
إنها لحكمةٌ ساميةٌ، تلك القاضية بأن تُنسي السيئات في أيام الفرح. فقد جلَبَ لنا هذا اليوم نسيان الحُكْم الأول الصادر بحقنا. وما قولي كذا؟ ليس النسيان، بل الإلغاء. لقد أُلغي تماما كل ذكرٍ للقضاء علينا. كنَّا قبلاً نُولَدُ بالألم
إنها لحكمةٌ ساميةٌ، تلك القاضية بأن تُنسي السيئات في أيام الفرح. فقد جلَبَ لنا هذا اليوم نسيان الحُكْم الأول الصادر بحقنا. وما قولي كذا؟ ليس النسيان، بل الإلغاء. لقد أُلغي تماما كل ذكرٍ للقضاء علينا. كنَّا قبلاً نُولَدُ بالألم، أمَّا الآن فنولدُ بدون ألم؛ لأننا كنّا جسديين ونولدُ بالجسد، أمَّا مَن يولدُ الآن، فهو روحٌ مولودٌ من الروح.
هكذا تكلم القديس غريغوريوس النيصى (احد اباء الكنيسة الاولين) عن بهجة قيامة السيد المسيح التى تحتل مكانة خاصة فى عقولنا وقلوبنا …ويكمل :
بالأمس طردَنا العصيان من الفردوس، واليوم يُعيدنا إليه الإيمان.
وقُدمَ لنا ثمر من الحياة جديداً لكي نتلذذ به كما نشاء، وجرى من جديد ينبوع الفردوس الموزَّعة مياهه بأربعة أنهار الأناجيل، لكي يُنعَش وجهُ الكنيسة. هكذا تستطيع أن ترتوي الآلام التي شقَّها زارع الكلمة في نفوسنا، فتتأثر بذور الفضيلة…
الآن تتمُّ راحة السبت الحقيقية، تلك التي باركَها الله وفيها استراح من محَنِه، بعد أن احتفل بانتصاره على الموت، لأجل خلاص العالم. لقد ظهرت نعمةُ هذا النهار لعيوننا وآذاننا وقلبنا. احتفلْنا بالعيد بكل ما رأينا وسمعنا وملأَنا فرحاً. ماذا رأينا؟ ضياء المشاعل التي كانت تُنقل في الليل كغمامة من نار. وسمعنا طوال الليل رنين المزامير والأناشيد والترانيم الروحية. فكان هذا سلسالا من الفرح يجري بآذاننا إلى نفسنا فيُفعمنا آمالا سعيدة. وكان أخيرا قلبنا المأخوذ بما نسمع ونرى مفعماً فرحاً وغبطةً، يقوده المنظور إلى اللامنظور: “هذه الخيرات التي لم تَرها عين، ولم تسمع بها أُذن، ولم تَخطر على قلب بشرٍ” (1كورنثوس 2: 9). إن أفراح يوم الراحة هذا تُقدِّم لنا عنها مثالا؛ لقد كانت عربون رجائنا الفائق الوصف في المصير المرتقَب.
بما أن هذه الليلة المتلألئة بالنور، التي جمعت بين بريق المشاعل وأشعة الشمس الأولى، ألّفت معها يوماً واحداً، دون أن تفسح مجالا للظلام، فلنتأمل، يا إخوتي، النبوءة القائلة: “هوذا اليوم الذي صَنَعَه الرب” (مزمور 117: 24). إنها لا تَعرُض أي أمر شاقّ أو صعب، بل الفرح والسعادة والبهجة، لأنها تضيف: “فلنفرح ونبتهج به!”. يا له من شاغل شيّق! ما ألطفه أمرا! من يتردد في الطاعة لمثل هذه الأوامر؟ من لا يشعر بضيم إذا تباطأ في تنفيذها؟ المقصود أن نفرح، فنحن مأمورون بأن نبتهج، وبهذا مُحي العقاب القاضي على الخطيئة، وتحوَّل حزننا إلى فرح.
القيامة وحياة المؤمنين
جاء في إحدى عظات القديس بوليكاربوس أسقف أزمير (القرن الثاني) عن الإيمـان بقيامـة المسيح ونتيجتـه على حياة المؤمـن وسلوكـه:
“.. شدّوا أحقاءكم واتقّـوا الله بالمخافة والحق طارحين جانباً كلام الثرثـرة الفارغ وضلال الأمم، موطِّدين الإيمان على من أقام ربنا من المـوت، وآتاه المجد، وأعطاه عرشاً عن يمينـه. “له يخضع كل ما في السماء وعلى الأرض” ويعطيه كل من فيه نسمة حياة. وعندما يأتي “ليدين الأحياء والأموات” سيُقاضي عن دمـه كل من رفض الإيمان به.
“والذي أقامه من الموت” سيُقيمنا معه أيضاً إن امتثلنا لمشيئته، وسرنا على طريق وصاياه، وأحببنا ما يحب، وتركنا كل إساءة وطمع ونميمة وشهادة زور، وعن حب المال المفرط متجنبين مجابهة شر بشر، وشتيمة بشتيمة، وضربة بضربة، ولعنة بلعنة، ذاكرين تعليم من قال: “لا تدينوا لئلا تُدانوا، اغفروا يُغفر لكم، أرحموا تُرحموا، بالكيل الذي تكيلون به يُكال لكم، طوبى للمساكين وللمضطَهدين من اجل البرّ فإن لهم ملكوت الله”.
لنقدِّم أنفسنا لمن قدَّمَ نفسه عنا
جدير بالذكر إن عددا من الصلوات التي نرتلها في عيد القيامة مأخوذة من عظات القديس غريغوريوس النزينزى
ففى العظة الأولى التي ألقاها القديس غريغوريوس بعد انتخابـه أسقفاً على نازيانز (آسيا الصغرى) سنة 362. نجده يقول لنا:
“الذين خدمونا وتألموا من اجلنا. لنصفح عن كل شيء في القيامة، أنا اغفر لكم فرض المسؤولية عليَّ وأنتم اغفروا لي تأخري … مُسحت سريا وتخلفت عن خدمة السر فترة تفحصت فيها نفسي، والآن أعود في هذا اليوم البهي الذي يساعدني لأتغلب على ترددي وضعفاتي. وأرجو أن يجددني القائم من بين الأموات بالروح ويلبسني الإنسان الجديد ويدفعني إلى خليقتـه الجديدة عاملاً جيداً وسيداً جيداً مستعداً للموت مع المسيح والقيام معـه.
أمس كنت مصلوباً مع المسيح، اليوم أُمجَّّد معـه.
أمس مت مع المسيح، اليوم أحيا معـه.
أمس دُفنت مع المسيح، اليوم اخرج معـه من القبر.
لنقـدّم بواكيرنا إلى الذي تألم وقام من اجلنا. أتظنون إني أتكلم عن الذهب والفضة والأقمشة والحجارة الكريمـة؟ كلها مقتنيات أرضية، لا تخرج من الأرض إلاَّ لتقع في أكثر الأحيان بين أيدي الغاشين عبيد المادة وأمير هذا العالم.
لنقدم للمسيح ذواتنا: هذه هي أثمن تقدمة في عيني الله والأقرب إليه.
لنردّ إلى صورته ما هو على شبهه.
لنتعرف على عظمتنا ونمجّد مثالنا، لنفهم قوة هذا السر وسبب موت المسيح.
لنصر مثل المسيح بما أن المسيح صار مثلنا.
لنصر آلهة من أجلـه بما أنه صار إنساناً من أجلنا.
أخذ الأسوأ ليعطينا الأفضل.
أفقر ذاتـه ليغنينا بفقره.
أخذ صورة عبد لنحصل على الحريـة.
وضع نفسه ليرفعنا.
تجرّب ليشهد انتصارنا.
قَبِلَ الإهانـة ليظلـلنا بالمجد.
مات ليخلصنا.
صعد إلى السماء ليجذبنا إليه نحن الذين تمرَّغنا في الخطيئـة.
لنقدّم كل شيء إلى من أعطى ذاته فديةً عنَّا.
لن نعطي أبداً تقدمةً أعظم من أنفسنا إن فهمنا هذا السر وصرنا من اجله ما صاره من اجلنا”
الأخدار السماوية
أما القديس غريغوريوس اللاهوتى فيقول عن القيامة :
المسيحُ قام من بين الأموات، فقوموا أنتم معه.
المسيح عاد واستوى في مكانه، فعودوا أنتم معه.
المسيح تحرر من رُبُطِ القبر، فتحرروا أنتم من رُبُطِ الخطيئة.
أبواب الجحيم قد فُتحت، والموت ينحل.
آدم القديم يبتعد والجديد يعود إلينا.
فإذا كانت خليقةٌ جديدةٌ بالمسيح، فتجددوا أنتم.
الفصحُ فصحُ الرب. هذا عيد الأعياد وموسم المواسم، فهو فوق الأعياد والمحافل جميعا، وفضله على سائر الأعياد كفضل الشمس على سائر الكواكب. اليوم نعيِّد القيامة نفسها التي لم تعد أملاً ورجاءً، بل واقعاً حياً، وموضوع فرح دائم في غلبتنا الموت. فقد اشتملت العالم بأسره.
ومتى صعد المسيح إلى السموات، فاصعدْ معه، وكُنْ مع الملائكة. ساعد في أن ترفع الأبواب لاستقبال الآتي من الآلام بحفاوة.
وأَجِبْ السائلين: “من هو هذا ملك المجد؟” أجب إنه السيد الرب ملك المجد، و”إنه الرب القوي والقدير”.
يا أيها الناهضُ، إذا وصلنا باستحقاق إلى الغاية المبتغاة، وصرنا مقبولين في الأخدار السماوية، سنقرب لك بصحة العزم ذبائح مقبولة على مذبحك المقدس.
المسيح عيدنا
ونختتم هذه الجواهر الخالدة من اقوال الاباء الاولين بحديث البابا القديس اثناسيوس الرسولى عن مفهوم عيد القيامة
الأعياد في نظرالكنيسة يختلف مفهومًها عن المفهوم الموسوى ففي القديم كانت الأعياد رموزًا تهدف نحو تعلق الأنفس بمجيء الرب يسوع الذي هو “العيد الحقيقي”.. أما الآن وقد جاء الرب وتمتعنا به فالعيد لا يحمل رمزًا بل يحمل حياة مع الرب يسوع فادينا هو عيدنا إذ هو فرحنا وبهجة قلوبنا لذلك نحن نعيد به في كل وقت وفي كل مكان لكن إن كانت الكنيسة المقدسة قد رتبت أوقاتًا للعيد فهذا لا يحمل فيه رمزًا أو ظلالا أو حرفًا كما في القديم إنما بالعيد:
تذكرنا بأن يسوع هو عيدنا. تذكرنا بعمل الله معنا فنشكره ونسبحه.نحيا ببركات الرب “عيدنا” تذكرنا الكنيسة أيضا كفرصة للتوبة والرجوع ، وتشوقنا الى العيد الابدى “الحياة الابدية”…