الحياة الأبدية

Large image

عندما كنا نسمع عن الدينونة والأبدية أو نفكر فيهما ونحن في حداثتنا، كنا نُسر إذ تمر في مخيلتنا روائع المناظر وشتي مظاهر المتعة، ثم ما لبثنا أن دخلنا في فترة المراهقة فإذا بالتفكير في مثل تلك الأمور ينتابنا معه قشعريرة وخوف من المجهول، لا سيما بعد أول واقعة وفاة حدثت لشخص نعرفه أمور كثيرة كانت تؤرقنا من جهة الحياة الأبدية مثلا مسألة اللانهاية وماذا تعني، وكذلك الدينونة والتي كانت تثير فينا الرعب، حالما تتمثل أمامنا النار والعويل ووجه الله الغاضب أمام الأشرار ثم العذاب الدائم وظلت فكرة القيامة العامة والحياة الباقية تشغل أفكار الجميع، فهي حياة لم يختبرها أحد من قبل ليروي لنا عنها أو يصفها، وفي المرة الوحيدة التي صعد فيها إنسان ورآها، حتى هذه الخبرة وللأسف الشديد لم يجد صاحبها من الأمور الأرضية ومفردات اللغات البشرية ما يعينه علي وصفها أو تشبيهها، فقال: "وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا" (2 كو 12: 4) وبتعبير آخر "مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ" (1 كو 2: 9) والمقصود بهذا هو أن أجمل ما رأته عين بشرية في هذه الحياة يقصر في الواقع عن أن يعكس المجد الذي هناك، وهكذا أجمل ما سمعته إذن أو ما تخيله قلب لا يرقي مطلقًا إلي ذلك الفرح والمجد العتيد أن يستعلن في البشرية عندئذ إذن فالحياة الأبدية وكما خبرها معلمنا بولس الرسول للحظات أو لدقائق ربما، كانت أروع من أن يعبر عنها، وعندما أراد القديس يوحنا الرسول أن يصف أورشليم السماوية، بحث هو الأخر في أرضنا وعالمنا الترابي فلم يجد سوي الأحجار الكريمة ليصف بها ذلك المجد مثل: "يشب... جمشت... زمرُد ذبابي.. إلخ." ومع ذلك فهذه أرضية ترابية وأما تلك فأبدية باقية ثم تَدَرجْنا قليلًا قليلًا بخصوص تناولنا لفكرة الأبدية حتى وصلنا إلي تصوَر أفضل، ألا وهو ما عبر عنه أيوب الصديق قائلًا: "هُنَاكَ يَكُفُّ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الشَّغْبِ، وَهُنَاكَ يَسْتَرِيحُ الْمُتْعَبُون. الأَسْرَى يَطْمَئِنُّونَ جَمِيعًا، لاَ يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْمُسَخِّرِ. الصَّغِيرُ كَمَا الْكَبِيرُ هُنَاكَ، وَالْعَبْدُ حُرٌّ مِنْ سَيِّدِهِ" (أي 3: 17-19) وأدركنا بالتالي أنها حياة تتسم بالكمال، ثم أدركنا أخيرًا أن الحياة الأبدية هي الله ذاته، وأنه في معرفته (بالمسيح يسوع أبنه) معرفة لهذه الحياة"وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ" (يو 17: 3) إن الله هو الهدف المشترك ما بين الحياتين، هو مصدر كل فرح وطمأنينة، ولعل ذلك يفسر قول المخلص "لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ" (لو 17: 21) وذلك في رده علي سؤال الفريسيين له عن موعد الملكوت ومتى يأتي، وإن كانت الحياة الأبدية عبارة عن كتاب فإن هذه الحياة التي نحياها الآن يجب أن تكون مقدمة هذا الكتاب، في هذا يقول القديس يوحنا سابا المعروف بالشيخ الروحاني (لا دخول إلي ذلك البلد، بلد نور الأنوار وعالم أبد الآبدين لمن لم يختبره منذ الآن، فلا يقدر أن يرتاد ذلك البلد من لم يعتده من هنا، إذ تعاني عين بصيرته من الغشاوة حينذاك بأشعة نور الغمام الخارج من هناك ليتنعم به، فإنه حالما تغرب عن عينه شمس العالم يقسم ميراثه ويرحل لملاقاة الشمس العظيمة بنور العوالم العلوية)(1) غير أن التفكير في الأبدية والدينونة يفقد مع الوقت تأثيره، مثل ما يحدث عند انتقال أحد الأشخاص إذ سريعًا ما تهدأ المشاعر وينصرف الناس إلي شئونهم ناسين أو متناسين الرسالة الروحية التي تركها بوفاته وقد كان المؤمنون في أول عهدهم بالإيمان مثقلون بفكر إسكاتي (أخروي) حيث كانت المناداة في الوعظ والإرشاد تلِح بأن المسيح علي الأبواب... ولن يبطئ، ويؤكد معلمنا بولس الرسول لهم ذلك بقوله " نَحْنُ الَّذِينَ انْتَهَتْ إِلَيْنَا أَوَاخِرُ الدُّهُورِ" (1 كو 10: 11) وشاع تداول تعبير مارانا ثا(2) للإشارة إلي اللهفة الشديدة إلي مجيء الرب، وكان هذا النداء ينعش المؤمن ويجدد فيه الرجاء. هذا وقد نما بقوة الاعتقاد بظهور الرب الوشيك، فباع الكثيرين ممتلكاتهم وقاموا بتوزيع أثمانها وصعد إلي أسطح منازلهم راكعين وهم باسطون أيديهم نحو العلاء مرددين " نَعَمْ!... آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ" (رؤ 22: 20) وقليلًا قليلًا ولأن يوم الرب يأتي كلص، وشعر البعض بأنهم انتظروا طويلًا، فقد تحرًك الشك في قلوبهم من جهة مجيء الرب، وكتب معلمنا بولس الرسول يشجع مثل أولئك، في رسالته إلي العبرانيين. ويلاحظ أن تعبير "وَفِيمَا أَبْطَأَ الْعَرِيسُ نَعَسْنَ جَمِيعُهُنَّ وَنِمْنَ" (مت 25: 5) يجب أن يُفهم علي أن العذارى قد ملَوا الانتظار فناموا، لا أن الرب أبطأ، فهو آت في الوقت المحدد من جهته ولن يعقه أحد!!ثم انتهز قوم أرديا ذلك فشككوا في الأمر برمته، إلي هذا أشار القديس بطرس قائلًا: "أَنَّهُ سَيَأْتِي فِي آخِرِ الأَيَّامِ قَوْمٌ مُسْتَهْزِئُونَ، سَالِكِينَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ، وَقَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ مَوْعِدُ مَجِيئِهِ؟ لأَنَّهُ مِنْ حِينَ رَقَدَ الآبَاءُ كُلُّ شَيْءٍ بَاق هكَذَا مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ" (2 بط 3: 3-4) ويجب الانتباه إلي أنه قد لا يأتي المسيح (أقصد المجيء الثاني "الباروسيَا") هذا اليوم أو هذه السنة، ولكن الكثيرون سيذهبون إليه عندما ينحلون من هذا الجسد، ومن هنا يجب الاستعداد دائمًا.

عدد الزيارات 1459
عدد مرات التحميل 474
تحميل

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل