المتنيح القمص متى المسكين

Large image

نبذة عن حياته وجهاده
لقد كانت مسيرة حياة أبينا الطوباوي متى المسكين آية وقدوة للمؤمنين بالمسيح في طهارة حياته وصدق نيته في الحياة للمسيح، وفي احتماله المعاناة التي عاناها على مدى ما يقرب من 60 عاماً منذ دخوله الرهبنة عام 1948 وحتى انتقاله إلى حضن المسيح، في احتمال وشكر وشركة في آلام المسيح، على مثال الرسل والشهداء والقديسين.
وبالإضافة إلى ذلك ومن خلال هذه الحياة الزاخرة حمل مشعل العلم والتنوير الروحي واللاهوتي في الكنيسة بالمنهج الأرثوذكسي التقليدي: العُمق الروحي والخبرة الميستيكية Mystical الصافية, مع الالتزام بالأصالة والرجوع إلى الجذور الإنجيلية وتعاليم آباء الكنيسة, ولكن مع التقديم العصري المناسب لذهنية الحاضر, فأنار بهذا أجيالاً بأكملها بالتعليم الروحي والعقائدي المؤسس على كلمة الله وعلى التعليم الآبائي الأرثوذكسي, حيث فتح أمام القارئ العصري آفاق المسيحية وعمَّق في وجدانه المفاهيم والخبرات الحياتية المسيحية, كل هذا مسنوداً بسيرة حياته التي تشهد للتعليم الذي علَّم به في كل أرجاء الكنيسة في داخل مصر والخارج.
أبونا متى المسكين
سيرة مختصرة عن كتاب ”السيرة الذاتية لأبينا القمص متى المسكين“ الأب متى المسكين
سيرة حياة عطرة مفعمة بالآلام والضيقات والاختبارات الروحية،
ولكن مع وفرة في استعلان الحقائق الإلهية
+ وُلد يوم 20 سبتمبر سنة 1919 في أسرة كبيرة عدداً فقيرة معيشة.
+ كان وهو طفل صامتاً، ولكن يحاول أن يعرف كل شيء بنفسه. كان يتأمل منذ طفولته في الحياة ولكن في ما هو فوق الحوادث اليومية وهموم الأسرة، وهذا كان منذ أن كان ابن عشر سنوات.
قدوة الأم المنحنية الساجدة بالصلاة:
+ كانت والدته متدينة جداً. كانت تدخل غرفة خاصة فيمسك هو بملابسها بإصرار حتى تَسمح له بالدخول معها. وكانت تظل واقفة لعدة ساعات تصلي وتسجد، ولا تكفُّ عن السجود مئات المرات. وهو يحاول أن يقلِّدها فيسجد وهو يحس أن ذلك ضروري، فطالما أمه تسجد فيلزم أن يسجد معها، إلى أن يتعب فيقف صامتاً يتأملها، وكانت تمسك في يدها بمِسْبَحة وصليب. وكان يترقب دخولها الغرفة إلى أن تدخل فيطير قلبه من الفرح حينما تسمح له، ويبدأ يسجد معها.
+ وفي ليلة من الليالي رآها والده وهي تسجد وتصلي بينما رأى الصليب في يدها منيراً بصورة مُشعَّة جداً. فاشترى أجبية وبدأ هو الآخر يصلي صلوات الساعات. كان ذلك حوالي عام 1928 أو 1929. رؤيا السوَّاح:
+ في إحدى الليالي، وكان عمره 7 سنوات، وبينما آوى الجميع إلى فراشهم، وكانت أخته الكبرى تنام بجواره، وبعد منتصف الليل قام من فراشه، ورأى أمامه في الصالة الوسطى للبيت وعلى المائدة ثلاثة رجال بذقون طويلة ويرتدون ملابس حمراء وعباءة بشكل لم يَرَه أبداً. وكانوا يتحدثون معاً وأمامهم طعام (خبز وصحن جبن) وشمعة موقدة (وكانوا لا يستخدمون الشمع في البيت قط). ويقول أبونا متى المسكين في مذكراته: ”حاولت إيقاظ أختى فانتهرتني، وقالت إنها لا ترى أحداً. فلما ترجَّيتها كثيراً، قامت ورأتهم، ولكنها قالت: إنهم أصدقاء أبوك، ونامت. وظللت جالساً أتأمل فيهم فرحاً مذهولاً وهم ينظرون نحوي أكثر من ساعة حتى غلبني النعاس. وفي الفجر قمتُ وأيقظت أمي وإخوتي، فرأوا بقايا الخبز والجبن والشمع، فانذهلوا لأنه لا يوجد بالبيت شمع. ولأول مرة أسمع من أمي تقول عنهم إنهم "السواح المجاهدون"، وهم بركة عظيمة أن يزوروا البيت لأننا فقراء.“ + ”وقد زاد هذا الحادث من إحساسي برهبة الصلاة عندي منذ ذلك اليوم وحتى هذه الساعة، فلا أستطيع أن أُصلي إلا وأنا مُغمض العينين والدموع تسيل بلا كيل.“
الطفل المحروم من الكماليات، ولكن بالرضا والشكر :
+ لأن الأسرة كانت فقيرة، فلم يكن يتلقى مصروفاً أبداً، ولا يملك أي شيء مما يملكه جميع الأطفال من لِعَب أو ملابس خاصة أو أطعمة حلوة، ولكن، كما يقول هو: ”لم أكن أشعر بالحرمان أبداً، بل كنت راضياً به تمام الرضا، ولا اشتهيتُ هذه الأشياء، خصوصاً بعد أن دخلتُ المدرسة“. ففي فترات الفسحة كان يقف وحيداً، بينما يذهب الأطفال إلى الكانتين لشراء الحلويات والسندويتشات. وحينما يعزم عليه الأطفال مما معهم كان يرفض، ويعود بقلبه متعطِّفاً جداً على والده الفقير، مصمماً أن يعيش هذا الفقر اختيارياً.
+ وقد ارتبط في أعماقه هذا الشعور بالفقر الاختياري مع شعوره بدخوله مع أمِّه للصلاة في غرفتها الخاصة، فأحس بأن ما يناسب الصلاة جداً أن يعيش راضياً بالحرمان، وأن الشعور بالحرمان الاختياري مناسب ومقبول مثل الشعور بالفرح وهو يدخل مع أمه غرفة الصلاة.
الطالب الكفء والملتزم بجدية الدراسة والحياة:
+ في عام 1935 التحق بمدرسة شبين الكوم الثانوية، وكان يسافر كل يوم من منوف إلى شبين الكوم في القطار الممتلىء بالطلبة مثله. وكان ينقسم الطلبة في القطار إلى قسمين: قسم يمرح ويهرِّج، وقسم يلتف حوله داخل الديوان الذي يركب فيه إلى أن يمتلىء على آخره لسماع حديثه على هيئة سؤال وجواب. فقد وجد فيه الطلبة مُعيِناً لا ينضب من الرد على أسئلتهم الحائرة في كل الأمور. ”ولأني لا أحب الجدال ولا أتعالى في حديثي، لذلك لم يجد فيَّ المبارزون بالكلام أي مدخل. وظللت لمدة سنتين الصديق النصوح للطلبة وربما المثال الهادئ للسلوك والتفتُّح.“
+ وحينما كان يدرس في الجامعة، كانت المصاريف التي كان يحصل عليها من والده لكي يعيش في القاهرة ويدرس ويسكن ويشتري الكتب ويأكل طوال الشهر، كانت خمسة جنيهات من عام 1938 إلى عام 1943، فلم يكن يتوفر لديه آخر الشهر ولا مليم واحد.
القدوة المسيحية أمام غير المسيحيين:
+ كانت سمعته في الحيّ الذي يسكن فيه بالقاهرة في منيل الروضة، سمعة طيبة (كان يسكن منفرداً كطالب مغترب). ”وكانت صاحبة المنـزل تحكي للجيران عن سلوكي وأخلاقي، فكانوا يزدادون احتراماً لي.“ وذات يوم وبينما كان في المنـزل وباب الفرندة مغلقاً بالشيش فقط، سمع صاحبة المنـزل (مسلمة) وتسكن في الدور العلوي تقول للجيران في العمارة التي أمامهم عن سلوكه وكيف إنه لم يجرح شعور أحد من الجيران قط، وسبب اختلافه عن باقي الطلبة القاطنين في نفس المنـزل، فقالت لهم: ”لأنه مسيحي“!! يقول الأب متى المسكين في مذكراته: ”وقد أثَّرت فيَّ هذه الكلمة وأدركت قيمة الشهادة للمسيح بالسلوك. وكان هذا مصدر سعادة وتعويض لنفسي إذ لم أسمح لنفسي بأي سلوك يخرج عن اللياقة كل أيام حياتي بدافع شعوري أني لست محتاجاً لشيء، وأني لا أستطيع أن أُخالف ضميري الذي كان ملتصقاً بالله أشد الالتصاق في إخلاص وصدق.“
+ كان على علاقة ممتازة بزملائه الطلبة، لأنه كان يحترم الجميع ويحب الجميع ولا يرفض مجاملة المشاركة معهم في ضحكهم ومزاحهم في حدود اللياقة. ويقول أبونا متى المسكين: ”لقد كانوا يعملون لي حساباً في هذا، فكانوا يستحون جداً أن يتكلموا بالقباحة المكشوفة أمامي قط، وكنت صديقاً للمسلمين والمسيحيين على السواء.“
في معترك الحياة: النجاح في العمل ومحبة الجميع:
+ بعد تخرُّجه من كلية الصيدلة سنة 1944 تعيَّن بالتكليف العسكري في المستشفيات الحكومية، وبعد ذلك انخرط في العمل الحر، فقام بإدارة أجزخانة في الإسكندرية، ثم فتح أجزخانة في دمنهور. وكان العمل ناجحاً جداً وقد اشتهر بالأمانة والدقة، وأحب الناس وأحبوه، حتى أن سكان الأرياف حول دمنهور كانوا يتزاحمون في أيام السوق حول الأجزخانة لشراء أدويتهم، وكانوا لا يعرفون اسمه، بل يدعونه ”القبطي“. ويقول أحد زملائه القدامى إنه كان يعطف على الجميع دون فرق، بل المسلم قبل المسيحي. وكان إذا استشفَّ أن مريضه فقير لا يستطيع أن يحصل على الدواء، فكان يعطيه الدواء دون مقابل!
مبادئ حياة التأمل بدأت معه منذ الطفولة:
+ يقول الأب متى المسكين عن مشاعره هذه منذ طفولته: ”كانت هناك حركات روحية تجيش في أعماقي منذ طفولتي وأنا ابن أربع سنوات، كنتُ أحس بأني غريب عن إخوتي وأصدقائي، وكأني من عالم ولعالم آخر، حتى أن أسرتي لاحظت ذلك، وكانت تقدِّمني في اجتماع الصلاة وأنا طفل لكي أبدأ وأختم الصلاة. ولم أكن أتمنَّع قط. وكانوا حينما يعجنون الدقيق بالماء الساخن ويتركونه للتخمير يطلبون مني أن أغرس أصبعي في العجين وأرشم به علامة الصليب. وكم كانت العجنة ساخنة وأصبعي يُلْسع وأنا صامت!“
+ ويقول الأب متى المسكين عن نفس المشاعر وهو في فترة طفولته في المنصورة: ”كنت أختلس وقت الظهيرة والكل ينامون بعد الغذاء، وأخرج من المنـزل دون أن يشعر بي أحد وأذهب إلى شارع البحر، وهو قريب من المنـزل، وأسير على كوبري طلخا (يربط بين المنصورة وطلخا)، وأقف في منتصفه تماماً أتأمل النيل مدة طويلة وأسير على الشاطئ وأنا محمَّل بمشاعر غريبة تربط بين الصلاة والسجود وبين الطبيعة التي أمامي، البحر، الشاطئ، الأشجار الجميلة، الفلاحون عائدون من الأسواق.“
+ وحينما صار شاباً يقول: ”ازداد حنيني لله جداً، وازداد حبِّي له. فكنت بعد أن أنتهي من عملي بالأجزخانة، أذهب إلى منـزلي بدمنهور في الساعة 11 مساءً، وأبدأ أُصلِّي وأنا راكع حتى أفرغ من الأجبية، وأُبلِّل فراشي بدموعي. أين أجدك يا الله؟ لقد بحثت عنك في كل مكان فما وجدتُك: لا في العلم، ولا في السياسة، ولا في تعصُّبات رجال الدين، ولا في المال الذي بدأ يملأ خزانتي. فأين أجدك؟ سؤال ظل هو موضوع صلاتي ودموعي بالنهار أثناء العمل، وبالليل أثناء هذه الصلاة.“
+ ويقول الأب متى المسكين إنه بدأ يحس بسلطان يفوق إرادته ويعمل داخل كيانه. وطلب من الله بلجاجة أن يسهِّل خروجه من العالم لكي يعيش حُرّاً من بني الإنسان، أو بالحري ليعيش منتهى حريته في الله، أو على الإطلاق يعيش في الله.
اللحظة الحاسمة:
+ ظل الضغط الروحي في أعماقه يزداد، ووعيه للحياة الأبدية يتعمَّق، حتى حدثت المُفاضلة الفاصلة: بين أن يبقى في العالم يبيع ويشتري ويغتني ويعول أسرة؛ وبين أن ينطلق في رحاب الله، يحب، ويفرح، ويعرف، وينمو بلا قيود. وهكذا لم تستطع جميع المعوِّقات وكانت هائلة ومخيفة أن تمنعه من الانطلاق، فانطلق إلى الدير. وكان أول شاب متعلم جامعياً، يَلِجُ طريق الرهبنة في جيله، في شهر مايو 1948.
(يجب أن يلاحظ القارئ أن خريجي الجامعتين فؤاد الأول بالجيزة، وفاروق الأول بالإسكندرية، لم يكونوا يُعدَّون بعشرات الآلاف كما هو الآن؛ بل كل كلية كانت تُخرِّج كل عام عشرات فقط، ربما لا تتعدى المائة إن لم تنقص. وكان الخريجون من صفوة المجتمع أخلاقاً وعلماً ورِقيّاً حضارياً، ولم تكن مجانية التعليم قد طُبِّقت بعد، وكان وزير المعارف طه حسين في ذلك الوقت غير مُحبِّذ لها).
وهكذا ذهب إلى دير الأنبا صموئيل بصحراء القلمون، وقد اختاره لأنه أفقر وأبعد دير عن العمران.
الاختبار الرهباني: الصلاة ودراسة كلمة الله:
+ ”منذ أول يوم دخلتُ فيه الدير، دخلتُ الحياة مع الله بقوة وبساطة وعمق وهدوء. كنتُ أمضي الليل كله في الصلاة، لمدة ثلاث سنوات، لأني كنتُ إذا نمت أقوم في الحال، لأن النوم صار كحالة إنهاك تحتِّم عليَّ أن أقع وأستسلم للنوم عن انغلاب.“
+ ”أحببتُ الله حباً لا مثيل له، حبّاً سرياً بكل ما أملك، عن وعي وأصالة، ومقارنة بعمالقة الآباء في العهدين القديم والجديد. وهكذا كانت الإضافة العظمى لرصيد حياتي الروحية هي المعرفة بدقائق العهدين القديم والجديد، وفي تأملات عميقة واعية وصلاة عشتُ مع جميع شخصيات الكتاب، ودخلت في سر العلاقة التي تربطهم بالله، فكان هذا ينبوعاً أشرب منه وأرتوي وأمتلئ بالمعرفة والحق والنور كل يوم بلا شبع.“
وهكذا قضى في دير الأنبا صموئيل ثلاث سنين تقريباً ألَّف فيها كتابه الأول: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية.“
إنزاله إلى دير السريان للعلاج (مارس 1951):
+ وذلك إثر مرض أصاب عينيه وبمبادرة من المتنيح الأستاذ راغب مفتاح، وبعد ذلك توجَّه إلى دير السريان ليقضي فيه فترة قليلة حتى استرداد عافيته، فرسمه أسقف الدير قسّاً (19 مارس 1951) باسم ”متى المسكين“ على اسم القديس متى المسكين مؤسس دير بأسوان في أوائل القرن الثامن. واستأمنه نيافة أسقف الدير على تلمذة رهبان جدد كانوا قد أتوا لكي يترهبوا من تأثرهم بكتاب حياة الصلاة.
+ ثم استأذن من رئيس الدير أن يخرج ليحفر لنفسه مغارة تبعد عن الدير حوالي 40 دقيقة مشياً على الأقدام في الصحراء التي لا يحدُّها البصر. وفي هذه الفترة استقبله الأب المتوحد عبد المسيح الحبشي في مغارته لمدة أسبوعين لحين قيامه بحفر المغارة، حيث كان الراهب متى المسكين يخدم الأب المتوحد عبد المسيح الحبشي ويستلم منه حياة التوحُّد.
+ وفي هذه الوحدة المطلقة اختبر انطلاق الروح من كل قيود الجدران العالية والأمان المصطنع، حيث كانت الذئاب تزور مغارته في الليالي القمرية وتلعب أمام باب المغارة طوال الليل. كما نزل بالوادي ضبع كان يطوف حول المغارة، أما الثعابين فكانت تتعايش من فضلات أكله.
+ يقول الأب متى المسكين: ”كل هذا جعلني أحسُّ بالخليقة عن قرب وأمتدُّ في تأملاتي، لأني كنت أحبُّها وهذه الوحوش لم تؤذني قط“. ويستطرد في القول:
+ ”كنت أقضي الليل كله ساهراً متأملاً، وكل ومضة جديدة من المعرفة كانت تشعل روحي وتُلهب كل ملكاتي، فأقوم وأُصلِّي كثيراً، وأسجد، وأشكر بدموع، معترفاً بأني لستُ كفؤاً لأكثر من هذا.
وبالرغم من هذا، كنت أُدقق في صلواتي الطقسية وفروض السواعي بالليل والنهار بكتاب "الأجبية"، وحفظت مزاميره كلها عن ظهر قلب، وكانت لي مُعيناً عظيماً في عدم توقف التأمل أو برودة النفس.“
انتدابه وكيلاً بطريركياً في الإسكندرية (مارس 1954- مايو 1955) وخدمته الخالدة هناك:
+ في سنة 1954 (بعد 3 سنوات من الوحدة في المغارة)، دُعي للذهاب إلى الإسكندرية ليخدم كوكيل للبطريرك الأنبا يوساب الثاني، فرفض مرة وأخرى، وفي الثالثة أتاه الأسقف للمغارة، فلم يستطع الرفض لشعوره بالخجل ولإحساسه بأن الله معه. وفي الإسكندرية نظَّم الخدمة، وضبط المالية، ورتَّب طريقة إجراء الخدمات الطقسية دون إعثار المؤمنين بالتمادي في تحصيل الرسوم، ولكن أعاقه تكتُّل بعض الكهنة الذين تأذَّوا من التنظيم المالي للخدمات الطقسية، فبدأت الحرب ضده ثلاث مرات. فاستعفى وعاد إلى ديره في المرتين الأولى والثانية، وعاد تحت إلحاح الشعب والمجلس الملي وبموجب خطاب التأييد والتشجيع من البابا يوساب الذي قال عنه ضمن ما قال في خطابه: ”نهنئ ولدنا القمص متى بهذه المحبة التي تمكَّنت من قلوب الجميع. ... ونعلن لحضراتكم ولأبنائنا الشعب المبارك المحبوب ما نكنُّه لولدنا القمص متى من حُبٍّ وتقدير ورضاء لإخلاصه وصلاحه، وما كان من أثر خدماته لمدينة الإسكندرية التي يستحيل على غيره القيام بها.“ وفي الخطاب الثاني موجهاً إلى القمص متى المسكين: ”... إننا نعتمد على غيرتكم وإخلاصكم كما نعتمد على ما منحكم الله من حكمة أن تقوموا بعملكم مؤيَّدين بنعمة الله وتعضيدنا الكلِّي.“
