المقالات

11 يناير 2023

استشهاد أطفال بيت لحم

طرح بلحن واطس. التفسير: بالحقيقة يا أحبائي أن هؤلاء الأطفال الأطهار، الذين قتلهم هيرودس الملك الشرير، قد نالوا مجدًا وإكرامًا ودالة عظيمة، أمام الحمل الحقيقي ربنا يسوع المسيح. فهؤلاء هم الأطفال الأطهار الذين تكلم بمجدهم وكرامتهم. المرتل داود النبي هكذا قائلا. من أفواه الأطفال والرضعان هيأت سبحًا. أيها المخلص الصالح ملك الملوك. هؤلاء هم الاطفال القديسون الذين تكلم بمجدهم وكرامتهم. مخلصنا الصالح علي فم أشعياء النبي قائلًا. لهوا أنا والأطفال الذين أعطانيهم أبي لكي يرثوا ملكوتي. هؤلاء هم الاطفال الاطهار الذين نطق بمجدهم وكرامتهم يوحنا البتول في جليانه صارخًا قائلا: قدد أبصرت جمعًا كثيرًا يمشون مع الحمل علي جبل صهيون فلم يكن أحد من الملائكة ولا رؤساء الملائكة. عرف تفسير التسبحة غير هؤلاء المائة والاربعة والاربعين ألفًا(1) طوباهم بالحقيقة هؤلاء الاطفال الاطهار. والاجناد الشهداء الذين بغير مكر ولا شر. اليمام الذي بلا عيب. فراخ النسور المرتفعة إلي العلاء. وليس من يشبههم أمامه في مصاف القديسين. لأنه في القيامة الأخيرة عندما يجيء ابن الله في كل مجد أبيه. لكي يدين المسكونة. فيسير أمامه هؤلاء الأطفال الأطهار. وعلامة الصليب تضيء في أيديهم قائلين: أوصنا في العلاء مبارك الآتي باسم الرب. أطلبوا من الرب عنا ليغفر لنا خطايانا. من كتاب الدفنار اليوم الثالث من شهر طوبه المبارك
المزيد
30 ديسمبر 2022

كيف تقضى ليلة رأس السنة ؟

الكل يعرف كيف يحتفل الأقباط بليلة رأس السنة الغالبية تذهب إلى الكنيسة وتقضى الوقت في صلوات وتسبيح . حتى إذا ما جاء نصف الليل ، ارتفع قلب كل واحد إلى الله ، في صلاة خاصة ، حتى يكون الله - تبارك إسمه هو أول من نخاطبه في بدء العام الجديد .وهذه الصلاة التي يفتتح بها العام الجديد تحوى أموراً كثيرة فيها اعتراف مركز بكل خطايا العام الماضي ، وابتهال لمغفرتها . وفيها كل الطلبات التي يرفعها القلب في بداية العام الجديد ، سواء ما يحتاجه المصلى ، أو ما يحتاجه أحباؤه وأقرباؤه ومعارفه ، أو صلاة من أجل الغير ، ومن أجل الكنيسة والوطن والعالم كله وفيها شكر على إحسانات الله الخاصة والعامة . كل هذا حسن ، ، ولكنه لا يكفى ينبغي أن يجلس الإنسان إلى نفسه و يفحصها ، و يدرك ما هي عيوبها الخفية والظاهرة ، عيوبها الثابتة والطارئة ، وأسبابها الداخلية مع المؤثرات الخارجية ، والطريقة العملية لإصلاح كل هذا وعرض كل هذا على الله وطلب معونة من روحه القدوس ينبغي معرفة كيفية التخلص من الخطايا المتكررة في كل اعتراف ، وأيضاً التخلص من العادات والطباع الخاطئة ولا يمكن أن تتخلص من أخاطئك الثابتة إلا إذا تخلصت أيضاً من أسبابها التي توقعك فيها نحن للأسف الشديد ، كثيراً ما نعالج النتائج ، ولا نعالج الأسباب ! بينما معالجة الأسباب ، تريحنا أيضاً من النتائج .على أن جهادك الروحي لا يجوز أن يقتصر على الجانب السلبي . فلا بد أن تفكر في الإيجابيات التي تنقصك .أقصد في الفضائل والروحيات التي يجب أن تتدرب عليها .كالوداعة والاتضاع ، والإيمان ، ومحبة الله ، ومحبة الخير . ثق إنك إن وصلت إلى محبة الله ، وثبتت في قلبك ، فستجد أن كل ضعفاتك قد تبددت تلقائياً إذن قضاء ليلة رأس السنة ، يحتاج إلى استعداد من الآن .تمهد من الآن لتلك اللحظات التي ستقف فيها أمام الله ، في بداية العام الجديد .تعد قلبك وفكرك وانسائك الداخلي وإن صدمت بحرب من حروب الشيطان في أول العام ، فلا تيأس .إنه لابد أن يحسد نيتك الطيبة .فليكن هذا العام مباركاً علينا جميعاً ، وعلى بلادنا ، وعلى العالم كله .لیکن عام سلام وحب وخير ۔۔
المزيد
22 ديسمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس رحوم صاحب القضاء

رحوم صاحب القضاء (عزرا 4: 8 ) اسم عبري معناه "شفوق" أو "محبوب" صاحب القضاء الذي كتب رسالة إلى ارتحشستا الملك ليوقف إعادة بناء أسوار أورشليم وهيكلها (عز 4: 8 و9 و17 و23). تعالوا نتعرف أكتر على رحوم صاحب القضاء ونشوف هنتعلم ايه؟ 1- رحوم العائد لغرض ذكر لنا في سفر عزرا 2:2 ان رحوم عاد مع زربابل في أول فوج لكن ما هو غرض رحوم من الرجوع هو طلب الرئاسة والسلطة 2- رحوم المتلون كان رحوم صاحب القضاء يعني رئيس المراسيم يعني برتبة والي للبلاد يعني مش محتاج أي شيء لكن تملقه للملك جعله إنسان متلون أمام اليهود بشكل وفي الخفاء يصنع المكائد 3- رحوم الخائن لما سمع إن عزرا أخذ أمر ببناء بيت الله ورجوع الناس كتب رسائل للملك حرض فيها الملك لوقف القرار حتى في عزرا 4: 23 لما أرسل الملك الرد بعدم استكمال العمل يقول الكتاب حِينَئِذٍ لَمَّا قُرِئَتْ رِسَالَةُ أَرْتَحْشَسْتَا الْمَلِكِ أَمَامَ رَحُومَ وَشِمْشَايَ الْكَاتِبِ وَرُفَقَائِهِمَا ذَهَبُوا بِسُرْعَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ، إِلَى الْيَهُودِ، وَأَوْقَفُوهُمْ بِذِرَاعٍ وَقُوَّةٍ والسؤال ايه مشكلة يهودي في بناء هيكل الله ده لأنه خائن ومحب للسلطة تعالوا نطبق اللي اتعلمناه 1- إن كان غرضك من الخدمة الوصول للمناصب والمسميات المختلفة فاعرف ان خدمتك فارغة تصبح مثل نحاسا يطن أو صنجا يرن 2- لا تتلون لكي ترضي الناس حتى لا تصبح مثل المهرج 3- احذر من الخيانة لأن الخائن عاره لا ينسى من الناس وتظل في نظر الناس خائن حتى لو رجعت
المزيد
15 ديسمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس حربونا أحد خصيان الملك أحشويروش

حربونا أحد خصيان الملك أحشويروش (أستير 10) اسم فارسي معناه "خرب"، "أصلع"، "أجرد"، "سائق حمار". وهو أحد الخصيان السبعة الذين كانوا يخدمون بين يدي أحشويروش ملك فارس، وأرسلهم للإتيان “بوشتي” الملكة إليه في الوليمة بتاج المُلك ليري الشعوب والرؤساء جمالها، ولكنها أبَت أن تأتي معهم (أس 1:10-12) وهو الذي ذكَّر الملك بالخشبة "الَّتِي عَمِلَهَا هَامَانُ لِمُرْدَخَايَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِالْخَيْرِ نَحْوَ الْمَلِكِ قَائِمَةٌ فِي بَيْتِ هَامَانَ، ارْتِفَاعُهَا خَمْسُونَ ذِرَاعًا"، فأمر الملك بصلب هامان عليها (سفر أستير 7: 9) تعالوا نتعرف أكتر على حربونا ونشوف هنتعلم ايه؟ 1- حربونا الوفي حربونا أحد الخصيان السبعة المقربين لخدمة الملك والملكة والخصيان هم من لهم حق دخول القصر وخدمة الملكة فكان حربونا وفي للملك 2- حربونا الأمين حربونا سمع بخبر الخشبة اللي مجهزها هامان لمردخاي وأخبر الملك عنها كان ممكن يقول وانا مالي دول رؤساء في بعض خليني في حالي ومش عايز اعادي حد 3- حربونا المكرم من وفاء حربونا انه ظل يخدم في القصر حتى بعد موت أحشويروش وتملك ابنه تعالوا نطبق اللي اتعلمناه 1- كن وفيا في علاقتك بالآخرين لأن الوفاء أصبح عملة نادرة بين البشر 2- تمسك بالأمانة حتى لو عشت في وسط فاسد يكفيك أن الله يعطيك حسب أمانتك كن أمينا إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة 3- بقدر عملك يعطيك الرب حسب غنى كرمه لأن الأمين في القليل يقيمه الرب على الكثير
المزيد
08 ديسمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس يشوع بن يوصاداق

