
ثم دعا الجمع وقال لهم: "اسمعوا وافهموا. ليس ما يدخل الفم ينخس الإنسان، بل ما يخرج
من الفم هذا ينجس الإنسان"،. حينئذ تقدم تلاميذه وقالوا له: "أتعلم أن الفريسين لما سمعوا القول نفروا؟ " فأجاب وقال: "كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع. اتركوهم. هم عميان قادة عميان. وإن كان أعمى يقود أعمى يسقطان كلاهما في حفرة". فأجاب بطرس وقال له: "فسر لنا هذا المثل". فقال يسوع: "هل أنتم أيضا حتى الآن غير فاهمين؟ ألا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم يمضي إلى الجوف ويندفع إلى المخرج؟ وأما ما يخرج من الفم فمن القلب يصدر، وذاك ينجس الإنسان، لأن من القلب تخرج أفكار شريرة: قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف. هذه هي التي تنجس الإنسان. وأما الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجس الإنسان".
اختار الآباء معلمو الكنيسة هذا الفصل من الإنجيل ليقرأ فى عشية الأحد الثالث تمهيداً لإنجيل القداس.. فقد بكَّت الرب الكتبة والفريسين الذين داسوا الوصية "أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ" (مت 15 : 4). وأبطلوها بفتوى أنه ممكن للإنسان أن يتبرع بقيمة ما يعطيه لأبيه يتبرع به للهيكل ويتحلل من أن يعول أبيه وأمه أو يكرمهما.
وهكذا أعاد الرب – واضع الوصية - هيبتها ومفعولها الذى يجب أن يكون لها ككلمة الله. والواقع أن رباط البنوة والأبوة هو غاية قصد المسيح، فإما طاعة وخضوع للأب أو خروج عن الطاعة. على أن فهم هذه العلاقة فهماً صحيحاً والدخول إلى سرها تتوقف عليه الحياة كلها. فكل منا ابن لأبيه وقد مارسنا حياة البنوة وعشناها والذين صاروا أباء لأبناء أدركوا ما هى الأبوة. فمن جهة البنوة فكل إنسان مارسها نحو أبيه فيعرف ما عليه كإبن وكيف يرضى الأب.
والعجيب جداً أن هذا الرباط لا يمكن وصفه بالكلام ولا باللسان. هل يستطيع أحد أن يعبر عما فى قلبه نحو أبيه أو يصف ما يربطه مع أبيه من مشاعر؟ يستحيل لأن الشعور الحقيقى للإبن أن أباه هو مصدر حياته، لقد أخذ حياته ووجوده فى العالم من أبيه، فهو الأصل.
كلمة أب كلمة سريانية معناها أصل. فالإبن مرتبط بأبيه برباط حياة.. حياة من حياة.
فهى ليست علاقة رئيس بمرؤوس، أوسيد وعبد، أو مدير وموظف، إنها صلة أب بإبن. لذلك ما يعمله الإبن الحكيم الخاضع لأبيه لا يعمله حباً فى أجر، حاشا، فالإبن يعمل مسرة أبيه ولا يطمع فى أجر أو ثواب لأن كل ما للأب له.. إنه إبنه. ولا يعمل إرادة أبيه خوفاً من عقاب.. فهذا شأن العبيد بل كل مسرة الإبن تكمن فى تكميل مشيئة أبيه وحفظ كلامه.. لا توجد راحة للإبن الفطِن إذا كسر كلمة أبيه أو خالف وصيته.. نفسه تصير فى حزن لا ترتاح حتى يكمل مشيئة أبيه.
"أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ»، الَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ" (أف 6 : 2). هكذا يطلب منا الرب نحو أباء أجسادنا.. فكم بالحرى أبوكم الذى فى السموات. لقد قالها الرب فى القديم: "إِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا... فَأَيْنَ هَيْبَتِي" (ملاخى 1 : 6)
وصايا الآب ليست ثقيلة
الأباء الخُطاة يعرفون أن يعطوا أولادهم عطايا جيدة.. فكم بالحرى الآب السماوى. لا يوجد أب فى الوجود يوصى أولاده وصايا تضر بمصلحتهم.. أو تؤذيهم أو تكون ثقيلة عليهم. إن كل وصايا الإنجيل.. هى كلمات الأب لأبنائه.. تحوى كل الحب وكل النصح للحياة.. كلها فى مصلحتنا وكلها لراحتنا وحفظنا.
لا توجد وصية ثقيلة.. وصاياه ليست ثقيلة.. نير المسيح هيّن. هلم نأخذ الإنجيل بفهم.. إنه كلام الأب لإبنه.. من يرفض كلمة أبيه ووصاياه ويترك بيته لا يجنى سوى التعب والهم والضياع.. وحتى خرنوب الخنازير لا يجده.
اكرم أباك بحفظ وصاياه. اكرم الرب من كل قلبك لأنه يعرف مكنونات قلبك
+ لا حياة ولا راحة ولا سلام لك بعيدأ عن حضن أبيك ولا شبع لنفسك بعيداً عن مائدة غنى المسيح.
+ الرجوع والتوبة معناها أن الإنسان عاد إلى طاعة أبيه بعد زمن جهالة وعصيان.. وعرف أن وصايا أبيه ليس كما ظن أنها قيود وعبودية.
+ إن عقوبة عدم إكرام الأب كانت الموت بدون رحمة "مَنْ شَتَمَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يُقْتَلُ قَتْلاً" (خر 21 : 17). كانت ترجمه كل الجماعة إن كان إبناً معتنفاً لا يكرم أباه. فماذا نقول عن من يهين الآب السماوى ولا يكرمه فى حياته، بل يكسر وصاياه ويستهين بحبه ولا يعمل له حساباً فى حياته؟ ترى ماذا يكون لمن يحتقر حب الآب السماوى ويخرج على طاعته ويطلب أن يحيا لذاته فى كورة بعيدة.. وتحلو له حياة الخطايا..
+ وماذا نقول عن الذين يكرمونه بشفتيه كقول اشعياء وقلبهم مبتعد عنه بعيداً.
+ وماذا عن الذين يحفظون كلام الناس ويعملون حساب للناس ولكنهم داسوا وصاياه.. ولكن على كل حال قلب الآب نحونا وحنانه الإلهى يغلب تجبرنا ويجذبنا من كل الكورة البعيدة. هو ينظر وينتظر رجوعنا، ففرحه برجوعنا لا يوصف.. عيناه ترقبان خطانا ونحن نقترب إليه.. وينتظر اللحظة التى فيها سيركض لاستقبالنا ويضمنا مرة أخرى إلى صدره ليشفى ارتدادنا.. ويخلع عنا ثوب نجاساتنا ليلبسنا الحلة الأولى.. فهل نرجع إليه؟
"لَيْسَ مَا يَدْخُلُ الْفَمَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ" (مت 15 : 11).
كثيراً ما يقول البعض كلمة المسيح هذه عن الصوم ولكن لم يكن حديث الرب عن الصوم بل عن الأكل بأيدى غير مغسولة. وكان الفريسيون يعترضون أن تلاميذ الرب يأكلون دون أن يغسلوا أيديهم وهم بذلك يكسرون تقليد الشيوخ. فغار الكتبة والفريسيون على كسر تقليد الشيوخ بينما أصابتهم البلادة حينما كسرت وصايا الله.
وهذا ما نفعله كثيراً حينما نغار على أشياء كثيرة أصبحت ذات اهتمام كبير فى حياتنا.. بينما لا نتحرك ساكناً حينما نكسر وصايا المسيح أو نتهاون.. لا نغار على الفضيلة بقدر غيرتنا على بعض عاداتنا أو تقاليدنا أو العرف السائد بين الناس. لتكن وصية المسيح هى الشغل الشاغل، وهى تأتى دائما قبل كل شئ وأول الأهتمامات..
ولكن حين تحيَّز الكتبة والفريسيون وتغصبوا للتقاليد التافهة أكثر مما انحازوا لوصايا الله أصابهم عمى القلب وفقدوا التمييز.. لذلك قال الرب عنهم "هُمْ عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانٍ" (مت 15 : 14). لقد أغمضوا عيونهم عن الحق وقادوا الناس بعيداً جداً حتى أسقطوهم فى حفرة الهلاك.
(عن كتاب: تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد)
المتنيح القمص لوقا سيداروس
(عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")