+ أما في المرة الثالثة، فقد نجح ”أنصار التأخر والجهل“ (كما أسماهم المهتمون بالشئون الكنسية في ذلك الوقت) في إبعاد القمص متى المسكين، فصدر قرار بإعفائه. وانصرف إلى مغارته في دير السريان، حيث رفض كل المحاولات لإعادته ثانية، سواء من الشعب والكهنة والمجلس الملي، أو من الحكومة.
+ وبعد عودته تكاثر عدد الرهبان على يديه حتى بلغوا 12 راهباً.
إلى دير الأنبا صموئيل (20 يوليو 1956):
+ لم تكن الحركة المناوئة لـوجود الأب متى المسكين في الإسكندرية عارضة، بل كانت متصلة بالسياسة العامة للبطريركية في ذلك الوقت، حيث بدأ المطارنة يخشون من تولِّي الأب متى المسكين البطريركية بعد نياحة البابا يوساب، مما أدى إلى محاولات من أراخنة الكنيسة إقصاء البابا يوساب الثاني عن منصبه بسبب تغلُّب ”أنصار التأخر والجهل“ على سياسة الكنيسة. كما أن هذه السياسة انعكست أيضاً على وجود الأب متى المسكين في دير السريان فبدأ يحس بالمضايقة من رئيس الدير، وكان الذي توجَّس خيفة من كثرة الذين تتلمذوا له من الرهبان، والذين تأثروا من حياته وكتابه: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، فطلب من رئيس دير السريان الحِلَّ أن يعود إلى ديره الأصلي، فغادر الدير متوجهاً إلى دير الأنبا صموئيل، ثم تبعه الرهبان الاثنا عشر إلى هناك، فبدأوا في تعمير الدير وبناء القلالي الجديدة (30 قلاية). وظلوا هناك حوالي 3 سنوات.
إنشاء بيت التكريس لخدمة الكرازة بحلوان (1958):
+ في عام 1958 أنشأ الأب متى المسكين بيتاً للمكرسين من الشباب المتبتل الذين يرغبون في الخدمة – دون الرهبنة – وكان مقره المؤقت في حدائق القبة، ثم انتقل في أوائل عام 1959 إلى حلوان.
وقد انضم كثيرون من الخدام للبيت، كما كان يزوره الخدام من كل جهة، وكان الأب متى المسكين، حينما يتواجد في أوقات قليلة في البيت (إذ كان يقضى معظم وقته طبعاً في الدير)، كان يردُّ على أسئلتهم الروحية. فبدأ يكتب مقالات وكتباً تفيدهم في حياتهم الروحية وفي خدمتهم التعليمية في مدارس الأحد. وهكذا بدأ نشر سلسلة من الكتب بعنوان: ”مقالات تصلح للشباب والخدام“، و”لأعرفه وقوة قيامته“، ”العنصرة“،”الكنيسة الخالدة“، ”مع المسيح في آلامه وموته وقيامته“... إلخ. وقد بدأت تظهر لنا في هذه الكتب نعمة الإلهام في التعليم الروحي واستعلان المعرفة اللاهوتية الأرثوذكسية من خلال أحداث حياة المسيح وتعليم الإنجيل وكتابات وتعاليم آباء الكنيسة.
إلى صحراء وادي الريان (11 أغسطس 1960):
+ وتوالت أحداث سريعة، توجه بعدها الأب متى المسكين من دير الأنبا صموئيل في 27 يناير 1960 مع الرهبان الاثني عشر إلى بيت التكريس بحلوان وأقاموا فيه إقامة مؤقتة لحين صدور توجيهات البابا كيرلس السادس لاختيار الدير الذي يناسبهم. ولكن فوجئوا بقرار طردهم من القاهرة. فتوجهوا إلى صحراء وادي الريان (في سياحة إجبارية، وهي وادٍ ليس به ساكن، عميق جداً داخل صحراء قاحلة، حفروا في صخورها مغائر يسكنون فيها، وصاروا يشربون من عيون ماء مالحة آذت صحتهم جداً. وعاشوا جميعهم حياة التوحد والصلاة. وكان الله يرسل لهم طعامهم كل شهرين في قوافل جمال على يد أحباء لهم في القاهرة، وذلك لمدة تسع سنوات كاملات، يقول عنها الأب متى المسكين كما يلي: + ”في حياة صعبة، لقد كانت أصعب وأشقَّ فترة عشتها في حياتي.“
+ أسقف دير السريان يُعلن في إعلان بجريدة الأهرام بأنهم مجرَّدون من أسمائهم الرهبانية، بدون إجراءات محاكمات كنسية قانونية.
+ تعرُّض الآباء للتيه والهلاك في صحراء موحشة؛
+ مسئولية مرض الآباء وإعالتهم في هذا المكان القفر؛
+ تعرُّضهم للمهرِّبين للمخدرات، حيث كان هذا الوادي لبُعده عن الأنظار طريقاً مأموناً لهؤلاء المهرِّبين، الذين حاولوا القضاء على الرهبان، ظناً منهم أنهم من البوليس يحاولون القبض عليهم.
تكليف من البابا كيرلس السادس بعد 6 سنوات في الريان إلى ”القمص متى المسكين“:
ويقطع هذا الانعزال خطاب ودي يصل إلى الأب متى المسكين من قداسة البابا كيرلس السادس. ففي أوائل فبراير 1966، وبعد 6 سنين من المجيء إلى وادي الريان، فوجئ الأب متى المسكين وهو في وادي الريان بخطاب يصله من البطريركية يحمل مظروفه من الخارج ومن الداخل عنوان باسم ”القمص متى المسكين“، ووضح من عنوان ومضمون الخطاب أن البابا غير معترف بما نشره أسقف دير السريان من تشهير بالأب متى المسكين وبالرهبان الذين معه في جريدة الأهرام عام 1960؛ إذ أن البابا كان يدعوه في هذا الخطاب أن يرسل 3 رهبان من عنده إلى دير الأنبا صموئيل، وقام الأب متى المسكين بإرسال الرهبان إلى هناك حسب أمر قداسة البابا.
المصالحة الكبرى عام 1969:
وبعد 3 سنوات من هذا الخطاب، وبعد 9 سنوات من سُكنى الأب متى المسكين والرهبان في وادي الريان، نجحت محاولات المصالحة مع الأب متى المسكين (التي لم تكفُّ طيلة السنوات التسع، لكنها نجحت هذه المرة)، حيث طلب البابا كيرلس السادس حضور الأب متى المسكين. وحينما حضر الأب متى المسكين مع وسيط المصالحة القمص صليب سوريال وفي حضور نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط، فاجأ البابا كيرلس السادس الأب متى المسكين بقوله: ”حاللني يا أبونا متى“! ولما تمنَّع أبونا متى سائلاً البابا أن يحاللـه هو، صمم البابا على طلب الحلِّ(*)، فقال له الأب متى المسكين: ”الله يحالك يا سيدنا ـ حاللني يا سيدنا“. ثم حضر الرهبان الذين معه يوم تذكار نياحة القديسة العذراء مريم، الجمعة 9 مايو 1969، وألحقهم بدير القديس أنبا مقار، وذلك في حضور وترحيب رئيس الدير نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط، حيث سلَّم له البابا مسئولية بعث الحياة الرهبانية في الدير وتجديد وتوسيع مبانيه. وانتقل البابا كيرلس بعد ذلك بفترة قصيرة إلى الأخدار السماوية راضي النفس ومستريح الضمير بهذه المصالحة.
في دير القديس أنبا مقار (1969 – 2006):
+ فالنشاط الزراعي والإنتاج الحيواني، هو نوع من العمل يُعتبر أحد وسائل النمو الروحي. ومن هناك ظهر التقدم الفني في:
1 – استزراع الصحراء.
2 – التجارب الزراعية (بنجر العلف وبنجر السكر والتين المجفف).
3 – في مجال الإنتاج الحيواني (ما يمكن للقارئ أن يرجع إليه بالتفصيل في كتاب: لمحة سريعة عن دير القديس أنبا مقار، ص 73–85؛ وكتاب: الرهبنة القبطية في عصر القديس أنبا مقار، ص 501-525).
وبعد جهاد في الرهبنة دام 58 عاماً في تكريس كامل للحياة الرهبانية، مُشيحاً بوجهه عن كل ما يعطله عن نموها وامتدادها والكشف عن غناها وعظم بركتها للكنيسة، تنيح بسلام في فجر يوم الخميس الموافق الثامن من يونيو عام 2006، اليوم الأول من بؤونة عام 1722 للشهداء، تاركاً تراثه العريض الغني من سيرة الحياة الزاخرة، وعظاته وتعاليمه المسموعة والمقروءة، ما ستسعد به الأجيال الحاضرة والمستقبلة، لاستعادة مجد الله في الكنيسة والخلاص في نفوس المؤمنين.
فلتكن صلواته وشفاعته معنا ومع الكنيسة كلها.
ولتهنأ الأجيال كلها بالتراث الطويل العريض الذي تركه الأب متى المسكين للكنيسة, من سيرة حياة عطرة فاضلة, وكنـز من التعليم المسموع والمقروء, ما سيسعد به كل من أراد أن ينهل منه ويعطي الآخرين طلباً للحياة الأبدية, ولمجد اسم الله القدوس. آمين

المقالات (50)

14 أبريل 2025

الساعة الثالثة من يوم الاثنين مر ۱۱ : ۱۱ - ١٩

فَدَخَلَ يَسُوعُ أَورُشَلِيمَ وَالْهَيْكَلَ، وَلَمَّا نَظرَ حَوْلَهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ إِذ كَانَ الوَقتُ قَدْ أَمْسَى، خَرَجَ إِلى بَيْتِ عَنْيَا مَعَ الاثني عَشَرَ وَفِي الْعَدِ لَمَّا خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ عَنْهَا جَاءَ، فنظر شَجَرَة تين مِنْ بَعِيدٍ عَلَيْهَا وَرَقٌ، وَجَاءَ لَعَلَّهُ يَجِدُ فِيهَا شَيْئًا. فلمَّا جَاءَ إِلَيْهَا لَمْ يَجِدْ شَيْئًا إِلَّا وَرَقا، لأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَقتَ التّين ، فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «لا يَأْكُلْ أَحَدٌ مِنْكِ ثَمَرًا بَعْدُ إلى الأبد!». وَكَانَ تَلَامِيدُهُ يَسْمَعُون. وَجَاءُوا إِلى أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا دَخَلَ يَسُوعُ الهَيْكَل ابتدأ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفةِ وَكَرَاسِي بَاعَةِ الْحَمَامِ. " وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَجْتَارُ الهَيْكَلَ بِمَتَاعٍ. وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً لَهُمْ: «أَلَيْسَ مَكْتُوبًا: بَيْتِي بَيْتَ صَلَاةٍ يُدْعَى لِجَمِيع الأمم؟ وَأنتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغارة لصوص». وَسَمِعَ الْكَتَبَة وَرُؤَسَاءُ الكَهَنَةِ فطلبوا كَيْفَ يُهْلِكُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوهُ، إِذْ بُهِتَ الْجَمْعُ كُلُّهُ من تعليمه. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ، خَرَجَ إلى خارج المَدِينَةِ. لعن شجرة التين قصة في ظاهرها يبدو المسيح بشراً عادياً يجوع في ميعاد الأكل. ولكن في باطنها كالعادة مستور سر حياته وخدمته ورسالته كلها. فبعد هذه المدة كلها في الكرازة والخدمة اشتهى أن يأكل من ثمر التينة التي هي دائماً رمز لإسرائيل، فما وجد ثمراً يؤكل بل ورقا أخضر كناية عن مظاهر وأعمال بلا فائدة فقال لها لا يأكل من ثمرك أحد إلى الأبد، فكان. ثم عاد حينما جلس معهم فكشف عن سر التينة أن في آخر الأيام تزهر وتثمر من جديد كأنه جاء أوان إثمارها بعد اللعن: «فمن شجرة التين تعلموا المثل، متى صار غصنها رخصاً وأخرجت أوراقها تعلمون أن الصيف (وقت الحصاد) قريب. هكذا أنتم أيضاً متى رأيتم هذا كله فاعلموا أنه قريب على الأبواب». في الحقيقة إن موضوع شجرة التين يحتل جزءاً هاماً في هذه الأيام الأخيرة، وخاصة بعد أن بكى المسيح أورشليم ورثاها وتنبأ بخرابها . كل معجزات المسيح السابقة كانت بدافع المحبة وذات ثمر للمحبة واضح. فلماذا - إذن - هذه المعجزة وكأنها تأديبية لخليقة لا تحس ولا تشعر ؟ وبلا ذنب اقترف. فهي بهذا تختلف كثيراً جداً عن باقي أعمال المسيح الأخرى، لأنه لم يأت ليهدم بل ليكمل ويشفي ويحيي! ولكن واضح أن في هذا العمل كله نوعاً من الرمزية عنيفاً ومستتراً. ولهذا العمل علاقة جدّ شديدة وخطيرة بالموقف القائم بعد خدمة المسيح الطويلة وقد بلغت النهاية فعلاً، ببكائه على أورشليم وتنبئه بخرابها . أليس في هذا العمل تعبير عن مظهر الأمة اليهودية التي تبدو كشجرة التين الخضراء الجميلة من الخارج، وهي من الداخل عفنة شبه ميتة غير مثمرة البتة ! عَمِلَ فيها صاحب الكرم المستحيل لثلاث تعطيل لأرض السلام وتزييف لأشجار الله وإحباط لعمل المسيح الذي عمل ؟ لقد عُرفت شجرة التين بين الأشجار الطيبة أنها تكني عن الأمة اليهودية، وهذه الأمة اليهودية رفعت يدها على بعلها وجابلها تتوهم أن بقتله تستقل عن خالقها، فحكمت على نفسها بالهلاك لتخرج من دائرة ملكه قبل أن يُنصب هو ملكاً على الصليب.وهكذا كان لابد، وقبل أن تمد يدها بخلع «غصن يسى من أرض ميراثه، أن تتقبل اللعنة إلى الأبد. وما صنع المسيح بأكثر مما صنعت الأمة اليهودية في نفسها، فهي بواقعها الداخلي الذي تعفن وذبل واستقال من مجرى حياة مصيرها الموضوع تركت إلهها مصدر الوجود والحياة، فحكمت على نفسها - قبل أن تحكم على المسيح - بالفناء الوشيك. فالمسيح بلعن شجرة التين لم يزد عن مجرد إعلان وفاة قبل الحدث. ولم يشرح المسيح لتلاميذه معنى موت التينة، لأنه شرحه لما بكى على أورشليم. لقد رثاها بدموعه قبل أن يأمر بجفافها. وهناك هناك في بداية خدمته رأى هذه التينة عينها وتكلم عن قطعها: «كان لواحد شجرة تين مغروسة في كرمه - ولم يكن هذا الواحد إلا الواحد الوحيد -- فأتى يطلب فيها ثمراً ولم يجد. فقال للكرام: هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمراً في هذه التينة ولم أجد اقطعها. لماذا تبطل الأرض أيضاً؟». فبناءً على توسل الكرام أبقاها سنة أخرى، فلما جاء ميعاد التين ولم يجسد فيها ثمراً قطعها! «يا سيد اتركها هذه السنة أيضاً، حتى ألقب حولها وأضع زبلاً. فإن صنعت ثمراً، وإلا ففيما بعد تقطعها»! وهكذا لم يصنع المسيح إلا ما صنعه الكرام، ففك لغز المثل. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 أبريل 2025

جمعة ختام الصوم (لو ۱۳ : ۳۱- الخ)

في ذلِكَ الْيَوْمِ تَقَدَّمَ بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ لَهُ: اخْرُجْ وَاذْهَبْ مِنْ هَهُنَا لأَنَّ هِيرُودُسَ يُرِيدُ أَنْ يَقْتُلَكَ. فَقَالَ لَهُمُ امْضُوا وَقُولُوا لِهَذَا الثَّعْلَبِ: هَا أَنَا أُخْرِجُ شَيَاطِينَ، وَأَشْفِي الْيَوْمَ وَغَداً، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَكَمِّلُ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ أَسِيرَ الْيَوْمَ وَغَداً وَمَا يَلِيهِ، لأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَهْلِكَ نَبِيٌّ خَارِجاً عَنْ أُورُشَلِيمَ يَا أُورُشَلِيمُ يَا أُورُشَلِيمُ، يَا قَاتِلَةَ الأَنْبِيَاءِ وَرَاحِمَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَيْهَا، كَمْ مَرَّةٍ أَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ أَوْلَادَكَ كَمَا تَجْمَعُ الدَّجَاجَةُ فِرَاحَهَا تَحْتَ جَنَاحَيْهَا، وَلَمْ تُرِيدُوا هُوَذَا بَيْتُكُمْ يُتْرَكُ لَكُمْ خَرَاباً ! وَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَنِي حَتَّى يَأْتِيَ وَقْتٌ تَقُولُونَ فِيهِ: مَبَارَكَ الْآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ ]. أردت ولم تريدوا يشير الرب بهذا القول إلى المرات الكثيرة التي حاول الله فيها أن يجمع شعب إسرائيل إليه بحبه وحنانه بواسطة الأنبياء الذين أرسلهم مبكراً ومؤخراً. ولكن كانت النتيجة دائماً، كما في مثل الكرامين، أنهم رفضوه وأهانوا كل من أرسلهم كذلك فالرب يشير بهذا الكلام إلى تعاليمه وآياته ولطفه وإحسانه الكثير، الذي قصد به أن يجمع قلوبهم بكل إشفاق ومودة، فكانت النتيجة أنهم رفضوه ورذلوه. «أن أجمع أولادك» : الرب هنا يتكلم عن سر مشيئته التي من أجلها جاء ليجمع المتفرقين إلى واحد، إلى صدره الحنون وتحت ستر جناحيه وفي ظل منكبيه، ولكن انظروا ماذا فعلوا به عروا صدره الحنون وطعنوه وفردوا ذراعيه الحانيتين وسمروها على الصليب، والأرجل التي كانت تحول تصنع خيراً دقوها بالمسمار على الخشبة! وهكذا عوض أن يتجمع إلى صدره وستر جناحيه هؤلاء الأولاد الأشقياء بنو إسرائيل، تركوه تركوني أنا الحبيب مثل ميت مرذول»، وذهبوا وراء شهواتهم، وهكذا تركت الفراخ حضن الدجاجة ولم تعبأ بتوسلها وبندائها، فوقعت في مخلب الصقر المتربص وانتهت إسرائيل إلى خراب ولعنة ولكن الدعوة مجددة لك هنا أيها الصديق العزيز، فالجناحان الحانيان مفرودان على الصليب والجنب الحبيب يسيل بدم الشفاء والفداء. المسيحلا يزال ينادي خرافه ويرسل صوته مبكراً كل يوم ليجمعهم تحت ظل جناحيه إلى أن يعبر الشر، وهو لا ينادي فقط؛ بل ويجري وراء الخروف الضال ليبطل جهالته ولكن ليس إلى ما لا نهاية. «أردت ولم تريدوا» ربما تقول في نفسك من هو هذا الشخص المجنون الذي لا يريد ما يريده الله ؟؟ ولكن رؤساء الكهنة ومجمع السنهدريم وشيوخ الشعب وحكماء إسرائيل لم يكونوا مجانين بل كانوا متأكدين أنهم حكماء وعلى حق وكل الناموس في صفهم، وأنهم على صواب كل الصواب حينما يحكمون بأن يرفض المسيح بل يُصلب ولكن من أين جاء هذا الالتباس الخطير؟ جاء من حيث أنهم كانوا يعيشون حياتين حياة خارجية ظاهرها التقوى والتدين والتدقيق في أصغر طقوس العبادة، ثم حياة أخرى داخلية منحلة، كلها انتهاز فرص وأطماع وتكالب على الدنيا. وهكذا ضاعت منهم إرادة الحق، ورفضوا، بل استهزأوا بإرادة القدوس، لأن إرادتهم لم تكن في ناموس الله أبداً، ولا هم كانوا في ناموسه يلهجون والآن، هوذا الصوت يأتينا مجدداً اليوم. المسيح في ختام صومنا يسألنا: هل تريدون ما أريد؟ أنا أريدكم من نصيبي وأن تكونوا دائماً حيث أكون أنا، فهل تريدون؟؟ أريدكم بقلب وديع مثل قلبي، أريدكم تطلبون ملكوتي وبري، فهل تريدون؟؟ أريدكم أن لا تهتموا بهموم الدنيا؛ بل أن تحملوا نيري وأنا أحمل كل همكم؛ فهل تريدون؟؟ أريدكم أن لا تطالبوا بحقكم ولا تنتقموا لظلمكم، وأنا أرد لكم مائة ضعف؛ فهل تريدون؟؟ أريدكم أن تحبوا أعداءكم وتباركوا لاعنيكم وتحسنوا إلى مبغضيكم وتصلوا من أجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، وأنا أجازي، فهل تريدون؟؟ أريدكم أن تحملوا الصليب ولا تجزعوا من الصلب كما حملت أنا صليبي وطلبت عليه، فهل تريدون؟ أنا جزت هذا كله من أجلكم وغلبت العالم لتتشجعوا وتسيروا ورائي، فهل تريدون؟؟ والآن، لكي ننتقل من إنجيل اليوم لكي ندخل أسبوع الآلام، لابد أولاً أن نصفي حسابنا أولاً مع صوته القائل: كم مرة أردت و لم تريدوا؟»، لأنه إذا انتهت إرادتنا إلى هذا التعارض، فلا مناص من الدينونة الرهيبة، وسماع الصوت المحزن: هوذا بيتكم يترك لكم خراباً»! وإذ قد تم بالفعل خراب الهيكل وبقى خراباً إلى يومنا هذا، آية لصدق كلمة المسيح، فلا أقل من أن تشفق على أنفسنا من هذا المصير عينه، لأن هيكله هو نحن. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
08 أبريل 2025

يوم الثلاثاء من الأسبوع السابع (يو ١٢ : ٣٦ - ٤٣)

فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «النُّورُ مَعَكُمْ زَمَاناً قَلِيلاً بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلا يُدْرِكَكُمُ الظَّلامُ. وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظُّلامِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ. مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمنوا بالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ». تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهَذَا ثُمَّ مَضَى وَاخْتَفَى عَنْهُمْ. وَمَعَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ صَنَعَ أَمَامَهُمْ آيَاتِ هَذَا عَدَدُهَا ، لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، لِيَتِمَّ قَوْلُ إِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الَّذِي قَالَهُ: «يَا رَبُّ، مَنْ صَدَّقَ خَبَرَنَا ، وَلِمَنِ اسْتَعْلِنَتْ ذِرَاعُ الرَّبِّ لِهَذَا لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يُؤْمِنُوا. لأَنَّ إِشَعْيَاءَ قَالَ أَيْضاً: «قَدْ أَعْمَى عُيُونَهُمْ، وَأَغْلَظَ قُلُوبَهُمْ، لَتَلا يُبْصِرُوا بِعُيُونِهِمْ، وَيَشْعُرُوا بِقُلُوبِهِمْ، وَيَرْجِعُوا فَأَشْفِيَهُمْ». قَالَ إِشَعْيَاءُ هَذَا حِينَ رَأَى مَجْدَهُ وَتَكَلَّمَ عَنْهُ. وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ آمَنَ بِهِ كَثِيرُونَ مِنَ الرُّؤَسَاءِ أَيْضاً، غَيْرَ أَنَّهُمْ لِسَبَبِ الْفَرِّيسِيِّينَ لَمْ يَعْتَرِفُوا بِهِ، لِئَلَّا يَصِيرُوا خَارِجَ الْمَجْمَعِ، لَأَنَّهُمْ أَحَبُّوا مَجْدَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِنْ مَجْدِ اللَّهِ ] . إنجيل تصفية الحساب إنجيل هذا اليوم هو إنجيل تصفية حساب. الله يصفي حسابه مع شعبه الذي رفضه، فرفضه الله لعل يكون في إنجيل اليوم توعية لنا، لأنه إنجيل يحاصر النفس محاصرة لا يمكن أن تفلت منها. السؤال الذي حير ولا يزال يحير الجميع هو : لماذا لم يؤمنوا بالمسيح؟ المسيحجاءهم خصيصاً، إلى خاصته جاء»، فكيف رفضوه، لماذا رفضوه؟! جاءهم المسيح بحسب المواعيد تماماً، وفق النبوات بالحرف، كل العلامات التي أشارت إليه تمت فيه. ولكن العجب أن الرؤساء اجتمعوا به وهو في الهيكل في عيد التجديد، وقالوا له: إلى متى تعلّق أنفسنا ؟ إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً. فكان رده في منتهى الوضوح قد قلت لكم ولم تؤمنوا. والقديس يوحنا يعطي سبباً عجيباً لعدم إيمانهم، يقول: «لأنه قد أعمى عيونهم، وأغلظ قلوبهم، لئلا يبصروا بعيونهم ويشعروا بقلوبهم ويرجعوا فأشفيهم». واضح هنا أن الشعب وبالأكثر المعلمين والرؤساء أصبحت لهم عيون عاطلة وآذان صماء، فكان أن الرب أسلمهم إلى ذهن مرفوض، فأكمل عماهم وأكمل صممهم وأغلظ قلوبهم فوق غلظتها. في الحقيقة ، هذا الأمر مهم جداً، وفيه خلاصنا الله وضع في الإنسان روحاً، والروح هي المركز. والمركز الروحي للروح الذي تعمل به له أيضاً عينان وأذنان وقلب، ولكن كلها من طبيعة روحية. وهذا المركز، أي جهاز الفطنة الروحية والوعي الروحي هو جهاز روحي حساس إلى أقصى الحدود، ولكنه مُعرَّض لثلاث ضربات يمكن أن تصيبه: الضربة الأولى: هي أن الجهاز لا يعمل، أو بمعنى أصح تركناه ليعمل في أمور أخرى كثيرة في العالم، نعم ربما أشياء ليست رديئة أو بطالة، ولكن هذا الجهاز الحساس هو موضوع بالأساس لكي يتحسس به الإنسان صوت الله، يفهم كلام الله وماذا يريد أن يقوله. هنا طالما أن الجهاز لا يعمل فلابد أن يفسد ولا يعود صالحاً للعمل. وفي الحقيقة هذا الكلام ينطبق تماماً على المستوى المادي، فالجهاز الذي يترك فترة ولا يستخدم يخرب من ذاته. الضربة الثانية هي أن الإنسان يعمل بالخطية. الخطية عنصر سلبي وعنصر فتاك بالنسبة للجهاز الروحي، وهو قادر أن يؤذيه ويُفسده تماماً لدرجة أنه قادر أن يقضي عليه. فلا يعود يسمع أو يفهم أي كلام روحي ينصد عن الأمور الروحية، ولا يعود لديه رغبة في الذهاب للكنيسة أو للصوم أو قدرة على محبة الله أو الناس. هنا الجهاز تالف، الخطية ضَرَبَتْهُ بسهمها، جعلته غير صالح. يقول إشعياء وعنه نقل الإنجيليون: «سمعاً يسمعون ولا يسمعوا، نظراً ينظرون ولا ينظروا» هم رأوا المسيح ولم يستفيدوا، سمعوه وكأنهم لم يسمعوا شيئاً. الضربة الثالثة: ضربة ملعونة ضربة مريعة جداً، هي الضربة القاضية. فإذا استمرأ الإنسان الخطية وأحبها، يبتدئ تتكون فيه عداوة ضد الله، يكره الكنيسة، يكره الإنجيل يكره أن يسمع كلام الحياة، لا يطيق الوعظ، لا يتحمل أن أحداً يوبخه، صار فيه بغضة طبيعية ضد الله، وهذه البغضة تزيد البعد عن الله. وهكذا في دائرة شيطانية لا تنتهي. وهنا الرب يطمس عينيه ويسد أذنيه ويُغلظ قلبه ويجعله لا يفهم أي أمر روحي على الإطلاق. ولكن لماذا؟! الرب يقول: لأنه احتقرني رفضني، أتلف جهازي داخله، جعله يعمل لنفسه وليس لي } .في الحقيقة، إن الكلام حتى الآن سلبي، ولكن الواقع أن الجهاز يعمل إيجابياً وليس سلبياً. فطالما أن الإنسان يسير مع الله، تزداد حساسية الجهاز، وتزداد قدرته على اللقط وتزداد قدرته على التسجيل، وتنفتحأذنه الروحية بأقصى حساسية، وباختصار ينفتح وعيه الروحي أكثر وأكثر. في الحقيقة نحن معرضين كل يوم لمثل هذا : إما أن نغلق الجهاز ونخرج للكلام والرغي والذهاب هنا وهناك ونُضيع اليوم، واليوم يصير اثنين وثلاثة، وبالطبع عندما نقف للصلاة لا نجد نفساً، ترفع يدك توجعك، تقف تتعب لا تجد روحاً، لا تسمع صوتاً... ولو أنت تماديت فإن الأسبوع سيصبح أسبوعين وثلاثة وسنة وأكثر ... ماذا يعمل الرب هنا؟ لقد صار الجهاز تالفاً، ويحتاج الأمر إلى صراخ شديد من الله لكي بحنانه ورحمته يُغير القطع التي تلفت وتعود للجهاز إمكانياته الأولى. مع أنه يكفي ولو نصف ساعة كل يوم تشغل فيهم الجهاز، فتضمن عدم تعطله، بل يزداد عافية. لو كل يوم نراجع فيه صوت الله ونسمع ماذا يريد أن يقوله لنا، يكون من المستحيل أن يحدث أي ضرر للجهاز. الخطورة، كل الخطورة أن نستهتر، ونستخف بالكلام الذي نسمعه، هنا نسمع ما قاله يوحنا: لهذا لم يقدروا أن يؤمنوا» انتهت منهم قدرة الإيمان. لماذا؟ لأن الله أعمى عيونهم. الله يرحمنا. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
01 أبريل 2025

يوم الثلاثاء من الأسبوع السادس (لو ۹ : ۱۸ - ۲۲)

وَفِيمَا هُوَ يُصَلِّي عَلَى الْفِرَادِ كَانَ التَّلَامِيذُ مَعَهُ. فَسَأَلَهُمْ قَائِلاً: «مَنْ تَقُولُ الْجُمُوعُ أَنِّي أَنَا؟». فَأَجَابُوا وَقَالُوا: «يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: إِنَّ نَبِيًّا مِنَ الْقُدَمَاءِ قَامَ». فَقَالَ لَهُمْ: «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ أَنِّي أَنَا؟» فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ: «مَسِيحُ اللَّهِ!». فَانْتَهَرَهُمْ وَأَوْصَى أَنْ لَا يَقُولُوا ذلِكَ لَأَحَدٍ. قَائِلاً: «إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيراً، وَيُرْفَضُ مِنَ الشَّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي الْيَوْمِ الثالث يَقُومُ . بعد أن أكمل الرب يسوع تعاليم كثيرة ومعجزات هذا عددها، أراد أن يتعرف على إيمان الشعب ماذا يقولون عنه البعض قال إنه يوحنا المعمدان، والبعض اعتقد إنه إيليا، والبعض حسبوه إرميا النبي. طبعاً كان هذا تقريراً محزناً للرب. وهنا سأل تلاميذه: وأنتم من تقولون إني أنا؟ فكان جواب بطرس أنه مسيح الله، ويضيف عليها القديس متى إنه قال إنه ابن الله الحي.ولكن المسيح أراد أن يُصحح لتلاميذه رؤيتهم عنه، قال لهم: إن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً ويُرذل ويُقتل. كانوا يظنوه مسيا السياسة، الملك العظيم الآتي ليعيد لإسرائيل ملكها وسلطانها وعلى هذا كانوا كثيراً ما يتشاجرون على الأولوية من المستحق لمكان الصدارة، من هو السكرتير العام؟ ولكنه، ليس مسيا السياسة؛ إنه مسيا الصليب كان هذا مصدمة لهم، كانوا يعرفون أن المسيح سيبقى إلى الأبد. لم يكن داخل في اعتبارهم موضوع الصليب لم يتعرفوا على المسيح في حقيقته.في الحقيقة إن الكلام عن المسيح صعب للغاية، وهو إن لم يكن عن اختبار وعن شعور صادق ووعي، يكون رغي وبلا قيمة. لذلك صليت كثيراً، وبكيت وطلبت وقلت له: لابد أن أعرفك حتى أستطيع أن أعلنك. لابد أن تساعدني وتفتح ذهني لكي ينطق لساني بحقيقة نفسك ولاهوتك. فأخذت أكتب قليلاً قليلاً كلمة كلمة وكأنها آتية من وراء الدهور، لكن كنت أكتب و شاعر بكم وأنتم أمامي، فلابد أن آخذ منكم وأعطيكم، بمعنى: لو أنتم غير موجودين، لكان من غير الممكن أن أتكلم، ولا كان يأتي لي كلام. قلت: مناجاة يا ربنا يسوع، أنت أعلنت لنا الله في ذاتك، فأنت هو الله المنظور والمسموع لنا . كل صفات الله التي سمعناها سماع الأذن رأيناها فيك، كل ما كانت البشرية تشتهي أن تعرفه عن طبيعة الله، أعلنتها لنا في ذاتك كنا نتحرق شوقاً بين أنفسنا أن نعرف ما هي أفكار الله عنا؟ فعرفناها ولمسناها في كلماتك مع السامرية والكنعانية والأطفال الصغار ولمسات يدك وعطفك الفائض على الأبرص والمشلول والأصم والأعمى، كلها أحسسنا بها، ففرحنا بالله، إن كان الله هو أنت. كل إنسان منا كان يسأل: ما هو شعور الله الخاص من جهة إنسان مولود أعمى؟ فعرفنا ولمسنا شعور الله في كلمات حبك ولمسات يدك على عينيه. كنا نسأل في خجل، كخجل الأطفال، هل الله له سلطان على الرياحالعاتية وأمواج البحر الهائجة هل يستطيع أن يوقفها؟؟ فلما انتهرت الريح، وأبكمت البحر بكلمة سلطانك وهدأ ذاك وصمت ذلك، فرحنا بسلطان الله المنحاز لجبلتنا فيك. كنا نسأل، هل الله يعتني بإنسان تائه في برية جائعاً عطشاناً؟ فلما أشبعت الجموع في البرية من خبزات الشعير الخمس والسمكتين الصغيرتين وفاض عنهم، وثقنا بحنان الله في حنانك، وتمثلت في مشيئتك كل مشيئة الله من نحونا. كنا نسأل: هل موازين الله كموازين البشر؟ هل الخاطئ المنبوذ عند الناس، يكون كذلك حتماً عند الله؟ فلما قلت للزانية: اذهبي بسلام، أنا لا أدينك، تأكدنا إنك أنت أنت هو الله، ولست إنساناً مثلنا، ترى ما لا تراه وتحكم بما هو فوق أحكامنا، ففرحنا أن لنا عند الله رحمةً غير موجودة عند بني جلدتنا. سلطان الموت علينا كان ينازع سلطان الله في إيماننا، وكان يرعبنا، فلما أقمت الميت من القبر بعد أن أنتن عززت إيماننا بسلطان الله، وآمنا أنه سلطانك، وتراجع الموت بسلطانه من قلوبنا. ولكن، بعد أن أخليت ذاتك من مجد لاهوتك عجزنا أن تلاحق صفات الله فيك، في الحب والحنان والوداعة والاتضاع، بل القوة والسلطان والمعرفة الفاحصة لما وراء الزمن وما خفي في أعماق الإنسان. فماذا يا رب نحن عاملون، إن أردنا أن نصفك قبل أن تخلي ذاتك من مجد لاهوتك؟ أو بعد أن أكملت رسالتك في تجسدك وجلست على عرش مجدك ؟ شيء واحد يتراءى أمامنا عن يقين؛ إن كان الله الذي لم يره أحد قط مثلك؛ فهو بالتأكيد إله صالح، ويجدر بنا أن نحبه ونعبده فيك من كل القلب والنفس وكل القدرة. إن كان الله هو وحده القادر على تفتيح أعين الأعمى وإقامة الموتى من القبور؛ فأنت هو الله بالحق والحقيقة. وإن كان الله وحده الذي له أن يغفر خطايا العالم كله، ويمسح الذنوب والآثام عن بني الإنسان جميعاً، بل ويرفعها بكل ثقلها من القلب ومن الضمير، بل ويغرس عوض عنها القداسة والكمال؛ فأنت بالذي عملته، أثبت أنك أنت هو الله. يا سيدي يسوع المسيح، أنت وحدك الذي قدَّمت بذاتك أعظم تعبير عن الله، وحملت أصدق وأجمل صفات الله وعملت أجل أعمال الله، بل ومارست حبه من نحونا وأكملت سلطانه. يا سيدي يسوع المسيح، قول أخير أقوله: نحن وجدنا الله فيك، أنت وحدك الجدير أن تمتلك ليس فقط قلبنا، بل قلب العالم كله . المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
25 مارس 2025

يوم الثلاثاء من الأسبوع الخامس (یو ۸ : ۱۲ - ۲۰)

ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضاً قَائِلاً: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلَا يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ». فَقَالَ لَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ، لَأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَا تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي وَلَا إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. أَنْتُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ تَدِينُونَ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ أَدِينُ أَحَداً. وَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدِينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ، لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَلْ أَنَا وَالآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَأَيْضاً فِي نَامُوسِكُمْ مَكْتُوبٌ: أَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حَقٌّ أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي». فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ هُوَ أَبُوكَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لَسْتُمْ تَعْرِفُونَنِي أَنَا وَلَا أَبِي لَوْ عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُمْ أَبِي أَيْضاً». هذَا الْكَلَامُ قَالَهُ يَسُوعُ فِي الْخِزَانَةِ وَهُوَ يُعَلِّمُ فِي الْهَيْكَلِ. وَلَمْ يُمْسِكُهُ أَحَدٌ، لأَنَّ سَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ قَدْ جَاءَتْ بَعْدُ . أنا هو نور العالم «ثم كلمهم يسوع أيضاً قائلاً : أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة». نحن الآن في عيد المظال، وكان يُجرى فيه طقس يسمى طقس النور، ويتم فيه إيقاد ٤ منارات مرتفعة داخل الهيكل، وكان هذا تذكاراً لعمود النور الذي أرسله الله لهم ليقودهم في برية التيه أثناء الليل. ولكن .. كان عمود النور هذا وقتياً، أما المسيح، فهو النور الذي جاء لينير العالم دائماً وإلى الأبد. وحينما يقول المسيح: «أنا هو نور العالم»، فهو يعني نور الحياة، هو النور المعطي الحياة، والتي لخصها ق. يوحنا فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، فالحياة في المسيح هي نور العالم. لقد دخل النور الحقيقي إلى العالم ملتحفاً جسد إنسان، وهو أصلاً اللابس النور كثوب جاء لينير البشرية من داخل كيانها، فصارت حياة الإنسان نوراً بعد أن كان يتخبط في ظلمة العالم. لقد استنارت حياة الإنسان بالنور الإلهي، فأنارت وصارت أنواراً في العالم: «أنتم نور العالم». ولا يزال المسيح هو هو عمود النور الذي يسير بالبشرية المستنيرة به وبالله، في طريقها الضيق الحرج، داخل برية العالم المظلم، يقودنا خطوة بعد خطوة. والذي يتبع النور لا يشعر بليل العالم، ولن تدركه الظلمة، هذه حقيقة يدركها كل من استنار بالمسيح والتصق به: الرب نوري وخلاصي ممن أخاف والواقع إن الطبيعة البشرية بالنسبة للنور الإلهي مظلمة خاطئة يدب فيها الموت، وشعاع الله لم يكن ينفذ إليها أبداً، ولكن حينما استعلن لنا الرب الطبيعة الإلهية التي فيه، وصيرنا شركاء فيها، هنا نفذ النور الإلهي إلى أعماقنا، فأدركنا طبيعة الله وأسراره واستنارت عقولنا وقلوبنا بفكره ومشيئته وكلماته. وهكذا دخل النور أي الطبيعة الإلهية، إلى طبيعتنا العمياء الخرساء، فتغيرت وتجددت، وصارت لها أذن تسمع ما لم تكن تسمع، وعين ترى ما لم تكن ترى، وقلب يستطلع بالروح حتى أعماق الله، وروح تحيا مع الله. « أنا هو نور العالم ». هذا القول يستحيل أن ينطقه إلا الله وحده: «وقال لي اكتب، فإن هذه الأقوال صادقة وأمينة... والمدينة لا تحتاج إلى شمس ولا إلى قمر ليضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والخروف سراجها، وتمشي شعوب المخلصين بنورها ... لأن ليلاً لا يكون هناك». وإشعياء النبي يصف هذا الإشراق العجيب في ملء الزمان بالنسبة للكنيسة هكذا: قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك، لأنه ها هي الظلمة تغطي الأرض والظلام الدامس الأمم، أما عليك فيشرق نور الرب (أنا) هو نور العالم ومجده عليك يرى. فتسير الأمم في نورك، والملوك في إشراقك»، ويقول في موضع آخر: «لا تكون لكِ بعد الشمس نوراً في النهار ولا القمر ينير لك مضيئاً، بل الرب يكون لك نوراً أبدياً وإلهك زينتك. لا تغيب بعد شمسك وقمرُكِ لا ينقص، لأن الرب يكون لك نوراً أبدياً» والعجيب أنه بعد أن قال المسيح : أنا هو نور العالم"، قام بتفتيح عيني المولود أعمى، لتتم النبوة: «أنا الرب لقد دعوتك بالبر، فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهداً للشعب، ونوراً للأمم، لتفتح عيون العمي، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة». وهنا يجمع النبي معاً بين النور وتفتيح العيون. أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة». كان عمود النور الذي قاد شعب بني إسرائيل في القديم هو رمز، كان نوراً خارجياً، ولكنه لم يدخل داخلهم؛ ولكن جاء المسيح، النور الحقيقي، لينير من الداخل. لكي يصير فينا لكي نأخذ هذا النور، لكي نحتويه ونمتلكه في داخلنا فتتحول فينا الرؤية إلى حياة أي يكون لنا نور الحياة وبالتالي نتبعه ولا نمشي في الظلمة. وهنا التبعية ليست ظاهرية، إنها تبعية داخلية بالكلمة؛ بمعنى السير إثر وصاياه. ماذا ستكون النتيجة عندئذ؟ سنكون بني النور، مولودين من النور مولودين من المسيح؛ لا لأننا صرنا نوراً؛ ولكن لأننا احتوينا النور، صار لنا نور الحياة. لأجل هذا هو قال: فليضئ نور کم هكذا أمام الناس، حتى يستعلن المسيح الذي فينا يلزمنا جداً أن نفهم أننا في رحلتنا إلى الأبدية نحن نسير في عالم الظلمة، عالم موضوع في الشرير تفعل فيه الخطية ما تشاء في الفكر والجسد، هنا جاء المسيح إلى العالم، لكي ينير للمؤمنين باسمه طريق الحياة من داخل العالم.في الحقيقة، إن الإنسان الذي ينير له المسيح سوف يرى أعز ما في العالم وكأنه ظلمة، سوف يكتشف الجهالة التي فيه. لذلك حق قول المسيح: من يتبعني فلا يمشي في الظلمة. لقد صار المسيح بالنسبة لنا هو عمود النور لرحلتنا السعيدة إلى الوطن السماوي على أساس أن نحتويه داخل قلوبنا، فيصبح سراجاً لأرجلنا ونوراً لسبلنا.والمسيح عندما قال: «أنا نور العالم هنا النور موصل، نور متحرك، نور ليس جامداً، ولكنه فعل يقود الإنسان، يعلن للإنسان حقائق العالم والحقيقة الأبدية. وهكذا المسيح يقود النفس من نور إلى نور، أي من حق إلى حق الإنسان الذي يجلس كل يوم ساهراً أمام المسيح، هذا الإنسان تنسكب الكلمة داخله بغنى، وينكشف له الحق، ويُبكت من الكلمة وتنكشف حقائق الحياة وحقائق نفسه، ويُعدّل ويُصحح المسيرة. فإن لم يمسك الإنسان بكلمة الحياة جداً، ويأخذ المسيح كشخص حقيقي وكمصدر للنور والحركة؛ فهذا الشخص لابد أن يتوه في متاهة هذه الدنيا، ليس فقط ٤٠ سنة كالشعب القديم؛ ولكن تتوه ٨٠ سنة ولا تفوق إلا آخر لحظة وتجد أن الوقت قد فات ولا فائدة أو مكان للتوبة. فالعالم هنا هو عالم تيه، ما لم يقودنا نور المسيح المسيح نور، ولكن نور فقط للسائرين، والذين يتبعونه يكون لهم النور في داخلهم، يقودهم للوطن السماوي. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
18 مارس 2025

يوم الثلاثاء من الأسبوع الرابع (لو ٩ : ٥٧ - ٦٢)

وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ فِي الطَّرِيقِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ: «يَا سَيِّدُ، أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي» . قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لِلعَالِبِ أَوْجِرَةٌ وَلِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْ كَارٌ ، وَأَمَّا ابْنُ الْإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ أَيْنَ يُسْنِدُ رَأَسَهُ». وَقَالَ لَآخَرَ : «اتَّبَعْنِي». فَقَالَ: «يَا سَيِّدُ ائْذَنْ لِي أَنْ أَمْضِيَ أَوَّلاً وَأَدْفِنَ أَبِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللَّهِ». وَقَالَ آخَرُ أَيْضاً: «أَتْبَعُكَ يَا سَيِّدُ، وَلَكِنِ الْذَنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ الَّذِينَ فِي بَيْتِي». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «لَيْسَ أَحَدٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى الْمِحْرَاتِ وَيَنْظُرُ إِلَى الْوَرَاءِ يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ اللَّهِ ] . تبعية المسيح إنجيل هذا القداس هو عن الدعوة لاتباع الرب، هذا الإنجيل يخصنا في الصميم. أعطانا فيه المسيح ٣ أمثلة، تبلورها في البداية لكي تكونوا على وعي بها، وكلها واقعة تحت الخداع الأول شخص واقع تحت خداع المظاهر، الثاني: شخص واقع تحت خداع المجاملات، الثالث: واقع تحت خداع العواطف. الشخص الأول: «يا سيد أتبعك أينما تمضي». المنظر يبدأ هكذا كانت الرفقة تسير مع يسوع ملتفين حوله في سعادة غامرة، يسألون يسوع وهو يجيبهم بأحاديثه التي لا يمكن أن يجاريها حديث قيل عنها: إنه «ليس كالكتبة والفريسيين»، وإنه « لم يتكلم قط إنسان مثل هذا الإنسان». هذا الكاتب أخذ بالجماعة السائرة التي تتحدث بفرح وسعادة عن ملكوت الله، فكر في نفسه: لماذا لا يتبع ذلك المعلم كفاه قوانين الناموس وتعقيدات التلمود. لم يدر هذا الكاتب أن هذا الفرح والسرور وهذه البهجة ثمرة نباتها مر علقم، نباتها اسمه الضيقة. وبدون الضيقة لا يمكن لإنسان أن يذوق فرح ولا بهجة سماوية انخدع الكاتب بالمظهر الخارجي لأنه وجد أن كلام المسيح شهي، حياة تبدو أنها جميلة جداً، لم يكن يعلم ما وراءها، لم يعمل حساب النفقة طبعاً الذي تغره المظاهر من المستحيل أن يسأل عن الأتعاب التي وراءها. هذا المعلم الذي تريد أن تتبعه أيها الكاتب وراءه صليب يُحمل من دون الصليب لا يمكن أن يكون هو معلم صح، ولا أنت تلميذ صح كان رد المسيح لهذا الشخص، كما لكل إنسان: «للثعالب أوجرة ولطيور السماء أوكار، أما ابن الإنسان فليس له أن يسند رأسه». لم يقصد المسيح أن ييس هذا الكاتب، ولكن أن يُوَعيه، فإن كان هو يطلب حقاً الفرح الحقيقي الذي يدوم معه، لابد عليه أن يُفرِّط، لابد أن يترك الأرض التي هو ممسوك بها والمواريث التي تقيده وكل ما يتعلق بالماضي والحنين إليه قال له المسيح: أنا ليس لي مكان أستريح فيه على الأرض، مكان راحتي هو في قلب الآب؛ فإن كنت تراني فقط كإنسان يستطيع أن يعطيك ما تطلبه وما ترتاح له، فأنت مخطئ. أما إن كنت تستطيع أن تبقى كالثعالب وكالطيور، لا يكون لك جحر يأويك وعش ترجع إليه، تكون كطائر سماوي، هنا فقط تقدر تتبعني.المسيح هنا يضع الحد الفاصل بين أهداف مربوطة بالأرض وأهداف مربوطة بالسماء. الله قال لإبراهيم: اخرج من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك. دعاه ليخرج من وطنه الأكبر أي أرضه، ومن وطنه المتوسط أي عشيرته، ثم يخرج من وطنه الأصغر أي بيته. هذه هي الأشياء التي تحجبه عن الله، التي تمنعه من الاستمرار في المسيرة السماوية. قال له اترك كل هؤلاء! أطاع إبراهيم. ولكن كيف استطاع إبراهيم أن يطيع، على أي أساس، ونحن نقول إنَّ الغريزة تتملك في الإنسان مثل هذا التملك؟! اسمع أعجب ما في الإنسان إنه يحوز غريزة أقوى، غريزة الخلود، غريزة الحياة الأبدية. هذه الغريزة هي الأفضل وهي الأقوى، إذا صحيت في الإنسان تخمد الغريزة الجسدية، لا يعود لها وجود. لذلك سمع إبراهيم الصوت وأطاع، لأن صوت الله أحيا فيه الحنين إلى ما فوق. الشخص الثاني هنا الرب هو الذي يدعو : وقال لآخر اتبعني. فقال يا سيد الذن أولاً أن أمضي وأدفن أبي كلمة: أولاً، أتعبت المسيح جداً، المسيح لا يلقي الدعوة جزافاً، إنه يدعو إنساناً وجده مستحقاً وجديراً بالدعوة، إلا أنه أحس بأن هناك ربط تكبله بالأرض ولا تجعله قط قادراً أو مهياً لملكوت الله فانتهز له فرصة أو بالحري مأزق ومحك شديد، دعاه لحظة وفاة أبيه وهو ما يزال بعد في البيت لم يُدفن. هذا الإنسان كان . مربوطاً بالأصول والواجبات، دعاه المسيح وهو في أحرج المواقف، ولكن كان قصد المسيح أن يحرره إلى الأبد من ربط المجاملات التي كانت كفيلة بأن تطمس معالم الحياة الأبدية من قلبه إلى الأبد. هذا الموقف نجح فيه أنطونيوس، ترك أباه، وانطلق. الشخص الثالث: أتبعك يا سيد، ولكن ائذن لي أولاً أن أودع أهل بيتي». هذا هو الشخص المربوط بالعواطف والمجاملات، المسيح استطاع أن يفكه منها. في الحقيقة إن الذي يحب أهل بيته أكثر من الله إنما هو يهين الله، والذي يحب العالم يكون عدواً لله . «محبة العالم عداوة لله». لذلك حقاً قال المسيح: «أعداء الإنسان أهل بيته». قصة بنت يفتاح في العهد القديم، التي أمر أبوها بتقديمها ذبيحة، فقالت له: أعطني مهلة 3 شهور أبكي فيها عذراويتي، ثم اذبحني بعدها. وكأني بهذا الرجل يريد أن يبكي عذراويته يبكي موته. يذهب إلى الحياة ليبكي موته! هنا معكوسة. المسيح لا يدعو إلى الموت، إنه يدعو إلى الحياة. هل الشخص المدعو للحياة يذهب ليودع الموت والموتى!! مشورة الجسد مسمومة هذا الشخص يريد أن يعود للجسد ليتلقى قبلة الأم، فتكون سهماً في قلبه لا يعرف أن يتخلص منه للأبد. كان رد المسيحعليه أشد الردود جميعاً، وأكثرها قطعاً ومنعاً: «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله». المحراث هو الإنجيل، والذي يحرث لابد عليه أن ينظر لفوق حتى تخرج الخطوط مستقيمة. أن ننظر للوراء معناه أن المحراث سوف يفلت منا، معناه حرث معوج، معناه إهانة لله الله وضع للإنسان بعدين: بعد للأمام للملكوت، وبعد خلفي للبيت ولأهل البيت. فإذا سرت صح من أول خطوة في الطريق؛ ستأخذ قوة للترك وللاندفاع إلى الأمام، وتكون مثل بولس: «أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام». يا تيموثاوس: امسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت». المتنيح القمص متى المسكين
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل