الحياة الأبدية

03 سبتمبر 2024
Large image

”وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي، آمين“(قانون الإيمان)
هل الأبدية ”زمن لا ينتهي“؟
إن ”الأبدية“ تفوق الزمن، إنها دائمة، بلا بداية ولا نهاية، إنها بلا توقُّف، غير متناهية الأبدية هي استمرار، دوام بلا بداية ولا نهاية أبدية الله هي عدم محدودية الله من جهة علاقته بالزمن ولكن الله الذي بلا بداية صنع ”بداية“ للخليقة الله هو «الآن وإلى كل الدهور» (يهوذا 25)، وحكمة الله كانت ”قبل الدهور“ (1كو 2: 7) الله ممجَّدٌ فوق كل حدود الزمن («قبل إنشاء العالم» - يو 17: 24؛ «قبل تأسيس العالم» - أف 1: 4؛ «قبل الأزمنة الأزلية» - 2تي 1: 9) الله يعلو فوق التوقيت الزمني، وحياته هي حاضر لا يتجزَّأ وغير قابل للانقسام الله يعرف كل الأحداث في فعل واحد من الإدراك، بعكس أنماط المعرفة المحدودة التي للمخلوقات الخاضعة للزمن. ومعرفة الله بكل شيء تحتوي كل الزمن كأنها كلٌّ واحد، ولذلك قال القديس بطرس كلماته المعروفة: «... أنَّ يوماً واحداً عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيومٍ واحد» (2بط 3: 8). وطريقة الله في معرفة الزمن كأنه حادث في وقت واحد، بدون الانغلاق الذي في الذهن البشري الذي يرى تعاقُب اللحظات من ماضٍ إلى حاضر إلى مستقبل وبعكس البشر الذين يعيشون للموت، والخاضعين للزمن، الله وحده ”الرب الإله السرمدي“ (تك 21: 33). ودوام الله يوصف بأنه «ليس عنده تغيير ولا ظل دوران» (يع 1: 17)، فدوام الله هو عدم تغيُّره، لكنه سريع الاستجابة بأمانة للبشر العائشين في إطار الزمن حسب عهده الذي يقطعه مع شعبه. فالله يعمل في الزمن الزمن يختص بالخلائق، باعتبارها متميِّزة عن جوهر الله. ومع خلقة العالم خلق الله الزمن. قبل الزمن لم يكن سوى الله كما يتأمل القديس أُغسطينوس: [لم يكن زمن، وذلك لأنك لم تكن قد خلقتَ أي شيء، ولأنك لم تكن قد خلقتَ الزمن نفسه] الأبدية ليست مجرَّد لازمن، ولا هي زمن لا ينتهي، هي زمن الله. حياة الله ليست فقط غير زمنية، بل هي اختراق الله للزمن، وهي منشغلة دائماً بالتدفُّق الرائع للزمن. أما بالنسبة للكائنات البشرية، فالعكس صحيح، فالبشر يختبرون الزمن على أنه زائل، أما الله فهو يعمل في الزمن (اقرأ مزمور 90 الذي يبدأ هكذا: «يا ربُّ ملجأً كنتَ لنا في دور فدور. من قبل أن تولَد الجبال أو أَبْدَأتَ الأرض والمسكونة، منذ الأزل إلى الأبد أنت الله»). الأبدية بدأت من هنا على الأرض بقيامة المسيح من بين الأموات: «لأن الذين استُنيروا مرة (تعمَّدوا)، وذاقوا الموهبة السماوية (التناول من جسد الرب ودمه)، وصاروا شركاء الروح القدس (مسحة الروح القدس)، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي...» (عب 6: 5،4) وهكذا نحن ننتظر ”حياة الدهر الآتي“ التي لها بداية، ولكن ليس لها نهاية، كما يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي [الله كان، وهو دائماً يكون، ودائماً سيكون، أو بالحري الله كائن دائماً أبداً. لأن ”كان“ و”سيكون“ تُعبِّران عن الأجزاء التي تخص زماننا. فالزمن عندنا يُقاسُ بالشمس، أما الأبدية فتُقاسُ بالأبدي].
الحالة النهائية للأبرار
مصير الأبرار هو الحياة الأبدية في الله ومعه دائماً وإلى الأبد، بلا خطية ولا موت، وبالقدرة على التمتُّع بمجد الله. والاسم الذي ذكرته الأسفار المقدسة عن الحالة النهائية الأخيرة للمبارَكين والمُطوَّبين هي الحياة الأبدية.
الحياة الأبدية:
مصير الأبرار هو: ”الحياة“، وأحياناً يُسمَّى ”الحياة الأبدية“ كما في المواضع الآتية، حيث تتبادَل كلمة ”الحياة“ مع ”الحياة الأبدية“ (1تي 6: 19؛ مت 18: 8؛ وفي آية واحدة استُخدمت الكلمتان – يو 5: 24). فالله الحي يجعل هذه الحياة الجديدة بلا نهاية، وتجديدنا لهذه الحياة الأبدية بدأ في معموديتنا. وهذه الحياة الأبدية تُكمِّل عمل النعمة الذي بدأ معنا في هذه الحياة الحاضرة. وكما يقول القديس هيلاريون أسقف بواتييه، فإنَّ جذور وثمار توبتنا عن الخطية سيُحقِّق قصد الله من الخليقة، والتجسُّد، والفداء، وتكميل خطة الله لحياتنا الأبدية.

الحياة الأبدية في حياتنا الحاضرة:
إن مفتاح الدخول في الحياة الأبدية مع الله هو ”الحياة“ التي أرسلها لنا الله في ابنه، والتي نتمتع بها في الكنيسة من خلال الأسرار حسب قول يوحنا الرسول: «أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهَر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أُظهِر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو» (1يو 3: 2). وكلمة ”مثله“ تعني أن رؤيتنا للمسيح في مجيئه الثاني كما هو قائماً من بين الأموات وحيّاً إلى الأبد، ستنطبع علينا فنصير قائمين للحياة الأبدية وحقيقة تمتُّعنا منذ الآن بهذه الحياة هو حسب الوعد: «الذي يؤمن بالابن له حياة أبدية» (يو 3: 36)، وأيضاً: «الله أعطانا حياة أبدية، وهذه الحياة هي في ابنه. مَن له الابن فله الحياة» (1يو 5: 12،11). واختبار هذه الحياة يختبرها المؤمن بكل المقاييس بالإيمان ومن خلال الرجاء وفي المحبة فإن كانت مواهب النعمة مثل الفرح الروحي الذي نناله في هذه الحياة هي عربون وبكور ثمار الروح القدس، فإنَّ الحصاد الكامل سوف نجنيه بالكامل وبوفرة في الأبدية، كما يُعبِّر عن هذا الاختبار القديس بولس: «نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئنُّ في أنفسنا، متوقِّعين التبنِّي فداء أجسادنا» (رو 8: 23)، وأيضاً: «إذ آمنتم، خُتمتُم بروح الموعد القدوس، الذي هو عربـون ميراثنـا، لفداء المُقْتَنَى لمدح مجده» (أف 1: 14،13).
مساكن الأبرار
في الكتاب المقدَّس يُطلَق اسم ”السماء“ و”السموات“ على مساكن الأبرار في الحياة الآتية هناك حيث يرى القدِّيسون الله. وكلمة ”السماء“ من فعل ”يسمو“ أي ”يرتفع“ عن الأرض التي هي مسكن الخلائق والبشر الذين يموتون. أما الله فلا يَسَعه مكان، لكنه أسمى من أيِّ مكان، فهو في كل مكان. لكن المقصود بالسماء الحالة الأسمى التي تفوق حالة عالمنا الأرضي من جهة محدودية المكان والزمان والجسد والحياة. فالسماء هي ما يسمو ويعلو ويستعصي على حواسنا ومحدودية أفكارنا الآن نحن العائشين في هذا الجسد الترابي. فمساكن الأبرار هي الحالة التي سيتجلُّون فيها، فيستطيعوا أن يروا الله والأمجاد الإلهية التي الآن «ما لم تـَرَ عين، ولم تسمع أُذن، ولم يخطر على بـال إنسان» (1كو 2: 9). وهو يقصد العين والأُذن والبال أو الفكر الذي في الكيان الجسدي الحالي. فـ ”ملكوت الله“ هو الذي سيراه ويسمعه ويخطر على قلب الأبرار الذين سيُوهبون جسد القيامة المُمجَّد الذي يمكنه أن يرى ويسمع ويخطر على فكره وقلبه الحياة العُليا الفائقة على حواس هذا الجسد الذي نلبسه الآن ففي الإيمان المسيحي، السماء هي كِلا المكان والحالة التي فيها يذوق الإنسان البار الراحة الأبدية والفرح الدائم في الرب. وهي التي يُعبِّر عنها القديس بولس: «نكون كل حين مع الرب» (1تس 4: 17)، «أكون مع المسيح» (في 1: 23)، «نتغرَّب عن الجسد ونستوطن عند الرب» (2كو 5: 8). فالسماء هي حيث يرى الأبرار المطوَّبون وبرؤيا جليَّة، يرون الله بانعكاس نور مجده عليهم، ويتمتعون ببركات هذا المجد الإلهي (مت 5: 12؛ 6: 20؛ لو 6: 23؛ 1بط 1: 4). إنها حياة السمو الأعلى عن الحياة الأرضية التي نعيشها الآن، الفائقة جداً حيث حضرة الله السماء هي موضع وحالة المجد والفرح والسلام ما لا يمكن النُّطق به. وعلاماته الجليَّة: النشوة الروحية، القداسة، النور البهي، رؤيا الله، السعادة الفائقة على سعادة الجسد، حضور الرب يسوع المسيح، وكما يصف ذلك سفر الرؤيا: «الذين أسماؤهم مكتوبة في سِفْر الحياة» (رؤ 17: 8). إنهم «أرواح أبرار مُكمَّلين» (عب 12: 23). وباختصار، فالسماء هي الحياة التي أرادها الله الآب لنا، أولاً في خلقته الأولى، حيث نعيشها في الابن، ونُكمِّلها بالروح القدس. والسماء هي المشاركة الكاملة في صلاح الله وطوبانيته والتي لا تنتهي، وكل هذا بسبب الاتحاد بالله.
رؤيا الله:
هكذا قيل عن المؤمنين حينما يبلغون حياة الدهر الآتي: «وهم سينظرون وجهه» (رؤ 22: 4)، وأيضاً: «... ولكن حينئذ (سننظره) وجهاً لوجه» (1كو 13: 12). والقديس يوحنا يقول: «نكون مثله، لأننا سنراه كما هو» (1يو 3: 3) كل هذه التصريحات مبنية على تعليم المسيح نفسه لتلاميذه، ما هو مسجَّل في أسفار العهد الجديد وما سمعه التلاميذ من المسيح نفسه: «طوبى للأنقياء القلب لأنهم يُعاينون الله» (مت 5: 8). والمسيح صلَّى للآب لكي يرى المؤمنون مجده: «أيها الآب أُريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (يو 17: 24). وهذا ما يعمله الملائكة دائماً، الذين قال عنهم المسيح عند حديثه عن الصغار: «إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات» (مت 18: 10) إن رؤيا الله في حدِّ ذاتها تبعث السعادة والطوبانية في النفس. وكما يقول القديس كليمندس الإسكندري: [إن التطويب الأساسي للمطوَّبين هو رؤيا الله، والتحديق الكامل في صفاته] وتقول القديسة ماكرينا للقديس غريغوريوس النيصي شقيقها الأصغر بأن المطوَّبين سوف يصيرون مثل الله على قدر ما يُحدِّقون في طوبانية الله: [النفس وهي في حالة الطهارة تبلغ إلى شَبَهه (غاية خلقة الله للإنسان على صورته - تك 1: 27)، وهي تُعانقه كمَن يُعانق نفسه]. والنفس سوف [تعرف نفسها على نحو دقيق وحقيقة طبيعتها، وسوف تنظر الطوبانية الأصلية التي انعكست كما في مرآة على طوباويتها هي].
المدينة المنيرة:
«يُضيء الرب بوجهه عليك» (عد 6: 25؛ مز 67: 1). يُشبَّه الموضع والحالة التي سيكون عليها الأبرار كأنها مدينة متميِّزة يُنيرها المجد الإلهي الذي سيجعل رؤيا الله ممكنة، كما يقول القديس هيبوليتس: [المدينة مليئة بالنور]. وهكذا يعيش الأبرار في النور الإلهي حينما يكون الأبرار في العالم يكونون مُفرَزين لحياة القداسة. ولكنهم بعد الموت، وحينما تتوقَّف الرؤيا القائمة على انعكاس الضوء من الأجسام المرئية، يبدأون في نظر الثالوث بوضوح بسبب انعكاس نوره غير المحدود عليهم. يُعبِّر عن هذه الحالة القديس بولس الرسول، ولكن بالتعبيرات السلبية: «ما لم تَرَ عين، ولم تسمع أُذن، ولم يخطر على بـال إنسان، ما أعدَّه الله للذين يُحبُّونه» (1كو 2: 9؛ إش 64: 4) هذه اللغة المجازية تُسمَّى أحياناً بـ ”الدَّهش“ و”رؤيا الله“. وقد عبَّر عنها القديس يوحنا الرائي بأنَّ «المدينة لا تحتاج إلى الشمس ولا إلى القمر ليُضيئا فيها، لأن مجد الله قد أنارها، والخروف (حمل الله أي المسيح) سراجها (مصباحها). وتمشي شعوب المًخلَّصين بنورها... وأبوابها لن تُغلَق نهاراً، لأن ليلاً لا يكون هناك» (رؤ 21: 23-25)، «ولا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج (مصباح) أو نور شمس، لأن الرب الإله يُنير عليهم، وهم سيملكون إلى أبد الآبدين» (رؤ 22: 5).
المعرفة والرؤيا الكاملتان:
في السماء سيرى المطوَّبون ما كانوا على الأرض يُصدِّقونه بالإيمان. ولكن في السماء سيُعطَى للقدِّيسين معرفة عن الله أعمق، وأعظم بكثير من المعرفة المتقطِّعة المتناثرة التي نُحصِّلها في هذه الحياة الحاضرة، وهذا ما ورد على لسان المسيح في صلاته الشفاعية للآب: «وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلتَه» (يو 17: 3) أما المقارنة بين المعرفة التي نُحصِّلها في هذا الدهر وبين المعرفة التي سيُنعَم بها علينا في الدهر الآتي فيصوِّرها القديس بولس هكذا: «فإننا ننظر الآن في مرآة، في لُغْز، لكن حينئذ وجهاً لوجه. الآن أعرف بعض المعرفة، لكن حينئذ سأَعرِف كما عُرِفتُ (أي كما يعرفني الله)» (1كو 13: 12). فالمطوَّبون يسلكون الآن في العالم ”بالإيمان، وليس بالعيان (بالرؤيا البشرية)“ (2كو 5: 7) هذا الإيمان سيتحوَّل إلى معرفة كاملة بالتلاقي مع الله وجهاً لوجه حسب قول المسيح: «وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلتَه» (يو 17: 3). ويقول القديس غريغوريوس النيصي: [العقل سوف يستنير مباشرة بنور مجد الله] هذه الرؤيا بدأت هنا على الأرض في المؤمنين، ولكن بنوع مُعيَّن: «ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة، نتغيَّر إلى تلك الصورة عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح» (2كو 3: 18) فإن كان القديس بولس استطاع أن يقول هذا عن هذه الحياة الحاضرة، فماذا سيحدث حينما سنرى – ليس كما في مرآة – بل وجهاً لوجه؟ وإن كان القديس بطرس استطاع أن يكتب إلى مختاري الله: «الذي وإن لم تَرَوْه تحبُّونه. ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به، فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد، نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس» (1بط 1: 9،8)؛ فماذا يا تُرَى سيكون نوع الرؤيا التي سنأخذها في الأبدية؟ إنه بالنسبة للمعرفة الحاضرة، فأجسادنا الممجَّدة في الدهر الآتي لابد سوف تتجلَّى لتُناسب هذه الرؤيا الجديدة الخارجة والمختلفة عن الرؤيا البشرية في هذا الدهر.
(يتبع)

عدد الزيارات 271

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل