المقالات
27 فبراير 2024
اليوم الثاني من صوم يونان (لو ۱۱: ۲۹ -٣٦)
وَفِيمَا كَانَ الْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ، ابْتَدَأَ يَقُولُ: هَذَا الْجِيلُ شَرِّيرٌ. يَطْلُبُ آيَةً، وَلَا تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلَّا آيَةُ يُونَانَ النَّبِيِّ، لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةٌ لِأَهْلِ نِينَوَى، كَذَلِكَ يَكُونُ ابْنُ الْإِنْسَانِ أَيْضاً لِهَذَا الْجِيلِ. مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ رِجَالِ هَذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ هُنَا رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هَذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةٍ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ هَهُنَا! لَيْسَ أَحَدٌ يُوقِدُ سِرَاجاً وَيَضَعُهُ فِي خِفْيَة، وَلَا تَحْتَ الْمِكْيَالِ، بَلْ عَلَى الْمَنَارَةِ، لِكَيْ يَنْظُرَ الدَّاخِلُونَ النُّورَ. سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَمَتَى كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيْراً، وَمَتَى كَانَتْ شَرِّيرَةً فَجَسَدُكَ يَكُونُ مُظْلماً . انْظُرْ إِذَا لِئَلَّا يَكُونَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظُلْمَةٌ. فَإِنْ كَانَ جَسَدُكَ كُلُّهُ نَيْراً لَيْسَ فِيهِ جُزْءٌ مُظْلِمٌ، يَكُونُ نَيْراً كُلُّهُ، كَمَا حِينَمَا يُضِيءُ لَكَ السِّرَاجُ بِلَمَعَانِهِ ] .
صوم يونان والأربعين المقدسة
أيها الأحباء، إن قصة صوم يونان ومن إحكام وضعه قبل الأربعين المقدسة هو إلهام بالروح، نُدرك من خلاله أهمية الصوم سواء لدى الله الذي يجازي، أو الإنسان الذي يتوب. فليست توبة بلا صوم، إن كان حقاً بخوف الله وبصراخ صادق من القلب، فإنه قادر أن يفتح باب الرحمة لتتدفق إحسانات الله بدل عقاب التأديب. فهو الإنقاذ الوحيد من حـــرج موقف الخاطئ حينما يسمع ! بأذني قلبه أن . الله قد فرغ وتعدَّت الخطايا صبر حدود اللياقة، خاصة إن كان الإنسان قد تزيَّا بزي الأتقياء، فلم يصدر منه إلا الخطايا والعيوب تحت اسم التقوى الكاذبة وصورة أعمالها وأقوالها التي يُصدقها الناس ويمدحونها بشبه نينوى العظيمة.وقد حسب المسيح أن صوم الجسد هو توطئة لازمة لقهر الشيطان، إذ بعد ما أكمل صومه جاع، وكأن الجسد بجوعه أعطى فرصة للشيطان أن يتقدم، بعد أن كان ممنوعاً من الاقتراب طيلة الأربعين؛ إذ كان الصوم حداًمن نار يُرعب الشيطان. لذلك كانت أهمية وصية الصوم.
عجیب حقاً، يا إخوة أن يترك لنا المسيح مثال صومه لنسير على إثــــر خطواته لننال قوةً وانتصاراً. وهل يمكن أن نسير خلفه حاملين الصليب إلا بعد أن نجوز خبرة صومه وجهاده وننال قوة ونصرة من حياته؟ إن صوم المسيح هو جزء لا يتجزأ من صعوده على صليب موته وفدائه. فإذا كانت القيامة سبقها ،موته فموته سبقه صيامه.ثم أليس صوم المسيح يُخزي القائلين بأن الصوم عمل سلبي؟ فما صــام المسيح لكي يضبط الجسد، وما صام ليتغلب على شهوات أو انحرافات؛ ولكنه صام بتدبير الآب؛ لأنه لم يذهب إلى البرية ليصوم بمشيئته، ولكـــن يقول الكتاب بوضوح: «ثم أصعد يسوع إلى البرية من الروح»، لا هروباً من تجربة إبليس، بل لكي يواجهها. فكان صومه سلاحاً إيجابياً جبـــارا كقاعدة انطلق منها ليواجه تجارب إبليس.
بهذا الوضع قدَّم المسيح لنا الصوم كقاعدة إيجابية نواجه بهــــا إبليس ونتحداه: «أما هذا الجنس فلا يخرج إلا بالصلاة والصوم»، لأن المسيح يعلم أنه بالصوم يرتقي العقل الواعي فوق الجسد ومشاغباته، فيكون العقل مستعداً أن يحتمل أشد الضربات وأسوأ الحوادث المفاجئة التي يسوقها العدو لانهزامنا، ولكن يقف الإنسان صاحياً كأسد لا يهتز. فالصوم انحياز كلي للوعي الروحي، بل هو انحياز لقوى الروح ومشورة السماء. وبدونه يستحيل أن يقول إنسان إني قد طلبت مع المسيح. فالذي
يقبل أن يُصلب يكون سبق وقدَّم الجسد على مذبح الصوم أولاً.
و [أنا] الإنسان يستحيل أن تقبل أن تصلب مـــع المسيح إلا بعد أن تتحرر الأنا، من عبودية الجسد أولاً، وهذا لا يتم إلا بالصوم. لأن الذي يقول: "أنا طلبت مع المسيح، فهذا يعني أنه قد مات بالجسد العتيق والجسد العتيق لا يمكن أن يذوق الموت إلا بالصوم.لذلك يُحسب الصوم في أقوى حالاته أنه شريك القيامة، أو هو قوة للذين يعيشونها.
ثم ما السر المخفي وراء الصوم الشديد وضياع قوة الجسد؟ هــذا نعرفه بصورة خاصة جداً من ملاك إيليا الذي استحضر له كعكة وكوز ماء ليأكــــل بعد أن سار يوماً كاملاً بلا أكل ولا شرب إلى أن جاء وجلس تحت الرتمـــة. فلما أكل الكعكة وشرب الكوز نام من الإنهاك، فمسه الملاك وأيقظه واستحضر له كعكة ثانية وكوز ماء وقال له: "قم وكُل، لأن المسافة كثيرة عليك. فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة مدة أربعين يوماً حتى بلغ جبل حوريب. وفي النهاية رأى إيليا الرب وتكلم معه وأخــــذ توبيخاً وأخذ رسالة. وكأنما أُعطي الصوم للإنسان ليرى وجه الله ويسمعه ولولا أن شعب إسرائيل صنع حماقة وطلب خبزاً في البريـــة ومــــاء كـــار الأربعين سنة بأكلة الفصح حتى دخل أرض الميعاد. فالذي سار أربعين يومــــاً وأربعين ليلة بأكلة وشربة ماء؛ لا يصعب عليه وهو تحت يد الله أن يسير بهــــا الأربعين سنة. ويتم قول الأمثال: بركة الرب هي تغني ولا يزيد معها تعب».وفي الحقيقة يا إخوة إننا لو فحصنا بالروح سر قيام الإسقيط حتى اليوم ودوامه، وما وراء ما خلفه لنا شيوخه الأماجد من كنوز تركوها لنا ميراثاً نعتز به؛ لوجدنا الصوم هو الكتر الأكبر، تركوه لنا مختبئاً في برية، فبعنــا العـــالم واشترينا البرية لنفوز بالكنز !
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
26 فبراير 2024
اليوم الاول من صوم يونان (مت 12 : 35 – 45)
"الانسان الصالح من الكنز الصالح في القلب يخرج الصالحات و الانسان الشرير من الكنز الشرير يخرج الشرور و لكن اقول لكم ان كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يعطون عنها حساب يوم الدين لانك بكلامك تتبرر و بكلامك تدان حينئذ اجاب قوم من الكتبة و الفريسيين قائلين يا معلم نريد ان نرى منك اية فاجاب و قال لهم جيل شرير و فاسق يطلب اية و لا تعطى له اية الا اية يونان النبي لانه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة ايام و ثلاث ليال هكذا يكون ابن الانسان في قلب الارض ثلاثة ايام و ثلاث ليال رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل و يدينونه لانهم تابوا بمناداة يونان و هوذا اعظم من يونان ههنا ملكة التيمن ستقوم في الدين مع هذا الجيل و تدينه لانها اتت من اقاصي الارض لتسمع حكمة سليمان و هوذا اعظم من سليمان ههنا اذا خرج الروح النجس من الانسان يجتاز في اماكن ليس فيها ماء يطلب راحة و لا يجد ثم يقول ارجع الى بيتي الذي خرجت منه فياتي و يجده فارغا مكنوسا مزينا ثم يذهب و ياخذ معه سبعة ارواح اخر اشر منه فتدخل و تسكن هناك فتصير اواخر ذلك الانسان اشر من اوائله هكذا يكون ايضا لهذا الجيل الشرير"
يونان ونينوى ونحن
ليس عبثاً وضعت الكنيسة هذا الصوم المبارك في هذا الوقت بالذات، فترتيب الكنيسة دائماً مُلهَم. تعلمون أننا قادمون على الصوم الأربعيني المقدَّس. والكلام هنا مركَّز وموجَّه. فكلمة "الأربعيني" ذات أهمية خاصة. ذلك لأننا قادمون على موت يجوزه المسيح عن البشرية كلها، أو هو استبدال موت بهلاك، ذلك لأن البشرية كلها كانت في حالة هلاك أو مشرفة على هلاك وإبادة لا تقل عن إبادة الطوفان(2)، وذلك بسبب تعاظم سلطان الخطية وهذا ما حدا بالابن المبارك أن يترك مجده ويلبس بشريتنا ويتألَّم لكي ينقذ البشرية. لقد قدَّم نفسه للموت عوضاً عن هلاك البشرية ثم قام، فصار موته وقيامته مصدر خلاص وتوبة لا تنتهي. صار آية لكل مَنْ يريد أن يرث - لا أن يرى الإنسان بعد آية - بل يرث السماء نفسها. فهذا هو موت المسيح وقيامته. وهذا هو الصوم الأربعيني الذي صامه الرب عن البشرية كلها، ليوفِّي عنها كل نقص في نسك أو في صوم والكنسيون منكم يتذكَّرون أننا لازلنا نردِّد ألحان عيد الظهور الإلهي، أي التعميد الذي لا يتم حسب الطقس إلا بالتغطيس الكامل تحت سطح الماء(3)، أي في عمق المياه - أو بتعبير قصة يونان - نزل إلى بطن الماء. لذلك لما خرج المسيح من الماء اعتُبر ذلك مسحة خَدَم بها، تلك التي تقدَّم بها للدخول في صوم الأربعين يوماً، ثم إذا تجاوزنا الزمان أو التـزمنا بالطقس الكنسي ندخل مباشرة في أسبوع الآلام ثم الموت فالقيامة وهكذا يأتي صوم يونان قبل الأربعين المقدَّسة حاملاً معاني ورموزاً كثيرة ما بين الغطاس والموت على الصليب!!
نعود إلى يونان. ونسأل: مَنْ هذا المدعو يونان؟
إنسان نبي، من العبرانيين، أتاه صوت الرب هكذا «وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلاً: قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة » (يون 1: 1 و2)فقام يونان، يقول الكتاب إنه "قام وهرب" إلى ترشيش من وجه الرب، وذهب وهاج البحر السفر لم يوضِّح أكثر من هذا، وطبعاً إن أي عدم توضيح في الأسفار أو الإنجيل ليس معناه قصوراً أو خللاً في التدوين ولا حتى سهواً، ولكنه فسحة للفكر العمق وللنفس المتأمِّلة، لتستوعب الأشياء التي لا يمكن أن تُكتب في سطور. وأتمنَّى أن يكون هذا الكلام له صدى عند السامع، لأن كثيرين يشتكون من غموض بعض المواضع في العهد القديم؛ بل وفي الإنجيل أيضاً.
صوت الرب يقول ليونان: اذهب وبشِّرها لأن شرَّها صعد أمامي. فهرب ونزل في بطن الماء وبقي فيه ثلاثة أيام، وبالتعبير الكتابي، المسيح نـزل إلى الهاوية ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. ويونان نـزل إلى العمق، في بطن الحوت، ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وبتعبيره هو قال: «صرختُ من جوف الهاوية» (يون 2: 2)، وهكذا يبدو سفر يونان تطبيقاً ورؤيويًّا، وكل سطر وكلمة فيه تشير إلى المسيح بصورة قويَّة جداً. وهنا يمكن اعتبار يونان بمثابة يوحنا المعمدان في العهد الجديد الصارخ ليعد طريق الرب يونان رمز حيٌّ بشخصه، يمثِّل المسيح. عماد المسيح دفع به إلى الأربعين المقدَّسة، والأربعين إلى الصليب ثم القيامة. تماماً كما نـزل يونان الماء ثم ذهب لنينوى كارزاً لها بالتوبة قائلاً لها: إن المدينة ستهلك بعد أربعين يوماً - كأنما هنا إشارة خفية أن الأربعين يوماً هذه مهمة في تحديدات الله - وكأنها وفاء أقصى مدة محدَّدة للهلاك(4). لكن الرب وفَّاها وقضاها في صومه الأربعيني عن البشرية كلها أما هروب يونان، فكأنه يستصعب الدعوة، لكنه بعد أن نـزل في الماء وظلَّ فيها ثلاثة أيام حدث له شيء ما. لأنه بعد ما ألقاه الحوت على الشاطئ، قال له الرب مرَّة ثانية بنفس الألفاظ الأُولى: «قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ لها بالمناداة التي أنا مُكلِّمُكَ بها» (يون 3: 2)، فانصاع يونان وكأنما تجدَّد فكره بعد أن اعتمد لنينوى ثلاثة أيام في العُمق!!
هنا شيء سرِّي حدث. وكأنما النـزول في الماء - معمودية يونان - هو اجتياز الموت والقيامة لنينوى.
يا للعجب على الإشارات البليغة، يا للكنيسة التي تستطيع باللمسات الخفيفة أن تحدِّد صوماً محدَّداً أو عيداً معيناً. تحديدات كلها إلهام ورؤيا لمَنْ يريد أن يسمع أو أن يرى، وليس كالكتبة والفريسيين الذين قالوا له: «نريد أن نرى آية»، متغاضين عمَّا حدث من قبل وضعت الكنيسة هذا السفر أمام أعيننا في هذه الأيام لنستطيع أن نستوعبه لأنفسنا: أولاً في يونان، وثانياً في نينوى. لأن ليونان ونينوى رسالتين لنا في حياتنا. فيونان يضع لمسات صورة المسيح القادم من بعيد. ونينوى تبكِّتنا بشدَّة: «رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه، جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلاَّ آية يونان النبي.» (مت 12: 41 و39)«هذا الجيل»، لا يقصد به الوحي زمن جيل المسيح فحسب - كما يقول أغلبية الشرَّاح - ولكنه هو هذا الجيل أي كل جيل شرير وفاسق. كل جيل فيه الشرير والفاسق، فهو «هذا الجيل». أما جيل المسيح الذي هو جيل الرسل فهو جيل مستمر فينا وبنا حتى الآن. وأنتم تسمعون الكاهن يقول: "اذكر يا رب كنيستك الواحدة الوحيدة المقدَّسة الجامعة الرسولية"، ثم تسمع في المجمع أسماء البطاركة حتى آخر بطريرك. فالكنيسة ممتدَّة من المسيح والرسل إلى هذا اليوم. فهو جيل واحد، هو جيل المسيح، وهذا اسمه. الجيل الشاهد للمسيح حتى آخر يوم في تاريخ البشرية، جيل ممتد، الجيل الطيب القديس الطاهر أما الجيل الآخر فهو جيل قايين، وجيل يهوذا، الجيل الصالب، هو أيضاً ممتد حتى هذا اليوم، فيه يهوذا وفيه الصالب أيضاً «جيل فاسق وشرير»، قد تبدو هنا قسوة في كلام المسيح، ولكن ليس الأمر كذلك. هو جيل فاسق وشرير لأنه زاغ عن الله. وإذا سمعت عن "الفسق والشر" في الإنجيل فلتفهم أنه يقصد الوضع الروحي وليس الجسدي (لأن الوضع الجسدي يمكنه بطعنة في الضمير الحي من سيف كلمة الله أن يحوِّل أشر الناس إلى القداسة). الشر الروحي، هو أن نعبد غير الله، أن نرتمي في أحضان الشيطان، هذه هي الخيانة الزوجية. لأن المسيح اتخذ الكنيسة لنفسه عروساً، حسب نفسه عريساً للكنيسة: «لأني خطبتكم لرجل واحد لأُقدِّم عذراء عفيفة للمسيح.» (1كو 11: 2)«جيل فاسق وشرير يطلب آية»، هل يريد من الله أن يرسل له ناراً من السماء؟ أو يرسل له منًّا من السماء يأكله ويشبع؟ ألم يقدِّم لهم الطعام في معجزة إكثار الخمس خبزات والسمكتين (إنجيل اليوم الثالث من صوم يونان)؟ ولكن لننتبه لأنفسنا جداً لأن الآية لا تزيد الإيمان، ولكن الإيمان بحد ذاته آية!! تذكرون قول الإنجيل إن المسيح «لم يصنع هناك (في الناصرة) قوات كثيرة لعدم إيمانهم» (مت 13: 58). لن يستطيع المسيح أن يعمل لك آية في حياتك إن لم يسبقها إيمان «ولا تُعطَى له آية إلا آية يونان النبي»، جيل فاسق شرير، وخطيته شنيعة جداً. لن تنفعه الآيات من السماء. ولكن آيته الوحيدة هي التي تقيمه من موت الضمير، وآيته هي آية يونان النبي، آية الموت لأن يونان في عُرف المنطق والعلم أنه كان يتحتَّم أن يموت في بطن الحوت، يونان مات، نعم مات، والرب أقامه، ولكن لمَنْ كان الموت؟ ما أجمله موتاً ذلك الذي نموته كل يوم من أجل الآخرين! ما أجملك يا يونان يا نبي الفداء وأنت تموت ثلاثة أيام بلياليها لتكفِّر عن خطيتك وخطية نينوى العظيمة!!
