أبوة الله الحانية

أبوة الله الحانية
تَحْتَفِل الكِنِيسَة بِفَصْل مِنْ أرْوَع فِصُولْهَا لِكَي يَكُون فِي فِتْرِة الصُوْم الكِبِير المُقَدَّس لِتَحِث وَتُشَجِّع أوْلاَدْهَا عَلَى التَوْبَة وَالرِجُوع إِلَى الله .. لاَ يُوْجَد أسْهَل وَلاَ أجْمَل وَلاَ أوْضَح مِنْ هذَا الفَصْل ( لو 15 ) لِذلِك تُسَمِّيه الكِنِيسَة الإِبْن الشَّاطِر وَلَيْسَ الضَّال لِكَوْنِهِ ضَلَّ لأِنَّ هذَا لاَ يَهِمْ وَإِنَّمَا المُهِمْ أنَّهُ شَاطِر وَرِجِعْ وَالكِنِيسَة تُرِيد أنْ تُعَلِّمنَا رُجُوعه .. لِذلِك أحِب أنْ أرَكِّز عَلَى نُقْطَة مُعَيَنَة وَهيَ " أُبُّوِة الله " .
مِنْ أكْثَر الأُمُور الَّتِي تُسَاعِد الإِنْسَان عَلَى تُوْبته شُعُوره أنَّ الله أبُوه وَحِينَمَا يَفْقِد هذَا الإِحْسَاس تَصِير التُوْبَة صَعْبَة .. وَالتُوْبَة يِيجِي مَعَاهَا أحَاسِيس كِتِيرَة .. إِحْسَاس زَي إِحْسَاس عَدَم القَبُول .. إِحْسَاس إِنِّي أزَّعَل رَبِّنَا مَا تِفْرِقش مَعَايَا كِتِير .. هُوَ بِالنِسْبَة لِيَّ وَاحِدٌ غَرِيب .. لكِنْ لَوْ وُجِدَ إِحْسَاس الأُبُّوَة وَأكُون شَبْعَان بِه ( مِنْ رَبِّنَا ) هُنَا سَأخُذْ قَرَار الرُجُوع وَأنَا فَرْحَان ..يِقُول الكِتَاب { وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ ..... } ( لو 15 : 20 ) .. بِمُجَرَّد إِنَّه سِمِع مِنَّه كِلْمَة مُشْتَاق أنْ يَسْمَعَهَا وَهيَ { يَا أبَتَاه } ( مَا يُقَال فِي القِطْعَة الثَّانِيَة مِنْ صَلاَة الغُرُوب ) ..إِذَنْ مَشَاعِر الأُبُّوَة مَوْجُودَة وَالمَحَبَّة وَالقَبُول مَوْجُود وَكُلَّ شِئ مَوْجُود طَالَمَا المَشَاعِر مَازَالِت مَوْجُودَة فِي القَلْب .
الإِنْسَان لَوْ عَايِز يِتُوب مَفِيش حَاجَة تِسَاعده عَلَى التُوْبَة غِير كِلْمِة " يَا أبَانَا " .. غِير كِلْمِة أنَّ الله أب لِيَّ .. فَالتُوْبَة بِإِحْسَاس البُنُّوَة تِغْفِر جَمِيع الخَطَايَا مَهْمَا تَعَاظَمَت .. مَهْمَا كَثُرَت .. مَهْمَا تَفَاقَمَت جِدّاً إِلَى أقْصَى حُدُودْهَا .. إِحْسَاس البُنُّوَة يِغْفِر .. تَخَيَّل لَوْ الوَلَد دَه مَعَنْدُوش إِحْسَاس البُنُّوَة أوْ تَخَيَّل إِنْ دَه عَبْد غِلِطْ فِي سَيِّده وَقَالُّه " عَاوِز حِسَابِي عَشَان مِش عَاوِز أقْعُد وَحَصَل مَعَاه نَفْس الَّلِي حَصَل مَعَ الوَلَد دَه .. تِخْتِلِف .. إِحْسَاسه إِنَّه عَاوِز يِرْجَع عَنْ إِنْ هُوَ إِبْن وَتِخْتِلِف أيْضاً فِي إِسْتِقْبَال السَيِّد لَهُ .. مُمْكِنْ يِقُول دَه عَبْد بَدَل عَمَل كِدَه مَا يِلْزَمْنِيش .. لكِنْ لَمَّا يِكُون إِبْنه يِكُون نِفْسه يِيجِي .. إِحْسَاس البُنُّوَة هُوَ أسَاس التُوْبَة يِقُولَّك { وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ وَرَكَضَ وَوَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَقَبَّلَهُ } ( لو 15 : 20 ) .
كَلاَم مَلِئ بِالمَشَاعِر أعْلَى مِنْ أي عِلاَقَة مُمْكِنْ تُرْبُط بَيْنَ إِثْنَيْن .. وَنَحْنُ أيْضاً حِينَمَا نَشْعُر بِالأُبُّوَة وَالبُنُّوَة الَّتِي لله نَشْعُر بَكَمْ العَطَايَا الَّتِي يُرِيد الله أنْ يُعْطِيهَا لَنَا .. رَبِّنَا يِحِب عِلاَقِتنَا بِه تِكُون مَبْنِيَّة عَلَى البُنُّوَة .. القُدَّاس الإِلهِي رِحْلِة عِبَادَة طَوِيلَة تُهَيِّأك قَبْل التَنَاوُل تُعَمِّق فِيك شُعُور الأُبُّوَة حَتَّى صَلاَة القِسْمَة الَّتِي تَنْتَهِي بِالصَّلاَة الرَّبَانِيَّة { يَا أبَانَا الَّذِي فِي السَّموَات ..... } لأِنَّ هذَا هُوَ الإِحْسَاس الَّذِي يُؤَهِلَك لِلتَنَاوُل لأِنَّهُ بِدُون إِحْسَاس البُنُّوَة لاَ تَسْتَطِيع أنْ تَتَقَدَّم لِلتَنَاوُل لِشُعُورَك أنَّكَ خَاطِئ لأِنَّ هذِهِ النُقْطَة وَهيَ إِحْسَاس البُنُّوَة تُرْجِع لَك كُلَّ الحُقُوق المَسْلُوبَة مِنْكَ .
وَإِذا حَبِّينَا نِعْمِل مُقَارْنَة بَيْنَ حَال الوَلَد فِي الكُورَة البَعِيدَة وَحَالُه فِي بَيْت أبِيهِ سَنَجِد الآتِي :
لأِنَّ الخَاتِم كَانَ يَلْبِسَهُ أبْنَاء المُلُوك لأِنَّ الَّذِي يَلْبِسَهُ دَلِيل أنَّهُ سَيَلِي الحَاكِم وَعَلاَمِة إِرْتِبَاط وَسُلْطَان فِي العُصُور الأُولَى .. وَالخَاتِم يَكُون بِهِ خِتم يُوَقَّع بِهِ الحَاكِم عَلَى كُلَّ القَرَارَات الَّتِي يَتَخِذْهَا .. وَحِينَمَا أعْطَاهُ الأب لإِبْنه هذِهِ إِشَارَة مِنْهُ أنَّ هذَا الإِبْن قَدْ صَارَ سَيِّد هذَا المَكَان .. نَحْنُ كُنَّا نَتَوَقَّع أنَّ الأب سَوْفَ يُقَابِلَهُ وَهُوَ غَاضِب وَمِتغَصَّب لِيُؤدِبُه وَيَطْلُب أنْ يَأكُل وَلكِنْ فِي مَكَانٍ بَعِيد عَنْ أبِيهِ وَلاَ يُعْطِيه أي كَرَامَة حَتَّى يُشْعِره بِحَجم خَطَئُه .
وَلكِنْ العَجِيب أنَّنَا لَمْ نَسْمَع كَلِمَة عِتَاب وَاحِدَة .. صَدَّقُونِي إِنْ تَمَلَّك عَلَيْنَا هذَا الإِحْسَاس وَقَوَى عَلَى نِفُوسْنَا مَا بَقَى فِينَا حُب لِلخَطِيَّة .. لَوْ تَأكَّدْنَا مِنْ هذَا الشُعُور القَوِي أنَّ الله يَمْلُك عَلَى قُلُوبْنَا .. أنَّ الله أب يَغْفِر لِيَّ .. أنَّ الله لَهُ أُبُّوَة حَانِيَة .. أنَّ الله يَهْتَمْ بِيَّ .. أنَّ الله يَنْتَظِر عَوْدَتِي .. أنَّ الله مُتَأنِّي عَلَيَّ .. أنَّ الله يُشْفِق عَلَيَّ .. مَا تَأخَرْت عَنْ التُوْبَة أبَداً وَلاَ تَلَذَذْت بِأي خَطِيَّة وَلاَ تَمَتَعْت بِأي خَطِيَّة بَلْ عَرَفْت إِنَّهَا عُبُودِيَّة وَأنَّهَا سَلْب وَأنَّهَا مَذَلَّة وَمَهَانَة .. الكِنِيسَة تُرِيد تَحْوِيل الأحْزَان إِلَى مَسَرَّات وَالعُبُودِيَّة إِلَى مَجْد وَالأب طَالِب مِنْ إِبْنه أمر وَاحِد وَهُوَ أنْ يَرَاه رَاجِع نَدْمَان وَيَقُول { لَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْناً . اِجْعَلْنِي كَأحَدِ أَجْرَاكَ } ( لو 15 : 19) .. يُرِيد أنْ يَرَاك وَأنْتَ عَارِف قِيمِة الحَيَاة مَعَهُ .
لأِنَّنِي قَدْ أكُون كُنْت مُشْتَاق إِلَى الخَنَازِير قَبْلَمَا أذْهَب إِلَيْهَا .. لأِنَّهُ أحْيَاناً عَدُو الخِير يُزَيِّن لَنَا الخَطِيَّة وَأنَّ فِيهَا السُرُور وَاللذَّة وَيُظْهِر العَالَم أمَام عَيْنِيَّ وَهُوَ مُتَلألِئ وَلكِنْ حِينَمَا تُجَرِّبه بِنَفْسَك تَجِد الذُّل .. لِمَاذَا ؟ لأِنَّك فَقَدْت كَرَامَتَك وَصُورَتَك الإِلَهِيَّة وَقَصْد الله مِنْ خِلْقِتَك لأِنَّهُ لاَ يُرِيد أنْ تَعِيش لِغِيره .. هُوَ غَيُور عَلَى مَجْده وَعَلَى وِلاَده .
وَأنْتَ هذِهِ الأيَّام صَائِم وَهيَ أيَّام مَلِيئَة بِالبَرَكَة لاَ تُبْقِي لِلخَطِيَّة بَقِيَّة فِي دَاخِلَك .. لاَ تَسْمَح أنْ تَكُون بَعِيد لأِنَّهُ لاَ تُوْجَدٌ لَذَّة بَعِيدَة عَنْ الله .. إِجْعَل لَذِّتَك فِيهِ وَاعْلَم أنَّ الخَطِيَّة لاَ تُشْبِع وَأنَّ الله يَنْتَظِر رُجُوعْنَا وَيَشْتَاق لَنَا .. { وَإِذْ كَانَ لَمْ يَزَلْ بَعِيداً رَآهُ أَبُوهُ فَتَحَنَّنَ } .. مِش تَحَنَّن وَأدَارَ وَجْهَهُ .. أعَرَّفه قِيمْتِي شِوَيَّة .. هذَا هُوَ كَلاَم البَشَر .. وَجَرَى عَلِيه وَلَمْ يَنْتَظِر حَتَّى يَصِل إِبْنه إِلِيه .. وَأيْضاً الله هُوَ مُنْتَظِر أنْ يَرَاك وَأنْتَ خَجْلاَن وَوَاقِف بِعِيد وَهُوَ يِسْتَقْبِلَك بِالأحْضَان ( الأُبُّوَة الدَّافِئَة ) .. كُلَّ إِنْسَان يَقْتَرِب مِنْ رَبِّنَا نَجِده فِي قِمِّة مَجْده .. القِدِيس أُوغُسْطِينُوس يِقُول { نَحْنُ كُنَّا قَبْلاً فِي ظُلْمَة وَالآن فِي نُور .. كُنَّا غِير مَرْحُومِين وَلكِنْ الآن صِرْنَا مَرْحُومِين } .. حَنَان الله غِير مَحْدُود .. غِير بَشَرِي لأِنَّ حَنَان البَشَر لَهُ مَقَايِيس مُعَيَنَة .. وَلكِنْ حَنَان الله لاَ يُوصَف وَلاَ يَتَأمَّل الآثَام .. لأِنَّهُ لَوْ تَأمَّلْنَا مَوْقِف هذَا الإِبْن بِفِكْرِنَا البَشَرِي لاَ يَكُون لِهذَا الإِبْن حَقٌّ .
وَلكِنْ جَمِيل أنْ نَتَمَتَّع بِأحْشَاء إِلهنَا لأِنَّهُ هُوَ يُرِيد أنْ يِمَتَّعْنَا بِهِ .. لاَ تَجْعَل خَجَل الخَطِيَّة يَمْنَعَك مِنْ الرِجُوع .. مَهْمَا إِفْتَقَرْت وَمَهْمَا كَانِت رَائِحَة ثِيَابَك كَرِيهَة وَمَهْمَا بِعِدْت .. الحَل لَيْسَ البَقَاء فِي البُعْد وَلكِنْ الحَل هُوَ الإِقْتِرَاب مِنْ الله .. التُوْبَة هِيَ الَّتِي تُعْطِي طَعْم لِلحَيَاة .. كُلَّ يُوْم نِتُوب وَنِرْجَع نُدْخُل فِي الحُضْن الدَّافِئ .. كُلَّ يُوْم نُعْلِنْ لَهُ { أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ } ( لو 15 : 18 ) .. مِثْلَمَا تُعَلِّمنَا الكِنِيسَة أنَّنَا كُلَّ يُوْم نَقُول { إِرْحَمْنِي يَا الله كَعَظِيم رَحْمِتَك } ( مز 50 ) .. الله أمِين فِي مَحَبِّته .. صَادِق فِي مَوَاعِيده .
هُنَاك دَائِماً فِي الكِتَاب المُقَدَّس أحْدَاث تُظْهِر مَشَاعِر الأُبُّوَة الَّتِي هِيَ مَأخُوذَة مِنْ يَنْبُوع أكْبَر هُوَ أُبُّوِة الله لَنَا :
(1) مَشَاعِر أُبُّوِة أبُونَا يَعْقُوب لإِبْنه يُوسِف :
لَمَّا جَاءَ إِخْوَة يُوسِف إِلَى أبِيهِمْ بِمَكْرٍ وَمَكِيدَة لِيَرَى أبِيهِمْ قَمِيص يُوسِف مُلَطَخ بِالدِمَاء وَكَأنَّهُمْ غِير مُتَأكِدِين وَهُوَ لَمَّا رَأى الثُوْب إِنْهَار وَيَقُول الكِتَاب { فَمَزَّقَ يَعْقُوبُ ثِيَابَهُ وَوَضَعَ مِسْحاً عَلَى حَقْوَيْهِ وَنَاحَ عَلَى ابْنِهِ أيَّاماً كَثِيرَةً . فَقَامَ جَمِيعُ بَنِيهِ وَجَمِيعُ بَنَاتِهِ لِيُعَزُّوهُ . فَأَبَى أَنْ يَتَعَزَّى وَقَالَ إِنِّي أَنْزِلُ إِلَى ابْنِي نَائِحاً إِلَى الْهَاوِيَةِ . وَبَكَى عَلَيْهِ أَبُوهُ } ( تك 37 : 34 – 35 ) .. وَهذِهِ كُلُّهَا عَلاَمَات عَلَى الحُزْن الشَدِيد وَأنَّهُ غِير مَسْمُوح بِأي تَعْزِيَة .. وَتَمَنَّى أنْ تَنْتَهِي حَيَاته لِيَتَقَابَل مَعَ إِبْنُه فِي الهَاوِيَة .. أُنْظُرُوا مَشَاعِر الأُبُّوَة .. صَدِّقُونِي مَشَاعِر لاَ تَقِل عَنْ مَشَاعِر الله لَنَا لأِنَّ الله يَفْقِدْنَا نَحْنُ بِالخَطِيَّة وَحِينَمَا نَرْجِع إِلَيْهِ سَنَرَى أعْظَم مِنْ هذَا لأِنَّ أُبُّوِة يَعْقُوب هِيَ مِنْ يَنْبُوع مَشَاعِر الله .. { الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّموَاتِ وَعَلَى الأرْضِ } ( أف 3 : 15 ) .. تَخَيَّل لَوْ تَسَبَّبْت أنْتَ فِي حُزْن رَبِّنَا يَسُوع .. وَتَخَيَّل أيْضاً حِينَمَا جَاءَ إِخْوَة يُوسِف إِلَى أبِيهِمْ وَقَالُوا لَهُ أنَّ يُوسِف حَيٌّ وَكَانَ رَجُل شِيخ يَقُول الكِتَاب { فَعَاشَتْ رُوحُ يَعْقُوبَ أَبِيهِمْ . فَقَالَ إِسْرَائِيلُ كَفَى . يُوسُفُ ابْنِي حَيٌّ بَعْدُ . أَذْهَبُ وَأَرَاهُ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ } ( تك 45 : 27 – 28 ) .
يَعْقُوب يُرِيد أنْ يَذْهَب وَيَرَاه لَيْسَ مِنْ أجْل الطَّعَام هذَا الأمر إِهْتَمُّوا بِه أنْتُمْ وَلكِنْ مِنْ أجْل أنْ أرَاه .. مَعَ أنَّهُ مِنْ الوَاجِب يَأتِي يُوسِف إِلَى أبِيهِ وَلَيْسَ العَكْس لأِنَّهُ أيْضاً بِالتَأكِيد يُوسِف مُشْتَاق أنْ يَرَى أبِيهِ .. هذِهِ هِيَ الأُبُّوَة .. ثُمَّ يَقُول الكِتَاب { وَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ وَقَعَ عَلَى عُنُقِهِ وَبَكَى عَلَى عُنُقِهِ زَمَاناً .فَقَالَ إِسْرَائِيلُ لِيُوسُفَ أَمُوتُ الآنَ بَعْدَمَا رَأَيْتُ وَجْهَكَ أَنَّكَ حَيٌّ بَعْدُ } ( تك 46 : 29 – 30 ) .. أُنْظُرُوا إِلَى أُبُّوِة يَعْقُوب لِيُوسِف .. أُرِيد أنْ أُذَكِّرَك بِهَا وَأُعَمِّق الإِحْسَاس بَيْنَك وَبَيْنَ رَبِّنَا .
قِدِيس مِنْ القِدِّيسِين رَبَطْ بَيْنَ الأمْرِين بَيْنَ أُبُّوِة وَبُنُّوِة يَعْقُوب وَيُوسِف وَأُبُّوِة وَبُنُّوِة الله لِيَّ وَقَالَ { لِيُقَبِلَك ضَمِيرِي كَمَا قَبَّل يَعْقُوب حَبِيبه يُوسِف } .. وَكَأنَّنِي فِيمَا أبْتَعِد عَنْكَ أشْعُر بِابْتِعَاد يُوسِف عَنْ يَعْقُوب وَحِينَمَا أقْتَرِب مِنْكَ أشْعُر بِقُرْب يُوسِف مِنْ أبِيهِ يَعْقُوب .. إِشْتِيَاق مَا بَعْده إِشْتِيَاق .. الله يُرِيد هذِهِ المَشَاعِر .. أنْتَ إِبْنِي مَهْمَا نَجَح العَدُو فِي إِبْعَادَك لكِنْ لاَ يُفْقِدَك كَرَامَتَك وَرُتْبَتَك ..كُلَّ مَا سُلِبَ مِنْكَ يُمْكِنْ أنْ يُسْتِرَد بَلْ وَأكْثَر .. المَجْد الَّذِي أخَذَهُ الإِبْن حِينَمَا رَجَعْ لَمْ يَأخُذه مِنْ قَبْل .. فَرَح شِدِيد بِسَبَب رُجُوعه .. { فَقَالَ إِسْرَائِيلُ لِيُوسُفَ أَمُوتُ الآنَ بَعْدَمَا رَأَيْتُ وَجْهَكَ أنَّكَ حَيٌّ بَعْدُ } ( تك 46 : 30 ) .. وَكَأنَّ الله يُرِيد أنْ يَقُول أنَّ غَايَتِي هِيَ إِنْتَ .. إِنْتَ فَرَحِي وَمَوْضِع سُرُورِي .. أتُرِيد أنْ تُفَرِّحَنِي تَعَالَ لاَ تَجْلِس مَعَ نَفْسَك تَحْسِب حِسَابَات كَثِيرَة مِنْ أجْل القُبُول وَكَثْرِة الخَطَايَا .. هذِهِ مَشَاعِر مُعَطِّلَة وَبَاطِلَة تَأخُذ مِنْ القَلْب أغْلَى وَأجْمَل مَشَاعِر إِنْتَ مِحْتَاجْهَا وَهيَ أنَّ الله بِيَقْبَلَك وَإِنْ رَبِّنَا بِيْحِبَّك .. إِذَا كَانْ يَعْقُوب إِسْتَقْبِل يُوسِف هكَذَا فَكَمْ بِالحَرِي سَيَكُون إِسْتِقْبَال الله لَنَا بَعْد زَيَغَانَنَا وَنَحْنُ نَقُول لَهُ أنَّ رَأفَتَك كَثِيرَة لاَ تُوصَف .. وَإِذَا كَانَ البَشَر يُحِبُّوا هكَذَا فَمَا بَالَك الله ؟!!!
(2) مَحَبِّة دَاوُد لإِبْنه أبْشَالُوم :
دَاوُد كَانَ لَهُ إِبْن إِسْمه أبْشَالُوم مِنْ يُوْم مِيلاَدُه عَاصِي .. دَمَوِي .. عَنِيف .. صَنَع حِيَل شَيْطَانِيَّة لِيَأخُذ المُلْك مِنْ أبِيهِ .. وبَدَأ يَسْمَع مِنْ الشَّعْب وَيَحِل مُشْكِلاَتِهِمْ وَكَوَّن جَبْهَة وَمُؤَامَرَة ضِد أبِيهِ .. وَأحَس دَاوُد أنَّ وُجُوده فِي المَمْلَكَة عِبْئَاً وَاضْطَّرَ أنْ يَهْرَب فَأرْسَل أبْشَالُوم لِيَقْتُل أبِيهِ .. وَمَشُورِة أخِيتُوفَل الَّتِي بَدَّدَهَا الله بِمَشُورِة حُوشَايَ الأرْكِيَّ وَلَوْ نُفِّذَت هذِهِ المَشُورَة لَكَانَ قُتِلَ دَاوُد .. وَلَمَّا هَرَب دَاوُد كَانِت مِنْ ضِمْن أخْطَاء أبْشَالُوم الجَسِيمَة أنَّهُ إِضْطَجَع مَعَ سَرَارِي أبِيه الَّلَوَاتِي هُنَّ فِي مَقَام أُمَهَات لأبْشَالُوم .
وَحِينَمَا قَدَرَ رَجَال دَاوُد أنْ يَدْخُلُوا فِي حَرْب ضِدْ أبْشَالُوم وَهُمْ خَارِجِين قَالَ لَهُمْ دَاوُد بِدَافِع مِنْ أُبُّوِته وَلَيْسَ كَمَلِك فِي حَرْب { تَرَفَّقُوا لِي بِالفَتَى أَبْشَالُومَ } ( 2صم 18 : 5 ) .. لاَ تَقْسُوا عَلِيه رَغْم شُرُوره .. لأِنَّهُ أب أُرِيد أنْ أُوَدِّبه وَلَيْسَ أنْ أقْتِله { تَأدِيباً أدَّبَنِي الرَّبُّ ، وَإِلَى الْمَوْتِ لَمْ يُسَلِمَنِي } ( مز 117 – مِنْ مَزَامِير الغُرُوب ) .. وَأثْنَاء مُطَارَدِتهُمْ لأَبْشَالُوم تَعَلَّق شَعْره فِي شَجَرَة فَمَات فَاعْتَقَدْ رِجَال دَاوُد أنَّهُمْ جَاءُوا بِخَبَرٍ مُفْرِح لِدَاوُد لأِنَّهُ سَيَعُود لِمَمْلَكَته مَرَّة أُخْرَى .. وَلَمَّا عَادَ كُوشِي لِيُخْبِر المَلِك فَسَأل المَلِك عَنْ إِبْنه مَرَّتَان { أَسَلاَمٌ لِلْفَتَى أَبْشَالُومَ } ( 2صم 18 : 29 ، 32 ) .. وَلكِنْ لَمَّا عَرَف مَا أصَاب أبْشَالُوم إِنْزَعَج { فَانْزَعَجَ الْمَلِكُ وَصَعِدَ إِلَى عِلِّيَّةِ الْبَابِ وَكَانَ يَبْكِي وَيَقُولُ هكَذَا وَهُوَ يَتَمَشَّى يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ يَا لَيْتَنِي مُتُّ عِوَضاً عَنْكَ يَا أَبْشَالُومُ ابْنِي يَا ابْنِي } ( 2صم 18 : 33 ) .. هَلْ كَانَ يَسْتَحِق كُلَّ هذَا ؟ وَهُوَ إِنْسَان دَمَوِي وَعَنِيف وَقَاتِل لأِخِيهِ وَحَاوَل يَقْتِل أبِيهِ وَأبُوه رَغْم كُلَّ هذَا يُرِيد أنْ يَمُوت عِوَضاً عَنْهُ .
وَذلِك لأِنَّ الله يَنْظُر إِلَى خَطَايَانَا عَلَى أنَّهَا جَهْل .. لاَ تَجْعَل خَطَايَاك تَعُوقَك عَنْ الرُجُوع إِلَى الله لأِنَّهُ يَعْرِف أنَّهَا حَمَاقَة لأِنَّنَا فِي نَظَر الله أطْفَال وَالله يَغْفِر الجَهْل .. تَخَيَّل لَوْ أنَّ هذَا قَلْب دَاوُد نَحْو أبْشَالُوم فَمَا بَالَك قَلْب الله نَحْوِنَا ؟!!! مَهْمَا تَفَاقَمَت وَتَعَاظَمَت خَطَايَانَا جِدّاً فَهُوَ يَغْفِر .. دَاوُد كَانَ يَتَمَنَّى لَوْ أنَّهُ مَاتَ عِوَضاً عَنْ إِبْنه وَلكِنْ الله مَاتَ بِالفِعْل عَنَّا رَغْم أنَّ تَعَدِّيَاتنَا لاَ تَقِل عَنْ تَعَدِّيَات أبْشَالُوم .. وَمِنْ جِهَة أنَّ الله وَإِبْنه يَسُوع الْمَسِيح يَبْقَى أمِيناً مَعَنَا حَتَّى وَإِنْ كُنَّا تَعَدَّيْنَا عَلَيْهِ كَأبْشَالُوم عَلَى أبِيهِ دَاوُد إِلاَّ أنَّ الله يَبْقَى أمِين لَنَا .. وَلَوْ شَفْنَا فِي حُزْن أوْ ضِيق يَبْكِي عَلَيْنَا .. وَلَوْ شَفْنَا فِي مَرَارَة أوْ جُوع يَهُمْ لِكَي مَا يَنْتَشِلْنَا مِنْ هذِهِ الحِرْمَانَات .
مُعَلِّمنَا بُطْرُس يَقُول { ..... الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأثَمَةِ } ( 1بط 3 : 18) .. { .... الَّذِي يُبَرِّرُ الْفَاجِرَ } ( رو 4 : 5 ) .. أُنْظُر كَمْ أنَّ هذِهِ الكَلِمَة كَبِيرَة وَتُعَبِّر عَنْ كَمْ هَائِل مِنْ الخَطَايَا .. لَكِنْ الله رَاجِع لِيُعَوِض كُلَّ هذَا لأِنَّ قُوَّة الله غَنِيَّة جِدّاً .. حِينَمَا كَانَ بَنُو إِسْرَائِيل فِي عُبُودِيِّة فَرْعُون قَالَ الله { يَقُولُ الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ أَطْلِقْ شَعْبِي لِيُعَيِّدُوا لِي فِي الْبَرِّيَّةِ } ( خر 5 : 1 ) .. نَعَمْ هُمَّ أوْلاَدِي .. الله يَتَعَامَل مَعَنَا كَأوْلاَد حَتَّى وَإِنْ كُنَّا فِي سُلْطَان فِرْعُون ( الشَّيْطَان ) ..{ فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ } ( أش 63 : 9 ) .. لِذلِك صُلِبَ لِيَفُكَك مِنْ السُّلْطَان .. لِمَاذَا تَقِف بَعِيد تَعَالَ إِتْمَتَّع بِهذِهِ الأُبُّوَة .. { إِقْتَرِب مِنِّي لِكَي تَتَبَرَّر مِنْ خَطَايَاك } ( قِسْمَة " أيُّهَا الكَائِن الَّذِي كَانَ " ) .. أنَا أُرِيد أنْ أقْبَلَك وَآخُذَك فِي حُضْنِي .. مَا أبْشَع الخَطِيَّة الَّتِي تَحْرِم الإِنْسَان مِنْ مَشَاعِر الأُبُّوَة وَتَجْعَلَهُ يُحِب نِير العُبُودِيَّة وَيَسْتَغْنَى عَنْ قُبُلاَت الأب .. الله يُرِيد أنْ يُجَدِّد قُوَى نَفْسَك الَّتِي إِنْهَارَت بِالخَطِيَّة .. يُرْجِع لَكَ الكَرَامَة وَيَشْفِي كُلَّ أثَرْ لِلخَطِيَّة وَيُعْطِيك الحُلَّة الأُولَى .
فِي البُيُوت قَدِيماً خَاصَّةً بُيُوت الأغْنِيَاء كَانَ لِصَاحِب البَيْت حُلَّة وَاحِدَة وَإِنْ كَانَ لَهُ أوْلاَد شَبَاب يِسْتِعِرُوهَا مِنَّه فِي حَالِة حُضُور أحَدٌ مِنْهُمْ لِمُنَاسَبَةٍ مَا .. وَحِينَمَا يَلْبِس أحَدَهُمْ الحُلَّة الأُولَى الَّتِي لأِبِيهِمْ يَصِير لاَبِسْهَا هُوَ صَاحِب البَيْت .. إِذنْ هُوَ آخِذ الخَاتِم وَالحُلَّة .. مَا أجْمَل التُوْبَة الَّتِي تَرُد لِلإِنْسَان أكْثَر مِمَّا كَانَ عِنْدُه .. مَا أجْمَل التُوْبَة الَّتِي تَجْعَلْنَا نَذُوق كَرَامِة التُوْبَة وَمَجْدَهَا .
وَالَّذِينَ ألْبَسُوا الإِبْن الشَّاطِر الحُلَّة الأُولَى هُمْ الخُدَّام ( الكَهَنَة ) وَإِنْ كَانَ فِي هذَا البَيْت حُلَّة وَاحِدَة وَلكِنْ فِي الكِنِيسَة هِيَ بَيْت الحُلَل الجَدِيدَة .. كُلَّ وَاحِد مِنَّا دَاخِل لِلصَّلاَة فِي الكِنِيسَة اليَوْم نُلْبِسه الحُلَّة الأُولَى .. إِنْسَى الخَطِيَّة وَالخَنَازِير وَالثِيَاب ذَاتَ الرَّائِحَة الكَرِيهَة وَالْبِس بَدَل مِنْهَا المَعْمُودِيَّة وَيُذْبَح لَكَ العِجْل المُسَمَّنَ ( التَنَاوُل ) .. لأِنَّ الحُلَّة الأُولَى هِيَ ثِيَاب العُرْس .. هِيَ نَفْسَهَا المَعْمُودِيَّة وَبِالتُوْبَة المُسْتَمِرَّة تَلْبِسْهَا مَرَّة أُخْرَى .
وَأخِيراً جَاءَ الإِبْن الأكْبَر وَلَمَّا عَرَف أنَّ أخِيهِ قَدْ رَجَعْ كَانَ عَلَيْهِ أنْ يَفْرَح وَلكِنْ حَدَث العَكْس .. وَلَمَّا عَرَف الأب خَرَج لَهُ هُوَ الآخَر ( أُبُّوَة ) .. لَمْ يَكْتَفِي بِالصَغِير وَظَلَّ يُقْنِع الكَبِير أنَّ كُلَّ مَا هُوَ لِي هُوَ لَكَ .. لِمَاذَا تَسْتَقِل بِنَفْسَك ؟ لِمَاذَا هذِهِ الحِسَابَات ؟ وَيُذَكِّرُه بِالمَشَاعِر وَأنَّهُ كَانَ مَيِّت فَعَاش وَأنَّنَا وَجَدْنَاهُ مِنْ عَدَم .
هذَا الأخ الأكْبَر يُمَثِّل ( كَنِيسَة اليَهُود ) وَالصَّغِير هُوَ ( كَنِيسَة الأُمَم ) .. أوِّل لَمَّا كِنِيسِة اليَهُود ( الأخ الكِبِير ) الَّلِي مُتَمَتِّع بِحُضْن رَبِّنَا مِنْ يُوْمه أوِّل لَمَّا لِقِي كَنِيسَة الأُمَم إِبْتَدِيت تُدْخُل إِبْتَدَى يِغِير .. قَالَّك .. لأ .. يَا انَا يَا هُوَ .. دَه الَّلِي عَمْلاَه لِغَايِة النَّهَارْدَه كَنِيسَة اليَهُود رَفْضَه كَنِيسَة الأُمَم .. أخُوك كَانْ مَيِّت وَعَاش .. إِحْنَا فَرْحَانِين بِه .. دِي نَاس قِبْلِت الإِيمَان لاَزِم نِفْرَح بِهَا .. وَإِنْتَ كَمَان لاَزِم تُدْخُل وَتِفْرَح مَعَانَا .. هُوَ دَه الَّلِي هَا يِعْمِلُه رَبِّنَا فِي نِهَايِة الأزْمِنَة هَا يخَلِّيهُمْ يُدْخُلُوا عَشَان كُلِّنَا نِكُون فِي وَلِيمَة وَاحِدَة . { لأِنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ } ( أف 2 : 18 ) .
رَبِّنَا يِكَمِّل نَقَائِصْنَا وَيِسْنِد كُلَّ ضَعْف فِينَا بِنِعْمِته
وَلإِلهنَا المَجْد دَائِماً أبَدِيّاً آمِين