الخفاء

عندما نقترب إلى عيد نياحة القديس الأنبا أبرآم نتكلم عن فضيلة من فضائله وهي الخفاء .. نقرأ جزء من سفر الملوك الثاني .. ﴿ في ذلك الزمان أرسل بردوخ بلادان بن بلادان ملك بابل رسائل وهدية إلى حزقيا لأنه سمع أن حزقيا قد مرض .. فسمع لهم حزقيا وأراهم كل بيت ذخائره والفضة والذهب والأطياب والزيت الطيب وكل بيت أسلحته وكل ما وجد في خزائنه .. لم يكن شئ لم يرهم إياه حزقيا في بيته وفي كل سلطنته .. فجاء أشعياء النبي إلى الملك حزقيا وقال له ماذا قال هؤلاء الرجال ومن أين جاءوا إليك .. فقال حزقيا جاءوا من أرضٍ بعيدةٍ من بابل .. فقال ماذا رأوا في بيتك .. فقال حزقيا رأوا كل ما في بيتي .. ليس في خزائني شئ لم أرهم إياه .. فقال أشعياء لحزقيا إسمع قول الرب هوذا تأتي أيام يحمل فيها كل ما في بيتك وما ذخره آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل .. لا يترك شئ يقول الرب ﴾( 2مل 20 : 12 – 17) يتكلم هذا الجزء عندما كان حزقيا الملك مريض لدرجة الموت فربنا مد عمره 15 سنة وجاء لزيارته ناس من بابل من طرف ملك بابل فهو عمل شئ غير لطيف إنه فرجهم كل أواني الهيكل فجاءه رد الرب عن هذا التصرف عن طريق أشعياء النبي .. نتكلم معاً عن الخفاء :-
1/ الخفاء كمبدأ روحي :-
الحياة الروحية مبنية على الأسرار والروحيات وطالما هي مبنية على الروحيات إذاً فهي غير مرئية أي لا ترى .. فالخفاء مهم جداً في نمو الأمور الروحية .. يجري حديثي معه سراًفلابد أن يوجد خفاء في الحياة الروحية ولا يرى .. الأسرار الروحية كلها مبنية على عشرة خفية بيننا وبين ربنا .. الشئ الذي أحبه ولا أراه فهذه علاقة مبنية على الخفاء .. هناك أشياء كثيرة مبنية على أشياء خفية .. الشجرة مبنية على الجذر .. العمارة مبنية على الأساس .. الإنسان مبني على المخ .. فإننا نستطيع أن نقول أن الأشياء الهامة والأساسية هي غير مرئية كذلك حياتنا مع الله فإن الأمور غير المرئية أهم من الأمور المرئية لذلك يجب أن نركز على الخفاء .. ﴿ إنسان القلب الخفي ﴾ ( 1بط 3 : 4 ) .. وهي إشتياقات القلب الخفية التي هي غير مرئية فالمرأة الخاطئة هي وحشة جداً وخاطئة جداً هي أوحش واحدة في الوليمة لكنه يوجد بداخلها خفاء جيد جداً جعلها أحلى الموجودين لأن هناك دوافع غير مرئية جميلة لذلك يقول الكتاب أن الإنسان ينظر إلى العينين أما الله فينظر إلى القلب ( 1صم 16 : 7 ) .. كما حدث عندما الناس إستحسنوا منظر شاول أما الله فإستحسن قلب داود .. لذلك يجب أن نركز أنفسنا على الداخل فلا نلتفت للمظاهر بل نركز على الداخل وهو البعد الخفي الخفاء في الحياة مع ربنا مبدأ روحي مهم جداً .. فالآباء القديسين يقولوا لنا ﴿ ها نحن سائرين في طريق اللصوص فلنخف ونحذر ﴾ .. فعندما نسير في طريق اللصوص كل ما هو غالي نخفيه حرصاً من السرقة فالشئ الغالي يجب أن يختفي .. الجواهر الغالية الثمينة لنا يجب أن نخفيها في أعماق نفوسنا .. فالأسرار مثلاً مبنية على الخفاء فهي سر .. فسر الإعتراف يكون الله حاضر في هذه الجلسة وأب الإعتراف مجرد شئ أو وكيل فهو يعلن عن أسراره .. فالله هو السامع وقابل التوبة .. فنحن نرى الخارج .. كذلك سر المعمودية ومسحة المرضى .. المرئي فيها ضعيف جداً لكن كل هذه الأسرار مبنية على الخفاء .. فالإنسان المدرب على هذه الأسرار يعرف تماماً قمة الخفاء فيجب دائماً عدم الإهتمام بالخارج بل بالداخل .. يجب أن نسأل أنفسنا جيداً ما هي دوافعنا في الصوم والصلاة ؟عند زيارتنا لدير البراموس نرى هناك عمود القديس أرسانيوس فكان يقف خلفه ويصلي بالدموع .. كان يصلي في خفاء ليخفي دموعه .. فكثير من الناس تريد أن تصلي وتظهر مشاعرها لكن يجب على الإنسان أن يظهر مشاعره أمام الله فقط وتكون في خفاء .. يجب أن نركز الحديث بيننا وبين الله فالقديسين يقولوا ﴿ ركز على صلاتك في الخفاء ﴾ .. فالإنسان الروحي يركز على صلاته في مخدعه فما الفرق بين العذارى الحكيمات والجاهلات ؟ فهم عذارى ومعهم مصابيح وكلهم كانوا نيام لكن الفرق الوحيد هو الزيت فهذا موضوع خفي الذي هو داخل القلب .. رصيد مخافة الله ورصيد معرفة الله فهذا هو الأساس هذا هو الشئ الخفي .. فالأنبا أبرآم لم يعرف الناس أنه قديس كما يقال في المديح فكثير من الناس كانوا ضده ولم يعرفوا مدى طهارته فكان مظهره غير جيد .. لبسه قديم وبالي فهذا شئ لا يليق بشحات فإن البعد الخفي في حياته هو الأهم وهو الأغلى فكل إنسان مهتم بالداخل لا يهتم بالخارج .. فالإنسان الذي لديه بعد روحي لا يهتم بالخارج .. فعندما سأل بعض الناس الأنبا أبرآم أين الأموال التي جُمعت لبناء الكاتدرائية ؟ فقال لهم تم بنائها فعلاً فهو إنسان كل إهتمامه في السماء .. فالإنسان الروحي تركيزه في الأمور الغير مرئية أكثر من الأمور المرئية ولديه لذة في طريقه الروحي والإشتياق كله لربنا .. شاعر بفرحة داخله نابع من إنسان القلب الخفي .. يقول معلمنا بولس ﴿ لأنكم رثيتم لقيودي أيضاً وقبلتم سلب أموالكم بفرحٍ عالمين في أنفسكم أن لكم مالاً أفضل في السموات وباقياً ﴾ ( عب 10 : 34 ) .. هناك عبارة شهيرة للبابا كيرلس السادس يقول ﴿ كنت أود أن أعيش غريباً وأموت غريباً ولكن لتكن إرادة الله ﴾ .. فهو كان يريد أن يكون مجهولاً من الناس وكانت كل إشتياقات قلبه للسماء .
2/ الخفاء والفضائل :-
كل الفضائل أساسها الخفاء .. الإتضاع الذي ينميه هو الخفاء .. فالقديس أنبا صرابامون الشهيربأبو طرحة كان يتخفى ويذهب سراً إلى منازل الناس الفقراء ويضع لهم أشياء لمعيشتهم ويختفي سريعاً .. يجب أن نهتم بكل ما هو خفي ونبتعد عن كل ما هو ظاهر .. يجب أن نصنع كل شئ في الخفاء جميل جداً أن الإنسان يفعل كل شئ في الخفاء .. فالقديس أبونا عبد المسيح المناهري كان يخاف على قداسته فعندما إختاره البابا أن يكون أب إعترافه فقال لنفسه * البطرك يعترف عندك يا عبد المسيح وتشتهر بين الناس * .. ففكر يعمل حاجة فأول لما قعد مع البطرك قاله * عاوز أقول حاجة * فرد البطرك * قول يابونا عبد المسيح * .. فقال أبونا عبد المسيح * أنا عاوز أتجوز * .. فالبطرك زعل منه إزاي يسمع منه كلام زي ده وصرف نظره إن يكون أبونا عبد المسيح أب إعترافه .. إنسان حريص على خفائه كذلك القديسة أناسيمون فهي ملكة وتركت قصرها وقالت لربنا * أنا تركت باب قصري مفتوح لتترك أنت باب ملكوتك مفتوح قدامي * .. وللأسف تهاون بها الكل من الراهبات إلا أن الآب دانيال عند زيارته للدير فأحب أن يتعرف على كل الراهبات وبالفعل رأى كل الراهبات فتساءل هل هؤلاء هم كل الراهبات ؟ فقالوا يوجد راهبة ولكنها هبيلة .. فقال الآب دانيال أخشى أن تكون هي العاقلة الوحيدة .. وفعلاً في الليل قامت القديسة أناسيمون للصلاة كعادتها ورأها الآب دانيال وكانت يخرج من فمها ويديها نور فأعلم الأم بهذا ورأت بعينيها والراهبات جميعهن رأوا وشهدوا لها .. وعندما إتعرف عن القديسة أناسيمون مدى قداستها تركت لهم الدير سراً .. خفاء فالإنسان الذي يعبد ربنا في الخفاء يتعرف على ربنا .. يقول الكتاب ﴿ أبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانيةً ﴾ ( مت 6 : 4 ) .. فالله شاهد على خفاء الإنسان والله وحده هو الذي يراه والإنسان الذي له خفاء فإن هذا معناه أن حياته بدأت تثمر .. وعدو الخير عندما يرى أننا نُظهر كل فضائلنا فتسرق مننا جواهرنا كما فعل حزقيا فذهب كل شئ إلى بابل فعندما يصوم الإنسان فلا يعلن للناس كلها أنه صائم إنقطاعي .. فيقال عن أحد الآباء وتلميذه أنهم كانوا سائرين وأثناء سيرهم في الطريق عزم عليهم مجموعة من الناس بشدة ليأكلوا معهم ولم يستطيعوا الإعتذار .. فجلس هذا الآب وتلميذه لتناول الطعام معهم وبعدها تركوهم ومشوا فأراد التلميذ أن يشرب على إعتبار أنهم أكلوا فأقبل هذا التلميذ من أحد الآبار الموجود في الطريق وهمَّ أن يشرب فقال له معلمه * ماذا تفعل ؟ * .. فقال التلميذ * إني عطشان وأريد أن أشرب * .. فقال المعلم * أليس أنت صائم ؟!! * .. فقال التلميذ * لكننا أكلنا منذ قليل مع الرجال الذين كانوا جالسين على الطريق * .. فقال المعلم * نحن أكلنا معهم من أجل المحبة لكننا في صوم * .. خفاء .
3/ الخفاء والناس :-
كل ما نعمل الفضيلة من أجل الناس كل ما نستوفي خيراتنا على الأرض .. فهذا شئ يسمى* تسرب الخزين أو قفة مخرومة * .. فالإنسان محب جداً للظهور ويحب المدح وأن من إحتياجاته النفسية حب الظهور فالقضية هي الخفاء .. أن يخفي الذي فيه .. فكثير من الفضائل عكس المنطق والرغبة البشرية فهذه ضد طبع الإنسان فالفضائل تغذي الروح وتشبع الإنسان .. فيجب باستمرار أن نميل للخفاء ولا نحب المديح على الأرض حتى لا نستوفي الأجر .. فيقول بولس عن المآسي التي حدثت له ومحاولات موته وكان يفتخر بهذه الأشياء فهي أمور مؤلمة وغير مشرفة للإفتخار فهي أمور ضعف .. فلا يفتخر بكونه كتب 14رسالة ولا أصله ولا عائلته فلا يجب على أي شخص أن يتحدث عن مأساته .. أما بولس فكتب في رسالة كورنثوس الثانية عن جلده ومحاولات موته فهو يفتخر بأمور ضعفه ولا يهمه الناس( 2كو 11 : 22 – 30 ) فذات مرة كلم شخص أب كاهن وقال له أنه يريد أن يتبرع ببعض الأموال لأخوة الرب فرحب الأب الكاهن وطلب من هذا الشخص رقم تليفونه وإسمه .. فكان رد الشخص أنه لا يريد أن يعرف أحد من هو .. هذا هو الخفاء فهو إنسان لا يحب أن يعرف شخصيته أحد .. فذات مرة جاء طفل صغير لأب كاهن وأعطاه كيس به أشياء وقال لأبونا * خد هذا الكيس واعطيه للفقراء * ومشى الطفل .. وبعد ذلك فتح الكاهن هذا الكيس فوجده ملئ بالنقود ولم يعرف الكاهن من هو صاحب هذا الكيس الملئ بالنقود ولكن حقيقة الأمر أن هناك شخص يريد أن لا يُظهر نفسه وطلب من هذا الطفل الصغير أن يعطي هذا الكيس للأب الكاهن .. هذا هو الخفاء القديس باسيليوس كان أسقف وكان له علاقة قوية بالعذراء مريم ففي وقت من الأوقات كان هناك ضعف في الكنيسة في الألحان وبدلاً من أن يستقبلوا الأب الأسقف بالألحان كان الإستقبال بالتصفيق والهتاف .. زار الأنبا باسيليوس إحدى الكنائس والهتاف شديد * يعيش الأنبا باسيليوس * وكانت هناك طفلة صغيرة واقفة صامتة فذهب إليها الأنبا ياسيليوس وسألها لماذا لا تقولين معهم ؟ فللوقت فتحت فاها وصرخت قائلةً معهم * يعيش الأنبا باسيليوس * .. فالناس زادت في هتافها وصيحاتها فتعجب الأنبا باسيليوس .. ما هي الحكاية ؟ فالموضوع أن هذه الطفلة كانت خرساء وعندما تكلمت إزداد هتاف الناس لأن المعجزة حدثت وتكلمت البنت فالقديس حزن جداً وعاتب الست العذراء وفِضِل قافل على نفسه لمدة 40 يوم وقال للعذراء * كده برضه تفضحيني ؟ * .. وكان مكسوف جداً أن يرى الناس بعد هذه المعجزة لذلك القديسين كانوا يطلبون من الله أنه إذا أعطاهم موهبة الشفاء أن يعطيهم معها إتضاع لأنهم كانوا يريدوا أن يعيشوا حياة الخفاء .. فالبابا كيرلس كان دايماً يقول * عشنا وشوفنا العيل بقى بطرك * .. ولما كان يخدمه حد من أولاده كان يقول * جلابيته لحد ركبته وعشرة في خدمته * .. فهو يسعى وراء الخفاء والشئ الذي يظهر يُسرق أول بأول والشئ الذي يبقى هو الذي يكون مخفى .. الأمر المعلن خطر والأمر المخفى محفوظ .. ﴿ أبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانيةً ﴾ يجب أن يكون هناك خفاء كامل عندما نعطي شئ لأحد .. يجب أن يتعود كل واحد منا دائماً لإخفاء ذخائره لأن هذا الشئ ثمين جداً .. الإنسان الذي يحب الخفاء لا يحب الشهرة ولا يحب تعظم المعيشة فهو يهتم أن يكون مظهره جيد لكن بسيط .. يجب على كل إنسان أن يسعى لحياة الخفاء ربنا يدينا حياة الخفاء ويكمل نقائصنا ويسند كل ضعف فينا بنعمته ولإلهنا المجد دائماً أبدياً آمين