المتنيح القمص متى المسكين
نبذة عن حياته وجهاده
لقد كانت مسيرة حياة أبينا الطوباوي متى المسكين آية وقدوة للمؤمنين بالمسيح في طهارة حياته وصدق نيته في الحياة للمسيح، وفي احتماله المعاناة التي عاناها على مدى ما يقرب من 60 عاماً منذ دخوله الرهبنة عام 1948 وحتى انتقاله إلى حضن المسيح، في احتمال وشكر وشركة في آلام المسيح، على مثال الرسل والشهداء والقديسين.
وبالإضافة إلى ذلك ومن خلال هذه الحياة الزاخرة حمل مشعل العلم والتنوير الروحي واللاهوتي في الكنيسة بالمنهج الأرثوذكسي التقليدي: العُمق الروحي والخبرة الميستيكية Mystical الصافية, مع الالتزام بالأصالة والرجوع إلى الجذور الإنجيلية وتعاليم آباء الكنيسة, ولكن مع التقديم العصري المناسب لذهنية الحاضر, فأنار بهذا أجيالاً بأكملها بالتعليم الروحي والعقائدي المؤسس على كلمة الله وعلى التعليم الآبائي الأرثوذكسي, حيث فتح أمام القارئ العصري آفاق المسيحية وعمَّق في وجدانه المفاهيم والخبرات الحياتية المسيحية, كل هذا مسنوداً بسيرة حياته التي تشهد للتعليم الذي علَّم به في كل أرجاء الكنيسة في داخل مصر والخارج.
أبونا متى المسكين
سيرة مختصرة عن كتاب ”السيرة الذاتية لأبينا القمص متى المسكين“ الأب متى المسكين
سيرة حياة عطرة مفعمة بالآلام والضيقات والاختبارات الروحية،
ولكن مع وفرة في استعلان الحقائق الإلهية
+ وُلد يوم 20 سبتمبر سنة 1919 في أسرة كبيرة عدداً فقيرة معيشة.
+ كان وهو طفل صامتاً، ولكن يحاول أن يعرف كل شيء بنفسه. كان يتأمل منذ طفولته في الحياة ولكن في ما هو فوق الحوادث اليومية وهموم الأسرة، وهذا كان منذ أن كان ابن عشر سنوات.
قدوة الأم المنحنية الساجدة بالصلاة:
+ كانت والدته متدينة جداً. كانت تدخل غرفة خاصة فيمسك هو بملابسها بإصرار حتى تَسمح له بالدخول معها. وكانت تظل واقفة لعدة ساعات تصلي وتسجد، ولا تكفُّ عن السجود مئات المرات. وهو يحاول أن يقلِّدها فيسجد وهو يحس أن ذلك ضروري، فطالما أمه تسجد فيلزم أن يسجد معها، إلى أن يتعب فيقف صامتاً يتأملها، وكانت تمسك في يدها بمِسْبَحة وصليب. وكان يترقب دخولها الغرفة إلى أن تدخل فيطير قلبه من الفرح حينما تسمح له، ويبدأ يسجد معها.
+ وفي ليلة من الليالي رآها والده وهي تسجد وتصلي بينما رأى الصليب في يدها منيراً بصورة مُشعَّة جداً. فاشترى أجبية وبدأ هو الآخر يصلي صلوات الساعات. كان ذلك حوالي عام 1928 أو 1929. رؤيا السوَّاح:
+ في إحدى الليالي، وكان عمره 7 سنوات، وبينما آوى الجميع إلى فراشهم، وكانت أخته الكبرى تنام بجواره، وبعد منتصف الليل قام من فراشه، ورأى أمامه في الصالة الوسطى للبيت وعلى المائدة ثلاثة رجال بذقون طويلة ويرتدون ملابس حمراء وعباءة بشكل لم يَرَه أبداً. وكانوا يتحدثون معاً وأمامهم طعام (خبز وصحن جبن) وشمعة موقدة (وكانوا لا يستخدمون الشمع في البيت قط). ويقول أبونا متى المسكين في مذكراته: ”حاولت إيقاظ أختى فانتهرتني، وقالت إنها لا ترى أحداً. فلما ترجَّيتها كثيراً، قامت ورأتهم، ولكنها قالت: إنهم أصدقاء أبوك، ونامت. وظللت جالساً أتأمل فيهم فرحاً مذهولاً وهم ينظرون نحوي أكثر من ساعة حتى غلبني النعاس. وفي الفجر قمتُ وأيقظت أمي وإخوتي، فرأوا بقايا الخبز والجبن والشمع، فانذهلوا لأنه لا يوجد بالبيت شمع. ولأول مرة أسمع من أمي تقول عنهم إنهم "السواح المجاهدون"، وهم بركة عظيمة أن يزوروا البيت لأننا فقراء.“ + ”وقد زاد هذا الحادث من إحساسي برهبة الصلاة عندي منذ ذلك اليوم وحتى هذه الساعة، فلا أستطيع أن أُصلي إلا وأنا مُغمض العينين والدموع تسيل بلا كيل.“
الطفل المحروم من الكماليات، ولكن بالرضا والشكر :
+ لأن الأسرة كانت فقيرة، فلم يكن يتلقى مصروفاً أبداً، ولا يملك أي شيء مما يملكه جميع الأطفال من لِعَب أو ملابس خاصة أو أطعمة حلوة، ولكن، كما يقول هو: ”لم أكن أشعر بالحرمان أبداً، بل كنت راضياً به تمام الرضا، ولا اشتهيتُ هذه الأشياء، خصوصاً بعد أن دخلتُ المدرسة“. ففي فترات الفسحة كان يقف وحيداً، بينما يذهب الأطفال إلى الكانتين لشراء الحلويات والسندويتشات. وحينما يعزم عليه الأطفال مما معهم كان يرفض، ويعود بقلبه متعطِّفاً جداً على والده الفقير، مصمماً أن يعيش هذا الفقر اختيارياً.
+ وقد ارتبط في أعماقه هذا الشعور بالفقر الاختياري مع شعوره بدخوله مع أمِّه للصلاة في غرفتها الخاصة، فأحس بأن ما يناسب الصلاة جداً أن يعيش راضياً بالحرمان، وأن الشعور بالحرمان الاختياري مناسب ومقبول مثل الشعور بالفرح وهو يدخل مع أمه غرفة الصلاة.
الطالب الكفء والملتزم بجدية الدراسة والحياة:
+ في عام 1935 التحق بمدرسة شبين الكوم الثانوية، وكان يسافر كل يوم من منوف إلى شبين الكوم في القطار الممتلىء بالطلبة مثله. وكان ينقسم الطلبة في القطار إلى قسمين: قسم يمرح ويهرِّج، وقسم يلتف حوله داخل الديوان الذي يركب فيه إلى أن يمتلىء على آخره لسماع حديثه على هيئة سؤال وجواب. فقد وجد فيه الطلبة مُعيِناً لا ينضب من الرد على أسئلتهم الحائرة في كل الأمور. ”ولأني لا أحب الجدال ولا أتعالى في حديثي، لذلك لم يجد فيَّ المبارزون بالكلام أي مدخل. وظللت لمدة سنتين الصديق النصوح للطلبة وربما المثال الهادئ للسلوك والتفتُّح.“
+ وحينما كان يدرس في الجامعة، كانت المصاريف التي كان يحصل عليها من والده لكي يعيش في القاهرة ويدرس ويسكن ويشتري الكتب ويأكل طوال الشهر، كانت خمسة جنيهات من عام 1938 إلى عام 1943، فلم يكن يتوفر لديه آخر الشهر ولا مليم واحد.
القدوة المسيحية أمام غير المسيحيين:
+ كانت سمعته في الحيّ الذي يسكن فيه بالقاهرة في منيل الروضة، سمعة طيبة (كان يسكن منفرداً كطالب مغترب). ”وكانت صاحبة المنـزل تحكي للجيران عن سلوكي وأخلاقي، فكانوا يزدادون احتراماً لي.“ وذات يوم وبينما كان في المنـزل وباب الفرندة مغلقاً بالشيش فقط، سمع صاحبة المنـزل (مسلمة) وتسكن في الدور العلوي تقول للجيران في العمارة التي أمامهم عن سلوكه وكيف إنه لم يجرح شعور أحد من الجيران قط، وسبب اختلافه عن باقي الطلبة القاطنين في نفس المنـزل، فقالت لهم: ”لأنه مسيحي“!! يقول الأب متى المسكين في مذكراته: ”وقد أثَّرت فيَّ هذه الكلمة وأدركت قيمة الشهادة للمسيح بالسلوك. وكان هذا مصدر سعادة وتعويض لنفسي إذ لم أسمح لنفسي بأي سلوك يخرج عن اللياقة كل أيام حياتي بدافع شعوري أني لست محتاجاً لشيء، وأني لا أستطيع أن أُخالف ضميري الذي كان ملتصقاً بالله أشد الالتصاق في إخلاص وصدق.“
+ كان على علاقة ممتازة بزملائه الطلبة، لأنه كان يحترم الجميع ويحب الجميع ولا يرفض مجاملة المشاركة معهم في ضحكهم ومزاحهم في حدود اللياقة. ويقول أبونا متى المسكين: ”لقد كانوا يعملون لي حساباً في هذا، فكانوا يستحون جداً أن يتكلموا بالقباحة المكشوفة أمامي قط، وكنت صديقاً للمسلمين والمسيحيين على السواء.“
في معترك الحياة: النجاح في العمل ومحبة الجميع:
+ بعد تخرُّجه من كلية الصيدلة سنة 1944 تعيَّن بالتكليف العسكري في المستشفيات الحكومية، وبعد ذلك انخرط في العمل الحر، فقام بإدارة أجزخانة في الإسكندرية، ثم فتح أجزخانة في دمنهور. وكان العمل ناجحاً جداً وقد اشتهر بالأمانة والدقة، وأحب الناس وأحبوه، حتى أن سكان الأرياف حول دمنهور كانوا يتزاحمون في أيام السوق حول الأجزخانة لشراء أدويتهم، وكانوا لا يعرفون اسمه، بل يدعونه ”القبطي“. ويقول أحد زملائه القدامى إنه كان يعطف على الجميع دون فرق، بل المسلم قبل المسيحي. وكان إذا استشفَّ أن مريضه فقير لا يستطيع أن يحصل على الدواء، فكان يعطيه الدواء دون مقابل!
مبادئ حياة التأمل بدأت معه منذ الطفولة:
+ يقول الأب متى المسكين عن مشاعره هذه منذ طفولته: ”كانت هناك حركات روحية تجيش في أعماقي منذ طفولتي وأنا ابن أربع سنوات، كنتُ أحس بأني غريب عن إخوتي وأصدقائي، وكأني من عالم ولعالم آخر، حتى أن أسرتي لاحظت ذلك، وكانت تقدِّمني في اجتماع الصلاة وأنا طفل لكي أبدأ وأختم الصلاة. ولم أكن أتمنَّع قط. وكانوا حينما يعجنون الدقيق بالماء الساخن ويتركونه للتخمير يطلبون مني أن أغرس أصبعي في العجين وأرشم به علامة الصليب. وكم كانت العجنة ساخنة وأصبعي يُلْسع وأنا صامت!“
+ ويقول الأب متى المسكين عن نفس المشاعر وهو في فترة طفولته في المنصورة: ”كنت أختلس وقت الظهيرة والكل ينامون بعد الغذاء، وأخرج من المنـزل دون أن يشعر بي أحد وأذهب إلى شارع البحر، وهو قريب من المنـزل، وأسير على كوبري طلخا (يربط بين المنصورة وطلخا)، وأقف في منتصفه تماماً أتأمل النيل مدة طويلة وأسير على الشاطئ وأنا محمَّل بمشاعر غريبة تربط بين الصلاة والسجود وبين الطبيعة التي أمامي، البحر، الشاطئ، الأشجار الجميلة، الفلاحون عائدون من الأسواق.“
+ وحينما صار شاباً يقول: ”ازداد حنيني لله جداً، وازداد حبِّي له. فكنت بعد أن أنتهي من عملي بالأجزخانة، أذهب إلى منـزلي بدمنهور في الساعة 11 مساءً، وأبدأ أُصلِّي وأنا راكع حتى أفرغ من الأجبية، وأُبلِّل فراشي بدموعي. أين أجدك يا الله؟ لقد بحثت عنك في كل مكان فما وجدتُك: لا في العلم، ولا في السياسة، ولا في تعصُّبات رجال الدين، ولا في المال الذي بدأ يملأ خزانتي. فأين أجدك؟ سؤال ظل هو موضوع صلاتي ودموعي بالنهار أثناء العمل، وبالليل أثناء هذه الصلاة.“
+ ويقول الأب متى المسكين إنه بدأ يحس بسلطان يفوق إرادته ويعمل داخل كيانه. وطلب من الله بلجاجة أن يسهِّل خروجه من العالم لكي يعيش حُرّاً من بني الإنسان، أو بالحري ليعيش منتهى حريته في الله، أو على الإطلاق يعيش في الله.
اللحظة الحاسمة:
+ ظل الضغط الروحي في أعماقه يزداد، ووعيه للحياة الأبدية يتعمَّق، حتى حدثت المُفاضلة الفاصلة: بين أن يبقى في العالم يبيع ويشتري ويغتني ويعول أسرة؛ وبين أن ينطلق في رحاب الله، يحب، ويفرح، ويعرف، وينمو بلا قيود. وهكذا لم تستطع جميع المعوِّقات وكانت هائلة ومخيفة أن تمنعه من الانطلاق، فانطلق إلى الدير. وكان أول شاب متعلم جامعياً، يَلِجُ طريق الرهبنة في جيله، في شهر مايو 1948.
(يجب أن يلاحظ القارئ أن خريجي الجامعتين فؤاد الأول بالجيزة، وفاروق الأول بالإسكندرية، لم يكونوا يُعدَّون بعشرات الآلاف كما هو الآن؛ بل كل كلية كانت تُخرِّج كل عام عشرات فقط، ربما لا تتعدى المائة إن لم تنقص. وكان الخريجون من صفوة المجتمع أخلاقاً وعلماً ورِقيّاً حضارياً، ولم تكن مجانية التعليم قد طُبِّقت بعد، وكان وزير المعارف طه حسين في ذلك الوقت غير مُحبِّذ لها).
وهكذا ذهب إلى دير الأنبا صموئيل بصحراء القلمون، وقد اختاره لأنه أفقر وأبعد دير عن العمران.
الاختبار الرهباني: الصلاة ودراسة كلمة الله:
+ ”منذ أول يوم دخلتُ فيه الدير، دخلتُ الحياة مع الله بقوة وبساطة وعمق وهدوء. كنتُ أمضي الليل كله في الصلاة، لمدة ثلاث سنوات، لأني كنتُ إذا نمت أقوم في الحال، لأن النوم صار كحالة إنهاك تحتِّم عليَّ أن أقع وأستسلم للنوم عن انغلاب.“
+ ”أحببتُ الله حباً لا مثيل له، حبّاً سرياً بكل ما أملك، عن وعي وأصالة، ومقارنة بعمالقة الآباء في العهدين القديم والجديد. وهكذا كانت الإضافة العظمى لرصيد حياتي الروحية هي المعرفة بدقائق العهدين القديم والجديد، وفي تأملات عميقة واعية وصلاة عشتُ مع جميع شخصيات الكتاب، ودخلت في سر العلاقة التي تربطهم بالله، فكان هذا ينبوعاً أشرب منه وأرتوي وأمتلئ بالمعرفة والحق والنور كل يوم بلا شبع.“
وهكذا قضى في دير الأنبا صموئيل ثلاث سنين تقريباً ألَّف فيها كتابه الأول: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية.“
إنزاله إلى دير السريان للعلاج (مارس 1951):
+ وذلك إثر مرض أصاب عينيه وبمبادرة من المتنيح الأستاذ راغب مفتاح، وبعد ذلك توجَّه إلى دير السريان ليقضي فيه فترة قليلة حتى استرداد عافيته، فرسمه أسقف الدير قسّاً (19 مارس 1951) باسم ”متى المسكين“ على اسم القديس متى المسكين مؤسس دير بأسوان في أوائل القرن الثامن. واستأمنه نيافة أسقف الدير على تلمذة رهبان جدد كانوا قد أتوا لكي يترهبوا من تأثرهم بكتاب حياة الصلاة.
+ ثم استأذن من رئيس الدير أن يخرج ليحفر لنفسه مغارة تبعد عن الدير حوالي 40 دقيقة مشياً على الأقدام في الصحراء التي لا يحدُّها البصر. وفي هذه الفترة استقبله الأب المتوحد عبد المسيح الحبشي في مغارته لمدة أسبوعين لحين قيامه بحفر المغارة، حيث كان الراهب متى المسكين يخدم الأب المتوحد عبد المسيح الحبشي ويستلم منه حياة التوحُّد.
+ وفي هذه الوحدة المطلقة اختبر انطلاق الروح من كل قيود الجدران العالية والأمان المصطنع، حيث كانت الذئاب تزور مغارته في الليالي القمرية وتلعب أمام باب المغارة طوال الليل. كما نزل بالوادي ضبع كان يطوف حول المغارة، أما الثعابين فكانت تتعايش من فضلات أكله.
+ يقول الأب متى المسكين: ”كل هذا جعلني أحسُّ بالخليقة عن قرب وأمتدُّ في تأملاتي، لأني كنت أحبُّها وهذه الوحوش لم تؤذني قط“. ويستطرد في القول:
+ ”كنت أقضي الليل كله ساهراً متأملاً، وكل ومضة جديدة من المعرفة كانت تشعل روحي وتُلهب كل ملكاتي، فأقوم وأُصلِّي كثيراً، وأسجد، وأشكر بدموع، معترفاً بأني لستُ كفؤاً لأكثر من هذا.
وبالرغم من هذا، كنت أُدقق في صلواتي الطقسية وفروض السواعي بالليل والنهار بكتاب "الأجبية"، وحفظت مزاميره كلها عن ظهر قلب، وكانت لي مُعيناً عظيماً في عدم توقف التأمل أو برودة النفس.“
انتدابه وكيلاً بطريركياً في الإسكندرية (مارس 1954- مايو 1955) وخدمته الخالدة هناك:
+ في سنة 1954 (بعد 3 سنوات من الوحدة في المغارة)، دُعي للذهاب إلى الإسكندرية ليخدم كوكيل للبطريرك الأنبا يوساب الثاني، فرفض مرة وأخرى، وفي الثالثة أتاه الأسقف للمغارة، فلم يستطع الرفض لشعوره بالخجل ولإحساسه بأن الله معه. وفي الإسكندرية نظَّم الخدمة، وضبط المالية، ورتَّب طريقة إجراء الخدمات الطقسية دون إعثار المؤمنين بالتمادي في تحصيل الرسوم، ولكن أعاقه تكتُّل بعض الكهنة الذين تأذَّوا من التنظيم المالي للخدمات الطقسية، فبدأت الحرب ضده ثلاث مرات. فاستعفى وعاد إلى ديره في المرتين الأولى والثانية، وعاد تحت إلحاح الشعب والمجلس الملي وبموجب خطاب التأييد والتشجيع من البابا يوساب الذي قال عنه ضمن ما قال في خطابه: ”نهنئ ولدنا القمص متى بهذه المحبة التي تمكَّنت من قلوب الجميع. ... ونعلن لحضراتكم ولأبنائنا الشعب المبارك المحبوب ما نكنُّه لولدنا القمص متى من حُبٍّ وتقدير ورضاء لإخلاصه وصلاحه، وما كان من أثر خدماته لمدينة الإسكندرية التي يستحيل على غيره القيام بها.“ وفي الخطاب الثاني موجهاً إلى القمص متى المسكين: ”... إننا نعتمد على غيرتكم وإخلاصكم كما نعتمد على ما منحكم الله من حكمة أن تقوموا بعملكم مؤيَّدين بنعمة الله وتعضيدنا الكلِّي.“
+ أما في المرة الثالثة، فقد نجح ”أنصار التأخر والجهل“ (كما أسماهم المهتمون بالشئون الكنسية في ذلك الوقت) في إبعاد القمص متى المسكين، فصدر قرار بإعفائه. وانصرف إلى مغارته في دير السريان، حيث رفض كل المحاولات لإعادته ثانية، سواء من الشعب والكهنة والمجلس الملي، أو من الحكومة.
+ وبعد عودته تكاثر عدد الرهبان على يديه حتى بلغوا 12 راهباً.
إلى دير الأنبا صموئيل (20 يوليو 1956):
+ لم تكن الحركة المناوئة لـوجود الأب متى المسكين في الإسكندرية عارضة، بل كانت متصلة بالسياسة العامة للبطريركية في ذلك الوقت، حيث بدأ المطارنة يخشون من تولِّي الأب متى المسكين البطريركية بعد نياحة البابا يوساب، مما أدى إلى محاولات من أراخنة الكنيسة إقصاء البابا يوساب الثاني عن منصبه بسبب تغلُّب ”أنصار التأخر والجهل“ على سياسة الكنيسة. كما أن هذه السياسة انعكست أيضاً على وجود الأب متى المسكين في دير السريان فبدأ يحس بالمضايقة من رئيس الدير، وكان الذي توجَّس خيفة من كثرة الذين تتلمذوا له من الرهبان، والذين تأثروا من حياته وكتابه: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، فطلب من رئيس دير السريان الحِلَّ أن يعود إلى ديره الأصلي، فغادر الدير متوجهاً إلى دير الأنبا صموئيل، ثم تبعه الرهبان الاثنا عشر إلى هناك، فبدأوا في تعمير الدير وبناء القلالي الجديدة (30 قلاية). وظلوا هناك حوالي 3 سنوات.
إنشاء بيت التكريس لخدمة الكرازة بحلوان (1958):
+ في عام 1958 أنشأ الأب متى المسكين بيتاً للمكرسين من الشباب المتبتل الذين يرغبون في الخدمة – دون الرهبنة – وكان مقره المؤقت في حدائق القبة، ثم انتقل في أوائل عام 1959 إلى حلوان.
وقد انضم كثيرون من الخدام للبيت، كما كان يزوره الخدام من كل جهة، وكان الأب متى المسكين، حينما يتواجد في أوقات قليلة في البيت (إذ كان يقضى معظم وقته طبعاً في الدير)، كان يردُّ على أسئلتهم الروحية. فبدأ يكتب مقالات وكتباً تفيدهم في حياتهم الروحية وفي خدمتهم التعليمية في مدارس الأحد. وهكذا بدأ نشر سلسلة من الكتب بعنوان: ”مقالات تصلح للشباب والخدام“، و”لأعرفه وقوة قيامته“، ”العنصرة“،”الكنيسة الخالدة“، ”مع المسيح في آلامه وموته وقيامته“... إلخ. وقد بدأت تظهر لنا في هذه الكتب نعمة الإلهام في التعليم الروحي واستعلان المعرفة اللاهوتية الأرثوذكسية من خلال أحداث حياة المسيح وتعليم الإنجيل وكتابات وتعاليم آباء الكنيسة.
إلى صحراء وادي الريان (11 أغسطس 1960):
+ وتوالت أحداث سريعة، توجه بعدها الأب متى المسكين من دير الأنبا صموئيل في 27 يناير 1960 مع الرهبان الاثني عشر إلى بيت التكريس بحلوان وأقاموا فيه إقامة مؤقتة لحين صدور توجيهات البابا كيرلس السادس لاختيار الدير الذي يناسبهم. ولكن فوجئوا بقرار طردهم من القاهرة. فتوجهوا إلى صحراء وادي الريان (في سياحة إجبارية، وهي وادٍ ليس به ساكن، عميق جداً داخل صحراء قاحلة، حفروا في صخورها مغائر يسكنون فيها، وصاروا يشربون من عيون ماء مالحة آذت صحتهم جداً. وعاشوا جميعهم حياة التوحد والصلاة. وكان الله يرسل لهم طعامهم كل شهرين في قوافل جمال على يد أحباء لهم في القاهرة، وذلك لمدة تسع سنوات كاملات، يقول عنها الأب متى المسكين كما يلي: + ”في حياة صعبة، لقد كانت أصعب وأشقَّ فترة عشتها في حياتي.“
+ أسقف دير السريان يُعلن في إعلان بجريدة الأهرام بأنهم مجرَّدون من أسمائهم الرهبانية، بدون إجراءات محاكمات كنسية قانونية.
+ تعرُّض الآباء للتيه والهلاك في صحراء موحشة؛
+ مسئولية مرض الآباء وإعالتهم في هذا المكان القفر؛
+ تعرُّضهم للمهرِّبين للمخدرات، حيث كان هذا الوادي لبُعده عن الأنظار طريقاً مأموناً لهؤلاء المهرِّبين، الذين حاولوا القضاء على الرهبان، ظناً منهم أنهم من البوليس يحاولون القبض عليهم.
تكليف من البابا كيرلس السادس بعد 6 سنوات في الريان إلى ”القمص متى المسكين“:
ويقطع هذا الانعزال خطاب ودي يصل إلى الأب متى المسكين من قداسة البابا كيرلس السادس. ففي أوائل فبراير 1966، وبعد 6 سنين من المجيء إلى وادي الريان، فوجئ الأب متى المسكين وهو في وادي الريان بخطاب يصله من البطريركية يحمل مظروفه من الخارج ومن الداخل عنوان باسم ”القمص متى المسكين“، ووضح من عنوان ومضمون الخطاب أن البابا غير معترف بما نشره أسقف دير السريان من تشهير بالأب متى المسكين وبالرهبان الذين معه في جريدة الأهرام عام 1960؛ إذ أن البابا كان يدعوه في هذا الخطاب أن يرسل 3 رهبان من عنده إلى دير الأنبا صموئيل، وقام الأب متى المسكين بإرسال الرهبان إلى هناك حسب أمر قداسة البابا.
المصالحة الكبرى عام 1969:
وبعد 3 سنوات من هذا الخطاب، وبعد 9 سنوات من سُكنى الأب متى المسكين والرهبان في وادي الريان، نجحت محاولات المصالحة مع الأب متى المسكين (التي لم تكفُّ طيلة السنوات التسع، لكنها نجحت هذه المرة)، حيث طلب البابا كيرلس السادس حضور الأب متى المسكين. وحينما حضر الأب متى المسكين مع وسيط المصالحة القمص صليب سوريال وفي حضور نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط، فاجأ البابا كيرلس السادس الأب متى المسكين بقوله: ”حاللني يا أبونا متى“! ولما تمنَّع أبونا متى سائلاً البابا أن يحاللـه هو، صمم البابا على طلب الحلِّ(*)، فقال له الأب متى المسكين: ”الله يحالك يا سيدنا ـ حاللني يا سيدنا“. ثم حضر الرهبان الذين معه يوم تذكار نياحة القديسة العذراء مريم، الجمعة 9 مايو 1969، وألحقهم بدير القديس أنبا مقار، وذلك في حضور وترحيب رئيس الدير نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط، حيث سلَّم له البابا مسئولية بعث الحياة الرهبانية في الدير وتجديد وتوسيع مبانيه. وانتقل البابا كيرلس بعد ذلك بفترة قصيرة إلى الأخدار السماوية راضي النفس ومستريح الضمير بهذه المصالحة.
في دير القديس أنبا مقار (1969 – 2006):
+ فالنشاط الزراعي والإنتاج الحيواني، هو نوع من العمل يُعتبر أحد وسائل النمو الروحي. ومن هناك ظهر التقدم الفني في:
1 – استزراع الصحراء.
2 – التجارب الزراعية (بنجر العلف وبنجر السكر والتين المجفف).
3 – في مجال الإنتاج الحيواني (ما يمكن للقارئ أن يرجع إليه بالتفصيل في كتاب: لمحة سريعة عن دير القديس أنبا مقار، ص 73–85؛ وكتاب: الرهبنة القبطية في عصر القديس أنبا مقار، ص 501-525).
وبعد جهاد في الرهبنة دام 58 عاماً في تكريس كامل للحياة الرهبانية، مُشيحاً بوجهه عن كل ما يعطله عن نموها وامتدادها والكشف عن غناها وعظم بركتها للكنيسة، تنيح بسلام في فجر يوم الخميس الموافق الثامن من يونيو عام 2006، اليوم الأول من بؤونة عام 1722 للشهداء، تاركاً تراثه العريض الغني من سيرة الحياة الزاخرة، وعظاته وتعاليمه المسموعة والمقروءة، ما ستسعد به الأجيال الحاضرة والمستقبلة، لاستعادة مجد الله في الكنيسة والخلاص في نفوس المؤمنين.
فلتكن صلواته وشفاعته معنا ومع الكنيسة كلها.
ولتهنأ الأجيال كلها بالتراث الطويل العريض الذي تركه الأب متى المسكين للكنيسة, من سيرة حياة عطرة فاضلة, وكنـز من التعليم المسموع والمقروء, ما سيسعد به كل من أراد أن ينهل منه ويعطي الآخرين طلباً للحياة الأبدية, ولمجد اسم الله القدوس. آمين