
تتضمن الحث على تقديم أوائل الثمرات والعشور والابكار والنذور للكنيسة مرتبة على قوله تعالى:
لم يقم فى مواليد النساء أعظم من يوحنا"( مت ۱۱:۱۱ )
إن شرف الفضيلة عظيم جداً وأن شأنها جليل للغاية، وذلك لأنها ترفع محبها إلى السماء وتسبهه بالملائكة وتمجده في المحافل وتنقله إلى أماكن النعيم وتؤهله لمدائح سيديه هذا عظم مقدارها حتى يستحق قوله : " لم يقم في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان" وإذا كان هذا الذى تربى فى القفار وتأنس بالوحوش المخيفة ولم يسمع نبياً ولا مبشراً ولا سمع بزاهد ولا متقشف قد أظهر طريق الابرار وأصلح مسالك الفائزين. فالذين يسمعون العظات ويتنبهون بالتعاليم ويقتدون بالشريعة الفاضلة وهم مع ذلك متغافلون كيف لا يعاقبون ويهانون؟ وليس أنهم يطالبون بأزيد من الواجبات عليهم بل أنهم يماطلون في ذات الحقوق ويعرضون عن الفرائض اللازمة ويتمسكون بالزائلات ويستوثقون من محبة اللذات الفانية. حتى أدسى بهم ذلك إلى إهمال الحقوق الواجبة والسنن اللازمة. وإذا كان الذين يجب عيهم دفع الخراج لملوك الأرض وسلاطينها إذا أهملوا القيام بذلك يضربون ويسجنون فكيف لا نعاقب نحن ونهان إذا أهملنا القيام بما يجب علينا من حقوق ربنا. فإن قلت وما هى الحقوق اللازمة لنا المفروضة علينا ؟ أجبتك أنها العشور والنذور وأوائل الثمرات وأول فوائد المتاجر والزراعات وغير ذلك. كقوله تعالى في التوراة عشروا عشوراً من كل غلاتكم وزراعاتكم مما تغل أرضكم فـــــي كـــل سنة الله ربكم وكل بكر يولد من الناس والبهائم فإنهم لى يقول الرب. ويقول أيضا لى على لسان ملاخى النبى مبكتا بنى اسرائيل هكذا: "واما انتم يا بنى يعقوب فلم تتوبوا عن إثمكم ومنذ أبائكم إلى الأن أنتم تميلون عن وصاياى ولم تطيعوا أقوالى ولم تعملوا بها كما يجب. اقتربوا من أقترب أنا منكم. فإن قلتم بماذا نقترب إليك؟ قلت وهل تظلم الآلهة الغريبة كما تظلموني يقول الرب. وان قلتم بماذا ظلمناك؟ قلت في العشور والأبكار لأنكم تلعنون بأفواهكم وایای تظلمون ياجميع الشعوب هاتوا العشور إلى أهرائي لتصير مطعما في خزانتي وجربونى فى هذا يقول الرب القادر لأفتح لكم طاقات السماء وأصب عليكم الأرزاق صبا حتى تقولوا حسبنا حسبنا وانهى الأرضة ألا تفسد ثمار ارضكم ولا تخرب شيئا من كرومكم ويمدحكم جميع الشعوب ويقول الإنجيل المجيد الشامخ اليهود هكذا: ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون لأنكم تعشرون النعنع والشبت والكمون وتركتم أثقل الناموس الحق والرحمة والإيمان، كان ينبغي أن تعلموا هذه ولا تتركوا تلك معناه انكم تتظاهرون باخراج العشور والقيام بالحقوق الواجبة فتعشرون الأشياء الحقيرة التي لا ثمن لها كثيرا كالنعنع والشبت والكمون لتتظاهروا للناس بذلك وتهملون عشور الأشياء الجليلة. ومع هذا الخصال الذميمة فانكم معرضون عن الحق والرحمة والإيمان. كان يجب عليكم أن تفعلوا الأمرين جميعا. قال الرب لهرون: "كل دسم الزيت وكل دسم المسطار والحنطة أبكارهن التي يعطونها للرب لك أعطيتها أبكار كل ما في أرضهم التي قدمونها للرب لك تكون كل محرم في اسرائيل يكون لك كل فاتح رحم من كل جسد يقدمونه للرب من الناس ومن البهائم يكون لك غير أنك تقبل فداء بكر الإنسان وبكر البهيمة النجسة ويقول إيضا في القوانين من كانت له أبكار ثمرات الأرض فليمض بها إلى الكنيسة. وأوائل البيادر وأوائل الزيت وأوائل اللبن والعسل والصوف وأوائل عمل كل إنسان . ومعنى هذا أن من يكون له بساتين أو كروم أو زراعات فأول ما يجئ من ثمارها في كل سنة يقدم منه تقدمة الله ليصلى عليها الكهنة فتكثر حينئذ خيراته وتتضاعف البركات عنده. ويأكل منها الذين يخدمون بيت الله ويفرق منها على المساكين وكذلك من له أبقار وأغنام وخلايا عسل وغير ذلك. فإنه يجب عليه في كل سنة أن يقدم الله من أول أولادها. وكذلك أول حليب البهائم وأول جزاز أصوافها. ثم ما يولد أولا من بني البشر فان الابكار الله ويجب على والديه أن يحملوا ثمنه للكنيسة بحسب ما يتراضون عليه مع الكهنة. كما وبكر كل بهيمة أيضا. أما الابقار والاغنام والمعزى فتحمل الابكار منها إلى بيت الله. وأما الحمير فيعوض عنها بخراف، فإذا كانت هذه الأمور كلها مفروضة على الاسرائيليين مع كثرة ميلانهم وعتوهم وغلاظة رقابهم. وكانوا يبكتون على أهمالهم إياها. فكيف لا يجب علينا نحن أن نتيقظ من نومنا ونتنبه من سنتنا ونقوم بأداء الحقوق الواجبة علينا. وكيف لا يقلقنا دائما قول ربنا : دائما ان لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت الله وإذا كان الشرط في دخول الملكوت الزيادة على عمل أولئك. فماذا يقال إذا للناقصين عنهم؟ ينبغى لنا أيضا أن نعلم أن الله ما فعل هذا مع الناس الا ليجرب الطائعين له من العاصين عليه. كما يفعل الآب الشفوق مع بنيه حين يعطيهم المال والثمرات وغير ذلك. ثم يسألهم أن يعطوه شيئا منها إمتحانا لهم. فالذى يبادر إليه مسرعا ويعطيه ما بيده فرحا مبتهجا فإنه يقبله إليه ويسر به ويعوضه عن ذلك أضعافا كثيرة. وإلا فهو القائل له على لسان أشعياء النبر : " السموات كرسى الأرض موطئ قدمى. أين البيت الذي تبنون لي " إن جعت فلا أقول لك لأن لي المسكونة وملأها. هــل أكل لحم الثيران أو أشرب دم التيوس ... ولا أسكن في هياكل مصنوعات الأيادي" وإنما سمح تعالى أن يكون في الدنيا أناس أغنياء وأناس فقراء ، وأمر أولئك أن يساعدوا هؤلاء قصدا منه في أصلاح الفريقين لأن الأغنياء الذين يقومون بحاجات الفقراء ويسعفون المساكين بفرح ونشاط طاعة لربهم فأنه يقبلهم في الملكوت كما قال تعالى ويسمعهم الصوت المملوء فرحا القائل: تعالوا يا مباركي ابي رثوا الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم لانى جعت فأطعمتموني. وعطشت فسقيتموني وامثال هذه اما الفقراء الصابرون على مصاعب المسكنة. الشاكرون الله من كل قلوبهم فإنه يجزيهم سعادة الأبد. ويعوضهم عن الأموال الزائلة بما لا يزول. ويأخذون لأنفسهم الطوبى المعدة للحزاني والجياع والعطاش والباكين وغير ذلك. أرايتم مثل هذا الصنيع ؟ أشاهدتم مثل هذه المكرمة ؟ أسمعتم بمثل هذا الاحسان العظيم أعلمتم كيف يطلب السيد رحمة من العبيد ليجازيهم عن الزائل بما لا يزول ؟ وكيف يقول : " هاتوا جميع العشور إلى الخزنة ليكون في بيتي طعام وجربوني بهذا قال رب الجنود أن كنت لا افتح لكم كوى السموات وأفيض عليكم بركة حتى لا توسع فمن يستطيع أن يصف قدر هذه المواهب، وأي لسان يستوعب شكر هذه المنن وأى عقل بفهم شرف هذه المواهب والمراحم السامية ؟ أفما كان الذي يعطيك عوضا عن الواحد مئة ضعف قادرا أن لا يجعل أخاك محتاجا إليك، لكنه لكثرة تحننه ومحبته لجنسنا يود أن تكون أنت سامعا ومطيعا ومحسنا ومتراءفا . وأن يكون الآخر المقل محتملا وصابرا وشاكرا. ويؤثر أن لا يدع قسما من أقسام الفضائل إلا ويحثنا على اقتناصه ليحسن مجازاتنا ويكثر خيراتنا ويوصلنا إلى النعيم الذى لا يزول. فإذا كنا لا نقوم بالحقوق الواجبة علينا ولا نطيع أقوال ربنا فيسلط علينا الذين يأخذون أموالنا مجانا. كما يقول الكتاب: الاموال التي لا تأكلها الاطهار يختطفها أهل بابل . ومعناه أنه إذا كنتم تنظرون في الحقوق الواجبة عليكم الله وتستكثرونها وتتغافلون عن القيام بأدائها. فإنه يسلط عليكم الذين يظلمونكم ويغشمونكم ويأخذون أموالكم ويفسدون زراعاتكم ويصيرونكم أذلاء مهانين فسبيلنا ان نسارع إلى سماع أقوال ربنا ونقوم بالحقوق الواجبة علينا ونتحنن على المساكين ونتعطف على اخواتنا البائسين لتقبل المجازاة في الملكوت الذي لا يزول . بنعمة وتعطف إلهنا يسوع المسيح الذى له المجد دائما آمين.
القديس يوحنا ذهبى الفم
عن كتاب العظات الذهبية