الشرَّاح الغربيون يقولون عن سفر يونان أنه سفر خرافي، أما المتساهلون منهم فيقولون عن يونان إنه يمثِّل الابن الأكبر (في مَثَل الابن الضال)، لأن نينوى لما خلصت حزن يونان وصار مثل الابن الأكبر لم يُرِدْ أن يدخل البيت لا، لم يحدث هذا، الحقيقة العميقة هي أن يونان تمنَّع من الذهاب لنينوى لئلاً يبِّشرها بالخراب!! ولأنه يعلم يقين العلم أن الله طويل الأناة بطيء الغضب، وسيصفح حتماً في النهاية. لذلك هرب يونان لئلا يواجه محنتين: محنة التبشير بالخراب، وهو عسير كل العسر على النفس الوديعة؛ ومحنة رجوع الله عن غضبه، فيظهر يونان وكأنه يسخر من شعب غريب. ولكن أين يهرب يونان من وجه الله؟ فالله دائماً يطارد الخادم الهربان. فكل إنسان يمكن أن يهرب من وجه الله، إلاَّ من سمع صوته وحمل نيِّره وقَبـِلَ اسمه القدوس في الفكر القبطي يونان ليس هو الابن الأكبر الذي حزن على خاص نينوى، ولكنه مثال المسيح. هو نبي الفداء المبدع، لا يقلُّ بل ربما يزيد عن كل الأنبياء في العهد القديم، رقة ورهافة، لا يماثله في هذه الرهافة والرقة إلاَّ نبي واحد مظلوم مثله، هو أيوب.يونان لم يحتمل أن يكون كارزاً بالخراب. وفي إنجيل لوقا إشارة لطيفة جداً ولكنها سرية للغاية، تكشف عن حدوث صلة توبيخ لأهل نينوى بسبب المخاطرة العظمى والموت المحقَّق الذي تعرَّض له يونان من أجلهم: «وكما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل.» (لو 11: 30)إذاً، فقد بلغ أهل نينوى أن يونان عبر محنة الموت في داخل بطن الحوت ثلاثة أيام، ثم قام من أجل خلاصهم!!هنا يقصد إنجيل لوقا أنه كما كان يونان بنفسه (وليس بكرازته فقط) آية لأهل نينوى، هكذا يكون ابن الإنسان بنفسه آية لهذا الجيل، أي بموته وقيامته من الصعب جداً، يا إخوة، أن نتكلَّم كثيراً عن ضغطة الموت على مدى ثلاثة أيام بلياليها التي جازها يونان، ولكننا نعرفها أكيداً في تطبيقها على المسيح لما مكث ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في الهاوية ثم قام: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا (أي كرامات)» (أف 4: 8)، قام «ونفخ (في وجه تلاميذه) وقال لهم ... مَنْ غفرتم خطاياه غُفرت له» (يو 20: 22 و23). أعطى الحِلَّ والبركة على الأرض لتدوم إلى أبد الآبدين، إذ نسمع الكاهن يقول: «كما أعطيت الحلّ للتلاميذ ليغفروا الخطايا ...»، هكذا دام هذا الحلُّ الذي يفك كل الخطايا هكذا قام يونان وكَرَزَ لنينوى، ليحل عنهم بضيقة موته ثم بكرازته غضب الله!! ويبدو أنه قال لهم ما حدث له وأما من جهة نينوى المدينة العظيمة، فنحن آتون هنا لمنظر من المناظر الرهيبة، إذ بمجرَّد أن سمع الملك بما حدث ليونان، وبما نادى به، قام عن كرسيه الملكي وخلع ثيابه وفخفخته وجماله وفخره الكاذب، ولبس المسوح، والشعب كله لبس المسوح - والمسوح ثوب من شعر المعزى خشن الملمس جداً - وأعطى الملك أمراً أن يُرفع الطعام عن كل إنسان كبيراً كان أم صغيراً حتى الرضيع على صدر أمه - يا للهول - وعن البهائم كلها، وهنا وكأنما الخليقة كلها تتمثَّل في قصة توبة نينوى.وكان ذلك إلى ثلاثة أيام.
مدينة فيها "واحد على ثمانية" مليون نسمة تتوب كلها ويعفو الرب عنها من أجل توبة جماعية ناشطة وتدبير متقن لهذا الملك النصوح الواعي الذي استطاع بحكمته أن يرفع حكم الموت عن شعبه؛ يا للرعاية ويا لحكمة الراعي!!
ثم ما هذا الحضن المتسع يا الله؟ إن هذا عجب كبير حقاً! مدينة وثنية تؤمن بالله بكرازة واحدة؟
نعم، ليس بآية من السماء ولا من الأرض تتوب البشرية أو يُعفَى عن إثمها، بل بالاتضاع والصوم والصلاة وتذلُّل القلب لدى الله القدير!آه لو علم كل خاطئ هذا، ما استكثر خطاياه أبداً عن عفو الله. لو علمت الكنيسة ما ينبغي أن تكون عليها من توبة جماعية، لجلست مع أبنائها في هذه المسوح وفي تراب المذلة إلى أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء، ولكانت أزمنة الفرج تأتي من السماء سريعاً!! كما قال بطرس الرسول (أع 3: 19)يا أحبائي، إن تعطَّلت أزمنة الفرج فالعيب هو منا، نينوى كانت تسير إلى الهاوية والهلاك أكيداً وسريعاً، ولكن بوقفة شريفة شُجاعة أمينة على قدر الدعوة وقدر التهديد استطاعت أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء.
ماذا يعوزك أيها الخاطئ؟ أيعوزك المسوح؟ أيعوزك التراب؟ ماذا يعوزك؟
لو كانت التوبة بذهب وفضة، لو كانت تستلزم سلماً عالياً نطلع به إلى السماء، لو كانت تستلزم منا جهداً نفسانياً أو عقلياً أو جسمانياً أو حكمة فائقة أو علماً زاهراً، لكي نحدر المسيح من السماء أو نصعده من الهاوية؛ لقلنا إن التوبة صعبة وشاقة. ولكن ملك وشعب ونساء وأطفال وبهائم نينوى عرفت طريقها سريعاً إلى النجاة. فما بالنا نتعطَّل نحن، وما بالنا نذهب يميناً ويساراً ونستشير الكبير والصغير، والخلاص أمامنا وبابه مفتوح، والذين دخلوا منه كثيرون، ومن كل شعب ولسان وأُمة!!وها هي نينوى تضع لنا نموذجاً لتوبة بسيطة قادرة بعنفها أن تفتح أبواب السماء وتحدر عفواً شاملاً بلا أي استثناء للمدينة بأسرها، قيل عنها في الكتاب إنها لا تعرف شمالها من يمينها!يا إخوة، نحن قادمون على الأربعين المقدسة، يعوزنا قلب كقلب ملك نينوى وشعب نينوى. أما مجرَّد ذكر البهائم الصائمة وهي خائرة على مذاودها ففيه توبيخ لنفسي، لأني أرى في نفسي وحوشاً ضارية تتعالى على غيرها كما يعلو الأسد على الغزال. كم فيكِ يا نفسي من غرائز تحتاج أن تُذلَّل بالجوع والمسوح؟ منظر نينوى وبهائمها واقفة على المذاود تئن، مرعب لشهواتي وملذاتي. الثيران وقعت من الجوع خائرة. وكم فيكِ من هذا يا نفسي يا مدينة الله! ما أجملكِ يا نفسي وأنتِ جالسة في المسوح والتراب متشبِّهة بنينوى!! جيد لكِ يا نفسي في هذه الأربعين المقدسة أن تَرْبُطي حواسكِ كلها، البهيمي منها والوحشي، ولا تفتكري أنكِ بنت المدينة العظمى التي تعرف شمالها من يمينها، لأن الخطية لا يتعالى عليها إلا مَنْ ذاق ما ذاقته نينوى!اليوم يا أحبائي، أكشف أمامكم سر السماء بلا ستار، بلا حجاب؛ ملك يترك عرشه، وينتـزع الخلاص، وينتـزع العفو السمائي، بتوبة جميلة رائعة استطاع أن يحصل عليها وهو في التراب والرماد ثقوا، إن ساعات الخلاص وأيام الرجاء لا تأتي جزافاً أبداً. إن كنت تريد خلاصاً سريعاً، إن كنت تريد أزمنة فرج، فاليوم تعلَّم من درس نينوى، وهو درس للأجيال كلها جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلا آية نينوى آية نينوى لا تقل إطلاقاً عن تفتيح عيني الأعمى، وعن إطعام الجائعين بخمس خبزات وسمكتين، وتحويل الماء إلى خمرآية نينوى فاقت كل آية إلا موت المسيح وقيامته، ولكن الجديد في آية نينوى أنها تابت بمناداة نبي، والآن الصوت الذي ينادينا أعظم من كل نبي لأن يونان نادى بالموت أو التوبة، ولكن المسيح يقدِّم لنا موته قوَّة حية محيية قادرة أن تُقيم من الخطية والموت!!اليوم يا أحبائي يوم نينوى ونبيها الرقيق المشاعر، النبي الفادي القائل: "هذه خطيتي" حينما هاج البحر ولم يقل "هذه خطية نينوى"يونان هنا ينادي كل خادم، كل واعظ، كل كاهن، كيف يرى خطية شعبه ومدينته، ويرى في آلامه وحزنه وضيقه، بل وموته فدية لأولاده وصلَّى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال«دعوت مِنْ ضيقي الرب فاستجابني. صَرَختُ مِنْ جوف الهاوية فَسَمِعتَ صوتي. لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار. فأحاط بي نهرٌ (نهر الموت). جازت فوقي جميع تياراتك ولججك. فقلت: قَدْ طُردتُ مِنْ أمام عينيك (إلهي إلهي لماذا تركتني؟). ولكنني أعود أنظر إلى هيكل قدسك (وفي اليوم الثالث أقوم). قد اكتنفتني مياهٌ إلى النفسِ (هذا المزمور يُقال في يوم جمعة الصلبوت). أحاط بي غَمْرٌ. التفَّ عشبُ البحرِ بِرَأْسِي. نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي. حين أعيت فيَّ نفسي ذكرتُ الرب فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك. الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون نعمتهم. أما أنا فبصوت الحمد أذبح لكَ. وأوفي بما نذرته. للرب الخلاص.» (يون 2: 2 - 9)
هكذا تكون صلواتنا في ضيقاتنا. اشْتَكِ للرب فقط، شكوى الممنونين "جازت عليَّ آلامك يا رب. أجزتني المحنة وأمررتني تحت العصا. المرُّ في حلقي. دخلت المرارة إلى قلبي وإلى نفسي". وكما يقول النبي: «توجعني جدران قلبي» (إر 4: 19)، بتعبير عجيب، كلها أنين الشكر وشكوى الحمد إن صلاة يونان هي المزامير الجديدة للسائرين في طريق الجلجثة والتي حتماً تردِّد قرارها في السماء كل الأرواح المبرَّرة المكمَّلة في المجد. إنها السلم الجديد الذي نرتفع عليه لكي نطل خلسة إطلالة سريعة على المجد المعد!نعم، هكذا يُغتصب ملكوت السموات! بصلاة كصلاة يونان وهو في عمق الهاوية.
اليوم يا أحبائي، هو يوم التوبة الغاصبة لحقوق القديسين وميراث ابن الله.
اليوم، مفهوم جديد لمعنى الكرازة بالبذل حتى الدم.
اليوم، دعوة للكارز ليسلك طريق النجاة لنفسه وشعبه، للراعي والرعية.
هذه نينوى تعطينا صورة حاسمة لكل دقائق ومعنى استرضاء وجه الله!!
يا رعية الله، صغيرها وكبيرها، شيخها وطفلها، مريضها وسليمها، هذه نينوى أمامنا آية ويا كارزي المسكونة، ويا واعظي الكنيسة، هوذا يونان لكم اليوم مثلٌ يُحتَذى، كيف كان وماذا صار. فيونان قَبـِلَ أن يدخل محنة الموت والثلاثة الأيام بلياليها ما كان نافعاً لا لنينوى ولا لنفسه، حيث كان سيذهب إلى ترشيش ليأكل الخرنوب مع الخنازير وها هو يونان بعد أن صلَّى من عمق التجربة وأهوال الموت يرينا كيف جاز التجربة حتى النهاية، وصار يونان كارزاً بشبه المسيح، وحُسب له موته بشبه فداء. وهكذا تكرَّم يونان بهذه التجربة فصار هو النبي الوحيد الذي أخذه المسيح ليضعه نموذجاً لموته وقيامته! وآية للتائبين!!
صلاة
يا رب الفداء الحقيقي الذي منك نستمد كل معنى وكل قوَّة للفداء، أعطِ يا رب روح الفداء لرعاة شعبك، الكبير منهم والصغير، العجوز والحَدَث، المطران والكاهن، أعطهم روح يونان يا رب، وأما رعيتك فأعطها طاعة كطاعة نينوى لمليكها لقبول مرارة التوبة لتنجو ولا تُدان مع العالم، وليؤمن شعبك بالحق أن الرب قادر أن يميت ويُحيي فيا شعب الله اطلبوا الحياة بسيرة التوبة ولا تسعوا بسيرة أهل العالم في طريق الموت يا رب أعطِ رعيتك جميعاً روحاً كروح نينوى في هذا اليوم ليتوب شعبك، وتتوب كل مدن ممالك الأرض إليك، ولتأتِ أزمنة الفرج سريعاً من عندك على العالم. آمين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
22 يناير 2022
عيد عرس قانا الجليل
هذا العيد محسوب من أعياد الإبيفانيا التي كانت تعيِّد لها الكنيسة معاً: الميلاد، وزيارة المجوس، والختان، والعماد، وعُرس قانا الجليل.. كذلك بخصوص هذا العيد السيدي يسجِّل لنا القديس إبيفانيوس أسقف قبرص (315 - 403م) لمحة عن اهتمام الكنيسة القبطية بالتعييد له مع عيد الغطاس منذ القديم في قوله:
[وتقيم الكنيسة القبطية عيد عُرس قانا الجليل في 11 طوبة (مع عيد الغطاس) حيث يعتقد الشعب بإمكانية تحوُّل مياه الينابيع ومياه النيل بحسب الإيمان الطيب الصادق إلى خمر، كذكرى سنوية لمعجزة المسيح]( 1).
قانا الجليل تبعد ستة أميال شمال شرق الناصرة، أي على بُعد ساعتين مشياً على الأقدام. العذراء مريم سبقت المسيح وتلاميذه كعادة تواجد النساء معاً منذ بداية العُرس (مدته 7 أيام)، والمسيح يحضر في الوقت المناسب دائماً (بعد فراغ الخمر)، مع تلاميذه الذين لم يكتمل عددهم إذ لم يكن قد مضى سوى ثلاثة أيام على دعوة نثنائيل، وفيلبس قبله بقليل، وأربعة أيام على دعوة أندراوس وبطرس، أما يوحنا فلم يتجاوز الأسبوع منذ أن انتقل من مرافقة يوحنا المعمدان إلى مرافقة يسوع. إذن، فلم يتجاوز عدد التلاميذ يوم عُرس قانا الجليل عدد أصابع اليد الواحدة.
تأتي هذه المعجزة كبداية آيات وبداية خدمة المسيح، بعد معموديته، كما تأتي كأول مقابل لخدمة يوحنا المعمدان، لأنها تعطي أوضح صورة للمسيح «ابن الإنسان»: هذا بالماء والنسك والامتناع الكلِّي عن الخمر وحياة البراري، وهذا بعرس قانا الجليل وبتحويل الماء إلى خمر، حيث التنبيه الذي تستحدثه المعجزة هنا يتركَّز في الدعوة إلى الانتقال من الماء - رأسمال يوحنا المعمدان - كقوَّة للتطهير وللتغيير بالتوبة والسلوك، إلى المسيح نفسه كقوَّة فائقة عُظمى للتغيير في صميم الطبيعة وبالتالي في سلوكها!!
فالمسيح هنا إذ يُخضع الماء ويحوِّله إلى ما ليس ماءً بسلطان كلمته، ينبِّه بشدَّة إلى أن القوة التي يتوق إليها الإنسان للتغيير والتوبة والفرح والعزاء كائنة أصلاً في المسيح وفي كلمته!!
كما أن المعجزة تشير كذلك إشارة خفية مُبدعة إلى أن الخمر، بحضرة المسيح، لم يعد هو مصدر الانتعاش والانتقال من الكآبة والهم إلى الفرح والتهليل، إذ يوجد الآن مَنْ هو أقوى فعلاً وأثراً من الخمر، المسيح الذي يخلق طبيعة الخمر ذاتها خلقاً!! وبالتالي كل ما في الخمر من قوَّة، وأكثر!! «(حُبَّك) حبيبي أطيب من الخمر»!! (نش 1: 2)
التركيز إذن في هذه المعجزة ينصبُّ في كلمة واحدة: المسيح كمصدر ”التحوُّل“. المسيح ينبِّهنا في بداية آياته وبداية خدمته أنه جاء ليكون هو وحده ”مصدر التحوُّل“ في حياة الإنسان: إذن لا بالنسك ولا بالبراري يكمن سر التغيير، ولا بالتطهيرات بالماء أو بالدعاء، ولا في إيليا ولا يوحنا ولا بالأنبياء، ولكن في المسيح يتم تحوُّل الإنسان، كما تحوَّل الماء سرًّا وبدون أي صلاة أو دعاء أو أي حركة ما، إلى ما ليس ماءً، إلى خمر جديد جيِّد، هذا الذي كان يتوهَّم الإنسان أن فيه راحته.
معنى العُرس في التقليد العبري:
مراسيم العُرس في التقليد العبري الأصيل وما يلازمه من احتفالات، تحمل معاني أعمق بكثير من كونه ”فرحاً“ أو حفلة أو مناسبة اجتماعية للسرور والمجاملات. والذي ننقله إلى القارئ من تقليد العُرس العبري في أيام المسيح هو من التلمود وكتب اليهود الطقسية القديمة كما يقدِّمها لنا أحد الحاخامات المتنصِّرين(2). وخلاصة القول أن العُرس كان يُعتبر نقطة حاسمة في حياة الشاب والشابة، يصوم كلاهما قبل التقدُّم إليه ويعترف كل منهما بخطاياه. فالزواج كان يُقدَّر في التقليد العبري على كونه بمثابة ”سر“، حتى أنه بمجرَّد تتميم عقد الزواج يحدث غفران تلقائي لكل خطايا الإنسان السالفة.
ويعطينا سفر التكوين صورة واقعية بهذا المعنى، فامرأة عيسو التي كان اسمها قبل الزواج ”بسمة“ ونُطقها العبري الصحيح ”باسيمات“ (تك 36: 3) صار اسمها بعد الزواج ”محلة“ ونُطقها العبري الصحيح ”ماحلات“ (تك 28: 9) ومعناها ”محالة الخطايا“ أو ”مغفورة الخطايا“.
وكان المعروف أن العلاقة التي تربط العريس بالعروس هي على نمط ما هو قائم بين يهوه وشعبه ككل!! وهذا يردِّده الكتاب المقدَّس مراراً وتكراراً حتى صار من صميم تعاليم الربِّيين. وهكذا كان ارتباط العريس بالعروس يوم القران - في مفهوم الشعب - يقوم على أساس ارتباط الله بإسرائيل.
لذلك كان الاهتمام الشديد لحضور أي حفلة عُرس بالنسبة للشعب وقادته ينبع من مفهوم الشركة في تعميق سر ارتباط الله مع شعبه، وتكريم قيام وثبوت وعود الله الخاصة بازدهار الأُمة!
بهذا المعنى كانت حفلة العرس يُعتنى بتنسيقها جدًّا، وبتوفير مصادر الفرح لها من قِبَل الأغنياء ورجال المجمع، إذا كان الزوجان فقيرين، لأن ذلك يُحسب تكريماً للعلاقة التي تربط الله بالمجمع وبالشعب!! وبالتالي كانت مراسيم الزواج المفعمة بالخشوع والتقوى والإحساس الديني تتخلَّل حفلة العرس ذاتها من أول لحظة إلى آخرها كحفلة مقدَّسة، حيث يكون السرور والفرح والرقص والتصفيق باليدين وشرب الخمر، بعد الصلاة بالبركة عليه(3 ).
كل هذا، على المستوى الديني، لا تشوبه أي شائبة انحلالية، بل كأعمال مقدَّسة تكريماً للرب ”يهوه“.
بل إن مجرَّد الخطوبة التي تسبق الزواج والتي نسمِّيها الآن؛ ”جي بنيوت“، أي قراءة «أبانا الذي»، كانت تسمَّى بالعبرية ”عروسين قدوشين“، أي دخول العروسين في القداسة!! وحين كان يقف أحد المسئولين أو الكهنة ليعدِّد أوصاف وفضائل وجمال العروس كان هذا يُحسب ضمن الطقوس المقدَّسة!!
كل هذا يجعل حضور المسيح حفلة عُرس لعريسين فقيرين «ليس لهم خمر»، أمراً طبيعياً يدخل في صميم رسالته كعريس حقيقي لكل نفس، خاصة وأنه أول عمل يأتيه مدعَّماً بآية. فإن كان حضور العُرس محسوباً أنه خدمة دينية وواجب لكل إسرائيلي ولكل ذي غيرة، فإنه بالنسبة للمسيح هو بمثابة تقييم جديد لمعنى العُرس في العهد الجديد. إذ بحضوره تمَّ حضور الله. وهكذا أصبح الزواج المسيحي مدموغاً منذ عرس قانا حتى اليوم بطابع ”السر الإلهي“، حيث مفهوم سر الزيجة ينحصر في معنى ”حضور المسيح“، لجعل رباط الزيجة قائماً ودائماً بين ثلاثة وليس بين اثنين «فالذي جَمَعَهُ الله لا يُفرِّقه إنسان» (مت 19: 6)!! حيث المسيح في كل زيجة هو مقيم الوعد وضمين العهد بين الزوجين، لتحويل الحياة من مستواها الزمني العادي إلى مستواها الخالد والأبدي، بسر حضور الله (على مستوى تحويل الماء إلى خمر)!
وعندما قصد المسيح أن تكون بداية خدمته واستعلان مجده من داخل عُرس، لم يكن إلا مشيراً بإصبع المناسبة والآية إلى نهاية خدمته، حينما يستدعينا جميعاً إلى عُرسه الخصوصي لحضور «عشاء عُرس الخروف» (رؤ 19: 9)، حيث نكون نحن موضوع هذا العُرس، وموضعنا موضع العروس!! «لأني خطبتكم لرجُلٍ واحد لأقدِّم عذراء عفيفة للمسيح.» (2كو 11: 2)
إذن فآية عُرس قانا الجليل تعود أيضاً ومن طرف خفي لتنبهنا إلى مكانة المسيح الحقيقية سواء في ”قانا“ أو في حياتنا، فهو العريس الحقيقي أينما حضر، ونحن معه دوماً أينما كان وأينما كُنَّا، كعروس تتبع دائماً عريسها، إذن فعُرس قانا هو عُرسنا، والعريس فيه هو عريسنا، والعروس فيه هي نفسنا ...
آه يا نفسي متى تدركين موقعك من المذود والأردن، ومن قانا والصليب، والقبر والسماء؟
المعجزة:
لقد قصدت العذراء أن تعلن ابنها للعالم بصفته المسيَّا، وكانت تستعجل مجده لأنها كانت تعلم ذلك بيقين، وتتحيَّن الفرصة باشتياق بالغ الشدَّة لكي تُشرك كل إسرائيل فيما أدركته وتحقَّقته من سر مجد المسيح رجاء الدهور كلها ...
ولكن لم تكن العذراء الطيبة تُدرك أن بدء استعلان المسيح هو هو بدء ظهور شبح الصليب، ويوم الإعلان عن حقيقته ومجده هو هو بدء العد التنازلي لأسبوع الآلام!!
«ما لي ولك يا امرأة لم تأتِ ساعتي بعد!» (يو2: 4). وما كان ألزم للعذراء جدًّا في نظر المسيح أن تبتعد عن سكة الصليب! وما كان أحوجها جدًّا في نظره أن لا تكون هي نفسها سبباً معجِّلاً للسيف الذي سيجوز في نفسها عندما تراه معلقاً على الصليب!
ولكن من أجل إيمانها وثقتها المطلقة فيه ومن أجل تقديره الخاص لها، لم يردها عن سؤالها. وبعد عتاب قصير ومختصر استجاب لها، فكان بداية مجده وبداية آلامه معاً وعلى حد سواء!!
ولكي نرفع الغموض الذي يحيط بمخاطبة الرب للعذراء قائلاً لها: «يا امرأة»، ينبغي أن ندرك أن المسيح يتكلَّم هنا من موقع الألوهة فهو على وشك إتيان معجزة خلق فائق الطبيعة، فهنا ابن الله يخاطب أماً بشرية!! وفي هذا الأسلوب يشير المسيح إشارة بليغة للعذراء أنه قد دخل في مجاله الإلهي لبدء خدمته العليا التي لا تحتمل بأي حال من الأحوال مشورة امرأة أو أي بشر، لقد قال لها مرَّة وهو ابن اثنتي عشرة سنة «ينبغي أن أكون فيما لأبي» (لو 2: 49)، أما هنا فقد دخل، وإلى الأبد، في علاقته السرية مع الآب، حيث ليست مشورة إلا من الآب فقط!!
كذلك لا نستطيع أن نعبر بسهولة على طريقة العذراء القديسة في عرضها لسؤالها «ليس لهم خمر» (يو 2: 3). فهنا سؤال هو هو الصلاة بعينها، ولعلها أقصر صلاة وردت في الكتاب المقدَّس كله وأكثرها وثوقاً وتأكيداً وأمانة.
ليت صلاتنا تكون هكذا مختصرة أشد الاختصار، واثقة أشد الوثوق، لا تزيد عن عرض واقعي لما هو حادث «ليس لهم خمر»!
وبالرغم من رد المسيح الذي يكاد أن يحمل عدم الاستجابة أو على الأقل استنكاراً لسؤالها، إلا أن العذراء القديسة كانت تدرك أعماق المسيح الوديع، فلم يهتز يقينها من جهة استجابته لأعواز الناس، هذا ما تحقَّقت منه العذراء تماماً مدَّة ثلاثين سنة معه «مهما قال لكم فافعلوه» (يو 2: 5). وهنا ينكشف مدى قناعة العذراء في استطاعة المسيح اللانهائية، ويكشف مدى إدراكها لسر المسيح في استعداده المطلق للاستجابة!!
ماء التطهير:
الماء هنا للتطهير بغسل الأيدي والكؤوس والأباريق والصحائف النحاسية، ستة أجران، وليس سبعة، إشارة إلى أن استهلاكها يمتد على مدى ستَّة أيام الأسبوع فقط، أما السابع - السبت - فهو راحة، ولا يحتمل إجراءات التطهير، والجرن الواحد الحجري يسع من صفيحتين إلى ثلاثة، إذن فهي مساوية حجماً للأزيار الصغيرة المُستخدَمة الآن.
المسيح يجد في ماء التطهير مصدراً حسناً لإجراء المعجزة، لكي يوقف معنى التطهير الشكلي، فالماء تحوَّل كله إلى خمر. لقد انتهى الماء من الأجران، وبالتالي انتهى عصر التطهير بالماء في حياة الإنسان. الخمر في أجران وليمة العُرس هنا إشارة سريَّة تمتُّ بصلة وثيقة إلى خمر ليلة العشاء الأخير المقدَّم بوصفه الدم المزمع أن يسفكه على الصليب للتطهير الحقيقي بمغفرة الخطايا.
تحول ماء التطهير إلى خمر هنا هو عملية تمهيدية، أكملها المسيح ليلة العشاء بتحويل الخمر إلى دم حقيقي لمغفرة الخطايا.
إذن فالمسيح بتحويله ماء التطهير كله إلى خمر، كان يشير في الحقيقة إلى نفسه كمصدر حقيقي للتطهير «بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي» (عب 1: 3).
كذلك فإن عملية تحويل الماء إلى خمر كأول عمل يأتيه المسيح بمعجزة في بداية خدمته الخلاصية، كانت عملية تنبيه عميقة لأذهان المترجِّين لخلاص إسرائيل، فهنا عصر موسى من جديد، عصر الخلاص، موسى الذي حوَّل الماء في أنهار مصر إلى دم، وفي بداية خدمته أيضاً، لإظهار قوة الله ومجده على يديه، لعل شعبه يؤمن به ويستجيب لعمل الخلاص المزمع أن يقودهم فيه، لذلك يشير إنجيل يوحنا إلى ذلك خفيًّا عند قوله: «وأظهر مجده فآمن به تلاميذه.» (يو 2: 11)
وينبغي هنا أن نلفت نظر الباحث إلى أن يوحنا الحبيب وحده هو الذي سجَّل لنا هذه الحادثة في إنجيله، والعلَّة في ذلك ظاهرة لأن التلاميذ لم يكن عددهم قد تكامل بعد عند إجراء هذه المعجزة، فالذي حضرها على وجه التحقيق خمسة تلاميذ كان أولهم يوحنا. ومعلوم أن يوحنا الرسول فوق أنه كان شاهد عيان لهذه المعجزة، فهو الوحيد أيضاً الذي اطَّلع على دقائق الحوار الذي حدث بين المسيح والعذراء سرًّا، وذلك بسبب تواجد العذراء معه وفي بيته مدَّة طويلة بعد الصليب، وهي التي أخبرته بكل الأمور.
كذلك ينبغي للقارئ أن يكون على بيِّنة من الأسلوب السرِّي العجيب الذي يكتب به يوحنا الرسول إنجيله، فهو يطرح الحديث والقصة والمعجزة ببساطة متناهية، ولكن مقاصده عميقة وأهدافه جليلة للغاية. وهنا في قصة عُرس قانا الجليل إشارتان خطيرتان تهدف إليهما القصة من أولها لآخرها:
الإشارة الأولى تختص بالمسيح العريس أو ”الختن“ الحقيقي معلَناً من خلال ”وليمة المسيَّا“.
والإشارة الثانية «الخمر الجيد» الإفخارستيا، وسر الكنيسة، ومحور الخلاص، والفداء.
الكنيسة انتبهت منذ البدء للخلفية السريَّة التي تتحرَّك في إطارها قصة عُرس قانا، فربطت الكنيسة في تعاليمها وفي أيقوناتها بين معجزة عُرس قانا الجليل (الخمر فرغ) وبين معجزة الخمس خبزات والسمكتين (الجموع الجائعة)، باعتبارهما التفسير الحي الواقعي الذي قدَّمه الإنجيل لمفهوم الإفخارستيا الروحي والإيماني، حيث يتركَّز في عُرس قانا مفهوم ”التحوُّل“ على أعلى وأوضح مستوى من التفسير. أما في معجزة الخمس خبزات فيتركَّز مفهوم اللامحدودية واللانهائية في سر الخبز (الجسد)، حيث الشبع المتولد منه والفائض يفوقان الأصل المنظور والمحسوس بدون قياس.
ويلاحظ في المعجزتين أن الحاجة والجوع كانا الدافع لإجراء المعجزة، والإشارة هنا إلى الحالة الداخلية. فالحاجة إلى الخمر إشارة إلى الحاجة إلى الروح القدس للعزاء والسرور ورفع الهموم والغموم، والجوع الشديد إشارة إلى العوز إلى ”الجسد“ أي الكلمة طعام الحق للحياة الأبدية. المسيح في كلتا الحالتين وقف يسد أعوازنا كمصدر حقيقي للملء والسرور حتى الشبع، وهو لا يرضى أبداً أن يكون فرحنا وملؤنا من السوق، سوق العالم، مهما كان معنا من ألوف الدينارات!! «لا يكفيهم خبز بمئتي دينار.» (يو 6: 7)
كذلك فإن التركيز على تحويل ماء التطهير إلى خمر ”جديدة“ في عُرس قانا لا يجعل العقل يفلت من إدراك قصد المسيح في اختيار عُرس قانا لبدء الإشارة إلى العهد الجديد «لأن الناموس بموسى أُعطي. أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا.» (يو 1: 17)
وإنجيل يوحنا لا يطرح القصة بدون تمهيد إلهامي مثير للدهشة، إذ يبدأها بقوله: «وفي اليوم الثالث كان عُرس في قانا» (يو 2: 1). أما الذهن الروحي النشيط فلا يمكن أن يعبر على هذه اللفتة دون أن يدرك قصد الإنجيل. فاليوم الثالث في بداية هذا الأصحاح لا يعني شيئاً بحسب الحرف، أما عند المسيح والكنيسة كلها بل وبمقتضى نبوَّات العهد القديم فهو يشير إلى القيامة.
إذن فقصَّة عُرس قانا بجملتها يضعها الروح بمحاذاة ”مجد“ القيامة، المسيح في إنجيل يوحنا يحقِّق قيامته منذ أول خدمته!! والمسيحي كذلك يدخل إلى مجد القيامة مع ”بني العُرس“ بعد سر المعمودية مباشرة. والكنيسة، بمقتضى الطقس، تحسب المسيح أنه عريسها لا منذ بدء معموديته، بل منذ أخذ اسمه ”يسوع“ المخلِّص شعبه، وذلك في يوم ختانته حيث الختانة هي التأهيل الطقسي لصلاحية العريس. لذلك فالكنيسة تسمِّي المسيح ”الختن“ الحقيقي، أي العريس الطقسي بالنسبة لها، فالكنيسة هي «امرأة الخروف» الذي ذُبح المسيح من أجل فدائها وتقديسها وهي الآن تتزيَّن له (رؤ 21: 2 و9).
فـ”الختن“ و”العريس“ كلمتان مترادفتان في اللغة الأرامية التي كان يتكلَّم بها المسيح! «حينئذ قالت عريس دم، من أجل الختان» (خر 4: 26).
والتشديد في قصة ”قانا الجليل“ يتركَّز على ”العُرس“ للإشارة إلى من أي مكان يبدأ المسيح خدمته: من حفلة عرس ليعلن نفسه كمصدر فرح للبشرية، وكإشارة إلى مركزه ”كعريس“ للبشرية المفدية.
يوحنا المعمدان أيضاً يبدأ خدمته بالنسبة للمسيح، بالإشارة إلى المسيح كعريس، وإلى نفسه كصديق للعريس: «كشارب خمر (بالروح)» مع بني العرس، أي كشريك فرح (سمائي) ولكن ليس «كصاحب أو كمصدر الفرح». تحويل الماء إلى خمر جيد يشير إلى تحويل أحزان البشرية وعرق تعبها وكدها إلى فرح حقيقي: «مَنْ له العروس فهو العريس. وأما صديق العريس الذي يقف ويسمعه فيفرح فرحاً من أجل صوت العريس. إذاً فرحي هذا قد كمل.» (يو 3: 29)
إذن فعرس قانا الجليل بالنسبة لنا هو حياتنا الجديدة، هو مصدر الفرح الحقيقي والدائم، حيث ينبع فرحنا باستمرار من ”صوت العريس“، عندما يأمر كل يوم أن يتحوَّل ماؤنا ودموعنا إلى خمر جيد، ليس في أجران متسعة، ولكن في ”كأس“، لأن الشبع والملء هما الآن على مستوى السر والروح.
الكنيسة في كل يوم أحد هي في حفلة عُرس، وكأنها تقيم في قانا الجليل!
إنجيل يوحنا يركِّز أيضاً على أن المسيح لا يبدأ المعجزة من فراغ أو من دائرة أبعد أو أرفع أو أقل من عالمنا، فهو لم يخلق الخمر من لا شيء، كما سبق ورفض أن يحوِّل الحجارة إلى خبز. ولكن من صميم مائنا يجري ”التحوُّل“، ومن صميم خبزنا يدخل ”البركة“. القصد هنا ينصبُّ على تقييم معنى وأسلوب حياتنا مع الله في العهد الجديد، على أساس عدم نقض أو إلغاء الواقع المادي أو الترفُّع عنه، ولكن تغييره إلى ما هو جديد وحق؛ وعلى عدم احتقار الموجود والمحدود، بل تكثيره بسر الشكر والبركة إلى ما يفوق العقل والحدود. والمسيح هو في سر التحوُّل حتى الملء وفي سر البركة والنعمة حتى الكمال «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا. ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16)، «فجمعوا وملأوا اثنتي عشرة قفة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير التي فضلت عن الآكلين.» (يو 6: 13)
فماء اليهود الذي للتطهير المحلي والجزئي على مستوى اليد والكأس، حوَّله المسيح لنا إلى خمر الإنجيل، أساس سر الدم والفداء الذي يطهِّر ضمير العالم كله.
وخبز العرق والدموع الذي حمله الصبيان معهم لحاجة رحلتهم القصيرة عبر بحيرة طبرية أخذه المسيح في يديه وغرس فيه البركة، وجعله مصدر شبع وفيض للعالم كله، منذ ذلك اليوم إلى منتهى أجيال الدهور!! «الطعام الباقي للحياة الأبدية.» (يو 6: 27)
وعطية المسيح دائماً يبدو جمالها وتبدو جودتها في النهاية بعكس عطية العالم: «كل إنسان إنما يضع الخمر الجيدة أولاً ... أما أنت فقط أبقيت الخمر الجيدة إلى الآن.» (يو 2: 10)
وليس عبثاً أن يذكر إنجيل يوحنا كيف يبدأ المسيح خدمته في عُرس قانا بحضور أُمه العذراء وينهي خدمته بحضورها أيضاً على الصليب، لأنه كان هو بنفسه شريكاً معها في هذا وفي ذاك، فهو تلميذ حضن يسوع أما هي فأُم العريس بالدرجة الأُولى وشريكة في فرحه وآلامه بالضرورة، حيث لا يمكن فصل مجده في فرحه عن مجده في آلامه لأن في هذا يتمجَّد وبذلك يتمجَّد.
لأنه في عرس قانا أظهر مجده، وعلى الصليب أكمل مجده!!
في عرس قانا تمجد، وفي أحزان بيت عنيا تمجد!! المسيح إذن هو مجدنا في الفرح والحزن سواءً بسواء! فالمجد يتبع المسيح أينما سار.
وأظهر مجده فآمن به تلاميذه:
لقد تحيَّر المفسِّرون، وما هو مجده في آية تحويل الماء إلى خمر؟ أهو في المعجزة ذاتها أم في الظروف التي أحاطت بها؟ فإن كانت في المعجزة ذاتها فالذي آمن به هم تلاميذه فقط، إذن فالمعجزة لم تكن بالدرجة الكافية لتبهر غير الأخصَّاء. أما الظروف المحيطة بالمعجزة فهي لا تزيد عن كونها مشاركة اجتماعية مفروضة على ذوي الولاية من القربى أو من رجال الدين. إذن فأين يكمن مظهر المجد الذي استُعلن لتلاميذه من هذه الآية حتى آمنوا به؟
هنا يلزمنا أن ندرك أن أعمال الله تحتاج إلى أُذن مفتوحة مهيَّأة للسمع وعين مُبصرة مستعدة للرؤيا ... أُذن التلاميذ كانت مفتوحة وعيونهم كانت على أعلى درجة من الترقُّب للرؤيا، لأن علاقتهم بالمسيح لم تكن قد تجاوزت في جملتها أكثر من أسبوع واحد. إذن فالمعلِّم كان تحت الفحص الدقيق والملاحظة الشديدة والترقُّب المستبشر جدًّا والمستعد لإدراك أقل حركة فائقة وترجمة أي عمل خارق، وذلك بحساسية مرهفة غاية الإرهاف.
لهذا عندما رأوا بعيونهم الماء وهو يُصبُّ في الأجران أمامهم، ثم رأوه يُرفع هو نفسه خمراً، وذاقوه وتحقَّقوه، حدثت في الحال المعجزة، لا معجزة تحويل الماء إلى خمر بل معجزة إيمانهم!! لقد آمنوا بالمسيح كليَّة!! إذ رأوا في هذا العمل أقصى ما يمكن أن يتمنوه أو يتصوَّروه وهو اختراق معلِّمهم لحاجز المادة. إذن، فهذا هو المسيَّا بكل ثقة وتأكيد. لقد انطبقت في أذهانهم كل كلماته العذبة وتعاليمه السابقة المنيرة على هذه القدرة الخارقة!
لذلك كانت آية عُرس قانا الجليل آية المجد الأُولى لمعلِّمهم وأعظم الآيات طُرًّا في حياة التلاميذ الخمسة الأوائل، ويوحنا بالدرجة الأُولى!!
ولكن ما كان أحوج التلاميذ، وما أحوجنا معهم أن نكون دائماً على هذا المستوى من الحساسية والإرهاف الشديد في تتبُّع أعمال المسيح في حياتنا ودنيانا. إنه كل يوم يحوِّل كل شيء أمامنا وفي حياتنا، ولكن الحاجة أشد الحاجة إلى الأُذن التي تسمع والعين التي تُبصر! إن كل شجرة - وليست العُلَّيقة وحدها - مشتعلة بالنار الإلهية ولا تحترق، ولكن ذا العين المفتوحة هو وحده الذي يرى وهو وحده الذي يخلع نعليه! وماؤنا يتحوَّل كل يوم إلى خمر، وخمرنا إلى قداسة وإلى حياة أبدية، والقريبون المترقِّبون هم وحدهم الذين ينظرون ويذوقون الرب ويتهلَّلون
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
18 يناير 2022
عيد الغطاس رؤية وشهادة
يوحنا المعمدان لم يكن يعرف المسيح، مع أنه سمع عنه كثيراً، وقد راجع بتؤدة في عزلته الطويلة في البرية كل ما قاله الأنبياء عن المسيَّا، ولكن لم تسعفه تقشفاته الشديدة أو المعرفة الشخصية والقراءة للتعرُّف على ابن الله من بين الناس، ولكنها مهدت لذلك تمهيداً مكيناً!
لقد حاول كثيراً وبطرق وجهود ذاتية عديدة أن يختزل الزمن ليتعرَّف على المسيَّا، الذي من أجله وُلِدَ وأخذ رسالة ليعلنه ويعد الطريق أمامه، ولكن كان الصوت يدعوه للتريث حتى يبلغ الزمن ساعة الصفر ليبدأ ملكوت الله.
وبينما يوحنا يصلِّي وهو في حيرته كيف يتعرَّف على المسيَّا الذي سيكرز به ويُظهِره لإسرائيل؟ سمع صوت الله يرن في أُذنيه: اذهب إلى بيت عبرة عبر الأردن وهناك اِكرز وعمِّد بالماء للتوبة، لأنه من خلال المعمودية سيظهر المسيح لإسرائيل. فكل مَنْ يأتي إليك عمِّده، ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه في وقت العماد، فهذا هو الذي سيعمِّد بالروح القدس!!
+ «وأنا لم أكن أعرفه ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء ... وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمِّد بالروح القدس.» (يو 1: 31 - 33)
ترك يوحنا عزلته الطويلة في البراري وترك معها كل الوسائل الشخصية التي جاهد أن يكتشف بها المسيَّا، وانطلق يكرز ويعمِّد، بكل غيرة وحماس، مئات وأُلوف؛ وفي قلبه لهفة أشد ما تكون اللهفة أن يرى العلامة، فكان يترقَّب رؤية الروح القدس في كل لحظة، وهو نازل من السماء ليعلن المسيَّا. وكان قلبه يخفق بشدَّة، لعل يكون أيُّ آتٍ إليه هو المسيَّا!
سر ظهور المسيح واستعلانه ليوحنا المعمدان:
هذه الصورة المبدعة التي يرسمها إنجيل القديس يوحنا لبدء خدمة المعمدان وظهور المسيَّا تحمل في الواقع أسراراً عميقة، فالإنجيل ينبِّه ذهننا بشدَّة:
أولاً: أن ظهور المسيح في ذاته واستعلانه عموماً يستحيل أن يتم بالاجتهاد أو الترقُّب، إنما يتم فقط بتدبير الله من خلال معمودية الماء للتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء»، حيث التركيز في معمودية الماء يقع على التوبة «واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.» (مت 3: 6)
ثانياً: أن معرفة المسيح شخصيًّا يستحيل أن تتم إلا بواسطة الروح القدس! الروح لم يره أحد وهو نازل من السماء غير يوحنا المعمدان، الرؤية هنا خاصة، انفتاح ذهني لإدراك ما لا يُدرَك واستعلان شخص المخلِّص والفادي «وأنا لم أكن أعرفه ... ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو ...».
لأنه إن كنا حقًّا نعيش الغطاس ونعيِّد للغطاس، أي نعيِّد للظهور الإلهي، أي ظهور الابن بالآب والروح القدس معاً، ونعيِّد ليوحنا الرائي والشاهد والمعمِّد، فيتحتَّم أن يكون عندنا يقين هذا الاستعلان، أي المعرفة بابن الله، المعرفة القائمة على يقين الرؤيا والشهادة، أي بالروح القدس والآب! أو كما يقول إشعياء النبي: «عيناً لعين»!! واصفاً ذلك اليوم يوم استعلان المسيح للإنسان إن على الأردن (الغطاس) أو في جرن المعمودية (الإيمان بالمسيح)، هكذا: «صوت مراقبيك، يرفعون صوتهم يترنَّمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون.» (إش 52: 8)
«أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»:
هذه أقوى شهادة سمعتها البشرية من نحو المسيح، لاحظ أن المسيح لم يكن قد بدأ خدمته الجهارية وإجراء آياته ومعجزاته، بل لم يبدأ بعد في الإعلان عن نفسه وعن علاقته بالآب، بل لاحظ أن يوحنا لم يكن يعرف شيئاً عن الصليب والقيامة!
فإن كانت شهادة يوحنا بلغت هذا اليقين، وهو لم يتعرَّف بعد على سر الخلاص بذبيحة الصليب وسر التبرير بالقيامة، فكم ينبغي أن يكون يقين شهادتنا نحن وقد أدركنا هذا كله؟
ولكن ما هو إذن سر عجز شهادتنا وضمور معرفتنا للمسيح؟
أليس واضحاً كل الوضوح من حوادث عيد الغطاس، أن ذلك بسبب عدم انتباهنا لدور الروح القدس في فتح الذهن لكشف أسرار الله أمام المعرفة لإدراك حقيقة المسيح لبلوغ يقين الشهادة؟
ولكن لا يزال إنجيل عيد الغطاس يحتجز سرًّا هاماً وخطيراً في هذا الأمر. فالله اشترط على يوحنا المعمدان أن المسيح سيظل مجهولاً عنده، إلى أن يرى الروح نازلاً ومستقرًّا عليه!! هنا دور الروح القدس ليس مجرَّد علامة تشير إلى المسيح؛ بل هو وسيط معرفة، وسيط انفتاح ذهن. الروح القدس أعطى ذهن يوحنا المعمدان قدرة رؤيوية عالية جدًّا، أعلى من درجة النبوَّة التي عاش بها في البراري. لقد سمع المعمدان مراراً كثيرة صوت الله في قلبه من جهة حياته ورسالته التي جاء ليتممها أمام وجه الرب «الذي أرسلني لأعمِّد بالماء، ذاك قال لي». ولكن لم تنفتح عينا ذهنه لمعرفة مَنْ هو المسيح - مع أنه قريبه بالجسد - إلا بنزول الروح القدس!
يقين الرؤيا:
إن رؤية الأشياء والأشخاص والتعرُّف عليهم عن قرب، يؤدِّي إلى يقينية عقلية، فالعين والأذن مع بقية الحواس توصِّلان إلى المخ صورة متكاملة عن الشيء أو عن الشخص يفهمها العقل، ويختزنها، ويحولها إلى معرفة وإدراك بيقين عقلي هو أشد ما يملكه الإنسان من مفهوم اليقينية!
ولكن هناك يقينية أخرى موهوبة للإنسان أعمق جدًّا، وهي أعظم تأثيراً وأكثر شمولاً لمواهب الإنسان وكيانه، ينفتح عليها الإنسان كموهبة إلهامية باطنية في القلب، يدرك بها كل شيء وكل الناس وكل الخليقة، فوق إدراكات العقل والحواس وأعمق بما لا يُقاس، يدرك ما فيها وما لها من حقيقة ومدى ارتباطها السرِّي بالله وبنفسه وكل الكون المنظور وغير المنظور.
هذه الموهبة الفائقة على العقل والحواس هي عطية من الله مغروسة في صميم طبيعة الإنسان، وقد يحوزها الحكماء والفلاسفة حتى غير المتدينين وغير المؤمنين بالمسيح.
هذه الموهبة أُعطي أن يوجهها الروح القدس ويستخدمها في كشف أسرار الله نفسه والتعرف عليه!! «الروح يفحص كل شيء (في قلب الإنسان ووعيه الروحي) حتى أعماق الله!!» (1كو 2: 10)
فإذا حل الروح القدس في إنسان أو انسكب في ذهنه وأناره، كما استنير ذهن يوحنا المعمدان، يعمل في الحال بهذه الموهبة الفائقة التي في طبيعة الإنسان، فينفتح الذهن على أسرار الله، وبالتالي على المسيح بصفته الوسيط الوحيد بين الله والناس، والحامل همَّ البشرية والضامن خلاصها وتجديدها ورفعها إلى حضن الآب.
وما قاله يوحنا المعمدان بعد هذه الرؤيا مباشرة عن المسيح مشيراً إليه: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وكأنه يرى مستقبل الخلاص كله والصليب والذبح والموت والقيامة في ومضة خاطفة؛ هذا يوضِّح مدى انفتاح الذهن ساعة حلول الروح القدس، ومدى قدرة الروح القدس في الانطلاق ببصيرة الإنسان لرؤية فائقة شاملة لكل سر الله لمستقبل خلاصنا!! هذه هي يقينية الرؤيا في حضرة الروح القدس وبتوسُّطه، التي لا يقف عند حد حتى أعماق الله، لا يحجزها حاجز لا من الزمان ولا من عجز الإنسان!
وبهذا تكون خبرة البشرية بيقينية الرؤيا الممتدة في الله. وكل مستقبل الخلاص، والتي نالتها في يوم عماد المسيح حيث انفتحت البصيرة الإنسانية - ممثَّلة في يوحنا المعمدان - ساعة حلول الروح القدس على المسيح وقت العماد لتكشف أعماق سر الخلاص المكتوم: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وتتقابل وجهاً لوجه، بل «عيناً لعين» - كما يقول إشعياء - مع الله الآتي إلينا في المسيح وتشهد له في جرأة: «هذا هو ابن الله»؛ هذه الخبرة التي نالتها البشرية وهي على عتبة العهد الجديد تُعتبر من أثمن ذخائر الكنيسة التي نالتها بحلول الروح القدس على المسيح، فأعطت سر العماد أهميته الفائقة كباب حي فعَّال دخلت منه البشرية في سر الله، حيث رأت خلاصها رؤيا اليقين والشهادة حتى وقبل أن يبدأ أو يتم!
ومن هنا صار عيد الغطاس يحمل لنا أول حركة حيَّة من الروح القدس في صميم جسم الكنيسة، أول رعشة أصابت العظام الميتة أصابت يوحنا المعمدان، فانتقلت كخبرة للكنيسة كلها ولا تزال، حيث انتقلت في الحال من يقينية الرؤيا إلى يقينية الحركة، لأن كل رؤية يقينية بالروح القدس هي معرفة الحق، وأما كل شهادة يقينية فهي حركة بالحق! والاثنان فعلان صميميان من أفعال الروح القدس! «الروح القدس يرشدكم إلى جميع الحق»، «الروح القدس يشهد لي.» (يو 15: 26)
أي أن استعلان المسيح العام يتم بالمعمودية، بالاعتراف بالخطايا والتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل لذلك جئت أُعمِّد بالماء».
أما استعلان المسيح الخاص، أي معرفته معرفة شخصية، فهذا يتم بالروح القدس.
يوحنا لم يعتمد بالروح القدس، ولكنه أخذ من رؤية الروح القدس وهو نازل مستقراً على المسيح، نال تعميداً ذهنيًّا تعرَّف به في الحال على الرب. ومع الرؤية الذهنية كانت الرؤية السمعية، لقد انفتحت أذن يوحنا لسماع صوت الله نفسه يشهد لابنه مُعلناً ليوحنا أعظم سر أدركته البشرية، سر علاقة الآب بالابن وعلاقة الحب بينهما، العلاقة التي كانت مخفية عن إدراك كل بني الإنسان واستُعلِنت أول ما استُعلِنت ليوحنا، لبدء الكرازة.
+ «وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقَّت والروح مثل حمامة نازلاً عليه، وكان صوت من السموات أنتَ ابني الحبيب الذي به سررت.» (مر 1: 10 و11)
هنا يكشف الإنجيل عن كيف تعرَّف المعمدان ليس فقط على المسيَّا، بل على مَنْ هو المسيَّا: أنت ابني الحبيب!! لذلك يعلن يوحنا المعمدان: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.» (يو 1: 34)
إعلان يوحنا هذا الذي سلّمه للبشرية بالإنجيل نقله إلينا كشهادة عيان وسلَّمه لنا كمن رأى وسمع، رأى الروح رؤيا العين، وسمع صوت الله سماع الأذن بيقين روحي أعمق ألف مرة من اليقين الحسي، لهذا شهد، وشهد بيقين الرؤيا: «وأنا قد رأيت وشهدت».
هذا هو عيد أول رؤيا للروح القدس!
وهو عيد أول شهادة إنسان للمسيح تمت بالروح القدس، أنه ابن الله.
والروح القدس بنزوله من السماء مهَّد في الحال في قلب يوحنا لسماع صوت الآب بوضوح.
شهادة المعمدان للمسيح تمَّت بالروح القدس والآب.
عيد الغطاس هو في حقيقته عيد الشهادة للمسيح، بالنسبة للكنيسة وبالنسبة لكل نفس تسعى لإدراك المسيح «أنا لم أكن أعرفه».
«أنا لم أكن أعرفه»:
هذا هو حال يوحنا المعمدان الذي دُعي نبيًّا للعلي من بطن أمه، وتعيَّن أن يتقدَّم أمام وجه الرب ليُعدَّ طرقه بل ويعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة الخطايا. بينما ظل هو في أشد الشوق لمعرفته، وهذا في الحقيقة هو حالنا نحن، دعينا للخلاص والكرازة بالخلاص بل والشهادة للمسيح ابن الله، ولا نزال في أشد الحاجة إلى معرفته. وإن كنا نشهد فشهادتنا بالكلمة ينقصها يقين المعرفة: «وأنا رأيت وشهدت»!! وكأنما نعيش قبل عيد الغطاس!
يقين الشهادة:
كانت شهوة المعمدان أن يتعرَّف على المسيح، ولكن بمجرَّد حصوله على ”معرفة المسيح“ انطلق يشهد له في الحال أمام الكهنة واللاويين «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»، «هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدَّامي ... الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه ... الذي يعمد بالروح القدس.» (يو 1: 30 و27 و33)
هنا يوحنا يلغي نفسه تماماً، فالذي يحل سيور الحذاء في البيت اليهودي هو العبد المشتَرَى!! ثم إن كان المسيح الذي ينادي به هو الذي سيعمِّد بالروح القدس، فيوحنا بهذه الشهادة يصفِّي عمله ورسالته، بل وينهي على كل خدمته، وهو يؤكِّد ذلك بنفسه: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.» (يو 3: 30)
هذا إن كانت المعرفة من الروح القدس حقًّا، لأن عمل الروح الأساسي هو الشهادة للمسيح . لذلك فإن معرفة المسيح إن كانت بالروح القدس فهي طاقة حركة لا يمكن أن تنحبس، بل لابد أن تُستعلن كالنور وتنتقل من إنسان لإنسان: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.» (مر 16: 15)
شخص المسيح، عن قرب، جذاب للغاية، معرفته تأسر القلب، وتسبي الروح، وبحلول الروح القدس تصبح حضرة المسيح مالئة لكل كيان الإنسان؛ لأن الروح يأخذ ما للمسيح ويعطينا، فلا يعود الإنسان يشعر بحاجة إلى ذاته أو أن يكون له كيان منفصل أو عمل أو وجود أو أمل ذاتي: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص». هنا تفريغ وملء. معرفة المسيح تفرِّغنا من ذواتنا وتملأنا بالمسيح نفسه بالحق، بالحياة، بالقيامة، بالسلام الفائق للعقل. هذا يضطلع به الروح القدس حتى يمتلئ الإنسان بكل ملء الله، كما يقول الكتاب (أف 3: 19). وفي موضع آخر يقول: «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16)، «وأنتم مملوؤون فيه.» (كو 3: 20)
هذا التفريغ من الذات والملء بالمسيح هو الذي يُـخرج الإنسان عن كيانه وعن مكانه، فيطلقه ليبشِّر بلا حدود وبلا قيود، حتى إلى الموت يبشِّر ويشهد بما رأى «وأنا رأيت وشهدت».
يستحيل على إنسان تعرَّف على المسيح حقًّا وذاق ونظر طيب الرب، أن يسكت أو أن يستطيع أحد أن يكتم صوته. المسيح عبَّر عنها أنها «مناداة من على السطوح» (مت 10: 27)، والمعمدان عرف ذلك وكان يمارسه «أنا صوتُ صارخٍ في البرية» (مر 1: 3)! لأن التعبير عن مقدار الأثر والتعلُّق الذي يتغلغل كيان الإنسان الذي انفتح ذهنه بالروح القدس على المسيح، لا يمكن أن تشرحه كلمات بسهولة. الكلام مهما كان بليغاً ورصيناً يظل عاجزاً عن تصوير عذوبة ومحبة وعمق شخص ابن الله.
تأثير السيرة على الشهادة:
ولكن الشهادة للمسيح تبلغ حد يقينيتها الأعلى، عندما تزكيها سيرة الإنسان نفسه. إن شهادة المسيح ليوحنا المعمدان توضِّح سر نجاح المعمدان الفائق الوصف في التعرُّف على المسيح والشهادة له وسط ظلام الأجيال وعمى الرؤساء والحكماء والعلماء: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحرِّكها الريح (ثبات مبادئ يوحنا)؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ إنسان لابساً ثياباً ناعمة؟ هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في قصور الملوك (خشونة حياة يوحنا وتقشُّفه ونسكه في البراري). لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًّا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي! (روح وسيرة يوحنا المعمدان فاقت مستوى جميع الآباء والأنبياء) الحق الحق أقول لكم: إنه لم يقم من بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان (الوحيد الذي امتلأ بالروح القدس وهو في بطن أُمه!)» (مت 11: 7 - 9 و11)، وهذا رد ضمني على الذين يعترضون على قيمة المعمودية في الطفولة.
والسؤال هنا هو: هل ألغى العهد الجديد عظمة يوحنا وتكريم المسيح له بهذه الشهادة المفرحة جدًّا لنفوسنا؟؟
في الحقيقة ما كتبه الإنجيليون عن يوحنا يمكن تلخيصه في كلمتين: نصرة بالروح، وقوَّة بالروح، وطاعة بلا لوم، وهذه هي العلامة السريَّة لكل ممتلئ بالروح القدس!!
إن حياة يوحنا الداخلية وسيرته طابقت متطلبات الشهادة للمسيح تطابقاً فائق الدقة والوصف، لذلك جاءت شهادته بيقين فائق شهد لها الإنجيل!! «يوحنا شهد له.» (يو 1: 15)
إن الشهادة للمسيح، لكي ترتفع إلى درجة اليقينية كيقينية شهادة المعمدان تحتاج إلى متطلبات عميقة داخلية مقدَّسة يستحيل استيفاؤها إلا بالملء من الروح القدس!!
هذا هو يوحنا المعمدان والمسيح المنحني تحت يده، وهذا هو عيد الغطاس الأول بأعماقه وجذوره الضاربة في أساس الكنيسة وميراثها من جهة الشهادة للمسيح عن رؤيا واستعلان وامتلاء بالروح: «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله».
رؤيتنا وشهادتنا:
والآن نقلة ختامية من الأردن ويوحنا والمسيح المنحني تحت يد المعمدان إلى واقعنا الكنسي والفردي: أين عيد الغطاس منا؟ ما هي رؤيتنا؟ وما هي شهادتنا؟
نحن لا نتكلَّم عن الرؤى والأحلام، لأن الحكم فيها وعليها من أصعب الأمور بسبب عوامل التزييف الذي يقوم به اللاشعور في تصوير المناظر والأحلام حسب هوى الذات المريضة، هذا بالإضافة إلى عدم نفعها لا بالكثير ولا بالقليل من حيث تغيير السلوك. ولكننا نتكلَّم من جهة رؤيا القلب في يقين الوعي والإرادة، أي النظر الروحي الواعي والدائم للتعرُّف على شخص المسيح كمخلِّص وكفادٍ، في تأمل، في صلاة، في مناجاة، في حب لا تشوبه المنافع الشخصية، أو التنافس، أو الحسد والغرور، أو طلب المجد والمديح والظهور.
ثم هل سماؤنا مفتوحة؟ أو بمعنى آخر هل حصولنا على العون الإلهي من الأعالي هو طلبنا الأول والأخير وهو إلحاحنا الذي ننام فيه ونستيقظ به؟ «رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني، معونتي من عند الرب الذي صنع السماء والأرض.» (مز 120: 1 و2)
إن كان هذا رجاؤنا وإلحاحنا وشوقنا وقلقنا، فالروح القدس يسبق ويمهِّد ويُعدُّ القلوب والرؤوس، لأنه لا ينسكب إلا على الرؤوس المنحنية والقلوب التي برَّح بها الحنين، رؤساء ومرؤوسين، فيفك العقول والقلوب من أسر الذات، ويطلق الألسنة من سجن الخطية، يطلقها بالتسبيح والتهليل والشهادة للمسيح بملء الفم والقلب وصحو العقل واليقين وقوة لا تعاند، والعلامة دائماً أبداً أن «المساكين يُبشَّرون.» (لو 7: 22)
وإن السماء التي انفتحت لعين المعمدان وقلبه، وسماع صوت الآب، ورؤية الروح القدس نازلاً، بنوع من الاستثناء الذي تجاوز كل خبرات الماضي بكل أمجادها، قد صار هذا لنا حقًّا مشروعاً وميراثاً دائماً، ضمنه المسيح بوعد ثابت لا يمكن الرجوع فيه: «من الآن ترون السماء مفتوحة» (يو 1: 51) وهذا هو تحقيقها: «ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله» (أع 7: 56). ولماذا كان لنا نحن أيضاً هذا الوعد الذي تحقَّق لإستفانوس الشهيد بالعيان، ولماذا هذا الامتياز الفائق بهذه الرؤيا الدائمة: «من الآن»، إلا لكي نرى ما رأى يوحنا فتدخل شهادتنا منطقة اليقين!
«أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»!
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
16 سبتمبر 2021
يوحنا المعمدان
«لم يَقُم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان،ولكن الأصغر في ملكوت السموات أعظم منه» (مت 11: 11)
كلامٌ محيِّر!! هل يقصد المسيح نفسَه أنه أصغر من يوحنا في السنِّ؟! إن أي كلام محيِّر في الإنجيل لابد أن تجد الجواب عليه فيما بعد!
فيوحنا المعمدان هو إيليا لأنه أتى بروح إيليا: «وإن أردتم أن تقبلوا، فهذا هو إيليا المُزمع أن يأتي. مَن له أُذنان للسمع فليسمع» (مت 11: 15،14) كلنا لنا آذان، ولكن المسيح قال: «لماذا لا تفهمون كلامي؟ لأنكم لا تقدرون أن تسمعوا قولي» (يو 8: 43)!
«جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزاً ولا يشرب خمراً، فتقولون: به شيطان» (لو 7: 33)!!
جاءكم إنسان ناسك يصوم ولا يأكل إلاَّ الجراد. المسيح هنا يُقارن بين نفسه وبين يوحنا (كل الأصحاح يدور حول هذه المقارنة). كان يوحنا يأكل جراداً وعسلاً بريّاً، عاش 30 سنة في البرية، وكان يلبس ثوباً خشناً ومِنْطقة من جلد؛ أما المسيح فجاء كشخصٍ عادي يأكل ويشرب الكتبة والفرِّيسيون قالوا عن يوحنا إن به شيطاناً، وفي كل جيل توجد فئة تتكلَّم بالشرور على الآخرين. وقالوا عن المسيح الذي يأكل ويشرب مثلنا: «إنسان أكول وشريب خمر، مُحبٌّ للعشارين والخطاة» (لو 7: 34). كان يمشي ومعه جمعٌ من العُرْج والعُمي والخطاة (مت 15: 31)، وإلى هذا اليوم نجد هذا الأمر: فإذا أكل رجل الله، لا يعجبنا هذا؛ وإذا صام، لا يعجبنا أيضاً «والحكمة تبرَّرت من جميع بنيها» (لو 7: 35). أي أن الحكمة تبرَّرت من أولاد الحكمة. والحكمة الإلهية التي أرسلت يوحنا هي التي تجسَّدت في المسيح ربنا. الفرِّيسيون رفضوا مشورة الله؛ أما العشارون فاعتمدوا من يوحنا. وفي حياتنا نجد هذه الأصناف:
صنف يأكل، ويشكر الله؛
صنف لا يأكل، ويشكر الله؛
صنف آخر، ينتقد هذا وذاك.
ليتك، يا أخي، لا تكون من الصنف الثالث.
ملكوت السموات: ما هو؟ ”ملكوت“ من كلمة ”ملك“، أي أن الله يملك: «يا ابني أعطني قلبك» (أم 23: 26)، هذا هو عرش الله.توجد قصة عن كارز بالهند، تأثر من كلامه رجل هندي، فأحضر ابنه الصغير وأعطاه للكارز كهدية عن كرازته، ولكن الكارز رفض. فأحضر له الرجل ابنه الأكبر، فرفض أيضاً. فأحضر له زوجته، فرفض. وأخيراً قدَّم له ذاته، فقَبـِلَه. فقال الرجل للكارز: ”أخدمك“. فأجابه الكارز: ”كُن معي لنعبد الله معاً ونخدم معاً“. وهكذا نحن لا يَرضَى الله منا أي شيء نمتلكه، بل قلوبنا هكذا ينبغي أن نُقدِّم للرب قلوبنا كل يوم قائلين: ”أنا أحبك من كل قلبي“. وحبُّ القلب، أن لا يفصلنا عن المسيح شيء.المسيح ليس له شيء أعظم من القلب ليتقدَّس به. وملكوت الله كائنٌ فيك، أي يملك على قلبك. وإذا ملك الله على قلبك تصير مِلْك لله. «ملكوت الله داخلكم» (لو 17: 21)، أي أن الإنسان صار كنيسة أي بيت الله. الله لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي، ولكن في قلبك الذي صنعه. ملكوت الله هو قلبك عندما يسكن الله فيه.ملكوت الله في مناداة يوحنا المعمدان: «يا أولاد الأفاعي. مَن أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي (أي يوم المسيَّا)... والآن قد وُضعت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النار... ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني، الذي لستُ أهلاً أن أحمل حذاءه... الذي رفشه في يده (أي المذراة التي تُستخدم في تذرية القمح)، وسيُنقِّي بيدره. ويجمع قمحه إلى المخزن، وأما التبن فيُحْرِقه بنارٍ لا تُطفأ» (مت 3: 7-12). هذا هو تصوُّر يوحنا عن ملكوت الله: المسيَّا الآتي مثل ”مذراوي“ يُفرِّق بين التبن والقمح. إنه ملكٌ حازم، وحُكْمه شديد. ولكن المسيح كان وديعاً.الملك عندما يجلس على كرسيه، يُحاكم المخطئ (هنا موقف دينونة)، ويُبرِّئ البار (هنا المكافأة). ويوحنا المعمدان رأى الملكوت هكذا: الشجرة الجيدة يُكرمها الملك، والشجرة البطَّالة يقطعها.دينونة العهد القديم كانت الرجم، وكان تصوُّر اليهود للمسيَّا أنه يدين على هذه الصورة (والمثال على ذلك المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل - يو 8: 1-11). دينونة المسيح كانت من نوع آخر. المسيح جاء ليدين بالكلمة: «أنا هو نور العالم» (يو 8: 12)، «الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة» (يو 6: 63). فكلام المسيح يدخل قلب الإنسان، فيدين الإنسان نفسه.المسيح لم يأتِ ليدين الإنسان من خارج بأية واسطة ظاهرة، بل هو يُكلِّمك ”كلمة حياة“ تدخل إلى قلبك فتدين أنت نفسك. هذه هي دينونة المسيح: المسيح داخلك، وأنت تدين نفسك. هو لا يمسك عصا ويضربنا بها: «إن سمع أحد كلامي ولم يؤمن فأنا لا أدينه، لأني لم آتِ لأدين العالم بل لأُخلِّص العالم» (يو 12: 47)، أنا أُلقي الكلمة وأنت تدين نفسك: «مَن رذلني ولم يقبل كلامي فله مَن يدينه. الكلام الذي تكلَّمتُ به هو يدينه في اليوم الأخير» (يو 12: 48).
كلمة المسيح هي الفأس التي قال عنها يوحنا المعمدان، تدخل قلبك وتستأصل الشر، ومثل السيف كما قال بولس الرسول: «لأن كلمة الله حية وفعَّالة وأمضى من كل سيف ذي حدَّين، وخارقة إلى مفرق النفس والروح والمفاصل والمخاخ» (عب 4: 12). أي أن كلمة الله تقطع الشجرة الشريرة التي في قلبك. وكلمة الله هي الفأس، فعندما تدين نفسك بكلمة الله، فإن الكلمة تقطع الشجرة الشريرة التي فيك. وأما الشجرة الجيدة المثمرة، فهي أيضاً في قلبك، فعندما تتوب بعد سماع الكلمة، فإن هذه الشجرة تُثمر أثماراً تليق بالتوبة.وكلمة الله هي أيضاً تُنقِّي الشجرة كل يوم. وكل يوم تصلِّي وتُسبِّح وترتِّل وتتهلل، فأنت تسقي الشجرة فتنمو إلى فوق.
كلمة الله في العهد الجديد هي الدينونة، وهي التعزية والفرح والتهليل.
في العهد القديم: الزانية تُرجم بالحجارة؛ أما في العهد الجديد: فالزانية هي نفسي النجسة عندما أُحضرها أمام المسيح كل يوم، وهو قادر أن يُبرِّرها ويُسامحها ويقويها لكي لا تخطئ.
كلمة الله هي المذراة، تنقِّي القمح من التبن. أما الإنسان الذي لا يستنير بكلمة الله، فإن نفسه تفسد وتتعفن كما يتعفن التبن مع القمح عندما يُترك بغير تذرية، فلا يصلح للإنسان قمح، ولا للحيوان تبن! لا التبن ينفع، ولا القمح أيضاً يصلح ولا لمزبلة!!
هذا هو الإنسان الذي ليست له دينونة في قلبه.
في العهد القديم كانت المكافأة خيرات أرضية، أما الدينونة فكانت رجماً بالحجارة.
وفي العهد الجديد فالمكافأة تعزيات روحية بالخيرات السماوية، أما الدينونة بكلمة الله التي تدخل القلب فتحكم على الإنسان.
الفأس هي البلطة عند الفلاحين. والبلطة هي كلمة الله. إذا دِنْتَ نفسك، تنتقل من الموت إلى الحياة. ?
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
30 أبريل 2021
يوم الجمعة من البصخة المقدسة
دم المسيح وجهادنا اليومي
اليوم رهيب جداً يا أحبائي، لا تستطيع كلمات و لا تعبيرات بشرية أن تقترب مجرد اقتراب من سر الصليب. سر غير مُدرك، سر يتلاقى فيه الموت والحياة. سر يتلاقى فيه الألم الشنيع والضعف مُنتهى الضعف مع القوة مُنتهى القوة، بل مع قوة ليست من هذا الدهر.
من أجل هذا يصبح الكلام عسيراً جداً، إذ لمن صُلب المسيح إلا لنا، ولمن قدَّم المسيح جسده لِتُدقَّ فيه المسامير ويُطعن ويُخضب بالدماء، إلا لكي يغرس هذه المسامير عينها إنما - بلا وجع - في جسد كل واحد منا. لأنه مَنْ مِنَ البشر يستطيع أن يُصلب عن نفسه، غير ممكن، وإلا يُعتبر انتحاراً!! حتى لو صُلب الإنسان عن نفسه؛ أيُدعى ذلك خلاصاً؟! أبداً! ففي البداية والنهاية هي عقوبة، موت، والموت عقاب. فالمستحيل لدى كل إنسان استطاع الله أن يُتمه للإنسان.
اليوم نرى المسيح الصادق الأمين، الذي قال عن نفسه: «أنا هو الراعي الصالح» الذي «يبذل نفسه عن الخراف»، يُتمم ذلك عملياً على الصليب، ويقول: ليس حبٌّ أعظم من هذا أن يضع إنسان نفسه من أجل أحبائه.
حديثنا اليوم عن أوجه الصليب الثلاثة التي تختص بحياتنا.
الوجه الأول للصليب هو الوجه المقابل لله الآب:
هذا الوجه يختص بالله مائة في المائة. هو فعل كفَّاري. فإذا كنا نقول: أنا «مع المسيح صُلبت»، ومع المسيح مُت، ومع المسيح قُمت؛ ولكن لا أحد يجترئ ويقول: أنا مع المسيح سفكتُ دمي. هذا عمل يختص به المسيح وحده، عمل خاص به، لا نستطيع نحن أن نُشارك فيه. إنه عمل إلهي خاص بالعلاقة التي بين الآب والابن التي تجسد ليكملها من أجلنا. نحن عندما نقول أن المسيح سَفك دمه على الصليب، نتذكر على الفور ما كان يتم يوم عيد الكفارة عندما كان يدخل رئيس الكهنة وحده مرة واحدة في السنة إلى قدس الأقداس وينضح بالدم ويُكفِّر عن الشعب. هذا هو تماماً ما فعله المسيح عندما دخل إلى الأقداس بدم نفسه، ونضح على جسده، أي على البشرية كلها، وتراءى أمام الآب والدم عليه، فوجد لنا فداءً أبدياً. واعتُبر هذا ذبيحة كفَّارة عن كل خطية اقتُرفت من آدم إلى آخر الدهور.
الفعل الثاني لسفك الدم والتقدم به للمسيح متصل وتابع بالضرورة لذبيحة الكفارة: هو الفداء. المسيح عندما قدم ذاته كذبيحة كفارة والدم عليه أو على البشرية؛ فإن الآب قبل هذه الذبيحة، هذا هو الفداء، وأصبح الإنسان مفدياً. كانت البشرية كلها أمام الله ميتة، لأن اللعنة جازت من آدم لكل نسله. المسيح تقدم إلى الآب، بموت نفسه، لكي يقدم هذا الموت إزاء كل موت آخر لكل إنسان؛ فإذا قُبل هذا الموت ، أو قُبلت هذه الذبيحة الكفارية؛ يكون هنا الفداء قد أُكمل.
الفعل الثالث هو المصالحة، هو تالي ومتصل اتصالاً وثيقاً بالفعلين السابقين أي الكفارة التي قُدمت وقُبلت؛ وبذلك تم الفداء، ومن ثم صارت المصالحة. فالمصالحة هنا هي استجابة الآب. «وكان الله مُصالحِاً العالم لنفسه بالمسيح».
ثلاث أفعال سرية، نقلتنا 3 نقلات مهمة للغاية، كان نتيجتها إننا كُفِّر عنا، واُفتدينا، ثم صُولحنا مع الآب بدم كريم، دم يسوع الذي بروح أزلي قدَّم نفسه للآب ليطهِّر ضمائرنا من أعمال ميتة.
هذا هو وجه الصليب الأول، المواجه للآب.
ثانياً: وجه الصليب المواجه للشيطان
الشيطان هو المشتكي علينا وعلى إخوتنا ليلاً ونهاراً، هو لا يطيق نجاحنا، هو دائما يحسدنا، ثم هو يعرف ماضينا وما اقترفناه في حياتنا، لذلك هو يُذكِّر الله بها، تماماً كما رأيناه في شكواه على أيوب، لذلك هو يضع أمام الله كل مُسوغاته في الأفعال التي يمسكها علينا، ويُدعِّم شكاياته علينا ليثبت له عدم استحقاقنا. أما الله، فمن جهته، فهو يرى أمامه دم ابنه كل حين، فعلى الفور، وفي الحال، تسقط كل شكاوي الشيطان. كما يقول القديس يوحنا: «دم يسوع المسيح ابنه يُطهرِّنا من كل خطية». فكل شكوى تُقدم وتُقام ضد أولاد الله مرفوضة. ويبلور بولس الرسول هذا المفهوم ويقول: «مَنْ سيشتكي على مختاري الله؟» . فإذا كان المسيح هو الذي له وحده حق الدينونة علينا فنحن بكل تأكيد نصير مُبرَّأين وتسقط كل القضايا المرفوعة ضدنا.
كذلك الشيطان يمكن أن يشكونا ضد أنفسنا، يُزيِّف ضمائرنا. نعم قد يجعلك تقرع صدرك، ويقول أنت خاطئ وشرير، ولكن إلى هنا ليست هناك مشكلة، ولكنه بعد ذلك يوقعك في اليأس، ويوهمك أنه ليس هناك رجاء. ويجب أن تُفرِّق بين صوت روح الله المتكلم في الضمير وصوت الشيطان الكاذب في الضمير. صوت الله يعطي تبكيت، ولكن لخلاص ورجاء بلا ندامة، في حين أن صوت الشيطان هو للتأنيب وينتهي باليأس.
وخدعة أخرى للشيطان يحارب بها أولاد الله، هو أنه قد يقنعهم بزيادة الجهاد، بزيادة النسك، بزيادة الميطانيات، بزيادة السهر... والشخص يسير في هذا الطريق، للأسف، بلا مشورة، فيجد نفسه في محلك سر، مازال واقعاً تحت نفس الضعفات الأولى، ولا يتقدم قيد أُنملة في الطريق الروحي. في الحقيقة إنه لا عيب في الجهاد بحد ذاته، فلابد من النسك، لابد من قمع الجسد، لابد من الميطانيات، لكن هذه وحدها فقط لا تكفي، ولا تغني عن دم المسيح. فالسبب الرئيسي لغلبة الشيطان علينا هنا هو أننا نجاهد ببرنا الشخصي، نجاهد بقوتنا الرخيصة، نجاهد لحساب الذات.
أما الرد الوحيد على كل مهاجمة واتهام للعدو لنا هو:
دم المسيح. دم المسيح هو فِعل لانهائي، فلا خطيتي ولا خطايا البشرية كلها تقدر أن تُنهيه أو تستهلكه أو تستنفذه. ليست خطية ولا ألف خطية تقدر أن تدينني أو تُعيرني أو يكون لها شكاية عليَّ أمام الله. أنا أمام المسيح مُبرَّأٌ، مُكفرٌ عني، مغفور الخطايا. كل اتهام يرفعه الشيطان ضدي مرفوض شكلاً وموضوعاً، مُقدم أمامه حق الفيتو. فحتى ولو كان المشتكي يشتكي علينا ليلاً ونهاراً؛ فالمسيح بدمه يشفع فينا أيضاً ليلاً ونهاراً. فشفاعته ضد شكايته. وأنا تماماً خارج الموضوع. المسيح محا الصك المكتوب علينا، رفعه من الوسط، كل الوثائق الممسوكة علينا مزقها في صليبه، كما نقول: «مزَّق كتاب يد خطايانا، أيها المسيح إلهنا». المسيح، بدمه المسفوك على الصليب، ظفر بالشيطان، فضحه، جرَّده من كل أسلحته، أخضعه تحت رجليه. فهل بعد هذا يقدر الشيطان المُهلك أن يدخل البيت طالما الدم مرشوش عليه؟ هل تجوز أي شكاية أو عرائض اتهام علينا طالما نحن في حمى الدم؟ مستحيل بالتأكيد.
نعم، عليك أن تيأس من نفسك، ولا أقول تيأس من خطاياك، فكل خطاياك مغفورة، بل عليك أن تَكْفَر بقدراتك ومحاولاتك النابعة من أصل المرارة داخلك، لا تتكل على أعمال صلاحك، فكل هذا لن يجديك، هو فقط دم المسيح.
الوجه الثالث للصليب: أمام كل واحد فينا
هنا الإنسان يكتشف أن المسألة ليست مجرد خطية تُرتكب، ولا فعل خاطئ يُفعل، ولا سلوك معيب يُدان عليه، لا، الأمر أعمق من هذا بكثير، فداخلي ينبوع فاسد، ميل مستمر للخطية حتى بدون فعل. هذا هو الإنسان العتيق. والحق إن هذا المصدر هو أعمق بكثير من الأعمال والسلوك والخطايا، ذلك لأني كلما أُخطئ، أعترف وأتوب، والدم يُطهرني؛ ولكننا هنا نتكلم عن المصدر، المنبع الذي تنبع منه هذه الأفعال الرديئة، والطبيعة الميَّالة للخطية. نحن خطاة ليس لأننا نعمل الخطية؛ ولكننا أولاد آدم. عندما أخطأ آدم في الفردوس، نحن كنا معه في صُلبه، فورثنا منه طبيعته الخاطئة. فآدم كان هو العِلة، ورثنا منه كل ما هو رديء وكل ما هو لا يُرضي الله. إذن ما هو الحل؟ كيف أُغيِّر طبيعتي، ربما قليلاً نقدر أن نُغير بعض أفعالنا وبعض سلوكياتنا، ولكن المطلوب تغيير مصدر هذه الطبيعة. الحل لابد أن يموت آدم. ونحن جميعاً أولاد آدم.
ففي اليوم المعين، وفي الساعة المُعيَّنة العظيمة، الساعة التاسعة من يوم الجمعة العظيمة، نفَّذ الله تدبيره في المسيح، ومات المسيح، ومات آدم معه، وتخلصنا من طبيعة آدم إلى الأبد. وهذا هو وجه الصليب الثالث. هذا هو العمل العظيم الذي عمله الله في المسيح لكل واحد فينا.
كان من العسير أن الآب يتعامل مع كل واحد فينا ليُميته، فأرسل ابنه في شبه جسد الخطية ليدين الخطية، يدين المصدر، أي الينبوع المُلوث الذي تصدر منه سائر الخطايا.
مات المسيح بالجسد على الصليب فدينت الخطية إلى الأبد. ومات آدم الذي فينا وأُعطينا فرصة من اليوم وإلى الأبد، من يوم الصليب، الجمعة العظيمة وإلى نهاية الدهور أن ننال هذه القوة فينا بإيمان بدم المسيح، قوة الموت عن آدميتنا، لنحيا بالمسيح.
صلاة
يا ربنا يسوع المسيح، يا من أعطيتنا ذاتك، ووراء عطيتك كان ما كان من آلام لم تدركها البشرية بعد؛ ولكن أعلنتها لأولادك المخلصين.
أعلِنْها اليوم، يا رب، بالسر لأولاد سِرِّك، ليعلموا كم كلَّفَتْ الخطية الله وابن الله،
كم كلَّفت من حب مسفوكٌ دمه على الصليب؛
حتى نستطيع مرة أخرى أن نأخذ حريتنا بالروح، وننال حياتنا التي كُبلت بالخطية وبالموت سنيناً هذا عددها.
أعطِنا، يا ابن الله، انتباهة روحية في القلب لقيمة عمل الصليب بأوجهه الثلاثة،
لكي لا ننسى أبداً أننا كُفِّر عنا تكفيراً،
وافتُدينا فداءً أبدياً، وصولحنا أمامك إلى الأبد.
ولا يحتاج الأمر بعد إلا إيماناً بجرأة وقدوماً إليك في شخص يسوع المسيح لنأخذ نصيبنا الذي لنا في المسيح.
أعطِنا، أيها الآب السماوي، أن ندرك اليوم عطاياك التي وهبتَها لنا في شخص ابنك يسوع المسيح: عطايا هذا طولها وهذا عرضها على الأرض وفي السماء.
أعطنا أن نضع أيدينا على الدم المسفوك على صليبك ليكون لنا إيمان به، نسير به حتى عتبة الموت.
آمين. اسمعنا أيها الآب والابن والروح القدس ليتبارك اسمك منذ الآن وإلى أبد الآبدين. آمين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
29 أبريل 2021
يوم الخميس من البصخة المقدسة
عشاء الوداع: وتذكرونني إلى أن أجيء
«شهوةً اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم».
هي شهوة تكميل الرسالة وتسليم سر البقاء الدائم!
كانت آلام المسيح وكان موته الفاصل بين الوجود بالجسد والوجود بالروح، ليس فاصلاً زمنياً ولا فاصلاً كيانياً؛ ولكنه كان فاصلاً بين العيان المنظور والرؤيا بالروح لشخصه الإلهي في المجد.
وكان العشاء الأخير صورة وداع للغياب العيني بالمنظور، وفي نفس الوقت، استيداع سر بقائه مع التلاميذ إلى الأبد: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر»؛ وذلك في سرٍّ استودعه الخبز ليكون عِوَض الجسد الروحاني مأكولاً بالفم ومستقراً في كيانهم بالروح، وفي خمرٍ ممزوج عِوَض الدم مشروباً بالفم ومستقراً في كيانهم بالروح.كان هذا هو اشتياقه الذي برَّح به أن يأكل معهم فصح الوداع، ويكون فيه سر البقاء وسر الشركة الحقيقية بالروح.وإمعاناً في تأكيد وجوده كلما أكلوا من الخبز وشربوا الكأس، قدَّس كليهما تقديساً ليحمل الخبز سر الجسد ويحمل الكأس سر الدم. وبعد أن قدَّسهما أعطاهم الخبز متحوِّلاً إلى جسده وكاشفاً سر التحوُّل بقوله: «خذوا كُلوا هذا هو جسدي... وخذوا اشربوا هذا هو دمي».ولكي يجعل التأكيد على حضوره يقيناً، كشف لهم سر الجسد المكسور وسر الدم المسفوك بقوله: «كلما أكلتم من هذا الخبز (المتحوِّل) وشربتم هذه الكأس (المتحوِّلة)، تبشِّرون بموتي»؛ باعتبار أن الجسد حال تأكلونه، تأكلونه مذبوحاً بالسر؛ والدم حال تشربونه، تشربونه مسفوكاً بالسر؛ أي يكون قد استودع في العشاء سر الصليب والقبر. ولكونه أصلاً قد مات ليقوم، صارت البشارة بالموت هي بعينها اعترافاً بالقيامة.وبهذا العمل السري، يستحضرون الرب حيّاً وعليه جروح الصليب، ويكون هذا بمثابة وجوده بينهم حيّاً كما كان، إنما في حال قيامة دائمة وجروحه عليه. وهذا يكون بمثابة صُنع تذكار حيّ لوجوده غير المنظور، لا بالفكر كمَنْ يتذكَّرون المسيح الذي مات ومضى؛ بل ذِكْر وجودٍ حيٍّ للمسيح القائم الدائم. وهكذا صارت الإفخارستيا استدعاءً لوجود الرب مذبوحاً وقائماً معاً بحالٍ غير منظور للعيان، فائقاً على فكر الإنسان؛ كخبز مأكول ودم مشروب، وهو هو بعينه المأكل الحق والمشرب الحق، وليس حقٌّ في الوجود إلاَّ المسيح. ولذلك اعتُبِرَت الإفخارستيا أكلاً حقيقياً للرب حسب قوله: «مَنْ يأكلني فهو يحيا بي»!
وهكذا يؤول التذكار إلى شركة حيَّة في المسيح لتتميم سر الاتحاد العجيب: «أنتم فيَّ، وأنا فيكم» ! و “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه» ، «ويكون له حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير» !
فتذكار المسيح بإقامة الإفخارستيا، هو ذِِكْر حضوره ليس ذِِكْراً عابراً، وهو بعينه سر شركة في حياة وقيامة الرب التي ستُستعلن أخيراً بالقيامة حينما نراه كما هو، ونرى أنفسنا فيه: «إذا أُظهِرَ نكون مثله، لأننا سنراه كما هو” . والقول: «نكون مثله» ، قولٌ سري عميق المعنى، غاية في الخطورة، لأنه يعني: شركة المثيل للمثيل.وقوله: «وتذكرونني إلى أن أجيء» ؛ أي: إلى أن أُحقِّق لكم وجودي بالعيان المنظور، الذي يبلغ من الصفاء الحد الذي فيه يتطابق العيان مع الرؤيا، حين يبلغ الإنسان الجديد تحقيقه اللازمني، فيرى ما لا يُرَى. فنحن الآن نعيش الذكرى بسبب تعوُّق الإنسان الجديد عن أن يُعاين بالعيان المجد الحادث الآن للرب ، ولو أنه أحياناً يأتي، فينفتح وعي الإنسان الجديد ويرى الرب قائماً ومتكلَّماً.مِن هذا يتأكَّد لنا أنه حاضرٌ محتجَبٌ. وقوله: «إلى أن أجيء» ، هو بسبب غيابنا نحن عن اكتشاف وجوده. لذلك فصراخ الشعب مع الكاهن في الكنيسة الأولى بعد تكميل الإفخارستيا وتناولهم جميعاً، عندما يقولون: “ماران أثا” بمعنى: “تعالَ أيها الرب يسوع، وليزول العالم”؛ هو محاولة شبه يائسة لرؤية الرب القائم في الوسط حسب وعده الأمين: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم»!
أما قوله على الجسد فهو: «لأني أقول لكم: إني لا آكل منه بعد حتى يُكْمَلَ في ملكوت الله»، ومرة أخرى على الدم: «الحق أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله». وذِكْر كلمة: ”اليوم“، تفيد: ”الآن وفي الزمن الحاضر“. فالمعروف، وبحسب الرب، أن في الملكوت السماوي لا أكل ولا شُرب؛ ولكن المعنى أقوى وأبسط، فهو سيأكله معنا هنا عندما يكون قد دخل ملكوته، ويشربه معنا هنا سرّا ًعلى الأرض وهو قائمٌ في ملكوته. فالمعروف، وبحسب صراخ الشماس، أن المسيح يكون قائماً على المذبح وقت رفع الذبيحة، ويشترك معنا كعشاء الخميس مع الرسل.أما كيف يأكل ويشرب هنا معنا، وهو في حال قيامته ومجده، فالردُّ على ذلك أوضحه هو: «وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مُصدِّقين من الفرح، ومتعجِّبون، قال لهم: أعندكم ههنا طعامٌ؟ فناولوه جُزءًا من سمك مشوي، وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدَّامهم».لذلك من اليسير أن نفهم أن المسيح بحضوره في الإفخارستيا يشترك حقًّا. ومن أجل هذا تأخذ الإفخارستيا قداستها ورهبتها وحقيقتها الأولى في عشاء الخميس.وفي قدَّاس القديس باسيليوس، تقول إحدى الأسبسمسات أثناء القبلة المقدسة: [ تعالَ إلينا اليوم يا سيدنا المسيح، وأضيء علينا بلاهوتك العالي].وأيضاً في نفس موضع القبلة في القداس الكيرلسي، يقول الشعب الأسبسمس الآتي: [ عمانوئيل في وسطنا الآن، بمجد أبيه والروح القدس، ليُباركنا كلنا ويُطهِّر قلوبنا ويشفي أمراض نفوسنا وأجسادنا. نسجد لك أيها المسيح].وفي أثناء التوزيع يُقال لحن:بي أويك Pioyk :[ونحن ننظرك كل يوم على المذبح، ونتناول من جسدك ودمك الكريم ... إلخ].فالإفخارستيا هي حضورٌ إلهي حقيقي، يقدِّسها المسيح بشخصه، ويُقيم سره فيها، وهو الذي يُناوِل بيده غير المنظورة، إنْ الجسد أو الدم.فالمسيح عند وعده، لم يشترك مع تلاميذه في أيِّ إفخارستيا إلاَّ بعد قيامته. وقد كشف لنا التلاميذ هذا الحضور وهذه الشركة في الأكل والشرب بقولهم: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث، وأعطى أن يصير ظاهراً، ليس لجميع الشعب، بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات» .وهكذا يتحقَّق لدينا حضور الرب في الإفخارستيا وتقديس أسرارها، واشتراكه فيها وتوزيعه لأسرارها بيديه. فهذه الإفخارستيا التي نصنعها لذكره، هو قائمٌ ومشتركٌ فيها. فأيُّ تذكار هذا إلاَّ ذِكْر حضوره!
أما مجيئه فسيكون لاستعلان القيم والحقائق العظمى للأسرار التي أكملناها باسمه وذِكْره، ولِبْس الأكاليل للذين أقاموا الذِّكْر حسناً. نعم، تعالَ أيها الرب يسوع. آمـين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
28 أبريل 2021
الساعة التاسعة من يوم الأربعاء من البصخة المقدسة
مِسْحَة الموت المُعطِّرة للجسد
ان الطيب المسكوب على الجسد الحي من أجل تكفينه في بيت عنيا أول شركة مقدَّسة صادقة في موت المسيح. كانت هذه المسحة الأخيرة أول عبادة مقدَّسة للجسد الإلهي الذي ارتفع إلى السماء حيًّا ليحيي جسم البشرية ويبرِّرها. لقد رد المسيح طيب الناردين مضاعفاً باقياً أبداً لجسد البشرية الذي اتحد به ومنحه روحه وحياته وبنوَّته، بأن أجلسه عن يمين أبيه. وارتد تذكار هذه المحبة الخالصة الكثيرة الثمن لصاحبته من دور فدور وفي كل كنيسة وقلب كل عابد في العالم كله. ولقد صار ناردين البشرية المسكوب على جسد المسيح مدخلاً بديعاً للآلام ونبوَّة عن قيامة عتيدة تعطِّر تاريخ الإنسانية!
«وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبٍ كَثِيِرِ الثَّمَنِ، فَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ».كان ذلك بحسب إنجيل ق. يوحنا قبل الفصح بستَّة أيام وبحسب الأيام كان مساء السبت 8 نيسان.القديس متى عاشق للمقارنات، يضع قصة العطر والمسحة في بيت مريض شفاه المسيح، في مقابل بيت رئيس الكهنة الذي تفوح منه رائحة الدم والنتانة تتصاعد من أفواه وبطون الكبراء والرؤساء والمرؤوسين والمأجورين.هنا يعفُّ ق. متى أن يمس بكلمة تلك المرأة صاحبة المحبة المحفوظة في قارورة الطيب إلى اليوم الذي ينبغي أن تخرج منه، لتعطي للجسد كرامته بل قداسته، إن لم يكن في أعين رؤساء الكهنة ففي عين الكنيسة إلى أبد الدهور. فالذي يمسح الجسد المسحة الأخيرة كاهن هو وأعظم من كاهن، فلمَّا خذل الكهنوت صَنْعَتَهُ واشتغلوا بالمؤامرات والقتل، قامت امرأة في إسرائيل كدبُّورة ترفع قرن الكهنوت عالياً وتطرح حقد التلاميذ وجشع يهوذا أرضاً لتقول قول دبورة: دوسي يا نفسي بعز!! وضمَّخت الجسد بالعطر قبل أن يُعرف له قبر!! ودهنت الرأس ولم تكن تعلم أنها دهنت رأس الكنيسة كلها. ولقد عبَّرت هذه المرأة الملهمة الذكية عن بهجة القيامة في وسط مؤامرات الموت وحبَّبت إليه القبر لمَّا اشتمَّ من قارورتها رائحة الصعود!
«فَلَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذلِكَ اغْتَاظُوا قَائِلِينَ: لِمَاذَا هذَا الإِتْلاَفُ؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا الطِّيبُ بِكَثِيرٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ».لقد تضاربت الأقوال على مَنْ هو صاحب هذا النقد غير الصائب، فالقديس يوحنا قال إنه يهوذا وهذا كان يليق به لأنه كان حامل الصندوق ويلتقط كل ما يدخل فيه. والقديس مرقس قال بعض التلاميذ متحشِّماً، وق. لوقا قال أحد الفريسيِّين حتى يزيح هذه السبَّة عن جبين التلاميذ. وهنا ق. متى يلقيها على التلاميذ كلهم - لأن ق. مرقس زاد القول أن التلاميذ كانوا يؤنِّبونها- حتى تصيب الكنيسة فيوعِّيها عن الخطأ والعيب. ولكن لا يفوتنا اتهام التلاميذ هنا عن أن يلقي الضوء على ضعف وانحراف دور التلاميذ في قصة الآلام الذي قد تنبَّأ عنه المعلِّم بقلب حزين: كلّكم تشكون فيَّ في هذه الليلة، هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرَّقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي. فكانوا يشكِّلون ثقلاً على المسيح، ولكن كشفوا في المقابل عن مدى سعة صدر المسيح وعفوه وحبّه وتسامحه ونعمته. وصدق ق. يوحنا إذ قال بصددهم: كان قد أحبَّ خاصته الذين في العالم أحبَّهم إلى المنتهى. وألقى ق. لوقا صدى هذا القول بقوله: شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألَّم. كما تنبَّأ المسيح عن بطرس حزيناً: سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ولكني طلبت من أجلك لكي لا ينفى إيمانك. ولكن وفي الحقيقة كان موقف التلاميذ مُخزياً للغاية!
«فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُزْعِجُونَ الْمَرْأَةَ؟ فَإِنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً! لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ».”كَشْفٌ فاضحٌ وتقريرٌ لاذع وتعقيب على غيظهم يَرُدُّ غيظهم إلى بطونهم. هم قالوا هذا التصرُّف فيه إتلاف فردّ الرب عليهم وقال هذا الرد فيه إزعاج. هم قالوا أن يُباع أحسن، والمسيح قال إنها عملت الأحسن. هم قالوا الفقراء أفضل والمسيح ردَّ عليهم بل أنا الأفضل! فماذا بقي لمشورة التلاميذ؟ لقد استطاع ق. لوقا في إنجيله أن يرى في تصرُّف التلاميذ هذا عملاً عدائياً للمسيح فاستكثره على التلاميذ فنسبه إلى أحد الفريسيين!! فكان هذا أفضل تعليق على الوضع بأكمله دون أن يجرح التلاميذ وهو بذاته أشد من الجرح!!
”تبًّا للمبادئ والأصول وقياس الأفضل مالياً إن كان فيها احتقار للمحبة، ويا ليتها محبة مقدَّسة لإنسان محتاج ولكن لمسيح قادم على الصليب. إن القلم يكاد يخرج عن طاعتي حينما أعيد الفكر فيما صنعه التلاميذ، ولكن شكراً للرب فقد قال ما يكفي. آه لو دري جميع الفقراء بما قاله التلاميذ، لتبرعوا بثمن خبزهم شهراً ليقدِّموا نفس قارورة الطيب وفي نفس وقتها ولنفس الغرض ويبقوا هم جياعاً مسرورين إذ يكونون قد قدَّموا طيباً لتكفين الجسد الذي حمل عنهم خطاياهم وفتح لهم باب الملكوت! وكم وكم تحمَّل الفقراء ألوف وملايين من الأموال التي نُهبت على اسمهم وما دروا وما سمعوا عنها شيئاً!! والقديس متى يصمِّم أن يجعل من قصصه تعليماً للكنيسة طالما بقي لها ضمير!!
”على أن الدرس الأكبر الذي نخرج به من قول المسيح إنها عملت بي عملاً حسناً وإن الفقراء معكم كل حين، هو أن العبادة لله بالروح أعلى شأناً من إعطاء الحسنات، وتوقير شخص المسيح بالحب أرفع من خدمة الفقير. لذلك نحن نرى في قول ق. مرقس من أجل ترك العالم والأسرة أن يكون ذا اتجاهين هكذا: من أجلي ومن أجل الإنجيل اتجاهاً سريًّا خطيراً لتقنين بيع العالم وما فيه حبًّا للمسيح وحده، وتقديم ذبيحة النفس طوعاً لعبادته، على نفس المستوى تماماً لتقديم الذبيحة لخدمة الإنجيل والكرازة باسمه. وعلى القارئ أن يزنها جيداً، فهي سند إنجيلي قوي للذين كرَّسوا الروح والنفس والجسد لعبادة الرب بالروح والحق!!
لذلك تجدنا أيها السامع العزيز أمام لغز هذه المرأة - التي نعرف بحسب تأكيد إنجيل ق. يوحنا أنها مريم أخت لعازر - التي لفتت نظر الكنيسة بقوة نحو حياة الجلوس تحت قدمي الرب باعتباره اختيار النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها، أفضل مما اختارت مرثا بالارتباك والاهتمام بأمور الخدمة الكثيرة. ثم تعود هنا وتظهر بقارورة طيبها التي لم تكن إلاَّ حياتها تكسرها وتدهن بها الجسد لتطيِّبه حبًّا فأراحت نفسه، وردَّ جميلها بأجمل منه إذ جعل حياتها هذه سواء بجلوسها تحت قدميه تسمع وتتأمَّل فيما تسمع، أو بتحويشة العمر لتسكبها على رأسه والجسد وتبل رجليه بدموعها كعهد تَـقْـوَى، وتمسحهما بشعرها لترتد لها مسحة قداسة، جعل حياتها في الكنيسة عملاً وذكرى وتذكاراً حسناً.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
27 أبريل 2021
الساعة الحادية عشرة ليوم ثلاثاء البصخة
على مثل الوزنات
«وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ».ويبدأ المَثَل في مشروع رحلة بعيدة لإنسان سيد، وبناء عليه دعا العبيد لتسليمهم أمواله، هنا ترتفع العلاقة التي تربط السيد بعبيده إلى أقصى مستوى من التبعية والأمانة التي تصل إلى حد تسليمهم أمواله ليقوموا بعمله، باعتبارهم حائزين على كل إمكانياته، وعلى ثقته أيضاً. والإحساس هنا يكاد يُنْبِئ بأنه جعلهم كأبناء كونه يحمِّلهم مسئولية إدارة أمواله في غيابه، وكأنهم يمثِّلونه شخصياً.«فَأَعْطَى وَاحِداً خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ».نحن الذين اختارهم الله في المسيح يسوع لملكوته الأبدي قبل إنشاء العالم لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة. اختارنا وكل واحد منا خلقه بإمكانية وطاقة معيَّنة في المواهب وفي القدرة على استخدام المواهب، وبالتالي بإمكانية للخدمة تتناسب مع الطاقة والمواهب. في حين أعطانا فداءً واحداً وخلاصاً واحداً ودعوة مقدَّسة واحدة متساوية في كل شيء للخلاص.وهكذا بمقتضى حكمة الله الفائقة ومعرفته الكاملة المطلقة التي لا يغيب عنها شيء من أمور الخليقة كلها، ودرايته الكاملة المطلقة بدقائق إمكانياتنا وذكائنا وضعفنا، أعطى كل واحد منَّا وزنات تتكافأ تماماً مع طاقتنا ومقدرتنا ومواهبنا للخدمة، نخدم خلاصنا وخلاص الآخرين لحساب ملكوته الأبدي. فلم يُعطِ لأحد من الوزنات أو من الخدمات ما يفوق طاقته، إلاَّ إذا أقحم إنسان نفسه في خدمة أو عمل يفوق طاقته وإمكانياته، فهذا يُسأل عن عجزه ويُلام في تقصيره ولا يُلام الله بسببه في شيء.
ويلاحظ السامع، أن السيد المسافر هذا لم يأخذ صكوكاً ولا كتب شروطاً ولا حذَّر ولا أنذر ولا أوعى وأوصى، بل بكل ثقة أعطى ماله لعبده الأول على أن يتاجر فيه بقدر ما حباه الله من مواهب. والأمانة المطلقة فُرضت هنا باعتبارها العلاقة الأُولى التي تربط السيد بعبيده.وهكذا أعطى العبد الثاني ما يتوافق مع طاقاته وإمكانياته، وكذلك الثالث، ولم يلاحظ قط أن أياً من الثلاثة استكثر الوزنات أو استقلها، مما يوحي أن التوزيع كان عادلاً بمقتضى طاقاتهم حقـًّا.
«وسافر للوقت»:
وكأن اجتماعه بخدمه كان طارئاً لتسليم هذه الوزنات، على أن عودته ستكون للسؤال عن النتائج بقدر الأهمية التي نعرفها نحن عن موهبة الفداء والخلاص التي منحها للجميع بقدر واحد، وكيف أنه سيأتي ليحاسبنا على الدم الذي سفكه من أجلنا، ونعمة الخلاص الذي أكمله بقيامته من أجلنا.«فَمَضَى الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. وَهَكَذَا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضاً وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ».لم يدَّخر جهداً، بل في الحال قام العبد الذي أخذ الخمس وزنات وتاجر بها وربح خمس وزنات أُخر، فكان عند حسن ظن سيده وأثبت جدارته، كما أثبت أن سيده كان حكيماً دقيقاً عالماً بإمكانياته وطاقته تماماً. كذلك العبد الثاني تاجر وربح وزنتين وأضاف إلى برهان الأول برهانه الخاص أنه كان جديراً بالوزنتين، وأن سيده كان حكيماً ومدركاً طاقته تماماً.حدَّد كمية الوزنات. أي أن الطاقة هي من عمل النعمة، وعلى أساس عمل النعمة يمنح الله الوزنات. وعلى هذا الأساس اللاهوتي تتم المحاسبة والعقاب. لأن الذي لم يربح يُعاقب لأنه عطَّل عمل النعمة فأوقف عمل الوزنات. أمَّا الربح فقد زكَّى عمل النعمة. وهكذا ترتد النعمة عليه بالطوبى والبركة والمكافأة.«وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي الأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ».إخفاء الوزنة أو الفضة في الأرض يقابلها تعطيل أو إبطال عمل الموهبة أو المميزات الروحية التي أعطاها الله للمؤمن. وهذا يتم عند الذين إمَّا فقدوا الإحساس بقيمة الموهبة أو صار لهم استهتار وازدراء بصاحب الموهبة، وبالتالي عدم اهتمام بمجيئه والحساب الذي سيحاسب به كل إنسان عن ما وهبه إيَّاه. وهنا يتركَّز المَثَل في عدم السهر ورفض العمل وفقدان الإحساس أو الأمانة بالمسيح.«وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. فَجَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا».
هنا تحديد الزمان الذي غابه السيد بأنه طويل يوضِّح تأخُّر المجيء الثاني، وهذا ردٌّ على الذين كانوا يظنون أنه سيأتي سريعاً. وأمَّا الحساب فهو ضرورة قصوى كمبدأ إيماني ثابت أن الإيمان بالمسيح هو عمل وحساب على العمل، وإلاَّ انقلب الإيمان المسيحي إلى فوضى. ومرَّة أخرى نفهم الإيمان المسيحي أنه قائم على عطايا ومواهب وامتيازات تحمل قيمة فائقة داخلها لا يكشفها ويستمتع بها إلاَّ الذي يعمل ويجتهد ويتاجر بها. وفي نفس الوقت فإن هذه المواهب والامتيازات الإيمانية سيُطلَب ربحها في حياة كل مؤمن في حساب الدينونة العتيدة. ومثل هذه الوزنات هنا سواء في الخمس أو الاثنتين أو الواحدة هي مجرَّد عيار للمواهب توزن في مقابلها الأعمال. ويتحتَّم أن تكون هذه المواهب قد قدَّمت ما يساويها من أعمال وإلاَّ يُحسب الإنسان أنه اختلس أموال السيد.«فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».أمَّا كونه حسناً أو جيداً فلأنه أثبت أن ما قدَّمه من “عمل” يساوي “طاقته” تماماً، فهنا يكون وزن الشخصية روحياً قد نجح. وأمَّا أنه صالح فلأنه أثبت أمانته للسيد نفسه تماماً، فحَسَب ما استأمنه عليه من عمل شخصياً وُجِدَ أميناً فيه لشخص السيد، فهو صالح. وأمَّا أنه أمين فلأنه قدَّم خمس وزنات مقابل خمس وزنات استلمها، فهو أمين في مال سيِّده.
«كنت أميناً في القليل»:
القليل هنا هو كل العطايا والمواهب التي تُعطى للإنسان المؤمن ليتاجر بها. ويفرح ويفرِّح الآخرين، مهما كانت قوتها وقدرتها وعظمتها. لأنها هي بوضعها الحالي صورة لعطايا الله في السماء التي لا يمكن أن توصف أو يدركها عقل. وواضح من هذا الكلام أن المسيح إنما يهب لنا هذه المواهب والعطايا لنتاجر بها لحساب الملكوت، فهي الطريقة الوحيدة التي يدرِّبنا بها لكي نرتقي إلى ما هو أعلى وأعظم وأمجد - وما الدينونة الأخيرة أو الوقوف أمام المسيح إلاَّ لكي نسمع منه هذا الصوت الذي سوف يملأ أسماع السمائيين: نِعمَّا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح سيدك.«ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا.قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».وبهذا الإجراء يظهر تماماً منهج الرب يسوع المسيح في توزيع المواهب، والحكم النهائي على أداء الأعمال والمهام التي سلَّمها لمختاريه. إذ وضح أن التوزيع للمواهب والعطايا الروحية يتبع نظاماً دقيقاً للغاية مربوطاً بالطاقة التي يحوزها الإنسان، والقدرات الشخصية في مجملها الروحية والنفسية والجسدية. فكل مَنْ هو قادر على احتمال المسئوليات يُعطى من المواهب والنعمة ما يساوي قدرته تماماً. وهكذا تأتي محاكمته أيضاً عادلة للغاية ودقيقة للغاية، حيث تكون محاسبته على الأمانة والجهد والاهتمام الذي أدَّاه في مسئوليته، ولا يدخل فيه الكثرة أو القلة في المواهب. فصاحب الخمس وزنات نال من المديح والمكافأة ما ناله صاحب الوزنتين تماماً وبالحرف الواحد.«ثُمَّ جَاءَ أَيْضاً الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ».العبد هنا بدأ يدين السيد على سلوكه وأخلاقه ويلصق به بناءً على ذلك تهمةً أنه السبب في كونه مضى وأخفى الوزنة في الأرض، فلا هو انتفع بها ولا نفَّع أحداً.واضح لنا جداً أن غياب المحبة في قلب هذا العبد هي التي فصلت قلبه وذهنه عن سيِّده، كذلك عدم الأمانة وعدم الثقة جعلت الخوف يطغي على الطاعة ويضحِّي برضا السيد. ووصفه للسيد بالقسوة هو مجرَّد تبرير لسلوكه غير الأمين وشعوره غير المحب ولا الخاضع لأوامر السيد. فهو اتهام جزافي ليس عنده ما يبرِّره إلاَّ عجزه عن أن يكون خاضعاً وأميناً ونشيطاً.ونحن يستحيل أن نبرِّر هذا العبد في قوله عن السيد أنه قاسٍ مهما كانت الأسباب التي يتذرَّع بها، لأن سيده علم أولاً أن لديه الطاقة والإمكانية والقدرة على تحمُّل مسئولية إدارة وزنة واحدة، ثم هو أُعطي بالفعل وزنة تساوي طاقته وإمكانياته تماماً. فهو محاصر بين دراية السيد بإمكانياته وطاقته وبين عطية الوزنة التي تساوي طاقته وإمكانياته. هذا فيما يخصّه تماماً، فكونه يخرج بعذر جديد ليس له علاقة بالمسئولية التي ألقاها السيد عليه، وهي مسئولية فيها تكريم ووعد جيد بالمجازاة. هذا شيء يذهلنا إذ بدل أن يدين نفسه ويطلب الرحمة والمعذرة، انطلق يبرِّر نفسه وسلوكه بأن يأتي باللوم على السيد أنه رجل قاسٍ. هذا أضاف إلى قضيته التي تنحصر في التهاون والكسل وعدم الأمانة والاستهانة بأوامر السيد عنصراً خطيراً في الحكم، إذ تعدَّى على شرف السيد كقاضٍ، وذمَّه علناً بأنه قاسٍ، وكأنها محاولة منه لرد القاضي عن أن يكون صالحاً للحكم والقضاء، وهذا يُحسب للعبد شناعة.ومهلاً عزيزي السامع، فلا تتحامل كثيراً على هذا العبد الشرير الكسلان فهو أنا وأنت!! لأن قضية العبد الذي خبَّأ وزنته في التراب، وعاد فاستذنب الله ليتبرَّر هو، هي قضية كل خاطئ يرفض الاعتراف بخطيته أو التوبة عمَّا يصنع، لأنه يقتنع أن الحياة بلا خطية مطلب إلهي غير عادل، فإن كان الله لم يزرع في الجسم الطهارة والتقوى فكيف يطالب أن يحصد ما لم يزرعه؟ وإنها قسوة من الله أن يطالبنا أن نرتفع فوق طبيعتنا التي صنعها لنا. بهذا نكون قد وضعنا أنفسنا موضع العبد الشرير الكسلان الذي لم يتاجر بموهبة النعمة من أجل الطهارة بل طمرها في الجسد (التراب) وعاد يبرِّر نفسه أمام الديَّان.«فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِباً».أمَّا كونه شريراً فلأنه عصى أمر سيده عصياناً مبيَّتاً، وهي نفس خطية آدم التي جلبت الخراب على بني جنسنا. فأمر الله يُطاع حتى الموت ولا عذر إطلاقاً لعصيان أمر الله. لأن ذلك معناه القطع من الحياة والحكم بالموت. أمَّا كونه كسلاناً ومتوانياً، فواضح لأنه لم يحاول ولو محاولة أن يعمل بالموهبة التي استأمنه عليها سيده، وقد أعطاها له بحكمة ودقة وعدل بما يساوي طاقته وإمكانياته. فسيِّده يعلم أن لا عذر له على الإطلاق.
«فَخُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».الذي لا يعمل لا يأكل، أما الذي تاجر وربح وأثبت جدارة فهذا عنده الإمكانية للمزيد، فهو الذي يأخذ الموهبة التي بقيت عاطلة وليس مَنْ يعمل بها. أمَّا الذي ثبت أن ليس عنده الرغبة والإرادة على العمل فالذي أخذه يؤخذ منه. هذا هو “عدل العمل” أو قانون المواهب: “الشجرة التي لا تصنع ثمراً جيِّداً تُقطع وتُلقى في النار. ”واضح لدينا الآن أن عين المسيح مسلَّطة على العمل والجهاد والنشاط والربح فيما يخص المواهب التي سكبها على التلاميذ والكنيسة. فغياب المسيح هو فترة العمل والجهاد العظمى لتكميل الخدمة والبلوغ بالفداء والخلاص إلى أقصى طاقة البشرية في الخدَّام الذين سيسكب المسيح عليهم مواهبه باستمرار، وبقدر طاقتهم وإمكانياتهم في الخدمة. والذي يُبدي نشاطاً أكثر سينال مواهب أكثر، والذي يتراخى ويهمل تُسحب منه المواهب. والمسيح يركِّز على أن فترة انتظار مجيء الرب هي فترة العمل بالمواهب. فالسهر ينبغي أن يكون سهراً عمَّالاً ومنتجاً. على أنه قد تبيَّن لنا أن المكافأة على أمانة الخدمة والعمل بالمواهب ستكون مزيداً من العمل والمواهب فوق، مع فرح لا يُنطق به.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد