المقالات
25 فبراير 2025
يوم الثلاثاء من الأسبوع الأول (لو ١٢: ٤١ - ٥٠)
[فَقَالَ لَهُ بُطْرُسُ : يَا رَبُّ، أَلَنَا تَقُولُ هَذَا الْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ أَيْضاً؟ فَقَالَ الرَّبُّ: فَمَنْ هُوَ الْوَكِيلُ الأَمِينُ الْحَكِيمُ الَّذِي يُقِيمُهُ سَيِّدُهُ عَلَى خَدَمِهِ لِيُعْطِيَهُمُ الْعُلُوفَةَ فِي حينها؟ طُوبَى لذلك الْعَبْدِ الَّذِي إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُ يَجِدُهُ يَفْعَلُ هَكَذَا بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يُقِيمُهُ عَلَى جَمِيعِ أَمْوَالِهِ . وَلَكِنْ إِنْ قَالَ ذَلِكَ الْعَبْدُ فِي قَلْبِهِ: سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ فَيَبْتَدِئُ يَضْرِبُ الْغِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ، وَيَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَسْكَرُ. يَأْتِي سَيِّدُ ذلِكَ الْعَبْدِ فِي يَوْمٍ لَا يَنْتَظِرُهُ وَفِي سَاعَةٍ لَا يَعْرِفُهَا، فَيَقْطَعُهُ وَيَجْعَلُ نَصِيبَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ. وَأَمَّا ذَلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيِّدِهِ وَلَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِه، فَيُضْرَبُ كَثِيراً. ولكنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُّ ضَرَبَاتِ، يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيراً يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ. جئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الْأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِعُهَا، وَكَيْفَ أَلْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟]
الأمانات وحساب الربح
الرب في هذا الإنجيل يضع قانون المحاكمات، وما أخطره قانون. يبتدئ الكلام، قبل إنجيل هذا اليوم، بقول الرب وأنتم مثل أناس ينتظرون سيدهم متى يرجع من العرس حتى إذا جاء وقرع يفتحون له للوقت». بعدها سأله بطرس « ألنا قلت هذا المثل أم تقوله للجميع أيضاً؟» فرد عليه المسيح قائلاً: من هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه؟»المسيح أعطى أمانات واستأمن أصحاب الأمانات على عطاياه وعلى بيته الذي هو كنيسته أي أولاده الخصوصيين وذهب في مهمة سعيدة سيقضي فيها زماناً طويلاً يقول عنها القديس لوقا في سفر الأعمال: «أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون إلى السماء، إنَّ يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقاً إلى السماء» أما الأمانات التي سلمها الرب لعبيده فهي أولاً الإنجيل، ثم الإيمان الثمين وسر الخلاص والفداء والجسد والدم، ثم المواهب الروحية، ثم الكنيسة باعتبارها جسده بمعنى أولاده هذه كلها بعد أن تسلمناها صارت أمانات وصرنا وكلاء عليها وكل وكيل يُسأل عن أمانته. ليكن لكل واحد بحسب ما أخذ موهبة يخدم بها بعضكم بعضاً كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة» ونحن نعلم من مثل الخمس وزنات والثلاث وزنات والوزنة الواحدة، أن المسيح سلمها على أساس الأمانة والمتاجرة والربح، والله يطالب بالربح، لأنه بعد عودته واجه كل صاحب أمانة طالباً من كل وكيل أن يقدم كشف حسابه فصاحب الخمسة قدم خمساً أخر، وصاحب الثلاثة ربح ثلاثاً. الاثنان قدما، فسمع كل منهما منطوق الحكم الطوباوي: «نعما أيها العبد الصالحوالأمين، كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير أدخل إلى فرح سيدك» أما الذي أخذ الوزنة ودفنها في التراب، فكان استجواب القضاء واضحاً: لماذا لم تتاجر وتربح أو تضعها عند الصيارفة (بمعنى الالتصاق بمن هم قادرين على تعليمه وبناء حياته وإيمانه وكان الحكم عليه عنيفاً: اطرحوه في الظلمة الخارجية هذا المثل ضروري لنا حتى نفهم جيداً مثل اليوم، وهو يضع قانون ونظام المحاكمات لدى قضاء الله. الوكلاء هنا على أربعة أنواع:
أولاً الوكلاء الأمناء: «فمن هو الوكيل الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده»، إنه ذلك العبد الذي ينتظر قدوم سيده بفارغ الصبر، إنه العبد الذي يسهر والكل نيام، إنه العبد الذي يتاجر بوزنات سيده، أو على الأقل يضعها عند أناس أمناء.
ثانيا الوكلاء غير الأمناء، الذين أخذوا نصيب الخائنين:هم الذين قالوا في أنفسهم: «سيدي يبطئ فى قدومه»(تسويف العمر باطلاً)» هم الذين أخذوا في الأكل والشرب والسكر،هم الذين لم يرضوا بالسهر لم يحترموا أوامر سيدهم، أخذوا يسوفون قائلين إنه سيتأخر ولن يأتي الآن.
ثالثاً الوكلاء الذين ضربوا كثيراً:هم أولئك العبيد الذين يعلمون إرادة سيدهم، والضرب هنا في المثل يقابله في السماء حرمان مؤلم أكثر منه آلاف الأضعاف،إنهم العبيد الذين أخذوا الكثير من عطايا سيدهم سواء من الإنجيل والمعرفة والخلاص والأسرار، ثم بعد هذا يقفون أمامها سلبيين، ولا يريدون أن يُشركوا معهم الآخرين فيما أخذوه.
رابعاً الوكلاء المضروبون قليلاً:هم العبيد الذين لا يعلمون إرادة سيدهم، يجهلون الإنجيل والوصايا، لم تصلهم البشارة.. ولكن في الحقيقة هذا الصنف هو الآن يكاد يكون غير موجود. مع العلم أن عدم المعرفة لا يعفي من العقاب، وهذا قانون أخذت به كل المحاكم الدنيوية الآن. أما حكمه عندما يفعل ما يستحق الضرب فهو العقاب وإن كان بصورة أقل. وهو بهذا مواز للعبد صاحب الوزنة الذي أسماه المسيح العبد الشرير الكسلان.
ونخرج من إنجيل اليوم بهذه الحقائق:
المسيحية عطايا ومواهب ونعم وأسرار، تُعطى للإنسان كأمانة، ويلزم على الشخص أن يردها مع ربح.
أننا وكلاء على هذه الأمانات وسنحاكم على مقدار الربح أو التبديد.
إن العدو يحاول أن ينتزع هذه الأمانات والنعم أو يطمسها في قلوبنا والمسيح يوعي بضرورة السهر : السهر على الأمانة ليزداد نموها، والسهر عليها من الأعداء لئلا يسرقوها منا «طوبى لمن يسهر ويحفظ ثيابه لئلا يمشي عرياناً فيروا عورته» كن ساهراً وشدد ما بقي الذي هو عتيد أن يموت، لأني لم أجد أعمالك كاملة أمام الله فاذكر كيف أخذت وسمعت، واحفظ وتب. فإني إن لم تسهر أقدم عليك كلص، ولا تعلم أي ساعة أقدم عليك».
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
22 يناير 2025
عُرس قانا الجليل
المعجزة:
لقد قصدت العذراء أن تعلن ابنها للعالم بصفته المسيَّا، وكانت تستعجل مجده لأنها كانت تعلم ذلك بيقين، وتتحيَّن الفرصة باشتياق بالغ الشدَّة لكي تُشرك كل إسرائيل فيما أدركته وتحقَّقته من سر مجد المسيح رجاء الدهور كلها ولكن لم تكن العذراء الطيبة تُدرك أن بدء استعلان المسيح هو هو بدء ظهور شبح الصليب، ويوم الإعلان عن حقيقته ومجده هو هو بدء العد التنازلي لأسبوع الآلام!!
«ما لي ولك يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد!» (يو2: 4). وما كان ألزم للعذراء جدًّا في نظر المسيح أن تبتعد عن سكة الصليب! وما كان أحوجها جدًّا في نظره أن لا تكون هي نفسها سبباً معجِّلاً للسيف الذي سيجوز في نفسها عندما تراه معلقاً على الصليب!ولكن من أجل إيمانها وثقتها المطلقة فيه ومن أجل تقديره الخاص لها، لم يردها عن سؤالها. وبعد عتاب قصير ومختصر استجاب لها، فكان بداية مجده وبداية آلامه معاً وعلى حد سواء!!ولكي نرفع الغموض الذي يحيط بمخاطبة الرب للعذراء قائلاً لها: «يا امرأة»، ينبغي أن ندرك أن المسيح يتكلَّم هنا من موقع الألوهة فهو على وشك إتيان معجزة خلق فائق الطبيعة، فهنا ابن الله يخاطب أماً بشرية!! وفي هذا الأسلوب يشير المسيح إشارة بليغة للعذراء أنه قد دخل في مجاله الإلهي لبدء خدمته العليا التي لا تحتمل بأي حال من الأحوال مشورة امرأة أو أي بشر، لقد قال لها مرَّة وهو ابن اثنتي عشرة سنة «ينبغي أن أكون فيما لأبي» (لو 2: 49)، أما هنا فقد دخل، وإلى الأبد، في علاقته السرية مع الآب، حيث ليست مشورة إلا من الآب فقط!!كذلك لا نستطيع أن نعبر بسهولة على طريقة العذراء القديسة في عرضها لسؤالها «ليس لهم خمر» (يو 2: 3). فهنا سؤال هو هو الصلاة بعينها، ولعلها أقصر صلاة وردت في الكتاب المقدَّس كله وأكثرها وثوقاً وتأكيداً وأمانة.ليت صلاتنا تكون هكذا مختصرة أشد الاختصار، واثقة أشد الوثوق، لا تزيد عن عرض واقعي لما هو حادث «ليس لهم خمر»!وبالرغم من رد المسيح الذي يكاد أن يحمل عدم الاستجابة أو على الأقل استنكاراً لسؤالها، إلا أن العذراء القديسة كانت تدرك أعماق المسيح الوديع، فلم يهتز يقينها من جهة استجابته لأعواز الناس، هذا ما تحقَّقت منه العذراء تماماً مدَّة ثلاثين سنة معه «مهما قال لكم فافعلوه» (يو 2: 5). وهنا ينكشف مدى قناعة العذراء في استطاعة المسيح اللانهائية، ويكشف مدى إدراكها لسر المسيح في استعداده المطلق للاستجابة!!
ماء التطهير:
الماء هنا للتطهير بغسل الأيدي والكؤوس والأباريق والصحائف النحاسية، ستة أجران، وليس سبعة، إشارة إلى أن استهلاكها يمتد على مدى ستَّة أيام الأسبوع فقط، أما السابع - السبت - فهو راحة، ولا يحتمل إجراءات التطهير، والجرن الواحد الحجري يسع من صفيحتين إلى ثلاثة، إذن فهي مساوية حجماً للأزيار الصغيرة المُستخدَمة الآن المسيح يجد في ماء التطهير مصدراً حسناً لإجراء المعجزة، لكي يوقف معنى التطهير الشكلي، فالماء تحوَّل كله إلى خمر. لقد انتهى الماء من الأجران، وبالتالي انتهى عصر التطهير بالماء في حياة الإنسان. الخمر في أجران وليمة العُرس هنا إشارة سريَّة تمتُّ بصلة وثيقة إلى خمر ليلة العشاء الأخير المقدَّم بوصفه الدم المزمع أن يسفكه على الصليب للتطهير الحقيقي بمغفرة الخطايا تحول ماء التطهير إلى خمر هنا هو عملية تمهيدية، أكملها المسيح ليلة العشاء بتحويل الخمر إلى دم حقيقي لمغفرة الخطايا إذن فالمسيح بتحويله ماء التطهير كله إلى خمر، كان يشير في الحقيقة إلى نفسه كمصدر حقيقي للتطهير «بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي» (عب 1: 3) كذلك فإن عملية تحويل الماء إلى خمر كأول عمل يأتيه المسيح بمعجزة في بداية خدمته الخلاصية، كانت عملية تنبيه عميقة لأذهان المترجِّين لخلاص إسرائيل، فهنا عصر موسى من جديد، عصر الخلاص، موسى الذي حوَّل الماء في أنهار مصر إلى دم، وفي بداية خدمته أيضاً، لإظهار قوة الله ومجده على يديه، لعل شعبه يؤمن به ويستجيب لعمل الخلاص المزمع أن يقودهم فيه، لذلك يشير إنجيل يوحنا إلى ذلك خفيًّا عند قوله: «وأظهر مجده فآمن به تلاميذه.» (يو 2: 11) وينبغي هنا أن نلفت نظر الباحث إلى أن يوحنا الحبيب وحده هو الذي سجَّل لنا هذه الحادثة في إنجيله، والعلَّة في ذلك ظاهرة لأن التلاميذ لم يكن عددهم قد تكامل بعد عند إجراء هذه المعجزة، فالذي حضرها على وجه التحقيق خمسة تلاميذ كان أولهم يوحنا. ومعلوم أن يوحنا الرسول فوق أنه كان شاهد عيان لهذه المعجزة، فهو الوحيد أيضاً الذي اطَّلع على دقائق الحوار الذي حدث بين المسيح والعذراء سرًّا، وذلك بسبب تواجد العذراء معه وفي بيته مدَّة طويلة بعد الصليب، وهي التي أخبرته بكل الأمور كذلك ينبغي للقارئ أن يكون على بيِّنة من الأسلوب السرِّي العجيب الذي يكتب به يوحنا الرسول إنجيله، فهو يطرح الحديث والقصة والمعجزة ببساطة متناهية، ولكن مقاصده عميقة وأهدافه جليلة للغاية. وهنا في قصة عُرس قانا الجليل إشارتان خطيرتان تهدف إليهما القصة من أولها لآخرها:
الإشارة الأولى تختص بالمسيح العريس أو ”الختن“ الحقيقي معلَناً من خلال ”وليمة المسيَّا“.
والإشارة الثانية «الخمر الجيد» الإفخارستيا، وسر الكنيسة، ومحور الخلاص، والفداء الكنيسة انتبهت منذ البدء للخلفية السريَّة التي تتحرَّك في إطارها قصة عُرس قانا، فربطت الكنيسة في تعاليمها وفي أيقوناتها بين معجزة عُرس قانا الجليل (الخمر فرغ) وبين معجزة الخمس خبزات والسمكتين (الجموع الجائعة)، باعتبارهما التفسير الحي الواقعي الذي قدَّمه الإنجيل لمفهوم الإفخارستيا الروحي والإيماني، حيث يتركَّز في عُرس قانا مفهوم ”التحوُّل“ على أعلى وأوضح مستوى من التفسير. أما في معجزة الخمس خبزات فيتركَّز مفهوم اللامحدودية واللانهائية في سر الخبز (الجسد)، حيث الشبع المتولد منه والفائض يفوقان الأصل المنظور والمحسوس بدون قياس ويلاحظ في المعجزتين أن الحاجة والجوع كانا الدافع لإجراء المعجزة، والإشارة هنا إلى الحالة الداخلية. فالحاجة إلى الخمر إشارة إلى الحاجة إلى الروح القدس للعزاء والسرور ورفع الهموم والغموم، والجوع الشديد إشارة إلى العوز إلى ”الجسد“ أي الكلمة طعام الحق للحياة الأبدية. المسيح في كلتا الحالتين وقف يسد أعوازنا كمصدر حقيقي للملء والسرور حتى الشبع، وهو لا يرضى أبداً أن يكون فرحنا وملؤنا من السوق، سوق العالم، مهما كان معنا من ألوف الدينارات!! «لا يكفيهم خبز بمئتي دينار.» (يو 6: 7)
كذلك فإن التركيز على تحويل ماء التطهير إلى خمر ”جديدة“ في عُرس قانا لا يجعل العقل يفلت من إدراك قصد المسيح في اختيار عُرس قانا لبدء الإشارة إلى العهد الجديد «لأن الناموس بموسى أُعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا.» (يو 1: 17)
وإنجيل يوحنا لا يطرح القصة بدون تمهيد إلهامي مثير للدهشة، إذ يبدأها بقوله: «وفي اليوم الثالث كان عُرس في قانا» (يو 2: 1). أما الذهن الروحي النشيط فلا يمكن أن يعبر على هذه اللفتة دون أن يدرك قصد الإنجيل. فاليوم الثالث في بداية هذا الأصحاح لا يعني شيئاً بحسب الحرف، أما عند المسيح والكنيسة كلها بل وبمقتضى نبوَّات العهد القديم فهو يشير إلى القيامة.
إذن فقصَّة عُرس قانا بجملتها يضعها الروح بمحاذاة ”مجد“ القيامة، المسيح في إنجيل يوحنا يحقِّق قيامته منذ أول خدمته!! والمسيحي كذلك يدخل إلى مجد القيامة مع ”بني العُرس“ بعد سر المعمودية مباشرة. والكنيسة، بمقتضى الطقس، تحسب المسيح أنه عريسها لا منذ بدء معموديته، بل منذ أخذ اسمه ”يسوع“ المخلِّص شعبه، وذلك في يوم ختانته حيث الختانة هي التأهيل الطقسي لصلاحية العريس. لذلك فالكنيسة تسمِّي المسيح ”الختن“ الحقيقي، أي العريس الطقسي بالنسبة لها، فالكنيسة هي «امرأة الخروف» الذي ذُبح المسيح من أجل فدائها وتقديسها وهي الآن تتزيَّن له (رؤ 21: 2 و9).
فـ”الختن“ و”العريس“ كلمتان مترادفتان في اللغة الأرامية التي كان يتكلَّم بها المسيح! «حينئذ قالت عريس دم، من أجل الختان» (خر 4: 26).
والتشديد في قصة ”قانا الجليل“ يتركَّز على ”العُرس“ للإشارة إلى من أي مكان يبدأ المسيح خدمته: من حفلة عرس ليعلن نفسه كمصدر فرح للبشرية، وكإشارة إلى مركزه ”كعريس“ للبشرية المفدية.
يوحنا المعمدان أيضاً يبدأ خدمته بالنسبة للمسيح، بالإشارة إلى المسيح كعريس، وإلى نفسه كصديق للعريس: «كشارب خمر (بالروح)» مع بني العرس، أي كشريك فرح (سمائي) ولكن ليس «كصاحب أو كمصدر الفرح». تحويل الماء إلى خمر جيد يشير إلى تحويل أحزان البشرية وعرق تعبها وكدها إلى فرح حقيقي: «مَنْ له العروس فهو العريس. وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس. إذاً فرحي هذا قد كمل.» (يو 3: 29)
إذن فعرس قانا الجليل بالنسبة لنا هو حياتنا الجديدة، هو مصدر الفرح الحقيقي والدائم، حيث ينبع فرحنا باستمرار من ”صوت العريس“، عندما يأمر كل يوم أن يتحوَّل ماؤنا ودموعنا إلى خمر جيد، ليس في أجران متسعة، ولكن في ”كأس“، لأن الشبع والملء هما الآن على مستوى السر والروح.
الكنيسة في كل يوم أحد هي في حفلة عُرس، وكأنها تقيم في قانا الجليل!
إنجيل يوحنا يركِّز أيضاً على أن المسيح لا يبدأ المعجزة من فراغ أو من دائرة أبعد أو أرفع أو أقل من عالمنا، فهو لم يخلق الخمر من لا شيء، كما سبق ورفض أن يحوِّل الحجارة إلى خبز. ولكن من صميم مائنا يجري ”التحوُّل“، ومن صميم خبزنا يدخل ”البركة“. القصد هنا ينصبُّ على تقييم معنى وأسلوب حياتنا مع الله في العهد الجديد، على أساس عدم نقض أو إلغاء الواقع المادي أو الترفُّع عنه، ولكن تغييره إلى ما هو جديد وحق؛ وعلى عدم احتقار الموجود والمحدود، بل تكثيره بسر الشكر والبركة إلى ما يفوق العقل والحدود. والمسيح هو في سر التحوُّل حتى الملء وفي سر البركة والنعمة حتى الكمال «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا. ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16)، «فجمعوا وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين.» (يو 6: 13)
فماء اليهود الذي للتطهير المحلي والجزئي على مستوى اليد والكأس، حوَّله المسيح لنا إلى خمر الإنجيل، أساس سر الدم والفداء الذي يطهِّر ضمير العالم كله.
وخبز العرق والدموع الذي حمله الصبيان معهم لحاجة رحلتهم القصيرة عبر بحيرة طبرية أخذه المسيح في يديه وغرس فيه البركة، وجعله مصدر شبع وفيض للعالم كله، منذ ذلك اليوم إلى منتهى أجيال الدهور!! «الطعام الباقي للحياة الأبدية.» (يو 6: 27)
وعطية المسيح دائماً يبدو جمالها وتبدو جودتها في النهاية بعكس عطية العالم: «كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولاً ... أما أنت فقط أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن.» (يو 2: 10)
وليس عبثاً أن يذكر إنجيل يوحنا كيف يبدأ المسيح خدمته في عُرس قانا بحضور أُمه العذراء وينهي خدمته بحضورها أيضاً على الصليب، لأنه كان هو بنفسه شريكاً معها في هذا وفي ذاك، فهو تلميذ حضن يسوع أما هي فأُم العريس بالدرجة الأُولى وشريكة في فرحه وآلامه بالضرورة، حيث لا يمكن فصل مجده في فرحه عن مجده في آلامه لأن في هذا يتمجَّد وبذلك يتمجَّد.
لأنه في عرس قانا أظهر مجده، وعلى الصليب أكمل مجده!!
في عرس قانا تمجد، وفي أحزان بيت عنيا تمجد!! المسيح إذن هو مجدنا في الفرح والحزن سواءً بسواء! فالمجد يتبع المسيح أينما سار.
وأظهر مجده فآمن به تلاميذه:
لقد تحيَّر المفسِّرون، وما هو مجده في آية تحويل الماء إلى خمر؟ أهو في المعجزة ذاتها أم في الظروف التي أحاطت بها؟ فإن كانت في المعجزة ذاتها فالذي آمن به هم تلاميذه فقط، إذن فالمعجزة لم تكن بالدرجة الكافية لتبهر غير الأخصَّاء. أما الظروف المحيطة بالمعجزة فهي لا تزيد عن كونها مشاركة اجتماعية مفروضة على ذوي الولاية من القربى أو من رجال الدين. إذن فأين يكمن مظهر المجد الذي استُعلن لتلاميذه من هذه الآية حتى آمنوا به؟
هنا يلزمنا أن ندرك أن أعمال الله تحتاج إلى أُذن مفتوحة مهيَّأة للسمع وعين مُبصرة مستعدة للرؤيا ... أُذن التلاميذ كانت مفتوحة وعيونهم كانت على أعلى درجة من الترقُّب للرؤيا، لأن علاقتهم بالمسيح لم تكن قد تجاوزت في جملتها أكثر من أسبوع واحد. إذن فالمعلِّم كان تحت الفحص الدقيق والملاحظة الشديدة والترقُّب المستبشر جدًّا والمستعد لإدراك أقل حركة فائقة وترجمة أي عمل خارق، وذلك بحساسية مرهفة غاية الإرهاف.
لهذا عندما رأوا بعيونهم الماء وهو يُصبُّ في الأجران أمامهم، ثم رأوه يُرفع هو نفسه خمراً، وذاقوه وتحقَّقوه، حدثت في الحال المعجزة، لا معجزة تحويل الماء إلى خمر بل معجزة إيمانهم!! لقد آمنوا بالمسيح كليَّة!! إذ رأوا في هذا العمل أقصى ما يمكن أن يتمنوه أو يتصوَّروه وهو اختراق معلِّمهم لحاجز المادة. إذن، فهذا هو المسيَّا بكل ثقة وتأكيد. لقد انطبقت في أذهانهم كل كلماته العذبة وتعاليمه السابقة المنيرة على هذه القدرة الخارقة!
لذلك كانت آية عُرس قانا الجليل آية المجد الأُولى لمعلِّمهم وأعظم الآيات طُرًّا في حياة التلاميذ الخمسة الأوائل، ويوحنا بالدرجة الأُولى!!
ولكن ما كان أحوج التلاميذ، وما أحوجنا معهم أن نكون دائماً على هذا المستوى من الحساسية والإرهاف الشديد في تتبُّع أعمال المسيح في حياتنا ودنيانا. إنه كل يوم يحوِّل كل شيء أمامنا وفي حياتنا، ولكن الحاجة أشد الحاجة إلى الأُذن التي تسمع والعين التي تُبصر!
إن كل شجرة - وليست العُلَّيقة وحدها - مشتعلة بالنار الإلهية ولا تحترق، ولكن ذا العين المفتوحة هو وحده الذي يرى وهو وحده الذي يخلع نعليه!
وماؤنا يتحوَّل كل يوم إلى خمر، وخمرنا إلى قداسة وإلى حياة أبدية، والقريبون المترقِّبون هم وحدهم الذين ينظرون ويذوقون الرب ويتهلَّلون ...
القمص المتنيح متى المسكين
المزيد
21 يناير 2025
عُرس قانا الجليل
هذا العيد محسوب من أعياد الإبيفانيا التي كانت تعيِّد لها الكنيسة معاً: الميلاد، وزيارة المجوس، والختان، والعماد، وعُرس قانا الجليل كذلك بخصوص هذا العيد السيدي يسجِّل لنا القديس إبيفانيوس أسقف قبرص (315 - 403م) لمحة عن اهتمام الكنيسة القبطية بالتعييد له مع عيد الغطاس منذ القديم في قوله:[وتقيم الكنيسة القبطية عيد عُرس قانا الجليل في 11 طوبة (مع عيد الغطاس) حيث يعتقد الشعب بإمكانية تحوُّل مياه الينابيع ومياه النيل بحسب الإيمان الطيب الصادق إلى خمر، كذكرى سنوية لمعجزة المسيح]( 1).
قانا الجليل تبعد ستة أميال شمال شرق الناصرة، أي على بُعد ساعتين مشياً على الأقدام. العذراء مريم سبقت المسيح وتلاميذه كعادة تواجد النساء معاً منذ بداية العُرس (مدته 7 أيام)، والمسيح يحضر في الوقت المناسب دائماً (بعد فراغ الخمر)، مع تلاميذه الذين لم يكتمل عددهم إذ لم يكن قد مضى سوى ثلاثة أيام على دعوة نثنائيل، وفيلبس قبله بقليل، وأربعة أيام على دعوة أندراوس وبطرس، أما يوحنا فلم يتجاوز الأسبوع منذ أن انتقل من مرافقة يوحنا المعمدان إلى مرافقة يسوع. إذن، فلم يتجاوز عدد التلاميذ يوم عُرس قانا الجليل عدد أصابع اليد الواحدة تأتي هذه المعجزة كبداية آيات وبداية خدمة المسيح، بعد معموديته، كما تأتي كأول مقابل لخدمة يوحنا المعمدان، لأنها تعطي أوضح صورة للمسيح «ابن الإنسان»: هذا بالماء والنسك والامتناع الكلِّي عن الخمر وحياة البراري، وهذا بعرس قانا الجليل وبتحويل الماء إلى خمر، حيث التنبيه الذي تستحدثه المعجزة هنا يتركَّز في الدعوة إلى الانتقال من الماء - رأسمال يوحنا المعمدان - كقوَّة للتطهير وللتغيير بالتوبة والسلوك، إلى المسيح نفسه كقوَّة فائقة عُظمى للتغيير في صميم الطبيعة وبالتالي في سلوكها!!فالمسيح هنا إذ يُخضع الماء ويحوِّله إلى ما ليس ماءً بسلطان كلمته، ينبِّه بشدَّة إلى أن القوة التي يتوق إليها الإنسان للتغيير والتوبة والفرح والعزاء كائنة أصلاً في المسيح وفي كلمته!!كما أن المعجزة تشير كذلك إشارة خفية مُبدعة إلى أن الخمر، بحضرة المسيح، لم يعد هو مصدر الانتعاش والانتقال من الكآبة والهم إلى الفرح والتهليل، إذ يوجد الآن مَنْ هو أقوى فعلاً وأثراً من الخمر، المسيح الذي يخلق طبيعة الخمر ذاتها خلقاً!! وبالتالي كل ما في الخمر من قوَّة، وأكثر!! «(حُبَّك) حبيبي أطيب من الخمر»!! (نش 1: 2)التركيز إذن في هذه المعجزة ينصبُّ في كلمة واحدة: المسيح كمصدر ”التحوُّل“. المسيح ينبِّهنا في بداية آياته وبداية خدمته أنه جاء ليكون هو وحده ”مصدر التحوُّل“ في حياة الإنسان: إذن لا بالنسك ولا بالبراري يكمن سر التغيير، ولا بالتطهيرات بالماء أو بالدعاء، ولا في إيليا ولا يوحنا ولا بالأنبياء، ولكن في المسيح يتم تحوُّل الإنسان، كما تحوَّل الماء سرًّا وبدون أي صلاة أو دعاء أو أي حركة ما، إلى ما ليس ماءً، إلى خمر جديد جيِّد، هذا الذي كان يتوهَّم الإنسان أن فيه راحته.
معنى العُرس في التقليد العبري:
مراسيم العُرس في التقليد العبري الأصيل وما يلازمه من احتفالات، تحمل معاني أعمق بكثير من كونه ”فرحاً“ أو حفلة أو مناسبة اجتماعية للسرور والمجاملات. والذي ننقله إلى القارئ من تقليد العُرس العبري في أيام المسيح هو من التلمود وكتب اليهود الطقسية القديمة كما يقدِّمها لنا أحد الحاخامات المتنصِّرين(2). وخلاصة القول أن العُرس كان يُعتبر نقطة حاسمة في حياة الشاب والشابة، يصوم كلاهما قبل التقدُّم إليه ويعترف كل منهما بخطاياه. فالزواج كان يُقدَّر في التقليد العبري على كونه بمثابة ”سر“، حتى أنه بمجرَّد تتميم عقد الزواج يحدث غفران تلقائي لكل خطايا الإنسان السالفة.
ويعطينا سفر التكوين صورة واقعية بهذا المعنى، فامرأة عيسو التي كان اسمها قبل الزواج ”بسمة“ ونُطقها العبري الصحيح ”باسيمات“ (تك 36: 3) صار اسمها بعد الزواج ”محلة“ ونُطقها العبري الصحيح ”ماحلات“ (تك 28: 9) ومعناها ”محالة الخطايا“ أو ”مغفورة الخطايا“.
وكان المعروف أن العلاقة التي تربط العريس بالعروس هي على نمط ما هو قائم بين يهوه وشعبه ككل!! وهذا يردِّده الكتاب المقدَّس مراراً وتكراراً حتى صار من صميم تعاليم الربِّيين. وهكذا كان ارتباط العريس بالعروس يوم القران - في مفهوم الشعب - يقوم على أساس ارتباط الله بإسرائيل.
لذلك كان الاهتمام الشديد لحضور أي حفلة عُرس بالنسبة للشعب وقادته ينبع من مفهوم الشركة في تعميق سر ارتباط الله مع شعبه، وتكريم قيام وثبوت وعود الله الخاصة بازدهار الأُمة!
بهذا المعنى كانت حفلة العرس يُعتنى بتنسيقها جدًّا، وبتوفير مصادر الفرح لها من قِبَل الأغنياء ورجال المجمع، إذا كان الزوجان فقيرين، لأن ذلك يُحسب تكريماً للعلاقة التي تربط الله بالمجمع وبالشعب!! وبالتالي كانت مراسيم الزواج المفعمة بالخشوع والتقوى والإحساس الديني تتخلَّل حفلة العرس ذاتها من أول لحظة إلى آخرها كحفلة مقدَّسة، حيث يكون السرور والفرح والرقص والتصفيق باليدين وشرب الخمر، بعد الصلاة بالبركة عليه(3 ).
كل هذا، على المستوى الديني، لا تشوبه أي شائبة انحلالية، بل كأعمال مقدَّسة تكريماً للرب ”يهوه“.
بل إن مجرَّد الخطوبة التي تسبق الزواج والتي نسمِّيها الآن؛ ”جي بنيوت“، أي قراءة «أبانا الذي»، كانت تسمَّى بالعبرية ”عروسين قدوشين“، أي دخول العروسين في القداسة!! وحين كان يقف أحد المسئولين أو الكهنة ليعدِّد أوصاف وفضائل وجمال العروس كان هذا يُحسب ضمن الطقوس المقدَّسة!!
كل هذا يجعل حضور المسيح حفلة عُرس لعريسين فقيرين «ليس لهم خمر»، أمراً طبيعياً يدخل في صميم رسالته كعريس حقيقي لكل نفس، خاصة وأنه أول عمل يأتيه مدعَّماً بآية. فإن كان حضور العُرس محسوباً أنه خدمة دينية وواجب لكل إسرائيلي ولكل ذي غيرة، فإنه بالنسبة للمسيح هو بمثابة تقييم جديد لمعنى العُرس في العهد الجديد. إذ بحضوره تمَّ حضور الله. وهكذا أصبح الزواج المسيحي مدموغاً منذ عرس قانا حتى اليوم بطابع ”السر الإلهي“، حيث مفهوم سر الزيجة ينحصر في معنى ”حضور المسيح“، لجعل رباط الزيجة قائماً ودائماً بين ثلاثة وليس بين اثنين «فالذي جَمَعَهُ الله لا يُفرِّقه إنسان» (مت 19: 6)!! حيث المسيح في كل زيجة هو مقيم الوعد وضمين العهد بين الزوجين، لتحويل الحياة من مستواها الزمني العادي إلى مستواها الخالد والأبدي، بسر حضور الله (على مستوى تحويل الماء إلى خمر)!
وعندما قصد المسيح أن تكون بداية خدمته واستعلان مجده من داخل عُرس، لم يكن إلا مشيراً بإصبع المناسبة والآية إلى نهاية خدمته، حينما يستدعينا جميعاً إلى عُرسه الخصوصي لحضور «عشاء عُرس الخروف» (رؤ 19: 9)، حيث نكون نحن موضوع هذا العُرس، وموضعنا موضع العروس!! «لأني خطبتكم لرجُلٍ واحد لأقدِّم عذراء عفيفة للمسيح.» (2كو 11: 2)
إذن فآية عُرس قانا الجليل تعود أيضاً ومن طرف خفي لتنبهنا إلى مكانة المسيح الحقيقية سواء في ”قانا“ أو في حياتنا، فهو العريس الحقيقي أينما حضر، ونحن معه دوماً أينما كان وأينما كُنَّا، كعروس تتبع دائماً عريسها، إذن فعُرس قانا هو عُرسنا، والعريس فيه هو عريسنا، والعروس فيه هي نفسنا آه يا نفسي متى تدركين موقعك من المذود والأردن، ومن قانا والصليب، والقبر والسماء؟
القمص المتنيح متى المسكين
وللحديث بقية
المزيد
03 مايو 2024
باكر يوم الجمعة الكبيرة
مت ١:٢٧ - ١٤ + مر ١٥ : ١- ٥ + لو ٢٢ : ٦٦ - ٢٣: ١٢ + يو ١٨ : ٢٨ - ٤٠
ثُمَّ جَاءُوا بِيَسُوعَ مِنْ عِنْدِ قيافا إلى دار الولايَةِ، وَكَانَ صُبْحٌ. وَلَمْ يَدْخُلُوا هُمْ إِلَى دَارِ الْوِلايَةِ لِكَيْ لَا يَتَنَجَّسُوا ، فَيَأْكُلُونَ الْفِصْحَ. فَخَرَجَ بيلاطس إِلَيْهِمْ وَقَالَ: «أَيَّة شِكَايَةٍ تُقدِّمُونَ عَلى هذا الإِنْسَان؟» أَجَابُوا وقالوا له: «لَوْ لَمْ يَكُنْ فَاعِلَ شَرِّ لَمَا كُنَّا قَدْ سَلَّمْنَاهُ إِلَيْكَ !» فَقَالَ لَهُمْ بيلاطس: «خُدُوهُ أَنْتُمْ وَاحْكُمُوا عَلَيْهِ حَسَبَ نَامُوسِكُمْ». فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: لا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْتُلَ أَحَدًا». لِيَتِمَّ قَوْلُ يَسُوعَ الَّذِي قَالَهُ مُشِيرًا إِلَى أَيَّةِ مِينَةٍ كَانَ مُرْمِعًا أَنْ يَمُوتَ . ٣٣ ثُمَّ دَخلَ بيلاطس أَيْضًا إِلَى دَارِ الوِلايَةِ وَدَعَا يَسُوعَ، وَقَالَ لَهُ: «أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» أَجَابَهُ يَسُوعُ: «أَمِنْ ذَاتِكَ تَقُولُ هذا، أمْ آخَرُونَ قالُوا لكَ عَنِّي؟» أَجَابَهُ بيلاطس: «الْعَلِّي أَنَا يَهُودِيُّ؟ أمتُكَ وَرُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ أَسْلَمُوكَ إِلَيَّ مَاذَا فَعَلْتَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذا العالم. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذا العالم، لكَانَ خدامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْ لاَ أَسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلَكِن الآن لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هنا». فقال له بيلاطس : «أَفَأَنْتَ إِذا مَلِكٌ ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «أَنْتَ تَقُولُ: إنِّي مَلِكٌ. لهذا قد وُلِدْتُ أنا، ولهذا قد أتَيْتُ إلى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي». ٣٨ قالَ لَهُ بيلاطس: «مَا هُوَ الْحَقُّ؟». ولما قال هذا خَرَجَ أَيْضًا إلى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: «أنا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَة وَاحِدَةً . وَلَكُمْ عَادَةُ أَنْ أُطلِقَ لَكُمْ وَاحِدًا فِي الْفِصْح. أفتُرِيدُونَ أنْ أطلق لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟». فَصَرَحُوا أَيْضًا جَمِيعُهُمْ قَائِلِينَ: «لَيْسَ هَذا بَلْ بَارَا بَاسِ !». وَكَانَ بَارَابَاسُ لِصًا.
مملكتي ليست من هذا العالم
الذين قبلوا المسيح رباً وإلهاً، أصبحوا ليسوا من العالم، بل ويبغضهم العالم. لماذا؟ واضح جداً أن العالم وضع في يد الشرير، فالذي يحب العالم يحبه العالم، ويصبح لعبة في يد الشيطان، لأنه يطيعه في كل مشوراته. فالعالم لا يحتمل اسم المسيح لأنه يكته. فمن أجل اسم المسيح يضطهد العالم الذين للمسيح. وقد اضطهد العالم ورئيسه المسيح، اضطهاداً قادهم إلى صلبه، وأصبح الشيطان يعرف كيف يكيل للمسيح الضربات فيمن قبلوا المسيح وآمنوا به. وهكذا اتسم العالم بعداوة المسيحيين واضطهادهم من أجل الاسم. والمسيح هنا يسبق ويوعي الذين له، أن يكونوا عارفين بما يكنه العالم لهم،حتى لا ينساقوا وراء الذين يعيشون في العالم وهم مأسورين تحت جذبه.لهذا كان أول نصيحة يتقبلها الإنسان المسيحي، أن ينتبه وهو في بداية حياته الإيمانية، أن لا ينجرف وراء جذب العالم، ومعاشرة الأشرار الذين يعبدون العالم. هذا هو الجزء السلبي من الإيمان بالمسيح، القادر أن يبتلع الناشئين. ولكن بمجرد أن يبدأ الإنسان المسيحي طريقه الصحيح، ويصلّي ويتعرَّف على محبة المسيح، يبتعد عنه عملاء الشر. وبمجرد أن يحس بانحياز العالم ضده، يرتمي في حضن المسيح ويمسك بالإيمان.وبمجرد أن يمسك الإنسان بالمسيح، يحتضنه المسيح. لأن وعده قائم كل الدهور أن "من يقبل إلي لا أخرجه خارجاً". هكذا جعل المسيح الإيمان به رهن إشارة الإنسان الذي نوى أن يدخل حظيرة المسيح.وإزاء بغضة العالم لمن يقبل المسيح، يفتح المسيح أحضانه لكل من التجأ إليه. والمسيح الذي أحبنا وأسلم ذاته من أجلنا، قد اشترانا من قبضة الشيطان بدمه ولن يستطيع الشيطان ولا العالم أن يخطفنا من يد المسيح ويد الآب، التي هي قوتنا وملاذنا الأبدي. فمهما بغض العالم وكشر العدو بأسنانه، فنحن في حمى من خلق السماوات والأرض، وقد خلقنا جديداً بالروح لنفسه، فنحن أولاد الله وأعضاء
بيت الله. وحظنا ونصيبنا محفوظ لنا في السموات، نراه بالإيمان ونحيا له بالعيان. ونسعد به في أحلك ساعات الظلام، لأن أعيننا مثبتة فوق من حيث يأتي عوننا، تحرسنا يمين الرب حتى نعبر إليه ونتهلل لأن نصيبنا قد قرب.وهكذا أصبح اضطهاد العالم لنا جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، وتعودنا عليها كما تعودنا على الصداع والإنفلونزا. أمور لا يصح أن نقف عندها لأنها تحصد الكل،
وليس أحد أعز من الآخر أمامها، بل هي التي تختار من تستضيفه عن رضى وصمت.وحينما يرفع الإنسان بصره يرى المسيح قد جاز كل أنواع الاضطهادات ولم يشتك قط. فإن كانوا قد فعلوا ما فعلوا في رب المجد أفكثير عليهم إن جعلوه طعامنا وشرابنا ؟ فنحن نأكل الاضطهاد أكل الخبز ونشربه كالماء، ولكن بالرغم من ذلك فنحن بمسيحيتنا أكثر من منتصرين. ونقول ونسبق الحوادث كلها الآتية علينا من العالم، أننا غلبنا العالم وأعظم من المنتصرين. وعلى قدر ما يذيقنا العالم من مرار، فسوف نذوق حلاوة الرب، وسوف نرى كم هو طيب جداً، ومذاقه مذاق العسل المعقود.واعلموا أن مرار العالم زمني، وكل ما هو زمني هو حتماً زائل، أما الرب فثابت للأبد. لذلك ألا يتحتم علينا أن نستبدل المرار بالعسل، والألم والوجع بالراحة الأبدية؟!
فاشربوا يا إخوة من المرار الزمني ولا تتمنعوا، فكل أطايب الملكوت محجوزة لكم، وكما صنعوا بالمسيح ليس بأقل مما يصنعون بنا، فنحن شركاء آلامه حقاً، ومجدنا هو صليبه ومساميره، وقد خار المسيح تحت ثقل الصليب، فإن خار أحدنا تحت الاضطهاد فلا ينسى صليب المسيح الذي وضع علينا أن نحمله رضينا أو لم نرض.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
02 مايو 2024
باكر يوم الخميس لو ٧:٢٢ - ١٣
وَجَاءَ يَوْمُ القَطِيرِ الَّذِي كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُدْبَحَ فِيهِ الْفِصْحُ فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلاً: «اذْهَبَا وَأعِدًا لنا الفِصْحَ لِنَاكُل». فقالاً لَهُ: «أَيْنَ تريد أن نُعِدَّ؟». فقالَ لَهُمَا: «إذا دَخَلْتُمَا المَدِينَة يَسْتَقْبِلُكُمَا إِنْسَانٌ حَامِلٌ جَرَّة مَاءِ اتْبَعَاهُ إِلَى الْبَيْتِ حَيْثُ يَدْخُلُ، وَقُولا لِرَبِّ الْبَيْتِ: يَقُولُ لَكَ المُعَلِّمُ: أَيْنَ المَنْزِلُ حَيْثُ ُأكُلُ الفِصْحَ مَعَ تَلاَمِيذِي ؟ " فذاكَ يُرِيكُمَا عِليَّة كَبِيرَةً مَفْرُوشَة. هُنَاكَ أَعِدًا». فانطلقا وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا، فَأَعَدًا الفصح.
الافخارستيا ترياق عدم الموت
سر الإفخارستيا هو خلاصة الإيمان المسيحي وهو محور الإيمان بالمسيح، والمنطلق العملي للحياة مع المسيح أو بالمسيح لنكون شعباً مبرراً وأمة مقدسة.والرب لم يؤسس هذا السر في بداية خدمته، لا بعد المعمودية مباشرة مثلاً، ولا بعد صوم الأربعيني، ولا كنهاية تعاليمه، ولكنه أخره متعمداً حتى ميعاده المضبوط تماماً في الليلة التي أسلم فيها». فحينما انتهى من كل تعاليمه، وحينما أكمل حبه، وحينما سلم لتلاميذه كل أسرار علاقته بالآب، ثم دخل بالفعل في ساعة الصفر وتقرر البدء في تنفيذ الصلب ودفع للخائن الثمن وتعين زمان ومكان التسليم وأحس المسيح بدنو ساعة الموت حينئذ أخذ خبزاً وباشر تأسيس أعظم أسرار الوجود الإنساني على الأرض؛ بل وأعظم أسرار الحياة قاطبة، هذا الذي صار للإنسان المائت ترياق عدم الموت، وقوة القيامة ومفتاحاً للخلود.في الليلة التي أسلم فيها في هذه المناسبة التاريخية القائمة بين تأسيس السر وليلة التسليم للموت، أصبحت بعد تحول الخبز والخمر مناسبة كرازية فائقة للزمان تستغرق كل الزمان ثم تتخطاه إلى الأبدية اللانهائية: «فإنكم كلما أكلتم هذا الخبز و شربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء».فهناك سر يجمع بين المسيح الجالس مع تلاميذه والمتحد معهم بسر الحب ساعة ان شاء يوم الخميس، وبيننا نحن في كل الأجيال وعلى مدى كل الزمان والموت يداهمنا يوماً بعد يوم. هنا سر الإفخارستيا هو هو سر المسيا الكائن الذي كان والذي يأتي المتحد بأولاده بجسده السري عبر الزمان كله يحييهم بسر موته الحيي.ونحن نأكل الآن وكل يوم جسد الرب ونشرب دمه كتحقيق على مستوى الكرازة العملية أن المسيح مات وقام وإنه آت حيث يُستعلن يومئذ اتحادنا معه الذي أكملناه في سر الإفخارستيا، وينكشف علانية كيف عشنا وسنعيش إلى الأبد بموته.بشارتنا الآن بموت الرب كلما أكلنا من الخبز وشربنا من الكأس في واقع حال السر الإلهي، فهي لازمة وحتمية إلى أقصى حد لأن اعترافنا بموت الرب الذي نأكله ونشربه يلغي موتنا كل يوم الذي نموته بالخطية، يلغي فرقتنا، يلغي عداوتنا، يلغي كبرياءنا ... حياتنا الأبدية تنبع لنا من حيث نشهد بموت الرب الذي نأكله ونشربه في هذا السر. لذلك كان الجسد المكسور والدم المهرق في الإفخارستيا نبع حياة أبدية لنا منذ عشاء يوم الخميس حتى اليوم وإلى نهاية الدهور كلها.
سر عشاء الخميس نواة الكنيسة كلها : تكريم الكنيسة لتأسيس سر الإفخارستيا يوم خميس العهد سنوياً ليس مجرد تذكار تاريخي المسيح وجماعة الرسل المجتمعين في ذلك المساء حاضرون معنا الآن بجملتهم في الكنيسة هنا عندما يُقام هذا السر، وليسوا هم وحدهم، بل وأيضاً كل الذين ضمتهم الكنيسة إلى جسد المسيح. السر في جوهره يضم باستمرار كل الذين يخلصون.فإذا تصورنا سحابة هائلة تمتد حتى عنان السماء ثم فحصنا كل نقطة ونقطة فيها من ذرات الماء الكثيف، واكتشفنا أن كل نقطة عبارة عن وجه قديس أو روح بار مكمل بالمجد، فهذه ربما تعطي صورة تقريبية للكنيسة. ولكن إذا دققنا وجدنا أن قوة تجمع وانجذاب كافة النقط معا بهذه الصورة تنبعث من الوسط، حيث توجد مائدة صغيرة في وسطها الرب وحولها التلاميذ، فتكون هذه هي الصورة التقريبية لسر عشاء الخميس.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
01 مايو 2024
باكر يوم الأربعاء يو١١ : ٤٦- الخ
وَأَمَّا قَوْمٌ مِنْهُمْ فَمَضَوْا إلى الفريسيِّينَ وَقَالُوا لَهُمْ عَمَّا فَعَلَ يَسُوعُ.فَجَمَعَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالفَرِّيسِيُّونَ مَجْمَعًا وَقالُوا: «مَادًا نَصْنَعُ؟ فَإِنَّ هذا الإِنْسَانَ يَعْمَلُ آيَاتٍ كَثِيرَةَ . إنْ تَرَكْنَاهُ هكَذَا يُؤْمِنُ الْجَمِيعُ بِهِ، فَيَأْتِي الرُّومَانِيُّونَ وَيَأْخُدُونَ مَوْضِعَنَا وَأَمَّتَنَا». فقالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ قيافا، كَانَ رَئِيسًا لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ: «أنتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئًا، وَلَا
تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لنا أنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلَا تَهْلِكَ الْأُمَّة كُلَّهَا ». وَلَمْ يَقُلْ هذا مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيسًا لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السنة، تَنَبَّا أَنَّ يَسُوعَ مُرْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَنِ الْأُمَّةِ فقط، بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللهِ المُتَفَرِّقِينَ إلى وَاحِدٍ. فَمِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَشَاوَرُوا ليَقْتُلُوهُ. فَلَمْ يَكُنْ يَسُوعُ أَيْضًا يَمْشِي بَيْنَ الْيَهُودِ عَلَانِيَةٌ، بَلْ مَضَى مِنْ
هُنَاكَ إِلَى الكُورَةِ القريبَةِ مِنَ البَرِّيَّةِ، إلى مَدِينَةٍ يُقالُ لَهَا أَقْرَايمُ، وَمَكَتْ هُنَاكَ مَعَ تَلَامِيذِهِ. وَكَانَ فِصْحُ الْيَهُودِ قريبًا. فَصَعِدَ كَثِيرُونَ مِنَ الْكُورِ إلى أورُشَلِيمَ قَبْلَ الْفِصْحِ لِيُطَهِّرُوا أَنْفُسَهُمْ. فَكَانُوا يَطْلُبُونَ يَسُوعَ وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهُمْ وَاقِفُونَ فِي الْهَيْكَل: «مَاذَا تَظُنُّونَ؟ هَلْ هُوَ لَا يَأْتِي إِلَى الْعِيدِ؟» وَكَانَ أَيْضًا رُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ وَالْقَرِّيسِيُّونَ قَدْ أَصْدَرُوا أَمْرًا أَنَّهُ إِنْ عَرَفَ أَحَدٌ أَيْنَ هُوَ فَلْيَدَلَّ عَلَيْهِ، لِكَيْ يُمْسِكُوهُ.
ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد
الاتحاد أو الوحدة التي يطلبها لنا المسيح فيما بيننا، ثم فيما بيننا وبين الآب هي وحدة تتناسب قبل كل شيء مع تفردنا واختلاف أجناسنا وتباين طبائعنا . فنحن لسنا متساويين في كياننا الداخلي في أي شيء البتة، إلا في الخطية والعجز والقصور الروحيين !!
لذلك فالوحدة التي يطلبها لنا المسيح لا تقوم البتة على ماهية أشخاصنا أو ما هو لنا؛ بل على أساس أن نتساوى فيه والآب، وليس تساوينا في ذواتنا. فبقدر ما تنسكب فينا قوة وحدة المسيح في الآب، سواء من جهة الحب بينهما أو من جهة الحق والقداسة بقدر ما نبتدئ نحن نتساوى ونتقارب ونتحد بهذه القوة الخارجة عنا والآتية إلينا من لدن الله. فمحبة الله تحصرنا، فتلغي عداواتنا وتنهي على انقساماتنا؛ وحق المسيح والآب يصهر أفكارنا وقلوبنا فيبدد جهالاتنا ويوقف حماقاتنا ويقدس أرواحنا وأجسادنا.ولاحظ أن وحدة المسيح مع الآب هي طبيعة جوهرية، تقوم على التساوي كلياً وفي كل شيء؛ أما وحدتنا التي لنا في المسيح والآب فهي نعمة ورحمة، هي تفضل وهبة، هي مجرد إشعاع فعال لوحدة المسيح مع الآب.وقد صور المسيح في سفر الرؤيا هذه الوحدة التي يسعى إليها من نحونا بدخوله بابنا ليتعشى معنا. فهو يتعشى من صحن هموم الإنسان وأوجاعه وأنينه، يتعشى متقاسماً معه لقمة الشقاء والتغرب والإنسان يتعشى معه بالنعمة - من صحن أفراحه وبهجة خلاصه، ويتناول من يده خبز حبه وختم استيطانه.هذه هي دعوة وطلبة المسيح التي يطلبها المسيح لنا جميعاً، لكل إنسان، لكل كنيسة، ولكل من يريد أن يكون في مرمى دعاء المسيح هذا، أو تحت طاعة دعوته،أو بالحري مستجيباً لوصيته العظمى هذه.إنها وحدة سرية للغاية، لا يستطيع العقل البشري أن يستنفد كل شروطها، أو يضع بنودها، أو يتصور حدودها.. لذلك علينا أن نتأكد جميعنا جيداً أن أي محاولة من هذا القبيل كفيلة أن تُفوّت علينا سر المسيح، بل سر المسيحية. لأنها على مستوى قيام المسيح في الآب وقيام الآب في المسيح؛ ليس من جهة الكلمة الأزلية وحسب بل من جهة الإنسان يسوع المسيح. هذه الوحدة التي جعلت الله يرتضي بدم المسيح المسفوك على الصليب ثمناً لها .المسيح يضع أبعاد قوة اتحاده بالآب واتحاد الآب به نموذجاً وهوية لوحدة يطلبها لنا فيه ولبعضنا بعض. وهو إذ يراها تفوق قدراتنا وتصوراتنا عاد ويطلبها ويلح في طلبها من الآب نفسه ولا يزال متوسلاً بدمه !!
إذن، فاتحادنا ككنائس ليس هو اتحاداً ذا أبعاد زمنية أو جغرافية أو يمكن أن يُبنى على أي أساس بشري أو فكري مهما كان لأنه مطلوب أن يكون اتحاداً بالآب عبر المسيح أولاً، ثم تظهر أفعاله وقوته فينا على مستوى الزمن والعالم بعد ذلك.لن تكتمل وتتم هذه الوحدة دون موت ذات كل كنيسة لتحيا ذات المسيح وحدها،وحينئذ: «يؤمن العالم أنك أرسلتني».
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
30 أبريل 2024
باكر يوم الثلاثاء ( يو ٢١:٨-٢٩)
"قال لَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا: «أنا أمْضِي وَسَتَطلبُونَنِي، وَتَمُوتُونَ فِي خَطِيَّتِكُمْ. حَيْثُ أَمْضِي أَنَا لا تَقْدِرُونَ أَنْتُمْ أَنْ تَأتُوا» فَقَالَ الْيَهُودُ: «الْعَلَّهُ يَقْتُلُ نَفْسَهُ حَتَّى يَقُولُ: حَيْثُ أَمْضِي أنا لا تَقْدِرُونَ أَنتُمْ أَن تَأتُوا ؟». فقالَ لَهُمْ: «أنتُمْ مِنْ أسفل، أما أنا فمن فوق. أنْتُمْ مِنْ هَذا العَالَمِ، أَمَّا أنا فلست من هذا العالم ، فقلتُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ، لأَنَّكُمْ إنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أنّي أنا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ». فقالوا لَهُ: «مَنْ انت؟» فقالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «أَنَا مِنَ الْبَدْءِ مَا أَكَلِّمُكُمْ أَيْضًا بِهِ إِنَّ لِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةَ أَتَكَلَّمُ وَأَحْكُمُ بِهَا مِنْ نَحْوكُمْ، لَكِنَّ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَق وَأَنَا مَا سَمِعْتُهُ مِنْهُ، فهذا أقولهُ لِلْعَالم». " وَلَمْ يَفْهَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَهُمْ عَن الآب. فقالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أنَا هُوَ، وَلَسْتُ أفْعَلُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِي، بَلْ أَتَكَلَّمُ بِهذا كَمَا عَلَّمَنِي أَبِي. وَالَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي، لأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ".
أنتم من أسفل، أما أنا فمن فوق أنتم من هذا العالم، أما أنا فلست من هذا العالم
المسيح هنا يشرح السبب في عدم قدرتهم على أن يتبعوه. ويوضحه على أساس اختلاف الطبيعة واختلاف الوجود بين ما هو أرضي وما هو سماوي.أنتم من أسفل، أي من الطبيعة الترابية من الأرض، من المحدود الزمني المنتهي إلى الموت من تحت الباطل والزيف والأقنعة الزائلة.أما أنا فمن فوق أي من الطبيعة الخالقة من السماء من اللامحدود الأزلي من الخالد الأبدي من الحق القائم بذاته والدائم بكيانه.أنتم من هذا العالم المتغير والزائل والمحكوم بالقوى الطبيعية، والذي أخضع للباطل، ويسوده الشر، ويغطيه الظل ويعبث به الدوران.!
أما أنا فلست من هذا العالم، أتيت إليه مرسلاً، وأتركه وأذهب من حيث أتيت.دخلته لأخلصه وأفديه وأحييه وأنيره، ثم أنطلق مفتتحاً الطريق المؤدي إلى السماء لمن
استطاعوا أن يغلبوه، كما غلبته أنا.ولاحظ أن طبيعة المسيح هي من فوق ولم تنزل أبداً «إلى أسفل». فتزوله إلينا كان فقط من أجلنا، وأما هو من حيث طبيعته فهو لم يزل من فوق»، وهو لم يَزَلْ موجوداً فوق في السماء حتى أثناء وجوده معنا على الأرض (يو۳: ۱۳)، فتزوله كان
فقط من أجل أن يجذبنا معه إلى فوق ويرفعنا معه إلى الآب، كما قال هو عن نفسه:وأنا إن ارتفعت عن الأرض أجذب إلي الجميع»، حيث هذا الجذب السري يعتمد أساساً على كون طبيعته إلهية من فوق وإلى فوق، فإن تم الاتحاد بينه وبيننا نحن الذين من أسفل فلابد أن يجذبنا معه إلى فوق.هنا تظهر أهمية الاتحاد بالمسيح، لأن الخطايا التي عملت هي في الواقع شهوات ورغبات أرضية ارتبطت بها النفس وصارت تشكّل ثقلاً أرضياً شديداً جداً، يستحيل معه أن نرتفع إلى السماء، إن لم تتغلب عليها جاذبية المسيح. فالارتفاع إلى فوق مع المسيح مذخر للذين أحبوا المسيح وعاشوا معه وصادقوه واتحدوا به. فإن لم نكن عائشين معه في شركة حقيقية، وليس مجرد شركة فكرية أو عقائدية؛ يستحيل أن نرتفع معه إلى فوق، لأن طبيعتنا توقعنا من جديد إلى الأرض.
وأما هو فطبيعته سماوية من فوق»، ولها القدرة أن ترفعنا لفوق؛ فهي قدرة مطلقة، في حين أن ثقلنا وخطايانا هي محدودة وغير مطلقة.من أجل هذا، فالاتحاد بالمسيح في غاية الأهمية لأنه الوسيلة الوحيدة التي بها ترتفع معه إلى فوق بكل هدوء وسلام، لأنه هو الذي يجذبنا ويرفعنا ولسنا نحن من ذواتنا.الأماكن الفوقانية التي لها الارتفاع المهول تحتاج إلى خفة كبيرة للوصول إليها، ولن نبلغها إلا بعد أن يرفع الرب عنا أثقالنا، ويعلمنا كيف نصعد معه إلى فوق ثم إلى فوق وإلى أبد الآبدين.هذه هي في الحقيقة شهوة المسيح الأزلية التي من أجلها احتمل كل شيء، والتي طلبها من أجلنا بالحاح من الآب: أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني، يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم».
هذا هو نصيبنا المفتخر فوق، ولكنه يصنع هنا في الزمان الحاضر. فإن متنا قبل أن نحصل على هذا الاتحاد وقبل أن تحقق هذه الصلات الحية بالمسيح، فكما قال لليهود: ستطلبونني وتموتون في خطاياكم»، حيث الخطية هي رفض التجاوب مع المسيح.فإن نحن تغاضينا عن الدعوة، فإننا نصير كاليهود الذين رفضوه.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
29 أبريل 2024
باكر يوم الاثنين مر ۱۱ : ۱۲ - ٢٤
"وَفِي الْعْدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْيَا جَاعَ، فَنَظَرَ شَجَرَة تِينَ مِنْ بَعِيدٍ عَلَيْهَا وَرَقٌ، وَجَاءَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا شَيْئًا. فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا إلَّا وَرَقا، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقتَ التِّين. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «لَا يَأْكُلْ أَحَدٌ منْكِ ثَمَرًا بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ!». وَكَانَ تَلَامِيدُهُ يَسْمَعُونَ. وَجَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ الهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِي بَاعَةِ الْحَمَامِ. وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَجْتَارُ الهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. " وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً لَهُمْ: «أَلَيْسَ مكتوبًا بَيْتِي بَيْتَ صَلَاةِ يُدْعَى لِجَمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَعْارَةٌ لصوص». وَسَمِعَ الكَتَبَة وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ فَطَلَبُوا كَيْفَ يُهْلِكُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوهُ، إِذْ بُهْتَ الْجَمْعُ كُلُّهُ مِنْ تَعْلِيمِهِ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ، خَرَجَ إِلَى خارج المَدِينَةِ. وَفِي الصَّبَاحِ إِذْ كَانُوا مُجْتَازِينَ رَأَوْا التِّينَةَ قَدْ يَبِسَتْ مِنَ الأصول، فَتَذكَّرَ بُطْرُسُ وَقالَ لَهُ: «يَا سَيِّدِي ، انظر التينة الَّتِي لَعَنْتَهَا قَدْ يَبِسَتْ!» فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ : لِيَكُنْ لَكُمْ إِيمَانَ بِاللَّهِ. " لأَنِّي الحقَّ أقولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ قالَ لهذا الجَبَل : انْتَقِلْ وَانْطرح فِي الْبَحْرِ وَلَا يَشُكُ فِي قَلْبِهِ، بَلْ يُؤْمِنُ أَنَّ مَا يَقُولُهُ يَكُونُ ، فَمَهْمَا قَالَ يَكُونُ لَهُ لِذَلِكَ أقولُ لَكُمْ: كُلَّ مَا تَطْلَبُونَهُ حِينَمَا تُصَلُّونَ، فَآمِنُوا أَنْ تَنَالُوهُ، فَيَكُونَ لَكُمْ".
شجرة التين غير المثمرة
تعاليم المسيح تمتاز بالأثر العميق الذي يبقى في النفس إلى الأبد نظراً لما تشمله من تمثيل واقعي، مُدعماً أمثاله بأعمال قوية واضحة حتى يُثبت في ذهن الإنسان القصد الذي يرمي إليه.نظر يسوع شجرة تين مورقة على الطريق فجاء إليها ينشد ثمراً ولكنه لم يجد، فلعنها فجفت في الحال. كان لابد أن يكون مع الورق ثمر لأنهما يبدآن معاً، بل إن الثمر تظهر براعمه مبكرة عن الورق. فلما وجدها اخضرت وأورقت ولم تحمل ثمراً، حكم عليها بالموت، لأنها لم تعد تصلح لشيء إلا للنار حسب القول: «كل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار.»وفي هذا لم يكن يعطف على الفلاح الذي كان يتعب فيها عبثاً، ولا على تعطيل الأرض التي تحملها.ولم يلعنها لتكون وقوداً لتدفئ الأيدي الباردة، ولكنه قصد ما هو أعظم من هذا،فإنه قصد أن يدفئ بها القلوب الجامدة.
من هي الشجرة؟
كانت التينة المورقة العقيمة من الثمر رمزاً للأمة اليهودية التي حفظت الشريعة شجرة خضراء وجميلة؛ ولكن ليس فيها ثمر. دخل المسيح الهيكل فرآه كما رأى التينة، رآه مغارة للصوص، ونظر إلى الكهنة والكتبة والفريسيين فلم يشكرهم ولم يتركهم بل أعطاهم الويل المضاعف لأنه وجدهم مرائين، يأكلون بيوت الأرامل ولعلة عن ظهر قلب وتمت الطقوس بدقة فائقة وتمسكت بالشكليات إلى أبعد حد، كانت يطيلون الصلوات، وشبههم بالقبور المبيضة من الخارج وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. فلعن هيكلهم كما لعن التينة: هوذا بيتكم يترك لكم خراباً»،حتى أنه لم يبق منه حجر على حجر. وظل الهيكل خراباً حتى اليوم، ومجمعهم وكهنوتهم معطل حتى هذه الساعة. ذبل الهيكل كما ذبلت التينة، حتى جاء معول الرومان واقتلع الهيكل والعبادة اليهودية من أصولها، كما وضعت الفأس على أصل هذه التينة الجافة واقتلعتها يوماً.ماتت الشجرة ومات الهيكل، وظل هذا المثل القوي حيًّا، سيفاً مُسلّطاً على كل أمة لا تعمل البر، وكل فرد يتمسك بالمظهر دون الجوهر ويفتخر بعقيدته دون أن يفتح قلبه لرب العقيدة!
حسبناه خروفاً فوجدناه ذئباً :
انظر يا أخي، لئلا تكون شجرة تين خضراء، ولك مظهر العمل والخدمة واستطعت بمظهرك أن تجذب إليك الناس من بعيد، فتوهموا أنك الغني ومعلم النور وفاتح كنوز المعرفة والماسك بمفاتيح الملكوت؛ وأنت الفقير العريان الجالس في الظلمة ولم يُشرق النور على قلبك بعد المعرفة على لسانك وليست في قلبك. وقفت على الباب فما دخلت أنت ولا جعلت الداخلين يدخلون. إن كنت أنت هو، فاشفق على نفسك وعلى الناس، لأن الفأس قد وضعت على أصل الشجرة.وكيف سيقول الناس عنك حينذاك؟ سيقولون: حسبناه خروفاً فوجدناه ذئباً
حسبناه أصلاً فوجدناه فرعاً
انظر يا أخي، لئلا تكون شجرة خضراء أخرجت أوراقها قبل أن يتم نموها وتصلح لحمل الثمار، فاغترت بأوراقها وليس لها ثمر . لك غيرة على الحق ولكن ليس حسب المعرفة. لك نشاط وجهاد ولكن ليس كمن يرضي الله، بل لكي يرضي نفسه والناس!
لا زلت تستقي اللبن في معرفة الله وتدعي أمام الناس بمنظرك وكلامك وتقواك المصطنعة أنك بالغ القامة في المسيح، وقبل أن تشتعل تريد أن تضيء! إن كنت أنت هو، فاحذر لأن البستاني لن يشفق على جمالك وأوراقك وبمنشاره الحاد سيقطع فروعك الكاذبة ويُعرِّيك من أوراقك الكثيرة، وحينئذ تظهر بين الأشجار صغيراً على حقيقتك. ولكن كيف سيقول الناس عنك حينذاك؟ سيقولون:حسبناه أصلاً فوجدناه فرعاً.
له صورة التقوى ولكنه أنكر قوتها :
انظر يا أخي، لئلا تكون شجرة خضراء نمت في تربة قليلة العمق، فاخضرت وأورقت، وإذ ليس لها عمق طلعت الشمس فضربتها والجفاف مصيرها. عمق يسا أخي في الأساس لئلا يكون تعبك باطلاً وجهادك كله للحريق. أرسل جذورك قبل أن تخرج أوراقك. انعكف على نفسك أولاً وتطهر من أدناسك وخطاياك وغشك وريائك، تأصل أولاً في معرفة الله، وحينئذ تقوى على شمس التجارب. واعلم أن إبليس أسد زائر، ولن يقف أمامه ضعاف النفوس الغاشون لأنفسهم ولكلمة الحق، غير المتأصلين في معرفة الله، إذ يضربهم ضربة لا يكون لها شفاء، فتكون الظلمة أحب إليهم من النور، والدنس أسهل عليهم من شرب الماء، والغش والمكر والخداع دروعهم التي يتحصنون بها .فتش ودقق ربما أنت واحد منهم، ولكن كيف يقول الناس عنك حينذاك؟
يقولون: كانت له صورة التقوى، ولكنه أنكر قوتها.يا أسفي على هذه الأشجار التي اخضرت للحريق وولدت للعنة. يا ليتها ما أخرجت ورقاً لأنها اكتفت بالأوراق دون الثمر وخدعت الناس للمجيء إليها فأتعبتهم بلا طائل صاروا لعنة لأنفسهم وضلالة للناس.
الرب قادم إليك :
وأنت أيها الشجرة الخضراء المورقة، اعلم أن المسيح قادم إليك مع شهود ليرى فيك ثمراً! هل وراء أقوالك وأعمالك ثمار الروح إيمان وحب وحق وفرح وسلام فيه ؟ مع تواضع وإنكار للذات وحرارة في الصلاة!
الرب قادم إليك لأنه جوعان جوعان إلى ثمارك. أما أوراقك فإنها مُرَّة لا تؤكل ولن ينتفع أحد بها. إنه جوعان لحبك جوعان لطهرك وعفافك وقداستك، جوعان لثقتك فيه، جوعان لصومك وصلاتك.
ثمن الدم والجسد :
إنه طعمك بدمه، فكيف لم تخرج رائحته منك؟ إنه أطعمك جسده، فكيف لم تشمر بعد؟
إنه سقاك بعرقه المتصبب من جبينه، وسيج حولك بإكليل الشوك ليحميك من أعدائك، فما هو عذرك ؟ الفرصة أمامك اكتشف نفسك بنفسك ولا تخدع ذاتك أو تحاول أن تخدع الله !
أنت نجحت فقط في كيف تخدع الناس، أما عين الله فلن تخدع قط، وهو قادم ليطلب الثمر، ثمن الجسد والدم! حدد موقفك وإلا فلا تلمه إن هو لعن التينة!
لم يلعن المسيح شيئاً قط. لم يشأ أن تنزل نار من السماء وتأكل المضادين، كما أشار عليه أحد تلاميذه. ولم يلعن ضاربيه أو صالبيه، بل كان مبدأه دائماً : فتيلة مدخنة لا تطفأ ، وقصبة مرضوضة لا تقصف، ولكنه لم يحتمل التينة الكاذبة غير المثمرة.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
27 أبريل 2024
سبت لعازر (يو١:١١-٥٤)
حلوه ودعوه يذهب
سبت لعازر يحمل معاني عميقة لمحبي الطقس والهواة التلذذ بربط المعاني والغوص في بحر لآلى الأرثوذكسية.
كل ما عرفناه عن السبت والسبوت أنه رمز الراحة والتوقف عن أعمال الحياة هكذا جعله العهد القديم رمزاً لانتهاء الخلقة الترابية ولكن فجأة، وكختام لعهد قدم وشاخ، يأتي سبت لعازر ليقلب معنى السبوت كلها معلناً عن بداية جديدة للحركة والحياة وفك ختوم السكوت والموت واقتحام الطريق الموصل بين القبر والهاوية هكذا تتلقف الكنيسة سبت لعازر لتجعل منه أحداً صغيراً وقيامة صغرى ترابية لواحد من أولاد آدم الأول، تمهيداً لقيامة عظمى إلهية للمسيح آدم الثاني سبت لعازر هو في الأرثوذكسية مفتاح سر البصخة سر الانتقال من القديم إلى الجديد من عهد السبوت إلى عهد الآحاد من عهد الموت إلى عهد القيامة. وهو أول مرحلة من مراحل العبور التي جازها مخلصنا، إذ بإقامة لعازر من الموت قدم المسيح صورة للنهاية قبل البداية، فأطلق في القلوب سر فرحة النصرة على الموت حتى لا تخور في موكب الصليب ليس جزافاً أن يطلق المسيح في يوم السبت سراح لعازر من بطن الهاوية ويقيمه من بين الأموات، ولكنه أراد أن يُمهّد بسبت لعازر للسبت الكبير، حتى تكون
آلامه وصلبه ودفنه على رجاء، وقيامته يقيناً كالفجر هكذا كانت ولا تزال قيامة لعازر حجة رجاء ضد الموت ويقين قيامة ننتظرها على كافة المستويات حتى ولو أنتنت أجسادنا وانحلت وذابت وتلاشت في الماء أو
بين ذرات التراب.هل كان لعازر في حاجة إلى أسبوعين يضافان إلى حياته أو شهرين أو عدة سنين أخر ؟
كلا،ولكن كان التلاميذ بل نحن بل العالم كله في أشد الحاجة أن يقوم لعازر من بين الأموات ليؤمن الجميع بالمسيح، ليس فقط أنه قادر أن يقوم، بل ويقيم من
بين الأموات أيضاً !!
والقصة تبدأ عندما أرسلت مريم ومرثا إلى المعلم بلهفة أن: أسرع، فلعازر الذي تحبه مريض. والإسراع هنا يفيد توقف إيمان الأختين بالرب عند حد شفاء الجسد: يا سيد لو كنت ههنا لم يمت أخي». لهذا كانت اللهفة وكان الإسراع من جانب الأختين لئلا يموت وتضيع الفرصة. وبالرغم من ذلك نرى المسيح يتأخر، لأنه يرى في موت لعازر فرصة لإيمان أعلى: فلما سمع أنه مريض مكث حينئذ في الموضع الذي كان فيه يومين. ثم بعد ذلك قال لتلاميذه: لنذهب وفي الطريق قال لهم: لعازر مات. وأنا أفرح لأجلكم إني لم أكن هناك لتؤمنوا» الرب هنا يفرح عند ازدياد فرصة الإيمان أمام التلاميذ، عندما يسترد نفساً من بين مخالب الموت. ولكن العجيب أنه بعد قليل يواجه المسيح الأختين ويرى بكاءهما، فيبكي هو أيضاً من فرط تحننه : انزعج بالروح واضطرب بكى يسوع». فالذي رأيناه يفرح بازدياد فرص الإيمان للتلاميذ والأختين تجاه الموت نجده يبكي عندما يقف بين الباكين، وكأنما الفرح والبكاء عند المسيح نظير أو رهن ما يسرنا ويبكينا !! ولكن بتأمل صغير نجد أن الفرح والبكاء جاءا مختلفين في ترتيبهما لدى المسيح عن ما كان لدى الأختين والتلاميذ. فعند المسيح الفرح أولاً ثم البكاء، إذ كان يرى القيامة قبل الموت، ولكن بالرغم من ذلك لم تعقه فرحة الرؤيا المسبقة للعازر قائماً من بين الأموات عن أن يذرف الدمع مع الباكين أمام القبر.وهكذا بدا يسوع فائقاً جداً في حنانه وترفقه بالمتألمين إذ أخلى نفسه من فرحته النبوية لما سيكون، فبكى كما يستلزمه الإشفاق وتحتم به المودة. أما الأختان، فإذ اختفت رؤية القيامة عن مستوى إيمانهما بكتا بكاءً مُرَّا خُلواً من فرحة النبوة المسبقة بما سيكون!
وأمام القبر وقف رب الحياة وسيد القيامة ونادى لعازر، فقام، وقام معه رجاء الإنسان كله كل بني آدم بالحياة الأخرى. والذي نادى لعازر باسمه فقام من بين الأموات ويداه ورجلاه مربوطات سيأتي وسينادي الإنسان، كل إنسان، لقيامة أبدية ودينونة وحياة.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد