عليها بشغف عندما تنالها. ما يناله الإنسان بتعبٍ شديدٍ يجاهد على حفظه لئلاَّ بفقده يفقد تعبه أيضًا.] لماذا يقول: [اِسألوا... اُطلبوا... اِقرعوا]؟ أ. ربَّما للتأكيد، فإنه يلحْ علينا أن نسأل ونطلب ونقرع، لأنه يريد أن يعطينا، وكما يقول القدِّيس أغسطينوس: [ما كان يشجِّعنا هكذا أن نسأله لو لم يرد أن يعطينا. ليُنزع عنَّا الكسل البشري فإنه يود أن يعطينا أكثر مما نسأل.] يقول القدِّيس باسيليوس: [يليق بنا أن نسأل العون الإلهي لا بكسلٍ ولا بفكر مشتَّت هنا وهناك، فإن إنسانًا كهذا ليس فقط لا ينال ما يسأله، بل بالحري يُغضب الله، لو أن إنسانًا يقف أمام رئيس تكون عيناه ثابتتين في الداخل والخارج حتى لا يتعرَّض للعقوبة، فكم بالحري يليق بنا أن نقف أمام الله بحرص ورعدة؟ لكنك إن كنت تُثار بخطيَّة ما، فلا تقدر أن تُصلِّي بثبات بكل قوِّتك. راجع نفسك حتى متى وقفت أمام الله تركِّز فكرك فيه، والله يغفر لك، لأنك ليس عن إهمال بل عن ضعف لم تستطع إن تظهر أمامه كما ينبغي. إن ألزمت نفسك بهذا فإنك لا تتركه حتى تنال. فإن لم تنل ما تسأله يكون ذلك لأن سؤالك غير لائق أو بغير إيمان، أو لأنك قدَّمته باستهانة، أو تسأل أمورًا ليست بصالحك، أو لأنك تركت الصلاة. كثيرًا ما يسأل البعض لماذا نصلِّي؟ هل يجهل الله ما نحتاج إليه؟ أنه بلا شك يعرف ويعطينا بفيض كل الزمنيَّات حتى قبل أن نسألها، لكن يجب علينا أولاً أن نطلب الصالحات وملكوت السماوات، عندئذ ننال ما نرغب لنسأل بإيمان وصبر، نسأل ما هو صالح لنا، ولا نعوق الصلاة بعصيان ضميرنا.] ب. لعلَّ التكرار ثلاث مرات: اِسألوا، اُطلبوا، اِقرعوا، يعني أننا لا نسأله فقط بأفكارنا أو نيَّاتنا الداخليَّة، وإنما أيضًا بشفاهنا كما بأعمالنا. وكأنه يليق أن تنطلق صلواتنا خلال تناغم الفكر مع الشفتين والسلوك، فتخرج رائحة بخور مقدَّسة من أعماق مقدَّسة وكلمات مباركة وأعمال مرضيَّة لدى الله. لعلَّه بفكر مشابه يقول القدِّيس ساويرس الأنطاكي: [ربَّما يعني بكلمة "اِقرعوا" اُطلبوا بطريقة فعّالة، فإن الإنسان يقرع باليد، واليد هي علامة العمل الصالح. وربَّما التمايز بين الثلاثة يكون بطريقة أخرى، ففي بداية الفضيلة نسأل معرفة الحق، أما الخطوة الثانية فهي أن نطلب كيف نسلك هذا الطريق. والخطوة الثالثة عندما يبلغ الإنسان الفضيلة يقرع الباب ليدخل حقل المعرفة المتَّسعة. هذه الأمور الثلاثة كلها يطلبها الإنسان بالصلاة. وربَّما "يسأل" تعني "يصلِّي"، و"يطلب" تعني "يصلِّي بواسطة الأعمال الصالحة التي نمارسها بطريقة تتناسب مع صلواتنا"، و "نقرع" تعني الاستمرار في الصلاة بلا انقطاع.] بمعنى أخر إن السؤال والطلب والقرع إنما يعني وِحدة الصلاة مع الحياة العمليَّة في الرب، نسأل أن يبدأ معنا، ونطلب إليه إن يكمِّل الطريق، ونقرع لكي ينهي جهادنا بالمجد الأبدي، فهو البداية والنهاية كما أنه هو المرافق لنا وسط الطريق، أو بمعنى أدَق هو طريقنا: به نبدأ وبه نستمر وبه نكمِّل ولكي يشجِّعنا السيِّد المسيح على السؤال والطلب والقرع، كشف حقِّنا البنوي في الطلب، فمن حقِّنا كأبناء أن نطلب من أبينا ونأخذ، إذ يقول: "فمن منكم وهو أب يسأله ابنه خبزًا، أفيعطيه حجرًا؟ أو سمكة، أفيعطيه حيَّة بدل السمكة؟ أو إذ سأله بيضة، أفيعطيه عقربًا؟ فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيِّدة، فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه؟" ويلاحظ في هذا الحديث الآتي: أ. كما سألنا أن نسأل ونطلب ونقرع أي ثلاث مرَّات، هكذا قدَّم لنا ثلاثة أمثلة في الطلب: نسأل خبزًا أو سمكة أو بيضة... والعجيب أنها ثلاثة أنواع من الطعام، وكأن سؤالنا من الرب إنما هو أن يشبعنا روحيًا ونفسانيًا وجسديًا. ب. يرى القدِّيس أغسطينوس أن الخبز هو المحبَّة، والسمكة هي الإيمان، والبيضة هي الرجاء، فإننا نطلب من أبينا السماوي أن نحب ونؤمن ونترجَّى. إنه يقول[يعني بالخبز المحبَّة، إذ هي أعظم ما نرغبه، وهي ضروريَّة، بدونها يُحسب كل شيء آخر كلا شيء، كمائدة بلا خبز. أما عكس المحبَّة فهي قسوة القلب تُقارن بالحجر. أما بالنسبة للسمكة فهي تشير إلى الإيمان بالأمور غير المنظورة، هذه التي ننالها خلال مياه المعموديَّة دون أن تراها عين. ومن جانب آخر فإن الإيمان كالسمكة، يُهاجَم بأمواج العالم ولا يهلك، أما ضدَّها فهي الحيَّة بسبب سُم الخداع حيث بإغرائها الشرِّير ألقت بذارها في الإنسان الأول. أما البيضة فيُفهم بها الرجاء، لأن البيضة وهي الأصغر لم يتشكَّل فيها (الطائر) بعد لكننا نترجَّى ذلك. ضد البيضة العقرب التي بلدغتها السامة ترد الإنسان إلى خلف مرتعبًا، عكس الرجاء الذي يطلقنا إلى قدَّام فوق الأمور التي أمامنا.] بمعنى آخر الخبز يشير إلى المحبَّة، يقابله الحجر يشير إلى قسوة القلب، والسمكة تشير إلى الإيمان تقابلها الحيَّة تشير إلى جحد الإيمان حيث خدعت الحيَّة حواء بمكرها وأفسدت ذهنها عن النقاوة (2 كو 11: 2-3)، والبيضة تشير إلى الرجاء حيث يخرج ممَّا يبدو جسمًا جامدًا طائرًا فيه حياة ويقابلها العقرب التي تحطَّم حياة الإنسان يريد الله أن يشبعنا فنطلبه، هو يملاْ حياتنا حبًا وإيمانًا ورجاءً، فتشبع أعماقنا، ولا يعوزها شيء، أما عدو الخير فهو المقاوِم الذي يريد أن يقدِّم حجرًا عوض الخبز، إذ قال للسيِّد المسيح: "قل للحجارة أن تصير خبزًا"، إذ اِعتاد أن يهبها قسوة القلب طعامًا عوض خبز الحياة، وهو الذي بعث بالحيَّة عوض السمكة، وتُشبَّه أعماله بالعقرب لنطلب الله نفسه يملأ حياتنا ويهبنا من عنده، لذا يقول القدِّيس أغسطينوس: [أيها الإنسان الطمَّاع، ماذا تطلب؟ إن كنت تطلب شيئًا آخر، ماذا يشبعك إن كان الله نفسه لا يشبعك؟] كما يقول: [لتعطِ نفسك طعامها فلا تهلك من المجاعة. أعطها خبزها. تقول: وما هو هذا الخبز؟ لقد تحدَّث الرب معك، فإن أردت أن تسمع وتفهم وتؤمن به، فهو يود أن يقول لك بنفسه: "أنا هو الخبز الحيّ النازل من السماء" (يو 6: 41).]يُعلِّق القدِّيس كيرلس الكبير على طلب الخبز من الآب، قائلاً: [إن سألك ابنك خبزًا تعطه إيّاه بسرور، لأنه يطلب طعامًا صالحًا، لكن إن طلب عن عدم معرفة حجرًا يأكله، فلا تعطيه بل تمنعه من تحقيق رغبته الضارة. هذا هو المعنى.] ويرى العلامة أوريجينوس في السمكة التي نطلبها حب التعلُّم كما يُعلِّق القدِّيس أغسطينوس على البيضة بكونها رمزًا للرجاء، قائلاً: [لنضع بيضتنا تحت أجنحة دجاجة الإنجيل التي تصيح من أجل المدينة الباطلة الخرِبة، قائلة: "يا أورشليم يا أورشليم... كم مرَّة أردتُ أن أجمع بنيكِ كما تجمع الدجاجة فراخها ولم تريدي" (راجع مت 23: 37).] كما يقول: [إننا نلاحظ كيف تمزِّق الدجاجة العقرب قطعًا، هكذا تمزِّق دجاجة الإنجيل المجدِّفين وتحطِّمهم، هؤلاء الذين يتسلَّلون من جحورهم ويلدغون بنيها بلدغات مؤذية.]أخيرًا يؤكِّد الرب شهوة قلبه نحونا بقوله: "فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه؟" إن كان آباؤنا الأرضيُّون يهتمُّون أن يقدِّموا خبزًا وسمكة وبيضة لكي نقدر أن يعيش على الأرض، فإن الآب الذي من السماء يعطيٍ الروح القدس الذي وحده روح الشركة، يثبِّتنا في الابن الوحيد الجنس منطلقًا بنا بالروح القدس إلى حضن الآب السماوي... عمله أن يهبنا "الحياة الجديدة" الحاملة للسِمة السماويَّة. لكي نعود إلى الحضن الأبوي من جديد. يقول القدِّيس إكليمنضس السكندري: [إن كنَّا ونحن أشرار نعرف أن نعطي عطايا صالحة فكم بالحري طبيعة أب المراحم، أب كل تعزية، الصالح، يترفَّق بالأكثر وبرحمة واسعة يطيل أناته منتظرًا الراجعين إليه؟ الرجوع إليه في الحقيقة هو التوقُّف عن الخطايا وعدم النظر إلى الوراء مرَّة أخرى.]
المزيد
07 يونيو 2020

الأحد السابع من الخماسين

ماذا قال الآباء عن الروح القدس؟ أولاً: القديس أثناسيوس؟: أكد القديس أثناسيوس لاهوت الإبن وأنـه مساوٍ للآب فى الجوهر. قال أيضا بوضوح أن الروح القدس مساوٍ مع الآب فـى الجوهر. إذ أنه مساو مع الإبن فى الجوهر، والإبن مساو للآب فى الجوهـر.. إذن فهو مساو للآب فى الجوهر.ويقول أيضاً أنه يوجد ثالوث مقدس وكامل ومعترف بـه: الله الآب والإبن والروح القدس.. وهو متماثل، غير قابل للتجزئـة بطبيعتـه، ونشاطه واحد.. الآب يعمل كل شئ بالإبن فى الروح القدس.. وهكـذا ينادى بإله واحد فى الكنيسة، الذى على الكـل ( كلـى الأصل )، وبـالكل ( كلى السبب )، وفى الكل ( كلى التنفيذ ). الكل المطلق.. أى الله فى ذاته الكلية المطلقة: 1- كآب : بداية وينبوع. 2- به الكل : بالإبن 3- وفى الكل : بالروح القدس. وعن علاقـة الروح القدس الجوهرية بالآب والإبن فى الثالوث قــال القديس أثناسيوس فى رسائله إلى الأسقف سرابيون + الثالوث إله واحد وقد أسس الرب الكنيسة عليه.. ( الثالوث كله إله واحد ولا موضع فيه لشىء غريب عن الله ) (سرابيون1 :17). + هذا هو إيمان الكنيسة الجامعة لأن الرب أسسها فى الثالوث وأصلـها فيه عندما قال لتلاميذه ” إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم بإسم الأب والإبن والروح القدس ” (مت 19:28) (سرابيون 6:3). ويؤكد القديس أثناسـيوس أن الـروح القـدس منبثـق مـن الآب ومرسل من الإبن: ( لكى نعتقد أن هناك قداسة واحدة مسـتمدة مـن الآب بالإبن فى الروح القدس.. وكما أن الإبن مولود وحيد الجنـس هكذا كان الروح القدس واحد وغير متعدد، ليس واحد من كثير بـل روح وحيد ).وكما أن الإبن الكلمة وحيد هكذا ينبغى أن يكون ( روح الإبن )، القـوة الحية المعطية الذى به يقدس ما وينير، ينبغى أن يكون وحيدا كاملا تاما، وهو الذى قيل أنه ينبثق من الآب لأنه من الكلمة المعترف أنـه مـن الآب، وهوالذى قيل أنـه يشرق ويرسل ويعطى.وكما أن الإبن ارسل من الآب كذلك الإبن يرسل الـروح القـدس ” وإن ذهبت أرسل لكم الباراكليت ” (سرابيون 20:1). وقال أيضاً: الروح القدس هو الروح الحق وينبثق من الآب لكنـه يأخذ من الإبن الملك كل ما هو لـلآب، ليبيـن أن جوهـر الآخـذ والمأخوذ منه والمنبثق منه ( الروح والإبن والآب ) واحد.إن الآب وحده آب لأنه مبدئ، والإبن وحده إبـن لأنـه مولـود، والروح القدس وحده روح لأن انبثاقه من الآب بمفرده. وهنا يعطى القديس أثناسيوس مثل الشمس لتوضيح هذا الأمر ( كما أن قرص الشمس هو علة وغير مولود من أحد أما الشعاع فمعلـول ومولود من القرص والنور منبثق من القرص وحده وهو بالشـعاع مرسل ومشرق على الأرض، هكذا الله الآب وحده علة الإثنين وغير مولود وأما الإبن فإنه من الآب وحده معلول ومولود، والروح القـدس من الآب وحده معلول ومنبثق، وهو بالإبن مرسل إلى العالم ). ثانياً: القديس كيرلس؟: 1- نعرف ثلاثة أقانيم ونؤمن بها: الآب الـذى لا ابتـداء لـه، والإبن الوحيد، والروح القدس المنبثق من الآب وحده. 2- إن الروح القدس هو منبثق من الآب حسب قول المخلص، لكنه ليس بغريب عن الآب من حيث وحدة الجوهر. 3- نؤمن بالروح القدس كما نؤمن بالآب والإبن لأنه مساو لـهما فى الجوهر وهو منبثق من ينبوع الله الآب. 4- كما أن الإبن من الآب على جـهة الولادة هكذا الـروح القـدس من الآب على جـهة الإنبثاق. 5- الحصول على الآب والإبن داخل النفس هو أصل وأساس شـبع النفس ومجدها وهذا مخزون للذى يحفظ وصاياه.. فمن يرغب الإشتراك فى الطبيعة الإلهية وينال الرب آب الكـون سـاكناًَ ومقيماً فى أعماق القلب بإبنه فى الروح القدس، فليطهر نفسـه تطهيراً شاملاً ويغسل وسخ الشر بكل الوسائل التى يسـتطيعها، وفوق الكل بكل أنواع الصلاح فبذلك يصير حقا هيكلاً لله. 6- حينما يسكن مخلصنا المسيح فينا بالروح القدس فبالتأكيد سـيكون أبيه أيضاً هناك، لأن روح المسيح هو روح الآب أيضاً (رو 8: 11، غل 4: 6).. وهكذا نرى أن نفس الروح خاص بالآب والإبن. 7- فكلمة الله الوحيد الجنس يمنح القديسـين ميـلاً إلـى طبيعتـه الخاصة وطبيعة الله الآب بإعطائهم الروح وذلك بإتحادهم بـه بالإيمان والقداسة الكاملة، وهو يغذيهم فى التقوى ويعمل فيـهم لمعرفة كل فضيلة وكل الأعمال الصالحة. 8- الله الآب له روحه الذاتى من ذاته وفى ذاتـه الـذى بـه، أى الروح، يسكن فى القديسين ويعلن لهم أسراره، لا كأن الـروح يمارس مجرد وظيفة خدمة بل بالحرى كمن هو فيه جوهريـاًَ ومنبثق منه بغير إنفصال ولا إنقسام.. وهو يفسر ما هو خـاص بذلك الذى هو كائن فيه والذى منـه يصـدر- وهـذا هـو ما يخصه أيضاً هو نفسـه ( أى الروح )- لأن الله لـه إتحـاد بالخليقة فقط بواسطة إبنه فى الروح.وهذا الروح هو أيضاً خاصية الإبن الوحيد لأنه واحد معه فى الجوهر. ثالثاً: القديس باسيليوس الكبير: ( الفصل التاسع من كتاب الروح القدس ) وأول شئ نسأل عنه هنا هـو: عند سماع ألقاب الروح القدس.. من لا يسمو روحياً ومن لا يرتقـى إيمانـه إلى الطبيعة الإلهية؟!فالروح يدعى ” روح الله ” (مت 12: 28)،” وروح الحق الذى من عند الاب ينبثق ” (يو 15: 26)، ” والروح المستقيم ” (مز 51: 10)، ” وروح الرياسة ” (مز 12:51).أما إسمه الخاص ولقبه المعروف فهو الروح القدس، وهـو إسم لا يدل بالمرة على أنه محسوس بل روح محض بسيط.وعندما أراد ان يعلم أن يعلم المرأة السامرية التـى اعتقـدت بـأن الله محصور فى مكان ينبغى عبادته فيه، قال أن الله منزه عـن الجسـد ولا يمكن حصره فى مكان ” الله روح ” (يو 24:4).ولذلك إذا سمعنا كلمة ” الروح ” فمن الخطأ أن نكون صـورة عـن طبيعة محدودة خاضعة للتغيير والظروف أو تشبه المخلوق، بل تحتـم علينا كلمة ” روح ” أن نسمو إلى ما هو أعلى.. إلى طبيعة عاقلة وغـير محدودة القوة والعظمة لا تقاس بالزمان أو العصور بل محسن يعطـى من خيراته، وكل الذين يحتاجون إلى التقديس يلتفتون إليه ويسعى إليـه كل الذين يعيشون فى الفضيلة، والكل كما لو كان يشرب من إلهامـه وبه يتقدم نحو غايـة خلقه.هو يكمل كل شئ ولا ينقص شيئاً حتى لا يحتاج إلى تجديد حيـاة فهو ينبوع الحياة، لا ينمو ولا يضاف إليه بل هو دائما ملآن، كـائن فى كل مكان، ينبوع التقديس ونور لا يدركه إلا العقل يعطى من لدنـه الإستنارة لكل قوة عقلية تطلب الحق.الروح القدس بطبيعته غير مدرك ولكن يمكن الإقتراب منه ومعرفتـه بصلاحه، يملأ كل الأشياء بقدرته، ويعطى للمستحقين فقط ولا يعطـى بمكيال بل يوزع قوته على قدر الإيمان (رو6:12)، جوهـره بسـيط وقوته متنوعة، حاضر كله فى كل أحد لأنه حاضر فى كل مكان. مـوزع على الكل دون أن يعانى التقسيم. يشترك فيه الكل دون أن يفنى، مثل أشعة الشمس تسقط على كل من يريد أن يتمتع بها كما لو كـانت أشـعة الشمس لكل فرد على حدة لكنها تضئ الأرض والبحر وتمتزج بالـهواء، هكذا الروح القدس بالنسبة لمن يأخذه يكون كمن أعطى له وحده إلا أنـه يرسل نعمته التى تكفى الكل والتى تملأ الإنسانيـة، والذين ينالونه يتمتعـون به على قدر ما تحتمل طبيعتهم وليس على قدر قوة الروح القدس. وقال أيضاً: كما أن الروح القدس ليس له الولادة بحالة ما.. وهكـذا الإبن ليس له إنبثاق. وكما أن الإبن ليس هو من الروح القدس، هكذا الروح ليس من الإبن. وكما أن الإبن مولود من الآب وحده، هكذا الروح القدس منبثق من الآب وحده رابعاً: القديس يوحنا ذهبى الفم: يقول البعض أنه ما أعطاهم الروح لكنه جعلهم مسـتعدين لقبـول الروح بنفخته، فلا يخطئ من يقول أنهم أخذوا حينئذ سلطاناً روحيـاً ونعمة، ولكن ليس ليقيموا أمواتاً ويعملوا قوات بل لكـى يفحصوا عـن الخطايا لأن مواهب الروح القدس مختلفة، ولذلك استثنى بقولـه: ” من غفرتم لهم خطاياه غفرت لهم “.. موضحاً أى نوع فعل أعطاهم.فهناك من بعد أربعين يوماً أخذوا أنواع مواهب. وهذا صار لتعليـم أن موهبة الآب والإبن والروح القدس واحدة وسـلطانهم واحد، لأن المواهب التى تظن بها أنها مختصة بالآب لاتلبث أن تسـتبين أنـها مختصة بالإبن والروح القدس أيضاً. وقال أيضا : إن الروح القدس من الآب منبثق، والروح الذى أعطاه المسيح للرسل عندما نفخ فيهم، والذى حل عليهم يوم العنصـرة، لـم يكن جوهر الروح ولا أقنومه بل قوته. خامساً القديس كيرلس الأورشليمى: 1- يوجد روح قدس واحد وحيد، المعزى. وكما يوجـد الله الآب واحد وليس آب آخر، وكما أن هناك إبن واحد وحيد كلمـة الله الذى ليس له أخ، هكذا يوجد روح قدس واحد وليس هناك ثـان مساو له فى الكرامة. 2- الروح القدس قوة غاية القدرة ( أقنوم )، إلهى لا يستقصى.. فهو حـى عاقل مقدس كل ما خلقه الله خلال الإبن. 3- إنه يدعى المعزى لأنه يعزينا ويشجعنا ويعين ضعفنـا ” إذ لسنا نعلم ما نصلى لأجله كما ينبغى لكن الروح نفسه يشفع فينا بأنات لا ينطق بها ” (رو 8: 36). 4- الآب معطى كل النعم خلال الإبن بالروح القدس، مواهب الآب ليست إلا مواهب الإبن ومواهب الروح القدس.لأنه يوجد خلاص واحد.. قوة واحدة.. ايمان واحد.إله واحد الآب، ورب واحد إبنه الوحيد، وروح قدس واحد المعزى. وعن أسماء الروح القدس… قال القديس كيرلس الاورشليم: + الروح : لأنه لواحد يعطى بالروح كلام حكمة” (1كو 8:12). + المعزى : “لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى” (يو 7:16). + روح الحق : “فيعطيكم معزياً أخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق” (يو 17: 16، 17). + روح الله : لأن الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الله” (رو 14:8). + روح الرب : كقول بطرس: ” ما بالكما اتفقتما على تجربة روح الرب” (أع 5: 9). + روح المسيح : ” وأما أنتم فلستم فى الجسد بل فى الروح إن كان روح الله ساكنا فيكم. ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له” (رو 8: 9). + روح إبن الله : كما هو مكتـوب: “بما أنكم أبناء أرسل الله روح إبنه” (غل 6:4). + روح يسوع المسيح: “بطلبتكم ومؤازرة روح يسوع المسيح” (فى 1 :19). + روح القداسة: كما هو مكتوب: “حسب روح القداسة” (رو1: 4). + روح التبني : كما قال بولس: “إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضا للخوف بل أخدتم روح التبنى الذى بـه نصرخ يـا أبا الأب” (رو 8: 5 1). + روح الموعد: كما قال بولس: “الذى فيه أيضا إذ أمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس” (أف 1 :13). + روح الاعلان : كما هـو مكتـوب: “كى يعطيكم روح الحكمة والإعلان فى معرفته” (أف1 :17). + روح النعمه : كما قال بولس: “من حسب دم العهد الذى قدس به دنسا وازدرى بروح النعمة” (عب 10: 29). ختام للقديس كيرلس الأورشليمى: (ياليت إله الكل ذاته الذى تكلم بالروح القـدس خـلال الأنبيـاء والذى أرسل على رسله فى يوم البنطقستى فى هـذا المكـان، هـو نفسه يرسل عليكم فى هذا الوقت، وبواسطته يحفظنا نحن أيضاً لكـى نتمتع بالبركات السمائية ويكون فينا ثمار الـروح القـدس: محبـة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، إيمان، وداعة، تعفف.. فـى المسـيح يسوع ربنا الذى له وبه ومع الروح القدس المجد للآب الآن وإلـى الأبد وإلى أبد الأبد آمين).
المزيد
15 أغسطس 2020

ليتورجيا كنيسة المشرق الكلدانية

العذراء مريم في طقس كنيسة المشرق المقدمة حظيت مريم العذراء بمكانة مرموقة في حياة ابناء كنيسة المشرق الكلدانية والآثورية، حيث غطى ذكرها مساحة كبيرة في مختلف الرتب والطقوس، أوسع من ان تحتويها صفحات مقال في مجلة. إن كلَّ ما نطمح اليه في هذا المقال هو رسمُ الخطوط العريضة لمكانة العذراء في هذا الطقس العريق تعكس مكانة العذراء في ليتورجيا كنيسة المشرق منزلتها في الكتب المقدسة. انها مكانة متوازنة، فلا مغالاة في تكريمها، أي لا إفراط في رفع منزلتها الى حدّ تنافس فيه الله في التقوى والعبادة، ولا تقليل او انتقاص في شأنها، أي عدم التنكرّ لصفاتها الأساسية السامية يمكننا تحديد مكانتها بكلمات قليلة على النحو التالي:”ان مريم العذراء هي والدة المسيح، الرب المخلص “، لذا فإن شفاعتها قديرة لدى الله، وهي الى ذلك امّ لأخوة يسوع ابنها، لذا فإنها كلية الحنان والشفقة بنا نحن البشر يتكون بحثنا عن مكانة العذراء مريم في طقوس المشارقة من القسمين التاليين:- مكانة العذراء مريم في الصلاة الفرضية مكانة العذراء مريم في رتب اسرار الكنيسة في طبعات الكتب الطقسية الكلدانية أجريت بعض التغييرات على نصوص التراتيل منها تبديل عبارة “أم المسيح” بعبارة ” أم الله”، كما جرى تحوير في تعابير لاهوتية تتحدث عن سر تجسد المسيح، سنشير الى الاختلافات الموجودة بين طبعات الكلدان وطبعات الآثوريين. أولا مكانة العذراء مريم في الصلاة الفرضية:- تتجلى منزلة العذراء السامية واضحة جلية من خلال الصلاة الفرضية التي يرفعها الكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة وسائر المؤمنين في الكنائس الراعوية وفي معابد الاديرة، وذلك عبر مواسم السنة الطقسية نتقصى مكانة العذراء مريم في الصلاة الفرضية من خلال العناصر التالية:- أ‌- مكانة العذراء في بنية ساعات الصلاة:- 1 – مكانة العذراء في السنة الطقسية:- تعكس منزلة العذراء مريم في السنة الطقسية الكلدانية المكانة التي منحها اياها الانجيل المقدس. إذ يرد ذكرها حينما تؤدي دوراً هاماُ خلال احداث حياة يسوع المسيح الارضية، أي انها تشارك يسوع ابنها في تنفيذ مخطط الله لخلاص البشر، لذا لا يمكننا فهم مكانتها السامية إلاّ ضمن إطار تدبير الخلاص قام البطريرك إيشوعياب الثالث الحديابي (649-659) بتنظيم التقويم الطقسي لكنيسة المشرق، فوزّع مراحل عمل يسوع الخلاصي عبر مواسم السنة الطقسية بحيث يحتفل المؤمنون بسر الخلاص كاملاً خلال السنة. فقسم السنة الى سبع فترات، تتكون كل فترة مبدئياً من سبعة اسابيع، واضاف اليها فترتين تتكون كل فترة منها من اربعة اسابيع، وضع الاول في بداية السنة والاخرى في نهايتها تبدأ السنة الطقسية بفترة البشارة / الميلاد التي تحيي ذكرى تجسد يسوع، الاله الكلمة من مريم العذراء، ثم تتوالى الفترات لتذكر بقية مراحل الخلاص، من عماد الرب، وتبشيره بالانجيل، موته وقيامته، والتطلع الى مجيئه الثاني، وتختم السنة بالتأمل بسر الكنيسة التي هي إمتداد لحضور يسوع في العالم ان ما يُلفت النظر في السنة الطقسية الكلدانية الحالية، هو ان للعذراء مريم ذكراً خاصاً في كل فترة من فتراتها، وذلك من خلال الاعياد المريمية المختلفة او من خلال المواسم الطقسية المقامة فيها، او من خلال الصلوات والادعية التي ترفع خلال ساعات الصلاة يظهر ذلك جلياً من خلال العرض السريع التالي لفترات السنة الطقسية: – فترة البشارة/ الميلاد: عيد البشارة، عيد مريم العذراء المحبول بها بلا دنس، عيد الميلاد، عيد تهنئة العذراء بميلاد الرب يسوع، عيد تقدمة يسوع وتطهير مريم العذراء. – فترة الظهور(الدنح) أي العماد: الاحد الرابع: ذكرى معجزة تحويل الماء خمراً بناءً على طلب مريم العذراء(يو2/ 1-12) – فترة الصوم الكبير: موسم الكنيسة مريم الطاهرة( الموصل). – فترة القيامة: عيد مريم العذراء حافظة الزروع. – فترة الرسل: عيد حلول الروح القدس على التلاميذ بحضور العذراء مريم (اعمال1/14). – فترة الصيف: عيد انتقال مريم العذراء. – فترة ايليا/ الصليب: عيد ميلاد مريم العذراء. – فترة موسى وفترة تقديس الكنيسة. 2– فترة البشارة/ الميلاد تمتاز فترة البشارة/ الميلاد عن الفترات الطقسية الاخرى بتخصيصها مساحة كبيرة لذكر العذراء مريم، لذا فانها تستحق ان نتحدث عنها بصورة خاصة. تبدأ السنة الطقسية الكلدانية بفترة البشارة، وتصادف عادة اما الاحد الاخير من شهر تشرين الثاني او الاحد الاول من كانون الاول من كل سنة. قوامها اربع آحاد، تسبق عيد الميلاد المجيد، هدفها اعداد المؤمنين لذكرى تجسد المخلص. تتّسم فترة البشارة/ الميلاد هذه بطابع مريمي رائع، إذ تحتوي على نصوص إنجيلية وتأملات لاهوتية تشرح سر تجسد المسيح وسر والدته المجيدة. ولا فترة طقسية اخرى تعطي هذه الاهمية لذكر العذراء. ويظهر ذلك من خلال النصوص الانجيلية التي تُتلى على مسامع المؤمنين اثناء القداس، ومن خلال التراتيل والابتهالات التي ترفع اثناء ساعات الصلاة الفرضية. النصوص الانجيلية: تسرد قراءات الانجيل المقدس، التي تُتلى أثناء قداس الآحاد والأعياد، احداثاً هامة من حياة مريم العذراء، وذلك على النحو التالي: 1-الاحد الثاني من البشارة: بشارة الملاك جبرائيل للعذراء مريم بالحبل البتولي، زيارة مريم لنسيبتها اليشباع، الحوار بين اليشباع ومريم، نشيد “تعظم نفسي…”(لوقا 1/26-56). 2-الاحد الثالث من البشارة: ولادة يوحنا المعمدان (لوقا1/ 57- 80). 3- الاحد الرابع من البشارة: إعلان الملاك جبرائيل للقديس يوسف حبل مريم العذراء العجائبي والايعاز اليه بجلب العذراء الى بيته(متى 1/ 18-25). 4-عيد الميلاد المجيد: ميلاد يسوع المسيح، بشارة الملاك للرعاة، وعبارة لوقا”وكانت مريم تحفظُ هذا الكلام كله وتفكر به في قلبها”(لو 2/ 1-20). 5- الاحد الاول بعد الميلاد: زيارة المجوس للطفل يسوع مع مريم أُمه، هرب العائلة المقدسة الى مصر والعودة الى فلسطين(متى2/1-22). 6-الاحد الثاني بعد الميلاد: مراسيم ختانة يسوع، رتبة تطهير العذراء في الهيكل، وتقدمة يسوع، وعثور مريم ويوسف على يسوع وهو في الهيكل، فكرة عن سياق حياة العائلة المقدسة في الناصرة، وعبارة لوقا “وكانت امه تحفظ هذا الكلام كله في قلبها”(لوقا 2/ 21-54). ب- التأملات اللاهوتية: لا تشرح الصلوات والتراتيل التي تُؤدّى خلال فترة البشارة/ الميلاد النصوص الانجيلية التي تُقرأ ايام الآحاد، كل أحدٍ او اسبوع على حدة، بل تقدم خلال الفترة كلها تأملات لاهوتية عن سر التجسد، واتحاد الله الكلمة بالطبيعة البشرية، والحبل العجائبي، ودور العذراء مريم في سر التجسد، كما أنها تعبّر عن المشاعر البنوية التي تغمر أبناءَ كنيسة المشرق تجاه ام المخلص وامهم. فيما يلي بعض من هذه التأملات اللاهوتية والمشاعر البنوية: 1ً- اختار الله مريمَ من نسل ابراهيم لتلد المسيح تُستهلُّ السنة الطقسية بصورة عامة، وفترة البشارة بصورة خاصة، بترتيلة نموذجية، تتسم بطابع صلوات المسيحيين الاولين، فهي تعبّر عن معان لاهوتية عميقة بكلمات قليلة، انها تقدم تأملاً سامياً بسر الكلمة المتأنس وبسر والدته القديسة. تُرتّل هذه الترنيمة خلال صلاة المساء، عشية الاحد الاول من البشارة، وفيما يلي ترجمتها: “إن الله(المولود) من الآب، لم يتخذ هيئة العبد(فيلي 2/7) من الملائكة (عبر1/5)، بل من زرع ابراهيم، واتى الينا في ناسوتنا بنعمته، ليخلص جنسنا من الضلال”(2) هكذا تتحدث السنة الطقسية في بدء دورتها عن دور العذراء مريم في تدبير الخلاص من خلال عبارة “زرع ابراهيم”، التي تشير الى اياتٍ نبوية من العهد القديم، منها قول الرب لابراهيم ابينا “يتبارك بنسلك جميع الامم” (تك 22/18). ان العذراء مريم هي نسل او زرع ابراهيم، الذي منه اتخذ الله الكلمة جسداً بشريا ليخلصنا من الضلال، إذ لم يأتِ من أجل الملائكة بل من اجل البشر، كما يقول القديس بولس ” لم يقم لنصرة الملائكة، بل قام لنصرة نسل ابراهيم، فحق عليه ان يكون مشابهاً لأخوته في كل شيء…(عبرانيين2/16-17). 2- المسيح آدم الثاني والعذراء حواء الثانية “المجد للآب والابن والروح القدس:… يا لحكمة الله، إن رحم حواء، التي قضي عليها أن تنجب بالآلام، أصبح معيناً يهبُ الحياة. فحبلت بدون زرع وانجبت عمانوئيل، وحررت هكذا جنسنا من الفساد…” (3)(جلسة صلاةالأحد الأول من البشارة). “تجاوز آدم الأول بواسطة امرأة، وبواسطة العذراء تجدّد في المسيح من الفساد…” (4)(جلسة صلاة الاثنين الاول بعد الميلاد). 3- تستحق العذراء مريم كل اكرام لانها انجبت المسيح يسوع: “الام التي انجبته تستحقُ البركات، الاذرع التي حملته تسأهل المديح، الركب التي ربّته تستحق الثناء…” (5)(مدراش صلاة الليل للاحد الاول بعد الميلاد). 4- ولدت العذراء مريم يسوعَ بقدرة الله: “…حبلت(العذراء) من دون أن يعرفها رجل، وذلك بقوة الروح القدس. الذي خَلَقَ آدم من التراب، وابدع حواء منه بلا زرع، هو نفسه جعل سارة العاقر تلد(التكوين 17/21)، ومن بعدها رفقة (التكوين 25/21)، وهو الذي كشفَ للعذراء حالة اليصابات…” (6)(ترتيلة قدس الأقداس للأحد الرابع من البشارة). 5- يتكرر ذكر البشارة في كل لحن: “…أنا جبرائيل، القائم للخدمة امام تلك السيادة الرهيبة، ارسلني الآب لابشّركِ ببشارة تُبهجُ العالم كله: انك ستقبلين حبلاً- معجزة، إذ ستخلقه قدرةُ العلي في أحشائك، وتلدين ابنه عمانوئيل، الذي سيصالح الكائنات السماوية مع الأرضية، فيحمده الجميع قائلين: “المجدُ لكَ، يا مخلص العالم” (7)(جلسة صلاة الأحد الأول من البشارة).
المزيد
14 أبريل 2019

تأملات في الأسبوع السادس من الصوم الكبير - التناصير

رؤية الله هو هدف الرحلة (المولود أعمى). هذا الأعمى كان محرومًا من رؤية الأشياء المادية... والآن أصبح له بصيرة يرى بها المسيح الذي انطمست عيون الفريسيين عن رؤيته. في نهاية الصوم- الكنيسة تطالبنا بالرؤيا الروحية لله. الصوم ساعد على تنقية القلب. وأتقياء القلب يعاينون الله . هذه هي ثمار الصوم المقدس، تبدأ عيون قلوبنا الروحية ترى الله، وترى إرادته في أحكامه وكل أعماله من حولنا، وعندئذ نثبت نظرنا في المسيح ونسجد له كما فعل المولود أعمى. الأحد الأخير من الصوم هو أحد التناصير الذي يرمز لها المولود أعمى (يو 9). أ- " كنت أعمى والآن أبصر "، هذا هو اختبارنا الدائم كأبناء للآب السماوي. لقد كنا عميان فأنار بصيرتنا وكشف عن أعيننا فأبصرنا عجائب من شريعته، وأرانا ما اشتهي الأنبياء أن يروه، وفتح بصيرتنا لنفهم الكتب... ب- والمعمودية تعنى الاغتسال (في بركة سلوام) لكي نصير أبناء أطهـار، والتوبة هي استمرار للاغتسال لكي نبصر جيدًا، فالتوبة هي استمرار للمعمودية- وهي الوسيلة التي بها نبصر المسيح جيدًا طوال حياتنا. فالتوبة المستمرة تغسل القلب وتجدد الذهن وتحفظ النفس منسحقة في طاعة الآب، وتكشف لها كل بركات وأسرار الآب السماوي. هذا الأسبوع ينتهي بأحد التناصير (أحد المولود أعمى). وق د كانت الكنيسة الأولى تقوم بعماد الموعوظين يوم أحد التناصير على اعتبار أن الشخص الذي نال سر العماد هو كالمولود أعمى الذي أبصر ولسان حاله يقول كنت أعمى والآن أبصر. وتدور نبوات الاثنين والثلاثاء والأربعاء من إشعياء حول نقطتين هامتين: الأولى : أن المعمودية هي وسيلة تفتيح الأعين غفران الخطايا. والثانية : أن الشهادة بقوة هي عمل الذي أبصر بعد أن كان أعمى. وهذا ما نراه واضحًا في حديث المولود أعمى مع رؤساء الكهنة والكتبة وشهادته للسيد المسيح بقوة حتى إنتهى الأمر بطرده من المجمع. يوم الاثنين: أولًا : الشهادة : "أنتم شهودي يقول الرب... أنا أنا الرب وليس غيري مخلص" (43: 10، 11). "أنا أخبرت وخلصت وأعلمت وليس بينكم غريب وأنتم شهودي... أنا هو ولا منقذ من يدي أفعل ومن يرد" (43: 12، 13). فواضح أن الشهادة هي بخلاص الرب الذي فتح عيني الأعمى. وهذه الشهادة ليست للغرباء (وليس بينكم غريب). ويكرر قوله أنا أنا الرب وليس غير مخلص، فلا خلاص بدون دم المسيح والفداء. وتكرار كلمة شهودي تجعل الشهادة عمل ضروري للمسيحي حتى الاستشهاد. ثانيا : المعمودية : "لأني جعلت في البرية ماء، أنهارا ً في القفر لأسقى شعبي مختاري. هذا الشعب جبلته لنفسي يحدث بتسبحتي" (43: 20). "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها" (43: 25). أ- فالمعمودية : هي ما يتفجر في البرية. في وسط ظلمة برية العالم جاء السيد المسيح يق ول: "إن لم تولدوا من الماء والروح لن تدخلوا ملكوت السموات"، المعمودية هي ولادة روحية ، ولادة من الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، ومن البرية القفرة إلى مياه متفجرة. ب - بالمعمودية هي بنوة لله وملكية له وليست للغرباء. بها نصير شعبه وأولاده الذين نعرف كيف نسبحه "هذا الشعب جبلته لنفسي يخبر بتسبحتي" (43: 21). ج- والمعمودية هي غفران للخطية "أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها" (43: 25). يوم الثلاثاء (أش 44 : 1-8) : أولًا: المعمودية : أ- شعب مختار (أولاد الله) " إ سمع يا يعقوب عبدي وإسرائيل الذي اخترته" (44: 1) ب- مياه المعمودية "لأني أسكب ماء على العطشان وسيولا على اليابسة" (44: 3)، "فينبتون بين العشب مثل الصفصاف على مجارى المياه " (44: 4). فالمعمودية هي مياه تروى الكنيسة و سيولا وسط أرض العالم اليابسة (هي ولادة من فوق والعالم ولادة من أسفل...) هي اغتسال في بركه سلوام. إن بركة سلوام هي من أقوى الرموز عن المعمودية، كما أن المولود أعمى هو أقوى الأمثلة عن الاستنارة الروحية بالمعمودية، لأنه بعد أن تفتحت عيناه أبصر السيد المسيح وسجد له، أما الكتبة وكهنة الشعب كانت لهم عيون تبصر كل شيء في العالم إلاَّ الذي جاء ليفديها ويخلصها لأنهم لم يجتازوا سر بركة سلوام. المعمودية هي نمو للنفوس المؤمنة وسط عشب العالم مثل الصفصاف على مجارى مياه المعمودية. ثانيا: الشهادة: يكرر مرة أخرى قائلًا: " فأنتم شهودي هل يوجد إله غيري" (44: 8). وهنا بعد الحديث عن المعمودية يلزمنا إشعياء أن نشهد للمسيح أن ليس إله غيره- إشعياء الذي قال هاأنذا فأرسلني لأشهد لك. أليست هذه هي اختبارات المولود أعمى بعد أن نال سر الاستنارة الروحية (المعمودية) أن صار شاهدا للسيد المسيح! يوم الأربعاء (إش 44: 1-28) : يتحدث فيها بوضوح عن الكنيسة وبنائها مبتدئا بالمعمودية لاقتناء شعب مفدى لا ينسى من الله ومغفورة له خطاياه : "يا إسرائيل فإنك أنت عبدي... عبد لي أنت...". "يا إسرائيل لا تنس منى...". "قد محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك...". "لأن الرب قد فدى إسرائيل...". "والقائل لأورشليم ستعمر ولمدن يهوذا ستبنين وخربها أقيم". كل هذه النبوات مشجعة للسائر في طريق الصوم الذي نال سر المعمودية أنه في ملكية الله، لا ينسى منه، ممحوة ذنوبه مفدى بدمه ستعمر حياته وتبنى من خرابها وبالتالي تعمر الكنيسة كلها، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. هذه باختصار قصة الو لا د ة الجديدة، وقصة المولود أعمى الذي طرد من الهيكل فأخذه يسوع إليه وأدخله حظيرته (يو 10). نبوات الخميس والجمعة (إش 45: 1-17) كلها تتحدث عن خلاص الكنيسة، وهو موضوع خطير جدا ، لأن الخلاص سوف لا يحدث بأحد من أولاد الكنيسة بل بعدو الكنيسة الذي سيحول الله قلبه حتى انه سيدعوه: كورش راعى (إش 44: 28). و مسيحه كورش (إش 45: 1) فالكنيسة بالتأكيد هي في رعاية الله لأنها عروسه، وهو قادر على خلاصها بوسيلة لا تتوقعها أبدا - وليس علينا أن نقترح على الله طريقة الخلاص كما نفكر كثيرا بأفكارنا الضيقة، بل علينا فقط أن نصلى ونصوم ونسلم حياتنا لله ونتوقع خلاص الله بسكوت وبإيمان. • أليس هذا هو طريق الخلاص بالإيمان بالمعمودية وفاعلية دم الصليب فيها، لقد كان الصليب عارا فأصبح لنا خلاصا . وماء المعمودية بعد الصلاة أصبح له حق الولادة من الله. • لقد صدر الخلاص لشعب الله بواسطة كورش الراعي المعين من الله والمدعو مسيح الرب. • "وكورش يبنى مدينتي ويطلق سبي لا بثمن ولا بهدية" (إش 45: 13). وهذا ما حدث لنا أننا نلنا البنوة، وتفتيح الأعين، والاستنارة الروحية بلا ثمن ولا بهدية بل مجانا بدم المسيح بالمعمودية. • "وخلاص الرب خلاصا أبديا... إلى دهر الدهور" (45: 17). إن بنوتنا لله بالمعمودية أبدية لا يمكن الرجوع فيها، لذلك فالمعمودية لا تعاد ل لإنسان الذي يجحد الله ثم يتوب ويرجع كالابن الضال. إننا نولد من أبوين جسديين نأخذ منهما جسد ترابي لذلك فعمرنا الأرضي له نهاية، أما الولادة من الله بالمعمودية فهي أبدية إلى دهر الدهور لأنها ولادة من الله الأزلي الأبدي. الإله المحتجب: "حقًا أنت إله محتجب يا إله إسرائيل المخلص" (45: 15). فإلهنا العظيم- ضابط الكل- الإله المخلص- الذي لا ينسي أولاده- مصدر النور وخالق الظلمة- صانع السلام وخالق الشر- أنا الرب صانع هذه كلها- لكي يعلموا من مشرق الشمس إلى مغربها أن ليس غيري أنا الرب وليس آخر (45: 5- 7). هذا الإله العظيم للأسف محتجب لا يراه إلاَّ أولاده لأنه هو الذي يعلن ذاته لهم "أراكم فتفرح قلوبكم" (يو 16: 22). هو الذي أعلن ذاته للمولود أعمى، وهو الذي لم يره الكتبة والكهنة والأشرار من اليهود. هو إله محتجب يظن الأشرار أنهم يقدرون على ال ا ضرار بالكنيسة كما حدث أيام استير، وكما حدث في تاريخنا عشرون قرنًا. إنه محتجب ولكنه منظور لأولاده ومخلصهم العجيب "أبشركم بفرح عظيم... إنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب" (لو 2: 11).
المزيد
25 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس يونان

" قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة "" يون 1: 2 " مقدمة نظر الصبى الزنجى الصغير، إلى المدرس الأبيض وسأله: هل كان المسيح أبيض اللون؟.. وقال المدرس: أعتقد ذلك.. ولكن لماذا تسأل هذا السؤال أيها الصبى!!؟ أجاب: إذاً فهو لم يأت لنا نحن السود!!؟.. ووقف المدرس هنيهة متأملا قبل أن يقول: أظن يابنى أن شمس فلسطين قد لوحته، إذ أنه جاء إلى العالم كله، للأسود والأبيض، ولجميع الأجناس لأنه يحب الجميع كان يونان النبى أول مرسل قديم أرسله اللّه إلى الأمم، وقال بروفسور كورنل عن سفره: « لقد قرأت كتاب يونان ما لا يقل عن مائة مرة، وينبغى أن أعترف جهاراً، دون أن أخجل من ضعفى، إننى ما تناولت هذا الكتاب العجيب أو تحدثت عنه دون أن تنهمر الدموع من عينى، ودون أن تسرع نبضات قلبى، فهذا السفر الصغير من أعمق وأعظم ما كتب على الإطلاق، وإنى أقول لكل إنسان يقترب منه: اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذى أنت واقف عليه أرض مقدسة.فمن هو يونان صاحب هذا السفر، وما هى الرسالة التى أوكلت إليه، وحاول التملص منها، ثم اضطر إلى قبولها وأتت بثمر لم يكن ينتظره أو يرجوه وكان هو والرسالة موضوع حنان اللّه وشفقته!!؟؟. دعنا نراه الآن فيما يلى: يونان ومن هو!!؟ لا نكاد نعرف عن يونان سوى بضع عبارات وردت عنه فى العهد القديم والجديد، وبعض التقاليد اليهودية غير الثابتة، وهذه وتلك قد تعطينا ضوءاً كافياً، لنعرف أنه يونان بن أمتاى، من جت حافر الواقعة فى سبط زبولون والتى تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من مدينة الناصرة، والكلمة يونان معناها حماقة « وأمتاى » تعنى حقيقة، وإن كان جيروم يعتقد أن الاسم يونان يعنى « حزين ». وهناك تقاليد متعددة عنه، فالبعض يقول إنه ابن أرملة صرفة صيدا الذى أقامه إيليا من الموت، والبعض الآخر يقول إنه النبى الذى أرسله أليشع ليمسح ياهو بن نمشى، بينما اعتقد آخرون أنه زوج الشونمية التى كانت تضيف أليشع، وأيا كان هو، فإن الثابت أنه تنبأ فى عصر يربعام الثانى، ومن المرجح أنه بدأ نبوته فى أوائل حكم هذا الملك أو عام 785 ق.م.، ويعتقد البعض أنه ذهب إلى نينوى حوالى 763 ق.م. وقد بدأ يونان رحلته وهو هارب من مدينته إلى يافا، الميناء الواقع على بعد اثنين وثلاثين ميلا جنوبى قيصرية، وإلى الشمال الغربى من أورشليم، والتى يقال إنها أقدم مدن فلسطين على الإطلاق، وقد اتجه بالسفينة غرباً إلى ترشيش القريبة من جبل طارق فى أسبانيا، ثم رجع إلى نينوى عاصمة الدولة الأشورية العظيمة، والتى كانت من أعظم وأجمل المدن التى عرفها التاريخ القديم والتى كان محيط دائراتها، عندما ذهب إليها يونان، ستين ميلا أو يزيد، وقد بنيت على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وعلى بعد ستمائه ميل من الخليج الفارسى، وقد كشفت الحفريات الحديثة عما كان لها من مجد ضائع، وعز دارس، ذهب فى بطن الأيام وأحشاء القرون. يونان والقصد الإلهى يكاد إجماع الشراح ينعقد على أنه ليس فى أسفار العهد القديم كله سفر استطاع أن يتجاوز التزمت اليهودى، ويعلن عن محبة اللّه، وأبوته لليهود والأمم، كهذا السفر الصغير الذى لا يتجاوز ثمانى وأربعين آية، ولذا لا عجب أن يرى فيه تشارلس ريد الروائى، أنه أجمل قصة كتبت على الإطلاق، ولا عجب أن تكون هذه القصة سبباً فى مجئ القديس كبريانوس إلى المسيح! والقصة تكشف عن قصد اللّه الثابت والمجيد فى إنقاذ نينوى، والتى كان يبلغ عدد سكانها فى أيام يونان ما يزيد على ستمائة ألف نسمة إذ كان بها من الأطفال الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم أكثر من مائة وعشرين ألفاً (اثنى عشرة ربوة) وكانت مطوقة بسور عظيم يسهل على أربع عربات أن تجرى متجاوره فوقه، أما داخلها فقد كان متسعاً يذخر بالترع والقنوات والميادين، والحدائق والقصور والتماثيل والسلع، والمجوهرات والذخائر والكنوز!!..ولعله مما يسترعى الملاحظة والانتباه، أن اللّه، لكى يثبت قصده، كشف عن هذا القصد: « فأرسل ريحاً شديدة » « فأعد حوتاً عظيماً » « فأعد الرب الإله يقطينة » « ثم أعد اللّه دودة ». (يونان 1: 2 و17، 4: 6 و7) وهل وقفنا لنتأمل الفعل « فأرسل » والفعل الذى كرر ثلاث مرات: « أعد » لقد استخدم اللّه الريح، والحوت، واليقطينة، والدودة، على النحو العجيب المثير لإثبات قصده، أو فى لغة أخرى، أن اللّه كان وراء الطبيعة، والحيوان الضخم، والنبتة الصغيرة، والدودة الحقيرة، لكى يؤكد استخدامه لكل شئ، وهو يثبت قصده عندما تمرد يونان على الرحلة، وبدأ فى الاتجاه العكسى لها، أرسل اللّه له الريح الشديدة العاتية، لتعيده إلى الرسالة التى يلزم أن يؤديها، ويونان كان كموسى، وإرميا، إذ لم يقبل على الرسالة بقلب راغب، واستعداد كامل، كما فعل إشعياء، وهو يقول: « ها أنذا إرسلنى »، (إش 6: 8) وكثيراً ما يرسل اللّه ريحه الشديدة على سفينة حياتنا، وقد تكون هذا الريح فشلا أو ضيقاً، أو اضطراباً أو إفلاساً، أو ما أشبه، حتى تعود هذه السفينة مرة أخرى من ترشيش التى نزمع الذهاب إليها، إلى نينوى التى نرفض أن نتجه إليها،... ومع أن اللّه غضب على يونان، إلا أنه فى الغضب يذكر الرحمة، وقد أعد اللّه لذلك حوتاً عظيماً،... ولم يكن هذا الحوت مصادفة أو خيالا أو رمزاً، كما يزعم النقاد الذين علت القصة فوق إدراكهم، فتصوروها شيئاً يصعب تصديقه، وكان يكفيهم تماماً أن يشير المسيح يسوع سيدنا إلى هذه القصة كواقعة وحقيقة تعتبر صورة أو مثالا لما سيحدث معه هو فى القبر بعد الصليب،.. ولا يستطيع أحد أن يتصور أن المسيح يجعل من قصة رمزية أو خيالية، شبهاً أو رمزاً لقصته هو فى القبر قبل القيامة،... ولو صح هذا، لتحولت قصة المسيح بدورها رمزاً أو خيالاً، وليس موتاً أو صليباً حقيقياً، ألم يقل: «هذا الجيل شرير. يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبى. لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل » (لو 11: 92 و03)؟؟. فإذا كان اليهود قد قبلوا هذه القصة مرغمين وأوردها يوسيفوس المؤرخ اليهودى كواقعة تاريخية فى كتاب الآثار، وإذا كانت توبة نينوى لم تكن مجرد خيال أو تصور بل حقيقة واقعة، فإنه يحق لنا أن نورد ما قاله أحد الشراح اللاهوتيين: « إن ديان المستقبل، وهو يتحدث إلى أولئك الذين سيقفون يوما أمام كرسيه، محذراً، كان لابد أن يعطيهم صورة حقيقية مثالا لحقيقتهم، وهم ماثلون أمامه، ويستحيل أن يعطيهم صورة رمزية، لما سيكونون عليه عندما يمثلون أمام عرشه العظيم، فى يوم القضاء الأبدى، كواقعة حقيقية »... فإذا أضفنا أن مصدر الصعوبة القائمة عند من لا يقبلون القصة، ويعتبرونها حلماً حلم به يونان أو أسطورة ألحقت بالكتاب، وهو ما يستحيل على أهل نينوى قبوله كآية تردهم إلى اللّه، ما لم يكن حقيقة ماثلة أمام عيونهم، إن مصدر الصعوبة راجع إلى أنه لا يعقل أن هناك حوتاً يستطيع أن يبلغ يونان، فى بطنه ليستقر ثلاثة أيام ليال، وأنه شئ، يتجاوز تفكيرهم وخيالهم،... وقد أطلق النقد الأعلى هذا الاتهام المردود والذى تصدى له كثيرون من علماء علم الأحياء، والذين قالوا إن هناك نوعاً من الحيتان يمكنه أن يبتلع رجلاً مهما كان حجمه، والحوت كما نعلم يختلف عن غيره من الأسماك، وهو أشبه بالغواصة التى صنعها الإنسان ليبقى تحت الماء أسابيع وأياماً،... وإذا أمكن أن يصنع الإنسان شيئاً من هذا القبيل، فإنه يحسن بنا أن نذكر التعبير الكتابى كما أشار واحد من المفسرين: « فاعد اللّه حوتاً عظيماً »... واللّه لن يعجز على أسلوب عادى أو خارج أن يعد ذلك،... وقد كان أهل نينوى يؤمنون، على ما يعلق هنرى كلاى ترامبل، بخلائق تخرج من البحر نصفها إنسان والنصف الآخر سمكة،... ومع ما فى هذا الخيال من خرافة،... إلا أنه من السهل أن تأتيهم رسالة من إنسان قذف به الحوت إلى الشاطئ على النحو العجيب الذى صنعه اللّه آية لهم، ليرجعوا عن شرورهم، ويتوبوا عن خطاياهم،.. وقد أدرك يونان أنها رحمة اللّه وليس غضبه، أن يحفظه فى بطن الحوت ليصلى صلاته ويرجع هو، إلى رسالته العتيدة إلى نينوى وإلى جانب ذلك لا ننسى أن اللّه « أعد يقطينة » وهنا نتحول إلى منظر آخر، من الحوت الضخم إلى اليقطينة الصغيرة، ونتحول من رحمة اللّه تجاه الإنسان الغريق إلى ابتسامة اللّه تجاه النفس المغمومة، كان الحر اللافح خارج يونان وداخله، وهو يجلس على مشارف المدينة، وقد امتلأ غيظاً وغضباً وغماً، وأعد اللّه له اليقطينة ليخرجه من هذا الغم المستولى عليه،... وما أكثر ما يفعل اللّه معنا هكذا عندما تستولى علينا الوساوس والهموم، فيرسل اللّه ابتسامته التى تأتى إلينا مفاجأة، وعلى وجه لم تكن نتوقعه،.. قالت سيدة عجوز للرئيس ابراهام لنكولن فى أدق أوقات الحرب الأهلية: « لا تفزع اللّه معك، ونحن نصلى لأجلك، ولن تهزم »... وفرح الرئيس بهذه الكلمات البسيطة التى أخرجته من هوة اليأس العميق الذى وصل إليه!!.. كان الصبى على أعتاب اليأس، عندما رسب فى الامتحان، وكانت قريته كلها تتكلم عن رسوبه، غير أن الراعى التقى به ووضع يده على كتفه، وقال له: أنا أعلم أنك ستنجح!!... وكانت هذه الكلمات هى التى عبرت به الخط الفاصل بين الفشل والنجاح فى تاريخه كله!!.. حاول صموئيل جونسون - وهو شاب فقير - أن يلفت أنظار أحد اللوردات الإنجليز إليه دون جدوى، لكنه لما أصبح كاتباً إنجليزياً عظيماً، أرسل إليه هذا اللورد خطاب تهنئة،.. ورد جونسون يقول: لقد جاءت هذه التحيات ياسيدى متأخرة، لقد كنت فى حاجة إلى كلمة صغيرة واحدة منها فى أيام التعب والفشل والمأساة!!.. لم ينس اللّه أن يعد يقطينة ليونان!!.. على أن اللّه مع ذلك، أعد دودة لتقضى على هذا الفرح بسرعة غريبة،... وذلك لأن اللّه أبصر فى الفرح نوعاً من الأنانية، كانت اليقطينة شيئاً يشبه شجر اللبلاب الذى لا قيمة له، وكان يونان أنانياً بفرحه، فهو يفزع ليقطينة ضاعت دون أن يبالى بمدينة عظيمة تتعرض للضياع!!... كان قصد اللّه ثابتاً وأكيداً فى إنقاذ نينوى!!.. يونان والتمرد الشخصى كيف تكلم اللّه إلى يونان، وبأية صورة جاء هذا الكلام!!. نحن لا نعلم، غير أننا ندرك أن يونان تحول إلى بركان من الثورة، وتمرد على الرسالة، هل يرجع تمرده إلى شئ فيه، أم شئ فى المدينة نفسها، أم إلى شئ فى اللّه تعالى؟ … يعتقد البعض أن الرسالة فى حد ذاتها كانت لا تتجاوب مع طبيعة يونان، فيونان واسمه « حمامة » وهو أدنى إلى طباع الحمام ووداعته، ليس من السهل عليه أن يتحدث بلغة الزجر والشدة والانقلاب، … قد يكون من السهل على الإنسان أن يتحدث بالناعمات، ويردد ما هو مطلوب أو منسجم مع آذان سامعيه، لكن من أصعب الأشياء وأقساها وأشدها وقعاً على النفس أن يقف منهم – وهو وديع هادئ مسالم – متحدثاً بالعنف والإنذار والتهديد!! على أن البعض الآخر يعتقد أن يونان تمرد على الرسالة، لأنه بطبعه يكره هذه المدينة، وهى مدينة وثنية تتربص ببلاده وشعبه بالغزو والفتح، وهو كرجل إسرائيلى وطنى يهمه أن تزول نينوى من الوجود، لا أن تبقى …!! … ويرى غيرهم أن الأمر يرجع، أكثر من ذلك، إلى يقين يونان فى اللّه، إذ أبصر من وراء ندائه القاسى على المدينة بالانقلاب، نداء آخر بالرجوع والتوبة، وخاف هو أن تتوب المدينة وترجع، فيعفو اللّه ويسامح، إذ هو « إله رؤوف ورحيم بطئ الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر ».. " يونان 4: 2 " وهو لا يريد لنينوى هذا!!.. يونان والهروب العكسى إن قصة يونان لا تتحدث عن نينوى فحسب، لكنها - أكثر من ذلك - تكشف عن إحسان اللّه ومعاملته لخدامه حتى فى لحظات الضعف التمرد!!.. وقصة الرجل، فى هروبه، تكشف عن بعض الوقائع المثيرة،.. لعل أولها أن الأجرة الجاهزة، أو السفينة المقلعة، ليست بالضرورة دليل العناية أو الموافقة الإلهية،... إن عناية اللّه لا يجوز تفسيرها بالمظهر السطحى الساذج، لعمل يعلم الإنسان تماماً أنه فى الاتجاه العكسى لإرادة اللّه، ولا يجوز لإنسان أن يندفع فى رغبة ما تتمشى مع هواه، ويبصر بعض خطواتها سهلة أو هينة يسيرة، فيعتقد أن هذا هو الجواب المؤكد من اللّه بالموافقة على العمل بصرف النظر عن طبيعته وفحواه،... وما أكثر ما يرتبط الناس ببعض الصور الساذجة أو الخرافية، معتقدين أنها إرادة اللّه، واللّه منها براء،... يتصور بعض المؤمنين أنهم بمجرد أن يفتح الكتاب المقدس، ويضعوا يدهم على آية أو صفحة معينة، فإن هذه الآية أو الصفحة - ستكون - قطعاً - الصوت الإلهى الذى يلزم أن يأخذوا به وينفذوه، وبعض الناس قد يتوهمون هذا الصوت فى حلم جاءهم فى المنام، أو فى رسالة جاءت إليهم من آخر،.. فيأخذون السفينة إلى ترشيش، وهم مطلوبون فى نينوى!! على أن الأمر الثانى.. أن الهروب العكسى قد لا يضر بنا وحدنا، بل قد يضر أيضاً بالآخرين الذين قد تجمعنا معهم سفينة الحياة، وذلك لأن هروب يونان كاد أن يؤدى " لا بحياته هو " بل بحياة الملاحين الذين كانوا فى السفينة معه أيضاً!!... ومع أن اللّه، عادة، يحاسب كل إنسان على حدة، وبخطاياه، دون أن يمتد هذا إلى غيره، لكن السفينة التى تحملنا معا تتعرض للضياع، لأن فرداً فيها قد يكون فى الاتجاه العكسى لطريق اللّه، فالقائد فى الأمة والراعى فى الكنيسة، ورب البيت فى الأسرة، والصديق فى المجتمع، يرتبطون بلا فكاك مع من يجتمعون معهم فى سفينة واحدة،... ومصيرهم يدور وجوداً أو عدماً، مع الرابطة الواحدة فى السفينة الواحدة،... وإذا نظرنا إلى الأمر من الجانب المنير، فإننا نعلم أن وجود بولس فى السفينة التى أقلعت إلى روما، كان السبب فى إنقاذ جميع الركاب وعددهم مائتان وستة وسبعون، « لأنه وقف بى هذه الليلة ملاك الإله الذى أنا له والذى أعبده قائلا: لا تخف يابولس ينبغى لك أن تقف أمام قيصر، هوذا قد وهبك اللّه جميع المسافرين معك. لذلك سروا أيها الرجال لأنى أومن باللهّ أنه يكون هكذا كما قيل لى » " أع 27: 23 - 25 "... وثالثاً: إننا قد نصل فى الهروب إلى درجة التثقل بالنوم العميق حتى يأتينا التوبيخ من أهل العالم كما وبخ رئيس النوتية يونان!!.. وأنها لمأساة محزنة لكثيرين من أبناء اللّه فى سقطاتهم، عندما يفعلون مالا يفعله أبناء العالم أنفسهم، ويقف المرء متعجباً: كيف يمكن أن ينحدر المؤمن فى بعض لحظات الزمن، إلى مالا يسقط فيه العالمى، بدافع من الشهامة أو المروءة أو الرجولة أو ما أشبه من صفات أدبية تتملكه وتستولى عليه؟!!.. ألا تتعجب إذ يأخذ إبراهيم درسه من فرعون أولا، وأبيمالك ثانياً؟ ويأخذ اسحق نفس الدرس، لأن الأب أو الإبن لم يعط الصورة الصحيحة الكاملة عن سارة أو رفقة باعتبارها زوجته، ولولا حماية اللّه لحدث الضرر الذى كان لا يمكن تجنبه!!.. يونان والإعياء النفسى دفع اللّه يونان إلى بطن الحوت، وهناك صلى: « حين أعيت فى نفسى ذكرت الرب » " يونان 2: 7 " وهذه هى نقطة التحول أو الرجوع فى قصة الرجل،... لقد أدرك ضعفه الكامل أمام الريح الشديدة التى لم تفلح كل الجهود فى مواجهتها، وإعيائه الكامل فى بطن الحوت،... لقد كان حراً طليقاً كما يريد اللّه لأبنائه أن يكونوا، أحراراً يسيرون فى خدمة اللّه، دون إكراه أو ضغط، ولكننا ما أكثر ما نسئ استخدام هذه الحرية، فيظهر اللّه اضطراراً إلى أن يأخذها منا، حتى نثوب إلى رشدنا - وكان يونان محتاجاً إلى الإعياء النفسى الكامل حتى يتعلم كيف يعود إلى إلهه ويذكر! على أن هذا الإعياء لم يكن فى فقدان الحرية فحسب، بل، أكثر من ذلك فى ضياع الصحة أو القوة،... لست أعلم كم كانت كمية العشب التى التفت برأسه، وكيف حاول أن يكافحها حتى بدأ كما لو أنه أوشك أن يختنق، وإذ به يذكر الرب،... وما أكثر ما ذكر أبناء اللّه إلههم وهم فى العجز الصحى أو فى سرير المرض. أو فى شدة العلة، أو فى قسوة الداء!!.. وأكثر من ذلك، لقد أصاب يونان الإعياء عندما سقط فى الوحدة والعزلة القاسية، فلا يوجد من يتحدث معه أو يخاطبه فى بطن الحوت، سوى اللّه الذى بقى له، عندما انقطع من أرض الأحياء،... ولعلنا نسأل هنا: ما الداعى إلى ذكر الرب، وما الفائدة من ذلك!!؟ وقد أطبق عليه الحوت وغاص هو معه فى المياه العميقة،... لقد ذكره لأكثر من سبب.. أولا: لأن اللّه أرحم مما كان يصور أو يتخيل،... لو أن اللّه قضى عليه بالموت غرقاً، لما نسب إلى اللّه أدنى لوم، بل كان اللّه عادلا لو فعل ذلك،.. لكنه اكتشف أن اللّه العادل هو أيضاً أرحم الراحمين، لقد أدرك أن سجنه فى بطن الحوت هو الرحمة بعينها، والعناية التى تعلو على كل فهم أو خيال،... لقد تبين أن الحوت تحول بقدرة القادر على كل شئ، إلى فلك آخر كالذى أدخل اللّه فيه نوحاً وأغلق عليه، ليحميه من الهلاك والغرق!!.. وكم يغلق اللّه علينا، ولا يتركنا للحماقة والضياع، عندما يرانا نسعى إلى حتفنا بظلفنا!... ثانياً: لقد أدرك يونان ان اللّه ليس أرحم فحسب، بل هو أكرم وأطيب من أن يدخل معه فى نوع من المؤاخذه أو الحساب،... لقد كان مجئ الابن الضال إلى أبيه كافياً لأن يستبدل هوانه وجوعه وذله وحاجته بالترحيب والإكرام والعطاء السخى، دون مراجعة أو حساب عما فعل أو أساء،.. وظهر اللّه إلى جانب هذا كله، عندما أمر الحوت بأن يقذف يونان إلى البر،... لقد ظن يونان كما يبدو من صلاته أن انتهى إلى الأبد: « نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض على إلى الإبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتى أيها الرب إلهى »... " يونان 2: 6 ". ثالثاً: ولكن اللّه إلى جانب أنه أرحم، وأكرم، هو أيضاً أقدر فلا حدود لقوته وقدرته،أما كيف استطاع يونان وهو فى العمق فى قلب البحار أن يذكر الرب،... فإنه ذكره بأمرين عظيمين قريبين إليه أينما يذهب أو يجئ،... لقد ذكره بالإيمان، وما الإيمان إلا تحول النفس والمشاعر والإرادة تجاه اللّه،... وما أجمل أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة فى شتى الظروف المحيطة به « أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدت إلى السموات فأنت هناك، وإن فرشت فى الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحى الصبح وسكنت فى أقاصى البحر، فهناك أيضاً تهدينى يدك وتمسكنى يمينك » " مز 137: 7 - 10 ". أما الصلاة فقد كانت من جوف الحوت، وصلاة المتضايق لا يشترط أن تكون فى هيكل أو معبد، أو مع جماعة من الناس يشاركون فى العبادة أو التضرع،... بل يمكن أن تكون فى أعماق البحار أو فى أعلى الجبال، يمكن أن تكون فى السجن أو الأتون، إنها فى المكان الذى يوجد فيه الإنسان إن كارها أو راضياً، لأن اللّه فى كل مكان: « اطلبوا الرب مادام يوجد ادعوه وهو قريب » " إش 55: 6 " ونحن لا نعلم هل استطاع يونان أن يصلى وقفاً أو راكعاً أو منبطحاً على ظهره أو بطنه،... لا يهم الصورة التى يظهر فيها المصلى، إنما المهم أن يكون راكع النفس، منحنى المشاعر، منبطح التسليم، واللّه سيسمعه طالما يتجه فى إعياء النفس بروح الصلاة،... هل كان يصرخ فى الصلاة، هل كان يصلى بصوت يسمع، أم كان يتمتم بشفتيه،... إن الصوت فى حد ذاته يتساوى أمام إذن اللّه، التى تسمع الصوت الصارخ، أو المتمتم، أو الهامس على حد سواء، طالما تخرج صرخة النفس من الأعماق أمام اللّه!!.. لقد صرخ يونان من بطن الحوت واستمع اللّه إلى صراخ نفسه!.. يونان والعودة إلى الرسالة عاد يونان إلى الرسالة التى هرب منها، وذهب إلى نينوى، لا ليعلن لها فحسب، بل للأجيال كلها - الحقائق العظيمة التالية:- أولا: إن أبوة اللّه ومحبته وإشفاقه، لا تقف عند حدود اليهود فقط، بل تمتد إلى جميع الناس، إذ الكل خليقته وأبناؤه وذريته،... كان يونان من الحماقة حتى كان يهرب من امتيازه الأعظم فى كل التاريخ، إذ أنه هو المرسل الأول إلى الأمم، أو فى لغة أخرى، أبو المرسلين القدامى والمحدثين فى كل التاريخ... كان وليم كيرى رائد المرسلين فى التاريخ الحديث، وكان شاباً إسكافياً فقيراً لا يملك مالا أو نقوداً أو علماً، ومع ذلك فقد امتلأ قلبه حباً وغيرة على تبشير العالم الوثنى، وقد تحدث فى ذلك الشأن إلى بعض رجال الدين، فلم يجد منها تأييداً أو معونة، بل وجد على العكس تعطيلا وتحقيراً ومقاومة، كان يضع فى دكانه خريطة العالم وقد كتب عليها: « لأنه هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية » " يو 3: 16 "... كان يحمل معه الكتاب المقدس وكتاب « الأجرومية » "علم النحو والصرف "، وقد تعلم عدة لغات وذهب إلى الهند. وعندما نذكر أنه فتح الباب أمام جيش المرسلين فى التاريخ الحديث، علينا أن نذكر يونان المرسل الأول فى كل التاريخ، إلى نينوى!! كان يونان وهو لا يدرى أول من تعلم الدرس أنه لا فرق عند اللّه بين اليونانى واليهودى والعبد والحر، والذكر والأنثى، والأسود والأبيض - أو كما قال الرسول بطرس فى بيت كرنيليوس: « بالحق أنا أجد أن اللّه لا يقبل الوجوه بل فى كل أمة الذى يتقيه ويصنع البر مقبول عنده » " أع 10: 34 و35 "أشرنا فى دراسة سابقة إلى دكتور أجرى الذى عاش يدافع عن الملونين ويهاجم التفرقة العنصرية، ولم يكن يضيق بلونه الأسود، بل قال: لو ذهبت إلى السماء وهناك سألنى اللّه عما إذا كنت أرغب فى العودة إلى الأرض كرجل أبيض فإنى أجيبه: إن عندى عملا كرجل أسود أكثر مما يستطيع رجل أبيض أن يؤديه، أرجوك أن ترسلنى ثانياً أسود حتى يمكنى أن أؤدى عملى ». ثانيا: تعلم يونان ما كان يجهل أو مالم يكن يعلم حق العلم، أن النفس البشرية غالية جداً عند اللّه،: « الذى يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون » " 1 تى 2: 4 ".. وأنه إذا كان يونان قد خرج بيقطينة ظللته، ولكنها إذ ذوت وهى بنت ليلة ولدت، وبنت ليلة ضاعت، فامتلأ غيظاً وهماً وقلقاً، فكيف يكون الأمر بالنسبة لقلب اللّه، كخالق، وهو يرى مدينة عظيمة تهوى إلى قاع الهاوية والجحيم؟... آه! لو نعلم كم يتألم قلب اللّه على النفوس الضائعة، لعشنا حياتنا كلها، ولا هم لنا إلا إنقاذ النفوس الهالكة،... لا لأنها خليقة اللّه فحسب، بل، أكثر من ذلك، لأن المسيح مات من أجلها على هضبة الجلجثة!!.. والأمر الثالث الذى أدركه يونان، هو بركة الألم فى الحياة، لقد أعاده الألم إلى اللّه والرسالة التى هم بأن يهرب منها،... وجاءت نينوى إلى التوبة عندما هددت بالانقلاب!!... ومع أنه شئ محزن وتعس أن يلجأ اللّه إلى أسلوب الشدة مع الإنسان، وكان من الممكن أن يستمع إلى نداءاته الكثيرة بالخير والبركة والجود والمراحم،... لكنها الصفة فى النفس البشرية، التى تجعل اللّه يرحم الإنسان بالتأديب والتهديد والآلام، وربما نعمة فى نعمة طويت.. الأمر الرابع: أن التوبة الشاملة الصادقة ميسورة لأى شعب أو فرد أو جنس، متى اتجه إلى اللّه من كل قلبه وفكره، حتى كانت توبته عملية بالرجوع عن الطرق الرديئة والظلم الذى فى يديه، وأنه ليس فى حاجة إلى كهانة أو وساطة أو شروط، ماخلا الاتجاه إلى اللّه الحى الحقيقى!!.. على أن القصة تعلمنا آخر الأمر غرابة النفس البشرية، وقد تكون من أفضل النفوس على الأرض، إذ هى النفس السريعة التذبذب، الغريبة الأطوار، تفرح وتكتئب، وتتسع وتضيق، دون فاصل زمنى، وتغتاظ مرات كثيرة بالصواب،... ومن الغريب أن نجاح يونان كان فشلا فى تصوره، وأن وقوفه فى وجه الكارثة، كان كارثته الشديدة،... والسر الحقيقى كما ذكر كلفن، أن يونان كان مهتماً بالذات أكثر من اهتمامه بخلاص المدينة أو مجد اللّه!!.كان يونان، كما دعاه الكسندر هويت، الأخ الأكبر الذى غضب لمجئ أخيه، ولم يرد أن يدخل البيت، فخرج أبوه يطلب إليه الدخول... فى الحقيقة أن رجاءنا دائماً فى خلاص النفوس لا يرجع إلينا، بل يرجع إلى قصد اللّه الأبدى ومحبته التى لا تتغير ولا تتبدل!!..
المزيد
26 أبريل 2020

الأحد الأول من الخماسين

تحتفل الكنيسة فى هذا اليوم بأخر عيد من الأعياد السيديـة الصغـرى السبعة، ألا وهو الأحد الجديد أو أحد توما ويسمى الأحد الجديد لأنه أول أحد حفظ لتقديس أيام الأحد بعد إلغاء للنظام القديم ويسمى أحد توما لأن السيد المسيح ظهر فيه للتلاميذ ومعهم تومـا فى اليوم الثامن من قيامته والإحتفال به هو تنفيذ للدسـقولية (قوانيـن الرسـل) التـى ورد فيها “وبعد ثمانية أيام فليكن لكم عيد، لأن فى هذا اليوم الثامن أرضانى الرب، أنا توما، إذ لم اؤمن بقيامته وأرانى أثار المسامير وأثر الحربة فى جنبه ” الإنجيل من معلمنا يوحنا (يو 19:20-31). أولاً: ظهوره للتلاميذ من غير توما:- ”ولما كانت عشية ذلك اليوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبـواب مغلقة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهود، جاء يسوع ووقف فى الوسط وقال لهم سلام لكم، ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه. ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب. فقال لهم يسوع أيضا سلام لكم، كما أرسلنى الآب أرسلكم أنا. ولما قـال هذا نفخ فى وجوههم وقال لهم اقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له ومن امسكتم خطاياه أمسكت” (يو 19:20-23) فى موضوع السلام الذى أهداه السيد المسـيح إلـى تلاميـذه، عندما قال لهم ” سلام لكم “قال القديس أغسطينوس:السلام هو رزانة العقل، هدوء النفس، بسـاطة القلـب، ربـاط الحب، رفيق المحبة.السلام علامة القداسة.المسيح يترك معنا سلاما، لكى نحب بعضنا البعض.المسيح يترك لنا سلامه ونحن في هذا العالم، وسـيهبنا سلامه الخاص به فى العالم العتيد.السلام يعرف الإنسان كيف يعلو على ذاته ولا ينتفخ.المسيح فيه ومنه ننال السلام.من يعش فى سلام مقدس يحيا دوماً مع الله ويكون شريكا مـع القديسين فى الله.وفى نفس الموضوع قال القديس أغريغوريوس أسقف نزينزا فى أول لقاء للسيد القائم من الأموات بتلاميذه المجتمعين، ممثلـى الكنيسة، قدم لهم سلامه الفائق.. لا كعطية خارجية وإنما هبـة تمـس الأعماق فى الداخل، إذ قال لهم ” سلام لكم “.لقد حقق لهم ما وعدهم به فى ليلة آلامه قـائلا: ” سلاما أترك لكم. سلامى أعطيكم .ليس كما يعطى العالم أعطيكم أنا” (يو 27:14).وقال أيضا: لنكرم عطية السلام التى تركـها لنا المسيح عند رحيله، فالسلام على وجه الخصوص يخص الله الذى يوحد كل الأشياء معا فى واحد.قال القديس يوحنا ذهبى الفم (إنه يقدم ثمار الصليب أولا، وهو السلام) قال القديس أغسطينوس (هذا هوالسلام الحقيقى وتحية الخلاص.. إذ تأخذ التحية إسـمها من الخلاص). وعن موضوع “أراهم يديه ورجليه”: قال القديس أغسطينوس إن السيد المسيح ترك أثار جراحاته بعد القيامة ليشفى بها جراحـات التلاميذ، إذ لم يصدقوا قيامتـه عندمـا أظـهر لـهم ذاتـه و ظنـوه خيالا فأظهر لهم يديـه وجنبه.. كأنه يقول لهم: ( مع إن جراحاته شفيت فإن أثارها قد بقيت!.. إذ حكم هو بأن هذا نافع للتلاميذ، أن يسـتبقى آثار جراحاته لكى يشفى بها جروح أرواحهم .. جراحـات عـدم إيمانهم، فقد ظهر أمام عيونهم وأظهر لهم جسده الحقيقى ومع هـذا ظنوه روحا) وعن هذا الموضوع قال القديس كيرلس الكبير(إن السبب الرئيسى لإبقاء الجراحات هو الشـهادة لتلاميـذه أن الجسد الذى قام هو بعينه الذى تألم) وأما القديس أغريغوريوس الكبير فيقدم أربعـة مـبررات لـهذه الجراحات:- أولا: لكـى يبنى تلاميذه فى الإيمان بقيامته. ثانيا: تبقى هذه الجراحات لتعلن شفاعته الكفارية عنا لدى الآب. ثالثا: لكـى يتذكرالتلاميذ حبه لهم ورحمته تجاههم. رابعا: تبقى لإدانة الأشرار فى يوم الرب العظيم. وقال القديس أمبروسيوس ظن التلاميذ فى اضطرابهم أنهم يروا روحا، لهذا فلكـى يظهر لـهم الرب حقيقة القيامة قال لهم: ” جسونى وانظروا فإن الروح ليس لها لحم وعظام كما ترون لى”.كيف يمكن أن يكون ليس فى الجسد وقد ظـهرت فيـه علامـات الجروح وأثارالطعنة التى اظهرها الرب؟! لقد قبل الرب أن يرتفع إلى السماء بالجراحـات التى تحملها لأجلنـا ولم يشأ أن يمحوها حتى يظهر لله الآب ثمن تحررنا، بهذا يجلس عن يمين الآب وهو حامل لواء خلاصنا.” ولما قال هذا نفخ وقال لهم إقبلوا الروح القدس. من غفرتم خطاياه تغفر له ومن أمسكتم خطاياه أمسكت ” (يو 23،22:20) قال القديس يوحنا ذهبي الفم (كما أن القائد لا يسمح لجنوده أن يواجهوا أعداء كثيرين ما لـم يتسلحوا أولا.. هكذا لم يسمح الرب لتلاميذه أن ينزلوا للخدمة ما لم يحل الروح أولا) عن الروح القدس قال القديس أغسطينوس (الروح القدس هو روح الآب وروح الإبـن، أى مـن عملـه الشركة بين الأقانيم).(الروح القدس ليس روح الآب وحده ولا روح الإبن وحده، بل روح الآب والإبن).(الروح القدس من عمله شركتنا مع الله، إذ به تنسكب محبـة الله فينا).(الروح القدس يسكن فى الأطفال الذين نالوا المعموديـة وإن كانوا لم يعرفوها).(إن التجديف على الروح القدس هو الإصرار على عدم التوبة).(إن مغفرة الخطايا لا تعطى إلا بـالروح القـدس ولا توهـب إلا داخل الكنيسة التى لها الروح القدس).(ليتنا نصنع كل ما فى وسعنا لكى يكون الروح القدس معنـا.. أى نتركه يعمل فينا).وعن الإعتراف بالخطية والغفران قال القديس انبا أنطونيوس الكبير مؤسس الرهبنة إن تذكرنا خطايانا يمحوها الله لنا، وإن تناسينـاها يذكرها لنا وعن نفس الموضوع قال العلامه ترتليان(السموات والملائكة الذين فيها يفرحون بتوبة الإنسان.. آه أيـها الخاطئ- كن فى بهجة صالحة.. أنظر كيف يكون فرح فى الرجوع والتوبة).وعن الروح القدس والغفران قال القديس انبا انطونيوس الكبير الروح القدس الذى يعمل فينا للتوبة يفتح قلبنا بالرجاء فـى الله واهب القيامة من الأموات لكن بروح الإتضاع يهبنا أن نعـترف بخطايانا.إذا سلمت النفس ذاتها للرب بكل قوتها يطهر الله الصـالح لـها كل الأوجاع والعيوب واحدة فواحدة لكـى تحيد عنها.وقال القديس كيرلس الكبير(بأية طريقة وبأى معنى وهب للمخلص تلاميذه الكرامة التى تليق فقط بطبيعة الله وحده؟).لقد رأى الرب أنه من الموافق أن الذين وهبوا مرة روحه- وهـو الرب الإله- ينبغى أن يحوزوا قوة مغفرة أو مسك الخطايا، فكيفمـا صنعوا يكون الروح القدس الساكن فيهم هو الـذى يغفـر أو يمسـك هذه الخطايا حسب مشيئته.. علـى أن العمـل الـذى يعمـل يكـون بواسطة الإنسان.وحسب ما أرى يكون الذين نالوا روح الله يغفـرون أو يمسـكون الخطايا على مستويين:- الأول : فهم يدعون إلى المعمودية الذين هم أهل لهذا السر من واقع نقاوة حياتهم وإختبار مدى تمسكـهم بالإيمان، كذلك فإنـهم يؤخـرون ويستثنون الذين لم يبلغوا بعد إلى استحقاق هذه النعمة الإلهية. الثانى : وفى معنى آخر هم يغفرون ويمسكون الخطايا بأن يزجروا ويعزلوا أبناء الكنيسة ( أى المعمودية ) كما يمنحون العفو للذين تـابوا.. تماما كما قطع بولس ذلك للذى إقترف الزنا فـى كورنثـوس ” لهلاك الجسد حتى تخلص النفس ” (1كو 5:5)، ثم عاد وقبله فـى الشـركة ” حتى لا يبتلع من فرط الحزن ” (2 كو 7:2). 4-“أما توما واحد من الإثنى عشر الذى يقال له التوأم فلم يكن معهم حين جـاء يسوع. فقال له التلاميذ الآخرون قد رأينا الرب. فقال لهم أن لم أبصر أثر المسامير وأضع يدى فى جنبه لا أؤمن” (يو24:20، 25).قال القديس اغريغوريوس الناطق بالإلهيات وإن كنت كتوما لم تكن بين التلاميذ حينما ظهر المسيح لهم فتـأكد أن المسيح سيعود ويظهر لك بنوع خاص. هلم المس جراحه ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا. صـدق كل ما كلموك عنه، وإذا لم تصدق فثـق فى الأيدى المثقوبة بالمسامير.. واسجد له.. وأعبده.وقال ايضا عن قصه توما مع المخلص (يا للتعزية العظيمة التى نلناها بسبب شك توما.. لذلك ظهر الـرب للتلاميذ فى اليوم الثامن- أى الأحد التالى لأحد القيامة- ليس فقـط ليؤكد قيامته ويزيل شكوك توما ولكن ليصير لنـا نحـن أيضـاً هذه التعزيات فنضع أصبعنا فى مكان المسامير ويدنا فـى مكـان الحربـة.. لا لكى نؤمن ولكن لكى نحيا بتلك الجراحات. إن أحد توما هو عيد لكـل نفس تتلامس مع جراحات الجسد الممجد الذى غلب المـوت قـاتلا العداوة بالصليب). ثانيا: ظهوره للتلاميذ ومعهم توما:- 1-“وبعد ثمانية أيام كان تلاميذه أيضا داخلا وتوما معهم. فجاء يسوع والأبواب مغلقة ووقف فى الوسط وقال سلام لكم” (يو 20: 26).فى هذا يقول القديس كيرلس الكبيرإذن هو لسبب صالح لنا عادة أن يكون لنا إجتماعات مقدسـة فـى الكنائس فى لليوم الثامن ( الأحد )، ويستحب أن نستعير لغة التشبيه فـى الإنجيل، وكما يستلزمه الحاجة، فنقول: نحن نقفـل الأبـواب ولكـن بالرغم من ذلك يأتى المسيح ويظهر لنا جميعا منظورا وغير منظور فـى آن واحد.. غير منظور بصفته الإلهية، ومنظورا بالجسد ( فى الإفخارستيا )، ويجيز لنا أن نلمس جسده المقدس ويعطيه لنا أيضا.. لأننا بنعمـة الله ونحن نؤهل أن نشترك فى الإفخارستيا المقدسة- نستقبل المسـيح فى أيدينا بغرض أن نؤمن يقينا أنه حقا أقام هيكل جسده. 2-“ثم قال لتوما هات أصبعك إلى هنا وأبصر يدى وهات يدك وضعها فى جنبى ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً. أجـاب توما وقال له ربى وإلهى. قال له يسوع لأنك رأيتنى يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا” (يو 20: 27-29).أهم نقطة فى هذا الجزء هى موضوع الإيمـان.. لذلـك أحـب أن نعيش معاً فيما قاله القديس أغسطينوس عن الإيمان: الإيمان نعمة من الله تعطى مجانا وليس أجرا على عمل.الإيمان يدرك ما لا يدركه العقل البشرى.الإيمان الذى ينقى القلب هو الذى يعمل فى محبة.الإيمان يفيض صلاة، والصلاة المفاضة تقوى الإيمان.إيمانك هبة من الله وليس حقا لك.إن غاية الإيمان أن تؤمن، وغاية المحبة أن تعمل.إن لم يستقم إيمانك فلست باراً، لأن البار بالإيمان يحيا.إن الأعمال هى ثمر الإيمان وليس الإيمان ثمر الأعمال.بقدر ما يضعف فينا الإيمان تقوى علينا التجربة.ليكن لكم الإيمان مع المحبة لأنه مستحيل أن يكون لكم محبـة بدون إيمان. سوف يأتى زمن أرى فيه ما كنت أؤمن به ولا أراه.سأرى فى الأبدية ما أؤمن به هنا.. وما أرجـوه هنـا سـوف أحصل عليه هناك عظيم هو الإيمان إنما لا فائدة منه إن خلا من المحبة.على الإيمان أن يسبق الإدراك ليكون الإدراك جزءاً من الإيمان.إننا نستطيع أن نلمس ذاك الجـالس فى السماء بإيماننـا وليـس بأيدينا.ويقول القديس كيرلس الأورشليمى فى شرحه لقانون الإيمان من يتعلم أن يؤمن بإله واحد، الله الآب القديـر، يلتزم بالإيمـان بإبنـه الوحيد.. “لأن كل من ينكر الإبن ليس له الآب أيضا” (1يو2 :23).ويقول يسوع: “أنا هو الباب. ليس أحد يأتى إلى الآب إلا بى” (يـو 14: 6. 10: 9)، “ولا أحد يعرف الآب إلا الإبن ومن أراد الإبن أن يعلن له” (مت11 :27).. فإن انكرت من يعلن لك الآب تبقى فى جـهل.لقد جاء فى الإنجيل العبارة التاليـة: “الذى لا يؤمن بالإبن لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله” (يو 3: 36).فالآب يغضب عندما يستهان بالإبن الوحيد، فـإن الملـك يحـزن لمجرد إهانة أحد جنوده.. أما إن احتقر أحد إبنه الوحيد فمن يقـدر أن يطفئ غضب الآب من أجل إبنـه الوحيد؟!فإن رغب أحد فى إظهار ورعه لله فليعبد الإبن، عندئذ يتقبـل الله خدمته. لقد نادى الآب بصوت عال قائلا: ” هذا هو ابنى الحبيب الذى به سررت ” (مت 17:3).. لقد سر الآب به، فإن لم تكن أنـت موضـع سروره فى الإبن لا تكون لك حياة.
المزيد
25 مارس 2019

تأملات في الأسبوع الرابع من الصوم الكبير

تقابل في الطريق وجهًا لوجه بين النفس البشرية المراوغة (السامرية) وبين رب المجد يسوع. النفس البشرية تبحث عن السعادة وتخيلت أن تجدها في الإكثار من شهوات العالم حتى إلى خمسة أزواج. اللقاء مع يسوع سجل حقيقة هامة "إن النفس البشرية التي تعيش في شهوات العالم ليست شبعانة ولكنها عطشانة " الموجهة مع الله لابد أن تكون بالاعتراف. اعتراف المرأة أعطاها بركة الحصول على الماء الحي الاعتراف يفضح مراوغة النفس السامرية. الاعتراف يكشفه للنفس قذارتها في ضوء الروح القدس وبعد الاعتراف الارتواء . لابد في الصوم أن نرتوي من تيار الماء الحي. التأمل في كلمة الله ينبوع ماء حي متدفق ! الصلاة ينبوع متدفق، محبة المسيح ينبوع. لتشرب وتفيض وتجرى من بطوننا ينابيع ماء حية وبعد الاعتراف والارتواء السجود بالروح والحق. والكنيسة في رحلة الصوم تكثر من السجود. والسجود يحمل الانسكاب والخضوع لملكية المسيح فلنسجد كثيرًا في فترة الصوم وبعد السجود الكرازة فالسامرية كارزة لحساب المسيح. ونحن كذلك يجب أن نتحول لكارزين للقاؤنا مع الرب يسوع وسجودنا أمامه. السائرون في رحلة الصوم هم كارزون صامتون بعبادتهم واتضاعهم وانسحاقهم يقع هذا الأسبوع بين أحد الابن الضال وأحد السامرية في وسط هذا الأسبوع يشمخ الصليب، راية رحلة الصوم المقدس، يبرزه النبي إشعياء كشرط أساسي للسائرين في الطريق كقول ربنا يسوع: "مَن أراد أن يكون لي تلميذا ً فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (لو 14: 27) وقبل أن يتحدث النبي عن ذبيحة الصليب، يعلن في نبوات يوم الاثنين من هم المستحقون لبركات الصليب في آيات بسيطة: "وترعى أبكار المساكين و يربض البائسون بالأمان" (إش 30:14) "إن الرب أسس صهيون وبها يحتمي بائسو شعبه " (إش 14: 32) ألم تكن هذه هي الوصية الأولى في موعظة الجبل - بداية رحلة الصوم بعد العماد والتجربة "طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات" (مت 5: 3). أما المتكبرون فكيف يقبلون بركات الصليب فهو "لليهود عثرة ولليونانيين جهالة" (1 كو 1: 24)، "إذا كان العالم في حكمة الله لم يخلص الله العالم بالحكمة بل بجهالة الكرازة" (1 كو 1: 21) والعجب الشديد أن هذه النبوة عينها تقال في ختام نبوات هذا الأسبوع.
المزيد
15 أغسطس 2019

عبارة "والدة الإله"

لن أبحث في نشوء العبارة وقد يكون أوريجينوس أول من استعملها وقد ذكرالعبارة الكسندروس السكندري وأثناسيوس وديديموس الأعمى والغرويغوريوسان وكيرلس الارشليمي. وفي إحدى رسائل كيرلس إلى نسطوريوس عندما يفسر التسمية يقول: "ليس لأن طبيعة الكلمة أو لاهوته كانت بدايته من العذراء القديسة، بل لأنه منها ولد الجسد المقدس بنفس عاقلة، وهو الجسد الذي اتحد به شخصيا الكلمة الذي قيل عنه إنه ولد بحسب الجسد ... وما دامت العذراء القديسة ولدت بالجسد الله الذي صار واحدا مع الجسد بحسب الطبيعة، لهذا السبب ندعوها والدة الإله ولا نعني بذلك أن طبيعة الكلمة كانت بداية وجودها في الجسد".لعل النعمة التي حّلت علينا ﺑﻬذه العقيدة أننا وُهبنا أن نرى وحدة المسيح وان نذوقها بالرغم من كوﻧﻬا تفوق كل قدرة على استيعاﺑﻬا في شعور المصلي. ذلك أن المسيحي ولو ارتضى هذه العقيدة إلاَّ أنه يذهب في إحساسه إلى إلوهية للسيد لابسةٍ بشرية ما أو إلى إحساسه ببشرية متكاملة بإلوهية ما. إﻧﻬا لصعوبة رهيبة أن يختبر المؤمن الناسوت واللاهوت متعاملين في شخصية تبرز مركبة وموحدة بآن. هذا من الوحي المحض الذي ليس مثله شيء في دنيانا. إن الشرق تتكثف فيه رؤية الإلوهة في السيد على حساب بشريته وكأن الشرق مونوفيسي سيكولوجيا. ولعل تعليل ذلك إننا ذقنا ويلات الأريوسية في ما كانت عليه وفي ما مورست عقودا وفي ما انبعثت في غير حركة. وقد يكون الغرب ميا ً لا إلى المسيح الإنسان على نكهة نسطورية ، أو ما اصطلح عليه على أنه كذلك. وما من شك أن هذه النزعة هي التي تفسر طغيان عيد الميلاد في جانبه البشري وجوانبه الفولكلورية. ولقد لاحظت غير مرة إن المرء لا يستطيع أن ينتزع بسهولة عبارة والدة الإله من فم پروتستنتي. وقد يكون الشرق كله موحدا على عبارة والدة الإله بلا استثناء كنيسة. هذه المداخلة لا يعنيها أن تبحث في موقف نسطوريوس من العقيدة. فإذا عدتم إلى ما قبل الخلاف الأفسسي تجدون عبارة والدة الإله بالأقل مرة عند نسطوريوس وقد صرح بعد مداخلات يوحنا الانطاكي: "إن العذراء القديسة هي والدة الإله لأن الهيكل المخلوق فيها بالروح القدس اتحد بالألوهة". وليس من صحة للتأكيد بأنه كان يؤمن بإنسان عادي استقر فيه الكلمة فيما بعد. عن علاقة الناسوت باللاهوت يقول متخذا سفر ٢ "كانت النار في العليقى والعليقى كانت النار والنار العليقى ولم يكن : الخروج ٣ عليقيان وناران" وفصل المقال عنده: "من قال في الاتحاد ابنا وإلها وربا كيف يمكنه بفصلهما أن يقول إنه ثمة على حدة ابن وإله وان ثمة آخر هو الإنسان وان يقول هكذا ابنين". يجمع الأخصائيون اليوم على أن نسطوريوس لم يكن نسطوريا لإيمانه بوحدة شخص المسيح وما كان قوله بالأقنومين في السيد إلاَّ لأن ذلك عنى له الطبيعتين. ما قلت لكم هذا لنخوض جدلا حول شخص نسطوريوس ولكن لأؤكد إن إكرام الشرقيين جميعا لسيدتنا والدة الإله واحد وإن إيماننا تاليا بالسيد المبارك واحد.ولكن لم نستطع معا نحن الخلقيدونيين وغير الخلقيدونيين أن نتجاوز حسنا بالتاريخ لنلتقي كنيسة المشرق المسماة أشورية على صيغة معقولة فالتقت هذه الكنيسة الكاثوليكية فأصدرتا بيانا خريستولوجيا مشتركًا في الحادي عشر من نوفمبر الماضي وصرحتا أن اللاهوت والناسوت وهما بعيدان عن أن يشكلا "واحدا وواحدا" متحدان في شخص الابن ذاته، ابن الله الوحيد ... فالمسيح ليس "إنسانا عاديا" تبناه الله ليقر فيه وليلهمه كما ألهم الأبرار والأنبياء. ...والناسوت الذي ولدته العذراء مريم المغبوطة كان دائما ناسوت ابن الله ذاته. ولهذا السبب تصلي كنيسة الشرق الأشورية إلى العذراء مريم باعتبارها "والدة المسيح إلهنا ومخلصنا" واعترفت الكنيستان إن العبارتين "والدة الإله" ووالدة المسيح تعبران شرعيا وبدقة عن الإيمان الواحد. وسمت الكنيستان نفسيهما شقيقتين وتعاهدتا على رفع كل الحواجز دون تحقيق الشركة الكاملة.ليس لي إلاَّ أن ألاحظ بحزن أن الشرق فوت على نفسه فرصة أن يكون واحدا. المطران جورج خضر من كتاب والدة الإله
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل