
”وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي، آمين“(قانون الإيمان)
مساكن الأبرار (تابع)
نهاية حياة الغربة على الأرض:
يُشير الرب يسوع إلى الراحة النهائية للمؤمنين بهذا الوصف: «... أنا أمضي لأُعِدَّ لكم مكاناً. وإنْ مضيتُ وأعددتُ لكم مكاناً آتي أيضاً وآخذكم إليَّ، حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً» (يو 14: 3،2) الله كُلِّي القدرة يسكن: «في الموضع المرتفع المقدَّس» (إش 57: 15؛ «في العلاء» 33: 5)، «من السموات نظر الرب، رأى جميع بني البشر. من مكان سُكناه تطلَّع إلى جميع سُكَّان الأرض» (مز 33: 14،13؛ 24: 3؛ 91: 1) والمؤمنون السائحون على الأرض ينتظرون «المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها الله» (عب 11: 10). ولكن هذا الموضع مختلف عن أيِّ موضع آخر يعرفه الساكنون على الأرض. فالكتاب المقدَّس يتكلَّم عن السماء ويُصوِّرها بأوصاف تفوق تماماً حدود الخليقة المنظورة، كما قال عنها القديس بولس حينما قال إنَّ المسيح: «صعد أيضاً فوق جميع السموات لكي يملأ الكل» (أف 4: 10). لذلك، فـ ”الموضع“ يجب أن لا نفهمه على أنه مكان آخر في هذا الفضاء المحيط بنا في الزمان والمكان الله لم يترك ”الغرباء“ على الأرض، بل أعدَّ لهم مسكناً في حياتهم الآتية في الدهر الآتي. فالوحي الإلهي يتحدث عن ”مسكن“ للمؤمنين بعد الدينونة الأخيرة، إنه ”سماءٌ جديدة“ و”أرضٌ جديدة“ (2بط 3: 13؛ رؤ 21: 1؛ إش 65: 17؛ 66: 22) وفي ”أورشليم الجديدة“ سوف ”يسكن“ القديسون المُمجَّدون في الأجساد المُمجَّدة الجديدة التي استُعيدت لهم عند قيامة الأجساد. وهنا تظهر أهمية الوصايا السلوكية الآن في هذا الدهر، فطاعتها الآن [هي التي نتعلَّم منها على الأرض تلك المعرفة التي سوف تكتمل معنا هناك في السماء] – القديس جيروم.
الرب نفسه هو الهيكل:-
لم تَعُد القِبْلَة (اتجاه النظر والصلاة) إلى الهيكل في أورشليم الأرضية، كما كان عند اليهود قبل هدمه سنة 73م؛ بل صارت نظرتنا وقِبْلَتُنا تجاه الرب يسوع نفسه: «ولم أرَ فيها هيكلاً، لأن الرب الله القادر على كل شيء، هو والخروف (الحَمَل) هيكلها» (رؤ 21: 22). وليست وجهة عيوننا الآن إلى الشرق إلاَّ انتظاراً للمجيء الثاني للمسيح الذي سيكون هيكلنا ومسكننا الحقيقي في السماء الدافع الهادي لرؤيا يوحنا الرائي هو حضور الحَمَل القائم من بين الأموات، ولكن عليه آثار الذبح على الصليب (رؤ 22: 1)، والذي نحوه تُوجَّه التسبيحات الدائمة التي لا تتوقف لا من الأرض ولا من السماء.
العمل المبارَك في السماء:-
كل المطوَّبين في السماء سيتَّحدون معاً في العبادة لله والحَمَل (رؤ 4: 8؛ 5: 10،9؛ 7: 4-11)، وفي خدمة الله والحَمَل (رؤ 22: 3). وكل القدِّيسين «... يخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله، الجالس على العرش يَحِلُّ فوقهم. لن يجوعوا بعد، ولن يعطشوا بعد، ولا تقع عليهم الشمس ولا شيء من الحَرِّ» (رؤ 7: 16،15). إنهم يُسبِّحونه تسبحة الله. السماء ستكون موضع الموسيقى والألحان! وحتى الأبرار فإنَّ [الملائكة سوف تُسبِّح الله من أجلهم] – القديس هيبوليتس.
إنه لا يمكن أن توجد سعادة كاملة إنْ أحس صاحبها بإحساس دائم وراسخ بأنها لابد أن يكون لها نهاية إنْ آجلاً أو عاجلاً؛ بينما السعادة الكاملة لابد أن تكون سعادة أبدية، كما يقول القديس أُغسطينوس السعادة الأبدية التي لا يمكن أن تنتهي هي الهناء المطلق، لأن كل نوع آخر من السعادة الأرضية هو عُرضة للإدراك الكئيب بأنه لابد أن يكون له نهاية وشيكة. أما التمتُّع بالوجود في حضرة الله فهو الابتهاج «بفرح لا يُنطَق به ومجيد» (1بط 1: 8)، حيث يرتفع الفرح إلى أعلى درجة من التعبير، كما يصفه القديس كبريانوس ويؤكِّد القديس يوحنا الرائي في رؤياه على تشبيهاته التي يستخدمها للتعبير عن الفرح الذي يختبره الشعب المفدي في السماء بأقصى ما يمكن من رؤى العين والخيال ولكن يجب أن نتنبَّه إلى أنه بالرغم من أن هذه التشبيهات المستخدمة تتضمن ما يُشبه المُتع التي في الحياة الأرضية، إلاَّ أن هذه المُتع الأرضية لا مكان لها في حياة الدهر الآتي. لأن كل هذه المُتع الأرضية يمكن أن يتمتَّع بها الإنسان إلى حين فقط، ثم يتبعها الإشباع ثم الذبول والنضوب ما يبعث في الجسد والنفس الاكتئاب والحسرة على عدم دوامها، كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم أما أفراح السماء فهي نبع لا ينضب وكنز لا ينفد، حيث لا يبليه عث ولا سوس، ولا يسرقه سارق (لو 12: 33)، إنه «إكليل المجد الذي لا يبلَى» (1بط 5: 4). فالسعادة في السماء التي سيسعد بها القدِّيسون ستكون طاهرة تماماً، روحية تماماً، وذات طبيعة أرقى بما لا يُقاس، ما لا يمكن تشبيهه بأيِّ عمل جسدي أرضي، لأن السماء - بحسب قول القديس غريغوريوس النيسي - هي وحدها الحياة الدائمة الأبدية وصاحب سفر المزامير يُبارك الرب الذي يُسكِن جسده في القبر مُطمئناً، وسوف يملأه فرحاً في حضرة الله: «أمامك شِبَعُ سرور، وفي يمينك نِعَمٌ إلى الأبد» (مز 16: 11) والإرادة المُمجَّدة التي للمطوَّبين يصفها القديس هيبوليتس هكذا: [هناك سيسكن الأبرار منذ البداية غير محكومين بغريزة، بل متمتعين دائماً بالتأمُّل في البركات الإلهية].
لا عوائق أمام الحياة الكاملة:-
بالقيامة والدينونة النهائيتين، يُشارك جسد الإنسان البار في الطوبانية الموعودة للمؤمنين، ما أسماه القديس بطرس الرسول في رسالته الثانية 1: 4: «وَهَبَ لنا المواعيد العُظمى والثمينة، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية». وهذه هي غاية التجسُّد والفداء النهائية: استعادة ما فقدته الطبيعة البشرية بسقوط آدم، أي الممارسة الكاملة للإرادة الحُرَّة كتمجيد وانعكاس للعطية الإلهية الثمينة.
البركات المختصة بالتحرُّر
من الموت والخطية:-
وهذا ما يسأله المؤمن: لأيِّ حدٍّ سيتحرر المؤمن من عوائق الخطية والموت؟
إن أولى البركات للمؤمن البار هي انتهاء الخطية وأسباب الخطية، أي تحريض الجسد على الخطية. فالشيطان يعرض بضاعته عن طريق عرض ملذات الخطية، والجسد يستجيب، والعالم يُضلُّ. أما في السماء، فلا توجد شهوات جامحة، ولا خطية، ولا الألم الذي يتبع الخطية، ولا الحزن، ولا المرض، ولا الموت الذي هو نتاج المرض والألم. كما لن يكون أي اضطراب عقلي أو عصبي، ولا الفساد الأخلاقي، ولا تأثيرات الأشرار: «هناك يكفُّ المنافقون عن الشَّغْب» (أيوب 3: 17). والأبرار سوف يكونون منفصلين عـن «الكـلاب والسَّحَرة والزنـاة والقَتَلَـة وعَبَدَة الأوثان، وكـل مَن يُحِبُّ ويصنع كذباً» (رؤ 22: 15).
انعدام الغواية:-
في السماء لن تكون غواية لا للجسد ولا للنفس، بل مع وجود الحرية الكاملة، فلن يكون هناك حساسية قلق ولا خطية. فبسبب غياب الغواية، فهناك تكون الحرية من إمكانية الخطية. ففي السماء لا إمكانية للخطية بسبب عدم وجود الموت. وكما يقول القديس أُغسطينوس: [فالسعادة تبقى ناقصة غير كاملة إذا لم يكن هناك غيابٌ للخطية] فالأجساد المُمجَّدة في المدينة السماوية قد وُعِدَت بالتحصُّن ضد غوايات الزنا، والجوع، والعطش، والقلق على الجسد العتيق، كما وُعِدَ في أسفار العهد الجديد: (رؤ 7: 16؛ 1كو 6: 13؛ مت 22: 30؛ 1كو 15: 43،42).
الراحة من الجهاد:-
يصف القديس بولس في رسالته للعبرانيين الحالة النهائية للأبرار بأنهم: «... يدخلوا راحتي» (عب 4: 1-6)، أي الراحة من حروب الجهاد ضد الخطية. إنها راحة من تناقضات الوجود البشري تحت أغلال الخطية. هذه الراحة ليست تراخياً أو كسلاً، بل حيوية الانفكاك من أغلال غوايات الخطية، بسبب قيامة الأجساد بطاقة روحية عالية، هي طاقة التحرُّر من الخطية والموت. إنها راحة التسبيح أكثر من كونها كسلاً أو نوماً (رؤ 14: 3؛ 1كو 12: 9) وبعد الدينونة النهائية، فلن يُصيب المؤمن أسباب ونتائج الخطية، إذ يكون قد تحرَّر من كل ما يمكن أن يصرف النفس عن التحديق في الله، أو يفصم الإنسان عن الاتحاد بالله؛ ولكن دون دموع أو آلام أو قيود تُسبِّبها الخطية: «وسيمسح الله كل دَمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت» (رؤ 21: 4) والنفس التي تعبت لن تجد راحتها إلاَّ في الحضن الإلهي، ولن تطلب إلاَّ شيئين اثنين أكثر من أي شيء آخر: أن تتمتَّع – بلا توقُّف – باتحادها وشركتها في الله بـالروح القدس الذي هو الله، وأن تكون متحصِّنة ضد كل شك في حقيقة أنها ستبقى للأبـد في هــذا الحضن الإلهي آمين.
(يتبع)