المقالات
13 يوليو 2021
المسيحية والاستشهاد
إن قصة الاستشهاد هي قصة المسيحية كلها.. فالاستشهاد والمسيحية صديقين متلازمين لا يفترقان عن بعضهما فالاستشهاد هو قصة الكرازة بالإنجيل في كل العالم لأن الإيمان المسيحي كان ينتشر في كل مكان، وكانت جذوره تدب في أعماق البشرية.. فكان يمتد في المسكونة طولًا وعرضًا وعمقًا، وذلك بشهادة الدم أكثر من الوعظ والتعليم فنجد مُعلِّمينا الكبار بطرس وبولس كليهما استشهد من أجل انتشار الإيمان: الأول مصلوبًا منكس الرأس، والآخر بحد السيف، ونالا إكليل الشهادة من أجل تمسكهم بالسيد المسيح وهذا هو الفكر السامي في الكرازة والتبشير في المسيحية.. أن المبشر والكارز هو الذي يستشهد من أجل الإيمان، وليس مَنْ لا يؤمن بالدين هو الذي تقطع رقبته فلم تعرف البشرية في كل عصورها شهداء مثل شهداء المسيحية.. من حيث شجاعتهم وإيمانهم ووداعتهم وشجاعتهم واحتمالهم وجدّهم وفرحهم بالاستشهاد.. فنجدهم يعانقون الموت في فرح وهدوء ووداعة عجيبة تزهل مَنْ يعذبونهم ومضطهديهم!! مما يجعلهم في آخر هذه المرحلة الأليمة يؤمنون بالسيد المسيح الذي يعبده النصارى، عندما يرون إيمانهم وجدّهم واحتمالهم للعذابات لآخر نَفَس!!
فقد وجدنا "إريانوس" أشرس الولاة الذين قاموا بالتفنن في تعذيب المسيحيين، وكل مَنْ احتاروا في أمره أوصلوه إلى إريانوس القاسي القلب.. فتارة يعذبهم بالهنبازين، وتارة بالحرق، وتارة بتعليقهم على ساري المركب، وتارة أخرى بتمشيط أجسادهم ثم وضعهم في جير حي.. وتبارى في أنواع التعذيب. وأخيرًا نجد إريانوس هذا يؤمن بالسيد المسيح بل ينال إكليل الشهادة من أجل إيمانه!!
يا ترى ما هو السبب في ذلك؟!
وما الذي جعل الشهداء يحتملون هذا العذاب؟
لقد نظروا إلى العالم نظرة وقتية.. فهذا العالم الفاني لا يُقاس بالحياة الأبدية التي سوف يحيون فيها.. وذلك لأنهم عاشوا الإنجيل وتعاليم الآباء الرسل.. "لأنَّ خِفَّةَ ضيقَتِنا الوَقتيَّةَ تُنشِئُ لنا أكثَرَ فأكثَرَ ثِقَلَ مَجدٍ أبديًّا. ونَحنُ غَيرُ ناظِرينَ إلَى الأشياءِ التي تُرَى، بل إلَى التي لا تُرَى. لأنَّ التي تُرَى وقتيَّةٌ، وأمّا التي لا تُرَى فأبديَّةٌ" (2كو4: 17-18).
وقد عاشوا حياة الغربة على الأرض، وشعروا أنهم غرباء ونزلاء في هذا العالم.. فالنزيل أو الغريب لا يمكنه أن يمتلك شيئًا إلاَّ في وطنه وفي أرضه.. "أيُّها الأحِبّاءُ، أطلُبُ إلَيكُمْ كغُرَباءَ ونُزَلاءَ، أنْ تمتَنِعوا عن الشَّهَواتِ الجَسَديَّةِ التي تُحارِبُ النَّفسَ" (1بط2: 11) إن حياتنا على الأرض مهما طالت فلا بد أن نرجع إلى وطننا السماوي مستقرنا الأخير بيتنا الأصلي، وإلى ميراثنا المحفوظ لنا في السموات.. وهذا ما أكّده لنا مُعلِّمنا بولس عندما قال: "في الإيمانِ ماتَ هؤُلاءِ أجمَعونَ، وهُم لم يَنالوا المَواعيدَ، بل مِنْ بَعيدٍ نَظَروها وصَدَّقوها وحَيَّوْها، وأقَرّوا بأنَّهُمْ غُرَباءُ ونُزَلاءُ علَى الأرضِ" (عب11: 13) وقد شعروا أن هذا العالم قد وُضع في الشرير، وأن الحياة فيه كلها حزن وألم وضيق.. ولكن هذا الضيق والألم سرعان ما سوف يتحول إلى فرح، عندما نصل إلى السماء.. وهذا ما قاله السيد المسيح له المجد: "الحَقَّ الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّكُمْ ستَبكونَ وتنوحونَ والعالَمُ يَفرَحُ. أنتُمْ ستَحزَنونَ، ولكن حُزنَكُمْ يتحَوَّلُ إلَى فرَحٍ" (يو16: 20).ولمعرفتهم أيضًا أن نهاية ضيقات وأحزان وآلام هذا العالم الذي نعيش فيه سوف تؤول إلى مجد عظيم في السماء.. ولذلك صبروا واحتملوا الآلام مُفضلين الضيقات الأرضية التي تؤهلهم إلى المجد السماوي الذي لا يوصف.. عاملين بما ذكره مُعلِّمنا بولس الرسول: "صادِقَةٌ هي الكلِمَةُ: أنَّهُ إنْ كُنّا قد مُتنا معهُ فسَنَحيا أيضًا معهُ. إنْ كُنّا نَصبِرُ فسَنَملِكُ أيضًا معهُ" (2تي2: 11-12). "فإني أحسِبُ أنَّ آلامَ الزَّمانِ الحاضِرِ لا تُقاسُ بالمَجدِ العَتيدِ أنْ يُستَعلَنَ فينا" (رو8: 18) ولذلك زهدوا كل شيء في أيديهم وفي العالم، عائشين حياة التجرد والاختلاء من كل ممتلكات العالم، سائرين على خُطى بولس الرسول الذي قال: "لأنَّنا لم نَدخُلِ العالَمَ بشَيءٍ، وواضِحٌ أنَّنا لا نَقدِرُ أنْ نَخرُجَ مِنهُ بشَيءٍ. فإنْ كانَ لنا قوتٌ وكِسوَةٌ، فلنَكتَفِ بهِما" (1تي6: 7-8).. وذلك لأن مُعلِّمنا بولس اعتبر أن الغنى هو غنى الروح وليس الجسد.. (أي الغنى الروحي وليس الجسدي) لذلك اشتهوا أن ينطلقوا من الجسد لكي يكونوا مع المسيح.. "ليَ اشتِهاءٌ أنْ أنطَلِقَ وأكونَ مع المَسيحِ، ذاكَ أفضَلُ جِدًّا" (في1: 23). وما شجعهم على هذا هو قول السيد المسيح: " في بَيتِ أبي مَنازِلُ كثيرَةٌ، وإلاَّ فإني كُنتُ قد قُلتُ لكُمْ. أنا أمضي لأُعِدَّ لكُمْ مَكانًا، وإنْ مَضَيتُ وأعدَدتُ لكُمْ مَكانًا آتي أيضًا وآخُذُكُمْ إلَيَّ، حتَّى حَيثُ أكونُ أنا تكونونَ أنتُمْ أيضًا" (يو14: 2-3).من أجل هذا اشتهى آباءنا القديسين الاستشهاد.. لأنه هو الذي يُؤهلهم لهذا اللقاء مع عريسهم السمائي،وقد فعلوا كل ذلك من محبتهم العجيبة للسيد المسيح، مُفضلين الحياة معه عن سواه، واضعين أمام أعينهم الآية القائلة: "مَنْ أحَبَّ أبًا أو أُمًّا أكثَرَ مِني فلا يَستَحِقُّني، ومَنْ أحَبَّ ابنًا أو ابنَةً أكثَرَ مِني فلا يَستَحِقُّني" (مت10: 37).. فكانت حياتهم في الجسد وليست للجسد، وحياتهم في العالم وليست للعالم.. عاشوا في العالم دون أن يعيش العالم في داخلهم وفي قلبهم.. لذلك أحبوا الموت أفضل من الحياة في الخطية.. سفكوا دمائهم من أجل محبتهم في الملك المسيح الذي بذل نفسه على عود الصليب من أجلهم.
فيا إلهنا الصالح..
الذي أعنت آباءنا الشهداء على احتمال الآلام والعذابات من أجل تمسكهم باسمك المبارك أعنَّا نحن أيضًا لكي نستطيع أن نشهد لاسمك القدوس المبارك ونقدم للكل مَثلًا حيًا للإنسان الذي يشهد للمسيح في كل مكان ليروا أعمالنا الصالحة فيمجدوك أنت الذي لك كل المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
05 يوليو 2021
الجهاد الروحي
يبدأ الإنسان في الجهاد الروحي من أول ما يعي للحياة والإدراك، ويستمر إلى آخر نفس في حياته.. ومن أهم عناصر الجهاد الروحي:-
أولًا: أن يحيا الإنسان حياة التوبة:-
فالتوبة هي:-
التحرر من عبودية الخطية والشيطان.
ترك الخطية ولكن تكون من أجل الله.
يقظة روحية مستمرة.. فالتوبة هي انتقال من الموت إلى الحياة.
تغيير شامل لحياة الإنسان.
ثانيًا السعي نحو نقاوة القلب والفكر:-
التوبة كأية فضيلة ينمو فيها الإنسان ويتدرج.. ويظل ينمو حتى يصل إلى كمالها.. وهي نقاوة القلب والفكر.. "يا ابني أعطِني قَلبَكَ، ولتُلاحِظْ عَيناكَ طُرُقي" (أم23: 26).مهم أن نترك الخطية.. ليس بالفعل فقط بل بالقلب والفكر.جهادنا ضد خطايا القلب والفكر أكبر أضعافًا من جهادنا ضد خطايا الجسد.. "الإنسانُ الصّالِحُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الصّالِحِ يُخرِجُ الصَّلاحَ، والإنسانُ الشريرُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الشريرِ يُخرِجُ الشَّرَّ. فإنَّهُ مِنْ فضلَةِ القَلبِ يتكلَّمُ فمُهُ" (لو6: 45).نسعى نحو التخلص من كل خطايا الفكر لكي يكون لنا "فكر المسيح"،ونعطي القلب له.. "وأمّا نَحنُ فلَنا فِكرُ المَسيحِ" (1كو2: 16)
ثالثًا احترزوا (مت6: 1-18):-
(1) أنْ تصنَعوا صَدَقَتَكُمْ قُدّامَ الناسِ:-
الجهاد في اكتساب فضيلة العطاء العطاء الخفي.
الأضرار العطاء الظاهر أخذنا أجرة من الناس "فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُصَوّتْ قُدّامَكَ بالبوقِ، كما يَفعَلُ المُراؤونَ في المجامعِ وفي الأزِقَّةِ، لكَيْ يُمَجَّدوا مِنَ الناسِ الحَقَّ أقولُ لكُمْ إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُعَرّفْ شِمالكَ ما تفعَلُ يَمينُكَ، لكَيْ تكونَ صَدَقَتُكَ في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ هو يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 2-4) التدريب الروحي على الصدقة في الخفاء كيف لماذا فائدتها حاول أن تفكر معي في تنفيذ ذلك.
(2) الصلاة في الخفاء:-
"ومَتَى صَلَّيتَ فلا تكُنْ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُحِبّونَ أنْ يُصَلّوا قائمينَ في المجامعِ وفي زَوايا الشَّوارِعِ، لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَلَّيتَ فادخُلْ إلَى مِخدَعِكَ وأغلِقْ بابَكَ (الحواس)، وصَلِّ إلَى أبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً. وحينَما تُصَلّونَ لا تُكَرّروا الكلامَ باطِلًا كالأُمَمِ، فإنَّهُمْ يَظُنّونَ أنَّهُ بكَثرَةِ كلامِهِمْ يُستَجابُ لهُمْ. فلا تتَشَبَّهوا بهِمْ. لأنَّ أباكُمْ يَعلَمُ ما تحتاجونَ إليهِ قَبلَ أنْ تسألوهُ" (مت6: 5-8) الصلاة في الخفاء غلق باب الحواس الاهتمام بالصلاة المستمرة وخاصة صلاة القلب عدم السعي وراء المُراءاة في الصلاة.. بهدف المدح من الآخرين.
(3) الصوم في الخفاء:-
"ومَتَى صُمتُمْ فلا تكونوا عابِسينَ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُغَيّرونَ وُجوهَهُمْ لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ صائمينَ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ. وأمّا أنتَ فمَتَى صُمتَ فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وجهَكَ، لكَيْ لا تظهَرَ للنّاسِ صائمًا، بل لأبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 16-18).الصوم في الخفاء، وعدم افتعال أي مواقف تلفت انتباه الآخرين إلى صومي (التصويت بالبوق).
رابعًا لا تكنزوا (مت6: 19-21):-
عدم الاهتمام بالأموال (الكنوز) وهذا هو التحذير الثاني الجهاد ضد القنية وحب المال"مَحَبَّةَ المالِ أصلٌ لكُل الشُّرورِ" (1تي6: 10)، و"لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدِمَ سيّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ الواحِدَ ويُحِبَّ الآخَرَ، أو يُلازِمَ الواحِدَ ويَحتَقِرَ الآخَرَ. لا تقدِرونَ أنْ تخدِموا اللهَ والمالَ" (مت6: 24) أين أنا من المال؟ ومَنْ الذي يستخدم الآخر؟
المال ومحبته تجلب على الإنسان متاعب كثيرة، وشهوات العالم تجر وراء بعضها التحذير من المال يَنقُبُ السارِقونَ ويَسرِقونَ المقتنيات الأرضية.. يُفسِدُ السوسٌ والصَدأٌ "محبة المقتنيات تزعج العقل والزهد فيها يمنحه استنارة" (القديس الأنبا موسى الأسود).
خامسًا سِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ:-
نقاوة الحواس العين هي التي تحدِّد فكر الإنسان فحسب رؤيتها يترتب عليها الفكر"فإنْ كانَتْ عَينُكَ بَسيطَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ نَيّرًا، وإنْ كانَتْ عَينُكَ شِرّيرَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ مُظلِمًا، فإنْ كانَ النّورُ الذي فيكَ ظَلامًا فالظَّلامُ كمْ يكونُ" (مت6: 22-23)العين هي الجهاز الذي يعلن عن الشخص نفسه(عفيف، شهواني، ماكر، غضوب) حسب رؤية العين تتحدد شخصية الإنسان وحياته الروحية العين توقع الإنسان في خطايا كثيرة.. (الحسد، الإدانة، النميمة، الشهوة، الأفكار الرديئة...) فسِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ "لكن اطلُبوا أوَّلًا ملكوتَ اللهِ وبرَّهُ، وهذِهِ كُلُّها تُزادُ لكُمْ" (مت6: 33) لإلهنا كل المجد والإكرام من الآن والى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
28 يونيو 2021
الخادم وحياة الصلاة
إن الصلاة هي أداة اقتراب الإنسان من الله فهي تُمثل العلاقة الشخصية بين الإنسان والله.
* وهي علاقة العروس بعريسها السماوي.
ففيها..
تقترب النفس البشرية إلى عريسها المحبوب شهوة قلبها.
يقترب الشيء إلى كل شيء.
يقترب الكيان المحدود إلى اللا محدود.
تقترب الطبيعة الساقطة إلى الله الذي بلا خطية ليغسلها ويُطهرها، ويُعيد لها صورتها الأولى الجميلة التي ُخلقت عليها بالصلاة نستطيع أن نفتح السماء لأن الصلاة هي مفتاح السماء كما أن التوبة هي باب السماء ففي الصلاة تُشفى النفس المريضة المنكسرة وبالصلاة تفرح النفس الحزينة فالصلاة هي باب ثمين مَنْ يُفرط أو يتهاون فيه فهو يُفرط في أغلى شيء عنده.
لقد تغنى آباءنا القديسين بعِظَم الصلاة وقوتها وفاعليتهالأنها كانت حياتهم ومصدر شبعهم وغذائهم الروحي الذي لا ينتهي، وعين الماء التي يستقوا منها ولا تنضُب.
"الصلاة هي سلاح عظيم، كنز لا يفرغ، غنى لا يسقط أبدًا، ميناء هادئ هي مصدر وأساس لبركات لا تُحصى هي قوية بل أشد من القوة ذاتها" (القديس يوحنا ذهبي الفم).
"الصلاة هي مفتاح السماء بقوتها تستطيع كل شيء هي حِمى نفوسنا مصدر لكل الفضائل هي السلّم الذي نصعد به إلى الله هي عمل الملائكة هي أساس الإيمان" (القديس أغسطينوس).
لذلك أصبحت الصلاة احتياج أساسي للإنسان مثل الأكل والشرب فكما يهتم الإنسان بغذائه الجسدي لضمان استمرار الحياة بصحة جيدة هكذا لابد من استمرارية الصلاة من أجل ضمان صحة الروح أيضًا.فما أكثر حاجة الإنسان للصلاة من أجل احتياجاته الروحية والجسدية معًا فبدون الصلاة لا تستقيم الحياة الروحية فهي المطلب الأول لبداية طريق الروح والجهاد الروحي لأنها تعلّمنا كل شيء.
الصلاة فيها شفاء من كل الزلات والخطايا.
الصلاة هي رباط متين يربطنا بالله، ويشدنا بالسماء بقوة، ويقينا شر السقوط والانحراف فهي تخلّصنا من كل الضيقات والمتاعب حتى إذا اعترانا فتور في الصلاة نفسها، وبدأ إحساس الملل والضجر وعدم الرغبة وعدم الشعور بالتلذذ بها فليس علاج من هذا إلاَّ الالتجاء للصلاة فبالتمسك بالصلاة نستطيع أن نخرج من حفرة الملل والضجر والفتور يستطيع الإنسان أن يقول: "مهما حصل لي لازم أصلي" فالاستمرارية حتى مع عدم الشعور بقيمتها هو الضامن الوحيد للرجوع إلى حياة الصلاة بعمق وتركيز وتأمل واستمتاع.
إن الصلاة بالنسبة لحياتنا الروحية هي مثل اليد بالنسبة للجسد فاليد عضو عام للجسد كله، ومع ذلك فهي آلة خاصة لذاتها تخدم بها نفسها فإذا كانت يد مريضة تداويها اليد الأخرى، وإذا كانت متسخة فتغسلها وتنظفها، وإذا كانت باردة فتدفئها ولذلك فاليد تعمل كل شيء هكذا الصلاة هي العنصر الأساسي لحياتنا الروحية، وبالاهتمام بحياتي الروحية أكون مهتم بالروح والجسد(والعكس ليس صحيح) إن الصلاة بالنسبة للإنسان هي مثل النَفَس الذي يدخل الرئتين بالنسبة للجسد فبدون استنشاق الهواء لا يستطيع الإنسان أن يعيش، لأن الرئتين كيف تعمل وما هو عملها بدون هواء؟! فبقلة الهواء يحدث اختناق ويموت الإنسان (الجسد)هكذا الصلاة عندما تقل تضعف الروح وتذبل بل قد يؤدي ذلك إلى موت الإنسان (روحيًا).
ونستطيع أن نلمس حاجتنا للصلاة بالنظر إلى النقاط الآتية:-
أولًا: لأنها سر النصرة:-
لاشك أن الصلاة هي سر النصرة في حياتنا الروحية والجسدية يقول القديس يوحنا ذهبي الفم "إذا لاحظت أن إنسانًا لا يحب الصلاة فاعرف في الحال أنه ليس فيه شيء صالح بالمرة فالذي لا يُصلي لله هو ميت وليست فيه حياة"ولقد ذُكر عن القديس تادرس المصري القصة التالية"في حين وجوده في القلاية في الإسقيط أتاه شيطان محاولًا الدخول، فربطه خارج القلاية بصلاته وأتاه شيطان ثاني وحاول دخول قلايته، فربطه القديس أيضًا خارجها ثم جاء شيطان ثالث فلما وجد زميليه مربوطين قال لهما "ما بالكما واقفين هكذا خارج القلاية؟" فأجاباه "بداخل القلاية مَنْ هو واقف يمنعنا من الدخول" فغضب هذا الأخير وحاول اقتحام القلاية، لكن القديس ربطة كذلك بصلاته فضجت الشياطين من صلاة القديس، وطلبوا أن يطلق سراحهم حينئذ قال لهم "أمضوا واخزوا"، فمضوا بخزي عظيم"هذه هي قوة الصلاة هي سور يحمينا من هجمات العدو الشرير.
ثانيًا: لأنها وسيلة البركات:-
بالصلاة يكمل عمل التوبة فعندما يريد شخص ما أن يقدم توبة عملية فلا بد أن يقدمها في الصلاة.
بمداومة الإنسان على الصلاة ينمو بداخله إحساس الحياة والحشمة من الله "الذي يتهاون في عفة جسده يخجل في صلاته" (القديس الأنبا موسى الأسود) وقت الصلاة هو الوقت الذي نلتقي فيه مع الله، ونحظى بحضوره معنا، و"لأنَّهُ حَيثُما اجتَمَعَ اثنانِ أو ثَلاثَةٌ باسمي فهناكَ أكونُ في وسطِهِمْ" (مت18: 20) بالصلاة نسعى ونسير نحو نقاوة القلب.. لأنها توضِّح للإنسان عيوبه وخطاياه "بالصلاة نصل إلى الحب الإلهي الذي هو أسمى الفضائل والدرجات" (مار إسحق) وبالصلاة نتأهل لأن نشعر بمراحم الله ونتمتع بإحساناته.. "الصوم والصلاة هما اللذان عملا بهما الأنبياء والرسل والشهداء ولبّاس الصليب" (قسمة الصوم الكبير) فما أعمق وأغزر حياة الصلاة فهي تؤهلنا لمعرفة لغة السماءوطننا الأصلي الذي نسعى جميعًا للوصول إليه.
أخي الخادم اسأل نفسك..
هل أستطيع أن أخدم بدون صلاة؟
ما هو عمق صلاتي.. هل هي بنفس مقدار الخدمة؟
هل اهتمامي بمخدعي وصلاتي الشخصية مثل اهتمامي بالخدمة المُؤتمن عليها؟
هل أحاسب نفسي على تقصيري في الصلاة مثلما أحاسب نفسي على تقصيري في الخدمة؟
هل صلاتي في حياتي رقم واحد وبعدها الخدمة.. أم العكس؟
هل مخدومينا يروا فينا (الخادم والخادمة) - (المُصلي والمُصلية) بالفعل وليس بالمظهر؟
هل اهتم بحضور القداس قبل الخدمة ليبارك الرب خدمتي أم أنشغل في هذا الوقت بتجهيز الخدمة وتحضيرها، وأترك الذبيحة على المذبح دون التمتع بها؟
نحن نحتاج إلى خادم مُصلى وليس خادم متكلم وواعظ شهير فالصلاة هي التي تعطي النجاح للخدمة وتثمر في قلوب المخدومين فهلموا بنا نطلب من السيد المسيح في صلاتنا الشخصية أن ينجح كل ما تمتد إليه أيدينا ربنا يبارك حياتكم وخدمتكم ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
21 يونيو 2021
الخادم والصوم
المفهوم العام للصوم:-
الصوم هو حرمان من بعض الأطعمة، ويتدرج حتى يصبح زهدًا اختياريًا.
فهو ليس إضعافًا للجسد بل قمعًا وإذلالًا لإنعاش الروح.
وهو ليس فرضًا موضوعًا علينا، لكننا نُمارسه لشعورنا بالاحتياج إليه من أجل شقاوتنا وجسدنا المشاغب.
وهو لم يُرتب للتكفير عن الذنوب والخطايا، ولكن لإعداد النفس لاقتبال الله إذ لا يوجد عمل ما يكفّر عن الخطايا سوى دم السيد المسيح المسفوك على عود الصليب.
مركز الصوم في الحياة الروحية في رأي القديسين:-
"إن جهاد الصوم ينبغي أن يتقدم كل الجهادات الأخرى في الحياة الروحية، لأنه هو الذي يُمهد لها الطريق".
"كل جهاد ضد الخطية وشهواتها يجب أن يبتدئ بالصوم، خصوصًا إن كان الجهاد بسبب خطية داخلية" (القديس مار اسحق).
"مُخلِّصنا الصالح حينما أظهر نفسه للعالم عند الأردن ابتدأ من هذه النقطة فحينما اعتمد قاده الروح إلى البرية مباشرة وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة وكل الذين يريدون أن يتبعوا خطواته عليهم أن يضعوا أساس جهادهم على مثال عمله" (القديس مار اسحق).
إن أول قضية وُضعت على طبيعتنا في البدء كانت ضد تذوق الطعام ومن هذه النقطة سقط أول جنسنا لذلك فإن أولئك الذي يُجاهدون من أجل خوف الله يجب أن يبدأوا البناء من حيث كانت أول ضربة.
مكانة الصوم عند آباء الكنيسة
إن كافة القديسين بلا استثناء مارسوا الصوم، وبرعوا فيه بعد أن أدركوا فوائده، ودوّنوا لنا اختباراتهم عنه في كتاباتهم بل دُعي بعضهم بـ "الصوامين".
"لقد نُفينا من الفردوس الأرضي لأننا لم نصُم فيجب أن نصوم لنرجع إلى الفردوس السمائي، لأن الصوم يرُد لنا الخسائر المُسببة عن عدم صوم آدم، ويُصالحنا مع الله" (القديس باسيليوس الكبير).
"إن مَنْ كان بريئًا من كل خطية (السيد المسيح) صام أربعين يومًاوأنت أيها الخاطئ تكره هذا الصوم وتأباه!! ها هوذا صومًا من جديد يدوم مدة أربعين يومًا لا تزال السماء فيها هاطلة علينا بأمواه النعم الإلهية وبه تغرق خطايانا وتحفظ قلوبنا الفضائل والقداسة" (القديس امبروسيوس أسقف ميلانو).
"الصوم هو بدء طريق الله المقدس. هو يتقدم كل الفضائل، بداية المعركة، جمال البتولية، حفظ العفة، أبو الصلاة، نبع الهدوء، مُعلّم السكوت، بشير الخيرات" (القديس مار اسحق السرياني).
"الكبير البطن أحلامه الرديئة تكدّر قلبه، والذي ينقص من أكله يصير في كل وقت منتبهًا، لأن مثلما يظلم الجو من الضباب كذلك يظلم العقل إذا امتلأت من المأكولات" (القديس غريغوريوس رئيس متوحدي قبرص).
لماذا نصوم؟
1- كثرة المأكولات تحرك الشهوات:-
الأقوياء الأشداء لديهم استعداد أكثر للغضب والقتل وربما الزنا وهذه الطاقة تخرج في صورة تصرفات عنيفة فالقصد من الصوم هو إذلال الجسم وإخضاعه فضلًا عن الحد من تغذيته.
القديس يوحنا كاسيان
"حينما تمتلئ المعدة بكل أنواع الطعام فذلك يولد بذور الفسق، والعقل حينما يختنق بثقل الطعام لا يقدر على توجيه الأفكار والسيطرة عليها".
"فليس السكر من الخمر وحده هو الذي يذهب العقل، لكن الإسراف في كل أنواع المآكل يضعفه، ويجعله مترددًا، ويسلبه كل قوته في التأمل النقي".
"فإن كانت زيادة الخبز وحده أدت إلى مثل هذا السقوط السريع في الخطية عن طريق رذيلة الشبع، فماذا نقول عن أولئك الذين لهم أجسام قوية ويأكلون اللحم ويشربون الخمر بإفراط، وغير مكتفين بما تتطلبه حاجة أجسادهم، بل ما تمليه عليهم رغبة العقل المُلّحة".
2- الصوم لجام قوي للجسد:-
"لأنَّ الجَسَدَ يَشتَهي ضِدَّ الرّوحِ والرّوحُ ضِدَّ الجَسَدِ، وهذانِ يُقاوِمُ أحَدُهُما الآخَرَ، حتَّى تفعَلونَ ما لا تُريدونَ" (غل5: 17)."لأني لستُ أفعَلُ الصّالِحَ الذي أُريدُهُ، بل الشَّرَّ الذي لستُ أُريدُهُ فإيّاهُ أفعَلُ فإنْ كُنتُ ما لستُ أُريدُهُ إيّاهُ أفعَلُ، فلستُ بَعدُ أفعَلُهُ أنا، بل الخَطيَّةُ السّاكِنَةُ فيَّ إذًا أجِدُ النّاموسَ لي حينَما أُريدُ أنْ أفعَلَ الحُسنَى أنَّ الشَّرَّ حاضِرٌ عِندي فإني أُسَرُّ بناموسِ اللهِ بحَسَبِ الإنسانِ الباطِنِ ولكني أرَى ناموسًا آخَرَ في أعضائي يُحارِبُ ناموسَ ذِهني، ويَسبيني إلَى ناموسِ الخَطيَّةِ الكائنِ في أعضائي ويحي أنا الإنسانُ الشَّقيُّ! مَنْ يُنقِذُني مِنْ جَسَدِ هذا الموتِ؟" (رو7: 19-24)"ليس لأن الله الرب وخالق الكون يجد منفعة في قعقعة أمعائنا وخلو معدتنا والتهاب رئتنا ولكن لأن هذه هي الوسيلة لحفظ العفة" (القديس جيروم)."الصوم بالنسبة للشهوات كالماء بالنسبة للنار" (القديس يوحنا الأسيوطي).
3- الصوم هو بدء طريق الروح:-
الإنسان مكوّن من روح وجسد، وبقدر ما يغلب أحدهما على الآخر بقدر ما يصبح روحانيًا أو جسديًا.
"مُخلِّصنا الصالح حينما أظهر نفسه للعالم عند الأردن ابتدأ من هذه النقطة فحينما اعتمد قاده الروح إلى البرية مباشرة وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة وكل الذين يريدون أن يتبعوا خطواته عليهم أن يضعوا أساس جهادهم على مثال عمله" (القديس مار اسحق).
4- الصوم مُمهد للفضائل والمواهب:-
"حينما يبدأ الإنسان بعمل فلاحة البر بذاته، فأول عمل يعمله هو أن يصوم، لأنه بدون النسك جميع فضائل فلاحة الذات مرتخية فالصلاة لا تكون نقية والأفكار لا تكون متنقية، والذهن لا يصفو والإنسان الخفي لا يتجدد" (القديس مار فيلوكسينوس).
5- الصوم مُهذب للجسد ومُدرب للحواس:-
يقول داود النبي: "أذلَلتُ بالصَّوْمِ نَفسي" (مز35: 13).ويقول مُعلِّمنا بولس الرسول: "بل أقمَعُ جَسَدي وأستَعبِدُهُ" (1كو9: 27).والقمع هو ما يحدث عادة في الثورات التي تقوم في الدول وضد الأمن العام "لقد جرّب آباؤنا الصوم كل يوم فوجدوه نافعًا وموافقًا لنقاوة النفس، ونهونا عن امتلاء البطن من أي طعام كان، حتى من الخبز البسيط أو من الماء أيضًا" (القديس يوحنا كاسيان)."إن فمًا تمنع عنه الماء لا يطلب خمرًا، وبطنًا تمنع عنها الخبز لا تطلب لحمًا" (القديسة سارة).
6- الصوم خير مُقوي للإرادة:-
سبب سقوط الإنسان في الخطية هو ضعف إرادته إزاء الإغراءات الخارجية المختلفة والصوم – خاصة الانقطاعي – هو في مقدمة الوسائل الفعّالة لتقوية الإرادة البشرية وفي الصوم نقوي إرادتنا على أن نمتنع عن بعض الأطعمة بإرادتنا.
فوائد الصوم
1- الروح تكون في حالة أقوى وقت الصوم:-
في الصوم تكون صلواتنا أعمق، وتأملاتنا أعمق، وتكون صلتنا بالله أقوى وكل مناسبات وأعياد الكنيسة وأسرارها يسبقها أصوام.
2- الصوم في وقت الضيق:-
صوم أستير الملكة وشعبها كله"اذهَبِ اجمَعْ جميعَ اليَهودِ المَوْجودينَ في شوشَنَ وصوموا مِنْ جِهَتي ولا تأكُلوا ولا تشرَبوا ثَلاثَةَ أيّامٍ ليلًا ونهارًاوأنا أيضًا وجَواريَّ نَصومُ كذلكَ وهكذا أدخُلُ إلَى المَلِكِ خِلافَ السُّنَّةِ فإذا هَلكتُ، هَلكتُ" (أس4: 16).
صوم نحميا عندما عرف أن سور أورشليم منهدم وأبوابها محروقة بالنار "فقالوا لي "إنَّ الباقينَ الذينَ بَقوا مِنَ السَّبيِ هناكَ في البِلادِ، هُم في شَر عظيمٍ وعارٍ. وسورُ أورُشَليمَ مُنهَدِمٌ، وأبوابُها مَحروقَةٌ بالنّارِ" فلَمّا سمِعتُ هذا الكلامَ جَلستُ وبَكَيتُ ونُحتُ أيّامًا، وصُمتُ وصَلَّيتُ أمامَ إلهِ السماءِ" (نح1: 3-4).
3- الصوم والخدمة:
أبرز مَثَل هو السيد المسيح نفسه الذي بدأ خدمته بصوم أربعين يومًا كذلك الآباء الرسل صاموا "حينَ يُرفَعُ العَريسُ عنهُمْ، فحينَئذٍ يَصومونَ في تِلكَ الأيّامِ" (مر2: 20).
كيف أنمو في الصوم؟
1- بضبط شهوات النفس:
الصوم وسيلة وليس غاية، فهو وسيلة لإخضاع الجسد وقهر ميوله المنحرفة وتدريب حواسه.
2- بالصوم الإنقطاعي:
لا يوجد صوم بدون انقطاع فترة الانقطاع هي المحور الرئيسي الذي يتركز عليه الصوم فقد ذُكر عن السيد المسيح أنه "جاعَ أخيرًا" (مت4: 2).
3- بالتذلل:
الغرض من الصوم هو ضبط شهوات النفس وتهذيبها، ولذا فهو يُقترن دائمًا بالتوبة.
4- بالاعتدال في الصوم:
ليس للشخص حرية تحديد ميعاد الانقطاع أو إلغائه ويقول القديس الأنبا أنطونيوس "لا تضعف جسدك بزيادة لئلا يضحك عليك أعداؤك".
5- بالصوم ونوع الطعام:-
الامتناع عن الأكل كلية (الانقطاع) والامتناع عن بعض الأطعمة الدسمة "أمّا دانيآلُ فجَعَلَ في قَلبِهِ أنَّهُ لا يتنَجَّسُ بأطايِبِ المَلِكِ" (دا1: 8) "جَرّبْ عَبيدَكَ عشَرَةَ أيّامٍ. فليُعطونا القَطانيَّ لنأكُلَ وماءً لنَشرَبَ" (دا1: 12).
6- بضبط الفكر:-
كما نضبط جسدنا نضبط فكرنا ونبتعد عن أفكار الشر وأفكار الدنس "وكُلُّ مَنْ يُجاهِدُ يَضبُطُ نَفسَهُ في كُل شَيءٍ" (1كو9: 25).
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
25 أبريل 2021
أحد الشعانين الأحد السابع من الصوم الكبير دخول السيد المسيح إلى أورشليم هو طريق للقيامة
كان الهدف من تجسد السيد المسيح وفدائه هو أن تكون لنا حياة أبدية وهذا ما تم بقيامة السيد المسيح من الأموات لنقوم نحن فيه.والطريق لذلك يتم عبر موت الإنسان العتيق الذي فينا وقيامة إنسان جديد في المسيح وهذا يبدأ بالمعمودية، ونكمل بحياة التوبة التي هي قيامة أولى. وهذه لو تمت تكون لنا قيامة ثانية في مجيء السيد المسيح الثاني.ولنرى الخط العام للأناجيل الأربعة وكيف شرحت هذا، ولنعلم أن الإنجيليين ليسوا مؤرخين لكنهم يقدمون بشارة الخلاص، والطريق للخلاص، كلٌ بطريقته.
ونرى أن الطريق للقيامة كان الصلب "مع المسيح صلبت لأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ " (غل20:2)
ونرى أن المسيح أتى ليطهرنا (تطهير الهيكل = تطهير القلب).والطريق لسكنى حياة المسيح فيّ هو التشبه بالمسيح في تواضعه. فالله يسكن عند المنسحق والمتواضع القلب (إش15:57). وهذا معنى نزول زكا عن الشجرة ليدخل المسيح بيته. والتواضع عكس طلب أم إبنى زبدي. وطلب أم زبدي سبق تفتيح أعين العميان. ومن انفتحت عيناه لن يطلب عظمة أرضية، بل يقبل مُلك المسيح على قلبه بفرح.
دخول المسيح أورشليم كملك هو دخول المسيح كملك لقلبي ليملك عليه، وهذا معنى "من يحبني يحفظ وصاياي" (يو21:14، 23)
ملحوظة: أناجيل مرقس ولوقا ويوحنا تذكر الجحش الذي دخل المسيح أورشليم راكبًا إياه، بينما إنجيل متى يذكر أتان وجحش. وأناجيل مرقس ولوقا ويوحنا تذكر فتح أعين أعمى، ولكن متى يذكر فتح أعين أعميين. والسبب أن مرقس ولوقا ويوحنا يكتبون للأمم (رمزهم جحش لم يركبه أحد من قبل. والأمم لم يملك الله عليهم من قبل). ولكن متى يكتب لليهود (الذين رمزهم الحمار وهذا قد ركبه الناس رمزًا لملك الله عليهم منذ زمن) والمسيح أتى للكل يهود وأمم، وكلاهما كان أعمى فتح المسيح بصرهم.
قراءات الكنيسة لها نفس منهج الإنجيل
(قطمارس الصوم الكبير)
1- أحد الرفاع: الصوم والصلاة والصدقة: هذا طريق السماء (فالقيامة هي هدف هذا الأسبوع: فالصوم صلب عن العالم، والصلاة هي صلة مع الله والصدقة هي فعل الخير للمحتاج، فالمحتاج هو أخ للرب، وبها نتقابل مع الرب فنحيا في السماء.
2- الأحد الأول: الكنز: من يفعل ما سبق لن يخسر بل يصنع له كنزًا في السماء.
3- الأحد الثاني: التجربة: لابد وأن نتعرض للتجارب، ولكنها طريق للامتلاء من الروح والنمو (لو14:4)
4- الأحد الثالث: الابن الضال: هو دعوة لكل إنسان مهما كانت حالته ليأتي بالتوبة والله مستعد لقبوله.
5- الأحد الرابع: السامرية: المسيح أتى ببشارة الخلاص لكل العالم، لليهود والسامريين والأمم. ومن يقبل يجد الماء الحي والشفاء.
6- الأحد الخامس: المخلع: يسأله الرب هل تريد أن تبرأ؟ فالتوبة هي عمل مشترك بين الله وبيني، الله يدعو وأنا حر،إن كنت أستجيب أو لا أستجيب "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" (إر18:31). ونلاحظ في قراءات الأسبوع أنها تشير لما يحصل عليه التائب من شبع فالمسيح خبز الحياة، وأن يحيا في النور، وهذا لن يحصل على كل هذا، بل يحيا في جوع وفي ظلمة، ولاحظ قول السيد المسيح للفريسيين في قراءات يوم السبت من هذا الأسبوع "كم مرة أردت ولكنكم لم تريدوا ها بيتكم يترك لكم خرابًا" (مت37:23) ومازال المسيح يسأل أنا أريد فهل تريد أن تبرأ.
7- الأحد السادس: المولود أعمى: المسيح يفتح عينيه بغسله في الماء إشارة للمعمودية التي تعطي استنارة، فيعرف المسيح ويؤمن به، وهذا هو "أحد التناصير" ولاحظ أن الأسابيع الماضية كان موضوعها هو التوبة، فمن يقدم توبة تنفتح عيناه ويعرف المسيح. ويقبله ملكًا على قلبه.
8- الأحد السابع: أحد الشعانين: المسيح يدخل لقلبي كملك يملك عليه، وأطيعه في محبة فيطهر قلبي كما طهر الهيكل. ومن لا يقبل يُدان (شجرة التين).
أحد القيامة: من قبل المسيح ملكًا وتطهر قلبه وصارت له قيامة أولى، ستكون له قيامة ثانية بجسد ممجد.
المركبة الكاروبيمية الجالس فوق الشاروبيم اليوم ظهر في أورشليم راكبا على جحش بمجد عظيم وحوله طقوس ني أنجيلوسلنرى مصادر هذا اللحن الشعانيني:
1. ركب على كروب وطار (مز18: 10).
2.هوذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على.. جحش.. (زك9: 9).
ركب على كروب = الجالس فوق الشاروبيم = المسيح يجد راحته فيهم لأنهم يعرفونه.وهذا معنى أنهم مملوئين أعينًا.. (حز 10: 12) + (رؤ 4: 6). ولذلك يسبحونه قائلين "قدوس قدوس قدوس" (رؤ4: 8).وطار = نرى في الإصحاح الأول من نبوة حزقيال منظر المركبة الكاروبيمية التي يركبها الله ويطير بها للسماء، وقطعًا فالله لا يحتاج لمركبة من الملائكة لتحمله إلى السماء، فهو ساكن في الأعالي بل لا يحده مكان، ولكن هذا التصوير يشير إلى أن من يرتاح الله فيه، فالله هو الذي يحمله إلى أعلى السموات.واليوم عيد دخول المسيح إلى أورشليم، وأورشليم تشير لقلبي أنا، فكيف يدخل المسيح إلى قلوبنا؟
أن يرتاح المسيح فينا كما يرتاح في الشاروبيم = بأن نعرفه.. كيف؟
هذا عن طريق الأربعة الأناجيل ولذلك فرموزها هي وجوه الكاروبيم (رؤ4: 7).
الإنسان= متى أكثر من تكلم عن المسيح ابن الإنسان.
الأسد = مرقس قدم المسيح كملك قوى.
الثور = لوقا قدم المسيح ذبيحة ليقبل الله الجميع.
النسر = يوحنا قدم المسيح ابن الله السماوي.
لكن بدون عمل المسيح فلا قبول لنا.. ومرة ثانية نتقابل مع وجوه الكاروبيم.
الإنسان = التجسد
الثور= ذبيحة الصليب
الأسد = القيامة
النسر= الصعود.
دخول المسيح أورشليم في موكب عظيم مت1:21-11 + مر1:11-11 + لو29:19-48 + يو12:12-19هذا اليوم كان في خطة الله هو يوم إعلان ملكه ونوع ملكه. فدخل المسيح أورشليم في موكب ملك كمنتصر غالب في الحرب، لكن بتواضع ومحبة وما حدث من استقبال الناس له لم يكن بترتيب بشري إنما هو بترتيب إلهي. وكملك دخل بيت أبيه أي الهيكل ليطهره.أما بيت عنيا وبيت فاجي فهما من ضواحي أورشليم وهما تحسبان أنهما من أورشليم. فهناك طريق واحد منهما إلى أورشليم. وبيت عنيا توجد على السفح الشرقي، شمال جبل الزيتون، وبيت فاجي على السفح الشرقي، جنوب جبل الزيتون،أمّا السفح الغربي لجبل الزيتون فيقع عليه بستان جثسيماني.ونلاحظ أن قمة جبل الزيتون تحجب رؤيا أورشليم عمن هو في بيت عنيا. وقد أتى المسيح إلى بيت عنيا لوليمة سمعان الأبرص عشية يوم الأحد.ودخل المسيح فصحنا إلى أورشليم عشية يوم 10نيسان، وهو اليوم الذي يحفظ فيه خروف الفصح حتى يقدم يوم 14 نيسان. فالمسيح دخل أورشليم في نفس اليوم الذي يختارون فيه خروف الفصح. كانت أورشليم تكتظ بالحجاج (أع8:2-11) ويقدرهم يوسيفوس بحوالي 2,700,000 حاج.ونلاحظ أن الأناجيل الأربعة اهتمت بهذا الأسبوع الأخير من حياة السيد المسيح فمثلًا إنجيل متى اشتمل على الإصحاحات 21-28 ليروي فيها ما حدث في هذا الأسبوع، أسبوع آلام السيد والذي قدّم فيه السيد نفسه ليكون فصحنا ويعبر بنا من الظلمة إلى ملكوته الأبدي.
الآيات (مت1:21-3):- "1وَلَمَّا قَرُبُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ وَجَاءُوا إِلَى بَيْتِ فَاجِي عِنْدَ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، حِينَئِذٍ أَرْسَلَ يَسُوعُ تِلْمِيذَيْنِ 2قَائِلًا لَهُمَا:«اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، فَلِلْوَقْتِ تَجِدَانِ أَتَانًا مَرْبُوطَةً وَجَحْشًا مَعَهَا، فَحُّلاَهُمَا وَأْتِيَاني بِهِمَا. 3وَإِنْ قَالَ لَكُمَا أَحَدٌ شَيْئًا، فَقُولاَ: الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِمَا. فَلِلْوَقْتِ يُرْسِلُهُمَا»."
جاءوا إلى بيت فاجي= ومرقس يقول بيت فاجي وبيت عنيا.. فحدود بيت عنيا وبيت فاجي مشتركة ولهم طريق واحد مشترك إلى أورشليم. بيت عنيا تعني بيت الألم والعناء. أمّا بيت فاجي فتعني بيت التين (ربما لكثرة أشجار التين فيها). ولكن التينة تشير للكنيسة التي يجتمع أفرادها في محبة، وهي في العالم في عناء (الحدود مشتركة) لكن المسيح في وسطها. يفرح بالحب الذي فيها ويشترك في ألامها ويرفعها عنها ويعزيها وهي على الأرض. أتانًا مربوطة وجحشًا معها= أمّا باقي الإنجيليين (مرقس ولوقا ويوحنا) فقد ذكروا الجحش فقط وقالوا لم يجلس عليه أحد قط. وقال معظم الآباء أن الأتان المربوطة تشير لليهود الذين كانوا مؤدبين بالناموس مرتبطين به، خضعوا لله منذ زمان. لكنهم في تمردهم وعصيانهم مثل الحمار الذي انحط في سلوكه ومعرفته الروحية، يحمل أحمالًا ثقيلة من نتائج خطاياه الثقيلة، والحمار حيوان دنس بحسب الشريعة. وهو من أكثر حيوانات الحمل غباءً، هكذا كان البشر قبل المسيح. أمّا الجحش فيمثل الأمم الشعب الجديد الذي لم يكن قد استخدم للركوب من قبل، ولم يروَّض لا بالناموس ولا عَرِف الله، عاشوا متمردين أغبياء في وثنيتهم، لم يستخدمه الله قبل ذلك ولذلك فهم بلا مران سابق وبلا خبرات روحية. (مز12:49). أتان= أنثى الحمار. جحش= حمار صغير.ومتى وحده لأنه كتب لليهود أشار للأتان والجحش، أمّا باقي الإنجيليين فلأنهم كتبوا للأمم أشاروا فقط للجحش. ربما ركب المسيح على الأتان فترة من الوقت، وعلى الجحش فترة أخرى ليريح الجحش. لكن الإنجيليين الثلاثة يشيروا لبدء دخول الإيمان للأمم.ونلاحظ أن المسيح لم يدخل أورشليم ولا مرّة، ولا أي مدينة أخرى في موكب مهيب بهذه الصورة سوى هذه المرة لإعلان سروره بالصليب، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وهو قبل هذا الموكب فهو حسبه موكبه كملك يملك بالصليب. ويوحنا وحده الذي أشار لهتاف الجماهير بقولهم ملك إسرائيل. ونلاحظ أن المسيح لم يدخل كالقادة العسكريين على حصان فهو مملكته ليست من هذا العالم، ويرفض مظاهر العظمة العالمية والتفاخر العالمي. ويطلب فقط مكانًا في القلوب، يحمل عنها خطاياها التي تئن من ثقلها (كالحمار) فترد لهُ جميله بأن تسكنه في قلبه (مز22:73، 32) فيحولها لمركبة سماوية (مز10:18) إن قال لكما أحد شيئًا= غالبًا كان صاحب الحمار من تلاميذ المسيح الذين آمنوا به سرًا.
الآيات (مت4:21-5):- "4فَكَانَ هذَا كُلُّهُ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: 5«قُولُوا لابْنَةِ صِهْيَوْنَ: هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِيكِ وَدِيعًا، رَاكِبًا عَلَى أَتَانٍ وَجَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ»."
إبنة صهيون= أي سكان أورشليم (أش11:62+ زك9:9) والإقتباس تمامًا من السبعينية. يأتيك وديعًا= حتى لا يهابوه بل يحبوه لذلك دخل راكبًا أتان ولم يركب حصان في موكب مهيب كقائد عسكري. ولكنه الآن يركب حصان، فرس أبيض الذي هو أنا وأنت ليحارب إبليس ويغلب. ومن الذي يغلب إلاّ الذي دخل المسيح قلبه وملك عليه، فدخول المسيح أورشليم يشير لدخوله قلوبنا.
الآيات (مت6:21-8):- "6فَذَهَبَ التِّلْمِيذَانِ وَفَعَلاَ كَمَا أَمَرَهُمَا يَسُوعُ، 7وَأَتَيَا بِالأَتَانِ وَالْجَحْشِ، وَوَضَعَا عَلَيْهِمَا ثِيَابَهُمَا فَجَلَسَ عَلَيْهِمَا. 8وَالْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَانًا مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. " فرش الثياب هي عادة شرقية دليل احترام الملوك عند دخولهم للمدن علامة الخضوع وتسليم القلب. ونحن فلنطرح أغلى ما لدينا تحت قدميه. فما حدث يعني أنهم يقبلونه ملكًا عليهم، أو يملكونه عليهم. واستخدامهم لأغصان الأشجار (غالبًا شجر الزيتون) مع سعف النخيل يشير للنصرة (نصرة على الخطية) مع السلام. فالنخل يشير بسعفه للنصرة والغلبة (رؤ9:7). والأغصان تشير للسلام (حمامة نوح عادت بغصن زيتون) وهذا ما كان اليهود يفعلونه وهم يحتفلون بعيد المظال، عيد الأفراح الحقيقية وهذا يدل على فرح الشعب بالمسيح الذي يدخل أورشليم. وكل من يملك المسيح على قلبه يغلب ويفرح. وفرش الأرض بالخضرة هو رمز للخير الذي يتوقعونه حين يملك المسيح.
آية (مت9:21):- "9وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِينَ:«أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!». "
استعمل البشيرون عبارات مختلفة ولكن هذا يعني أن البعض كان يقول هذا والبعض الآخر كان يقول تلك. وكل إنجيلي انتقى مما قيل ما يتناسب مع إنجيله. أمّا تسابيحهم فتركزت في كلمة أوصنا نطق أرامي معناه خلصنا فهي مأخوذة من هوشعنا بمعنى الخلاص أي يا رب خلص (هو من يهوه)، فالفرح كان بالمسيح المخلص وغالبًا هم فهموا الخلاص أن المسيح سيملك عليهم أرضيًا ويخلصهم من الرومان. وهذه التسبحة (أوصنا..) مأخوذة من مزمور (118).الجموع الذين تقدموا والذين تبعوا= طبعًا هذه تشير لأن بعض الجموع تقدموا الموكب وبعض الجموع ساروا وراء الموكب. ولكنها تشير لمن آمن بالله وعاشوا قبل مجيء المسيح من القديسين، ولمن آمن بالمسيح بعد مجيئه. فالكل استفاد بالخلاص الذي قدّمه المسيح. الكل في موكب النصرة. لذلك فالمسيح نزل إلى الجحيم من قبل الصليب ليفتحه ويخرج القديسين الذين كانوا فيه ويأخذهم إلى الفردوس. فالمسيح هو مخلص كل العالم. أوصنا لابن داود= إشارة لناسوت المسيح وتجسده. أوصنا في الأعالي= فهو الذي أتى من السماء وسيذهب للسماء.. (يو13:3). ولاحظ أن متى الذي يتكلم عن المسيح ابن داود يشير لهذا بقوله أوصنا لابن داود فهو تجسد ليرفعنا فيه للأعالي= أوصنا في الأعالي.
الآيات (مت10:21-11):- "10وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً:«مَنْ هذَا؟» 11فَقَالَتِ الْجُمُوعُ:«هذَا يَسُوعُ النَّبِيُّ الَّذِي مِنْ نَاصِرَةِ الْجَلِيلِ»."سكان المدينة لم يعرفوه. ولكن من سمع عنه وعمل معه معجزات قد عرفوه. وهؤلاء كان أغلبيتهم من الجليليين الذين هم في وسط الجموع. وكل من دخل المسيح قلبه يرتج قلبه فيطرد من داخله كل خطايا تمنعه من الفرح بالمسيح المخلص ويبدأ في التعرف عليه. لقد خطط المسيح دخوله أورشليم في هذا الموكب المهيب ليعلن أنه ملك ولكن على القلوب وكجزء من تدبير صلبه يوم الفصح (الجمعة). فهو بهذا أثار اليهود ضده فهو دخل كملك ظافر، المسيا الآتي لخلاص شعبه (فهو ملك بصليبه).
أما إنجيل معلمنا يوحنا فقد سرد دخول مخلصنا بمشهد أخر.
الآيات (يو12:12-13):- "12وَفِي الْغَدِ سَمِعَ الْجَمْعُ الْكَثِيرُ الَّذِي جَاءَ إِلَى الْعِيدِ أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ، 13فَأَخَذُوا سُعُوفَ النَّخْلِ وَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ، وَكَانُوا يَصْرُخُونَ: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!». "
وفي الغد= أي يوم الأحد. إذًا الوليمة كانت يوم السبت. الذين حضروا حفل العشاء أذاعوا النبأ السار أن يسوع الذي يريدونه كملك سيأتي إلى أورشليم. والجمع الذي احتشد كان أغلبهم من الجليليين ومن الذين سمعوا بمعجزة إقامة لعازر فتحمسوا للقائه. وأمام هذا الاستقبال الحافل تأكدت مخاوف الفريسيين ورؤساء الكهنة ووقفوا ينظرون خائفين وحاقدين. وسعف النخيل هو رمز للنصرة والبهجة (لا40:23+ رؤ9:7). وهم رأوا أن يسوع هو المسيح المسيا الذي تنبأ عنه الأنبياء وأنه سيأتي من نسل داود ليعيد لهم الملك (صف15:3-17+ لو32:1-33) فهم كانوا يحلمون باستعادة كرسي داود بل وأن يحكموا العالم كله. ونرى من (1مك51:13+ 2مك4:14) أنهم كانوا يستقبلون الملوك بسعف النخيل. ووجدت عملات مسكوكة من أيام سمعان المكابي عليها سعف النخيل. والنخيل شجرة محبوبة لأنها ترتفع شامخة نحو السماء فارشة أغصانها مثل التاج كأذرع تتوسل دائمًا. خضراء على الدوام تزهر وتثمر لمئات السنين (مز12:92-13+ نش6:7-8) وفيه نرى النفس المحبوبة للمسيح تشبه بنخلة.
ويوحنا اختار قول الناس أوصنا مبارك الآتي باسم الرب= فالمسيح أتى بقوة إلهية لخلاص الإنسان وتجديده، هو ابن الله الذي أتى ليخلقنا خلقة جديدة.
الآيات (يو12:14-15):- "14وَوَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: 15«لاَ تَخَافِي يَا ابْنَةَ صَهْيَوْنَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي جَالِسًا عَلَى جَحْشٍ أَتَانٍ»."
لا تخافي= فدخول المسيح لأورشليم كان للسلام ولم يأتي ليحارب الرومان وتسيل الدماء في أورشليم لكن ليملأ القلوب سلامًا. بل ليصنع سلامًا بين السماء والأرض. وكان دخوله وديعًا هادئًا وليس كالملوك الأرضيين يصنعون حربًا ويطلبون جزية. والجحش يستعمله الفقراء وفي هذا درس لليهود.المتكبرين الذين يحلمون بملك أرضي. وفي تواضع المسيح هذا إشارة لأن أحلام اليهود في مملكة عالمية هي أوهام خاطئة. ودرس لكل من يحلم بمجد أرضي أنه يجري وراء باطل.
آية (يو12:16):- "16وَهذِهِ الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا تَلاَمِيذُهُ أَوَّلًا، وَلكِنْ لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ، حِينَئِذٍ تَذَكَّرُوا أَنَّ هذِهِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ صَنَعُوا هذِهِ لَهُ. "لم يفهمها تلاميذه أولًا= كثيرًا ما لا نفهم أعمال المسيح أولًا ولكننا من المؤكد سنفهم فيما بعد. وأنهم صنعوا هذه له= أي أنهم اشتركوا في تكريم المسيح كملك، واشتركوا في تنفيذ النبوات، فهذه عائدة على النبوات. لم يكن التلاميذ فاهمين ولا الشعب ولا الفريسيين وكم من أمور تجري في حياتنا ونحن لا نفهمها. علينا أن لا نطالب بالفهم فسيأتي يوم ونفهم. لكن علينا بالإيمان.
آية (يو12:19):- "19فَقَالَ الْفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «انْظُرُوا! إِنَّكُمْ لاَ تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هُوَذَا الْعَالَمُ قَدْ ذَهَبَ وَرَاءَهُ!». "هذه نبوة من فم الأعداء بإيمان العالم وذهابه وراؤه، ونرى غيظهم من ضياع سلطانهم. لا تنفعون شيئًا= هذه مثل "راحت عليكم". فالناس تركتهم وهذا هو ما أغاظهم.فلندخل مع المسيح ملكنا في موكب نصرته، ونتألم معه لكي نتمجد معه أيضًا.ولإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلي الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
23 أبريل 2021
جمعة ختام الصوم الجمعة السابعة من الصوم الكبير دينونة المخلص
ارتباط فصول القراءات:
دينونة المخلص
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "دينونة المخلص" أي دينونته العادلة لجميع الشعوب يوم الدين على جهادهم في هذه الحياة، فالنبوة الأولى تتكلم عن حسن ختام جهاد المؤمنين كما انتهت نهاية سعيدة حياة يعقوب إسرائيل أولًا وابنه يوسف ثانيًا؛ والثانية عن ثوابه لهم كما يبين الحكيم في سفر الأمثال ثواب الأبرار وعقاب الأشرار؛ والثالثة عن دوام اسمهم وذريتهم كما قال الرب على لسان إشعياء إن المؤمنين به من جميع الأمم يدوم اسمهم وذريتهم، والرابعة عن بركته لآخرتهم كما بارك آخرة أيوب بعد انتهاء تجربته.ويتكلم إنجيل باكر عن اختيار المخلص للمستعدين عند مجيئه الثاني كما ذكر ذلك له المجد في حديثه لتلاميذه، وإنجيل القداس عن دينونته لرافضي الخلاص المقدم لهم كما تنبأ عن خراب أورشليم التي رفضت هذا الخلاص.وتحثهم رسالة البولس على ضرورة إتمام الخدمة الروحية كما أوصى بولس تلميذه تيموثاوس بذلك، والكاثوليكون على وجوب صبرهم على ضيقاتها حتى تؤتى ثمارها كما أوصى بذلك يعقوب الرسول، ويتحدث الإبركسيس عن ضرورة إفتقاد الأمم أيضا بهذه الخدمة كما أشار إلى ذلك بطرس الرسول في خطابه عن مسألة الختان.
من النبوات تك 49: 33– 50: 1
يعقوب يبارك أولاده
بنهاية حياة يعقوب على الأرض ينتهي عصر الآباء البطاركة العظام (إبراهيم وإسحق ويعقوب)، لينطلق إسرائيل لا كأفراد بل كشعب وخميرة كان يجب أن تخمر العجين كله بالإيمان وتعد العالم لمجيء المسيا المخلص. لذا ختم هذا العصر بتقديم البركة لكل سبط تحمل في طياتها نبوة عن مجيء المخلص.
(1) يعقوب يدعو أولاده
" ودعا يعقوب بنيه وقال: اجتمعوا لأنبئكم بما يصيبكم في آخر الأيام " (ع 1).بعد حياة مليئة بالجهاد خلالها اغتصب يعقوب البركة والباكورية، واستحق رغم ضعفاته المتكررة أن ينال الوعد بمجيء المسيا المخلص من نسله، هذا الذي به تتبارك كل الأمم، قضى في مصر 17 عامًا في صمت وسكون.. والآن إذ هو عابر من هذه الأرض تطلع إلى أولاده كأسباط منهم يخرج شعب الله الذي يتمتع بأرض الموعد، ويأتي المسيا المخلص فانفتح لسانه ينطق بما يراه خلال روح النبوة أو خلال الظلال، كأنه بموسى الذي ارتفع على جبل نبو يتطلع من بعيد إلى أرض الموعد، فيفرح قلبه من أجل الشعب الذي ينعم بتحقيق الوعد الذي حرم هو منه.يمكننا في إيجاز القول بأن يعقوب رأى بروح النبوة في أولاده صورة حية للكنيسة المجاهدة في المسيح يسوع.
(2) رأوبين:
يبارك يعقوب بكره حسب الجسد وفي نفس الوقت يعاتبه: "رأوبين أنت بكرى قوتي وأول قدرتي، فضل الرفعة وفضل العز، فائرا كالماء لا تنفصل، لأنك صعدت على مضطجع أبيك، حينئذ دنسته. على فراشي صعد" (ع 3، 4).في الأيام الأخيرة يهاجم الناس مضطجع الآب، أي الكنيسة العروس، بقصد إفسادها، الأمر الذي يحدث هذه الأيام من خلال البدع والهرطقات.
(3) شمعون ولاوي:
"شمعون ولاوي أخوان، آلات ظلم سيوفهما، في مجلسهما لا تدخل نفسي، بمجمعهما لا تتحد كرامتي، لأنهما في غضبهما قتلا إنسانا وفي رضاهما عرقبا ثورًا، ملعون غضبهما فإنه شديد، وسخطهما فإنه قاس " (ع 5 – 7).من شمعون جاء الكتبة، ومن لاوي الكهنة، وبإرادتهما تمم الكتبة والكهنة الشر بقتلهم المسيح بفكر واحد.. حقا إنهما أخوان، لكن في اتحادهما لم يكرما الله بل قتلا المخلص الذي جاء كإنسان وعرقباه وهو المتقدم كذبيحة (كثور) ليفديهما.
(4) يهوذا:
حقا إن يهوذا لم ينل نصيب إثنين كيوسف، لكن يهوذا نال نصيب الأسد في البركة إذ رأى يعقوب السيد المسيح الملك والكاهن يأتي من نسله، إذ يقول" يهوذا إياك يحمد إخوتك، يدك على قفا أعدائك، يسجد لك بنو أبيك " (ع 6).من هو يهوذا هذا الذي يحمده إخوته ويسبحونه إلا السيد المسيح نفسه الخارج من سبط يهوذا، الذي وضع بالصليب يده على قفا إبليس عدوه فحطمه، محررا البشرية من سلطانه حتى يسجدوا له بالروح والحق يكمل يعقوب حديثه مع يهوذا: " لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب " (ع 10). إنه امتياز يقدمه يعقوب لابنه الذي يحمل نسله قضيب الملك ومن نسله (بين رجليه) يكون الحكم الذي يشرع حتى يأتي المسيا واهب السلام (شيلون) فيضم الشعوب إلى مملكته الروحية." رابطا بالكرمة جحشه، وبالجفنة إبن أتانه. غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب ثوبه " (ع 11)إن هذا اللباس من اليهود والأمم غسله السيد المسيح بدمه الطاهر [الأتان والجحش يشيران إلى الأمة اليهودية والأمم] " مسود العينين من الخمر ومبيض الأسنان من اللبن " (ع 12).عيناه لامعتان كما بكلمة الحق إذ ترقبان ما يؤمن به، وأسنانه بيضاء كاللبن معبرا عن قوة كلماته المنيرة، لذا دعاها بيضاء وقارنها باللبن الذي يقوت الجسد والنفس.
(5) زبولون:
" زبولون عند ساحل البحر يسكن، وهو عند ساحل السفن وجانبه عند صيدون " (ع 13).سكن زبولون غرب نهر الأردن وغرب بحر الجليل، بذكره زبولون محددًا سكناه بحدود البحر إنما يوضح التحام إسرائيل بالأمم ليصير الشعبان قطيعًا واحدًا تحت يد الراعي الأعظم الواحد، الصالح بطبعه، المسيح. لذلك ففي مباركته يقول موسى:
(6) يساكر:
" يساكر حمار جسيم رابض بين الحظائر، فرأى المحل أنه حسن والأرض أنها نزهة، فأحنى كتفه للحمل وصار للجزية عبدا " (ع 14، 15).شبه يساكر بحمار جسيم أو ضخم وقوى، فقد اشتغل هذا السبط بالفلاحة وكان دأبهم الصبر، وكانت الأرض خصبة فاكتفى السبط بالزراعة ولم يمل إلى الانشغال بالسياسة إلا نادرًا وقد تعرض لدفع الجزية أو الضرائب.
(7) دان:
" دان يدين شعبه كأحد أسباط إسرائيل، يكون دان حية على الطريق، افعوانًا على السبيل، يلسع عقبى الفرس فيسقط راكبه إلى الوراء، لخلاصك انتظرت الرب! " (ع 16 – 18).لما كانت النبوة تحمل مرارة لذلك بدأها بعتاب معلنا أن دان " كأحد أسباط إسرائيل " إذ حسب سبطا مع أنه أول ابن ليعقوب من جارية (تك 30: 1 – 6)، وقد عرفت ذريته بالدهاء والمكر، شبهه موسى بشبل أسد يثب من باشان (تث 33: 22).ذكر القديس إيرنياؤس أن ضد المسيح يخرج من سبط دان، وقبل كثير من الآباء هذا الفكر. وقد دلل القديس هيبوليتس على ذلك من قول إرميا النبي: "من دان سمعت حمحمة خيله، عند صوت صهيل جياده ارتجفت كل الأرض فأتوا وأكلوا الأرض وملأها المدينة والساكنين فيها، لأني هأنذا مرسل عليكم حيات أفاعي لا ترقى فتلدغكم يقول الرب" (إر 8: 16). متطلعا أن ما وصفه إرميا هنا ينطبق على عصر الارتداد حين يخرج ضد المسيح من سبط دان بجيشه يحارب الكنيسة في كل الأرض ويلدغ المؤمنين بسموم تجاديفه.
(8) جاد:
" جاد يزحمه جيش، ولكنه يزحم مؤخرة " (ع 19)كان نصيب سبط جاد شرق الأردن كطلبه وقد اشترط موسى النبي على بنى جاد وبنى رأوبين أن يعبروا مع إخوتهم ويحاربوا وعند التقسيم يأخذون شرقي الأردن (عدد 32). اختيارهم لشرقي الأردن جعلهم معرضين للقتال، فكانت أرضهم ساحة قتال بين آرام، وإسرائيل (2 مل 10: 33). كما تعرضوا لغزو العمونيين والأموريين لكن بنى جاد كانوا يلحقون بهم ويقاتلونهم ويستردون غنائمهم. وكان جبابرة سبط جاد مرافقين لداود في صقلغ، قيل عنهم: " جبابرة البأس رجال جيش للحرب صافوا أتراس ورماح وجوههم كوجوه الأسود وهم كالظبي على الجبال في السرعة.. صغيرهم لمئة والكبير لألف " (1 أي 112: 8 – 14).
(9) أشير:
" أشير خبزه سمين وهو يعطى لذات ملوك " (ع 20).تنبأ يعقوب عن أشير بكثرة الخيرات، كما تنبأ موسى عنه أنه يغمس في الزيت قدمه (تث 33: 24).. وقد تحققت النبوتان إذ تمتع سبط أشير بأرض خصبة غنية بأشجار الزيتون التي يستخرج منها الزيت.
(10) نفتالي:
" نفتالي أيلة (أنثى الإيل) مسيبة تعطى أقوالًا حسنة " (ع 21).يشبه في محبته للحرية بأنثى الأيل المنطلقة في برية مفتوحة، لكن هذه الحرية ليست فرصة للانحلال والشر وإنما التزم السبط بعلاقات طيبة مع بقية الأسباط مقدما "أقوالًا حسنة".باركهم موسى النبي قبل موته: " يا نفتالي أشبع رضى وامتلئ بركة من الرب واملك الغرب والجنوب " (تث 33: 23)..
(11) يوسف:
نال يوسف "رجل الأحلام" الابن البكر لراحيل مدحًا أكثر من كل إخوته، فقد كان أمينًا في علاقته مع الله ومحبًا للجميع كابن أو كأخ أو كعبد أو كأجير أو كسجين أو كقائد في القصر.. لذا دعاه أبوه "غصن شجرة مثمرة" وقد كرر العبارة مرتين إشارة إلى أن الثمرة هي ثمرة الحب، لأن رقم 2 كما يقول القديس أغسطينوس يشير إلى الحب، إذ يجعل الاثنين واحدًا.. كان يوسف غصنًا يثمر حبًا سماويًا مرتفعًا إلى فوق لا يعوقه حائط الظروف المحيطة أو الأحداث، إذ يقول: "يوسف غصن شجرة مثمرة، غصن شجرة مثمرة على ماء، أغصان قد ارتفعت فوق حائط، فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام، ولكن ثبتت بمتانة قوسه وتشددت سواعد يديه " (ع 22 – 34).
(12) بنيامين:
" بنيامين ذئب يفترس، في الصباح يأكل غنيمة وعند المساء يقسم نهبا " (ع 27)تشير النبوة هنا إلى شجاعة سبط بنيامين وقوته في الحروب، كان شاول الملك من سبط بنيامين، كان ذئبا أراد أن يفترس داود الملك..
(13) الوصية الوداعية:
سبق فأوصى يعقوب ابنه يوسف أن يدفنه مع أبيه وأمه وجده وجدته في كنعان في مغارة المكفيلة التي اشتراها إبراهيم من بنى حث، وها هو يكرر الوصية لأولاده الاثني عشر.. لقد عاش غريبا كآبائه ينتظر تحقيق وعود الله في نسله.. وأخيرا مات على رجاء، إذ أسلم الروح وانضم إلى قومه.
إشعياء – الإصحاح السادس والستون
أورشليم الجديدة
اختتم هذا السفر الإنجيلي بالكشف عن أورشليم الجديدة التي أقيمت بالسيد المسيح بعدما هدم الحرف القاتل الذي ارتبط بالشكليات المفسدة لحياتنا الداخلية وعلاقتنا مع الله.
(1) فساد العبادة الشكلية:
كثيرًا ما اتكل اليهود على وجود الهيكل في أورشليم كمصدر أمان لهم، مهما كانت حياتهم أو علاقتهم بالرب، لهذا يوبخهم الرب قائلًا: "السموات كرسي والأرض موطئ قدمي، أين البيت الذي تبنون لي؟ وأين مكان راحتي؟" (إش 66: 1).إن كان الله في محبته للإنسان سمح أن يبنى له بيتا، إنما من قبيل تنازل الله ليعلن حلوله في وسطنا. الله لا تهمه الحجارة والمباني الضخمة إنما يسكن في "المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامه" (راجع إش 66: 2).الكنيسة هي الدخول في الصخرة كما فعل موسى النبي لكي يرى مجد الله، هذه الصخرة هي المسيح. نثبت فيه بروح الاتضاع مع الانسحاق فننعم بالسكنى الإلهية، لهذا قيل"وإلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي" (إش 66: 2).هكذا بالاتضاع وانسحاق القلب وخشية كلماته يتطلع إلينا الرب، ويسكن فينا، ويحولنا إلى سمواته المقدسة. أما من ينشغل بالشكليات في العبادة بروح الرياء والكبرياء، فإن الله لا يجد فيه راحة وتصير عبادته مكرهة أمامه. يشتم الله الذبائح رائحة قتل ونجاسة وعبادة أوثان، إذ يقول: " من يذبح ثورا فهو قاتل إنسان. من يذبح شاة فهو ناحر كلب، من يصعد تقدمة يصعد دم خنزير. من أحرق لبانا فهو مبارك وثنا " (إش 66: 3).وكما يقول الحكيم: "ذبيحة الأشرار مكرهة الرب وصلاة المستقيمين مرضاته" (أم 15: 8).أما ثمرة الانشغال في الشكليات بلا روح فهو الدخول في متاعب بلا تعزية، وعوض أن يطمئنهم الرب قائلًا لكل واحد منهم "لا تخف لأني معك، دعوتك باسمك أنت لي" (إش 43: 1)، يقول لهم "هم اختاروا طرقهم وبمكرهاتهم سرت أنفسهم، فأنا أيضا أختار مصائبهم، ومخاوفهم أجلبها عليهم، من أجل أنى دعوت فلم يكن مجيب، تكلمت فلم يسمعوا بل عملوا القبيح في عيني واختاروا ما لم أسر به" (إش 66: 3، 4).
(2) التمييز بين الشكليين والجادين في العبادة
" اسمعوا كلام الرب أيها المرتعدون من كلامه. قال إخوتكم الذين أبغضوكم وطردوكم من أجل اسمي: ليتمجد الرب، فيظهر لفرحكم، وأما هم فيخزون " (إش 66: 5).هذا ما حدث عندما أبغض اليهود تلاميذ الرب ورسله وطردوهم تحت ستار الغيرة على مجد الله والناموس الموسوي، لكن فرح التلاميذ وخزي المضطهدون. أشار السيد المسيح إلى ذلك بقوله: " سيخرجونكم من المجامع بل تأتى ساعة فيها يظن كل من يقتلكم أنه يقدم خدمة لله " (يو 16: 2).أما ثمر الضيق الذي حل على رجال كنيسة العهد الجديد من إخوتهم فهو خراب الهيكل على يدي تيطس، إذ قيل هنا: " صوت ضجيج من المدينة، صوت من الهيكل، صوت الرب مجازيا أعداءه " (إش 66: 6).
(3) أورشليم الجديدة:
يختم النبي حديثه بالكشف عن أورشليم الجديدة:
أ – تفيض فرحا وبهجة على محبيها النائحين عليها بسبب ما تعانيه من ضيقات (إش 66: 10).من الخارج آلام ومتاعب، ومن الداخل فيض فرح حتى على الغير.
ب – تفيض شبعا للجميع، تهب الأطفال تعزيات كما من لبن ثدييها، بينما تهب الكبار من عصير ولذة درة مجدها.
جـ - فيض سلام كنهر، ومجد عظيم كسيل جارف: " لأنه هكذا قال الرب: هأنذا أدير عليها سلاما كنهر ومجد الأمم كسيل جارف فترضعون، وعلى الأيدي تحملون، وعلى الركبتين تدللون " (إش 66: 12).
د – مصدر تعزية إلهية: " كإنسان تعزية أمه هكذا أعزيكم أنا وفي أورشليم تعزون" (إش 66: 13).
الله أب يهب الكنسية أمومة ليس فقط نحو المؤمنين أبنائها وإنما نحو كل بشر، تحمل قلبًا متسعًا كعريسها لتفيض حبًا على الجميع." فترون وتفرح قلوبكم وتزهو عظامكم كالعشب وتعرف يد الرب عند عبيده ويحنق على أعدائه " (إش 66: 14).هذه هي تعزيتنا في الرب خلال كنيسته: يهبنا فرح القلب السماوي واتساعه بالحب وينمى إيماننا (العظام بكونها مركز الجسم).
هـ - مصدر للطهارة: " الذين يقدسون ويطهرون أنفسهم في الجنات وراء واحد في الوسط آكلين لحم الخنزير والرجس والجرذ يفنون معا يقول الرب " (إش 66: 17)..
البولس من (2 تيموثاوس 3: 1 – 4: 5)
مقاومة روح الضلال
لا تقف رسالة الراعي عند الجهاد في حياته الخاصة ليحيا مقدسًا للرب، وإنما يليق به مقاومة البدع والهرطقات وكل ضلال سواء من جهة التعليم أو عدم السلوك بحكمة سماوية.
الهرطقات والشر
إذ تحدث عن المباحثات الغبية والمفسدة بدأ يتحدث عن الضلال خاصة من جهة السلوك، فغالبًا ما ترتبط الهرطقات والبدع بالحياة الشريرة، إذ هي في جوهرنا تقوم على حب الأنا والمجد الباطل وحب الانشقاق، فيتلاحم الفكر المنحرف عن الحق بالسلوك الشرير."ولكن اعلم هذا: أنه في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنة صعبة. لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم" [1، 2].يقصد بالأزمنة الأخيرة بعد مجيء الابن الكلمة المتجسد، فإن كان في ملء الزمان تقدم الله بإعلان الحب بتحقيق خلاصنا خلال صليب ابنه، فإن الشيطان بدوره يثير العاملين لحسابه لمقاومة الحق. إنها أزمنة النعمة بالنسبة للمؤمنين، وأزمنة صعبة بالنسبة للمخدوعين بحيل إبليس وأضاليله.على أي الأحوال في كل عصر يعلن الله محبته، وفي نفس الوقت يثير إبليس أتباعه للتضليل، وقد قدم الرسول بولس مثالًا بعصر موسى النبي، إذ يقول: "وكما قاوم يَنِّيس وَيَمْبِرِيس موسى، كذلك هؤلاء أيضًا يقاومون الحق، أناس فاسدة أذهانهم، ومن جهة الإيمان مرفوضون" [8]. إذن فالعيب ليس في الزمان، وإنما في قلب الإنسان الشرير. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لا تُلِم الأيام والأزمنة بل الناس عبر الأزمنة، فقد اعتدنا الحديث عن أزمنة صالحة وأزمنة شريرة، وذلك خلال الأحداث التي تحدث لنا بواسطة الناس.]أما جذر الشر وأساسه فهو الأنا أي محبة الإنسان لذاته، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فيتقوقع حولها ويقيمها إلهًا له، يود أن الكل يخدمها عوضًا عن أن يخدم الآخرين، فيضر نفسه وهو لا يدري. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [من يهتم بأمور الآخرين إنما يهتم بشئونه الخاصة.. ومن يستهين بأمور إخوته يهمل ما يخصه هو. فإن كنا أعضاء الواحد للآخر، فإن نفع أخينا لا يعود عليه وحده، إنما يعود على الجسد كله، والضرر الذي يصيب أخانا لا يقف عنده وحده، إنما يصيب بقية الجسد بالآلام. هكذا في الكنيسة إن كنت تستخف بقريبك إنما تضر نفسك.] وأيضًا يعلق على كلمات الرسول: "لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم" [2]، قائلًا: [إنه يضع الجذر أو الأساس الذي تنبع عنه الشرور.. فمن يحب نفسه (الأنا)، ويقال عنه إنه غير محب لنفسه، أما من يحب أخاه فهو محب لنفسه بالمعنى الحقيقي.]هكذا يضع الرسول بولس محبة الذات أو الأنا أو الكبرياء كأساس للشر والهرطقة،خلال محبة الذات أو الكبرياء يضيق قلب الإنسان جدًا، فلا يطلب إلاَّ ما لذاته من محبة مال أو شهوات، فينسحب القلب من خطية إلى أخرى، تسلمه هذه إلى تلك ليصير ألعوبة الخطايا والنجاسات، يفقد إرادته الحُرّة وقدسيته ليعيش في مذلة وضعف."لأن الناس يكونون محبين لأنفسهم، محبين للمال، متعظمين، مستكبرين، مجدفين، غير طائعين لوالديهم، غير شاكرين، دنسين، بلا حنو، بلا رضى، ثالبين، عديمي النزاهة، شرسين، غير محبين للصلاح، خائنين، مقتحمين، متصلفين، محبين للذات دون محبة الله، لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها، فاعرض عن هؤلاء" [2-٥].لاحظ القديس يوحنا ذهبي الفم في تعليقه على العبارات السابقة أن كل خطية تنتج الخطية التالية لها، إذ يقول: [تصدر محبة المال عن محبة الإنسان لذاته.. وعن محبة المال تنبع محبة العظمة، وعن حب العظمة الكبرياء، وعن الكبرياء التجديف، وعن التجديف التحدي وعدم الطاعة.. فمن يتكبر على الناس يتكبر على الله بسهولة. هكذا تتولد الخطايا وترتفع من أسفل إلى أعلى، فمن يكون تقيًا في تعامله مع الناس يكون هكذا بالأكثر مع الله. ومن يكون وديعًا مع العبيد زملائه يكون بالأكثر وديعًا مع سيده. إذ يحتقر العبد زميله ينتهي به الأمر إلى احتقار الله نفسه. إذن ليتنا لا نحتقر بعضنا البعض، لأن هذه خبرة شريرة تُعلِّمنا إحتقار الله.] هكذا لاحظ القديس أن الخطايا بدأت موجهة ضد الناس وانتهت موجهة ضد الله نفسه.في اختصار نذكر أهم الشرور التي أوردها الرسول هنا:
أ. حب الذات: رأينا أنها أساس كل الشرور وجذورها، حيث تغلق النفس أو القلب عن محبة الله والناس.
ب. محبة المال أو الطمع: الإنسان المحب لذاته يطلب كل شيء لحسابها فيكون طماعًا يحب المال والكرامة على حساب إخوته، بل وعلى حساب نفسه
ج. حب العظمة والكبرياء: كما أن محبة الذات تُوَلِّد عطشًا لا ينتهي نحو المال والغنى لا يمكن للعالم أن يرويه، هكذا ذات العلة قد تُوَلِّد عطشًا لا للمال بل إلى حب الكرامة الباطلة والمجد الزمني، الأمور التي تفقد الإنسان سلامه الداخلي.
د. التجديف: عطش الإنسان إلى الأرضيات سواء على مستوى المال والغنى أو على مستوى حب الكرامة الزمنيّة يحرف البصيرة الداخلية عن الله نفسه، فتحتقر النفس إلهها ولا تقدر أن تتلامس مع أعماله الخلاصيّة وعطاياه المجانيّة فتجدف عليه.
ه. عدم طاعة الوالدين: الإنسان الذي يستخف بالله يستخف بوالديه، ففي تجديفه يود أن يتحرر من الأبوة الإلهيّة، بكونها سلطة تحرمه الحريّة، وفي عصيانه للوالدين يحمل ذات الفكر تجاه الوالديّة الطبيعيّة الدمويّة.
و. عدم الشكر أو الجحود: رأيناه وضعًا طبيعيًا في حياة الإنسان محب المال، علامة شعوره بالفراغ الداخلي، الذي لا يستطيع العالم أن يملأه مهما قدم له. على العكس فإن السمائيّين إذ هم في حالة شبع روحي تتسم حياتهم بالشكر الدائم خلال تسابيحهم غير المنقطعة.
ز. الدنس: إن كان الفراغ الداخلي يخلق طبيعة جاحدة لا تقدر أن تشكر، فإن هذا الفراغ بعينه يلهب الإنسان نحو الأمور الدنسة لكي يلتهي فيها، حاسبًا أنه يجد شبعه وسروره الجسدي في التصرفات الدنسة.
ط. عدم الحنو: يُقصد به عدم وجود ود طبيعي، فالإنسان السالك في الدنس يطلب ما يشبع لذَّاته الخاصة، وإن أظهر حنوًا، فليس عن حنو داخلي لراحة الآخرين، وإنما لإشباع ملذاته الخاصة. والمثل الواضح في ذلك أمنون الذي مرض جدًا بسبب محبته الدنسة لأخته ثامار، ولما أخذ منها ما اشتهاه طردها. وأيضًا امرأة فوطيفار أحبت يوسف العفيف جسديًا، ولما تحدث معها بلطف رافضًا الشر سلمته للسجن وعرضت حياته للخطر.
ظ. عدم الرضا: يُقصد به نقض العهد الذي ارتبط به.
ع. الثلب: يُقصد به اتهام الآخرين زورًا. فلا يقف الأمر عند نقض العهد الذي ارتبط به بإرادته وإنما يتهم غيره زورًا.
غ. عدم النزاهة أو عدم العفة: بمعنى عدم قدرة الإنسان على ضبط نفسه من جهة لسانه وشهواته وكل شيء آخر. يريد أن يعيش في الملذات بلا ضابط.
ف. شراسة: طبيعة الخطية تفقد الإنسان إنسانيته ليحيا شرسًا، يقاوم الآخرين بلا سبب حقيقي.
ق. غير محبين للصلاح: أي يحتقرون الأمور الصالحة ويستهينون بها كأمورٍ تافهة.
ك. الخيانة: يقصد بها خيانة الإنسان للعهد الإلهي، ومن جانب آخر خيانته للعهد الطبيعي كأن يسلم الأب ابنه، أو الابن أباه (مت ١٠: ٢١) أو خيانة الصداقة.
ل. الاقتحام: يتدخلون بالشر فيما لا يعنيهم.
م. التصلف: أو الكبرياء بدون تروٍ.
ن. محبة اللذات: دون محبة الله، لأن محبة الإنسان لإشباع شهواته تقف حائلًا عن محبته لله.
أخيرًا يختم الرسول حديثه عن الأشرار بقوله: "لهم صورة التقوى ولكنهم منكرون قوتها" [5]، وهذا هو أخطر أنواع الشر أن يحمل الإنسان المظهر البَرَّاق المُخادع أما الداخل فمملوء فسادًا. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم إن هذا الرياء يمثل لصًا خطيرًا يسلب المتدينين كل ما لديهم. فالخطايا السابقة واضحة يسهل على مرتكبيها أن يتوبوا عنها ويعترفوا بها، أما خطية الرياء، فغالبًا ما يصعب على مرتكبيها إدراكها. إذ لا يخدع الآخرين فحسب وإنما يخدع أيضًا نفسه، فيرى في نفسه أنه أفضل من الآخرين، ولا يقبل التعليم أو النصح."لأنه سيكون وقت لا يحتملون فيه التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة، يجمعون لهم معلمين مُستَحِكَّة مسامعهم، فيصرفون مسامعهم عن الحق وينحرفون إلى الخرافات" [4: 3-4].كأنه يقول يلزم الكرازة بروح القوة في كل حين، في وقت مناسب وغير مناسب، في حزمٍ لكن مع طول أناة ولطف.. لماذا؟ لأنه يأتي وقت فيه تتصلف القلوب وتصير العنق متشامخة وعنيدة، فلا يحتمل الناس الاستماع للتعليم الصحيح. وكأن الرسول ينصحه أن يسرع بالعمل الروحي، لأن كل تأخير في الكرازة إنما يعني دخول الناس إلى حالة أكثر تصلفًا. كأن الزمن ليس في صالحنا إن أهملنا الخدمة! فالقلب المستعد الآن لقبول الكلمة قد يرفضها غدًا ما لم نخدمه اليوم! اليوم قد يقبل الناس المعلمين الحقيقيّين، لكن إن أهمل المعلمون في رعايتهم يسقط الناس في شهوات كثيرة، وعندئذ يطلبون لأنفسهم معلمين حسب أهوائهم. يطلبون ويجدون جماهير من المعلمين المنحرفين عن الحق، مملوءين فسادًا، تستريح لهم قلوبهم.لم يقصد الرسول بهذا تحطيم تلميذه بروح اليأس، وإنما تشجيعه على السرعة في العمل الروحي وتقديم كلمة الحق حتى لا تهلك هذه النفوس، لهذا يكمل قائلًا: "وأما أنت فَاصْحُ في كل شيء، احتمل المشقات، اعمل عمل المبشر، تمم خدمتك" [٥].سأله أن يكون صاحيًا متيقظًا حتى لا تدخل الذئاب بين الحملان فتفترسهم. حقًا في السهر على الرعاية يتحمل الراعي الكثير من المشقات، لكن تهون هذه كلها من أجل خلاص الخراف العاقلة. هذا هو عمل المبشر أن يحمل الصليب مع مخلصه المصلوب لأجل الدخول بكل نفس إلى رعية السيد المسيح ربنا. بهذا يتمم خدمته ويكمل رسالته.
إنجيل القداس من لوقا 13: 31 – 35
إعلانه عن موته
إذ تحدَّث السيد المسيح عن "الباب الضيق" مظهرًا أن الأمم يأتون من المشارق والمغارب ومن الشمال والجنوب يتكئون في ملكوت الله [29] خلال هذا الباب، بينما يُطرح أبناء الملكوت خارجًا لأنهم يرفضون هذا الباب، بهذا يصير الآخرون أولين والأولون آخرين [30]. بدأ الإنجيلي لوقا يكشف لنا كيف عاش مسيحنا في هذا "الضيق"، بل جاء ليدخل من الباب الضيق، محتملًا الموت من أجلنا لكي يحملنا معه إلى قيامته." في ذلك اليوم تقدَّم بعض الفرِّيسيِّين قائلين له: اخرج واذهب من ههنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك. فقال لهم: امضوا وقولوا لهذا الثعلب، ها أنا أخرج شياطين وأشفي اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل.بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن أورشليم" [31-33].يرى كثير من الآباء أن الفرِّيسيِّين هنا يمثلون ذئابًا جاءت في زي حملان، تتظاهر بالحب نحو السيد المسيح بينما كان الدافع لتصرفاتهم هو حسدهم، لأنه يجتذب الجماهير من حولهم، فيفقدهم كرامتهم ومكاسبهم. فأرادوا طرده من المقاطعة الخاضعة لحكم أنتيباس هيرودس بنصحهم إيَّاه أن يخرج لئلاَّ يقتله هيرودس.إذن لماذا اقتربوا منه، قائلين: أخرج واذهب من ههنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك" [31]. ما هي غايتهم في ذلك؟ يخبرنا الإنجيلي هذا بقوله: "في تلك الساعة تقدَّموا إليه.." ماذا يعنى بتلك الساعة التي فيها تقدَّم الفريِّسيُّون وقالوا هذا ليسوع؟ حين كان منشغلًا بتعليم جموع اليهود حيث سأله واحد إن كان كثيرون يخلصون. فقد عبر السيِّد علي السؤال ليجيب بما يليق به أن يخبرهم، وهو الطريق الذي يجب أن يسير فيه البشر ليصيروا ورثة ملكوت السماوات. إذ قال: "اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق.." واخبرهم أنهم إذ يرفضون ذلك فسيرون إبراهيم وإسحق ويعقوب وجميع الأنبياء في ملكوت الله وهم مطرحون خارجًا [28]، كما أضاف: "هوذا آخرون يكونون أولين، وأولون يكونون آخرين" [30] متحدَّثا عن دعوة الوثنيين للإيمان. هذه العلامات حركت الغضب في ذهن الفرِّيسيِّين. لقد رأوا الجموع تتوب وتتقبل الإيمان به بشغف ولم يعودوا يحتاجون إلا إلى أمور قليلة ليدركوا مجده وسّر تجسده العظيم المستحق للعبادة. بهذا إذ أوشك الفريِّسيُّون أن يفقدوا وظيفتهم كقادة للشعب، بل فقدوا فعلا سلطانهم عليهم، وخسروا ما كانوا يربحونه إذ كانوا شغوفين بمحبَّة الثروة والطمع والترف، تظاهروا بحبه، واقتربوا إليه، قائلين: "اخرج واذهب من ههنا، لأن هيرودس يريد أن يقتلك.." لقد ظنوا أنهم يستطيعون أن يخدعوا ذاك القائل: "من هذا الذي يخفي ذهنه عني؟ ويغلق على كلماته في قلبه ويظن أنه يخفيها عني؟" (أي 38: 2 الترجمة السبعينية).]ظن الفرِّيسيُّون أنهم قادرون علي خداع السيِّد، لكنه أجابهم كفاحصٍ للقلوب والكلى، وعالم بكل الأسرار والمستقبل، بهدوء في حكمة عجيبة، إجابة شاملة وقويَّة لبنيان سامعيها، إذ أظهر في إجابته الآتي:
أولًا: أظهر شجاعته بإرسالهم لهيرودس ملقبًا إيَّاه بالثعلب.. فمن ناحيَّة أراد أن يعلن لهم أنه لن ينسحب عن خدمة الجماهير مهما بلغت المخاطر، إنما لينسحبوا هم أن أرادوا وينشغلوا بما هو ليس لخلاص إخوتهم؛ ومن ناحيَّة أخرى يدعو هيرودس ثعلبًا، إذ يعرف وحشية قلبه وحبه لسفك الدماء البريئة بمكر وخداع.
ثانيًا: أظهر أيضًا رسالته أنه ليس منافسًا لهيرودس في مملكته الأرضية، لكنه ملك سماوي يعمل لبنيان النفوس، فيطرد الشياطين ويشفي، مقدَّما نفسه برضاه للموت [32-33].. لقد جاء لكي يحطم عمل الشيطان ويشفي البشريَّة من جراحاتها المميتة، فيقيم كنيسته كمملكة روحيَّة. وكما يقول القديس أغسطينوس: [لتفهم هذه الأمور التي نطق بها بمعنى سّرى، مشيرًا إلى جسده الذي هو الكنيسة. فإن الشياطين تُطرد عندما يترك الأمم الخزعبلات ويؤمنوا به، ويتحقَّق الشفاء كاملًا بواسطة وصاياه، بعدما يجحد الشيطان والعالم في القيامة وتصير الكنيسة كاملة في ملء الحياة الملائكيَّة بخلود الجسد أيضًا.]
ثالثًا: أظهر معرفته للمستقبل بقوله: "اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث أكمل" [32]، وهو تعبير عبري رمزي يعني أن أيامه علي الأرض باتت قليلة ومعدودة (هو 6: 2). وبقوله "اُكمل" كشف عن آلامه كسرّ مجد، إذ بها يكمل عمله الخلاصي من أجل شعبه.
رابعًا: كشف عن رسالته أنه قد جاء لكي يُبذل من خاصته (أورشليم)، إذ قال: "بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه، لأنه لا يمكن أن يهلك نبي خارجًا عن أورشليم" [33]. وكما يقول القدِّيس كيرلس الكبير: [لقد ظن الفرِّيسيُّون أن سلطان هيرودس يرعبه فتذله المخاوف، لكنه هو رب القوات الذي يوّلد فينا الشجاعة الروحيَّة بكلماته: "لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد، ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها" (مت 10: 28). إنه لم يعطِ اهتمامًا للعنف البشري، بل يقول: "بل ينبغي أن أسير اليوم وغدًا وما يليه" [33]. بقوله "ينبغي" لا يعني الإلزام قسرًا، وإنما التزام به بكمال حريته، فبدون خطر يذهب أينما شاء ويتنقل في اليهوديَّة دون أن يقاومه أحد أو يخطط ضده حتى يتقبل الألم بإرادته خلال الصليب الثمين.. بإرادته قبل الألم لكي يموت جسده يبطل الموت ويقوم. وإذ قام من الأموات يقيم معه الطبيعة البشريَّة كلها، ويجددها واهبًا لها الحياة التي بلا فساد.]
خامسًا: أظهر رعايته الفائقة لشعبه، لكنها ليست إلزامية إذ يقدس حريتنا. لنا أن نقبلها ونتجاوب معها، ولنا أن نرفضها، إذ يقول:"يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا.هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا، والحق أقول لكم أنكم لا تروني حتى يأتي وقت تقولون فيه: مبارك الآتي باسم الرب" [34-35].
+ إنه ليس فقط لا يتجاوزنا، وإنما لا يريد أن يتركنا ما لم نرد نحن ذلك لقد أظهر أننا نحن الذين نبدأ بهجره، فصرنا علَّة هلاكنا، أما الله فلا يريد أن يتركنا ولا حتى أن يعاقبنا، وإن عاقبنا إنما يفعل ذلك كمن هو مُلزم، إذ يقول: لا أشاء موت الخاطئ مثل أن يرجع ويحيا (حز 18: 32 الترجمة السبعينية).إلهنا القدوس يجعلنا أهلًا أن نستعد بقلوبنا للدخول معه أورشليم السمائية صارخين:مبارك الآتي باسم الرب ولإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلي الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
20 أبريل 2021
مفهوم الصوم
مفهوم الصوم الصحيح:
يختلف الكثيرين في فهم الصوم..
فالبعض يركز على الممارسات الجسدية من ناحية الامتناع عن الطعام (الانقطاع).
والبعض يركز على الامتناع عن بعض الأطعمة (الصوم النباتي).
والبعض الآخر يركز على الممارسات الروحية فقط.
ولكن أفضلهم مَنْ يدمج كل هذه مع بعضها، ويفهم ويعي مفهوم الصوم بفهمه الصحيح.. فهيا بنا ندخل إلى العمق، لنرى ما هو مفهوم الصوم الصحيح.
الصوم هو العودة إلى حياة الفردوس الأولى
فعندما خلق الله آدم وحواء ووضعهما في الفردوس، كان طعامهما من الأطعمة النباتية، قائلًا لهم: "مِنْ جميعِ شَجَرِ الجَنَّةِ تأكُلُ أكلًا، وأمّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّر فلا تأكُلْ مِنها، لأنَّكَ يومَ تأكُلُ مِنها موتًا تموتُ" (تك2: 16-17).. ولم يوصهم أن يذبحوا حيوانات ويأكلوا لحومها.وعاش آدم وحواء حسب هذه الوصية حتى أخطأوا، ووقعوا في معصية الله ومخالفة وصيته، وطُردوا من الجنة، وعاشوا هم ونسلهم على نفس هذه الأطعمة حتى فساد الأرض كلها، وإتيان الله بالطوفان على العالم في عهد نوح. بعد فناء البشرية الأولى الفاسدة وخروج نوح من الفلك، بدأ الله بالسماح له بأكل اللحوم.. "ولتَكُنْ خَشيَتُكُمْ ورَهبَتُكُمْ علَى كُل حَيَواناتِ الأرضِ وكُل طُيورِ السماءِ، مع كُل ما يَدِبُّ علَى الأرضِ، وكُل أسماكِ البحرِ. قد دُفِعَتْ إلَى أيديكُمْ. كُلُّ دابَّةٍ حَيَّةٍ تكونُ لكُمْ طَعامًا. كالعُشبِ الأخضَرِ دَفَعتُ إلَيكُمُ الجميعَ. غَيرَ أنَّ لَحمًا بحَياتِهِ، دَمِهِ، لا تأكُلوهُ" (تك9: 2-4) الإنسان الأول كان مخلوقًا نباتيًا، وحتى الحيوانات التي يطلق عليها الآن حيوانات مفترسة كانت تأكل العشب الأخضر والنباتات.. بدليل أنها عندما دخلت الفلك مع نوح كانت تأكل من نفس الأكل الذي كان يأكله نوح وبنوه.. "وأنتَ، فخُذْ لنَفسِكَ مِنْ كُل طَعامٍ يؤكلُ واجمَعهُ عِندَكَ، فيكونَ لكَ ولها طَعامًا" (تك6: 21) فبممارسة الصوم نكون قد رجعنا إلى صورتنا الأولى التي خُلقنا عليها، وهي الصورة النباتية.. نأكل نفس الأكل الذي كنا نأكله في الفردوس.. وبتهيئتنا لأجسادنا في فترات الصوم وأكلنا أكلًا نباتيًا نقترب من الفردوس الذي طردنا منه بسبب الأكل ومخالفة وصية الله.
تعالوا بنا نرى ما يقوله مار اسحق لنا عن هذه النقطة:
"إن أول قضية وُضعت على طبيعتنا في البدء كانت ضد تذوق الطعام.. ومن هذه النقطة سقط أول جنسنا، لذلك فإن أولئك الذين يجاهدون من أجل خوف الله يجب أن يبدأوا البناء من حيث كانت أول ضربة. مُخلِّصنا الصالح حينما أظهر نفسه للعالم عند الأردن ابتدأ من هذه النقطة.. فحينما اعتمد قاده الروح إلى البرية مباشرة، وصام أربعين يومًا وأربعين ليلة، وكل الذين يريدون أن يتبعوا خطواته عليهم أن يضعوا أساس جهادهم على مثال عمله".
مفهوم الكنيسة عن الصوم:
الصوم هو حرمان عن بعض الأطعمة،
يتدرج حتى يصبح زهدًا اختياريًا.
وهذا ما تعلمه لنا الكنيسة.. وهو أن في بداية ممارسة أي "ممارسة روحية" تبدأ بما نُسميه (التغصب). ففي بداية ممارستنا للصوم يجب أن نحرم الجسد مما يتلذذ به، أو يرغب فيه، أو ما يفضله عن غيره.. ثم بعد ذلك يتدرج هذا الحرمان مع كل واحد منا إلى أن يصبح الإنسان ممتنعًا عن هذه الأطعمة رغبة ومحبة في الصوم، وأيضًا لأنه يصبح زاهدًا فيها بكامل إرادته.
الصوم ليس إضعافًا للجسد..
بل قمعًا وإذلالًا لإنعاش الروح.
فنحن نصوم ليس لكي نضعف الجسد ونهينه، أو نصل به إلى حالة لا يقوى على ممارسة الحياة، ويصبح الإنسان طريح الفراش بسبب ضعفه الجسدي بكثرة الصوم والإفراط فيه بدون إفراز وحكمة.. ولكن الصوم المصحوب بإرشاد أب الاعتراف يعتبر قمعًا لثورات الجسد، كما يقوم رجال الأمن بقمع أي ثورات ضد النظام أو السلام أو الأمن أو غيره.. هكذا الصوم يقمع تمرد الجسد على الروح.. فإذا لم نقمع هذه الثورة يتغلب الجسد على الروح وتضعف الروح،وهذا ما يجعلنا نضع الصوم من أهم الممارسات التي تنعش وتقوي الروح.
الصوم ليس فرضًا موضوعًا علينا..
لكننا نمارسه لشعورنا باحتياج إليه،
من أجل شقاوتنا وجسدنا المشاغب.
تعلمنا كنيستنا الأرثوذكسية أن لا يوجد أي فرض في ممارسة روحية..
فالصلاة نمارسها عن محبة لإلهنا الخالق الذي يسمع لنا ويرعانا، ويهيئ كل شيء لخلاصنا.. فـ"نَحنُ نُحِبُّهُ لأنَّهُ هو أحَبَّنا أوَّلًا" (1يو4: 19).
الميطانيات metanoia نعملها لكي تهيئ ذهننا للتوبة (ميطانيا = تغيير الحالة metanoia)، ونمارسها عن حب ورغبة في تقديم الجسد لله ساجدًا خاشعًا طالبًا رحمة الله لنا.
كذلك الصوم نمارسه في حب الله.. رغبة منا أن نرجع إلى طبيعتنا الأولى التي خلقنا عليها في الفردوس، وأيضًا لكي يخضع الجسد للروح، وتنشط وتقوى الروح على الجسد، وذلك حسب قانوننا الروحي.
فنحن نشعر باحتياجنا لهذا الصوم، لذلك نصوم حبًا في الصوم وليس لأنه فرض.. فنحن في المسيحية لا يوجد عندنا فروضًا موضوعة علينا يجب أن نمارسها حتى عن عدم اقتناع لكي نعبِّر عن عبادتنا.
نحن نصوم لأننا نحتاج إلى الصوم، لكي نلجم الجسد الجامح، لكي ينقذنا الله من جسد الخطية.. "لأني لستُ أفعَلُ الصّالِحَ الذي أُريدُهُ، بل الشَّرَّ الذي لستُ أُريدُهُ فإيّاهُ أفعَلُ. فإنْ كُنتُ ما لستُ أُريدُهُ إيّاهُ أفعَلُ، فلستُ بَعدُ أفعَلُهُ أنا، بل الخَطيَّةُ السّاكِنَةُ فيَّ. إذًا أجِدُ النّاموسَ لي حينَما أُريدُ أنْ أفعَلَ الحُسنَى أنَّ الشَّرَّ حاضِرٌ عِندي. فإني أُسَرُّ بناموسِ اللهِ بحَسَبِ الإنسانِ الباطِنِ. ولكني أرَى ناموسًا آخَرَ في أعضائي يُحارِبُ ناموسَ ذِهني، ويَسبيني إلَى ناموسِ الخَطيَّةِ الكائنِ في أعضائي. ويحي أنا الإنسانُ الشَّقيُّ! مَنْ يُنقِذُني مِنْ جَسَدِ هذا الموتِ؟" (رو7: 19-24).
الصوم لم يرتب للتكفير عن الذنوب والخطايا،
لكن لإعداد النفس لاقتبال الله..
إذ لا يوجد عمل ما يكفر عن الخطايا..
سوى دم السيد المسيح المسفوك على عود الصليب.
فإيماننا المسيحي يعلمنا أنه لا توجد ممارسات تستطيع أن تكفر عن الخطية.. فالشيء الوحيد الذي يكفر عن خطايانا هو دم السيد المسيح.. ففكرة الكفارة تتم بالدم وليست بالممارسات.
لذلك فالصوم دوره الأساسي هو ضبط شهوات الجسد، وفيه أيضًا يتم ضبط الفكر والحواس.. وحينما يضعف الجسد من الصوم، ويتذلل أمام الله تقوى الروح وتنشط.. وهذا هو الهدف المرجو من الصوم.
والقديس باسيليوس الكبير يقول: "لقد نُفينا من الفردوس الأرضي لأننا لم نصم. فيجب أن نصوم لنرجع إلى الفردوس السمائي، لأن الصوم يرد إلينا الخسائر المسببة عن عدم صوم آدم، ويصالحنا مع الله".
ونحن نصوم لأن كثرة المأكولات تحرك الشهوات.. وهذا ما نلاحظه على مَنْ يأكلون كثيرًا وتقوى أجسادهم بطريقة غير مألوفة، نجد عندهم استعدادًا كبيرًا جدًا للغضب، فهو لا يمتلك نفسه ولا أعصابه، كذلك أيضًا للقتل معتمدًا على قواه الجسدية.. بل الأكثر من ذلك عندما يقوى الجسد أكثر من اللازم يصبح الإنسان له ميول جسدية ورغبة في ممارسة خطية الزنا.هذه الخطايا يقع فيها البعض الشرهين في تناول الأطعمة بحاجة وبدون حاجة.. لذلك نقول إن القصد من الصوم هو إذلال الجسد وإخضاعه فضلًا عن الحد من تغذيته.فالقديس يوحنا كسيان يقول: "حينما تمتلئ المعدة بكل أنواع الطعام فذلك يولد بذور الفسق، والعقل حينما يُخنق بثقل الطعام لا يقدر على توجيه الأفكار والسيطرة عليها. فليس السكر من الخمر هو الذي يذهب العقل، لكن الإسراف في كل أنواع المآكل يضعفه، ويجعله مترددًا، ويسلبه كل قوته في التأمل النقي. فإن كانت زيادة الخبز وحده أدت إلى مثل هذا السقوط السريع في الخطية عن طريق رذيلة الشبع.. فماذا نقول عن أولئك الذين لهم أجسام قوية ويأكلون اللحم ويشربون الخمر بإفراط، غير مكتفين بما تتطلبه أجسادهم.. بل ما تمليه عليهم رغبة العقل الملحة".
لذلك نجد جميع الآباء القديسين حذروا من كثرة المأكولات والنهم فيها.. ومن امتلاء المعدة.. هذه العادة الغير مرغوبة قد تسيطر على البعض فيتعود الإنسان أن يأكل فوق ما يحتاج.. فيصبح الأكل عنده غاية.
يذكر عن بعض الشعوب اليونانية في إحدى العصور أنه سيطر عليهم حب الأكل والتلذذ به طوال الوقت.. فيذكر عنهم أنهم يأكلون كثيرًا طالما جالسين أمام الطعام، ثم يقومون ويذهبوا إلى W.C لكي يتقيئوا لكي يعودوا للأكل مرة أخرى.. فأصبح الأكل عندهم ليس لسد حاجات الجسد، ولكنه شهوة سيطرت على الإنسان.. فيظل الإنسان يأكل بدون ضابط مثل الحيوانات.توجد علاقة طردية بين كثرة الأكل وأفكار الدنس والإدانة ... كلما أكثر الإنسان من تناول الطعام والشراب كثرت هذه الأفكار، وتوالت عليه حروب الشيطان.. وخاصة حروب الفكر.. ويقع الإنسان فريسة سهلة للشيطان، وذلك بسبب امتلاء البطن من الأطعمة لذلك مع كثرة الأطعمة وامتلاء البطن يظلم العقل ويصبح كالسماء المليئة بالسحب والغيوم.. فالإسراف في الأكل والشرب يأتي بالضرر الروحي والجسدي على الإنسان.. ويصبح الإنسان في حالة استرخاء وخمول مما يجعله ضحية للشيطان وأيضًا للأمراض الجسدية.إلهنا الصالح الذي قدّس الصوم بصومه أربعين يومًا قادرًا أن يقدس صومنا، ويجعله صومًا روحانيًا نسعى فيه لبناء الروح، ولضبط شهوات الجسد والفكر والحواس لكي تتقدس حواسنا وأرواحنا وتتنقى أفكارنا.ولإلهنا كل المجد والإكرام في كنيسته المقدسة من الآن وإلى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
18 أبريل 2021
أحد المولود أعمى الأحد السادس من الصوم الكبير إنارة المعمودية
ارتباط قراءات الفصول:
إنارة المعمودية
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "إنارة المعمودية" أي استنارة بصيرة الذين ينالون سر المعمودية، ففي إنجيل العشية يحثهم المخلص على الدخول من الباب الضيق أي على احتمال ضيقات الحياة المقدسة كما أوصى بذلك الرجل الذي سأله قائلا "أقليل هم الذين يخلصون"، وفي إنجيل باكر يحذرهم من الرياء كما حذر تلاميذه والجموع من التشبه برياء الكتبة والفريسيين، ويعدهم في إنجيل القداس بإنارة بصيرتهم المرموز إليها برد البصر للمولود أعمى، وفي إنجيل المساء يتحنن عليهم كما تحنن على أعمى بيت صيدا ورد إليه البصر.ويوصيهم الرسول في البولس بوجوب التجدد روحيًا على أثر نيل المعمودية كما أوصى بخلع الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد ؛ ويعدهم يوحنا في الكاثوليكون باستجابة الله لصلواتهم التي يرفعونها عن أنفسهم وعن غيرهم، أما الإبركسيس فيتحدث عن تعزية الله لهم في الضيقات كما أكد بولس لرفاقه في السفينة التي تعرضت لخطر العاصفة أن شعرة واحدة من رءوسهم لا تسقط
مزمور العشية:
بلسان المعتمدين الذين تعهدوا لدى معموديتهم أن يسيروا بالاستقامة، وهم الذين يوصيهم المخلص في فصل الإنجيل أن يدخلوا من الباب الضيق، بلسانهم يعترف هذا المزمور إلى الله بتجاربه التي حلت بهم لامتحان نقائهم، وهي المقصودة بعبارة " الباب الضيق "، ثم يتضرع إليه أن يثبتهم في حقه إذا تعرضوا لمثلها فيقول "جربت قلبي وتعهدتني ليلًا. ومحصتني بالنار فلم تجد في ظلمًا. ثبت خطواتي في سبلك. فلم تزل قدماي".
إنجيل العشية: (لو 13: 22 – 35)
يتكلم هذا الفصل عن حث المخلص للمعتمدين على الدخول من الباب الضيق أي على احتمال ضيقات الحياة المقدسة لكي يخلصوا، ودليل ذلك رده على الرجل الذي سأله قائلًا أقليل هم الذين يخلصون بقوله له"اجتهدوا أن تدخلوا من الباب الضيق".
إنجيل باكر: (مت 23: 1 – 39)
يتكلم هذا الفصل عن تحذير المخلص للمعتمدين من الرياء ودليل ذلك قوله لهم عن الكتبة والفريسيين " فكل ما قالوا لكم أن تحفظوه فاحفظوه وافعلوه. ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا لأنهم يقولون ولا يفعلون".
مزمور القداس: (مز40: 1)
بلسان الرجل المولود أعمى الوارد ذكره في فصل الإنجيل، والذي هو كناية عن غير المؤمن الذي لم يتقدم بعد إلى المعمودية، وقال عن نفسه في المزمور "فنيت روحي"، بلسانه يتضرع هذا المزمور إلى الله ألا يحجب وجهه عنه أي أن ينير بصيرته، وهذا كناية عن طلب استنارة المعمودية، وأن يستمع إلى طلبته فيقول " استجب لي يا رب عاجلًا فقد فنيت روحي. لا تحجب وجهك عنى. يا رب استمع صلاتي. أنصت بحقك إلى طلبتي".
إنجيل القداس: (يو 9: 1-41)
يتكلم هذا الفصل عن إنارة المخلص لبصائر المعتمدين، ودليل ذلك قوله للمولود أعمى الذي آمن به بعد أن استرد بصره على يديه " لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون ".
البولس:(كو3: 5-17)
تجدد المعتمدين: في هذا الفصل يناشد الرسول المعتمدين أن يميتوا أعضائهم التي على الأرض حيث قد خلعوا الإنسان العتيق مع أعماله ولبسوا الجديد الذي يتجدد للمعرفة. ويوصيهم قائلًا "فألبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفًا وتواضعًا.. وعلى جميع هذه ألبسوا المحبة..وكل ما عملتم بقول أو فعل فاعملوا الكل باسم الرب يسوع شاكرين الله والآب به".
الكاثوليكون:(1يو5: 13-21)
استجابة الله لصلواتهم: وهنا يبين الرسول لهم أنه بمقتضى الثقة التي لنا عند الله "إن طلبنا شيئًا حسب مشيئته يسمع لنا"، وأن صلواتنا عن أنفسنا وعن الغير تستجاب وذلك بقوله "إن رأى أحد أخاه يخطئ خطية ليست للموت يطلب فيعطيه حياة للذين يخطئون ليس للموت ".
الأبركسيس: (أع27: 27-37)
تعزيتهم في الضيق: أما هذا الفصل فيصف الخطر الذي تعرض له بولس ورفاقه وهم في السفينة حين ثارت عليها العاصفة مدة أربع عشرة ليلة، ثم يذكر أن بولس طلب إليهم وقد مضت عليهم هذه المدة صائمين أن يتناولوا طعامًا، وأنه قال "لأن هذا يكون مفيدًا لنجاتكم لأنه لا تسقط شعرة من رأس واحد منكم"، وقد ابتهج الجميع بهذه التعزية وأكلوا.
إنجيل القداس [يوحنا 9: 1 – 41]
وفيما هو مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ ولادته فسأله تلاميذه قائلين يا معلم من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى أجاب يسوع لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه ينبغي أن اعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار يأتي ليل حين لا يستطيع احد أن يعمل ما دمت في العالم فانا نور العالم قال هذا وتفل على الأرض وصنع من التفل طينًا وطلى بالطين عيني الأعمى وقال له اذهب اغتسل في بركة سلوام الذي تفسيره مرسل فمضى واغتسل واتى بصيرًا فالجيران والذين كانوا يرونه قبلًا انه كان أعمى قالوا أليس هذا هو الذي كان يجلس ويستعطي آخرون قالوا هذا هو وآخرون انه يشبهه وأما هو فقال إني أنا هو فقالوا له كيف انفتحت عيناك أجاب ذاك وقال إنسان يقال له يسوع صنع طينًا وطلى عيني وقال لي اذهب إلى بركة سلوام واغتسل فمضيت واغتسلت فأبصرت فقالوا له أين ذاك قال لا أعلم فأتوا إلى الفريسيين بالذي كان قبلًا أعمى وكان سبت حين صنع يسوع الطين وفتح عينيه فسأله الفريسيون أيضًا كيف أبصر فقال لهم وضع طينًا على عيني واغتسلت فأنا أبصر فقال قوم من الفريسيين هذا الإنسان ليس من الله لأنه لا يحفظ السبت آخرون قالوا كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه الآيات وكان بينهم انشقاق قالوا أيضًا للأعمى ماذا تقول أنت عنه من حيث انه فتح عينيك فقال إنه نبي فلم يصدق اليهود عنه انه كان أعمى فأبصر حتى دعوا أبوي الذي أبصر فسألوهما قائلين أهذا ابنكما الذي تقولان انه ولد أعمى فكيف يبصر الآن أجابهم أبواه وقالا نعلم أن هذا ابننا وانه ولد أعمى وأما كيف يبصر الآن فلا نعلم أو من فتح عينيه فلا نعلم هو كامل السن أسالوه فهو يتكلم عن نفسه قال أبواه هذا لأنهما كانا يخافان من اليهود لأن اليهود كانوا قد تعاهدوا أنه أن اعترف احد بأنه المسيح يخرج من المجمع لذلك قال أبواه انه كامل السن اسألوه فدعوا ثانية الإنسان الذي كان أعمى وقالوا له أعط مجدا لله نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ فأجاب ذاك وقال أخاطئ هو لست اعلم إنما أعلم شيئًا واحدًا أني كنت أعمى والآن أُبصر فقالوا له أيضًا ماذا صنع بك كيف فتح عينيك أجابهم قد قلت لكم ولم تسمعوا لماذا تريدون أن تسمعوا أيضًا ألعلكم انتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ فشتموه وقالوا أنت تلميذ ذاك وأما نحن فإننا تلاميذ موسى نحن نعلم أن موسى كلمه الله وأما هذا فما نعلم من أين هو أجاب الرجل وقال لهم أن في هذا عجبًا أنكم لستم تعلمون من أين هو وقد فتح عيني ونعلم أن الله لا يسمع للخطاة ولكن أن كان احد يتقي الله ويفعل مشيئته فلهذا يسمع منذ الدهر لم يسمع أن أحدًا فتح عيني مولود أعمى لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا أجابوا وقالوا له في الخطايا ولدت أنت بجملتك وأنت تعلمنا فأخرجوه خارجًا فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجًا فوجده وقال له أتؤمن بابن الله أجاب ذاك وقال من هو يا سيد لأؤمن به فقال له يسوع قد رايته والذي يتكلم معك هو هو فقال أومن يا سيد وسجد له فقال يسوع لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون ويعمى الذين يبصرون فسمع هذا الذين كانوا معه من الفريسيين وقالوا له ألعلنا نحن أيضًا عميان قال لهم يسوع لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطية ولكن الآن تقولون إننا نبصر فخطيتكم باقية
إن شفاء المولود أعمى يعلن عن شخص السيد أنه جاء يفتح البصيرة الداخلية، لكي يتعرف المؤمنون على أسرار الله. وفي نفس الوقت يفضح عمى القيادات المرائية المتعجرفة التي لم تستطع أن تكتشف عماها الروحي وخطاياها!
ومع أهمية هذه الآية الفريدة من جهة خلق عيني مولود أعمى إلاَّ أن الإنجيلي لم يذكر لنا اسم الأعمى، ولا أورد تفاصيل كثيرة عنها إنما قدم الحوارات المتبادلة بخصوص هذه الآية، خاصة أحاديث السيد المسيح مع التلاميذ ومع الأعمى نفسه كما مع الفريسيين. فإن ما يشغل ذهن الإنجيلي ليس إبراز ما في الآية من عملٍ معجزي فائق، وإنما في تمتع البشرية بعمل المسيح الإلهي في حياتهم وأفكارهم.لقد استخدم التراب في خلقة العينين ليؤكد أنه الخالق المخلص، أما طلبته من الأعمى أن يغتسل في بركة سلوام ليؤكد الحاجة إلى مياه المعمودية لننعم باستنارة الروح القدس خلال الميلاد الجديد. لقد طرد اليهود المتمتع بالاستنارة ليجد له موضعًا لدى السيد المسيح، مسيح المطرودين والمرذولين.إن كان البعض من الشعب قد أدرك عماه وأيضًا كثير من الأمم فإن هذين الفريقين أفضل من الفريسيين الذين مع عماهم ادعوا أنهم مبصرون. بإدعائهم هذا صاروا في غباوة بلا رجاء، أما العشار والزانية فإذ اعترفا بعماهما انفتح أمامهما باب الرجاء ليتمتعا ببصيرة فائقة وينعما بالحياة الأبدية في المسيح يسوع.خلال هذا العمل أمكن للبصيرة أن تتدرج في معرفة شخص ربنا يسوع:
+ إنسان يُدعى يسوع [11].
+ إنه نبي [17].
+ إنسان من عند اللَّه [33].
+ ابن الإنسان السماوي [35].
+ مستحق للسجود والعبادة بكونه الرب [38].
وفي هذا الفصل من الإنجيل نجد النقاط التالية:
* شفاء الأعمى
"وفيما هو مجتاز رأى إنسانًا أعمى منذ ولادته". [1]إن كان السيد المسيح قد اجتاز في وسط القيادات اليهودية واختفى منهم لأنهم حملوا حجارة لكي يرجموه (8: 59)، نراه يجتاز بجوار أعمى مسكين يستعطي، فيتطلع إليه لا كما يتطلع الآخرون إليه، إنما بروح الحب والترفق. إنها صورة حية للسيد المسيح الذي رفضه اليهود المعتزين بالهيكل، ليسير كما في الشوارع يطلب الأمم. إنهم عاجزون عن رؤيته لأنهم بلا نبوات ولا شريعة إلهية ولا رموز؛ إنهم أشبه بالمولود أعمى، مكانه الطريق، فقير يستعطي في حالة بؤس. وكما يقول أيوب البار: "لِمَ يعطي لشقي نور، وحياة لمُريّ النفس" (أي ٣: ٢٠).لم يذكر الإنجيلي أين كان مجتازًا ولا إلى أين يذهب، لكنه إذ كان مجتازًا كحامل للآلام رأى هذا المولود أعمى. وكان فقيرًا يستعطى، في مكانٍ معين، حيث يقدم له بعض المحسنين عطاءً لكي يعيش.
كان معروفًا في المدينة أنه مولود أعمى، ولم يسأله الشخص ولا من هم حوله، ولا حتى تلاميذ السيد من أجل تفتيح عينيه، ربما لأنه لم يتوقع أحد حدوث ذلك.تطلع إليه ربنا يسوع لكي يجده الأعمى المسكين، وكما جاء في إشعياء: "أصغيت إلى الذين لم يسألوا، وُجدت من الذين لم يطلبونني. قلت هأنذا لأمة لم تُسمى باسمي" (إش ٦٥: ١). بادر بالحب، فأحبنا قبل أن نعرفه، وكما يقول الرسول: "عُرفتم من الله" (غلا 4: 9).
يا معلم، من أخطأ هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟" [2]خرج السيد المسيح من الهيكل (يو 8: 59)، وكان في رفقته تلاميذه الذين لم يتركوه في تجاربه، فتمتعوا بالتعرف عليه، ونالوا خبرات جديدة فائقة. لاحظوا أن عينيه تتطلعان إلى الأعمى المسكين، ولم تكن نظرات عادية، بل نظرات عمل مملوءة حبًا. فتحولت نظراتهم هم أيضًا إلى المولود الأعمى، وعوض السؤال من أجله لشفائه قدموا استفسارًا عن علة ميلاده أعمى.وهنا يقول القديس يوحنا ذهبي الفم إن قلت: من أين جاءوا بهذا السؤال؟ أجبتك: لما شفي السيد المسيح المفلوج قبلًا قال له: "ها أنت قد برئت فلا تخطئ أيضًا لئلا يكون لك أشر" (يو 5: 14). فهؤلاء إذ خطر ببالهم أن ذاك قد أصاب الفالج جسده لأجل خطاياه، إلا أن هذا القول لا ينبغي أن يُقال عن هذا الأعمى، لأن من مولده هو أعمى. فهل أخطأ والداه؟ ولا هذا القول يجوز أن يُقال، لأن الطفل لا يتكبد العقوبة من أجل أبويه.. لقد تحدث التلاميذ هنا لا ليسألوا عن معلومات قدر ما كانوا في حيرة.لقد اعتقد البعض أن نفس الإنسان قد تكون أخطأت قبل أن تلتحف بالجسد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. كما اعتقد العلامة أوريجينوس أن البعض يعانون آلامًا قبل أن يمارسوا خطأ بعد ولادتهم. ولعل البعض اعتمد على المنطق البشري لتبرير العدالة الإلهية، كيف يُولد أناس فقراء وآخرين أغنياء، أو يولد شخص حاد الذكاء وآخر ينقصه الذكاء، أو شخص قوي البنية وآخر مصاب بأمراض كثيرة. هذا وقد اعتمد البعض على تأكيد إمكانية ارتكاب الخطأ قبل الولادة مما قيل عن يعقوب وعيسو وهما في الرحم: "وتزاحم الولدان في بطنها" (تك ٢٥: ٢٢).وجاء في كتابات الربيين عما يحل بالأبناء بسبب أخطاء الوالدين. قال أحدهم في التزام الرجل ألا يحملق في امرأة: "من يتطلع إلى عقب امرأة سيولد له أطفال معوقين". وقال آخر أن هذا يحدث لمن يعاشر زوجته أثناء الطمث. وقال آخر أن من يمارس العلاقات الزوجية أثناء وجود دم (فترة الطمث) سيكون له أطفال يعانون من مرض الصرع. وقد وردت أقوال مشابهة كثيرة تبرز في اقتناع الربيين بأن أخطاء الوالدين يُعاقبون عليها بتشوهات خلقية في أبنائهم، يعاني منها الأبناء مدى الحياة.هذا يوضح أن ما قاله التلاميذ لم يكن من وحي خيالهم، بل كان تعليمًا راسخًا في أذهان الكثير من اليهود خلال تعاليم الربيين وكتاباتهم.
"أجاب يسوع: لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه". [3]عوض إدانة المولود أعمى أو والديه وجَّه السيد المسيح أنظار تلاميذه إلى عناية الله الفائقة وخطته الخفية، فقد سمح بالعمى لكن يهب هذا المولود أعمى البصيرة الروحية، ولكي يشهد للحق الإلهي أمام القيادات اليهودية العنيفة ويمجد الله.لم يقل السيد المسيح أن هذا الأعمى لم يخطئ، ولا أيضًا أبواه لم يخطئا، فكل البشرية تسقط في الخطية. لكن ما يعاني منه هذا الأعمى ليس بسبب خطية معينة ارتكبها هو أو والداه. ما يليق بالتلاميذ كما بالمؤمنين أن ينشغلوا بأعمال الله وخطته نحو كل إنسان ليتمتع بالبصيرة الداخلية، ويتعرف على أسرار الله، وينال شركة المجد الأبدي.يد الله عاملة على الدوام وسط الضيقات كما في الأفراح، تحت كل الظروف الله يريد خلاصنا. فالمؤمنون لم ينالوا وعدًا بألا تحل بهم ضيقات أو آلام كغيرهم من سائر البشر، إنما بالعكس يتعرضون لضيقات أكثر. لكن ما يعزيهم هو إدراكهم لخطة الله في كل شيء، وتمتعهم بالنعمة الإلهية التي لهم فيها كل الكفاية. هذا ما وعدنا به الله كما قيل لبولس الرسول: "تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل".لا يعرف المؤمن الشكوى وسط التجارب لأن عيناه مسمرتان على أبوة الله الحانية، وقلبه منفتح على إدراك خطة الله نحوه. لا يليق بالمؤمن وقد أدرك أسرار الله الفائقة أن يدين أحدًا أو يحسب ما يحل بالآخرين عقوبة إلهية لخطايا خفية، إذ يستخف بهم حتى وإن كانت خطاياهم ظاهرة. لقد سقط اليهود في ذلك فحسبوا البار، الذي بلا خطية، أنه يتألم ويُصلب عن شر أو تجديف ارتكبه. يقول المرتل: "لأن الذي ضربته أنت هم طردوه، وبوجع الذين جرحتهم يتحدثون".ويقول إشعياء النبي: "نحن حسبناه مُصابًا مضروبًا من الله ومذلولًا، وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه، وبحُبره شُفينا" (إش ٥٣: ٤-٥).
"ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني مادام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل". [4]كانت لحظات حاسمة حين تطلع رب المجد يسوع إلى المولود أعمى. إنها ليست لحظات لشفاء عيني المولود أعمى فحسب، وإنما للكشف عن شخص السيد المسيح أنه نور العالم واهب البصيرة الداخلية، ومع هذا لم يستطع أحد أن يكتشف ما وراء هذا العمى. لم يكن ممكنًا حتى تلك اللحظات لتلاميذ السيد المسيح أن يقرأوا ويفهموا كتاب العناية الإلهية، لكنه جاء الوقت فيما بعد لإدراك هذا السرّ الإلهي، وللتعرف علي العمل الإلهي الفائق.إنه لم يتقدم للعمل لإبراز قدرته على صنع عجائب، وإنما ليمارس أعمال أبيه الذي أرسله. لم يقل أمارس الأعمال التي أمرني بها أبي، وإنما يمارس ذات أعمال أبيه. ويلاحظ هنا الآتي:
أولًا: جاء إلى العالم لمهمة عمل، يحقق إرادة أبيه في طاعة كاملة كابن الإنسان، وهي ذات إرادة الابن. لهذا فمن يطيع، إنما يشارك مسيحنا طبيعة الطاعة.
ثانيًا: يمارس ذات عمل الآب، وهذا ما يؤكده السيد المسيح في إنجيل يوحنا في وحدة العمل الإلهي، كما سنرى في عبارات قادمة واضحة.
ثالثًا: بروح الحب للبشرية والطاعة والوحدة مع الآب يجد مسرة في تحقيق هذا العمل، بل والتزام محبة، إذ يقول: "ينبغي أن أعمل".
رابعًا: يعمل مادام نهار قبل أن يتحرك اليهود بالحقد والكراهية لقتل السيد المسيح. فترة خدمته هي فرص للعمل الظاهر حتى وإن كان الوقت سبتًا. هذه دعوة لنا للتحرك بالعمل، وانتهاز كل ساعات عمرنا لئلا ينتهي نهار عمرنا ولا نحقق رسالتنا. لقد وهبنا الله النهار للعمل (مز ١٠٤: ٢٢-٢٣)، لذا يليق بنا ألا نلهو في نهار عمرنا ولا نفسده، بل نجاهد في طاعة لله أبينا حتى متى حل المساء صار لراحتنا.
خامسًا: يدعونا نحن أيضًا أن نعمل به ومعه، وكما يقول الرسول: "العاملان مع الله" (1 كو 3: 9). ففي العمل معه راحة وكرامة ومجد، نشترك معه في العمل مادمنا في الحياة قبل أن يحل الليل.
هكذا إذ يوجه السيد المسيح حديثه إلى غير المؤمنين يحسب حياتهم هنا نهارًا إن قورنت بحياتهم في العالم المقبل. الآن وقت يمكن لهم أن يتمتعوا بنور شمس البرٍّ في أعماقهم بالإيمان الحي والتوبة الصادقة؛ أما في العالم العتيد فتحيط بهم الظلمة، حيث لا مجال للرجوع إلى المخلص وتقديم توبة. أما الرسول بولس فيوجه حديثه إلى المؤمنين حاسبًا حياتهم الماضية ليلًا حيث كانوا يسلكون في أعمال الظلمة، وقد حان وقت الرحيل إلى العالم المقبل حيث يتمتعون بنور المسيح الأبدي، الذي أمامه تحسب الحياة هنا أشبه بليلٍ دامس.
"مادمت في العالم فأنا نور العالم". [5]يعمل السيد المسيح مادام الوقت نهار، أي مادام يمكننا أن نتمتع بأعماله الخلاصية، لأنه إذ ينتهي النهار ويحل ليل القبر لا يمكن الانتفاع بعد بأعماله، حيث لا مجال لتوبتنا ورجوعنا إليه. في نهار حياتنا يشرق علينا بكونه "نور العالم"، شمس البرّ الذي ينير نفوسنا وأذهاننا وكل أعماقنا.سبق فأعلن أن عمله هو إشراق نوره على الجالسين في الظلمة (يو 8: 12)، فهو شمس البرّ واهب الاستنارة والشفاء خلال أشعة حبه أو تحت جناحيه. كرأس للكنيسة يحول مؤمنيه إلى "نورٍ للعالًم" ليس لهم إلاَّ أن يحترقوا بنار الحب الإلهي من أجل الآخرين.
"قال هذا وتفل على الأرض، وصنع من التفل طينًا، وطلى بالطين عيني الأعمى". [6]طريقة شفاء المولود أعمى فريدة، فمن المعروف أن الطين يفسد العين السليمة، فكيف يصنع من التفل طينًا ليطلي به عيني المولود أعمى؟ ولماذا لم ينتظر ليشفيه خفية حتى لا تهيج القيادات الدينية؟ وأيضًا لم ينتظر حتى يعبر السبت ليشفيه؟
أولًا: يؤكد السيد المسيح أنه يتمم عمله بحسب فكره الإلهي وليس حسب رغبتنا ووسائلنا البشرية.
ثانيًا: ما يشغله هو وهب الأعمى بصرًا لعينيه، وبصيرة لقلبه، دون اهتمام بمقاومة القيادات اليهودية له.
ثالثًا: لم ينتظر حتى يعبر السبت، لأن السبت هو يوم الراحة، فتستريح نفس المسيح بالعمل الإلهي واهب الاستنارة والراحة للغير.
رابعًا: يقدم نفسه مثلًا ألا نؤجل عمل الخير إلى الغد، بل ننتهز كل فرصة لنسرع إلى عمل الخير لئلا لا توجد هذه الفرصة في الغد.
خامسًا: صنع من التفل طينًا وطلى عينيه بيديه، ليؤكد أن سرّ القوة في المسيح نفسه، وفي عمل يديه. كل ما يصدر عن المسيح فيه قوة وحياة واستنارة، فإن يده قديرة.
"وقال له: اذهب اغتسل في بركة سلوام الذي تفسيره مرسل، فمضى واغتسل وأتى بصيرًا". [7]
سلوام: تدعى أيضًا شيلوه Siloo, Siloe, Shilooh، وهي عبارة عن ينبوع كان تحت حصون أورشليم نحو الشرق، ما بين المدينة وجدول مياه قدرون. يرى البعض أن سلوام هي بنفسها عين روجل الواردة في (يش 15: 7؛ 18: 6؛ 2 صم 17: 17؛ 1 مل 1: 9). كانت مياه هذا الينبوع تجمع في مخزن عظيم لاستخدام المدينة، وكان يصدر عنه مجرى ماء يغذي بركة بيت صيدا.كانت هذه البركة تستمد المياه من ينبوع صادر عن جبل صهيون، فكانت مياه الهيكل "نهر سواقيه تفرح مدينة الله مقدس مساكن العلي" (مز ٤٦: ٤). إنها مياه حية شافية (حز 47: 9)."الذي تفسيره مرسل"، إذ الاسم مشتق من العبرية Shalach وتعني "أرسل"، إما لأنهم كانوا يتطلعون إلى هذا الينبوع كعطية مرسلة من قبل الله لأجل استخدام مياهه في المدينة، أو لأن مياهها كانت تُرسل خلال قنوات أو أنابيب إلى جهات متباينة. يرى البعض أن الاسم يشير إلى نبوة يعقوب ليهوذا عن مجيء السيد المسيح من نسله: "حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع الأمم" (تك 49: 10)، فهي رمز للسيد المسيح المُرسل من قبل الآب لإنارة النفوس وشفائها.كان السيد المسيح يُدعى المُرسل، إذ هو رسول العهد (ملاخي ٣: ١)، ويكرر السيد في إنجيل يوحنا أن الآب قد أرسله. هكذا إذ يدعو الأعمى أن يذهب إلى بركة سلوام أو المرسل، إنما يدعو كل نفس تحتاج إلى الاستنارة أن تذهب إليه، إذ هو المُرسل الذي يطهر الإنسان من الخطية، ويشرق بنوره عليه، فيتمتع بالمعرفة السماوية، ولا تعود للظلمة موضع فيه. تمتع المولود أعمى بالبصر الذي لم يتمتع به قبلًا، وكأنه قد نال ميلادًا جديدًا يختلف عن مولده السابق. بركة سلوام كانت تشير إلى مياه المعمودية التي تهب مع التطهير وغفران الخطايا استنارة داخلية.كانت المياه تشير إلى العصر المسياني أو مملكة بيت داود: "لأن هذا الشعب رذل مياه شيلوه الجارية بسكوت.." (إش 8: 6).عاد الأعمى بصيرًا، يرى ما لا يُرى، مسبحًا بكل كيانه ذاك الذي وهبه الاستنارة. وكما قيل بإشعياء النبي: "صوت مراقبيك يرفعون صوتهم، يترنمون معًا لأنهم يبصرون عينًا لعين عند رجوع الرب إلى صهيون" (إش 82: 8).
+ غسل عينيه في تلك البركة التي تفسيرها "مرسل". إنه اعتمد في المسيح. لذلك إذ عمده بطريقة ما فيها استنارة، وعندما مسحه (بالطين) ربما جعله موعوظًا.يرى القديس أغسطينوس في صنع الطين بالتفل إشارة إلى أن الكلمة صار جسدًا.بعد هذا دارت حوارات عده نقتصر هنا بذكرها فقط لعدم الإطالة علي القارئ:
أ. حوار بين الجيران والأعمى
ب. حوار بين الفريسيين والأعمى
ج. حوار بين الفريسيين ووالدي الأعمى
د. حوار ثان بين الفريسيين والأعمى
ه. حوار بين المسيح والأعمى
"فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجًا، فوجده وقال له: أتؤمن بابن الله؟" [35]واضح أن السيد المسيح كان كمن يبحث عنه ليجده. وجده حين طرده الفريسيون، وحرموه من حقه كعضوٍ في شعب الله. وربما خشي والداه من إيوائه لئلا يكون مصيرهم كمصيره. وجده إله المطرودين والمرذولين وأب الأيتام وقاضي الأرامل، والمهتم بمن ليس لهم من يسأل عنه.قوله: "أتؤمن بابن الله؟" يعادل القول: "أتؤمن بالمسيا"، لأن هاتين السمتين لا تنفصلان (يو 1: 34، 49؛10: 36؛ مت 16: 16؛ مر 1: 1).يرى هنا القديس يوحنا ذهبي الفم أن السيد المسيح وقد رأى في الأعمى حبه للحق وشجاعته وهبه الشوق إليه قبل أن يعلن ذاته له. هكذا كل من يطلب الحق في جدية ولا يخشى الباطل يجتذبه الحق إليه بالحب ثم يعلن ذاته له فيقول.
+ الذين يعانون من الأمور المرعبة والشتائم بسبب الحق والاعتراف بالمسيح هؤلاء يكرمون على وجه الخصوص لقد أخرجه اليهود خارج الهيكل، ورب الهيكل وجده.لقد عُزل من الصحبة المهلكة، والتقى بينبوع الخلاص.أهانه الذين أهانوا المسيح، فكرمه رب الملائكة.هكذا هي مكافآت الحق.ونحن أيضًا إن تركنا ممتلكاتنا في هذا العالم نجد ثقة في العالم العتيد.إن صرنا هنا في ضيق نجد راحة في السماء، وإن شُتمنا من أجل الله نُكرم هنا وهناك.
"أجاب ذاك وقال: من هو يا سيد لأومن به". [36]واضح أنه لم يره من قبل، وإن كان قد سبق فسمع صوته عندما أمره بالذهاب إلى بركة سلوام ليغتسل. لقد اكتشف أنه هو الذي شفاه فآمن به.لم نسمع عن حوارٍ تم بين السيد المسيح والأعمى قبل شفائه، كما حدث مع مفلوج بيت حسدا. يبرر البعض ذلك بأن الأعمى لم يكن بعد قد رأى المسيح، وربما بسبب فقره الشديد وانشغاله بالاستعطاء لم يتحدث معه أحد عن السيد المسيح وأعماله الفائقة. لهذا لم يقل له السيد: "أتريد أن تبرأ؟" كما قال للمفلوج. حينما حُرم الأعمى من الصداقات البشرية وعانى من الشعور بالنقص كما بالشعور بالعزلة، جاءه السيد المسيح يشبع احتياجاته، ويملأ أعماقه بالحب الإلهي.
"فقال له يسوع: قد رأيته، والذي يتكلم معك هو هو". [37]لا يحتاج أن يذهب الإنسان بعيدًا ليلتقي معه، فإنه قريب جدًا. وكما يقول الرسول بولس: "لا تقل في قلبك من يصعد إلى السماء، أي ليحدر المسيح، أو من يهبط إلى الهاوية، أي ليصعد المسيح من الأموات، لكن ماذا يقول: الكلمة قريبة منك" (رو ١٠: ٦-7).فتح السيد المسيح عينيه لكي ينظر إليه الأعمى ويراه. إن كان تفتيح العينين قد أبهجا هذا الأعمى، فإن رؤيته لابن الله أعظم جدًا من تمتعه بالعينين الجسديتين. رؤيته لابن الله أبهجت قلبه أكثر من كل أنوار العالم. وها نحن بالإيمان نتمتع بالبصيرة الداخلية، فننعم برؤية السيد المسيح، وندرك سرّه كابن الله الوحيد الجنس. حقًا يستطيع أن يترنم مع المرتل قائلًا: "بنورك يا رب نعاين النور".
"فقال أومن يا سيد وسجد له". [38]بقوله "أؤمن" عني "أؤمن أنك المسيا"، مقدمًا دليلًا على صدق إيمانه، أنه سقط وسجد أمامه. لم يره من قبل، ووجد مقاومة شديدة ضده من السلطات الدينية، لكنه إذ اختبر بنفسه تفتيح عينيه آمن بلاهوته وسجد له، ممجدًا إياه كمخلصٍ له. لقد انفتحت بصيرته الداخلية، وتعرف على أسرارٍ إلهية لم يكن ممكنًا لأعضاء مجمع السنهدرين أن يدركوها ويؤمنوا بها.آمن الأعمى واعترف بالسيد المسيح، ولم يكن محتاجًا إلى حوارٍ، إذ تمتع بعمله الإلهي العجيب وبالبصيرة الروحية. ًآمن بقلبه واعترف بلسانه أمام الرب والناس، حتى أمام المقاومين. هكذا صارت القصبة المرضوضة شجرة مغروسة على مجاري الروح مملوءة ثمرًا."سجد له"، إذ لم يقدم له تكريمًا كما لإنسان ليعبر عن شكره له، لكنه قدم له سجودًا لائقًا بالعبادة لله. هكذا عبَّر عن إيمانه بالشهادة العلنية دون خوف، والعبادة لله بروح التواضع. لم يروِ لنا الإنجيلي يوحنا لنا شيئًا عن هذا الأعمى بعد هذا السجود، إنما ما هو واضح من قول السيد أنه صار مبصرًا، يتبع النور ويحيا فيه.سجد الأعمى أمام السيد المسيح، غالبًا في حضرة الفريسيين؛ عندئذ قدم السيد المسيح أمامهم تعليقًا عما تثمره خدمته الإلهية في هذا العالم. ويظن البعض أن هذا الحديث جاء في لقاء آخر مع الفريسيين ليس بعد سجود الأعمى مباشرة.جاء إلى العالم كمخلصٍ وليس كديانٍ، لكن إذ يرفض الأشرار غير المؤمنين عمله يسقطون تحت الدينونة. خدمته الإلهية أقامت من البشرية فريقين: فريق يعترف بعماه فيؤمن ويقبل النور، وآخر يظن أنه مبصر فيرفض الإيمان ويبقى في ظلمته، وتصير أعمال المسيح دينونة عليهم. هكذا ينقسم العالم إلى مؤمنين وغير مؤمنين، وهذا هو الخط الواضح في أكثر أحاديث السيد المسيح في هذا السفر. صارت أعمال المسيح الخلاصية أو إنجيله حياة لحياة، ويحمل رائحة موت لموت. أشرق على الأمم نور عظيم يهبها حياة وأطلقها من الأسر (إش ٦١: ١)، وأصيب إسرائيل في كبريائه بالعمى فألقي بنفسه في دائرة الموت.فليعطنا الرب بصيرة روحيه لنراه بعيون قلبنا ونمشي ورائه مقتفيين أثار رجليه لندخل معه ونتمتع بملكوته الأبدي ونكون معه كل حين، ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
16 أبريل 2021
الجمعة السادسة من الصوم الكبير: قيامة المعمودية
ارتباط قراءات الفصول:
قيامة المعمودية
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "قيامة المعمودية" أي إقامتها للمعتمد من موت الخطية، على مثال تغطيس الطفل في جرن المعمودية وانتشاله منه، لأن المعمودية رمز لسر موت المسيح وسر قيامته، بدليل قول بولس الرسول "فدفنا معه بالمعمودية للموت" (رو 6: 3)، وبهذه المعمودية يولد المعتمد ولادة جديدة إذ تمحى عنه الخطية الجدية فضلًا عن خطاياه السابقة، ولهذا قال السيد "إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله".
فالنبوة الأولى تتكلم عن إقامة الله للمعتمدين كما افتدى إسحق بالكبش، لأن ذبحه كان رمزًا لموت المخلص، إذ قد ذبح بالنية وعاد حيًا كما مات المسيح وقام. وبما أن المعمودية مثال لسر موت المسيح وسر قيامته، فكأن ذبح إسحق هنا كناية عن المعمودية التي فيها يدفن الطفل وينتشل مطهرًا من الخطية. وتتكلم النبوة الثانية عن خلاصه لهم وهو الخلاص المترتب على المعمودية كقول إشعياء إن إسرائيل خلص بالرب خلاصًا أبديًا؛ والثالثة عن تحذيره لهم بعد المعمودية من الخطية كما حذر الحكيم في أمثاله من المرأة الجاهلة التي تغرى عابري الطريق وقوله إن من كان غرا مال إليها ؛ والرابعة عن حثهم على تعظيم أعماله كما يوصى أيوب بضرورة تعظيم هذه الأعمال ؛ والخامسة عن مخافتهم له كما أوصى بذلك أليهو بعد أن حدث أيوب عن قوة الله التي لا تدرك ؛ والسادسة عن نجاته لهم كما نجا طوبيا من الموت.ويتكلم إنجيل باكر عن تبرير المخلص للمعتمدين كما قال إن من يؤمن به لا يدان، وإنجيل القداس عن حثهم على المعمودية كما قرر أن من لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله.ويحذرهم الرسول في البولس من السقوط ثانية في الخطية بعد المعمودية إذ يخاطبهم قائلًا "من ظن أنه قائم فليحذر أن يسقط"، ويوصيهم يوحنا في الكاثوليكون بعدم محبة العالم إذ يقول "لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم"، أما الإبركسيس فيتكلم عن حلول الروح القدس عليهم بعد المعمودية كما وضع بطرس ويوحنا الأيادي على أهل السامرة الذين آمنوا فنالوا الروح القدس.
من النبوات: (تكوين 22: 1 – 18)
تكوين – الأصحاح الثاني والعشرون
ذبح إسحق
إن كان نجم إبراهيم أب الآباء قد تلألأ في سماء الروح إنما من أجل إيمانه الذي رفعه فوق الأحداث، فكانت العطايا تزيده شكرًا لله دون تعلق بها، والضيقات تزكيه أمام الكل.. لقد عاش سنوات غربته سلسلة من النصرات غير المتقطعة. الآن إذ فرح مع امرأته سارة من أجل إسحق ابن الموعد اللذين قبلاه في شيخوختهما عطية إلهية فائقة، فقد طلبه الرب منه ذبيحة حب. وبقدر ما قست التجربة جدًا تمجد إبراهيم وإسحق ابنه، فصارا يمثلان صورة حية لعمل الله الخلاصي خلال ذبيحة الصليب وإعلان قيامة المسيا.
(1) امتحان الله لإبراهيم
إن كانت الكنيسة تعتز بيوم " الخميس الكبير " أو " خميس العهد " الذي فيه تذكر تقديم السيد المسيح ذبيحة العهد الجديد لتلاميذه قائمة على الصليب، لم تجد الكنيسة صورة أوضح من تقدمة إبراهيم إسحق ابنه محرقة للرب كصورة حية لعمل الصليب، حيث يقدم الآب ابنه فدية عن خلاص العالم، لهذا جاءت "قسمة قداس خميس العهد" منصبة على ذبح إسحق، وستبقى الأجيال كلها ترى في هذا العمل الإيماني مثلا حيًا وفائقا يكشف عن ذبيحة السيد المسيح.يقول الكتاب: "وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له: يا إبراهيم، فقال: هأنذا. فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك " (ع 1، 2).سمح الله لإبراهيم بالتجربة لكي يزكيه أمام الكل ويعلن إيمانه القوى الخفي، فيكون مثلًا حيًا للآخرين.بالروح عرف الرسول بولس عاطفة إبراهيم وأفكاره،معلنًا إياها بقوله: " بالإيمان قدم إبراهيم إسحق وهو مجرب، قدم الذي قبل المواعيد وحيده، الذي قيل له بإسحق يدعى لك نسل، إذ حسب أن الله قادر على الإقامة من الأموات " (عب 11: 17). لقد سلمنا الرسول أفكار هذا الرجل المؤمن، إذ كانت أفكاره هكذا من جهة إسحق، وهذه هي أول مرة يظهر فيها الإيمان بالقيامة، فقد ترجى إبراهيم قيامة إسحق – هكذا كشفت التجربة عن قلب إبراهيم أب الآباء كإنسان يؤمن بالقيامة من الأموات.إن كان إبراهيم انطلق بابنه نحو المذبح، فقد رجع من التجربة يحمل إسحق وكأنه قائم من الأموات، رمزا للسيد المسيح الذبيح القائم من الأموات.لماذا طلب الله من إبراهيم أن يقدم ابنه ذبيحة، مع أن الشريعة الموسوية فيما بعد حرَّمت الذبائح البشرية ؟
بلا شك كان الوثنيون يقدمون أبكارهم ذبائح لآلهتهم، وكانت هذه التقدمات لا تحمل حبًا من جانب مقدميها بقدر ما تكشف عن روح اليأس الذي يملأ قلوبهم، إذ كانوا يودون غفران خطاياهم بأي ثمن، كما كانوا يودون استرضاء آلهتهم المتعطشة إلى الدماء! لهذا فإن الله طالب إبراهيم خليله بهذه التقدمة ليعلن للوثنيين قلب إبراهيم المحب لله، إذ هو مستعد أن يقدم أثمن ما لديه، وفي نفس الوقت إذ قدم الله كبشًا عوض إسحق أعلن عدم قبوله الذبائح البشرية، ليس عن جفاف في محبة المؤمنين لله، وإنما في تقدير الله للإنسان، إذ لا يطلب سفك دمه وهلاكه! الله لا يطيق الذبائح البشرية، إذ هو محب للبشر، يشتهى حياتهم لا هلاكهم، مقدمًا ابنه الوحيد فدية عنهم، هذا الذي وإن صار إنسانًا لكنه وحده لا يقدر الموت أن يملك عليه ولا الفساد أن يقترب منه.
(2) إسحق في الطريق:
" فبكر إبراهيم صباحًا وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه ومعه إسحق ابنه وشقق حطبًا لمحرقة وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله " (ع 3).إذ سمع إبراهيم الأمر الإلهي مع ما بدأ كمتناقض لمواعيده السابقة في طاعة قام لينفذ الأمر، انطلق للعمل "باكرًا" في الصباح دون تراخ من جانبه، وبغير جدال أو شك في مواعيد الله.
" وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد " (ع 4).إن اليوم الثالث إنما يشير إلى قيامة السيد المسيح، وكأن إبراهيم قد دخل مع الرب في القبر وعاش معه آلامه حتى انبثق نور قيامته في فجر الأحد (اليوم الثالث) فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد.كانت عيناه قبلًا منخفضتين نسبيًا ومتذللتين؛ ربما حاربه العدو بسارة التي تركها الآن في الخيمة ولم يخبرها عن خروجه مع ابنه ليذبحه.. أو ربما أراد الشيطان أن يشككه في مواعيد الله له..، وربما حاربه بمحبته لابنه وشفقته عليه..، لكن على أي الأحوال لم يتوقف إبراهيم عن السير في الطريق ثلاثة أيام، وكأنه ببني إسرائيل الذين طلب إليهم الرب أن يقدموا ذبيحة على مسيرة ثلاثة أيام (خر 5: 3)، إذ لا تقبل ذبيحة خارج دائرة قيامة ربنا يسوع المسيح. هكذا في اليوم الثالث رأى إبراهيم علامة القيامة بطريقة أو بأخرى فرفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد، ما هو هذا الموضع إلا السيد المسيح نفسه الذي فيه يرى إسحق ابنه قائمًا من الموت معه وبه أيضًا!
امتلأت نفس إبراهيم تعزية لمعاينة سر المصلوب القائم من الأموات، فتهلل في داخله إذ رأى يوم الرب (يو 8: 56). تحول أتون التجربة إلى ندى سماوي بظهور السيد المسيح المصلوب القائم من الأموات أمام بصيرة إبراهيم أب الآباء.
(3) إقامة المذبح وتقديم الذبيحة:
بلغ إبراهيم الموضع الذي رسمه الله، والمذبح قد بنى، والحطب الذي حمله إسحق قد رتب، وربط إسحق بيدي أبيه ووضع على المذبح فوق الحطب، ومد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبحه.. كانت الأمور تسير في جو من الهدوء الداخلى، إبراهيم يؤمن بالله الذي لن يتخلى عن مواعيده، وإسحق في طاعة يمتثل للذبح ولم تبق إلا لحظات ليذبح الابن ويقدم محرقة.قُبلت تقدمة إبراهيم وإن لم تتحقق بطريقة حرفية، الله لا يطلب الدم بل الطاعة اللائقة. وحسب إسحق ابنًا للطاعة إذ قبل الصليب بإيمان.وفي اللحظة الحاسمة وسط الهدوء الشديد إذ بملاك الرب ينادى إبراهيم "إبراهيم إبراهيم".. لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئًا، لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عنى " (ع 11، 12).رأى إبراهيم كبشا موثقا بقرنيه في الغابة، وأصعده محرقة عوضًا عن ابنه، وكأنه رمز للسيد المسيح الذي علق على خشبة الصليب وسمر بذراعيه المفتوحتين لأجل خلاص العالم.
(4) تجديد الوعد الإلهي:
خلال الذبيحة تمتع إبراهيم برؤية الرب كما تمتع بتجديد الوعد بطريقة فاقت المرات السابقة، الوعد هنا أبرز أبوته الروحية، إذ يقول: إذ كان يليق به أن يكون أبا للذين هم من الإيمان (غل 3: 9) ويدخل الميراث خلال آلام المسيح وقيامته الوعد الأول حيث كان (الصوت الإلهي) في الأرض: "ثم أخرجه إلى خارج -خارج الخيمة- وقال له: أنظر إلى السماء وعد النجوم إن استطعت أن تعدها، وقال له هكذا يكون نسلك" (تك 15: 1).أما في تجديد العهد فيظهر الكتاب أن الصوت جاء من السماء (22: 11)، الأول جاء من الأرض والثاني من السماء، ألا يبدو في هذا وجود رمز لحديث الرسول:"الإنسان الأول من الأرض ترابي، والإنسان الثاني الرب من السماء" (1 كو 15: 47)؟
لعل انطلاق الغلامين إلى بئر سبع مع إبراهيم وإسحق في نهاية المطاف يشير إلى عودة اليهود إلى الإيمان بالسيد المسيح الذي لم يستطيعوا قبلًا معاينة سر ذبيحته.. فينطلقوا في آخر العصور إلى مياه المعمودية ويقبلوا من قد جحدوه.
البولس من 1 كو 10: 1 – 13
فاني لست أريد أيها الأخوة أن تجهلوا أن أباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة وجميعهم إجتازوا في البحر
وجميعهم إعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر وجميعهم أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا وجميعهم شربوا شرابًا واحدًا روحيًا لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم والصخرة كانت المسيح لكن بأكثرهم لم يسر الله لأنهم طرحوا في القفروهذه الأمور حدثت مثالًا لنا حتى لا نكون نحن مشتهين شرورًا كما إشتهى اولئك فلا تكونوا عبدة اوثان كما كان اناس منهم كما هو مكتوب جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب ولا نزن كما زنى أناس منهم فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون الفًا ولا نجرب المسيح كما جرب أيضًا اناس منهم فأهلكتهم الحيات ولا تتذمروا كما تذمر أيضًا أناس منهم فأهلكهم المهلك فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالًا وكتبت لإنذارنا نحن الذين إنتهت إلينا أواخر الدهور اذًا من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط لم تصبكم تجربة إلا بشرية ولكن الله أمين الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا ان تحتملوا.
في الأصحاح السابق عالج مشكلة الرسول مشكلة ما ذبح للأوثان على أساس تنازلات الحب، مقدمًا نفسه مثالًا حيًا للتنازلات من أجل الإنجيل. وفي هذا الأصحاح يجيب الرسول بولس علي ثلاثة أسئلة خاصة بنفس الموضوع:
أولًا: ما هو موقف المؤمن من الولائم في هيكل وثني؟
ثانيًا: ما موقفه من اللحوم في السوق العام؟
ثالثًا: ما موقفه من الدعوة إلى وليمة في بيت صديقٍ وثنيٍ؟
موقفه من الولائم في هيكل أوثان لم يجب الرسول بولس علي هذا السؤال الخاص بموقف المؤمن من الدعوة الموجهة إليه للاشتراك في وليمة مُقامة داخل هيكل وثن بالقبول أو الرفض، لكنه قدم مبادئ هامة خلالها يستطيع المؤمن أن يأخذ قراره من داخله وليس كأمرٍ يصدر إليه. هذه المبادئ هي:
* القداسة هي مسرة اللَّه
اللَّه في حبه للبشرية يبسط يديه ليهبهم عطايا بلا حصر، لكن مسرته أن يرانا علي صورته ومثاله مقدسين في الحق كما هو قدوس والحق ذاته. فالعطايا الإلهية ليست مقياسًا لرضاه عنا، إنما تقديسنا هو موضوع مسرته بنا."فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا،أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة،وجميعهم اجتازوا في البحر" [1].الآن يقدم لهم كنيسة العهد القديم كمثال كيف تمتعت بهباتٍ إلهيةٍ كثيرةٍ، لكن هذه العطايا لم تبررهم، فإن ما يسر اللَّه هو قداسة الكنيسة. وكأن غنى عطايا اللَّه لنا وكثرة المواهب التي يمنحنا إياها لا تبررنا إن أهملنا خلاصنا. هكذا يود الرسول أن يؤكد لهم أنه عوض المشاحنات خاصة إن كانت في أمر أكلٍ أو شربٍ يليق بهم أن يهتموا بالخلاص على مستوى الجماعة كما على مستوى الأشخاص بتنقية حياتهم بروح اللَّه الساكن فيهم.يربط الرسول بين كنيستي العهد القديم والعهد الجديد، حاسبًا رجال الإيمان في العهد القديم آباء رجال العهد الجديد.يكرر الرسول كلمة "جميعهم" خمس مرات في الآيات 1-4، ليؤكد عدم محاباة اللَّه، فهو يقدم عطاياه للجميع بسخاء، ومع هذا لم يُسر إلا بمن يتجاوب مع حبه بالقداسة. العطايا مقدمة للجميع لكن المكافأة لمن يتقدس للرب.
كان غالبية شعب كنيسة كورنثوس من الأمم إلا أن جميعهم لا يجهلوا معاملات اللَّه مع الشعب القديم، كيف اختارهم وخرج بهم من مصر، وقدم لهم سحابة تظللَّهم علامة رعايته الفائقة لهم كمن تحت جناحيه، واجتاز بهم البحر لكي يفصلهم عن فرعون وجنوده الوثنيين، ومع هذا كله لم يُسر اللَّه بأكثرهم لأنهم لم يتجاوبوا عمليًا مع الدعوة التي دعوا إليها. فكيف يمكن لرجال العهد الجديد أن يتجاسروا ويدخلوا بكامل حريتهم إلى هياكل الأوثان ليشتركوا في موائدها ويظنون أن اللَّه يُسر بهم.بمعني آخر يقول لهم بأن اللَّه أخرج الشعب وعزلهم بالبحر عن الجو الوثني فهل تندفعون بإرادتكم إلى جو مفسد؟!
تمتع الشعب القديم بالخروج من مصر والتحرر من عبودية إبليس، وواضح من الكتاب المقدس أن هذه السحابة العجيبة التي قدمها اللَّه لشعبه في البرية حققت ثلاث وظائف:
+ كانت سحابة في شكل عمود يقودهم ويوجههم في البرية نهارَا.
+ كان عمودًا من النور يضيء المحلة بالليل.
+ كانت السحابة مظلة تقيهم من حرارة الشمس (مز 105: 39).
"وجميعهم شربوا شرابًا واحدُا روحيًا،لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم،والصخرة كانت المسيح" [4].يبدو أن البعض كانوا يعتمدون علي تناولهم من جسد الرب في سرّ الإفخارستيا كتأكيد لخلاصهم مع تهاونهم في سلوكهم مثل الشركة في ولائم هياكل الأوثان. لذا قدم لهم الشعب القديم هؤلاء الذين أكلوا طعامًا واحدًا روحيًا، الذي هو المن، رمز جسد المسيح (يو 6: 31) الخبز النازل من السماء الذي يعطي حياة للعالم [33]، وهو خبز الحياة [48]، ومع هذا إذ لم يتقدسوا للرب هلكوا.هل كانت الصخرة بالفعل تتبعهم؟ أم أن الحديث هنا رمزي؟ كان قدامى اليهود يعتقدون بأن ينبوع المياه كان يسير معهم طوال رحلتهم، يصعد معهم علي الجبال وينزل معهم في الوديان. وهم يعتمدون في هذا علي النشيد: "اصعدي أيتها البئر! أجيبوا لها. بئر حفرها رؤساء، حفرها شرفاء الشعب، بصولجان، بعصيهم. ومن البرية إلى متانة.. إلخ." (عد 21: 17 -20)دُعي شرابًا روحيًا مع أنه ماء عادي يروي الأجساد لكنه قدم بطريقة فائقة للطبيعة فاض الينبوع مياهًا تروي حوالي 2 مليون شخصًا. قيل عن المياه التي فاضت إنها جدول مياه، ومجري مياه، وسيل، ونهر (عد 34: 5، يش 15: 4، 47، 1 مل 8:65، 2 مل 24:7) ينزل من الجبل هذا يدل علي أن جدول المياه كان متسعًا جدًا.جبل حوريب مرتفع عن البلد الملاصقة له، وكأن المياه كانت تندفع منحدرة علي الجبل، لا تتجمع في حوض مياه، بل تتدفق نحو البحر في غير سكون. كأن المياه قد أوجدت نهرًا جاريًا يسير معهم في رحلتهم. إن قيل انه لا يوجد الآن ينبوع مياه يقيم نهرًا في تلك المنطقة، فالإجابة علي ذلك أن هذه العطية كانت هبة مقدمة للشعب علامة اهتمام اللَّه به، كما كان يقدم لهم منًا من السماء يكفي مليونين شخصًا ليأكلوا ويشربوا كل هذه السنوات.
"وهذه الأمور حدثت مثالًا لنا، حتى لا نكون نحن مشتهين شرورا كما اشتهي أولئك" [6].كان الكورنثوسيون يشبهون إسرائيل القديم إذ نالوا عطايا إلهية كثيرة، وقابلوا ذلك بالتذمر والشر عوض الشكر والقداسة، فصاروا تحت خطر الهلاك الذي حل بإسرائيل في البرية.
"فلا تكونوا عبدة أوثان كما كان أناس منهم، كما هو مكتوب:جلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب" [7].اعتبر القديس بولس مشاركتهم في الولائم الوثنية بالهيكل ممارسة فعلية لعبادة الأوثان."قاموا للعب": كان اليهود بوجه عام يفهمون اللعب هنا بمعني ممارسات دنسة تصحب العبادة الوثنية، كالرقص الخليع تكريمًا للآلهة.
"ولا نزنِ كما زنى أناس منهم، فسقط في يوم واحد ثلاثة وعشرون ألفًا" [8].في سفر العدد (25: 9) عدد الذين هلكوا 24 ألفًا، فلماذا يذكر هنا 23 ألفا؟ لأن اللَّه طلب من موسى تعليق الرؤساء مقابل الشمس هؤلاء يبلغ عددهم حوالي الألف شخصًا بجانب الـ23 ألفا الذين هلكوا بالوباء.
"ولا نجرب المسيح كما جرب أيضًا أناس منهم،فأهلكتهم الحيات" [9].يشير هنا إلى "المسيح" في العهد الجديد، هذا الذي كان يدعي "يهوه" في العهد القديم، فقد جربه اليهود بجحدهم لعنايته الإلهية وتذمرهم عليه.
"ولا تتذمروا كما تذمر أيضًا أناس منهم، أهلكهم المهلك" [10]. تذمر عليه اليهود بسبب المن، وظنوا أن الوعود الإلهية التي قُدمت لهم في مصر لم تتحقق، فأهلكتهم الحيات، وأصابهم الوباء. كما تذمر إسرائيل علي اللَّه وعلي نبيه موسى، هكذا شعب كورنثوس تذمروا علي اللَّه ورسوله بولس. وتذمر الإسرائيليون عند موت قورح وجماعته (عد 16: 41، 49)، وحُسبت شكواهم ضد موسى وهرون أنها ضد اللَّه نفسه (خر 16:8). وقد اقتبس الرسول بولس ذلك حاسبا أهل كورنثوس متذمرين علي المسيح لأنهم تذمروا علي رسوله.
إنجيل القداس.. من يوحنا 3: 1 – 13
كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود هذا جاء إلى يسوع ليلًا وقال له يا معلم نعلم انك قد أتيت من الله معلمًا لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الأيات التي أنت تعمل إن لم يكن الله معه أجاب يسوع وقال له الحق الحق اقول لك إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر ان يرى ملكوت الله قال له نيقوديموس كيف يمكن الإنسان ان يولد وهو شيخ العله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد أجاب يسوع الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح لا تتعجب أني قلت لك ينبغي أن تولدوا من فوق الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تاتي ولا الى أين تذهب هكذا كل من ولد من الروح
أجاب نيقوديموس وقال له كيف يمكن أن يكون هذا أجاب يسوع وقال له أنت معلم إسرائيل ولست تعلم هذا الحق الحق اقول لك إننا إنما نتكلم بما نعلم ونشهد بما راينا ولستم تقبلون شهادتنا إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون ان قلت لكم السماويات وليس أحد صعد الى السماء إلا الذي نزل من السماء إبن الإنسان الذي هو في السماء
نيقوديموس والميلاد الجديد
ليس من أصحاح في العهد الجديد يبدو في صعوبة هذا الأصحاح، ومع هذا فقد جذب كثيرين من غير المؤمنين إلى الإيمان المسيحي. فعنده تقف نفس غير المؤمن الجادة في طلب خلاصها لتجد نفسها محتاجة مع نيقوديموس أن تدخل في حوار سري مع السيد المسيح، وإذ تتعرف على الإمكانيات الجديدة الموهوبة لها. تنحني أمامه تطلب الإتحاد معه لتتمتع بروحه القدوس بالميلاد الثاني الجديد خلال العماد.
في نفس خط تأكيد الحياة المسيحانية الجديدة: خمر جديدة وهيكل جديد، كان لابد من الكشف عن الولادة الجديدة. يبقي هذا اللقاء الفريد بين شخصية فريسية ممتازة وبين شخص السيد المسيح ينبوع روحي حي يفيض على كل نفس جادة في خلاصها. فقد كان نيقوديموس كفريسي، رجل عالم في دراسة التوراة والتقليد اليهودي، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ورجل أخلاقي يؤمن كغيره من الفريسيين أنه في قدرة الإنسان إن أراد أن يفعل برّ الناموس، يعتمد على جهاده الذاتي وإرادته البشرية، يتمسك بحرفية الناموس، ويحسب نفسه حافظًا لها. يري في المسيح معلمًا يهوديًا مهتمًا بالناموس، ولعله كان أحد الكثيرين الذين ذكرهم الإنجيلي: "ولما كان في أورشليم في عيد الفصح آمن كثيرون باسمه إذ رأوا الآيات التي صنع" (يو 2: 24)، آمن أنه أتى من الله (يو 3: 2). ولعله كان يرجو في يسوع أن يكون مصلحًا أخلاقيًا، يقوم على أساس حفظ الناموس حرفيًا، وأن يصلح من شأن الأمة اليهودية. لم تكن عقلية نيقوديموس وخبرته تؤهلانه لقبول الحياة الجديدة في المسيح يسوع، خلال الميلاد الجديد، والتمتع بناموس روحي جديد. كان محتاجًا أن يرفع السيد المسيح فكره وقلبه وكل أحاسيسه وطاقاته نحو السماء ليدرك حاجته إلى الميلاد الجديد خلال ذاك "الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء"، فهو وحده يصعد إلى السماء ليحمل مؤمنيه معه كأبناء لله يتمتعون بالبنوة للآب فيه.لقاء نيقوديموس مع السيد المسيح ليلًا يسحب القلب نحو شخص السيد المسيح للتعرف على اهتمام السيد المسيح بكل نفسٍ بشريةٍ، ولطفه مع صراحته في الحديث معها. رأينا الكلمة الحال في وسطنا ليقيمنا أبناء لله، (ص1)، الآن يعلن كيفية الميلاد الجديد في حديثه مع نيقوديموس رئيس اليهود. اشتاق نيقوديموس أن يرى الملكوت، فأكد له السيد الحاجة إلى المعمودية بالماء والروح. ليعيش المؤمن دومًا كابن لله يسلك بالروح. في هذا الإصحاح يرفعنا من الأرضيات إلى الانشغال بالسماويات خلال إتحادنا بالسماوي الذي نزل إلينا وصعد ليصعدنا معه، إذ هو قائم في السماء (13).يربط العماد بالصليب حيث يعلن الآب حبه لكل البشرية ببذل ابنه لكي يتمتع العالم بالحياة الأبدية (16).
وإذ يشير إلى الميلاد الجديد يسحبنا من الخوف من الدينونة إلى التمتع بالنور الإلهي (21). إذ رأى يوحنا المعمدان ما حدث في عماد السيد المسيح وما حمله هذا من تمتع المؤمنين به بالبنوة، كمل فرحهُ. لقد سمع صوت العريس يخطب عروسه لتحيا معه في الأمجاد السماوية (29).
حوار حول الميلاد الجديد
"كان إنسان من الفريسيين اسمه نيقوديموس رئيس لليهود". (1)نيقوديموس: اسم يوناني معناه "المنتصر على الشعب". كان رئيسًا لليهود، أي عضوًا في مجمع السنهدرين، المجلس الأعلى للأمة اليهودية.الدعوة الإلهية موجهة إلى كل البشرية بكل فئاتها، لكن قليلين من أصحاب المراكز الدينية والزمنية ومن لهم مراكز قيادة أن يستجيبوا للدعوة. وجد قلة قليلة جدًا من بين الفريسيين، أقل من إصبع اليد الواحدة، ممن تجاوبوا مع هذه الدعوة، من بينهم نيقوديموس. جاء إلى السيد المسيح ربنا وحده أو معه أحد تلاميذه أو أكثر. لم يستخف السيد بالنفس الواحدة، فإنه احتمل موت الصليب من أجل كل نفس.حقًا لقد حمل الفريسيون روحًا مضادة ومقاومة للحق الإلهي، لكن وُجد بين هؤلاء المتعلمين الدارسين من يشتهي اللقاء مع السيد، وقد وجدوا بابه مفتوحًا. نعمة الله تعمل في الأميين كما في الدارسين، وفي العامة كما في القيادات، وفي البسطاء كما بين المقاومين. لقد جاء نيقوديموس إلى السيد، وبقي في مركزه بين المقاومين، ووضع قلبه أن يعمل حينما تُتاح له الفرصة قدر المستطاع. وقد حان الوقت حين لم يستطع التلاميذ أن يعملوا ليعمل هو، فأخذ تصريحًا من بيلاطس كي يدفن جسد السيد المسيح في قبره الخاص الجديد.
"هذا جاء إلى يسوع ليلًا، وقال له: يا معلم نعلم أنك قد أتيت من اللَّه معلمًا، لأن ليس أحد يقدر أن يعمل هذه الآيات التي أنت تعمل، إن لم يكن اللَّه معه". (2)كلما أشار الإنجيلي يوحنا إلى شخص نيقوديموس يربطه بزيارته للسيد المسيح ليلًا، وقد كرر ذلك ثلاث مرات في هذا السفر (3: 2؛ 7:50؛19: 39). لماذا جاء إلى يسوع ليلًا؟
أ. شعر أنه لا يكفيه أن يسمع أحاديثه العامة، ولا أن يتمتع برؤية معجزاته العلنية، بل هو محتاج إلى جلسة هادئة مع السيد المسيح فيما يخص خلاص نفسه. محتاج إلى حوار شخصي معه (ملا ٢: ٧). إن كان الابن الوحيد الجنس كثيرًا ما كان ينسحب من الجماهير بل ومن التلاميذ الأخصاء ليقضي الليل كله في حديث ممتع مع الآب، ألا يحتاج كل إنسانٍ منا أن يترك كل شيء ويجلس، خاصة بالليل، مع مسيحه ليدخل معه في حوارٍ شخصي، ويتمتع بالحياة الجديدة والشركة معه؟
ب. لعله من باب الحكمة اختار المساء، لأن السيد المسيح كان مشغولًا طوال النهار بالخدمة العامة، فانتظر نيقوديموس حتى المساء ليلتقي مع السيد في وقت راحته، في حديث ودي.
ج. لعله إذ دهش برؤية بعض المعجزات انتهز أول فرصة للقاءه الشخصي معه. بينما الكل نيام أراد أن يقضي سهرة روحية مع السيد المسيح، ولعله خشي ألا يجد مثل هذه الفرصة في المستقبل. كان نهازًا للفرص! إنه تمثل بداود النبي الذي كثيرًا ما كان ينتهز فرصة الليل للتأمل (مز ٣٦: ٦؛ ١١٩: ١٤٨).
د. لعل أيضًا الدافع لمجيئه ليلًا أنه خشي أن يبلغ الخبر إلى رؤساء الكهنة فيثوروا بالأكثر ضد السيد المسيح، أو يسيئون هم والرؤساء والفريسيون إلى نيقوديموس نفسه. ربما كان ينقصه نور الإيمان، لقد انجذب إلى شخص يسوع، لكنه لم يكن بعد قد عرفه عن قرب، ولا تعرّف على حقيقته أنه نور العالم. لقد كان قائدًا يهوديًا (1)، ومعلم إسرائيل (10)، يحتاج إلى الميلاد الجديد ليتمتع بمفاهيم جديدة للمملكة السماوية المسيحانية. في ضعف إيمانه جاء ليلًا، وقد وجد باب قلب سيده مفتوحًا، ولم يجرح مشاعره بكلمة عتاب واحدة. على أي الأحوال كان إيمانه أشبه بحبة الخردل الحية التي نمت وظهرت كشجرة عظيمة عندما مات السيد المسيح، فتقدم بشجاعة ليطلب جسد السيد.
"أجاب يسوع وقال له: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يُولد من فوق (جديد)، لا يقدر أن يرى ملكوت اللَّه". (3)اعتبر نيقوديموس صنع الآيات دليلًا على أن يسوع هو من عند الله. فقد كان الربيون يربطون بين التقوى وعمل الآيات. ولم يكن نيقوديموس قادرًا أن يتعدى هذه الحدود ليدرك حقيقة شخص يسوع المسيح، فرآه معلمًا تقيًا، رجل الله، يتمتع بمعية الله، كما تمتع يعقوب حيث قال له الرب: "لا تخف لأني معك" (تك 26: 24). ويشوع بن نون: "كما كنت مع موسى أكون معك" (يش 1: 5) وكثير من الآباء والأنبياء لم يستطع نيقوديموس بفكره الفريسي مع تقواه أن يتعدى هذه الحدود. هذا هو ما تعلمه، وهذا هو ما كان يعيشه في الجو اليهودي.
جاء حديث السيد المسيح معه يبرز النقاط التالية:
أ. الحاجة الماسة إلى ميلادٍ جديدٍ لمعاينة عالمٍ جديدٍ في داخله "ملكوت الله" (٣). لذلك دعيت ولادة جديدة أو ولادة ثانية، كما جاءت في الترجمات القبطية والسريانية واللاتينية، وكما استخدمها كثير من آباء الكنيسة الأولى، مثل القديسين يوستين واكليمنضس السكندري، وترتليان، والقديسين أغسطينوس وجيروم. وقد فهم نيقوديموس كلمات السيد المسيح أنها تدعوا إلى "ميلاد جديد"، لهذا وقف في حيرةٍ وعجز: كيف يمكن لشيخ أن يدخل بطن أمه ليولد من جديد؟
ب. أن تكون الولادة من فوق، أي سماوية (٣). إذ هو عمل خاص بروح الله القدوس السماوي، يهب إمكانيات سماوية إلهية تتجاوز الفكر البشري.
ج. تتحقق بالعماد من الماء والروح (٥).
د. ولادة تحمل قوة فائقة كالريح ولا يُعرف سرها (٨).
كان تكرار كلمة "الحق" في الكتابات اليهودية يُحسب معادلًا لقسم له قدسيته العظمى. استخدمه السيد المسيح عندما كان يشير إلى أمرٍ له خطورته الكبرى.في لطف ينتهره السيد المسيح معلنًا له أنه لا يكفي للشخص أن يؤمن بأن يسوع هو معلم إلهي، ولا أن يُعجب من آياته بكونها آيات صادقة وفريدة، لكن الحاجة هي إلى ولادة "من فوق"، أي سماوية، لكي يعاين ما هو سماوي. فالجنين في بطن أمه لا يقدر أن يرى العالم، ولا يحمل أية خبرات فيه، ما لم يولد من رحم أمه. هكذا لا يستطيع الإنسان أن يعاين ملكوت الله، ولا أن يحمل خبرات السماء، ما لم يولد ثانية من فوق ليرى نور العالم الجديد ويعيش فيه.بقوله "يرى" يؤكد السيد المسيح أنه يليق بالمؤمن الحقيقي الذي يتمتع بالميلاد الجديد السماوي ألا يعتز بهذا الميلاد دون أن يرى ملكوت الله داخله ويعيشه، أي يصير له الفكر السماوي والروح العلوية والمبادئ اللائقة بناموس السماء، وأهداف جديدة ورجاء جديد وإمكانيات جديدة. بالميلاد الجديد يبدأ المؤمن حياة جديدة تمامًا، لا تقوم على تصليح كيان الإنسان، بل هدم القديم وبناء الجديد، إماتة الإنسان العتيق وقيامة الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه.بميلادنا الأول أفسدتنا الخطية وشكَّلت أعماقنا حسب هواها، فصرنا جسدانيين، يسيطر علينا ناموس شهوات الجسد، وتسحبنا محبة العالم، ويتحكم فينا عدو الخير، فأصبح الميلاد الجديد ضرورة لا مفر منها. لهذا يقول السيد: "الحق الحق أقول لكم"."قال له نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يُولد وهو شيخ؟ ألعله يقدر أن يدخل بطن أمه ثانية ويولد؟" (4)جاء تساؤل نيقوديموس يكشف عن ضعف معرفته. بينما يتكلم السيد المسيح روحيًا كان قلب نيقوديموس مرتبطًا بالماديات. لم يكن ممكنًا أن يدرك الميلاد من فوق ما لم تُحل رباطات المادة من قلبه وفكره، فيقدر بروح الله أن يدرك الإمكانيات الروحية الجديدة.
"أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا يولد من الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت اللَّه". (5)عاد السيد وكرر ما سبق أن أكده، ليعلن أن هذا الحق لا يمكن التهاون فيه. فإن كلمة الله ليست نعم ولا، بل هي نعم وآمين. فمع عدم إدراك نيقوديموس للميلاد الجديد يصر السيد المسيح على ضرورته. ليس من طريق آخر لمعاينة ملكوت الله والدخول فيه سوى الولادة الثانية.لماذا يستخدم الماء؟ إشارة إلى عمل الغسل الداخلي للنفس (تي ٣: ٥؛ ١ كو ٦: ١١؛ حز ٣٦: ٥٢). هذا الغسل يتحقق بالروح القدس القادر وحده أن يغسل أعماق النفس ويطهرها ويجددها. كما حول السيد المسيح الماء إلى خمرٍ يفرح أهل العرس والحاضرين فيه، هكذا يقدم لنا الماء لا لتطهير الجسد خارجيًا، بل تطهير الأعماق بالروح. هذا هو الماء الذي وعد به السيد في حديثه مع السامرية، أن من يشرب منه لا يعطش. إنه ليس كماء بئر يعقوب التي شرب منها هو وبنوه والماشية إنما هي مياه حية.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد