
ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية يذهب للقسطنطينية
وفى سنة 403م لم يجد ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية مناصاً إلا ان يسافر إلى القسطنطينية، وأشاع قبل سفره أنه ذاهب إليها ليحرم يوحنا ذهبى الفم بطريرك القسطنطينية ويقصيه عن كرسيه ويحرمه من وظيفته من أجل الوقوف ضده فى مشكلة الإخوة الطوال وبعد أن جهزت الأمبراطورة كل شيء دعت إلى عقد مجمع في القسطنطينية. إلا أن ظاهر المجمع كان شيء والخفي شيء أخر، فكان الهدف من المجمع هو أن تتم محاكمة الذهبي الفم. أما الذهبي الفم فكان يعتقد أن المجمع سينعقد ليحاكم ثيوفيلوس، ونتائج هذا المجمع قد أكدت الإشاعة التى سبق واطلقها ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية في ربيع 403 أرسل ثيوفيلوس بطريرك الإسكندرية أحد أساقفته. القديس ابيفانيوس، اختصاصه كشف الهرطقات. ووصل إلى القسطنطينية. وكان تصرفة واضحا منذ بداية فمنذ لحظة وصوله كان يتصرف وكأن الذهبي الفم هو الهرطوقي، لأنه دافع عن الأخوة الطوال وهم هراطقة. وكان ابيفانيوس مخدوعاً، فعمل على تدبير حيلة تنهي قصة الأخوة الطوال وتعطي الفرصة للمجمع أن ينعقد ليحاكم الذهبي الفم. وبعد أن قدم حيلته للأمبراطورة. ذهب لعنده امونيوس أحد الأخوة الطوال (صاحب الأذن الواحدة) وكلمه ثم سيرابيون فعرف أنه وقع في حفرة نصبها له ثيوفيلوس وأفدوكسيا فقرر العودة قبل أن يصل أعضاء المجمع. ورقد وهو في طريق عودته فأبحر ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية إلى القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية على سفية خاصة فى أبهة الملوك والأباطرة والسلاطين وحوله حاشية من أساقفة مصر والحبشة وتحيط به زمرة من الكهنة والقساوسة، وما أن ألقت السفينة مرساها فى مياه البوسفور التى كانت تنعكس اشعة شمس شهر يونيو على مياهها، حتى حياه البحارة المصريين الذين يعملون على المراكب التى كانت تنقل جزية الحنطة (القمح) للقسطنطينية،وأدوا لباباهم واجب التبجيل والإحترام وهم فرحوا برؤية بطريركهم المصى بالقسطنطينية، ولكن لم يذهب لأستقباله كان واحد من كهنة العاصمة فلم يرغب فى الإقامة فى العاصمة فذهب إلى مكدونية، وما أن وصل إلى هناك حتى قام بإستقباله سيرينوس أسقفها المصرى الجنس بكل إحترام وتعظيم وجميع أساقفته وأقام في خلقيدونية أياماً ثم جاء القسطنطينية . ومرّ أمام كنيسة الرسل ولم يدخل إليها. وعلى الرغم من هذا فإن الذهبي الفم ذهب لاستقباله في القصر الذي أعد له ودعاه للإقامة عنده. وكان بيت افغرافية مركز المشاغبة والمؤامرة على الذهبي الفم.
قضاة مجمع السنديانة: (البلوطة)
ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية يتهم القديس يوحنا ذهبى الفم بتهم تافهة
عقدوا اجتماعاتهم في العاصمة لأن الذهبي الفم كان محبوباً موقوراً. فاستحسنوا بلدة خليقيدونية ونزلوا عند أسقفها المصري كيرينوس وعقدوا اجتماعهم في قصر السنديانة. وانضم إليهم أكاكيوس وسفيريانوسو أسقف جبلة وأنطوخيوس أسقف عكة وماروطة أسقف ميافارقين ومكاريوس مغنيسية. وكان هذا في منتصف تموز. وابتدأت المحاكمة. بينما كان يوحنا مع أصدقائه في غرفة الطعام يتحدثون. وكان يكلمهم كما لو أنه يودعهم وأصغى المجتمعون في السنديانة إلى جميع الاتهامات الواردة في الذهبي الفم. فبلغت شكايات الارشدياكون يوحنا تسعاً وعشرين. وادعى الأسقف اسحق على الذهبي الفم أنه قبل في كنفه رهبان قالوا قول اوريجانس. وأنه تدخل في شؤون أبرشيات لا يتبعون إلى أسقفيته. ومن ثم الراهب اسحق قدم ثماني عشر شكوى منها "حنو القديس على الخطأة"! وأعد مجمعاً وأرسل يستدعى يوحنا ذهبى الفم وطلب منه الحضور إلى المجمع ليدافع عن نفسه عن عدة إتهامات طويلة وعريضة طالما إتهموه أعداؤه بها ولم يستطيعوا إثباتها عليه، ولكنها وجدت طريقها بسبب ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية للكيل بكيلين لذهبى الفم بسبب موقفه بجانب الإخوة الطوال فى شكواهم، وكانت أكثر هذه التهم تافهة وعديمة الأهمية، وكان قصد ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية أن يزعج يوحنا ومضايقته ووضعه فى موضع إتهام، وإختار ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية تهمتين من هذه التهم العديدة ورتبها ترتيباً تنازلياً، واعد الأسئلة بحيث يعسر نقضها ودحضها أو إنكارها:
التهمة الأولى: إتهام يوحنا ذهبى الفم أنه لقب الإمبراطورة بلقب " إيزابل" (وهى إمرأة آخاب ملك إسرائيل الشريرة: إقرأ 1ملوك 19)
التهمة الثانية: انه تكلم ضدها كلام غير لائق ويدل على إحتقاره لها .
(ملاحظة: لا يملك مجمع ان يحرم أسقفاً للتهم السابقة لأنها لا تدخل فى موضوع الإيمان الإرثوذكسى) ولم ينكر يوحنا ذهبى الفم بأنه دعى هذه الإمبراطورة بإسم إيزابل فى عظة ألقاها فى شعب الكنيسة واتخذوا قراراً بخلعه وبعثوا به إلى البلاط ونشروه في جميع كنائس العاصمة. ولم يُبنَ الحكم فيه إلا على أن المجمع دعاه أربع مرات فلم يحضر. وقد ضاعت أعمال هذا المجمع إلا ما نقله فوطيوس العظيم عنها وهذه هي التهم التي وجهت للقديس:
إن الذهبي الفم رقّى إلى درجة الكهنوت عبداً سابقاً متحرراً هو تيفريوس
الذهبي الفم يأخذ حمامه اليومي وحيداً
يأكل Bonbon Au Miel
يأكل على إنفراد خضاراً مسلوقة
في أيام الحر الشديد يضع بعض النقاط من النبيذ في الماء
لا يرتب ثيابه الكهنوتية بعد الانتهاء من الخدم الإلهية
وأكثر ما يضحك من بين التهم أن القديس الذهبي الفم ينام مع امرأة!!! وهذه التهمة التي حزت بنفسه فكتب إلى صديقه الأسقف سيرياكوس "يزعمون أيضاً أني أنام مع امرأة. ألا فليجردوا جسدي وينظروا الحالة المزرية التي فيها أعضائي".
التهمة الثالثة: أن يوحنا ذهبى الفم عمل على التعدى على سلطة الأساقفة وتحريض الآخرين على عصيان رؤسائهم الروحيين (وكان ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية بلا شك يقصد رهبان وادى النطرون ومن معهم الذين نفاهم هو) وكانت هذه المشكلة قد طويت وإنزوت فى زوايا الإهمال لولا أن حرك ساكنها وطلب شهود الإثبات وهو الأسقف ديسقوروس (من الأخوة الطوال) الذى كان قد تنيح ولم يبقى سوى امونيوس أخيه فقد أحضروه غلى خلقيدونية وهو يحتضر فلما رآه ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية فى حالة الموت ذرفت عيناه بالدموع من شدة التأثر وهكذا تم الصلح بين الخصمين اللدودين فى أقل من لمح البصر بدون وساطة ولا شفاعة أحد سوى وقع العين وتأثير النفس النقية بعيدة عن شر الشرير، وقبلا بعضهما بعضاً بقبلة مقسة وهكذا سرت مياة الروح فى أرض نفسيهما الجدباء كما تروى الأرض المشققة بالماء فأرتوت النفوس وهدأت القلوب .
خطابا لثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية يامرة بالحكم على يوحنا ذهبى الفم
بينما كان الفرعون الإسكندري وأصحابه يفتلون الشر فتلاً ويحكمونه احكاماً قام غيرهم أربعون أسقفاً من القسطنطينية وغيرها ينظرون في ملافاة الخطر. أما الذهبي الفم فإنه طلب منهم أن لا يدع أحد منهم كنيسته لأجله. ثم كتب أعضاء السنديانة إلى الذهبي الفم أن يبرر نفسه أمامهم. فرد الأساقفة المجتمعون في القسطنطينية أن في هذا الطلب خروجاً على القوانين الموضوعة في نيقية. وأن أقلية مثلهم عليها أن تخضع لأكثرية مؤلفة من أربعين أسقفاً برئاسة سبعة مطارنة. ولكن الذهبي الفم وافق شريطة أن يترك المجمع أعدائه. فكان ثيوفيلوس قد قال في ليقية "إني منطلق لعزل الأسقف يوحنا". فأبوا وأبى ويقول الملكيين (الروم): " تعاقد ثاؤفيلس مع إيدوكسيا (11) Eudoxia على مهاجمة الذهبي الفم. وكان جديراً بهذا. فهو خبير في التهديم والتخريب والتدمير وتصفية الإنسان! ولا بد من مناسبة لمباشرة العمل. فكان "الأخوة الطوال" الحجة التي تذرع بها للانقضاض على الذهبي الفم." وقد استغلت الإمبراطورة عداء ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية ليوحنا ليقوم بنفي ذهبي الفم ولم يتذكر البابا المصرى كلمات يوحنا عنها أن إيزابل الشريرة ونسى مكرها فإنصاع لمشورتها الخبيثة، حيث انعقد مجمع السنديان تحت رئاسة البابا ونٌفيّ القديس ذهبي الفم. فصار ذلك يمثل كارثة أفسدت تاريخ البابا ثاوفيلس تمامًا، وفى هذه الأثناء أرسلت الأمبراطورة إيدوكسيا Eudoxia خطاباً صادراً من ديوان الإمبراطور إلى مجمع خلقيدونية فى جلسته الثانية عشر وفيه أمراً للمجمع بإصدار حكمه فى موضوع يوحنا ذهبى الفم بأقصى سرعة وكان الدافع وراء هذا الأمر حقد الأمبراطورة إيدوكسيا على بطريرك القسطنطينية لأنه أهانها وبناء على هذا الأمر أو هذا الخطاب الصادر من الديوان، وحتى ولو طلباً ولم يكن أمراً فقد كان الأمر فى يد ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية الذى رآها فرصة سانحة لكى يبعد يوحنا فهو يعمل على ترسيخ مبدأ المجمع السابق بأن بطريرك القسطنطينية يعلوا فى كرسية بطريرك الإسكندرية فأمر: بخلع يوحنا ذهبى الفم وحرمه ولإقصاؤه عن كرسيه ونفيه حالاً إلى خارج القسطنطينية ولم يكن ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية درجة محبة شعب القسطنطينية ليوحنا ذهبى الفم فقد حدث أنه بعد ثلاثة ايام على صدور الحكم بالنفى كان من الصعب إلقاء القبض عليه لتنفيذ أمر النفى وإبعاده لأن تجع جمهور كبير من أهل القسطنطينية واحاطوا بمنزله وأعدوا العدة لحراسته وحمايته وكانوا يتناوبون الدفاع عنه بطريقة منظمة كأنهم حرس عسكرى حتى لا يتم القبض عليه، وصار الجميع يخافون من حرب أهلية فى داخل العاصمة بل أن الحرب أصبحت وشيكة الإندلاع فعلاً لولا أن القديس يوحنا ذهبى الفم كان يرتقى منابر الكنائس وينصح شعبه بالهدوء والسكينة واستغاث الذهبي الفم بالكنيسة الجامعة وسأل عقد مجمع مسكوني ولم يخضع فوراً لحكم قضاة السنديانة بل ظل يواصل أعماله الرعائية يومين كاملين ولما كان منتصف اليوم الثالث فى وقت الظهيرة وذهب بعض من الحراس فى النوم أن يوحنا ذهبى الفم تسلل من باب خاص دون أن يشعر به أحد، وذهب إلى موظفى الحكومة وسلم نفسه لهم بكل رضى وهدوء فأخذوه حينئذ إلى سفينة وأرسلوه إلى بيت عنيا (8) وخلا الطريق لثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية ودخل إلى المدينة فى اليوم التالى لإبحار القديس يوحنا ذهبى الفم، وتوجه للكنيسة الكبرى وبدأ فى مراسيم سيامة بطريرك خلفاً ليوحنا ذهبى الفم على كرسى القسطنطينية، ولكن لما سار الواعظ الذى كان مكلفاً بالوعظ من ثاؤفيلس إلى المنبر ووقف ليتكلم واخذ يطعن فى يوحنا ذهبى الفم بكلام شديد هاج الشعب هياجاً شديداً ولم يتمكن احد من فرض الهدوء عليهم وصاحوا وهتفوا للقديس يوحنا ذهبى الفم حتى إرتجت الكنيسة وإهتزت من أساساتها وتدخلت قوة عسكرية فطردت الشعب الثائر بالعصى والمعاول، وإمتلأت الشوارع من العامة الثائرين وهم يملأون الدنيا بصياحهم طالبين إرجاع يطريركهم استيقظ الشعب عند الصباح ولم يجد أسقفه فغضب. واكتظت الشوارع بالناس وأحاط بعضهم بالقصر من كل جانب وصرخوا طالبين إرجاع أبيهم المنفي. وظلوا على هذا الحال حتى المساء، وهجموا على ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية وكادوا يفتكون به لتعضيده الإمبراطورة إيدوكسيا Eudoxia، ووفي هذا الوقت كان مؤمني القسطنطينية عازمون على إلقاء ثيوفيلوس إلى البحر، لأنه عدا عن تآمره على قديسهم. كان يريد تنصيب أسقفاً عليهم يكون موالٍ له. وقد حاول أن يقمع أصوات المؤمنين المطالبين بعودة القديس بالقوة وسفك الدماء. فهرب في الليل إلى مصر. مسطحباً اسحق السوري، شريكه في المؤامرة. ومقسماً ألا يعود إلى القسطنطينية .
زلزال فى الهزيع الأول من الليل
توترت أعصاب الناس وإنتشر الغضب بينهم لاولا رحمة الإله وفي أواسط الليل أرجفت الأرض وتزلزلت أركان القصر الإمبراطوري وهز المدينة هزاً شديداً وحدث زلزالاً شديداً فى الهزيع الأول من الليل رج المدينة حتى أن الإمبراطورة إيدوكسيا Eudoxia قامت مزعورة من نومها وذهبت إلى مخدع زوجها وترجته أن يعيد القديس يوحنا ذهبى الفم مادامنا نرى غضب السماوات لأجله وكادت تصب غضبها على الأرض حزنا عما فعلوه معه، فلم يجيب الإمبراطور أركاديوس لطلبها إلا بعد ان سمع ما فعله الشعب مع ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية بالكنيسة وأنه سيكون مكروها منهم وينقلب ضده فاشتد خوف الإمبراطورة ورأت في ذلك انتقاماً ربانياً. فقالت لاركاديوس إن لم يعد الأسقف فليس لنا تاج ولا سلطات. فوكل اركاديوس إليها أن تفعل ما تشاء، فكتبت بخط يدها تبدي عذرها وأوفدت أحد رجالها ليرجو العودة. فلما عبر البوسفور أبى العودة إلى كرسيه تواً لئلا يخترق حرمة القانون الكنسي فإن خروجه كان بحكم مجمعي فكان لا بد من حكم مجمعي لعودته. فطلب من افدوكسيا دعوة إلى عقد مجمع صالح للنظر في الاتهامات المنسوبة إليه من مجمع اللصوص مجمع السنديانة وفى الحال تقرر إنعقاد مجمع إجتمع فيه 60 أسقفاً وفيه تم إلغاء قرارات المجمع السابق وقرر أن القديس يوحنا ذهبى الفم ما زال بطريركاً على القسطنطينية ولكن الشعب لم يقبل له عذراً فسار بموكب عظيم إلى كنيسة الرسل وأوجز في الكلام فبارك أسم الرب إلى الأبد: "أجل تبارك الله الذي يحيط الكايد ويقضي برجوع الراعي. تبارك الذي يثير العواصف. تبارك الذي يحلّ جليد الشتاء ويقمع هيجان الريح ليقوم مقامها الهدوء والصحو والسلام". والتفت في كنيسة الحكمة الإلهية (أجيا صوفية) إلى كنيسته فتراءت له متوجة بإكليل سموي فهي العروس ساره العفيفة الطاهرة . .
موقف أسقف روما بين أسقف القسطنطينية وأسقف الأسكندرية
أما ثاؤفيلس بطريرك الإسكندرية فكتب خطاباً إلى بطريرك روما يخبره فيه أنه جرد القديس يوحنا ذهبى الفم من وظيفته فرد عليه البابا يسأله عن اسباب هذا التجريد، وقال له: أنه على تمام الصداقة والشركة والأخاء معه ومع القديس يوحنا ذهبى الفم أيضاً
كيف نفى القديس يوحنا ذهبى الفم للمرة الثانية؟
وأعتقدت الإمبراطورة إيدوكسيا Eudoxia أن الرسالة التى أرسلتها إلى يوحنا (أعنى نفيه) قد فهمها وأنه لن يتعرض لها مرة أخرى، وحدث أن الأمبراطورة إيدوكسيا Eudoxia أرادت أن يكون لها تمثالاً أسوة بالأباطرة. ونفذت رغبتها. ووضع التمثال في أكبر ساحة في العاصمة، أمام كنيسة الحكمة الإلهية. وتحاشى القديس يوحنا ذهبى الفم أن يصطدم معها ويوبخها على هذه العادة الوثنية وكان حاكم المدينة كان مانوياً يكره الذهبي الفم. فأقام لمناسبة الاحتفال بالتمثال ملعباً للرقص والشرب والمصارعة في الساحة المقابلة لأبواب الكنيسة. فلم يستطع الذهبي الفم صبراً. فذكّر المؤمنين أن هذه الملذات من شأنها أن تجدد قبائح الديانات الوثنية. ولا يجوز الاشتراك بها. وطلب من الحاكم أن يكف عن هذه الأعمال، المصاحبة لتدشين التمثال. فإستغل الفرصة للوقيعة بينه وبين الأمبراطورة فقال لها: " أن الذهبي الفم غير راضٍ عن مظاهر الاحترام لشخصها " كما أن الذهبي الفم ألقى عظة ذكر فيها الأمبراطورة إيدوكسيا Eudoxia وكانت الأمبراطورة تترصد الذهبي الفم. ورأت في معارضته لهذه الاحتفالات تحقير لها كإمبراطورة ولا شك أن خلافها القديم معه لم يكن قد إنتهى فقد كان كالنار تحت الرماد الذى أحدثه الزلزال توقفت النار ولكنها ما زالت تتأجج وقامت إيدوكسيا Eudoxia بتوجيه رسائل إلى الأساقفة المصريين الذين سبق لهم وحكموا على الذهبي الفم. وكتبت رسالة طويلة إلى، ثيوفيلوس البطريرك الإسكندري. تحثه على القدوم إلى العاصمة. إلا أنه كان عارفاً أن ظهوره في شوارع القسطنطينية يعني موته وجعله طعام لأسماك البحر. فقام بإرسال مندوبين عنه بعد أن لقنهم دروساً في كيفية تجديد الحكم على القديس. وأرسل الإمبراطور اركاديوس دعوة لأساقفة آسيا وأنطاكية. فلبى الدعوة بعضهم وأبى البعض الآخر خشية من اتساع الشقاق في الكنيسة. وحضر جميع أخصام الذهبي الفم والمتآمرين عليه وتقول مسز بتشر: أما البابا ثاؤفيلس البطريرك رقم 23 فلم يكف عن بث أسباب الخلاف والخصام والتفرقة ولم يهدئ من مناصبة يوحنا ذهبى الفم العداء، فأرسل وفد من الأسكندرية ليقوم بمهمة طرد ونفى وإقصاء ذهبى الفم من أبروشيته، ولم يذهب ثاؤفيلس البطريرك بنفسه معتذراً بكثرة أشغالع والواجبات الضرورية الموكولة إليه فأناب عنه الوفد الذى قام بالخطة التى وضعها له ثاؤفيلس البطريرك ونجحوا فى إصدار أمر من الإمبراطور أركاديوس والإمبراطورة معاً وحضر الأمبراطور إيدوكسيا Eudoxia وإستمع إلى عشرة أساقفة من كلا الطرفين -الأعداء والأصدقاء-. وقبل دعوة الذهبي الفم، وقف أسقف مصري وسأل المجتمعين: ماذا جئنا نفعل؟ وأجاب الأساقفة أعداء الذهبي الفم: نحن مجتمعون لنحاكم الذهبي الفم ونحكم عليه، ثم قال لهم أن الذهبي الفم غير موجود بالنسبة لهم وللقوانين. فكيف يمكن استدعاء شخص غير موجود للمثول أمام القضاة. وتكلم المصري عن مجمع التكريس الأنطاكي سنة 341. وأن بعض قوانين ذلك المجمع تدين الذهبي الفم وتحكم عليه . وقرأ عليهم القانون الرابع من المجمع وينص: "كل أسقف مخلوع من قبل مجمع، بعدل وبغير عدل. يسمح لنفسه بالرجوع إلى منصبه بمجرد سلطان وبدون أن ينال عفواً عن إدانته من المجمع نفسه ومن مجمع آخر. وبدون أن يدعوه القضاة أنفسهم إلى ممارسة حقوقه الكهنوتية - بدون أن يسمح له بالدفاع عن نفسه - هذا الأسقف وكل من يشترك معه يحرمون من شركة الكنيسة". وتابع المصري استناداً إلى هذه المادة فإن المجمع الحالي ليس أمامه شكوى للنظر فيها. فمجمع السنديانة المنعقد برئاسة (الكلي التقوى) ثيوفيلوس قد خلع يوحنا الذهبي الفم فهو إذن محروم ولا يحق له المثول أمام مجمع لأن الذهبي الفم ليس أسقفاً بل محروم. ادعى أنه كان مظلوماً. هذا لا يبرره. فقانون أنطاكية يقول صراحةً أبعدل أم بظلم، لا يحق للمحكوم أن يمارس حقوقه. ولا يحق له أن يستأنف ويدافع عن نفسه!! وطلب المصري ألا ينعقد المجمع. وهنا جاء دور البيذس أسقف لاذقية سورية. وطلب إلى أخصامه أن يوقعوا قانون أنطاكية (مجمع أريوسى) كأنه عمل أرثوذكسي قبل تطبيقه على يوحنا الذهبي الفم. فاحتاروا في أمرهم لأنهم إن قبلوه تلطخوا بالآريوسية وإن أبو سقطت حجتهم. فلاذوا بالكذب ووعدوا بالتوقيع ثم أخلفوا. وبحسب نفس المجمع والقانون الخامس منه: "كل كاهن وأسقف طرد من الكنيسة واستمر في إثارة القلاقل والاضطرابات، فليحاكم من السلطة الخارجية كمشاغب"وأشار المجمع المنعقد على الأمبراطور أركاديوس بأن يحكم على الذهبي الفم فأرسل الأمبراطور اركاديوس يسأل الذهبي الفم في الحكم. فأجاب أن كل أحكام المجمع المصري خاطئة.
أولاً: إن قوانين المجمع الأنطاكي هرطوقية آريوسية. لا تعترف بها الكنيسة الأرثوذكسية.
ثانياً: إن مجمعاً اكليريكياً - كنسياً لم يحكم عليه مطلقاً. وفي الواقع أن مجمع السنديانة لم يبلغ الذهبي الفم الحكم الصادر بحقه. وإنما ضابطاً امبراطورياً جاءه وقال له أن يتهيأ للرحيل. فبما أن لم يبلغه مجمع السنديانة الحكم الصادر عليه فهذا يعني أن الحكم غير واقع.
ثالثاً: الذهبي الفم لا يطلب من المجمع أن يعيد له حقوقه. فحقوق القديس لم يسلبه إياها أحد. بل طلب من المجمع إظهار براءته من الاتهامات، ووضع حد للنميمة.
كيف نفذ أمر نفى القديس يوحنا ذهبى الفم؟
وفى عيد الفصح لسنة 404 م أى بعد عشرة أشهر من الحكم كانت القسطنطينية في قلق واضطراب والقديس لا يتزعزع. فحاولت القوة العسكرية بتوجيه من خصوم القديس يوحنا أن يوقفوا الإجتماعات وأماكن الاضطراب والإخلال بالنظام وحاولوا منع انعقادها. ولما لم يستطيعوا طلبوا طرد الذهبي الفم قبل عيد القيامة (17 نيسان) لأنه محروم من المجمع فأمر الإمبراطور القديس يوحنا ذهبى الفم الخروج من كنيسته. فقال الأسقف القديس ذهبى الفم: لقد استلمت الكنيسة من يسوع المسيح ولا أستطيع أن أترك خدمتها. فإن أردت أن أترك هذه الحظيرة المقدسة فاطردني قهراً بينما كان القديس يوحنا ذهبى الفم بطريرك القسطنطينية يؤدى خدمة عيد الفصح فى الكنيسة الكبرى أرسلت كتيبة مدججة بالسلاح وهاجمت الكنيسة فقام الإمبراطور بطرده يوم سبت النور من الكنيسة وحذر عليه الخروج من قلايته. ولم يكتفى بطرده من الكنائس بل طرد أيضاً جميع الكهنة الذين كانوا في شركة الأسقف القديس. وكانت العادة حينئذ تقضي بأن يبقى المسيحيون ساهرين بالصلوات حتى صياح الديك معدين طالبي المعمودية -الموعوظين- إلى قبول هذه النعمة (وقيل أنه بالكنيسة كان يوجد أكثر من ثلاثة ألاف نفس مستعدة للعماد فطرد الجنود كل من فى الكنيسة بما فيهم طالبى العماد بأسنة الرماح)، ثم طردوا الشعب خارج الكنيسة بالقوة فلم بستطع الكهنة ترك الذين جاءوا للمسيح بدون عماد فجمعوا طالبى العماد من الشوارع ولجأوا جميعهم إلى الحمام الكبير الذي شيّده قسطنطين وحولوه إلى كنيسة، وصلوا على الماء الذى فى الحمامات وباركوها وعمدوهم بكل نظام تام وسرعة، وما أن تم العماد حتى سمع الجنود بتجمعهم فهجموا على الكهنة وطردوهم من هناك أيضاً . فسعى المتآمرون في فض هذا الاجتماع. فدخل الجند الحمام والسيوف بأيديهم مصلتة واخترقوا الحشد حتى وصلوا إلى جرن المعمودية فضربوا الكهنة والشيوخ والنساء واختلسوا الآنية المقدسة. وخرج المؤمنون خارج الأسوار واحتفلوا بالتعميد وأقاموا الذبيحة في ميدان قسطنطين. إلا أن الأمبراطور لم يكن صاحب فكرة سفك الدماء وإنما الأسقفان انطوخيوس وأكاكيوس اللذين كان من ضمن الفريق الذي حكم على الذهبي الفم وبعد العنصرة بخمسة أيام أي في التاسع من حزيران سنة 404. سار اكاكيوس وأعوانه إلى الأمبراطور أركاديوس وقالوا: إن اإلإله لم يجعل في الأرض سلطاناً فوق سلطانك. وليس لك أن تتظاهر بأنك أكثر وداعة من الكهنة وأعظم قداسة من الأساقفة. وقد حملنا على رؤوسنا وزر عزل الأسقف يوحنا. فحذار مما ينجم عن إهمال التنفيذ. فأوفد أركاديوس أحد كبراء البلاط إلى الذهبي الفم، يسأله أن يهجر كنيسته ورعيته بلا إزهاق للأرواح. فأصغى القديس وقام إلى المنفى، وصلّى وودع "ملاك الكنيسة" ثم ذهب إلى مصلى المعمودية ليودع الماسات الفاضلات اولمبياذة الأرملة القديسة وبناذية وبروكلة وسلفينة وقال لهن: لا تدعن شيئاً يخمد حرارة محبتكن للكنيسة وخرج القديس خفية. وقبض عليه رجال الشرطة وعبروا به البحر إلى نيقية حيث ألقوه في السجن. واستبطأ الشعب خروج راعيهم فارتفعت جلبتهم في كنيسة الحكمة. وفيما هم على هذه الحال اتقدت نار تحت المنبر وحولته رماداً. ثم امتد لهيبها إلى السقف وسرى خارج الكنيسة. ثم دفعته ريح شمالية إلى الجنوب فبلغ قصر الشيوخ فقوضه. وأمست الكنيسة الكبرى خالية مهدمة ولم يسلم منها إلا آنية الافخارستية! وأقام القديس في نيقية أربعين يوم وأكثر. وعلى الرغم مما كان عليه من مضايق السجن وغلاظة الجنود. فإن نفسه ظلت تتوقد غيرة على خلاص النفوس في سورية وفينيقية وتحطيم الوثنية. وكان صديقه قسطنديوس البار لا يزال يعمل في حقل الرب في تلال فينيقية وسهولها متكبداً أشد المصاعب من الوثنيني ومن "الأخوة الكذبة" فقيض الله الذهب الفم راهباً زاهداً في نيقية فاستقدمه الأسقف القديس إليه واستمال قلبه إلى التبشير في فينيقية وأرسله إلى صديقه قسطنديوس.