
”وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي، آمين“(قانون الإيمان)
مساكن الأبرار
الحياة الطوبانية
الحياة الطوبانية في الدهر الآتي هي الحياة الحُرَّة من الموت، وبالتالي من الخطية، وتكتمل بالحرية الدائمة إلى الأبد في حضرة الله.
الحرية إلى الأبد:-
في الحياة الأبدية كل طاقة بشرية سوف تتبارك في حضرة الله بما لا يمكن وصفه أو مقارنته بحياتنا في هذا الدهر فالنفس سوف تتبارك بالحياة الأبدية. وطاقة المعرفة في العقل البشري سوف تتبارك بالاستنارة، كما أوضح القديس بولس: «لأننا نعلم بعض العلم... ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يُبْطَل ما هو بعضٌ. لما كنتُ طفلاً كطفل كنت أتكلَّم، وكطفل كنتُ أَفْطَن، وكطفل كنتُ أفتكر. ولكن لما صرتُ رجلاً أبطلتُ ما للطفل» (1كو 13: 9-11) والإرادة سوف تتبارك بالاستقامة وصحة الحُكْم على الأمور، وبالسعادة بحُسْن الاختيار: «أما أنا فبالبرِّ أنظر وجهك، إذا استيقظتُ، وأشبع في يقظتي من حضورك» (مز 17: 15 – الترجمة العربية الحديثة) وأما الجسد المُمجَّد، جسد القيامة، فسيتبارك بالتحكُّم الصحيح في طاقات العواطف والانفعالات. أما طاقة التخيُّل، فستتبارك بفكر الأمان الكامل في الطوبانية المستقبلة بلا توقُّف حسب وعد المسيح: «ولكني سأراكم، فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم» (يو 16: 22). إنها سعادة لا يقدر أحد أن ينزعها من المُطوَّبين، لأنها قائمة على اتحاد أبدي مع الله إن الجسد الروحاني الذي سيقوم من الموت إلى الحياة الأبدية سوف يختبر استعادة الصحة الكاملة لحالة البشرية كما كانت قبل السقوط، كما أوضح سفر الرؤيا: «مَن يغلب فسأُعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله» (رؤ 2: 7)، والتي مُنِعَت عن الإنسان الأول بعد السقوط في مرض الخطية (كما في سفر التكوين 3: 24،22) إن حقيقة الموت الرهيبة جداً، والتي سيطرت على البشرية بسطوتها، هذه الرهبة ستتحوَّل بعد الموت وقيامة الأجساد إلى حرية من الموت، وانتصار وسعادة أبدية للأبرار: «ومتى لَبِسَ هذا الفاسد عدم فساد، ولَبِسَ هذا المائت عدم موت، فحينئذ تصير الكلمة المكتوبة: ”ابتُلِعَ الموت إلى غَلَبَة“. أين شوكتُك يا موت؟ أين غَلَبَتُكِ يا هاوية؟... ولكن شكراً لله الذي يُعطينا الغَلَبَة بربنا يسوع المسيح» (1كو 15: 54-57) وحقّاً كان يمكن أن تذوب وتذوي نفوس المؤمنين الغالبين في السماء أمام رهبة قداسة الله، ولكن النعمة الإلهية الموهوبة للمطوَّبين تُعطي لهم القوة ليحتملوا هذه السعادة الغامرة لأولئك الذين سيَحْيَوْن إلى الأبد في مجد حضرة الله.
الأجساد المُمجَّدة للقديسين في السماء:-
إن الوصف الوارد في الرسالة الأولى إلى كورنثوس (15: 42-53) هو مفتاح أوصاف النِّعَم التي سيتوشح بها جسد القيامة الذي سيلبسه الأبرار في ملكوت السموات: «هكذا أيضاً في قيامة الأموات: (الجسد) يُزرع (بالدفن في القبر) في فساد، ويُقام في عدم فساد. يُزرع في هوان، ويُقام في مجد. يُزرع في ضعف، ويُقام في قوة. يُزرع جسماً حيوانياً، ويُقام جسماً روحانياً» الجسم المُمجَّد، المتحرِّر من الموت، يوصَف في تعبير آباء الكنيسة (باللغة اليونانية) aphthartos، أي غير الفاسد. هذا الجسم الفاسد (بالموت) سيلبس الجسد ”غير الفاسد“ بالقيامة المزمعة أن تكون (1كو 15: 53). وسيصير في حالة أبعد ما يكون عن القلق بعد الموت: «الموت لا يكون فيما بعد» (رؤ 21: 4). وحتى النُّدوب (أي آثار جروح التعذيب قبل الاستشهاد) سوف تأخذ شكلاً بهيّاً، حيث لا تعود تشويهاً في الجسد، بل علامة مجد في أجساد الشهداء المُقامة من الموت، حسب تعبير القديس أُغسطينوس ويتميَّز الجسد المُقام من الموت، وبسبب خُلوِّه من ظلمة الموت، يتميَّز بالصفاء، واللمعان، والمجد، حسب قول المسيح: «حينئذ يُضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم» (مت 13: 43)، وهم بذلك يعكسون مجد الله الحال على أجسادهم. نفس هذا المجد الإلهي رآه من قبل تلاميذ المسيح في تجلِّيه وهو على الجبل: «وتغيَّرت هيئته قدَّامهم، وصارت ثيابه تلمع بيضاء جداً كالثلج» (مر 9: 3،2)وأيضاً يتميَّز الجسد القائم من الموت، وبسبب خُلوِّه من الضعف، يتميَّز بالحيوية والقوة، حيث يتحرَّك الجسد بالخفة الكاملة كما تُحرِّكه النفس، كما ظهر ذلك في جسد المسيح بعد قيامته من بين الأموات وكذلك أيضاً، وبسبب تحرُّر الجسد المُقام من ضيق المكان وتقلُّب الزمان، فإنه يُمنَح عينين روحانيتين غير منظورتين. وهذا الجسد يتَّسم بالسموِّ الذي به تأخذ النفس على عاتقها حِفْظ حياة جسدها، وبهذا السمو ترفع الجسد إلى مستواها الروحاني، وبهذا يصير الجسد خاضعاً للروح. وحينما تحدث هذه التغييرات «حينئذ تصير الكلمة المكتوبة: ”ابتُلِعَ الموت إلى غَلَبَة“» (1كو 15: 54).
هل السماء هي حقّاً جزاء أو مكافأة؟
ربما لا يكون مناسباً أن نقول إن الأبرار ينالون السماء جزاءً أو مكافأةً، إن كان المقصود بالجزاء والمكافأة أن يكون للإنسان حقٌّ أن يُطالِب بها أو يستحقها، لأن البار ليس له ادِّعاء الحق بالطوبانية النهائية كحقٍّ يُطالب به. إلاَّ أن السماء هي العطية الموعود بها للمؤمنين كنتيجة تلقائية ومباشرة لتجسُّد المسيح ولِبْسه طبيعتنا البشرية، فلأننا نحن فيه فسيتحقَّق قوله المبارك: «وإنْ مضيتُ وأعددتُ لكم مكاناً، آتي أيضاً وآخُذُكم إليَّ، حتى حيث أكونُ أنا تكونون أنتم أيضاً» (يو 14: 3)؛ وكذلك في صلاته الشفاعية يطلب إلى الآب: «أيها الآب أُريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا، لينظروا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم» (يو 17: 24).
هل هناك درجات متفاوتة من المجد؟
كل قائم من الموت ومُحتفِل بأمجاد الله، سوف يعكس الصلاح الإلهي بطريقة مختلفة، هكذا يقول القديس إيرينيئوس أسقف ليون في القرن الثالث، والقديس كليمندس الإسكندري. هذا وبالرغم من أن كل واحد سوف يشترك في نفس الخلاص، إلاَّ أن انعكاس المجد الإلهي لن يكون على وتيرة واحدة، بل متنوعاً، كما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم ولكن حينما يقول القديس بولس الرسول مقارِناً بين مجد كلٍّ من أجسام الكواكب وأجساد الحيوانات وأجساد البشر، ثم يُقارِن بين مجد الشمس وبين مجد القمر وبين مجد النجوم، يقول الكلمات الآتية: «... ومجد النجوم آخر. لأن نجماً يمتاز عن نجم في المجد» (1كو 15: 41)؛ فإنه يتهيَّا للبعض أن هذه الآية ترمز إلى أمجاد متفاوتة في العظمة لأجساد البشر القائمين من الموت. وهذا التهيُّؤ غير صحيح، لأن الآية التالية تُظهِر قصد القديس بولس، وهو أن مجد جسد القيامة من بين الأموات يفوق كل أمجاد الأجسام المادية الأخرى: الشمس والقمر والنجوم، بالرغم مما بينها من تفاوت في المجد أما أنه يوجد ”تنوُّع“ - وليس تفاوتاً في درجة المجد - فهذا أمر معقول. فجسد الشهيد المسيحي المُثخن بالجراح وآثار التعذيب الوحشي الذي انتصر على قوات العالم المُعادي للمسيح، احتملها الشهيد بطريقة تختلف عن الطريقة التي انتصر فيها الناسك أو العذراء على الشهوة، أو عن الطريقة التي انتصر بها المعلم الكنسي المسيحي على قوى الضلال في التعليم في زمن انتشار الهرطقات. ولكن كما قال القديس بولس، فإنَّ الجميع على حدٍّ سواء سوف يتمتعون بنفس القدر من الغبطة والسعادة السماوية، إذ لن يكون سوى مجد واحد للكل، إذ أننا كلنا سنصير أبناء الله في المسيح يسوع ابن الله الوحيد ولأن الله عادل، فلن يكون ظلم في السماء. فما يبدو هنا على الأرض أنه تعارُض مع العدل أو جَوْر أو ظلم، فهذا يُعتبر بالنسبة لحياتنا الحاضرة المؤقتة نوعاً من الأنانية والتمركُّز حول الذات؛ أما في السماء، فالوضع يختلف، لأن الحياة هناك لن تكون نابعة من عطايا بشرية، بل كلها من نعمة الله المجانية للجميع. وكما يقول القديس أُغسطينوس: [لن يكون هناك حسد بسبب عدم تساوي في المجد، لأن المحبة الإلهية الواحدة هي التي ستسود على الجميع].
وليمة عُرْس الحَمَل:
كل أعضاء جسد المسيح، وهم المدعوون إلى وليمة عُرْس الحَمَل المسيح: «طوبى للمدعوِّين إلى عشاء عُرْس الخروف» (رؤ 19: 9)، وهم الذي ذكرهم المسيح: «فيُرسل حينئذ ملائكته ويجمع مختاريه من الأربع الأرياح من أقصاء الأرض إلى أقصاء السماء» (مت 13: 27)، فهناك تكتمل الصورة الكاملة للكنيسة حيث تحتفل بعُرسها – أي اكتمال اتحادها الأبدي بالله – ويصفها القديس يوحنا الرائي كأنها عروس المسيح في يوم زفافها: «وأنا يوحنا رأيتُ المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مُزيَّنة لرجلها» (رؤ 21: 2)، مُحْتَفَى بها في مدينة الله الجديدة: «الروح والعروس يقولان: تعالَ» (رؤ 22: 17) وكما أن مَهْر العروس يسبق الزواج، هكذا المسيح قدَّم العطايا ليجعل العروس (أي البشرية المؤمنة به) تتمتَّع بالحياة الأبدية، كما قال هذا القديس يوحنا ذهبي الفم. والعطايا هنا هي: «مَن يعطش فَلْيأتِ، ومَن يُرِد فلْيأخذ ماء حياة مجاناً» (رؤ 21: 2). وماء الحياة هو شخص المسيح نفسه الذي سيكون مركز حياة المؤمنين المطوَّبين في السماء، وسيكون المسيح في هذه الرؤيا في صورة الحَمَل، بينما امرأته هي الكنيسة أي البشرية المفديَّة والممجَّدة في السماء: «لنفرح ونتهلَّل ونُعْطِهِ المجد، لأن عُرْس الخروف قد جاء، وامرأته هيَّأت نفسها... وقال لي: ”اكْتُبْ طوبى للمدعوِّين إلى عشاء عُرْس الخروف“. وقال: ”هذه هي أقوال الله الصادقة“» (رؤ 19: 7-9) أما الصورة الرمزية العكسية (رؤ 17: 4) فهي عن بابل رمز أورشليم الأولى، أي رمز العالم الحاضر الساقط، وفيها تظهر امرأة تبدو متسربلة بملابس مبهرجة رمزاً للإثم، وفي يدها كأس من ذهب مملوءة من رجاسات ونجاسات زناها. وتنتهي وليمة عُرْس هذه المرأة بانتهاء الأرض الأولى والسماء الأولى، وخَلْق أرض جديدة وسماء جديدة (رؤ 21: 1). ويأتي رمز أورشليم الجديدة، حيث الله والحَمَل يصيران موضوع العبادة والسجود، وحيث الحقيقة الجديدة في الدهر الآتي، وهي: «هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعباً، والله نفسه يكون معهم إلهاً لهم. وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور (أنظمة وأنماط الحياة) الأولى قد مضت» (رؤ 21: 4،3).
تسبحة الثالوث الأقدس:-
وتتردَّد أصداء هذه الأفراح في ”وليمة عُرْس عشاء الحَمَل“، أي المسيح، إلى الأبد، وهي تسبيح الثالوث الأقدس ولا أفراحَ أخرى ولا تسبيحات غير هذه التسبحة تبثُّ المزيد من البهجة والفرح لشركة القديسين الله واحدٌ هو، غير منقسم إنه مُعطي الحياة للجميع، وفادي الجميع لقد سبق أن خُلِقَت هذه الخليقة، ثم سقطت في الموت، ثم افتُديت، وسوف تتمجَّد بحسب وعود الله في الحياة الأبدية في الدهر الآتي الله الآب خالق الكل، والمؤمنون يحتفلون ويُسبِّحون الآب، والابن الذي «به كان كلُّ شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» (يو 1: 4،3)، والروح الأزلي الذي من خلاله يتكلَّم كلمة الله إلينا لقد دعانا الآب إليه من الظلمة إلى نور ابن محبته فالآب هو الله الحقيقي لقد كان الفداء هو العمل الأساسي للابن الذي أرسله الآب لنا نحن البشر، ومكَّننا الروح القدس أن ننال كل ما فعله الابن من أعمال الفداء ومنذ ما قبل الدهور والأزمنة، كان الابن مولوداً من الآب، كما يولد النور من النور وهكذا أتى الابن ليُخلِّصنا من الموت، لذلك قيل «فيه (في المسيح) كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» فالابن هو الإله الحق من الإله الحق أما عمل تكميل وتحقيق كل شيء فهو منوط بالروح القدس، الذي قال عنه المسيح بأنه هو الذي «سيُرسله الآب باسمي» (يو 14: 26). فالروح يمكث فينا ليجعلنا نتغيَّر إلى شكل المسيح «إذا أُظهِرَ، نكون مثله، لأننا سنراه كما هو» (1يو 3: 2) أي أن رؤيتنا للمسيح في مجده في السماء، بانفتاح أعيننا لنراه كما هو، سوف تجعلنا نتغيَّر لنصير مثله! فالروح القدس هو الله إن سرَّ الله الثالوث هو: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس؛ وهذا هو الله الواحد. فهو الآب ضابط الكل، في ابنه ”كلمته الأزلية“، في روحه القدوس، الله الواحد. فالآب يُعطينا، من خلال ابنه المولود قبل كل الدهور، وفي الروح القدس روحه الأزلي.
آمين:
كلمة ”آمين“ هي آخر ما ننطق به بعد تلاوتنا لقانون الإيمان ابتداءً من: ”نؤمن“ إلى ”آمين“ والآن، من كلمة ”نؤمن“ (أول قانون الإيمان)، إلى ”وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي“، كلها تُثير فينا القول آمين.