يشوع بن يوصاداق (عزرا 5: 2) اسم عبري معناه "يهوه خلاص"، وهو كاهن عظيم ابن يهوصاداق أو يوصاداق (عز 3: 2)، الذي سبي إلى بابل (1 أخبار 6: 15). وعاد يشوع مع زربابل (عز 4: 3 و2: 2). وكان يعينه على بناء الهيكل وإصلاح الأمور الدينية، وعلى الرغم من ذلك فقد تزوج بعض أولاده نساء غريبة (عز 10: 18). ويدعى أيضًا "يهوشع" (زك 3: 1 و3 و8 و9 حج 1: 1 و12 و14 و2: 2 و4). تعالوا نتعرف أكتر على يشوع بن يوصاداق ونشوف هنتعلم ايه؟ 1- يشوع المصلح كلنا عارفين لما شعب يتعرض للسبي هنلاقي الشعب يبعد عن عاداته واطفال يولدوا في أرض غريبة بعادات غريبة فكان دور يشوع هو اصلاح الامور الدينية وتثبيت الشعب وتعليمه الشريعة 2- يشوع والأولوية في أول فوج من الرجوع للسبي أول حاجة فكر فيها هو بناء بيت الرب أولا قبل بناء السور أو بناء المدينة لأن الاحتياج لقوة الله للعمل 3- يشوع وعدم التدقيق زي ما عمل عالي الكاهن كان مهتم جدا بخدمته فأهمل أولاده كذلك يشوع أهمل في التدقيق مع أولاده ونلاحظ في عزرا 10: 18 أن أولاده على خلاف الشريعة تزوجوا نساء غريبة تعالوا نطبق اللي اتعلمناه 1- اصلح من نفسك حتى يأتمنك الله لكي تكون ملجأ لمن يريد المشورة الصالحة فالكوب الفارغ لا يروي عطشان 2- اجعل دائما اولولية حياتك هي اللجوء لله اجعل باكورة يومك لله أول ما تفتح عينك تكون الصلاة وآخر ما تعمله هو الصلاة 3- أسرتك هي وزنتك التي يحاسبك عليها الله وتذكر أن الذي لا يعتني بخاصته ولا سيما أهل بيته فقد أنكر الإيمان وهو أشر من غير المؤمن
المزيد
01 ديسمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس شتربوزناي

شتربوزناي (عزرا 5: 3) اسم فارسي قديم ومعناه "مخلص الدولة" أو "بهاء النجم". وهو ضابط فارسي أراد منع اليهود العائدين من السبي من بناء الهيكل (عز 5: 3 و6 و6: 13) فقد كان أحد موظفي الدولة الفارسية مع تتناي والي عبر النهر (أي البلدان الواقعة غربي الفرات)، فلما رأي هو ورفقاؤه، زربابل ويشوع الكاهن ومن معهما، يبنون بيت الله الذي في أورشليم، لم يوقفوهم عن العمل، بل كتبوا رسالة متزنة لداريوس الملك يشرحون له فيها الموضوع، ويطلبون البحث عما إذا كان قد صدر فعلا أمر من كورش الملك ببناء هذا البيت. فأمر الملك بالتفتيش في الخزائن، "فوجد في أحمثا في القصر الذي في بلاد مادي، درج مكتوب فيه" ، أنه في السنة الأولي لكورش الملك أمر ببناء بيت الله في أورشليم، وإعادة كل ما نهبه نبوخذ نصر ملك بابل. فأرسل إليهم داريوس بما وجده، وأمرهم أن يتركوا عمل بيت الله، وأن يمدوهم بكل ما يلزم، مع تهديد كل من يعترضهم بالصلب. فأسرع تتناي وشتربوزناي ورفقاؤهما بتنفيذ ذلك، وهكذا تم بناء الهيكل بعد العودة من السبي البابلي (عز 5: 1-6: 15). تعالوا نتعرف أكتر على شتربوزناي ونشوف هنتعلم إيه؟ 1- شتربوزناي المتزن كان شتربوزناي مشهور جدا بأنه متزن في فعله وقوله حتى انه برغم انه ضابط عسكري ولكنه أصبح السكرتير العام لتتناي والي عبر النهر ومستشاره الخاص حتى ان تتناي استشار شتربوزناي في نص الرسالة اللي عايز يرسلها لداريوس الملك 2- شتربوزناي المدقق موضوع الرسالة يعبر عن حكمة شتربوزناي بأنه أرسل المهم في الرسالة وأرشد الملك بطريقة مباشرة عن إيه المطلوب بالضبط كان ممكن يعمل زي رسالة رحوم وشمشاي سكرتيره اللي بسبب رسالتهم توقف العمل لكن شتربوزناي أرسل للملك برجاء محدد وهو البحث عن أمر صدر أم لا والموضوع كله لا يستغرق الا قليل من الوقت في البحث في السجلات 3- شتربوزناي المتعقل لما شاف تتناي وشتربوزناي بداية العمل كان ممكن يوقفوا العمل لحين الاستفسار من الملك لكن لم يوقفوا العمل تعالوا نطبق اللي اتعلمناه 1- في كل أمورك اوزن تصرفاتك ما بين الحزم واللين...نشّف قلبك بقطعة من عقلك... ولين عقلك بقطعة من قلبك... واجعل روحك تحكم ما بين الاثنين 2- كن مدقق في كل أمورك ولا تسترسل في الكلام الكثير لأنه لا يوجد للناس طاقة للتفسير والتأويل كن واضحا فيما تقول حتى لا يفهم الآخرين خطأ 3- لا تحكم على أحد قبل أن تثبت ادانته ولا تدين أحد من مجرد سماع بعض الكلمات فالذي تراه صدق نصفه والذي تسمعه صدق نصفه فلا تصدق الا ما تراه بعينيك وتسمعه باذنك وتعايشه.
المزيد
24 نوفمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس تتناي والي عبر النهر

تتناي والي عبر النهر (عزرا 5: 3) اسم فارسي يعني "هِبة" أو "عطية" أحد ولاة الفرس في جنوب نهر الفرات عارض في إعادة بناء الهيكل (عز 5: 3 و6 و6: 6 و13). وهو الوالي الفارسي على مناطق يهوذا الواقعة عبر النهر على تخوم السامرة، وذلك في عصر الملك داريوس هستاسبس، في الوقت الذي كان فيه زربابل والشيوخ الذين معه يقومون ببناء هيكل الله في أورشليم (عز 5: 3و 6: 6 و13). وكان تتناي يعطف على اليهود، فعندما بلغته أنباء إيقاف العمل في بناء بيت الله في أورشليم، ذهب هو وشتربوزناي ورفقاؤهما لفحص الأمر، وكتبوا رسالة متزنة إلى داريوس الملك، أدت إلى صدور أمره إلى تتناى وشتربوزناي ورفقائهما الآفرسكيين في عبر النهر، أن يتركوا اليهود يبنون الله، وأن يعطوهم من مال الملك من جزية عبر النهر، النفقة عاجلا حتى لا يبطل العمل، بل وأن يعطوهم " ما يحتاجون إليه من ثيران وكباش وخراف محرقة لإله السماء، وحنطة وملح وخمر وزيت حسب قول الكهنة الذين في أورشليم " وعمل تتناي ومن معه على تنفيذ أمر الملك عاجلا حتى تمكن زربابل ومن معه من استكمال بناء بيت الله وتدشينه (عز 5:6 6: 17) تعالوا نتعرف أكتر على تتناي ونشوف هنتعلم ايه؟ 1- تتناي العطوف تتناي برغم انه غير يهودي لكنه تعاطف من أجل العمل العظيم وهو بناء بيت لله ومدينة الله أورشليم فتعاطف مع اليهود واستطاع أن يستميل الملك باصدار أمر بالبناء 2- تتناي شعاع النور في عصر عزرا ونحميا نلاحظ أن كل المقاومة كانت من الداخل إن كان طوبيا العموني و جشم العربي وسنبلط ونوعدية النبية في زمن نحميا أو رحوم صاحب القضاء وشمشاي الكاتب في زمن عزرا لكن نشوف أن تتناي الوالي الأممي هو شعاع نور ليد الله في الأحداث 3- تتناي وعدم التعقيد ممكن تستخرج قرار جمهوري أو ملكي لكن ممكن يوقف القرار ده موظف عادي بأي حجة لو كان تتناي مش عايز ينفذ أمر الملك كان ممكن يعمل إعادة عرض ويماطل في التنفيذ لكنه سهل كل الأمور بل وأعطى حتى الطعام للعاملين تعالوا نطبق اللي اتعلمناه 1- لين قلبك بالعطف على المستضعفين لأنك لو عطفت على الضعيف يعطيك الله نعمة فوق نعمة 2- تذكر دائما في وسط التجارب والأحزان وان اتقفلت في وشك كل الأبواب، الله يفتح لك باب حتى لو من العالم لكي يريك يده في الأحداث 3- لا تكن سبب في شقاء أحد بالتعقيد المستمر في كل الأمور نحن نصلي ونقول سهل لنا طريق التقوى فلا تكن سبب عثرة في رجوع الناس عن الطريق
المزيد
17 نوفمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس يوسف

يوسف " أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم ليحيي شعباً غفيراً "تك 50: 20 مقدمة لست أعتقد أن هناك قصة خيالية أروع أو أجمل من القصة التي كتبها "أ. هيل" في كتابه "عيد الميلاد في قصر... وقد كتب هذه القصة تحت عنوان "الأيدي المرفوعة"، وهي عن الليلة الأولى في حياة يوسف، بعد أن باعه إخوته وأخذته قافلة الاسماعيليين لتذهب به إلى مصر، وإذ حطت القافلة رحالها في الليلة الأولى، ونام الجميع، واستولى عليهم سبات عميق، استيقظ يوسف في منتصف الليل ليجد الكل نياماً، ويجد فرصة واسعة في الهروب، فتسلل، وهم أن يصل إلى باب الخروج، وكاد أن يفلت، لولا أن كلباً أصفر ضخماً أخذ ينبح نباحاً عالياً،.. وفزع يوسف ورفع عينيه إلى السماء، يطلب معونة الله في إسكات الكلب،.. وقد تحرك أحد الملائكة، وأراد أن ينزل ليقتل الكلب، ويطلق سراح الشاب النقي المظلوم، لولا أن أمراً إلهياً منعه، واستيقظ الحارس ليضرب يوسف، ويقيده، ويمنعه من الهروب، وإذ عجب الملاك من المنع الإلهي،.. صور له الله ما كان يمكن، لو تمكن يوسف من الهرب وعاد إلى أبيه، حيث يستقبله بترنم وفرح،.. غير أن المجاعة لا تلبث أن تحل، وليس هناك يوسف الذي يتأهب لمواجهتها، وإذا بمصر وفلسطين تجوعان، ويموت خلق كثير، ويضعف الباقون ويتعرضون لهجمات الحثيين الوحشية، وإذا بالحضارة تدمر، ومصر تنتهي، وتتحول روما واليونان إلى البربرية الكاملة، ويهلك العالم كله، ولا نسمع عن إسرائيل ويهوذا والملوك والأنبياء، وبالتالي لا يأتي المسيح مخلص العالم!!. وما من شك بأن القصة غارقة في الخيال، ولكنها تؤكد الحقيقة الدائمة الصادقة: إن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده، وترينا أن الظروف التي يجتازها الإنسان بحلوها ومرها، وسجنها ومجدها، ليست إلا السبيل المؤهل لإتمام رسالته في الأرض،.. وهذا ما ذكره يوسف في قوله لإخوته: "أنتم قصدتم لي شراً أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم ليحيي شعباً غفيراً"ولعل هذا يساعدنا على متابعة قصة يوسف على النحو التالي المتتابع: يوسف من هو؟!! إن أول ما يلفت النظر في يوسف هو ذلك الجمال والحلاوة التي انطبعت عليه، إذ كان جميلاً جداً،.. ويعتقد أنه ورث الكثير من حلاوة أمه وجمالها، بل يظن أن يعقوب -وهو يضمه إلى حضنه- كان يفتقد في صورته الجمال الذي ذهب في زوجته راحيل، الجمال الذي عاد إليه في صورة مذهلة مرة أخرى في وجه يوسف،.. على أنه من الغريب أن قصة يوسف تكشف عن جمال أحلى، وأروع، وأجمل، وأبهج، وهذا الجمال لا يلفتنا إلى الشبه الكبير بين يوسف وأمه راحيل، بل إلى الشبه المتقارب بين يوسف والمسيح، فما أكثر ما تقترب القصتان وتتشابهان، اقتراب الرمز من المرموز إليه،.. وقد عدد بعضهم ما يقرب من أربعة وعشرين شبهاً بين الاثنين،.. فإذا كان يوسف هو الابن المحبوب الوحيد المتميز بين إخوته، فإن المسيح: "الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب".. وإذا كان يوسف أسمى وأشرف من إخوته، وأكثرهم تعلقاً بأبيه، فإن المسيح هو الابن الوحيد الكامل الذي لا يداني أو يباري من إخوته جميعاً، وهو الألصق بأبيه، والذي دائماً يصنع مشيئته بمسرة كاملة،.. وهل ننسى أن يوسف حسده إخوته، وباعوه وأسلموه للضيق والتعب، والتشريد والعبودية؟ وهل ننسى أن ذات الشيء حدث بالنسبة للمسيح إذ علم بيلاطس أنهم –أي إخوته وشعبه- أسلموه حسداً؟.. وهل ننسى القميص الملون المغموس بالدم،.. والقميص الذي اقترع عليه الجنود يوم الصليب؟.. ومن الغريب أن المسيح ويوسف جاء كلاهما إلى مصر،.. كما أن يوسف بيع بعشرين من الفضة.. وبيع المسيح بثلاثين،.. وقد غفر كلاهما للإخوة ما فعلوا،.. وقدم يوسف للعالم الخبز المادي،.. وكان المسيح هو خبز الحياة،.. هذه وغيرها من الصور تعطي لقصة يوسف الحلاوة التي قل أن نجدها في غيرها من السير أو القصص التي نقرؤها في داخل الكتاب أو خارجه!!.. يوسف التقي النقي كان يوسف نقياً لأنه كان تقياً، وما من شك بأن التربية الدينية كان لها أعمق الأثر في ذلك، كان يوسف في السابعة من عمره، عندما ترك أبوه فدان أرام، على الأغلب،.. ولم يستطع التأثير الوثني الشرير في بيئة خاله أن يفعل ما فعله في نفس الصغير، فكان موقفه من هذا القبيل أفضل من إخوته الآخرين، بل كان التصاقه بأبيه واقترابه إليه فرصة عظيمة لكي تستمع أذنه ما فعل الله مع آبائه إبراهيم واسحق ويعقوب،.. ورسخ في ذهن الصغير أن الحياة مع الله هي الطريق الصحيح الوحيد الرائع إلى القوة والنجاح، مهما التوت السبل، وتنكبت الطرق، وتغيرت الظروف ومن الملاحظ أن النقاوة عندما لم تكن مجرد سمو أدبي أو ترفع ذهني، بل كانت بالأحرى إحساساً عميقاً برؤية الله، والتمسك به، لقد ضربت جذورها في أعماق الشركة مع الله، فلم تبال بالأجواء أو الظروف المتغيرة، ولم تبال أكثر بألام ومتاعب الأنقياء الأتقياء، بل كانت تجسيداً لقول أبيه: "يوسف غصن شجرة مثمرة غصن شجرة مثمرة على عين أغصان قد ارتفعت فوق حائط فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام ولكن ثبتت بمتانة قوسه وتشددت سواعد يديه من يدي عزيز يعقوب من هناك من الراعي صخر إسرائيل" أو قول المزمور الأول: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار وفي طريق الخطاة لم يقف وفي مجلس المستهزئين لم يجلس لكن في ناموس الرب مسرته وفي ناموسه يلهج نهاراً وليلاً فيكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه التي تعطي ثمرها في أوانه وورقها لا يذبل وكل ما يصنعه ينجح".. أو ما ردده إرميا: مبارك الرجل الذي يتكل على الرب وكان الرب متكله فإنه يكون كشجرة مغروسة على مياه وعلى نهر تمد أصوله ولا ترى إذا جاء الحر ويكون ورقها أخضر وفي سنة القحط لا تخاف ولا تكف عن الإثمار".. لقد وقع هذا الشاب بين نوعين من التجارب، هما من أقسى ما يتعرض لهما الشباب في كل جيل وعصر، وهما الرهبة والرغبة، أو الوعيد والوعد، أو الاضطهاد والإغراء،.. فإذا لم يفلح النوع الأول، فلعل الثاني يمكن أن يسقطه إلى الأرض والحضيض، وأي شيء أقسى على النفس الحساسة من الجو المتبدل فجأة من حضن الآب إلى الغربة، ومن الحرية إلى الاستعباد، فالظلم فالسجن، لقد نشبت السهام في قلب الفتى متطايرة إليه من إخوته والأجانب معاً،.. ولما لم تفلح تبدل الأمر بفحيح الأفعى، وإغراء الدنس والفجور والإثم، ولكن الشاب الغارق في الألم والمخضب رأسه بالدم، رفع هذا الرأس النبيل في مقاومة أقسى تجربة، وهو يصيح: "كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطيء إلى الله"؟ ووقف الشاب القديم مما يقرب من ثلاثة آلاف عام قائداً من أعظم قواد الشباب في معركة التقوى والنقاوة، لأنه تطلع إلى الله، فانتصر على التجربة!!.. يوسف الحالم المرتفع الرؤى ولن نستطيع أن نفهم هذا الشاب ما لم نتتبع أحلامه ورؤاه، الأحلام التي ترسبت في عقله الباطن لتحكم عقله الواعي، والتي سيطرت على مشاعره الخفية لتحكم تصرفاته الظاهرة،.. لقد ولد يوسف ليكون مرتفعاً، وولد ليكون سداً، وهو يمد الطرف في رؤى الشباب ليحلق بين النجوم تنحني أمامه الشمس والقمر وأحد عشر كوكباً ساجدة له، وتنتصب حزمته لتسجد أمامها حزم إخوته،.. وقد عاشت هذه الرؤى إلى آخر عمره تدغدغ حسه، وتنشر جوه بالعطر العبق الذي يملأ رئتيه، وعاشت لترفعه فوق الصغائر والكبائر، وتحيط به في الظلمة والنور، في السجن وعلى العرش معاً، وإذا كان الوحي يقول: بدون رؤية يجمح الشعب، فإن أحلام هذا الشاب كانت من أقوى العواصم التي حفظته من الضعة والإسفاف والتردي والجموح!!.. كان يوسف النقي يحسن الرؤية لأنه يعاين الله: "وطوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله".. وكان يوسف في هذه النقاوة قد أعطى الشفافية التي ترقى به فوق عالم الدنس، فهو أشبه الكل بالنسر المحلق يضرب بجناحيه القويين في السماء العالية في الشركة مع الله!!.. وعاش يوسف برؤاه أعلى من تراب الأرض، وغبار الفساد، وحقد التشفي، وسقوط البؤس أو اليأس الذي يلم بملايين الناس العائشة على الأرض المتطلخة بطينها ووحلها وحمأتها!!.. وعاش يوسف في أحلك الليالي يتطلع خلف القضبان إلى كوكب الصبح الذي لابد أن ينبلج مهما طال الليل أو امتد به القتام!!.. ولم يفسر يوسف أحلامه الخاصة به، بل فسرها لرئيس السقايين ورئيس الخبازين، وفسرها لفرعون نفسه، لأن يوسف في هذه الرؤى جميعاً لم يشك قط في مصدرها الإلهي من عند الله!!.. أيها الشاب: هل لك رؤى يوسف وأحلامه؟!!.. يوسف الواضح الصريح ثمة خلة أخرى تمكنت من يوسف في صدر شبابه، وهي أنه الإنسان الصريح المجبول على الصراحة، لا يستطيع أن يتصور -وهو مع إخوته- مدى الحطة التي وصلوا إليه، وهو أن عجز عن إصلاحهم، لأنهم ربما يستصغرونه ويستضعفونه، فلا أقل من أن يعطي أباه الصورة الصحيحة عنهم، ومع أن هذا أورثه حقدهم وضغينتهم، إلا أنه كان لابد أن يكشف شرهم أمام أبيه،.. كما أن رؤياه التي أبصرها في الليل، كانت في الصباح أمامهم.. لقد التزم يوسف جانب الصدق، وإن كان أسلوبه مع الأيام تغير، إذ أدرك أن هناك أشياء يعرفها الإنسان، ولكنه من الحكمة ألا يقولها إلا في الحين الذي تصبح فيه الضرورة ماسة لذكرها، ولعل حديثه مع رئيس السقايين عندما قال له: "لأني سرقت من أرض العبرانيين، وهنا لم أفعل شيئاً حتى وضعوني في السجن، كان يكشف عن الصدق، ولكن بالصورة التي بلغت النضوج والحكمة في عرض الرواية في حدود الصدق المفيد، دون انزلاق عاطفي أو زلة لسان دفع الكثير بسببها دون أن يعلم أو يفطن!!. يوسف المخلص الغيور كانت صفة الإخلاص واحدة من أعظم صفات يوسف وأثبتها، وكان في إخلاصه غيوراً ممتلئاً من الغيرة،.. كان مخلصاً لأبيه الذي أحبه، فإذا كلفه أبوه بمهمة ما، فهو غيور في طاعة أبيه وتنفيذ رغبته، فإذا طلب إليه أن يذهب إلى شكيم ليسأل عن سلامة إخوته، لا يكتفي بالذهاب إلى هناك، فإذا لم يجدهم يرجع ليخبر أباه بذلك، بل هو يمعن في البحث عنهم حتى لو تاه أو ضل الطريق، وإذ يسمع أنهم في دوثان يذهب إليهم وراء الطاعة لأبيه المحبوب،.. وهو مخلص لإخوته، ونجد هذا الإخلاص الأخوي في التعبير القائل لمن وجده ضالاً في الحقل: "أنا طالب إخوتي" وهو مخلص لفوطيفار يخدمه بأعمق ما يمكن أن يكون من الولاء في الخدمة، وهو يحرص على أن يكون النموذج المثالي لخدمة إنسان لآخر في الأرض،.. وهو مخلص لفرعون وهو يرسم السياسة في خدمة الشعب الجائع، وفي نفس الوقت في إعطاء فرعون أكبر ما يمكن أن يعطي من ثمن للطعام الذي سيقدمه للناس،.. وهو قبل وبعد كل شيء، مخلص غيور لله، يرتبط هذا الإخلاص بعظامه التي يريدها أن تنقل مع شعب الله، عندما يفتقدهم الله في يوم من الأيام!!.. يوسف المؤمن الصبور خرج من بيته في السابعة عشرة من عمره، وظل ثلاث عشرة سنة، كان من المستحيل أن يحتملها دون أن يكون له مصباح الإيمان الذي يمسك به في أحلك الليالي،.. لقد عرف المرصد الذي يقف عليه، قبل أن يأتي حبقوق بقرون طويلة، وكان يسمع صوت الإيمان يقول إلى قلبه وكيانه: "إن توانت فانتظرها لأنها تأتي أتياناً ولا تتأخر".. وقد رأى الرؤيا كوعد من الله، لابد أن يتحقق مهما طال الليل أو امتد به الظلام.. وهو يثق في الرؤيا، ولا يفشل في انتظارها،.. وعندما يعرض رئيس السقايين ورئيس الخبازين حلميهما عليه، لا نسمع منه أدنى تشكيك في حقيقة الأحلام، بل على العكس يرى الله صانع ومفسر الأحلام،.. وعندما يحلم الملك ويتكرر حلمه، يؤكد له أن تكرار الحلم معناه أن الله مسرع لتنفيذه، ولقد بلغ به اليقين في ذلك، اقتراحه على الملك أن يواجه الحلم بالترتيب العملي اللازم لتنفيذه،.. على مرصد الإيمان وربوته يقف يوسف ليرى الشمس خلف الظلام والغيوم، وليؤكد أن دورة الأرض تعقب الليل بالنهار، وتعقب الظلام بالنور، وقد كان هو بالحقيقة مثلاً للإيمان القوي العميق الصبور!!.. يوسف الصفوح الغافر كانت جراح هذا الشاب عميقة بالغة الغور والعمق،.. لقد جرح من إخوته الذين عند الترفق تحولوا من قتله إلى بيعه عبداً بلا رجاء أو حرية أو أمل،.. لقد باعه إخوته، وجرح الأخ أعمق وأقسى الجراح على وجه الإطلاق.. ما هذه الجروح التي في يديك؟ ويأتي الجواب المرير: هي التي جرحت بها في بيت أحبائي، ولقد لف قيصر وجهه تحت طعنة الغدر، وهو يقول: “حتى أنت يا بروتس؟!!.. ولقد جرح يوسف من الغريب،.. جرح من الرجل الذ ي خدمه بكل إخلاص وأمانة، ومع أننا لا نعلم ماذا فعل معه بعد ذلك،.. إلا أننا نعلم أن إخوته عندما تصوروا أنه سيرد عليهم بعد وفاة أبيه الصاع صاعين بكى لمجرد تصورهم هذا،.. إن سر الغفران عند يوسف، يرجع إلى تجاوزه الإنسان البشري والتوقف عند قصد الله، وهو يعلم أن اليد البشرية مهما طالبت فهي قاصرة ما لم يأت السماح من الله!!.. على أي حال أن قصته تكشف عن الإنسان الذي غفر وصفح عما فعلوا فيه.. والعفو كما يقال من شيم الكرام القادرين!!.. يوسف في مدرسة الآلام كان يوسف واحداً من أقدم التلاميذ الذين دخلوا مدرسة الألم العظيمة في الحياة، وكان واحداً من الذين تخرجوا منها بامتياز إن صح أن نستخدم هنا النهج العلمي في تقدير الدرجات!!.. وقد قضى يوسف في مدرسة الألم ثلاثة عشر عاماً متواصلة، ومع أن مدارس الألم تختلف باختلاف الآلام وأنواعها في الأرض، وباختلاف الهدف أو الغاية من هذه الآلام، فإذا صح أن تعطي هذه المدارس أسماء مختلفة،.. فيمكن أن نذكر منها "مدرسة العقوبة" التي يأخذ فيها المرء الجزاء والقصاص لما يرتكب من آثام وفجور. وهناك "مدرسة التأديب" وهي نوع من المدارس لا يقصد بها العقوبة في حد ذاتها، بل يقصد منها الإصلاح والتقويم، وهناك "مدرسة الامتحان" وهي التي تكشف لصاحبها والآخرين عن قدراته، وما يكمن في أعماقه من قوة أو ضعف،.. وهناك مدرسة أخيرة يمكن أن نطلق عليها "مدرسة التدريب"، وربما كانت هذه المدرسة الأخيرة هي مدرسة يوسف طوال الثلاث عشرة سنة حتى وقف أمام فرعون في الثلاثين من عمره!!.. وقد رأى يوسف في مدرسة الألم ثلاث حقائق عظيمة أساسية: الحقيقة الأولى: الألم الموزون،.. فالألم الذي يسمح به الله ليس مجرد ضربات عشوائية تنهال على المتألم الباكي، بل هو في الحقيقة ألم محدد موزون،.. وإذا صح أن الإنسان وهو يستخدم أفران الطهي أو الصناعات المختلفة، يحدد درجة الحرارة التي لا يجوز أن تقل أو ترتفع عن الحد المطلوب، فإن الله أكثر دقة واهتماماً بدرجة الألم التي يتوقف عندها الميزان، لأنه لا يسمح بأن نجرب فوق ما نطيق إذ أنه مع التجربة يعطي المنفذ!!.. وقد وزن الله الألم تماماً في قصة يوسف، ومع أنه كان ألماً قاسياً محرقاً، أفصح عنه المرنم: "بيع يوسف عبداً. آذوا بالقيد رجليه. في الحديد دخلت نفسه"... إلا أن الله وازن الألم من الدقيقة الأولى بحضوره ومعونته ومساندته وتشجيعه.. ولقد رأى الشاب كيف أعطاه نعمة في بيت فوطيفار، وكيف أعطاه نعمة في عيني رئيس بيت السجن، وكيف ساعده وأعانه وأنجحه على الصورة الواضحة التي لم يحس بها هو فحسب، بل أحس بها كل من تعامل معه وتقابل!!.. لقد ذهب الله مع الغربة والنفي، والتشريد والسجن وأحس الغلام القديم أن هناك شيئاً عجيباً من التوازن في المدرسة التي دخلها، فإذا أهمله الإنسان فإن الله لا يمكن أن يهمل ويترك،.. وأن السلام العميق الذي يواجه النفس المنكوبة، هو التوازن الخفي الحقيقي الذي يصنعه الله حتى لا ترجح كفة الألم بما فيها من ثقل الضغط أو القسوة أو التعب أو المعاناة أو اليأس أو القنوط،.. وكانت الحقيقة الثانية أن المدرسة كانت مدرسة التدريب العميقة الواضحة فيما وصل إليه الشاب من نضوج وإدراك، وتخطيط وتنفيذ،.. وأين الشاب الذي لا يستطيع أن يخبي ما في صدره فيسرع بالكشف عنه دون ترو أو مبالاة، حتى ولو وضع الأساس العميق للعداوة بينه وبين إخوته بهذا الكلام؟.. أيناه من الشاب الحريص داخل السجن الذي وهو يعرض رواية ظلمة على رئيس السقاة لا يتهم قريباً أو غريباً، وكل ما يقوله "لأني سرقت من أرض العبرانيين وهنا لم أفعل شيئاً حتى دفعوني في السجن".. وهو أعقل من أن يحدث الغريب عن عورة إخوته، وأفطن من أن يخوض في اتهام من هو في مركز ليس من صالحه أن يثصير ثائرته وغضبه مرة ثانية.. أو في لغة أخرى: لقد تعلم كيف يضبط لسانه على نحو يدعو إلى الإعجاب،.. وأكثر من ذلك فإن الشاب بمجيئه إلى مصر كان وجهاً لوجه أمام أعظم حضارة عرفها التاريخ في ذلك الوقت،.. لقد كانت مصر في أيامه أم الدنيا ورائدتها في العلم والفن، والاختراع والصناعة، والتجارة والترف، والحضارة وعبادة الأوثان،.. وكانت بالنسبة للشاب الآتي من الصحراء مركز انبهار وتجربة، وكان عليه أن يواجه الصراع النفسي العميق بين ما يأخذ منها وما يرفض، بين ما يقبل عليه ويمتنع، وإذا دققنا النظر في الرواية الكتابية نجد أن الشاب تعلم الكثير بين بيت فوطيفار والسجن، فتعلم كيف يعمل ويشتري، ويبيع ويربح، ويكنز ويجمع، وإذ لم يكن له من سبيل في الدخول إلى قصر فرعون وهو سجين، جاءه من القصر إلى السجن رئيس السقاة ورئيس الخبازين، وعرف منهما نوع الحياة التي تعيشها الطبقة العالية في مصر،.. وفي كل الأحوال نزل الشاب المترفه الحر بقميصه الملون إلى قاع البئر، بئر الآلام والمتاعب، والخدمة، والاستعباد، وعرف كيف تتلون الحياة وتتبدل، ويتحول الحر عبداً، والعبد حراً، وكيف تدور الساقية علواً وانخفاضاً، وهي تنزح ما في البئر إلى حيث يشاء الله في إرادته العالية العجيبة، في حياة من تعصرهم الآلام وتدربهم الأحزان والتجارب!!.. وهذا يأتي بنا إلى الحقيقة الثالثة من الألم وهي الألم المنتج، أو العصارة التي يطرحها هذا الألم للخير والمنفعة،.. والقاريء لقصة يوسف من واجبه ألا يقرأ قصة شاب دفعته الصدفة إلى شكيم فدوثان، فبيت فوطيفار فالسجن، فقصر فرعون.. بل عليه أن يقرأ القصة كجزء من خط العناية في شاب أرسل أولاً، وفي أمة تتبعه ثانياً، وقد كانت هذه العناية عجيبة ودقيقة بالنسبة للشاب، وهو في التصور تتخبطه الأحداث، أو تتلقفه الحوادث، ولكنها في الخط الإلهي العميق المرسوم، كانت قصة الشاب المرسل من الله، وبيته الذي سيسكن في أرض جاسان، وهي الأرض الواقعة في الجزء الشرقي من الدلتا أو مكان محافظة الشرقية اليوم، ويبدو أنها لم تكن أرضاً مأهولة السكان. وإن كانت في الوقت ذاته مراعي خضراء عظيمة للماشية وكانت الحكمة الإلهية أن يأتي هذا البيت ليكونوا على مقربة من أعظم مدينة في ذلك التاريخ، وليتكونوا هناك -لا كمجموعة من الأفراد- بل كأمة تأخذ بنظم الحياة وأوضاعها وأساليبها، على يد أعظم أمة في الأرض في ذلك الحين، وفي الوقت عينه كان لابد أن ينفصلوا عن تأثيراتها الوثنية المفسدة، وكانت جاسان أفضل بقعة من هذا القبيل، حيث يرعون الماشية بعيداً عن المصريين، وفي عزلة منهم، لأن هؤلاء كانوا يعتبرون رعاية المواشي دنساً ورجساً، وثم كانوا يأبون الاختلاط بها وبرعاتها، وكانت جاسان أقرب نقطة للانطلاق بعيداً عن مصر عندما يحين الوقت لخروجهم منها!!.. يوسف المرتفع ذكرنا أن يوسف شديد الشبه بذلك الذي سيأتي بعده بألفي عام على وجه التقريب، وإذا كان يوسف قد حمل صليبه وسار في مصر ثلاثة عشر عاماً، فإن الصليب على الدوام يلحقه التاج، وكما قيل عن سيده وقد أخذ صليبه إلى الجلجثة: "الذي إذا كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة عبد، صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان، وضع نفسه. وأطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم" هكذا نرى يوسف بين الصباح والمساء يشق طريقه من السجن إلى أعلى منصب يتلو منصب فرعون في مصر.. ولعل يوسف في هذا الارتفاع يكشف عن صور إلهية متعددة لعل أهمها: يوسف وصدق الله إن نهر الصدق الإلهي كاسح وعارم، فإذا رأيت هذا النهر يتدفق في جلال، ثم جئت إلى النقطة التي لم تعد تراه فيها فليس معنى هذا أن النهر انتهى، بل أن النهر تحول بكل قوته، إلى نهر جوفي يسير بعيداً عن العين البشرية، أو قدرة أبصارها لكنه سيسير في الخفاء مندفعاً، لأن قوة الله العظيمة تدفعه إلى الأمام، لقد سار النهر في الخفاء عبر بيت فوطيفار، وعبر السجن وعبر السنين المظلمة القاسية، واندفع إلى النور ذات صباح، متدفقاً كالنيل العظيم فوق أرض النيل سواء بسواء،.. إنك عندما تقرأ القصة، ستقول إن واحداً من ملوك مصر القدامى، لعله كان واحداً من الهكسوس) رأى من الصواب ذات يوم إخراج يوسف من سجنه ليقود أمة، وينظم أمر شعب بين عشية وضحاها، إنك لو قلت هذا القول، أو مثله لن تصل إلى كبد الحقيقة أو تدرك أعماق الأمور،.. إذ أن الملك الذي أخرج يوسف من السجن، لم يكن الملك المصري، بل كان أعظم من ذلك بما لا يقاس إذ هو ملك الملوك ورب الأرباب. والقصة الكتابية خير شاهد على هذه الحقيقة، ويكفي أن تراها آتية على لسان الملك ذاته إذ قال: هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله، ثم قال فرعون ليوسف بعدما أعلمك الله كل هذا ليس بصير وحكيم مثلك".. أجل إنه الله، وسيصدق الله حتى ولو كذب جميع الناس، أو كما قال بلعام بن بعور: ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم. هل يقول ولا يفعل. أو يتكلم ولا يفي".. أو كما ردد الرسول بولس: "حاشا. بل ليكن الله صادقاً وكل إنسان كاذباً كما هو مكتوب لكي تتبرر في كلامك وتغلب متى حوكمت"... عندما أصبحت الطريق ورطة أمام يعقوب، وخاف أن يصيبه الضرر في الطريق، تعلق بالصدق الإلهي وهو يناجي ربه: "وأنت قد قلت إني أحسن إليك وأجعل نسلك كرمل البحر الذي لا يعد للكثرة".. وعندما أوشكت شمس يشوع على الغروب هتف في قومه: "وها أنا ذاهب في طريق الأرض كلها وتعلمون بكل قلوبكم وكل أنفسكم أنه لم تسقط كلمة واحدة من جميع الكلام الصالح الذي تكلم به الرب عنكم، الكل صار لكم لم تسقط منه كلمة واحدة".. إن ثبات الكلمة الإلهية في روعتها وعظمتها ودقتها تأتي في سياق تصريح السيد العظيم القائل: "فإني للحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل!!..".. لقد ارتفع يوسف لأنه كان واثقاً كل الثقة من صدق الله!!.. يوسف وعدالة الله عندما بدأت القصة، بدا الأمر كما لو أن شريعة الغاب هي التي تحكم كل شيء فالحكم للقوة، يأتي الصبي الصغير، فيجرده إخوته من القميص الجميل الملون، وقد تكاثروا عليه، وهم يسخرون من أحلامه بالقول هوذا صاحب الأحلام،.. وقد أوشكوا في لحظة أن يزهقوا روحه، قبل أن يزهقوا روح التيس من المعزى لغمس القيمص في الدم، ثم هم يأخذون أخاهم في خط عكسي لأحلامه، كان يحلم بالشمس والقمر والكواكب الساجدة له،.. إذاً فليحلم حلمه في طين البئر التي ألقوه فيها،.. فإذا رأوا قافلة آتية فلتكن السخرية من السيادة بتحويله عبداً، لا خلاص له من العبودية إلى الأبد، وليبيع بأزهد ثمن، فليس الأمر أمر إثراء بل واقعة تخلص، وإذا بيوسف العظيم لا يساوي ما يقرب من جنيهين بعملتنا الحالية،.. وغاب يوسف عن الأنظار، غيبة كانت في تصورهم لا عودة فيها أو أوبة منها، وليذهب، ولتذهب أحلامه إلى غير لقاء أو رجعة،.. فإذا تمرد يوسف على الشر، فليحكم الشيطان قبضته الظالمة عليه داخل سجن هيهات أن تتحطم قضبانه أو يخرج هو إلى أن تنتهي الحياة، في أرض ظالمة يدوس فيها الظلم أعناق الأبرياء بدون حنان أو شفقة أو عدالة أو رحمة!!.. هل ذهبت عدالة الله أو ضاعت في الأرض، إن تجربة الثلاثة العشر عاماً كثيراً ما ترسل غيومها القاسية في سماء العدالة وقوة شمسها، وكثيراً ما يصل الناس إلى النقطة التي وقف عند آساف في مزموره القديم: "حقاً قد زكيت قلبي باطلاً وغسلت بالنقاوة يدي وكنت مصاباً اليوم كله وتأدبت كل صباح لو قلت أحدث هكذا لغدرت بجيل بنيك فلما قصدت معرفة هذا إذا هو تعب في عيني حتى دخلت إلى مقادس العلي وانتبهت إلى آخرتهم".. لكن يوسف كان يؤمن أن الله هناك، وكانت هناك دائماً الكأس المروية، التي تلطف من حدة التجربة، والتي تبل شفتيه بمائها القراح، وكلما زاد الظمأ، والتهب السعير،.. لقد أدرك بأنه غير متروك، وأنه غير منسي، ربما ينساه البشر كما نسيه رئيس السقاة، لكن الله هيهات أن يهمله أو يتركه، أو ينساه، وفي أعماق ليله الطويل، كانت عدالة الله تعد المخرج. وتمهيد السبيل، ولكن في الموعد الحكيم المحدد الدقيق المرتب من الله،.. وإذا كان الظلم قد أخذه خفية وغدراً، فإن عدل سيخرج مثل النور بره، وحقه مثل الظهيرة،.. وسيرى رئيس السقاة هذا العدل، وسيراه فوطيفار، وستراه زوجة فوطيفار، وسيراه إخوة يوسف، وسيراه أبوهم، وستراه مصر والدنيا بأكملها، وسيراه التاريخ، لأن الرب عادل ويحب العدل، وطوبى لجميع المتكلين عليه".. إن العربة التي ركبها يوسف -وقد رد اعتباره، وارتفع فيها مجده- ما تزال إلى اليوم في مصر وفي كل أرجاء التاريخ، العربة التي يركبها المظلومون الأبرياء الذين ظن الناس أنهم قضوا عليهم إلى الأبد!!.. هل رأيت هذه العربة تجري في شوارع التاريخ!!.. إنها دائماً عربة عدل الله الذي قال إبراهيم وهو يتحدث معه جل جلاله: أديان كل الأرض لا يصنع عدلاً؟!! كان ارتفاع يوسف لا يتحدث فقط عن صدق الله، بل عن عدله أيضاً!!.. يوسف وخدمة الله كان يوسف من أقدم الناس الذين أدركوا أن الارتفاع ليس نزهة أو ترفاً في حد ذاته، عندما ركب يوسف العربة، ولبس خاتم الملك، وطاف في أرض مصر، وركع أمامه الناس، لم يكن هذا نوعاً من النزهة أو الاستعلاء على غيره من بني البشر،.. لقد كانت عظمة يوسف ملتصقة بالخدمة، بل أن اسمه الذي أطلق عليه في مصر "صفنات فعنيع" أو "حاكم الحي مكان الحياة"، أو "حاكم الواحد الحي" أو "خبز الحياة": على الأصح، كان يؤكد ارتباط الاسم بنوع الخدمة التي سيقوم بها يوسف في مصر،.. كان هو الإنسان المرسل من الله لإبقاء الناس على حياتهم، بما يقدم لهم من طعام وخبز،.. كان رمزاً للخادم الأعظم الذي جاء بعد ذلك بقرون طويلة ليقول: "أنا هو خبز الحياة من يقبل إلى فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش".. كان يوسف وكيلاً أميناً طوال ثمانين عاماً قضاها في مصر،.. هل رأيت الحياة بهذا المعنى؟ وهل قرأت قصة ذلك الشاعر الذي سار ذات يوم وهو يضرب بقدميه المتعبتين في حر النهار، حتى أبصر من على بعد خميلة ظليلة، فسعى إليها ووجد مقعداً كتب فوقه: اجلس هنا واسترح فوق المقعد، وإذ هو أن يستريح، وجد سلة بها تفاح، وفوقها عبارة “خذ تفاحة من السلة وكلها”!!.. وعندما أخذ التفاحة رأى ورقة وقد كتب عليها: “على قيد خطوات من هنا غدير ماء، اذهب إليه واشرب!!”.. وتعجب الشاعر ورام أن يدرك قصة المكان، فرأى من على بعد كوخاً يقف على بابه رجل عجوز، وإذ استفسر منه الشاعر قال الرجل: “هذا المكان مكاني، وقد كتبت هذه الورقات، ربما يأتي متعب في الطريق، فيجد مكاناً يستريح فيه،.. وربما يكون في حاجة إلى طعام، وعندنا تفاح فائض، فلماذا لا يأخذ واحدة من التفاح؟ وقد يكون ظامئاً ويحتاج إلى من يهديه إلى الغدير". واستمع الشاعر، وخرج من عند الرجل، وكتب قصيدة يتمنى فيها أن يقف على الطريق في الحياة ليعين متعباً ليستريح، أو جائعاً ليشبع، أو عطشاناً ليرتوي!!.. لم يأخذ يوسف الحياة راحة له أو لبيته، بل لقد جعله الله راحة لكل جائع ومتعب ومنكوب في الطريق البشري المليء بالآلام والمتاعب والمأسي والدموع!!.. يوسف وعفو الله لا أعلم ماذا فعل يوسف مع فوطيفار أو امرأة فوطيفار، لقد شاء الله أن يترك هذا الجانب من القصة في زاوية من الظلال لا تجلب الانتباه، لقد كان ارتفاع يوسف في حد ذاته، عقوبة دونها كل عقوبة للرجل أو زوجته على حد سواء.. وقد يكون العفو هنا أقتل من القتل نفسه!!.. على أننا نعلم أن يوسف لم يكتف بالعفو عن إخوته، بل اهتم بإعالتهم،.. وذلك لأنه رأى يداً أعلى من أيديهم في القصة، وهو لا يقف عند اليد البشرية، إذ يرى يد الله: "أنتم قصدتم.. أما الله فقصد".. لقد ارتفع يوسف عن كل حقد ومرارة، وضغينة وانتقام.. لأنه رأى يد الله وقصده في الأمر،.. وليس هناك من شيء يدفع إلى العفو أو يرفع إلى التسامح قدر الارتفاع إلى القصد الإلهي الأعلى، عندما تطوي الآلام جميعاً في فيض إحسانه وجوده ورحمته وتعويضه وحبه الظاهر علانية أمام جميع الناس!!..
المزيد
10 نوفمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس يوبال

يوبال واسم أخيه يوبال الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار تك 4: 21 مقدمة لست أعلم لماذا اخترع يوبال الموسيقى!!؟.. ولماذا وقف هذا الرجل على رأس كل ضارب بالعود والمزمار في الأرض!! أهو إحساس الألم الذي يحس كنهه، ولا يعلم سره؟!! إحساس الألم الذي أراد أن يغطيه، فبدلاً من الصخب الداخلي الذي يملأ نفسه، أراد أصواتاً أعلى تنسيه هذا الصخب، فكانت الموسيقى بمثابة التعويض الخارجي عن الألم الداخلي الدفين؟!!.. أم هي الأذن الموسيقية التي كان ولا شك يملكها، وبينما هو سائر في الطريق منكوباً أو مهموماً استرعى سمعه صوت بلبل يغني على فنن الأشجار،.. فأعطاه البلبل صيحة فرح، وعى لها، وحاول أن يقلدها بصورة ما في موسيقى العود أو المزمار؟!!. أهو خرير جدول أبصره ذات صباح، فأعطاه تعويضاً عن الخرير الداخلي في نفسه، فغنى أو علم أولاده أن يغني، على خرير الجدول، أو هدير البحر، أو صوت العاصفة؟.. كان بيتهوفن واحداً من أولاده العظام، وكان يسير في الطبيعة ويستمع قبل أن يصيبه الصمم، إلى ندائها الحبيب إلى نفسه، والذي نقله ألحاناً رائعة على مدى الدهر؟!!. أم أن الأمر –إلى جانب ذلك- كان الانتباه إلى أخيه "توبال" وهو يطرق النحاس والحديد، فتحدث من الأصوات ما لم يكن مألوفاً.. فلماذا لا يأخذ مثل هذه الأصوات، ويطوعها على آلة موسيقية يصنعها ويبدعها؟.. قد يكون هذا أو غيره مما دفع "يوبال" ليكون أباً لكل ضارب بالعود والمزمار. لكن الرجل –على أي حال- يقف في كل التاريخ، بأذنه الموسيقية، وأدائه العظيم كالإنسان الأول الذي استخدم الموسيقى، وتفرق أبناؤه وبناته في الأرض يلعبون على مختلف الآلات، ويصنعون الحلبات التي أثارت الإعجاب أو حركت المعارك، إذ كانت نغماً مسموعاً في الخير أو الشر على حد سواء!!.. دعنا نقف هنيهة من الرجل، ومن أولاده الخيرين أو الأشرار، لنرى كم تفعل الموسيقى، وهي ترفع الإنسان إلى أجواء السماء، أو تهبط به إلى القاع قاع الهاوية الرهيبة التي لا قرار لها!!.. يوبال الفنان الأول مهما يكن الدافع الذي علم يوبال الموسيقى، فمما لا شك فيه أنه كان يحمل في أعماقه وبين جنبيه إحساس الفنان العظيم المرهف، والأذن الموسيقية التي طالما رأيناها في الكثيرين من أولاده على مر التاريخ والأجيال، الذين عشقوا الموسيقى والذين فتنوا بها، فهي أكلهم وشربهم، وهي رقصهم وغناؤهم، وهي ذلك الشيء الرهيب الذي عندما استولى عليهم، سيطر بقوة غلابة، وجعلهم ينسون أنفسهم بين الناس، ويسيرون في الطبيعة، فهي تتكلم إليهم في الجدول الرقراق، وفي العصفور المغرد، وفي النسيم الهاديء، وفي الزوبعة العاتية، وفي البرق الخاطف، وفي الشعاع الجميل. والطبيعة على الدوام عندهم تتكلم، في المروج الخضراء أو الجبال السامقة، في القمر المنير أو النجوم التائهة، وهي عندهم تصبح لحناً وعزفاً ونغماً!!.. فإذا كان أورافيس (في أساطير الإغريق) كان يروض الوحوش بالنغم، إلى الدرجة التي يجعلها تسكن وتهدأ وتنام،.. وإذا كان هو وحده الذي يتغلب على صوت الفتيات الساحرات الجميلات اللواتي يقال أنهن كن يصطدن السفن التي تمر على مقربة من جزيرتهن في البحر الأبيض المتوسط، وكن يخدعن الملاحين بالصوت الجميل والنغم الساحر، فينسى هؤلاء الخطر الداهم، ويتركون المجاديف لترسو السفينة على الشاطيء فتذهب ضحية "السيرين" الفتيات الجميلات،.. ولم يكن هناك سوى أراوافيس الذي تفوقت ألحانه على الجمال الخلاب، والأغنية الساحرة،.. وإذا كان بيتهوفن يخرج ذات مساء وقد خلبه القمر وصفاء الليل وجمال الطبيعة، وهو يطلب من الله أنه إذا أتيح له أن يفقد شيئاً، فهو يرجو أن يفقد كل شيء إلا الموسيقى،.. ومع أنه أصيب بالصمم، إلا أنه ترك سيمفونياته العظيمة ترن في مسمع الدنيا بالصورة التي تحرك الناس في كل مكان!!.. هل سمعت معزوفة "المسيا" الرائعة التي لحنها هاندل في سنة 1742، وقد أرسلها إليه صديق يطلب منه أن يضع لها أنغاماً،.. وهل علمت أن هاندل كان قد أصيب قبل ذلك بشلل موضعي في الجانب الأيمن، ومع أن أطباءه نصحوه بالذهاب إلى الحمامات المعدنية في اكس لاشبل، ومع أن هذه الحمامات أفادته إلى حد كبير، ألا أن الطبيب العظيم الذي حركه، وأعطاه قدرة عجيبة على الشلل، كانت معزوفة "المسيا" التي أبدعها في أربعة وعشرين يوماً متوالية، نسى فيها الأكل والشرب وكل شيء حوله، وكان خادمه يراه يذرع الغرفة، تارة يقفز وأخرى يلوح بذراعه إلى العلاء، وطوراً يرنم، وأخرى يهتف "هللويا" والدموع تنهال من مآقيه، وعندما انتهى منها قال: خلت نفسي أرى السماء كلها أمامي والإله العظيم مستوياً على عرشه أمام أبصاري، ووقع على الأثر لا يسمع ولا يعي، واستغرق في نوم طويل متواصل مدة سبع عشرة ساعة، ومع أن "المسيا" تشتهر بوحدتها، -وإن تألفت من 56 مقطعاً- إلا أن الوحدة والاسنجام يتخللانها، فالجزء الأول منها يشير إلى اشتياق العالم "للمسيا" وتحقيق ذلك الشوق بولادة المسيح، والثاني عن موت المسيح وقيامته منتهياً بهتاف النصر الذي يصل الذروة بكلمة اللهللويا، والجزء الأخير الثالث يعلن عن الإيمان بالله وعن الحياة الأبدية.. وعندما استدعى هاندل لتقديم المعزوفة أمام أهل دبلن نالت استحسان الجماهير، وعندما انتهى منها تعالت الهتافات، ودوت القاعة بالتصفيق، وقد انسل هاندل في تلك اللحظة من المكان لأنه شعر أن الفضل أولاً وأخيراً لله الذي أعطاه هذا اللحن ليسجله أمام الناس مات هاندل ودفن في وستمنستر، مقابر العظماء، وفي إحدى ساحات لندن أقيم نصب تذكاري وضعت فيه الآلات الموسيقية أمامه مع عبارة من معزوفة "المسيا" منقوشة بأحرف بارزة: "أعرف أن مخلص"إذا عرفت أورافيس وبيتهوفن وهاندل وغيرهم من ذلك الجيش الطويل الذي غنى على مختلف العصور وعزف ولحن للأجيال وسألت عمن هو أبوهم لكان الجواب العظيم: كان يوبال أباً لكل ضارب بالعود والمزمار. يوبال المخترع الأول للموسيقى لا أود أن أظلم يوبال بما انتهت إليه الموسيقى في أشر صورها، وأفحش مظاهرها، لكن السؤال مع هذا يأتي: لم حمل يوبال العود أو المزمار في ذلك التاريخ المبكر للجنس البشري؟.. يخيل إليَّ أنه إن آمنا أن الحاجة أم الاختراع، نستطيع أن ندرك السر الذي جعل يوبال عازفاً أو مغنياً!!.. هل قرأت عن عامل المصعد الذي كان ينقل الناس صاعداً يغني، نازلاً يغني، ونظر إليه أحدهم –ولعله كان مهموماً- وقال له: يبدو أنك سعيد جداً، فما رأيتك مرة إلا وأنت تغني، أليس لك من آلام أو هموم في هذه الحياة، ونظر إليه الشاب هنيهة ثم قال: يا سيدي إنني أغني لأنني أريد أن أمنع نفسي من الصراخ.. ويبدو أن يوبال كان من أوائل من اكتشف هذه الحقيقة بالنسبة لنفسه أو بالنسبة للآخرين!!.. كان عليه أن يعزف أو يصرخ تجاه آلامه أو آلام البشر المحيطين به، حيث فتحت الخطية جرح الألم الذي لا يندمل في حياة الإنسان في الأرض!!.. هل حاول أن يداور الخطية أو يداريها،.. هل حاول أن يوقف نزيفها الدائم في الحياة، فرفع صوته بالأغاني، لعله يستطيع أن يوقف بالعود والمزمار بعض نشيجه أو نحيبه الباكي؟!! هل حاول في عصره أن يعيد تيار النهر العارم –نهر الآلام- أو يقيم له سدوداً أو يمنع فيضانه على الجانبين، فصنع العود والمزمار وضرب بهما في أذنه، أو آذان الآخرين، لعله يتمكن، ولو على الأقل لتخفيف حدة الألم عند مولود المرأة القليل الأيام والشبعان تعباً؟!!. إن محاولات الإنسان المختلفة من هذا القبيل متعددة وبغير حدود، لقد عرف الخمر والمسكر، يغالب بهما التعاسات والآلام، أو كما يقول الحكيم: "أعطوا مسكراً لهالك وخمراً لمري النفس يشرب وينسى فقره ولا يذكره تعبه بعد".. لقد عرف الشهوات والإدمان هروباً واعياً أو غير واعٍ مما يعاني من قسوة وعذاب في الحياة،.. لقد ذهب إلى المسارح ودور السينما وأماكن اللهو والمتع والملذات، لعله يغيب في عالم الخيال فترة من واقعه المضني القاسي المترع بالآلام والأحزان والشجون!!.. مسكين أنت أيها الإنسان، تعلمت من مولدك البكاء،.. والبكاء إن كنت تدري أو لا تدري ليس إلا محاولة لنزح الفيضان من بئر أحزانك، ‎.. أو إخراج بعض البخار من مرجل تعاستك وآلامك!!.. مسكين أنت أيها الإنسان الذي تضرب بقدميك كالجواد التعب تائهاً وهارباً في الأرض، لا تلوي على شيء، وأنت تعلم لماذا تركض دون توقف والحقيقة أنك هارب من نفسك، ما دمت خاطئاً، لا تستقر على حال!!.. أنت تظن أن هناك شيئاً يطاردك من الخارج، والحقيقة أنك طريد النفس الخاطئة التي صاحت منذ أول التاريخ في قايين عندما قال للرب: "ذنبي أعظم من أن يحتمل إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض، ومن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الأرض. ويكون كل من وجدني يقتلني"رأى يوبال هذا، رآه في جده قايين ورآه في أعداد من الناس لا تنتهي حوله، رآه في الأغنياء الذين حاولوا عبثاً –عن طريق الثروة والغنى- أن يوفروا لنفسهم الحياة الناعمة، وقالوا مع سليمان: "قلت أنا في قلبي هلم أمتحنك بالفرح فتري خيراً وإذاً هذا أيضاً باطل للضحك قلت مجنون وللفرح ماذا يفعل افتكرت في قلبي أن أعلل جسدي بالخمر وقلبي يبتهج بالحكم وأن آخذ بالحماقة حتى أرى ما هو الخير لبني البشر حتى يفعلوه تحت السموات مدة أيام حياتهم، فنظمت عملي، بنيت لنفسي بيوتاً غرست لنفسي كروماً عملت لنفسي جنات وفراديس وغرست فيها أشجاراً من كل نوع ثمر عملت لنفسي برك مياه لتسقي بها المغارس المنبتة الشجر فتنبت عبيداً وجواري وكان لي ولدان في البيت وكان لي أيضاً قنية بقر وغنم أكثر من جميع الذين كانوا في أورشليم قبلي، جمعت لنفسي أيضاً فضة وذهباً وخصوصيات الملوك والبلدان واتخذت لنفسي مغنيين ومغنيات وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات. ومهما اشتهت عيناي لم أمسكه عنهما لم أمنع قلبي من كل فرح لأن قلبي فرح بكل تعبي، وهذا كان نصيبي من كل تعبي ثم التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح" ورآه يوبال في الفقراء الذين طحنهم الفقر، واختلط عرقهم بتراب الأرض التي يعملون فيها وتنبت لهم الشوك والحسك،.. رآه في ألوان الحياة المختلفة بين الناس، عندما بكى الطفل أمامه، وبكى الرجل، بكى الشاب وبكت العذراء، بكى الوادع الآمن وبكى الطاغية الجبار، بكى رجل السلام، وبكى المقاتل في الحرب!!.. هذا الينبوع البغيض الكريه الذي لا ينتهي في حياة الناس، ظن يوبال أنه يستطيع أن يواجهه –أو على الأقل- يخفف من حدته باختراع العود والمزمار.. وكان لذلك منذ فجر التاريخ أباً لكل ضارب بالعود والمزمار والآلات المتعددة المختلفة للموسيقى على الأرض!!.. يوبال والموسيقى العالمية لست أعلم ماذا كان لحن يوبال الأول، وبماذا جرت أصابعه على العود أو المزمار في أول أغان سمعها البشر على الإطلاق، كل ما أعلمه أن هذا الطوفان الرهيب من الأغاني العالمية لم يكن يخطر بباله على الإطلاق، وأن الشيطان استلم العود والمزمار وسائر آلات الموسيقى والغناء، وقاد بها الناس –يدرون أو لا يدرون- إلى الهاوية والجحيم!!.. إن هذه الآلات علمت الناس لا الغناء فحسب بل الرقص، وذبح الشيطان الناس وهم في مسارح الغناء، وعلمهم رقصة الموت، "والطير يرقص مذبوحاً من الألم"!!.. وإذا كان نيرون قد أمسك قيثارته وغنى، وروما تحترق، فإن الشيطان قد حول العالم كله، روما وهو يدفعه إلى الهاوية، على أنغام شيطانية من رقص وغناء!!.. أليس من المبكى أن الآلات المقدسة التي غنى بها داود فوق بطاح بيت لحم أجمل الأغاني وأروع الأناشيد، حولها المستريحون في صهيون إلى آلات إثم وفساد: "المضطجعون على أسرة من العاج والمتمددون على فرشهم والآكلون خرافاً من الغنم وعجولاً من وسط الصيرة الهاذرون مع صوت الرباب المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كدواد الشاربون من كؤوس الخمر والذين يدهنون بأفضل الأدهان ولا يغتمون على انسحاق يوسف".. وهل رأيت البطنة والرخامة والكسل وما يصاحبها من مستنقع الأوحال والدنس إلا في صحبة الأغاني الفاضحة، والموسيقى البشعة الملوثة الدنسة!!.. هل رأيت الفضيلة تذبح على أنغام الموسيقى العالمية، موسيقى الجاز أو ما يطلق عليها الروك أند رول أو ما أشبه من اختراع الشيطان، وهو يستقبل الابن الضال في الكورة البعيدة بموسيقى الزواني والفاسقات،.. وهل رأيت قدرة الإنسان عندما يحول المر حلواً والظلام نوراً والشر خيراً لمن يحتج على ذلك، فيؤكد أن الموسيقى بهذا المعنى، هي قمة الفن العظيم الراقي، الذي لا يملك إدراكه والوصول إليه إلا البالغون أعلى درجات الحضارة والرقي الإنساني!!.. وهل رأيت الذهب ينثر تحت أقدام المغنيين والمغنيات، ويرتفع هؤلاء إلى ما يشبه الآلهة وأماكنهم إلى ما يطلق عليها معابد الفن، وتجرى الناس وراءهم في كل مكان بخبل وجنون؟!!.. وهل رأيت أكثر من ذلك كم من الجرائم تحدث في مصاحبة الفن؟!!.. لقد مات المعمدان على رقصة سالومي!!.. ضاعت حياة القديس في حفلة ماجنة!!.. لم يقصد يوبال عندما ضرب بالعود والمزمار كل هذا، ولم يدر كم من الآثام ترتكب باسم هذا الفن الجميل في كل التاريخ!!.. يوبال والموسيقى المقدسة على أننا من الجانب الآخر ينبغي أن نرى الصورة المشرقة للعود والمزمار عندما يقدسان لمجد الله ولراحة الإنسان وخيره في الأرض!!.. والأصل في الموسيقى أنها النغم الصحيح دون نشاز، والفن الجميل دون لوثة، والترنم الأعلى للإنسان أمام الله في كمال الصدق والصحو!! ولابد لنا من الإشارة هنا إلى ثلاث ترنيمات خالدة ترتبط بالخليقة، وتاريخ الإنسان على الأرض، الأولى عقب الخليقة التي صنعها الله: "عندما ترنمت كواكب الصبح وهتف جميع بني الله".. والثانية عندما جاء الملخص وغنت الملائكة فوق بطاح بيت لحم: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة".. والثالثة عندما تطوي القصة البشرية ويغني المفديون جميعاً: "ترنيمة موسى والحمل". ولابد من الإشارة أيضاً أن الأساس في الموسيقى هو رفع النفس فوق المستوى الأرضي، والتحليق بها في عالم سماوي مجيد،.. وقد استخدمت لذلك في رفع شاول بن قيس فوق الروح الرديء الذي كان يباغته، حتى تطيب نفسه وتهدأ،.. وأحس أليشع بن شافاط ذات مرة أنه في حاجة إلى عواد يضرب أمامه ويهيء له الجو الذهني والروحي الذي ينبغي أن يكون عليه قبل أن تسمو روحه وترتفع إلى مراقي الشفافية والنبوة أمام الله!!.. ومن نافلة القول أنها أضحت جزءاً من حياة الإنسان المتعبدة المترنمة، عندما تسمو مشاعره فرداً أو مجموعاً على حد سواء، وهل يمكن أن ننسى أعظم جوقة عرفها التاريخ عندما ترنم موسى وبنو إسرائيل على بحر سوف، وأخذت مريم النبية أخت هرون الدف بيدها وخرجت جميع النساء وراءها بدفوف ورقص، وأجابتهم مريم: رنموا للرب فإنه قد تعظم، الفرس وراكبه طرحهما في البحر؟!! وهل يمكن أن ننسى مرنم إسرائيل الحلو الذي أمسك بعوده من الصبي، وسار فوق بطاح بيت لحم، بل تخطي الحياة والأجيال بمزاميره الخالدة التي ستعيش ما بقى الإنسان على هذه الأرض؟!! وهل ننسى فرق المرنمين في الهيكل، والآلات الموسيقية المختلفة؟ وهل ننسى أن آخر المزامير وهو يغني أمام الله طالب المؤمنين: "هللويا سبحوا الله في قدسه. سبحوه في فلك قوته سبحوه حسب كثرة عظمته سبحوه بصوت الصور سبحوه برباب وعود. سبحوه بدف ورقص سبحوه بأوتار ومزمار سبحوه بصنوج التصويت، سبحوه بصنوج الهتاف كل نسمة تسبح الرب هللويا"؟؟.. فإذا كانت الموسيقى قد أخذت مركزها العظيم في العهد القديم على هذه الصورة، فلماذا لم تأخذ ذات المركز في العهد الجديد؟.. إن المتتبعين للتاريخ الكنسي، يعلمون أنه في العصر الرسولي، والكنيسة المسيحية الأولى، لم تكن هناك الفرصة الكافية للموسيقى لتلعب دورها العظيم، في عصر الاضطهاد المرير، والإمكانيات المحدودة التي كانت لدى المؤمنين والكثيرون منهم كانوا من الفقراء أو الذين يكافحون كفاحاً مريراً لأجل لقمة العيش التي يصلون لها،.. كما أن استخدام الآلات الموسيقية والذي شاع في المسارح العالمية، أشاع التحفظ في قلوب المؤمنين في استخدامها على الأسلوب الواسع في العبادة الكنسية، وقد أضيف إلى ذلك ما اعتنقه الكثيرون في عصور مختلفة من التاريخ، وعلى رأسهم أوغسطينس وجرمي تيلور وأمثالهما قديماً وحديثاً، ممن ضاقوا بآلالات الموسيقية في الكنيسة، وبلغت العقيدة ببعضهم أن ضررها أكثر من نفعها، إذ تخرج بالمتعبد إلى دور انفعالي قد يتحول عند رأيهم إلى التهوس أو ما يشبه ذلك، مما لا يجعل أن يكون في الإنسان الماثل بكل خشوع وعمق وإجلال وتأمل في حضرة الله!!.. وهم يتصورون أن هذا الصخب الموسيقي سيخرج المتعبد بعيداً عن الوتار، وعن الترتيل المطلوب بالذهن والروح، وهو قد يلفته إلى الموسيقى أكثر من الاتجاه العميق الروحي إلى الله!!.. وربما بدا هذا حقاً في بعض الألحان التي قد ينجرف فيها الإنسان دون وعي أو فهم إلى السحر الموسيقي في حد ذاته، يقول تايلور: إن استخدام الآلات الموسيقية قد يقدم بعض الفائدة للترنيم، لكن هذه الآلات يمكن أن تحول الديانة إلى صور هوائية خيالية وتجردها من بعض بساطتها، ولن يصلح العزف على الأورج أو يحل محل المواعظ والترانيم في التهذيب، وموسيقى الآلات في حد ذاتها لن تجعل الإنسان أحكم، أو تبنيه في شيء،.. وفي الوقت عينه لا يمكنني أن أحرمها متى استخدمت على وجه حسن لمساعدة الترنيم.. والموسيقى في أفضل الحالات لا ينبغي إدخالها في صميم الخدمة الدينية، حتى ولو قصر الأمر على مجرد الأداء الحسن بالصوت وحده".. إن خشية هذا الفريق الذي يعارض النغم الموسيقي في العبادة هو أن يؤخذ الإنسان بحلاوة النغم دون التأمل في المضمون والمعنى، وقد أدان الله قديماً الشعب الذي يستمع إلى الرسالة الإلهية كما يستمع إلى المطرب دون أن يعمل بها: وها أنت لهم كشعر أشواق لجميل الصوت يحسن العزف فيسمعون كلامك ولا يعملون به"على أنه مهما يكن في هذا الهجوم على الموسيقى من بعض الصدق أو الحق، إلا أنه لا يصلح دليلاً لزعزعة التاريخ الطويل الممتد لخدمة الموسيقى في العهد القديم أو الجديد على حد سواء،. كان القديس فيليب نيري يذكر تلاميذه بأن الموسيقى على الأرض، هي الظل أو الشبيه لما سيراه الإنسان في السماء في مجد أبهر وأعظم، عندما يعيش المؤمنون أغنية الأبد أمام الله،.. وكان يؤكد بأن الألحان الموسيقية تحمل في ذاتها القوة الرافعة السرية للقلب المتعلق بالله، وتعلو بالإنسان فوق الواقع القاسي الأليم الذي يعانيه إلى حياة أسمى وأعلى وأرفع وأمجد.وعندما جاء الإصلاح عاد يوبال مرة أخرى أباً لكل ضارب بالعود والمزمار في الكنيسة المسيحية، ويكفي. أن لوثر دعى الموسيقى "أجمل هبات الله وأروعها"، وكان يطلب من الملوك والأمراء والسادة العظام أن يولوها أكمل عناية وأجل تقدير، فهي في نظره تهذب وتعلم وتسمو بالناس، فتجعلهم أكثر لطفاً ورقة وأدباً ودعة وتعقلاً!!.. كان لوثر يضع الموسيقى في المكانة التالية للدراسة اللاهوتية في الكنيسة!!.. ومنذ ذلك التاريخ والموسيقى تأخذ دورها العظيم في الكنيسة المسيحية جنباً إلى جنب مع خدمة الوعظ في المنبر، وسار تشارلس ويسلي إلى جانب أخيه جون ويسلي، وعاش سانكي مع مودي، وكرست أعداد كبيرة من المسيقيين آلاتهم الموسيقية لمجد الله، وكم ربحت الموسيقى في بيت الله ملايين الناس، إذ كانت النغم الحلو الذي صدح في آذانهم وقلوبهم بحب الله وإحسانه وجوده وصليبه وغفرانه،.. فجاءوا إليه لأن واحداً من أبناء يوبال عزف أمامهم على العود والمزمار أغنية الخلاص!!..
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل