المقالات

01 سبتمبر 2022

شخصيات الكتاب المقدس ميخا

ميخا "لا ترفع أمة على أمة سيفا، ولا يتعلمون الحرب فيما بعد"" مى 4: 3 " مقدمة عاش أفلاطون الفيلسوف اليونانى ما بين عامى 428، 348 ق. م.، ومع أنه كان فى الأصل رجلاً غنياً متمتعاً بخيرات كثيرة، لكن قلبه كان ممتلئاً من الألم والأحزان على مآسى الناس حوله، لقد وجد أن الجهل والشر والتعاسة من نصيب جميع الأمم والقبائل، وجلس الرجل يفكر فى عالم أفضل من العالم الذى يراه، وبات يحلم باليوم الذى ينتهى فيه نزاع الناس، وتموت أطماعهم وتنتهى حروبهم ومخاوفهم، ومن أجل ذلك كتب كتابه « الجمهورية » يتخيل فيه العالم السعيد والجمهورية تقسم الناس إلى ثلاث طبقات، الطبقة العالية طبقة الحكام والرؤساء، والطبقة المتوسطة طبقة رجال الجيش، والطبقة السفلى طبقة التجار والزراع والصناع، ويقول أفلاطون إن الموسيقى والألعاب الرياضية والفضيلة ينبغى أن تنتشر فى جمهوريته هذه، وقد حاول أن يطبق هذا النظام فى مدينة سراكوسا بصقلية إذ كان صديقاً لملكها، غير أنه فشل وطرد وكاد يعرض حياته للهلاك،.. وبعد مدة طويلة أدرك أفلاطون نقطة الخطأ فى جمهوريته، إذ أنه فى البداءة لم يتنبه كثيراً إلى اللّه الذى يحفظ هذه الجمهورية، ويحرسها، ولأجل ذلك عندما كتب كتابه « القوانين » صحح هذا الخطأ، ودعا إلى الإيمان باللّه والدين!!... ولو أن أفلاطون قرأ ما كتبه ميخا وإشعياء من قبله بقرنين ونصف من الزمان لاستطاع أن يفهم كيف يتحقق هذا العصر الذهبى للعالم،... إنه لا يمكن أن يتم إلا باللّه، وفى اللّه،... ولسنا نعلم أيهما كان أسبق فى النبوة عن السلام ميخا أو إشعياء، وإن كان البعض يتصور أن ميخا كان أسبق فى النبوة، مع أنه كان أصغر من إشعياء، وأياً كان الأمر، فإن الفارق بين النبيين أن ميخا كان من طبقة الشعب، بينما كان إشعياء من أعلى الطبقات فى عصره، كما أشرنا عند الحديث عن شخصيته،... وقد عاش ميخا يدافع من الطبقات الكادحة والفقيرة، وحقوق الإنسان، وانتظارات اللّه من البشر، وها نحن نتابع قصته فيما يلى: ميخا من هو كان ميخا المورشتى فى مطلع الحياة وربيع العمر، فى الوقت الذى بلغ فيه إشعياء كمال رجولته وقوتها، وقد كان ميخا من طبدقة العامة وأفراد الشعب بينما كان إشعياء من الطبقة الأرستقراطية، وعلى الأغلب من العائلة المالكة، كما سبقت الإشارة عند دراسة شخصيته، وقد نشأ ميخا فى مورشت، القرية الصغيرة الواقعة على بعد خمسة وعشرين ميلا إلى الجنوب الغربى من أورشليم، والبقعة التى ولد فيها وعاش بقعة جميلة خصبة غنية بالمراعى والأشجار وحقول الحنطة، وما من شك أن مخيا قد تأثر بها، فصفت نفسه، وأرهفت أحاسيسه، وقويت عاطفته، واستجابت حياته لما فى الريف، من صدق واستقامة وصراحة ونقاء وغيرة، وحيث أننا لا نعرف شيئاً عن أبيه أو أمه، فمن المعتقد أنه نبت بين أحضان عائلة ريفية فقيرة، ولكن اسمه « ميخا» أو « من مثل الرب » مما يشجع على أن عائلته كانت تقية تعلى مجد اللّه، وتتمنى أن يسير ولدها فى طريق الرب والتشبه به!!.. ومع أن رسالة ميخا كانت ليهوذا وإسرائيل معاً، إلا أنها على وجه أخص كانت موجهة إلى بنى يهوذا، وقد حدث فى يهوذا كما حدث فى أورشليم، أن تباعدت المسافة بين طبقة الفقراء وطبقة الأغنياء، وانتشر الجشع والاغتصاب والظلم والسلب، مما دفع ميخا، وهو ابن الشعب، ومن صميم أفراده، إلى أن يهب للدفاع عن الحقوق البشرية الضائعة. لقد أبصر ميخا القسوة والوحشية والفساد وضياع الشعور الإنسانى مستولية على الرؤساء والقضاة والكهنة والأنبياء الكذبة، وأبصرهم جميعاً وقد سحقوا المساكين والبؤساء تحت أقدامهم فامتلأ من روح اللّه والقوة والبأس، وكان النبى العظيم الذى استخدمه اللّه لنصرة المظلومين التعساء!!.. هب ميخا للدفاع عنهم، وتحدث عن الخراب والدمار الذى سيلحق بشعبه وأورشليم نتيجة الخطية والإثم والشر والفساد، وبعد أن أبصر صهيون تفلح كالحقل وجبل بيت الرب يضحى شوامخ وعر، مد بصره إلى الأفق البعيد، فرأى فى أحضان المستقبل عصراً ذهبياً مجيداً، يثبت فيه بيت الرب، وتخرج من صهيون الشريعة، عندما يسود المسيح سيادته الكاملة، وتتخضع كل الشعوب تحت موطئ قدميه، وتزول من البشرية أشباح الحرب والمخاوف والمجاعات والمتاعب والمعاثر، ويختم ميخا سفره وهو يرينا سبيل الإنسان العملى إلى هذا السلام!!... ومع أن أسلوبه لا يرقى، ولا شك، إلى مستوى إشعياء، لكنه اتسم بالجزالة والصفاء والقوة، والمنطق والكناية والمجاز، وشدو التعبير،، ومن المرجح أنه بدأ رسالته حوالى عام 725 ق.م. حتى عام 686 ق.م. ميخا والدفاع عن الحقوق البشرية كان ميخا واحداً من أعظم الأبطال القدامى، الذين وقفوا إلى جانب الفقير والمظلوم والضعيف والمستعبد،.. وقد جاء ذكر دفاعه الباسل الذى هز - ولا شك - الأمة بأكملها، أيام الملك حزقيا، كمثال عظيم، لا لدفاعه فحسب، بل أكثر من ذلك لعظمة الملك الذى قبل هذا الدفاع: « إن ميخا المورشتى تنبأ فى أيام حزقيا ملك يهوذا وكلم كل شعب يهوذا قائلا هكذا قال رب الجنود: إن صهيون تفلح كحقل وتصير أورشليم خرباً وجبل البيت شوامخ وعر. هل قتلا قتله حزقيا ملك يهوذا وكل يهوذا. ألم يخف الرب وطلب وجه الرب فندم الرب عن الشر الذى تكلم به عليهم. فنحن عاملون شراً عظيما ضد أنفسنا » " إر 26: 18 و19، ميخا 3: 12 "... والذى يتابع ميخا وهو يتحدث عن الحقوق البشرية الضائعة، يرى تصويراً دقيقاً لكيفية ضياعها، ويحس قبل كل شئ أن « المال » هو السبب الأكبر لضياعها،... إن محبته حقاً هى « أصل لكل الشرور، الذى إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة »... " 1 تى 6: 10 " وهل نشأت كل لوثات التاريخ وشروره وآثامه إلا بسبب المال وما يتبعه من رذائل؟؟ فى ظلمة الليل وعندما يهجع الناس جميعاً فى مضاجعهم، يسهر عبيد المال ليفكروا ماذا يفعلون فى نور الصباح للحصول على المال، وقد قال عنهم ميخا فى مطلع الأصحاح الثانى: « ويل للمفتكرين بالبطل والصناعين الشر على مضاجعهم. فى نور الصباح يفعلونه لأنه فى قدرة يدهم، فإنهم يشتهون الحقول ويغتصبونها والبيوت يأخذونها، ويظلمون الرجل وبيته والإنسان وميراثه »... وهكذا يتطور حب المال بأصحابه من فكرة، إلى شهوة، إلى ظلم، إلى اغتصاب، وما من شك فى أن أى إنسان، يتطور إلى هذه الحال، لا يمكن أن يكون إنساناً بل وحشاً رهيباً جشعاً،.. على أن الأمر الذى يبدو أكثر شناعة وبشاعة هو سقوط الأنبياء والقضاة والكهنة تحت سلطانه،... أما الأنبياء فقد ضللوا الشعب، وخدعوه بنبواتهم الكاذبة، إذ حدثوه بالناعمات، وتكلموا له عن السلام، وأبوا أن يشيروا إلى خطاياه وآثامه، لاستجلاب رضاه، والانتفاع بعطاياه وهباته،... وألا ينطبق هذا على عدد كبير من الخدام الذين يتملقون الأغنياء والسادة والجماهير من أجل المصلحة والمادة والمغنم؟!! كما أن القضاة تفشت بينهم الرشوة، فكرهوا الحق، وعوجوا المستقيم، ورموا بالعدل إلى الأرض... هذا فى الوقت الذى كان فيه الكهنة يعملون بالأجرة، ويخدمون بالثمن!!.. ولكن السؤال: كيف يمكن لميخا وهو رجل فقير أن يقف فى وجه السادة والرؤساء والكهنة والأنبياء؟ وكيف يستطيع أن يندد بآثام المجتمع التى يبصرها دون خوف أو تردد أو تراجع؟!.. لقد كشف ميخا عن السر فى قوله: « لكننى أنا ملآن قوة روح الرب وحقاً وبأساً لأخبر يعقوب بذنبه وإسرائيل بخطيته »... " ميخا 3: 8 " إن ميخا وحده أعجز من أن يرفع صوته فى مواجهة الفساد والطغيان ولكن ميخا وقد امتلأ من روح الرب، أضحى ممتلئاً من القوة والحق والبأس، وإذا كان بطرس قد ضعف أمام الجارية، عندما كان خلواً من هذا الامتلاء، فإنه بعد الامتلاء أضحى القادر على أن يواجه سادة الجارية، مهما كان مركزهم وسلطانهم!!... وهل نستطيع بذلك أن نجد الرجاء العظيم فى أنه «لا بالقدرة ولا بالقوة بل بروحى قال رب الجنود »" زك 4: 6 "؟! … وهل نستطيع أن نتذكر أنه على قدر ما نسمح للروح أن يملأنا، بقدر ما نتحول إلى ميخا آخر أو بطرس أو بولس، أو أبطال الكنيسة الذين صنعوا المعجزات، لأنهم امتلأوا إلى آخر الحدود من روح اللّه القادر على كل شئ؟!.. ومع أن ميخا كان رجلاً وطنياً، لكن وطنيته لم تغط الشر أو تداهن الفساد، ومن ثم نراه يندد بأورشليم أقسى تنديد، فهو لا يرضى لها أن تبنى وتجمل بالدماء والظلم والرذيلة والاعوجاج،... كما أنه لم يعف السادة والرؤساء والكهنة والأنبياء من نتائج سلوكهم الشرير، وإثمهم الفاضح لتوكلهم المزيف على الرب: « قائين أليس الرب فى وطنا لا يأتى علينا شر »... كلا بل سيأتى الشر و« تفلح صهيون كحقل وتصير أورشليم خرباً، ووجبل البيت شوامخ وعر » " ميخا 3: 11 و12 " وفى كل مجتمع يقسو فيه الرؤساء، ويتاجر فيه الكهنة، ويحب رجال الدين المال، وتكثر الرشوة، عينيه كانت أو مادية، ويضيع القضاء العادل، لابد أن تحل على هذا المجتمع، بصورة قاسية، كارثة مريعة تأتيه من اللّه المنتقم العادل حارس حقوق الإنسان فى كل الأجيال. ميخا ورؤيا السلام العظيم بعد أن تحدث ميخا عن الخراب والدمار الذى سيلحق بشعبه وأورشليم نتيجة الخطية والإثم والشر والفساد،... وبعد أن أبصر صهيون تفلح كالحقل وجبل بيت الرب يضحى شوامخ وعر، مد بصره إلى الأفق البعيد، فرأى فى أحضان المستقبل، عصراً ذهبياً مجيداً يثبت فيه بيت الرب، وتتخرج من صهيون الشريعة، وتسعى الأمم إلى اللّه، ويسود الدين والسلام والأمن والرخاء والمحبة،... وقد اشترك إشعياء مع ميخا فى التنبؤ عن هذا العصر كما جاء فى إشعياء " 2: 2 - 4، مى 4: 1 - 5 "، ولا يمكن أن نجزم أيهما كان أسبق فى نبوته ورؤياه، فإذا أخذنا بالعمر، فإن إشعياء كان أسبق،... غير أن ميخا ألحق بالنبوة: « لأن جميع الشعوب يسلكون كل واحد باسم إلهه، ونحن نسلك باسم الرب إلهنا إلى الدهر والأبد »... وقد شجع هذا البعض على الاعتقاد أن نبوة ميخا كانت أسبق، على اعتبار أنها لم تنس واقع الشعوب المحيطة بشعب اللّه،.. فى بيته بعد أن تفلح صهيون كحقل وتصير أورشليم خرباً،... أما إشعياء فقد تجاوز هذه الحقيقة مأخوذاً بالنبوة نفسها، وأثرها، الذى لا يمكن معه الوقوف عند الصورة الجميلة دون النظر إلى الظلال القاتمة!!.. على أية حال إن كليهما دفعا الأجيال إلى التطلع نحو ذلك العالم المجيد المرموق،... وقد اختلف المفسرون، واتجهوا، وجهات مختلفة أشهرها وجهتان، يطلق عليها: ما قبل الألف سنة، و« مابعد الألف سنة »، أما قبل الألف، فتشير إلى مجئ المسيح الثانى حرفياً لمدة ألف عام، أما بعد الألف فتشير إلى المجئ روحياً لمدة ألف سنة، أو مدة طويلة لا يشترط أن تكون حرفياً ألف سنة،... أو فى لغة أخرى أن الخلاف يدور حول جبل الرب، وهل المقصود به الجبل الحرفى، أو أورشليم المدينة التاريخية، التى يعتقد الآخرون بالمعنى الحرفى أنها ستتعود إلى مجدها العظيم التليد، بل إلى مجد لم تعرفه فى تاريخها السابق على الإطلاق،... الأمر الذى لا يقبله أو يأخذ به المؤمنون بالمجئ الروحى، والذين يفسرون الأمر كله تفسيراً روحياً، فأورشليم عندهم، هى أورشليم الروحية التى قال عنها الرسول بولس فى رسالته إلى غلاطية: « وأما أورشليم العليا التى هى أمنا جميعاً فهى حرة »... وكان يفرق فى ذلك بينها وبين: « أورشليم الحاضرة فإنها مستعبدة مع بنيها ».. "غل 4: 25 " وامتدت به التفرقة وهو يتحدث عن الصليب، فكشف عما يعتقده فى معنى « إسرائيل » وهو لا يقصد إسرائيل بحسب الجسد، أو الجنس اليهودى، بل يقصد المؤمنين أبناء اللّه فى القول: « فكل الذين يسلكون بحسب هذا القانون عليهم سلام ورحمة وعلى إسرائيل اللّه »... " غل 6: 16 " وهو يقابل ما ذكره الرسول يوحنا فى سفر الرؤيا « ثم رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فى ما بعد. وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند اللّه مهيأة كعروس مزينة لرجلها »... " رؤ 21: 1 و2 " ولا يتصور بداهة عند الرسولين، أن الحديث عن أورشليم هو بالمعنى الحرفى، بل بالمعنى الروحى أو « الكنيسة » وهو ما نعتقد أنه التفسير الصحيح لنبوة ميخا وإشعياء،... إن جبل الرب المرتفع هو ذلك الحجر الذى قطع بغير يدين والذى قال عنه دانيال للملك نبوخذ نصر: « كنت تنظر إلى أن قطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما، فانسحق حينئذ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معاً وصارت كعصافة البيدر فى الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذى ضرب التمثال فصار جبلا كبيراً وملأ الأرض كلها ».. " دا 2: 34 و35 " وكل هذه إشارة إلى ملك المسيح وكنيسته التى ستملأ الأرض،... والذى لا خلاف عليه - حتى مع الآخذين بالمعنى الحرفى - أنه لا يمكن أن يأتى العصر الذهبى أو يتم السلام فى الأرض دون أن يقبل الجميع من اليهود أو الأمم الرب يسوع المسيح، مخلصاً وفادياً ورباً، كشرط أساسى لإتمام الخلاص وامتداد ملكوت اللّه على الأرض، إذ أن علاقة المسيح بأى إنسان قبل أن ترتبط بمكان أو زمان أو ظرف، هى علاقة روحية شخصية، كما أن خلاصه شامل كامل لم يعد وقفاً على اليهود، بل يتسع ليشمل شعوباً وأمماً كثيرة، إذ أنه خلاص الإنسانية بأكملها، الإنسانية التى جاء المسيح ومات من أجلها ليفتديها ويحررها من اللعنة والخطية والإثم، وهو خلاص أبدى لا يتزعزع أو ينهزم... إن ممالك الأرض تقوم وتسقط... فأين مصر وصور وصيداء، وبابل واشور واليونان وروما!!؟ أين الممالك التى انحنى العالم لسلطانها ومجدها العظيم؟؟... لقد بادت وتلاشت ولم يبق منها إلا قصة تذكر فى التاريخ، وتروى مع الأيام أما خلاص الله فأبدى ثابت إذ: « أن جبل الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه شعوب » " ميخا 4: 1 " أو فى لغة أخرى إن خلاص المسيح سيسمو ويعلو على كل ما شمخت به جبال العالم، ومرتفعات الزمن،... وهو خلاص قوامه حياة البر: « فيعلمنا من طرقه ونسلك فى سبله لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب »... " ميخا 4: 2 " ومن الملاحظ أن هذا الخلاص سيكون عظيما وقوياً ومؤثراً فى حياة الناس إذ سيملأهم بالغيرة المقدسة فيقولون بعضهم لبعض: « هلم نصعد إلى جبل الرب وإلى بيت إله يعقوب »... وهل هذا إلا إعلاناً قوياً عن محبتهم للّه، ومحبتهم بعضهم لبعض؟؟.. قال القديس زافييه لمحدثيه: « أنتم تقولون إنهم سيقتلوننى بالسم وإنه لشرف كبير لخاطئ مثلى لا أجرؤ على الحلم به، ولكنى مستعد أن أموت عشرة آلاف مرة من أجل خلاص نفسى واحدة»... وهذا الخلاص سيكون مصحوباً بالنور: « فيعلمنا من طرقه » وسيادة المسيح وخلاصه لابد أن يصحبهما النور المشرق،.. أليس هو نور العالم ومن يتبعه لا يمشى فى الظلمة؟، ألم يأت ليمنحنا النور الذى به نخلص من الجهل والخرافات والفساد والخطية؟؟.. وخلاص المسيح مرتبط بالسلام: « فيقضى بين شعوب كثيرين. ينصف لأمم قوية بعيدة فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل لا ترفع أمة على أمه سيفاً ولا يتعلمون الحرب فى مابعد ».. وهذا الخلاص مرتبط آخر الأمر بالرخاء: « بل يجلسون كل واحد تحت كرمته وتحت تينته ولا يكون من يرعب لأن فم رب الجنود تكلم »... " مى 4: 3 و4 ".ومع أن هذا الخلاص فى أحضان المستقبل، ويرتبط بالمسيح، إذ أن آخر الأيام التى ذكرها يعقوب وموسى ودانيال وإشعياء وميخا وغيرهم من الأنبياء تشير إلى عصر المسيا، وقد فرق ميخا على ما يعتقد بعض المفسرين بين هذا العصر، وعصر السبى البابلى الذى قال فيه قبل هذه النبوة مباشرة: « لذلك بسببكم تفلح صهيون كحقل وتصير أورشليم خرباً وجبل البيت شوامخ وعر »... ولعل هذا هو السبب الذى جعله يضيف العبارة التى لم ترد فى إشعياء: « لأن جميع الشعوب يسلكون كل واحد باسم إلهه ونحن نسلك باسم الرب إلهنا إلى الدهر والأبد » فيرى البعض أنها تتحدث عن سلوك إسرائيل فى السبى، وهم يرفضون العبادة الوثنية التى أحاطت بهم، وكان هذا سر رجائهم وقوتهم وعودتهم من السبى،... ويرى آخرون أنها تشير إلى الكنيسة، وهى تأخذ طريقها إلى الانتصار الكاسح، فى عالم الوثنية والفساد والشر، وهو التصور الأصح فى نظرنا.وقد تحدث ميخا عن هذا الخلاص على أية حال بلهجة الواثق المتأكد: « لأن فم رب الجنود تكلم » " ميخا 4: 4 ".. وهل يتكلم الرب إلا بالصدق، وهل يغفل عن أن يسهر على كلمته ليجربها؟!!.. لئن كان هناك من رجاء أو أمل فى كل التاريخ فى أن نصل إلى الأمن والسلام والاستقرار، والرخاء والمحبة والأخاء، فإن هذا الرجاء أو الأمل يرجع إلى ثقتنا الوطيدة فى كلمة اللّه!!.. وما من شك فى أن الكنيسة المسيحية يقع عليها وحدها الرجاء فى الدفاع عن الحقوق البشرية،... مع أن الإنسان يسير بطيئاً جداً فى الدفاع عن هذه الحقوق،.. وها نحن نرى هيئة الأمم المتحدة وقد أقرت ميثاق « حقوق الإنسان »، وهو ثمرة جهاد طويل منكوب بالحروب والمتاعب والمجازر البشرية، وهو يتكون من اثنتين وعشرين مادة، وهو جزءان: الجزء الأول منه يتكون من أربع مواد، ويسير إلى ضرورة احترام الدولة المشتركة فيه لكل نصوصه وقوانينه، ومساهمتها فى تنفيذ مواده بكل ما تملك من قوة ونفوذ - والجزء الثانى ويتكون من ثمانى عشرة مادة، ويفصل حقوق الإنسان فى الحياة والسلامة والحرية والأمن والملكية والدين والكلام.. غير أن الأمم المتحدة لا تملك قوة تنفيذية تلزم المخالف بهذه الحقوق، وإنما هى أحلام أفلاطون تظهر مرة أخرى على سطح التاريخ كما تمنى فى الجمهورية أو « اليوتوبيا، أى عالم الكمال، الذى كان يحلم به توماس مور أو « المدينة الفاضلة » التى كان يتخيلها فرنسس بيكون!!.. على أن كلمة اللّه، تتجه بنا بكل يقين إلى أورشليم السماوية، إلى مدينة اللّه النازلة من السماء، بمعنى أنها ليست مجرد حلم أو خيال بشرى، أو جهد يقوم به الإنسان فى الأرض، بل هى من صنع اللّه القادر على كل شئ، وبترتيب منه، وعلى الصورة التى قصد أن تكون، أو هى كنيسة المسيح الممجدة السماوية التى جعلت ملتون يقول: " أخرج من غرفتك الملكية يارئيس ملوك الأرض، وألبس ثوب جلالك ومجدك الإمبراطورى المنظور". ميخا والديانة المطلوبة من الإنسان تحدث ميخا عن الخراب الذى جلبته الخطية، والمستقبل اللامع الذى يراود أحلام الإنسان فى كل الأجيال والعصور، وكان لابد أن يتحدث عن السبيل للوصول إلى هذا المستقبل، وأكد ميخا أنه لا يوجد سوى الدين الذى ينقل الإنسان إلى العصر الذهبى اللامع، عصر السلام،... ومن الغريب أن الرئيس « كارتر » وهو يخطو إلى تولى منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أكد هذه الحقيقة فى حفل تنصيبه، إذ جعل شعاره ما قاله ميخا فى الأصحاح السادس وهو يعبر تعبيراً عظيماً رائعاً عن مضمون الحياة الدينية: « قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح. وماذا يطلبه منك الرب، إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك » " ميخا 6: 8 " وقد لا يعلم الكثيرون أن هذه الآية قد وضعت فى الغرفة الملحقة بالقسم الدينى فى مكتبة الكونجرس فى واشنطون، ومبنى هذه المكتبة من أفخم المبانى فى العالم، وهو يشمل أقساماً عديدة مستقلة لكل العلوم والمعارف، ولكل فرع غرفة مطالعة خاصة به زينت بما يلائمها، وعندما أرادوا أن يضعوا فى غرفة المطالعة بالقسم الدينى آية مناسبة، إستشاروا بعضاً من كبار رجال الدين وأساتذته، وأخيراً تم الاتفاق على الآية المذكورة فى نبوات ميخا!!.. وقد كشف ميخا بهذه الآية عن خلاصة الدين الصحيح، على أروع ما يمكن أن يكون... فالحياة الدينية أولا وقبل كل شئ علاقة شخصية بين الإنسان وربه أينما يكون وكيفما يكون: « قد أخبرك أيها الإنسان »... وفى الحقيقة أن هناك علاقة بين اللّه والأمة، وقد أسس اللّه علاقته مع شعبه على أجمل أسلوب، وهو حتى فى محاكمته للشعب يذكره بهذه العلاقة العظيمة: « ياشعبى ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك؟ أشهد على. إنى أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم ياشعبى أذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب وبماذا أجابه بلعام بن بعور - من شطيم إلى الجلجال لكى تعرف إجادة الرب » " ميخا 6: 3 - 5 "..ومن الحقيقة أيضاً أن هناك علاقة بين اللّه والأسرة: « أما أنا وبيتى فنعبد الرب » " يشوع 24: 15 "... لكن هذا كله، يؤسس على العلاقة الشخصية الفردية بين الإنسان وربه... وهذه العلاقة لا يعرفها الإنسان خيالا أو ظناً أو تصوراً أو هماً بل هى ثمرة إعلان اللّه للبشر: « قد أخبرك »... إذ إن اللّه ليس ساكناً أو ساكتاً فى السموات، بل إنه يسعى وراء كل إنسان ليخبره، وقد أكد السيد المسيح هذه الحقيقة بقوله: «خرافى تسمع صوتى » " يو 10: 27 " إذ أنه يتكلم إلينا بأصوات متعددة، وهو يريد أن ننصت ونسمع، وكلمته فى الكتاب، والضمير، والحوادث، والظروف المحيطة بنا، تتحدث إلينا، وطوبى لمن يصغى لهذه الأصوات،... وهو يؤكد أكثر من ذلك أن هذه الأصوات ملزمة، وليس لى أن أختار قبولها أو رفضها كما يشاء لى الهوى أو الرفض: « وما يطلبه منك الرب »..والديانة المطلوبة فى الواقع ليست شخصية فحسب، بل وروحية أيضاً، إذ أنها ليست مجرد فرائض أو طقوس، ويبدو أن كثيرين تصوروا هذا، وربما سألوا اللّه عن طريق ميخا: « بم أتقدم إلى الرب وأنحنى للإله العلى؟ هل أتقدم بمحرقات بعجول أبناء سنة؟ هل يسر الرب بألوف الكباش بربوات أنهار زيت؟ هل أعطى بكرى عن معصيتى ثمرة جسدى عن خطية نفسى » " ميخا 6: 6 و7 " على أن اللّه أجاب أن الديانة الحقيقية أعمق من ذلك بما لا يقاس، إذ أنها ديانة روحية لبابها السجود للّه بالروح والحق!!.. وفد على مدينة أدنبره، جماعات لا هم لها دينيا إلا إثارة الإنفعالات والعواطف والتغير من مذهب إلى مذهب،.. وقد كتب أحد وعاظهم إعلاناً فى الصحف عن المجئ الثانى للمسيح تحت عنوان: « ملايين الناس لن يروا الموت »... إذ كانوا يعتقدون أن المجئ سيأتى وشيكاً،... وما أن قرأ أحد خدام اللّه هذا الإعلان. حتى كتب إعلاناً عن عظته المزمع أن يلقيها يوم الأحد تحت عنوان: « ملايين الناس مائتون فعلا »... ومن الواجب إنقاذهم، قبل إشباع غرائزهم وفضولهم، وشكراً للسيد الذى أغنانا بذبيحته عن ألوف الكباش وربوات أنهار الزيت!! والديانة المطلوبة: « أن تصنع الحق »... إذ أن الدين ليس مجرد نظريات غيبية أو تخيلية، بل هو حقيقة عملية »... والحق دائماً مثلث، يبدأ بالحق تجاه اللّه الذى هو الحق، وما نحن إزاء اللّه إلا وكلاء فى كل شئ،... فى العهد القديم لم تكن الأرض ملكاً لأصحابها، وكانت تقسم، ولا يجوز لإنسان أن يبيعها أو يتخلى عنها مطلقاً، لأن الأرض ملك اللّه، والإنسان مجرد وكيل وبهذا المعنى نحن جميعاً وكلاء أمام اللّه!!.. والحق تجاه الآخرين ألا نكيل بكيلين ونزن بميزانين،... أخذ مدير الشركة يقرع أحد الموظفين أمامه، لأن الموظف أخبره بأن ابنه فشل فى الامتحان، ونسب إلى الأب الإهمال وسوء التربية، وما هى إلا لحظات حتى وصلت برقية تقول إن ابن المدير قد رسب فى الإمتحان،... فغمغم قائلا: إن الوقت ما يزال أمامه إذ هو صغير،!!... لم يستطع أن يطبق الحق على نفسه كما طبقه على الآخرين!! والحق تجاه النفس، هو مناقشتها ومحاسبتها على الدوام، والتوفيق معها دون تساهل أو تهاون أو كسل!!.. على أن الديانة أكثر من ذلك هى ديانة الرحمة: « وتحب الرحمة »... فإذا كان الإنسان على الدوام يتجه صوب الحق، فإن الأجمل والأعظم أن يحب الرحمة، وأن يمتلئ قلبه بها، وأن يشفق على الآخرين، وأن يتسامح مع خطاياهم وآثامهم، قتل رجل فى حماقته فى الحرب طفلة فى التاسعة من عمرها، ومات هو، وذهب أبواها إلى زوجة الرجل وقالا: لقد سامحناه إذ كنا ننظر إليه كمريض أكثر منه قاتلا!!.. تحدث أحدهم إلى كلارا بارتون مؤسسة الصليب الأحمر الأمريكى، عن إساءة قاسية حدثت فى حياتها، فأجابت: لقد تعودت أن أنسى إساءات الناس!!... والديانة الرحيمة هى التى تجتهد فى أن تقيل عثرة الآخرين.. قال مدير المدرسة لشاب أخطأ: يا ابنى أنا أعلم أنك تعثرت، وسأكتب عثرتك هذه بقلم رصاص، فإذا لم تتكرر سأمحوها!!... وليس أعظم وأجمل من أن نمد أيدينا إلى الضعيف والمنكوب، والمتألم والعاجز لأنه: « طوبى للرحماء لأنهم يرحمون ».. " مت 5: 7 ".ثم هى آخر الأمر ديانة التواضع: « وتسلك متواضعاً مع الهلاك، والتواضع الصحيح هو النضوج بعينه، إذ هو التواضع أمام عظمة إلهنا، ومن نحن التراب والدود والرمة، أمام إله عظيم مجيد سرمدى!!... بل نتواضع إزاء إحسانه: « صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التى صنعت إلى عبدك »... " تك 32: 10 " وأكثر من هذا كله أمام غفرانه العجيب، ولا نملك هنا إلا أن نقف مع ميخا، وهو يختم سفره بأقوال من أروع الأقوال التى سطرت أمام عين الإنسان فى كل التاريخ: « من هو إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب لبقية ميراثه. لا يحفظ إلى الأبد غضبه، فإنه يسر بالرأفة. يعود يرحمنا يدوس آثامنا وتطرح فى أعماق البحر جميع خطاياهم. تصنع الأمانة ليعقوب والرأفة لإبراهيم اللتين حلفت لآبائنا منذ أيام القدم »..! " ميخا 7: 18 - 20 "..
المزيد
30 أغسطس 2022

أقوال بعضِ الاباء القديسين الاوائل في الدينونة

قال القديس دوروثاؤس: إنه لا شيء أردأ من الدينونةِ للإنسان، لأن بسببها يتقدم إلى شرورٍ ويسكن في شرورٍ، فمن دان أخاه في قلبهِ وتحدث في سيرتهِ بلسانهِ، وفحص عن أعمالهِ وتصرفاتهِ، وترك النظرَ فيما يُصلِح ذاتَه، وانشغل عما يلزمه بما لا يلزمه من الأمورِ التي ينشأ عنها الازدراءُ والنميمةُ والملامةُ والتعيير،فحينئذ تتخلى المعونةُ الإلهية عنه، فيسقط فيما دان أخاه عليه. أما النميمةُ فتصدر من ذاك الذي يخبر بما فعله أخوه من خطايا شخصية، فيقول عنه إنه فعل كذا وكذا.وأما الدينونة،فبأن يخبر بما لأخيه من خُلقٍ رديء، فيقول إنه سارقٌ أو كذاب أو ما شابه ذلك، فيحكم عليه بالاستمرار فيها وعدم الإقلاع عنها. وهذا النوع من الدينونة صعبٌ جداً،ولذلك شبَّه ربنا خطية الدينونة بالخشبة، والخطية المدانة بالقذى. من أجل ذلك قَبِلَ توبةَ زكا العشار، وصفح عما فعله من آثامٍ، وشجب الفريسي لكونِه دان غيرَه، مع ما له من صدقةٍ وصومٍ وصلاةٍ وشكرٍ لله على ذلك. فالحكم على خليقةِ الله، يليق بالله لا بنا، فدينونةُ كلِّ واحدٍ وتزكيته هي من قبل الله وحده،لأنه هو وحدَه العارف بسرِّ كلِّ إنسانٍ وعلانيته. وله وحده إصدار الحكم في كلِّ أمرٍ وعلى كلِّ شخصٍ. إذ يتفق أن يعمل إنسانٌ عملاً بسذاجةٍ وبقصدٍ يرضي الله، وتظن أنت غير ذلك، وإن كان قد أخطأ، فمن أين تعلم إن كان تاب وغفر الله له، أو إن كان الله دانه في العالم إزاء ذنوبهِ؟فالذي يريد الخلاص إذن،ليس له أن يتأمل غيرَ نقائص نفسِه،مثل ذلك الذي رأى أخاه قد أخطأ فبكى وقال:"اليوم أخطأ هذا الأخ، وغداً أخطئ أنا، وربما يُفسح الربُ لهذا فيتوب، وقد لا يُفسح لي أنا». فبالحقيقة ويلٌ لمن يدين أخاه فإنه سيُهلك نفسَه بكونِه صار دياناً، ولكونهِ يؤذي الذين يسمعونه.وعنه يقول النبي: "ويلٌ للذي يسقي أخاه كأساً عكرة». وكذلك: «ويلٌ للذي من قِبلهِ تأتي الشكوك». أما أصلُ هذا كلِهِ فهو عدم المحبة، لأن المحبةَ تغطي كلَّ عيبٍ. أما القديسون فإنهم لا يدينون الأخَ، لكنهم يتألمون معه كعضوٍ منهم، ويشفقون عليه ويعضدونه ويتحايلون في سبيلِ خلاصِهِ، حتى ينشلونه كالصيادين الذين يرخون الحبلَ للسمكةِ قليلاً قليلاً حتى لا تخرق الشبكةَ وتضيع، فإذا توقفت سَوْرةُ حركتِها حينئذ يجرونها قليلاً قليلاً، هكذا يفعل القديسون، فإنهم بطول الروح يجتذبون الأخَ الساقطَ حتى يقيموه، كما فعل شيخٌ إذ جلس على الماجورِ الذي كانت تحته المرأة، لكي لا يجدها أولئك الدين نمُّوا على الأخ ... بشفقةٍ ومحبةٍ، لا باستنقاصٍ وتعيير. شيخٍ من الشيوخ القديسين أنه سكن قريباً من الديرِ، وكان ذا نفسٍ راجحةٍ في الصلاح، فجاوره أخٌ راهب.واتفق في غيبة الشيخِ أن طغى الأخُ وفتح قلايتَه، ودخل فأخذ زنابيلَه ومصاحِفَه.فلما رجع الشيخُ وفتح قلايته، لم يجد زنابيلَه ولا باقي حاجاته، فجاء إلى الأخِ ليخبره بما جرى له.وبدخولهِ قلاية الأخ وجد زنابيله ومصاحفه في وسطِها، لأن الأخَ لم يكن بعد قد خبأها. فلمحبةِ الشيخ، رأى ألا يحرجه، أو يوبخه، أو يخجله، فتظاهر بوجود ألم في بطنِهِ، ويحتاج الأمر لزوالهِ إلى قضاء الحاجة، فدخل بيتَ الراحةِ وأبطأ فيه وقتاً طويلاً، حتى إذا تأكَّد أن الأخَ خبأها، خرج الشيخُ وبدأ يكلمه في أمورٍ أخرى ولم يوبخه. وبعد أيامٍ قليلةٍ، عثروا على زنابيل الشيخ عند الأخ، فأخذه قومٌ وطرحوه في الحبسِ، فلما سمع الشيخُ أنه في الحبسِ ولم يكن يعرف العلةَ التي من أجلها حُبس، قام وجاء إلى الرئيس، وقال له: "اصنع محبةً وأعطني بيضاً وخبزاً قليلاً». فقال له ذاك: «من البيِّن أنه يوجد عندك اليوم ضيوفٌ». فقال له: «نعم». فأخذ الشيخُ ما طلبه، ومضى إليه في الحبسِ، ليجد الأخُ غذاءً من الطعام.فلما دخل ليفتقدَه، خرَّ الأخُ على رجليه وقال:"يا معلم، لقد جيء بي إلى ههنا، لأني أنا هو الذي سرقتُ زنابيلك، ومصاحفك تجدها عن فلان، وثوبك تجده أيضاً عند فلان».فقال له الشيخُ: "بالحقيقيةِ يا ولدي، اِعلم تماماً أني لستُ من أجل هذا الأمر دخلتُ إلى الحبس، ولم أعلم بوجهٍ من الوجوه أنك جئتَ من أجلي إلى ههنا، لكني سمعتُ أنك محبوسٌ فاغتممتُ، وجئتُ مصلحاً لك طعاماً تتغذى به، فاقبل الخبزَ والبيضَ وخذه من أجلِ محبتي».ثم إن الشيخَ خرج إلى أكابر البلد، وأعلمهم بأن هذا الأخ بريءٌ، وسألهم ألا يجلبوا على أنفسِهم خطيئةً. ولكونه معروفاً بينهم بالفضلِ والخيرِ، سمعوا لكلامِه، ولوقتهم أطلقوه، فهذا الأخُ بقي تلميذاً عند الشيخ بقية أيام حياتهِ ولم يكلِّمه بكلمةٍ واحدةٍ قط. وأيضاً قال شيخ: لا تدن الفاسقَ أيها العفيف لئلا تصير مثلَه مخالفاً للناموس، لأن الذي قال لا تزنِ، قال أيضاً لا تدِن. والرسول يعقوب يقول: «إن من حفظ الناموسَ كلَّه، وذلَّ في واحدةٍ منه، صار مُطَالباً بالجميعِ». قال يوحنا السينائي: إنه في حالِ جلوسي في البريةِ الجوانية، جاءني أحدُ الإخوة متفقداً مَن بالدير، فسألتُه:"كيف حالُ الإخوة»؟ فأجابني: «بخيرٍ بصلاتِك».فسألتُه أيضاً عن أخٍ واحدٍ كانت سمعتُه قبيحةً، فأجابني: "صدقني يا أبي، إنه لم يتُب بعد منذ ذلك الوقتِ الذي أُشيعت عنه فيه تلك الأخبار». فلما سمعتُ ذلك قلتُ: «أُف». فعند قولي «أف» أخذني سُباتٌ وكأن نفسي قد أُخذت، فرأيتُ أني قائمٌ قدامَ الجمجمة، والمسيحُ مصلوباً بين لصين، فتقدمتُ لأسجدَ له، ولكنه أمر الملائكةَ الواقفين قدامَه بإبعادي خارجاً قائلاً:"إن هذا الإنسان قد اغتصب الدينونةَ مني ودان أخاه قبل أن أدينه أنا». فوليتُ هارباً، فتعلق ثوبي بالباب وأُغلق عليه، فتخليْتُ عن ثوبي هناك.فلما استيقظتُ قلتُ للأخ الذي جاءني: "ما أردأ هذا اليوم عليَّ». فأجابني: «ولِمَ يا أبي»؟ فأخبرتُه بما رأيتُ وقلت: «لقد عدمتُ هذا الثوبَ الذي هو سُترة الله لي».ومن ذلك اليوم،أقام القديسُ هكذا تائهاً سبعَ سنين في البراري، لا يأكل خبزاً ولا يأوي تحت سقفٍ، ولا يبصر إنساناً.وأخيراً رأى في منامِهِ كأن الربَ قد أمر أن يُعطوه ثوباً.فلما انتبه فرح فرحاً عظيماً، وبعد أن أخبرنا بذلك بثلاثة أيامٍ تنيح.فلما سمعنا ذلك تعجبنا قائلين: «إن كان الصديقُ بالجهدِ يخلص، فالمنافق أين يظهر». من خبر لتادرس الرهاوي: كان بتلك النواحي حبيسٌ قديم، فمضى إليه القديس تادرس الأسقف، وسأله أن يعرِّفه بسيرتهِ من أجلِ الرب فتنفس الحبيسُ الصعداء، وتنهد من صميمِ قلبهِ وذرفت دموعُه وقال: "أما سيرتي فأنا أخبرك بها، فقط لا تُشهرها لأحدٍ إلا بعد انتقالي.فاعلم أيها الأب، أني خدمتُ بديرٍ ثلاث سنوات مع أخٍ أكبر مني، وبعد ذلك جئنا إلى البريةِ في بابل القديمة، وسكنَّا مقابرَ لم يبعد بعضُها عن بعضٍ كثيراً. وكنا نتغذى من الحشائش النامية من ذاتِها من سبتٍ إلى سبتٍ، وكنا إذا خرجنا لنجمع الحشائش لغذائنا، يتراءى مع كلِّ واحدٍ منا ملاكٌ يحفظه. ولم يكن أحدُنا يخاطب الآخر ولا يقترب منه.ففي أحدِ الأيامِ رأيتُ أخي من بُعدٍ قد قفز عن موضعٍ طائراً كأنه نجا من فخٍ، ومضى هارباً إلى قلايتهِ.فلما عجبتُ من قفزتِه، مضيْتُ إلى ذلك الموضع لأتحقق الأمرَ. فوجدتُ هناك ذهباً كثيراً،فأخذتُه ثم جئتُ إلى المدينةِ، وابتعتُ موضعاً حسناً محاطاً بسورٍ وبه عينُ ماءٍ صافٍ، فبنيتُ هناك كنيسةً، وعمَّرتُ موضعاً لضيافة الغرباءِ.وابتعتُ برسمهِ مواضعَ كافيةً للإنفاق عليه، وأقمتُ عليه رجلاً خبيراً بتدبيرِهِ. أما باقي المال، فقد تصدَّقتُ به على المساكين حتى لم أُبقِ لي منه ولا ديناراً واحداً.ثم عدتُ طالباً قلايتي، وفكري يوسوسُ لي قائلاً: "إن أخي من فشلِهِ ما استطاع تدبير ما وجده من المال، أما أنا فقد دبرتُه حسناً».في حال تفكري بهذا، وجدتُ نفسي وقد وصلتُ بقرب قلايتي، ورأيتُ ذلك الملاك الذي كان قبلاً يُفرِّحني، وإذا به ينظر إليِّ نظرةً مفزعةً، قائلاً لي: "لماذا تتعجرف باطلاً؟إن جميعَ تعبك الذي شَغَلْتَ نفسَك فيه كلَّ هذه الأيام، لا يساوي تلك القفزةَ الواحدة التي قفزها أخوك، لأنه ما جاز عن حفرةِ الذهبِ فحسب، بل عبَرَ أيضاً تلك الهوةَ الفاصلةَ بين الغني ولعازر، واستحق لذلك السُكنى في أحضان إبراهيم،من أجل ذلك فقد أصبح حالُك ليس شيئاً بالنسبةِ لحالِه بما لا يقاس، وها هو قد فاتك كثيراً جداً، ولهذا صرتَ غيرَ أهلٍ لأن ترى وجهَه، كما لن تحظى برؤياي معك بعدُ». وإذ قال لي الملاكُ ذلك غاب عن عيني.ثم إني جئتُ إلى مغارةِ أخي فلم أجده فيها، فرفعتُ صوتي باكياً حتى لم يبقَ فيَّ قوةٌ للبكاءِ. وهكذا أقمت سبعةَ أيام أطوفُ تلك البريةَ باكياً، فما وجدتُ أخي، ولا وجدتُ عزاءً، فتركتُ ذلك الموضع نادباً، وجئتُ إلى هنا، فأقمتُ في هذا العمودِ تسعاً وأربعين سنةً محارِباً أفكاراً كثيرة، وشياطين ليست بقليلةٍ، وكان على قلبي غَمامٌ مظلمٌ وحزنٌ لا يمازجه عزاء. وفي السنة الخمسين، في صبيحة الأحد، أشرق على قلبي نورٌ حلو، قشع عني غَمامَ الآلام، وبقيتُ مبتهلاً بقلبٍ خاشعٍ مُنَدَّى بدموعٍ ذاتِ عزاءٍ، فلما جازت الساعة الثالثة من النهار، وأنا ملازمٌ للصلاةِ قال لي الملاكُ: السلامُ لك من الربِّ، والخلاص. فتعزَّى قلبي».قيل:أخطأ أحدُ الإخوةِ فطُرد،فقام الأب بيساريون وخرج معه قائلاً: «وأنا أيضاً خاطئٌ».وحدث مرةً أن هفا أخٌ بالإسقيط، وانعقد مجلسٌ بسببهِ،فقام الأب بيئور، وأخذ خُرجاً وملأه رملاً وحمله على ظهرهِ،كما أخذ كيساً صغيراً ووضع فيه قليلاً من الرملِ وجعله قدامه. فسألوه:"ما هذا الخُرج المملوء كثيراً»؟ فقال: "إنه خطاياي قد طرحتُها وراءَ ظهري حتى لا أنظرها ولا أتعب لأجلِها، أما الرملُ القليل الموجود قدامي، فهو خطايا أخي، وقد جعلتُها قدامي لأدينه عليها».فلما سمع الإخوةُ ذلك انتفعوا، وغفروا للأخِر.
المزيد
25 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس موسى

موسى " بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون "عب 11: 24 مقدمة قد لا يجد المرء في صفحات التاريخ الكثير من الناس، الذين تعرضوا وهم على مفارق الطرق، لما تعرض له هذا الرجل القديم موسى، إذ كان واحداً من الأوائل الذين جاء امتحانهم على ضفاف النيل، ليكتشفوا الفارق المهول بين الطريق الواسع العالمي، وطريق الحياة الأبدية الضيق،.. وقف موسى أمام الطريقين، ورأى الطريق الرحب الواسع، مرصوفاً بالذهب تعبق على جانبيه الزهور، ويرويه النيل بالخضرة والجمال، والحسن والمتعة، والمجد العالمي المذهل!!.. ورأى الطريق الآخر الكرب الضيق، وعلى رأسه الصليب الضيق، والنفي والتشريد، ولم يتردد مع ذلك قط، في أن يختار هذا الطريق الأخير إذ: "أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون مفضلاً بالأحرى أن يذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر لأنه كان ينظر إلى المجازاة".. لقد أدرك موسى أن مأساة الإنسان الغارقة في كل العصور والأجيال أنه ينظر إلى أول الطريق، وليس إلى نهايته، مع أن الوضع المعكوس هو الصحيح إذ: "توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت".. وهو لا يرضى أن تكون له هذه المأساة، فيتحول آخر الأمر مهما حف به من مجد عالمي إلى جثة محنطة في مقابر الفراعنة القديمة بل أنه لينشد أن يموت بأمر من الله على رأس الفسجة، ولا يدفن في أعظم هرم في مصر الوثنية القديمة!!.. أجل وشتان إلى الأبد، بين موسى كمومياء، وموسى على جبل التجلي مع إيليا والمسيح، كما رآه بطرس ويعقوب ويوحنا!!.. دعونا إذاً نرى هذا الرجل كواحد من أعظم رجال العصور كلها، يقف ربما في الخط الثاني مع بولس والقليلين جداً من أبطال الإيمان خلف ابن الله في السماء.. من يكون؟ وما قصته العظيمة وتاريخه الباقي إلى أن تنتهي الأرض وما عليها، ويسمع الناس الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل؟!.. من هو موسى؟!! عندما يمر الإنسان منا نحن المصريين بمومياء رمسيس الثاني، كثيراً ما يأتي السؤال: هل هذا الملك هو الرجل الذي عاصر موسى كما يذهب بعض المؤرخين أو الشراح ممن يعتقدون أن موسى ولد عام 1578ق.م. وأنه هرب إلى مديان عام 1538ق.م. ورجع إلى مصر عام 1498ق.م.، وأن رمسيس الثاني جاء إلى العرش عام 1567ق.م.، وأن منفتاح حكم مصر عام 1506ق.م.؟.. أم أن موسى جاء بعد هذا التاريخ بفترة قصيرة؟.. لسنا نعلم على وجه التأكيد، ولا نظن أن دراسة الشخصيات التي نعالجها تهتم بالجانب التاريخي المحض، فهذا متروك للدراسات التاريخية، وعلم الآثار،.. ولا نظن أن دراساتنا أيضاً تتجه إلى معارض الفن، حيث نرى رجال الفن من مصورين أو مثالين، وهم يتخيلون شكل موسى أو منظره أو صورته، ولن نقف من موسى، مثلما وقف المثال العظيم مايكل أنجلو، بعد أن أبدع تمثاله العظيم الرائع، وإذ أخذ بالمنظر ضرب بعصاه وهو يصيح: "تكلم يا موسى".. لكننا سنحاول دراسة أخلاقيات موسى ورسالته العظيمة التي تركت طابعها الأدبي والروحي على مر العصور والأجيال!!.. موسى الجميل لم يكن جمال موسى الجمال العادي، ولكنه كان نوعاً من ذلك الجمال الذي وصفه استفانوس بالقول: "ولد موسى وكان جميلاً جداً" والذي قال عنه يوسيفوس المؤرخ اليهودي: "إن جماله كان رائعاً فتاناً مذهلاً، فما من إنسان بهذا الجمال البارع".. وقد هز هذا الجمال أمه وأباه اللذين أخفياه ثلاثة أشهر وهز ابنة فرعون التي رق قلبها للجمال الباكي في سفط وكان مؤشراً عظيماً في الحب الذي أحبت به موسى، فلم تره بعد عبداً لها، بل جعلته ابناً!!.. وقد أضحى هذا الجمال مذهلاً ورهيباً، بعد أن صعد إلى الجبل وعاش مع الله أربعين يوماً،.. ولم تعد العين البشرية قادرة أن تحدق فيه، كما يصعب عليها أن تواجه النور الباهر، ومن ثم ألف موسى أن يغطي وجهه في نظر إلى الناس، حتى يرفع البرقع في خلوته مع الله!!.. موسى المتعلم وصف استفانوس موسى: "تهذب بكل حكمة المصريين".. ومن المعتقد أن مصر رائدة العلم في كل أجيال التاريخ، وقد قال هنري ورد بيتشر، وهو يعطي الفرق بين عظمة مصر وغيرها من الأمم والممالك: "إن روما لم تكن قد عرفت بعد، واليونان كانت مغارة لصوص، ولم يكن في بقاع العالم كله سوى مكان واحد يتألق فيه المجد، وقد كان هذا المكان هو مصر بلد الفلسفة والفن والوثنية".. وفي عصر موسى كانت هناك جامعة في عاصمة البلاد في المكان الذي يطلق عليه الآن "صان الحجر" ومن المرجح أن موسى تعلم في هذه الجامعة حتى بلغ أعلى درجات المعرفة والعلم،.. كانت الجامعة تعلم التاريخ والطب واللاهوت والحساب والجبر والهندسة والعلوم الحربية، ولا شبهة في أن موسى أخذ بالكثير من هذه العلوم، التي اختلط فيها الحق بالباطل، والنور بالظلام ولكنها على أي حال جعلت منه واحداً من أعظم علماء عصره، ومن أعظم علماء العصور كلها، وأنها شكلت فيه ذلك الذهن المنظم العبقري، الذي صفاه الله، في برية مديان ليكون واحداً من أبرع العقول التي أعطاها الله للإنسان على هذه الأرض!!.. وأليس مما يدعو إلى العجب أن الرجل الذي تهذب بكل حكمة المصريين، وكان العملاق العظيم في العهد القديم، يذكرنا بنده الآخر في العهد الجديد، والذي أفرزه الله من بطن أمه، وكان عليه أن يجتاز الطريق، من جامعة طرسوس، إلى رجلي غمالائيل، إلى الخدمة الخالدة التي قام بها بعد ذلك؟!!.. موسى المقتدر لم يكن موسى جميلاً، وعالماً فحسب، بل أكثر من ذلك، كان "مقتدراً في الأقوال والأُفعال" أو جهزه الله ليكون من ذلك النوع من الرجال الذي خلق ليكون قائداً،.. والذي يمكن أن يوصف بصلابة الإرادة، وقوتها. وهنا يكمن الفرق بينه وبين هرون، لم يكن لموسى زلاقة اللسان، التي كانت لأخيه الأكبر هرون،.. إذ كان هرون من أفصح الناس، وأقدرهم في البلاغة والبيان، لكن هرون كان قصبة تهزها الريح، تقوده الجماهير، ولا يقودها، وتدفعه ولا يستطيع ردها، وتثور غاضبة فينجرف في تيارها، ومع أنه رئيس كهنة الله،.. ومع أنه عاش عميق الشركة مع الله، ومع أنه ظل إلى آخر عمره، وهو يقدم البخور العطر أمام الله، إلا أنه كان الإنسان الضعيف أمام أية إرادة أقوى وأصلب من إرادته وشجاعته،.. في ثورة غضب صنع العجل للجماهير، وهو يعلم أنه إثم كبير، وفي لحظة ضعف اكتسحته مريم، عندما تآمرت معه على أخيه الحبيب موسى،.. تستطيع أن تأخذ من هرون أفضله أو أردأه من نوع المصاحبة التي تأتيه من الآخرين،.. أما موسى فهو فرد يصلح أن يكون جيشاً بأكمله،.. يقود ولا يقاد، ويتقدم ولا يتراجع، ويحزم الأمر في مواجهة فرعون أو مصر، أو الإسرائيليين جميعاً، أنه من ذلك الصنف الذي خلق ليكون زعيماً وقائداً، لا يتخاذل في أقسى المعارك، أو أشد المحن، التي يمكن أن يمتحن بها الرجال أو الأبطال في الأرض!!.. موسى الحالم كان موسى -أكثر من كل ما ذكرنا- رجل الرؤيا والأحلام،.. لقد دخلت الأحلام في حياته منذ الصباح الباكر،.. ومن المؤكد أن أمه يوكابد، فتحت عينيه على الرؤيا العظيمة، رؤيا الإنقاذ والتحرير لشعب الله المعذب المضطهد في ذلك التاريخ، ومن المؤكد أن موسى كان على دراية تامة بالنبوات الإلهية التي ذكرها إله لإبراهيم ويعقوب ويوسف،.. ومن المؤكد أنه وعاها إلى الدرجة التي لم يغمض له معها جفن، وهو يجترها ويذكرها كلما أصبح، وكلما أمسى،.. لقد دخلت وإياه إلى قصر فرعون، وعاشت وإياه على ضفاف النيل، وصاحبته صغيراً، وشاباً، ورجلاً اكتملت حياته وقوته ورجولته،.. ومن المؤسف أنها كانت خلفه أيضاً عندما تحول قائلاً: "فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يديه يعطيهم نجاة وأما هم فلم يفهموا". موسى الحليم لم يكن موسى حالماً فحسب، بل كان حليماً أيضاً، وأكثر من ذلك كان أحلم رجل على وجه الأرض،.. ولم يكن حلمه ناشئاً عن طابع هاديء بارد -كما يبدو هذا في حياة الكثيرين من ذوي الدماء الباردة على ما اصطلح الناس أن يقولوا أو يرددوا- بل كان موسى على العكس، من النوع الملتهب العاطفة، الثائر الوجدان، الغضوب حتى القتل، إذا ما رأى مظلوماً ضعيفاً بين يدي ظالم قاس، أو مستبد باطش متغطرس،.. ومن المسلم به أن ذوي الطباع البادرة لا يصلحون في أوقات المحن والاستعباد والاستبداد،.. ومن المسلم به أن موسى على العكس من ذلك كان يحمل بين جنبيه قلباً ثائراً لا يهدأ أو يسكن أو يستريح حتى تحل قضية شعب مظلوم، سحقه الطغاة إلى الأرض الحضيض والتراب،.. لكنه مع ذلك راضى نفسه على الهدوء، وأخذ نفسه بالسكينة، واحتاج إلى أربعين عاماً في البرية حتى يصبح لا رجلاً حليماً فحسب بل أكثر من ذلك أحلم إنسان في جيله على وجه الأرض!!.. موسى صديق الله لم تكن الصداقة التي تربط موسى بالله مجرد صداقة عادية، بل كانت، من ذلك النوع المباشر العميق، وتختلف كل الاختلاف عن صداقة الشعب بأكمله،.. فإذا درج الشعب على الاقتراب إلى الله في خيمة الاجتماع، كان جميع الشعب إذا خرج موسى إلى الخيمة يقومون ويقفون كل واحد في باب خيمته وينظرون وراء موسى حتى يدخل الخيمة، وكان عمود السحاب إذا دخل موسى الخيمة ينزل ويقف عند باب الخيمة، ويتكلم الرب مع موسى، فيرى جميع الشعب عمود السحاب واقفاً عند باب الخيمة، ويقوم كل الشعب ويسجدون، كل واحد في باب خيمته، ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه، وإذا رجع موسى إلى المحلة كان خادمه يشوع بن نون الغلام لا يبرح من داخل الخيمة!!.. فإذا تطاول هرون ومريم على موسى وإذا زعما أنهما ليسا أقل منه بحال من الأحوال، كان جواب الله على هذا الموقف: "اسمعا كلامي. إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا استعلن له في الحلم أكلمه، وأما عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في كل بيتي، فماً إلى فم، وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز وشبه الرب يعاين".. أجل وهذه الصداقة التي شربت عميقاً من نبع الله تنتهي بنا عبر القرون إلى الصورة المماثلة بين التلاميذ، حيث أحبهم يسوع المسيح إلى المنتهى، وفي الوقت عينه قرب ثلاثة من بينهم، ومن الثلاثة انفرد واحد باللقب العظيم: "التلميذ الذي كان يسوع يحبه"..أجل إن مجال الصداقة -أو بالحري- سباق الصداقة مفتوح أمام الجميع، ترى من يكون موسى العهد القديم، أو يوحنا العهد الجديد في مثل هذا الامتياز الرائع فيمن تأتي بهم العصور اللاحقة عن أحباء الله وأصدقائه؟!! موسى والبيت القديم ولن تستطيع أن تدرس موسى، أو تدرك عظمته الحقيقية دون أن تدخل. بيته القديم، وتلتفت حول أسرته المكونة من خمسة أشخاص، وأول ما يطالعك في البيت، الأبوان عمرام ويوكابد"، وهما المؤمنان اللذان لم يخشيا أمر الملك، ويلقيا بابنهما الجميل في نهر النيل، وهما رأس البيت السعيد المحظوظ، والذي أنجب ثلاثة أولاد، بنتاً وولدين، ولم يتخلف واحد منهم عن الإيمان أو الدور القيادي العظيم، أو كما قال الله على لسان ميخا: "يا شعبي ماذا صنعت بك وبماذا أضجرتك. اشهد على أني أصعدتك من أرض مصر وفككتك من بيت العبودية وأرسلت أمامك موسى وهرون ومريم". إن معنى "يوكابد" على الأرجح "الله مجدك" وقد أدخلت يوكابد الله إلى بيتها وربت مع زوجها أولادها أحسن تربية دينية، فدخل مجد الله البيت وملأه إلى التمام، وأعده ليكون أولاده الثلاثة على رأس الأمة وفي قيادتها، لم يكن البيت -حسب الظاهر- إلا واحداً من البيوت الفقيرة العديدة المستعبدة، يضم خمسة من العبيد لا يملكون من الحياة أو الحرية إلا بالقدر الذي يسمح به سادتهم الطغاة القساة المستبدون،.. ولكن البيت الذي ملأه مجد الرب، كان واحداً من أعظم البيوت التي ظهرت على الأرض، وكان بيت الشجعان الأحرار المتحدين المتكاملين المحبين،.. كانت مريم الابنة الكبرى تتجاوز العاشرة أو تقف عندها، عندما ولد أخوها الصغير موسى، ولنقتطف بعض عبارات "الكسندر هوايت" وهو يصف لنا أبناء هذا البيت،.. إذ قال لمريم وهي ترقب أخاها في السفط على حافة النيل: "أي مريم: أي أيتها الفتاة الصغيرة راقبي جيداً، واحرسي الأخ الصغير، ولا تدعي عينيك تلتفتان هنا أو هناك، فإنك لا تعلمين من تحرسين، وأي كنز تراقبين.. في هذا السفط الصغير كنز من أثمن ما عرفت من ذخائر وكنوز، في هذا السفط الصغير بطل من أبطال التاريخ والأجيال الخالدين على مر القرون.. في هذا السفط ترقد الشريعة والأنبياء، والمدنية والحضارة".. وأدت مريم ولا شك دورها العظيم وهي تشترك مع أبيها وأمها في تربية الصغير، تربية لم تستطع مصر بكل ما فيها من إغراء أن تحوله قيد أنمله عن خط سيره العظيم،.. وعندما ضرب موسى في المنفى لمدة أربعين عاماً، وعاد في الثمانين من عمره ليلتقي بأخيه هرون، ويدعوه ليقف معه في مواجهة فرعون، على أن يكون هرون هو المتقدم في الكلام، يجيب هرون كما يتخيل هوايت: "هل تعني يا أخي أن أتكلم نيابة عنك؟!!.. ما هذا الذي تقول؟!!.. أنا لست أهلاً أن أحل سيور حذائك!!.. أنا لست أهلاً أن أقف إلى جانبك كأخ نحمل اسماً واحداً لعائلة واحدة!!.. سأبقى إلى جوارك صامتاً أبكم لا يتكلم،.. أنا بالعكس في حاجة إليك يا أخي!!.. أنا في حاجة إلى حكمتك!!.. في حاجة إلى صبرك!!.. في حاجة إلى مشورتك!!.. في حاجة إلى أمرك.. أنت أحكم الناس وأفضلهم.. أنت ملك إسرائيل يا موسى، يا أخي وحبيبي!!.. كان موسى يحتاج إلى هرون، وكان هرون أعجز عن السير بدون موسى، كان كلاهما يكمل الآخر، ففي الوقت الذي لم يصل فيه هرون إلى عمق موسى، وقدرته، وصلابته، وشجاعته، وحنكته وحزمه.. كان هرون فصيح اللسان ذهبي الفم، ينقل في الطلاوة الساحرة ما يريد موسى أن يقول لفرعون أو الشعب أو مصر، إذ كان المتكلم باسمه، المفصح عن رسالته أو بتعبير أصح رسالة الله للناس،.. وكانت مريم النبية كبرى الإخوة قائدة النساء، وحبيبة موسى وأخته ومحبته، وكانت أقوى وأذكى، وأشجع من هرون، وهي التي خرجت بالدفوف والرقص والغناء تردد القرار في أغنية موسى على شاطيء البحر الأحمر: "الفرس وراكبه طرحهما في البحر":..هل وقفت لتتأمل معي قول ابنة فرعون لأم موسى: "اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي، وأنا أعطي أجرتك"؟.. وأية أجرة يمكن أن تخطر بالبال تستطيع ابنة فرعون أن تعطيها مقابل إرضاع موسى، وتربيته التربية التي عرفها التاريخ فيما بعد في بطل العهد القديم العظيم،.. إنها في الواقع أجرة أعلى مما تستطيع كنوز مصر بأكملها أن تقدم نظيره ومثيله،.. لقد تعلم الصغير قبل أن يدخل عرين الأسد، من هو؟!! ومن شعبه؟!! وما هي رسالته؟!!.. أجل ولن تستطيع أن تعرف حقيقة موسى، قبل أن تعرف هذه الخلفية الدينية العظيمة في بيته القديم!!. ومع أن الغيوم طافت فيما بعد حول هذا البيت القائد المتماسك يوم زواج موسى بالكوشية، التي ظن البعض أنها صفورة، وأن مريم من غيظها أطلقت عليها الكوشية السوداء تندد بها، يوم انقلبت على موسى، الأمر الذي يستبعده الكثيرون، ممن يعتقدون أن موسى تزوج بعد وفاة صفورة أو في حياتها بالكوشية، دون أن يستشير مريم على الأغلب، أو على الأقل تأخذ جانباً من حب موسى لا تقبل أخته أن تعطيه بحال ما لامرأة أخرى. على أي حال كانت غيمة قاسية وصلت إلى حد المؤامرة لإسقاط موسى، الأمر الذي لم يكن يخطر ببال أي إنسان على الأرض،.. ولكنه الحسد الوبيل القاتل، الذي تصرف موسى إزاءه بكل حلمه وحبه وصلاته وضده، حتى انجابت الغيمة، وعادت مريم من عزلة خيمتها، التي قضت فيها أسبوعاً وهي بيضاء كالثلج!!.. وأشرقت الشمس مرة أخرى على البيت القديم الذي كان له أعظم فضل في الحفاظ على إيمان موسى في أرض الأوحال والفساد والوثنية في مصر!!.. موسى والرفض العظيم وهذا الرفض هو الذي قال فيه موسى "لا" بأقوى ما يمكن أن يكون الإصرار في التعبير،.. ونحن نلاحظ في هذا الرفض أن سماته العظيمة، ظهرت أولاً: إنه الرفض الناضج: "لما كبر".. أو في لغة أخرى كان هذا الرفض وليد فكر عميق ثابت مدروس، وازن الحقائق كأجمل وأعظم وأدق ما يمكن أن تكون الموازنة.. لم يكن رفض موسى وليد اندفاع محموم لا يلبث أن يتراجع عندما تهدأ الثورة أو يسكن الانفعال، أو تتراجع الحمي، كان قرار موسى قرار رجل وضع مصر بكل مشتملاتها في كفة.. ووضع عار المسيح في الكفة الأخرى، وأمسك بهذه الكفة الأخيرة الراجحة!!.. ومن المؤكد أن أي إنسان يدرس الحقائق كما يدرسها موسى، لابد أن ينتهي إلى القرار الذي انتهى إليه الرجل القديم،.. كما أن هذا الرفض كان ثانياً: رفض الوثنية المصرية، مهما بدا مظهرها في قصر فرعون، أو مجده، أو عظمته، أو ما يقال أنها الحضارة المصرية التي بلغت أوج مجدها أيام رمسيس الثاني، أو من جاء قبله أو بعده من عظماء الفراعنة!!.. عندما زار "الكسي دي توكفيل" الفرنسي أمريكا في القرن الماضي، قال: لقد بحثت عن عظمة أمريكا في حقولها ومزارعها الغنية الواسعة ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد ذهبت إلى مصانعها الواسعة الكبيرة، ولم أجد أمريكا هناك،.. ولقد تحولت إلى جامعاتها العظيمة وما تلقنه أو تعطي من علم، ولم أجد أمريكا هناك.. حتى ذهبت إلى كنائسها، واستمعت إلى منابرها وهي تنادي بالحق والخير والدين والجمال، ورأيت أمريكا هناك، وستبقى أمريكا عظيمة ومجيدة وخيرة طالما تنادي هذه المنابر برسالة الله، رسالة الحق، وستنتهي أمريكا يوم تنتهي أو تضعف رسالة منابرها الجليلة الرائعة العظيمة!!.. وهذا حق في مصر القديمة أو أمريكا الجديدة،.. وسنقول دائماً لا لأعظم حضارة يمكن أن تكون وثنية بنسيانها الله أو بعدها عن رسالته ومقدساته!!.. كما أن هذا الرفض كان ثالثاً: تغليب الولاء لله على الولاء لكل بشري على هذه الأرض!!.. كان موسى مديناً بالحب والحياة والحرية والعلم والثروة لابنة فرعون، لقد طوقته بدين قل أن يطوق به إنسان آخر على هذه الأرض،.. كان محكوماً عليه بالموت، فأعطته الحياة، كان عبداً كسائر غيره من العبيد فرفعته إلى مستوى الأحرار، ولم تره عبداً لها بل تبنته ابناً محبوباً مدللاً عزيزاً!!.. كان من الممكن أن يبقى دون أن يتعلم حرفاً واحداً من معرفة، فعلمته وهذبته بكل حكمة المصريين، كان من الممكن أن يكون معدماً لا يملك قوت يومه، ففتحت أمامه خزائن مصر يغترف منها كل ما يشاء وكل ما يريد،.. كانت اللمسة الإنسانية العميقة تربط بين موسى وابنة فرعون، فإذا أضيف إلى ذلك أنها أحبته حباً قل أن يحب واحد آخر مثله، إذ ركنت إلى العزلة بعد هروبه من مصر، حتى ماتت كما تقول بعض التقاليد كمدا عليه!!.. إذا كانت هذه هي الرابطة بين ابنة فرعون وموسى، فكيف يصح أن يقال أنه لما كبر: أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون؟!!.. إن موسى مهما كانت الرابطة البشرية التي تربطه بإنسان، فإنها لا يمكن أن تدخل حتى في الموازنة مع رابطته بالله وعقيدته ودينه،.. والهوة هنا واسعة وبعيدة وأبدية وهيهات أن تعبر!!.. ألم يقل السيد: "من أحب أباً أو أماً أكثر مني فلا يستحقني ومن أحب ابناً أو ابنة أكثر مني فلا يستحقني"؟.. وكان الرفض رابعاً: تغليباً لعار المسيح تجاه كل مجد عالمي!!.. ولم يضع موسى الموازنة هنا بين غنى أو غنى أو مجد ومجد.. بل بين عار المسيح وخزائن مصر، وبين الذل مع شعب الله والتمتع الوقتي بالخطية،.. وكلمة "المسيح" هنا مرادفة لشعب الله، حتى أنك تستطيع أن تضع التعبيرين أحدهما مكان الآخر، وأننا في أمن من اللبس أو الذلل أو الخطأ،.. وفي العهد الجديد كان الأمر سواء بسواء، حتى أن المسيح تحدث إلى شاول الطرسوسي -وهو يضطهد الكنيسة والمسيحيين- بقوله: شاول شاول لماذا تضطهدني صعب عليك أن ترفص مناخس".. إن موسى كبولس. كلاهما لا يجرؤ البتة على وضع مجد الله جنباً إلى جنب مع مجد العالم، فمجد الله أعلى من أن يقارن به أي مجد أرضي، مهما كانت عظمته وروعته وجلاله في عيون البشر،.. فإن كانت هناك من مقارنة فإن موسى يقبل بالأحرى أن "يذل" مع شعب الله على أن يكون له "تمتع وقتي" بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر،.. وبولس يقبل أن يحسب كل شيء "نفاية" من أجل فضل معرفة المسيح وربحه!!.. إن أعظم من ساروا في الطريق البشري هم أولئك الذين قالوا لكل ما في العالم من مجد: "لا" وحملوا "صليب المسيح" في موكب الخالدين!!.. موسى ومدرسة مديان الكبرى كان من الغريب أن تنقسم حياة موسى من حيث الزمن إلى ثلاثة أقسام متساوية، فهو يقضي في مصر أربعين عاماً كأعظم ما تكون حياة الناس، بين الأبهاء والعظمة والقصور، وهو يقضي الأربعين الثانية راعياً للأغنام، كأبسط ما تكون الحياة بين الناس على ظهر الأرض، وهو يقضي الأربعين الثالثة كأقسى ما يواجه الإنسان من حياة عملية على رأس شعب اشتهر بالشغب والعناد والتمرد!!.. ونحن لا نعلم حكمة الله في ذلك، بل لعل موسى في مديان كان يسأل وهو في الوحدة والهدوء والعزلة والبرية: هل هناك من كلمة لهذه السنوات الطويلة التي هي ثلث عمره في البرية؟!!.. إن الحقيقة أن مدرسة مديان لم تكن تقل بحال ما عن جامعة مصر،.. وقد تعلم موسى في مديان ما لم يستطع أن يأخذه في مصر، لقد تعلم على الأقل: أولاً: الخروج الصحيح من مصر،.. أو بتعبير أصح خروج مصر منه، لقد خرج موسى من مصر، ولكن مصر كان من المستحيل أن تخرج من قلبه وفكره بين عشية وضحاها،.. وكان لابد أن ينتزع من نفسه كل تأثيراتها وسحرها، وفتنتها وجمالها، وإغرائها وأساليبها، وما خلعته عليه من زهو وغرور، وكبر واعتداد، كان الخروج إلى مديان، غسيلاً كبيراً لمخ موسى وحياته في مصر، وما قد تراكم من أوساخ علقت به طوال الأربعين عاماً الأولى من حياته!!.. كما أن الأمر ثانياً كان أكثر من ذلك، إذ هو الخروج من الضجيج إلى الهدوء، والسكون، الوحدة، والعزلة،.. كان على موسى أن يدخل مدرسة الصمت، حيث يغترف هناك من منهل الشركة مع الله ويقوى تأمله، ويزداد إيمانه، وترتفع نفسه دون معطل أو مزعج أو ضجيج، ولا شبهة في أن كتاباته الخالدة، وشرائعه العظيمة التي أخرجها للأجيال، وضع الله أساسها في ذهنه، وهو يتجول منفرداً وحيداً منعزلاً في تلك الصحاري الشاسعة، لقد كانت البرية له كما كانت لإيليا وداود، ويوحنا المعمدان وبولس، فترة من فترات التأمل القوي المخصب العميق. وكانت مديان ثالثاً.. مدرسة التدرب العظيم على أفضل ما وصل إليه من المباديء والمثل الأخلاقية العظمى،.. فحياة الوداعة والتواضع والصبر والحلم والزهد والقناعة، كان من المستحيل أن يبلغها في مدرسة أخرى غير مدرسة مديان،.. كيف لا، وابن ابنة فرعون لم يعد يأنف من أن يكون راعياً بسيطاً من رعاة الأغنام، ولم يأنف الذي ألف حياة القصور ومجد الأبهاء أن ينام فوق الثرى والرمال والصخور.. لقد تعلم موسى كيف يرضى ويتضع، بل كيف يحيا حياة الزهد والخشونة والقناعة، بل أكثر من ذلك رق طبعه، وهدأت نفسه، طبعت على الأناة والوداعة والحلم، حتى وصل به الأمر إلى أن يكون أحلم رجل على وجه الأرض،.. وإلى جانب هذا كله، أزكت مدرسة مديان في أعماق نفسه آلاماً لا توصف تجاه إخوته المعذبين المتألمين في مصر،.. وقد وصفته "ألن نايت تشالمرز" يجلس فوق الرمال في الليل العميق، وهو يفكر في إخوته متطلعاً إلى النجوم اللامعة في السماء، ويقول "أتستطيع أن تتصوره في أعماق الليل، فوق التلال يرعى أغنامه تحت النجوم الساكنة؟ لقد كانت النجوم ذاتها تدينه وتعذبه، إذ كان صمت الليالي يحمل إليه صرخات إخوته المعذبين،.. كان موسى رجلاً مرهف الإحساس تروعه آلام الآخرين، وكان يجلس في مديان حراً لا تصل إليه سياط المصريين، أو عدالة فرعون إزاء ما ارتكب من قتل،.. لكن الأصوات التي تتكلم في جنبات نفسه، وصلته عبر الصحراء التي تفصل بين قصر فرعون، وخيام يثرون،.. كان موسى يصارع في أعماق نفسه قيود الضمير!!.. وهكذا كانت مدرسة مديان مدرسة الله التي دخلها موسى طوال الأربعين العام الثانية من حياته!!.. موسى والدعوة العليا كان موسى مدعوا ولا شك من بطن أمه، وكانت أجراس الدعوة ترن في أذنيه في كل وقت،.. لكن الخطأ الكبير الذي وقع فيه موسى كان وقت الدعوة أو وقت الرسالة التي ينبغي عليه أن يؤديها، وشتان بين الظن والتأكد، وبين الخاطر والرؤيا: "ولما كملت له مدة أربعين سنة خطر على باله أن يفتقد إخوته.. فظن أن إخوته يفهمون أن الله على يده يعطيهم نجاة" وهرب موسى، وعاش في مديان أربعين سنة أخرى كاملة: "ولما كملت أربعون سنة ظهر له ملاك الرب في برية جبل سيناء في لهيب نار عليقة".. لقد خطر بباله أو ظن أنه إذا كان الله يدعو الإنسان، فإنه ولا شك يدعوه في قمة اللياقة، والمواءمة، وهو لا يجد وقتاً أليق من الأربعين عاماً التي اكتملت فيها رجولته، وتهذب بكل حكمة المصريين، ووصل إلى أعلى مركز في بيت فرعون، وكل هذه تقطع في تصوره بأن يوم الحرية قد جاء لإخوته في المنفى والأسر والاستعباد، غير أن الله لا يخضع الدعوة للحدس والظن، ولا يحكمها بالمقاييس والمعايير البشرية، وها نحن نراه في دعوة موسى يقلب كافة الموازين!!.. وقت الدعوة فالدعوة لا تأتي لموسى في الأربعين من عمره، حيث يظن أنه في قمة قوته، وفي كمال لياقته صحياً وذهنياً وروحياً، بل إن الدعوة تأتيه وهو يدخل الثمانين من عمره، حيث ولى الشباب، وانتهى الوقت، وأخذ طريقه يتدحرج في تصوره إلى النهاية والغروب،.. إن الله لا يعمل عندما يظن البشر أنهم أقوياء، يستطيعون أن يعملوا أو يبدعوا أو ينتجوا، بل إنه على العكس يتدخل عند إفلاس الإنسان، وعجزه، وضياعه، وقصوره،.. على أن هذا لا يعني أن الله يدعو الكسالى والمهملين والخاملين والعاطلين، بل يدعو على الدوام من ينهمك في العمل الصغير الوديع المؤتمن عليه،.. وقد جاءت الدعوة إلى موسى عندما كان يرعى غنم يثرون حميه، وستأتيني وتأتيك ونحن نمسك بالأمانة والغيرة، كل ما يضع بين أيدينا من أعمال صغرت أو كبرت على حد سواء!!.. مكان الدعوة لقد جاءته الدعوة في جبل الله حوريب، أو في معنى آخر، إننا لن نحتاج -كما قال أحدهم- إلى كاتدرائية عظيمة، أو مكان عال لكي نرى الله ونبصر مجده، بل في كل مكان حيث نرتفع بقلوبنا وشركتنا معه، سنجد الجبل المقدس ونعلو عليه، ومن المهم أن ندرك أيضاً أن الله التقى بموسى في العزلة والهدوء والبعد عن الناس، ونحن لا نعلم لماذا ساق الرجل الغنم إلى ما وراء البرية؟!! أليجد المرعى الأفضل والأخصب؟!!.. أم لرغبته في أن تتاح فرصة للتأمل الأعمق الأوسع؟.. على أي حال -إن ما يعنينا من الأمر أن الرجل أضحى يميل للنظر، وقوله: "أميل الآن لأنظر هذا المنظر العظيم" ينبيء عن نفس مرهفة الحس، صادقة الاستعداد، سريعة التأمل والتجاوب مع ما تبصر أو تشاهد.. وهذا ما ينتظره الله من النفس التي يوجه إليها دعوته ورسالته!!.. مظهر الدعوة ظهر الله لموسى في العليقة، وكانت العليقة تتوقد بالنار ولم تكن تحترق، وقد كان المنظر أسمى إعلان لحضور الله لإنقاذ الشعب وتحريره وخلاصه،.. إذ كان أول كل شيء إعلان الرحمة الفائقة الحد، إذ لم يظهر الله في بلوطة أو شجرة من الأشجار العالية السامقة الارتفاع، المتعالية المنظر، بل ظهر في العليقة الصغيرة والوديعة القصيرة المظهر،.. وعندما ظهر بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان أخذ الصورة عينها، إذ جاء الله السرمدي متجسداً في وليد بيت لحم، بين السائمة مضجعاً في مزود، إذ لم يكن مضجع في المنزل،.. وبالإجماع "عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد"!! ومع أن النار تأكل كل شيء، لكن العليقة كانت تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق!! والكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً".. فإذا كان الله قد حضر غيوراً في النار الملتهبة لإنقاذ شعبه، فإنه لم يحضر دياناً لكي يحرقهم ويقضي عليهم، وإذا كان اللاهوت قد حل في الناسوت في يسوع المسيح، فإنه قد جاء ليخلص، وليس ليدين!!.. هل رأيت هذا المظهر الرائع الذي لم يكتف موسى أن يخلع حذائه من قدميه، وهو يتقرب منه، بل أكثر من ذلك غطى وجهه لأنه خاف أن ينظر إلى الله؟ هو.. هو بعينه الذي تكرر على بطاح بيت لحم حيث ذهب الرعاة مسرعين، ووجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في مزود، فلما رأوه أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي، وكل الذين سمعوا تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة، وأما مريم فكانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها، ثم رجع الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوه ورأوه كما قيل لهم!!.. وهو هو الذي خشع أمامه المجوس وخروا، وسجدوا، وفتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا ذهباً ولباناً ومراً!!.. نداء الدعوة لم تضح الدعوة لموسى ظناً أو خيالاً أو حدساً أو تخميناً، بل أضحت رؤية مؤكدة، ونداء واضحاً، ومن العجيب أن موسى لم يتقبلها بحماس ابن الأربعين من العمر، بل على العكس تهرب وتراجع إلى الدرجة التي أغضبت الله عليه، لقد أدرك بما ليس فيه لبس كيف أن الله سيسنده بالمعجزات، تلو المعجزات، بل وأكثر من ذلك سيسنده بأخيه هرون الذي ينتظره بشوق بالغ، وفرح عميق، وما أجمل ما يقول ف.ب. ماير بهذا الصدد: "إن الله يعرف أين إخوتنا من "الهوارنة" أشقاء النفس الذين نحتاج إليهم لإتمام رسالة الحياة، قد يكونون بعيدين عنا، ولكن الله سيحضرهم إلينا، سيحضرنا إليهم، فلنعش معتمدين على عنايته ومحبته، وهو سيرتب لنا في نهاية كيف نلتقي وإياهم على جبل الله" في بعض البقاع المقدسة، حيث الشركة والألفة والثقة، في المكان الذي يختاره هو لنا، وسينسينا العناق والفرح وقبلة اللقاء أربعين عام المنفى والعزلة والحزن". وإذ نحاول أن نعرف تماماً مركزنا من هذا النداء،.. إنه يتمثل في شيء صغير واحد،.. في عصا موسى،.. لقد تحولت هذه العصا من عصا موسى إلى عصا الله،.. أو في لغة أخرى إن موسى أضحى هو بذاته عصى في يد الله، والعصا في حد ذاتها لا تصنع شيئاً، ولكنها في يد الله تصنع كل شيء أو تصنع المعجزات.. إن الله هو "أهيه الذي أهيه" أو الكائن الذي كائن، أو بمعنى آخر غير المتغير في طبيعته وذاته، هو هو في الماضي كما في الحاضر والمستقبل، لا يناله ضعف أو نقص أو تحول أو قصور، الذي ليس عنده تغيير أو ظل دوران،.. والله الكائن يحتاج مع ذلك إلى "عصا" إلى رجل يستخدمه استخداماً كالعصا، وهو دائماً في متناول يده، وهذه هي سياسته الدائمة في كل أعماله في الأرض!!.. إنه يبحث عن إنسان ليدعوه ويرسله ويعمل به.. أجل نحن على استعداد أن نقول إن موسى لا يستطيع أن يعمل شيئاً من دون الله.. على أنه من الحق، وبكل إجلال وتوقير لله.. إن الله لا يمكن أن يعمل شيئاً من دون موسى!!.. من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟!! هذا هو نداؤه الدائم البحث عن الرجل في كل العصور والأجيال!!. هل ملت للمنظر العظيم؟!! هل رأيت العليقة المتوقدة التي لا تحترق؟!! هل أدركت الرسالة المطلوبة منك في مصر؟ إنها لم تعد رسالة موت لموت بقدر ما هي رسالة حياة لحياة!!.. يا ترى.. هل تقف على مفترق الطرق، لتنتهي إلى القرار الذي لا يمكن أن تندم عليه، والذي يؤهلك للوقوف على الشاطيء الأبدي، لتشترك في أعظم ترنيمة يرنمها الخالدون في العهد القديم أو الجديد على حد سواء؟ وأعني بها الترنيمة العظيمة الخالدة ترنيمة موسى والحمل!!
المزيد
19 أغسطس 2022

حول التجلي الإلهي

صعد ربنا يسوع المسيح إلى جبل ثابور برفقة ثلاثة من تلاميذه وإذا به يصير مشعاً بكليته أمامهم، ورأوا برفقته موسى وإيليا يتحدثان إليه. ثم سمعوا صوتاً من السحابة يقول: “هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت”.لقد وقع البعض في فخ تفسير التجلي تفسيراً سطحياً، وقالوا إنه مجرد نور حسِّي، كما فعل بعض الهراطقة، ولكن القديس بالاماس دحض مزاعمهم واستفاض في الرد عليهم في ثلاثياته المشهورة. ومما كتب القديس“… أن هذا النور… يسمو على سائر الكائنات فكيف نقدر أن نحتسب حسياً ما يسمو على سائر الكائنالت؟ أي كائن حسي ليس مخلوقاً؟ فكيف يكون ضياء الله مخلوقاً؟ فهذا النور ليس بحصر المعنى حسياً”[1]. يقع جبل ثابور في منطقة الجليل السفلي وعلوه حوالي 600 م. إن قلنا “الرب تجلى” لا نقصد بهذا أنه قد حصل أي تغيير للمسيح يسوع، فهو منذ البدء يلبس الألوهة، وقد ظهر للتلاميذ وللجميع كإنسان لابساً جسداً، بحسب ما تؤمن به الكنيسة أنه إله وإنسان معاً. إذن بالتجلي لم يحصل للرب أي تغيير، بل أنه كشف النقاب عن ألوهته المستترة تحت غطاء الجسد.يقول القديس يوحنا الدمشقي: “… اليوم تُرى أمور غير منظورة للعيون البشرية، جسد أرضي عاكساً تألقاً إلهياً، جسد مائت يدفق مجد الألوهة… تجلى أمامهم الذي هو على الدوام ممجد وساطع ببريق الألوهة، لأنه، إذ هو مولود من الآب من دون بداية، فهو يملك شعاع الألوهة الطبيعي الذي لا بدء له، وهو لم يكتسب في وقت لاحق الكيان ولا المجد…… إنه يتجلى إذن، فلا يأخذ ما لم يكن عليه، بل يظهر ما هو عليه لتلاميذه، فاتحاً أعينهم، وجاعلاً إياهم مبصرين بعد أن كانوا عمياناً…”[2] نلاحظ بدايةً في النص الإنجيلي أن الرب يسوع يطلق عبارة “ملكوت الله” على نور تجليه: “…إن بعضاً من الموجودين هنا لن يذوقوا الموت حتى يروا ابن البشر آتياً في ملكوته” (متى 16: 28، ولوقا 9: 27) لهذا ربط الآباء التجلي بالحياة الأبدية.قبل السقوط، كان آدم، الإنسان الأول، يتأمل في المجد الإلهي، ولكنه تحوَّل عن الجمال الأول وصار اهتمامه منصباً على كل ما هو أرضي. أما بالتجلي فقد أعاد الله للإنسان هذه الخاصيّة، هذه الرفعة، وسمح لبشر مائتين بأن يعاينوا مجده وجماله. بالتجلي شعّ يسوع بمحبته للبشر، و”دعانا من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بط 2: 9)، هو الشمس التي لا تغيب. وقد قال الكتاب: “النور يظهر للصديقين والفرح لمستقيمي القلوب” (مز 66: 11) وأيضاً يترنم داود قائلاً للرب: “ثابور وحرمون باسمك يتهللان” (138: 13) متنبأً عن الفرح الذي يحل على الجبل بالتجلي. الله يحوّل الذين ينيرهم إلى شموس أخرى لأن متى يقول أيضاً “الأبرار يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم” (متى 13: 43). ما هذا النور الساطع؟ لمَ تشبهونه بالشمس وهو صانعها و”المتسربل بالنور كالثوب”، و”كوكب الصبح”، وهو “النور المولود من النور”؟ هل يمكن تشبيه الله الفائق المجد؟ الذي لا يُقارن؟ هل أراد أن يريهم “المجد الذي كان له “من قبل إنشاء العالم”؟. وابتغى أن يريهم الإله، ابن الله، المتخفّي وراء الجسد البشري والمتجسد لأجل خلاص البشر؟ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “لقد أراهم مجده”. ولكن، لماذا كتم الإله الذي قبل كل الدهور، ملك الملوك ورب الأرباب، عظمتَه ومجده كل الفترة التي أمضاها مع تلاميذه ولم يظهرهما إلا بهذه الطريقة؟ هل وجد أنهم كانوا، حتى تلك الساعة، عاجزين عن فهم ألوهته؟ يقول القديس افرام السرياني إنه بهذا “أراهم كيف ينبغي أن يأتي في ذلك اليوم الأخير بمجد لاهوته وبجسد ناسوته، وكيف سيتمجدون هم أيضاً”[3]. لم يكن هذا التجلي من أجله، بل من أجل تلاميذه (من أجل الكنيسة كلها). بسبب تواضعه أظهر لهم ألوهته ليروا مجده حتى لا يقعوا في الشك حين يرونه متألماً بالجسد ومائتاً على الصليب، عارياً مرذولاً. “عرفوه ابناً لمريم وأظهر لهم على الجبل أنه ابن الله. شاهدوه يأكل ويشرب، يتعب ويستريح، ينعس وينام، يخاف ويعرق، الأمر الذي لا يتناسب مع ألوهيته”[4]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “صعد إلى الجبل وتجلّى أمامهم، ولمع وجهه كالنور وصارت ثيابه بيضاء كالثلج. لقد شقّ جزئياً باب الألوهة وأراهم الإله الذي يسكن فيه وتجلى أمامهم… لماذا قال الإنجيلي: “أكثر من الشمس” لأنه ليس من كوكب أكثر ضياءً منها. ولماذا قال: “أكثر بياضاً من الثلج”، لأنه ليس من مادة أكثر بياضاً، ولكنه لم يشعّ هكذا، إذ “وقع التلاميذ أرضاً”. فلو كان يشع كالشمس لما وقع التلاميذ أرضاً، إذ كانوا يرون الشمس كل يوم ولا يقعون أرضاً، بل لأنه شعّ أكثر من الشمس وأكثر من الثلج، فلهذا، ولكونهم ما استطاعوا احتمال بهائه، وقعوا أرضاً…”والحقيقة أنه، إذ أشفق على تلاميذه، نزل إلى ضعفهم، أراهم من ألوهته فقط بقدر ما يستطيعون احتماله، “بحسب ما استطاعوا”، تقول الكنيسة في قنداق العيد. فماذا كان حدث لو أنه أراهم مجده الحقيقي؟ أما كانت الدنيا فنيت، لأنه “ينظر إلى الأرض فيجعلها ترتعد ويمسّ الجبال فتدخّن”؟ لو أنه أبدى جوهره، أما كانت الشمس انطفأت والقمر اضمحلّ والأرض فنيت؟ لهذا غلف نفسه بجسد وأتى بعذوبة ودون صخب.إلا أن بطرس، وقد استنار فكره بهذه الرؤيا المغبوطة جداً… لم يعد يريد أن ينفصل عن هذا النور، فقال للرب: “حسن أن نكون هنا….” (لو 9: 33). في الحقيقة لم تكن ساعة التجديد قد حلت بعد: ولكن حين تحلّ فإننا لن نعود بحاجة إلى مظال صنع أيدي الناس. وأكثر من ذلك فإنه ما كان يجب مساواة العبدَين بالسيد، بصنع ثلاث مظال متشابهة، فإن المسيح، كابن حقيقي، هو في حضن الآب (يو 1: 18)، بينما النبيّان، كخادمَين حقيقيَّين لإبراهيم، سوف يسكنان في أحضان إبراهيم. وإذ كان بطرس لا يفقه ما يقول، اقتربت غمامة مضيئة وظللتهم بظلها، قاطعةً حديث بطرس ومظهرةً أية مظلة هي التي تليق بالمسيح. (القديس غريغوريوس بالاماس). (الموعظة الثانية للقديس عن التجلي)[5] ولكن ما هي هذه الغمامة؟ وكيف تظللهم بظلها وهي مضيئة؟ يتساءل القديس غريغوريوس بالاماس: أليست هي النور الذي لا يدنى منه الذي يسكن فيه الله (1 تيم 6: 16) والذي “يلبسه كالثوب” (مز 53: 2-3) لأنه “جعل السماء مركبة له” (مز 53: 2-3) و”جعل الظلمة خباءً له” (مز 17: 12). غير أن الرسول بولس يقول إن الله هو “الوحيد الذي يملك الخلود… الساكن النور الذي لا يدنى منه” (1 تيم 6: 16)، أي إن النور والظلمات هي حقيقة واحدة، وإن كانت الغمامة تظللهم بظلها فبسبب سموّ شعاعها. إلا أن اللاهوتيين يؤكدون أيضاً أن هذا النور – الذي رآه الرسل فيما مضى – لا يدنى منه… كما يؤكد ديونيسيوس العظيم أن النور الذي لا يدنى منه الذي يقال إن فيه يسكن الله هو ظلمة ويضيف: “فيه يولد كل من هو أهل لأن يعرف ويتأمل الله”.(ديونيسيوس الأريوباغي، الرسالة الخامسة) (من الموعظة الثانية للقديس عن التجلي)[6] لقد برهن لنا الرسل أنه يتعذر على أي طبيعة مخلوقة حتى التحديق بالمجد الإلهي، لأنهم ما استطاعوا تحمّل هذه الرؤية الظاهرة لهم على الجبل، بل وقعوا أرضاً، وما كانوا قد رأوا سوى جزء بسيط من المجد الإلهي.يقول الدمشقي: “المجد لم يأتِ على الجسد من خارج بل من الداخل، من ألوهية كلمة الله الفائقة الألوهية والمتحدة بالجسد بحسب الأقنوم على نحو يتعذر وصفه”[7]. وقال فم الذهب إن النور كان على وجه موسى عابراً، مستشهداً بقول الرسول بولس في (2 كور 3: 7).الآب والكلمة والروح القدس يملكون هذا النور بالطبيعة أما الآخرون فيشتركون في النور بالنعمة. وهذا ما نراه في موسى وإيليا. ليست أول مرة يشترك موسى بالنور على جبل ثابور، بل في الماضي أيضاً حين رآه بنو إسرائيل مضيء الوجه ولم يتمكنوا من التحديق فيه (خر 34: 29) هذا ما يبرهنه أحد الآباء الذي يقول: “موسى تلقى على وجه مائت مجدَ الله غيرَ المائت”.“هذا المجد وهذا البهاء سوف يراهما الجميع حين يظهر الرب مشعاً من الشرق إلى الغرب. اليوم رآه الذين صعدوا مع يسوع، إلا أن أحداً لم يرَ جوهر الله ولا طبيعته. وهذا النور الإلهي قد أُعطي بمقياس، ومقسَّماً بدون تجزئة بحسب استحقاق الذين يتلقونه. والبرهان هو أن وجه يسوع يشع أكثر من الشمس وأصبحت ثيابه بيضاء كالثلج. ثم ظهر موسى وإيليا في المجد نفسه إلا أن أحداً منهما لم يشعّ بالقوة نفسها، كالشمس. أما التلاميذ فقد رآوا هذا النور لكنهم لم يتمكنوا من التحديق فيه. بالنتيجة فإن هذا النور يُعطى بمقياس وتجزئة ولكن من دون تقسيم. إنه يجعل الآخرين يعرفونه جزئياً الآن وجزئياً فيما بعد. لهذا يقول الرسول بولس الإلهي: “الآن نعرف جزئياً ونتنبأ جزئياً” (1 كور 13: 9). طبيعة الله لا تتجزأ على الإطلاق ولا هي قابلة للفهم على الإطلاق. ونحن، إذ ندير ظهرنا لهراطقة الأمس واليوم، نؤمن بأن القديسين يرون ويتلقون بالمشاركة ملكوت الله ومجده وبهاءه ونوره الذي لا يدنى منه ونعمته، ولكن لا جوهره…” (القديس غريغوريوس بالاماس ـ الموعظة الثانية)[8] كما ينقل القديس بالاماس، في ثلاثياته، عن القديس مكسيموس قوله إن “التلاميذ انتقلوا من الجسد إلى الروح القدس حتى قبل انتقالهم من هذه الحياة، وذلك من جراء تغيير قد طرأ على عمل حواسّهم أحدثه فيهم الروح القدس”[9]. لمَ سقط الرسل أرضاً؟ ولكن حين تلتمع السحابة المضيئة ويدوي صوت الآب من السحابة يختفي النبيّان ويسقط الرسل أرضاً ويبقى الرب يسوع وحده: حتى يعرف الرسل أن المقصود بابن الله هو وحده وعليهم أن يسمعوا له.“وقع التلاميذ أرضاً ووجوههم نحو الأرض” (متى 17: 6)، ولم يكن ذلك بسبب الصوت، فقد سمعوه مرات كثيرة في مناسبات أخرى: على الأردن، ولكن أيضاً في أورشليم عند اقتراب الآلام الخلاصية، فقد قال يسوع: “يا أبتِ مجِّد اسمك” فجاءه صوت من السماء يقول: “قد مجَّدتُ وسأمجِّد أيضاً” (يو 12: 28) وسمعه الجمع كله ولكن أحداً منهم لم يقع أرضاً. ولكن هنا لم يُسمع الصوت فقط، بل كان هناك أيضاً نور لا يُحتمل يلتمع في الوقت نفسه مع الصوت الذي يدوي. هكذا اعتبر الآباء الحاملو الإله بحصافة أن الرسل سقطوا على وجوههم ليس بسبب الصوت بل إشعاع النور الفائق الطبيعة “خوفاً” كما يقول مرقس (يو 9: 6) بسبب هذا الظهور الإلهي بالتأكيد. (القديس غريغوريوس بالاماس ـ الموعظة الثانية)[10] ماذا يفعل هنا موسى وايليا؟ ظهر لهما موسى وإيليا لأنهما يعتبران قطبين مهمَّين في العهد القديم، ولكنهما وهما يقفان الآن كخادمَين أمام سيد الكل ورب الأرباب.لقد أُحضر موسى من الجحيم (كل القديسين من العهد القديم كانوا في الجحيم، بحسب القديس أبيفانيوس في عظته الشهيرة في نزول المسيح إلى الجحيم) للدلالة على أنه إله الأحياء والأموات.يقول القديس يوحنا الدمشقي: “اليوم موسى يخدم كعبدٍ المسيح… وهذا ما يعنيه برأيي ظهرُ الله (خر 33: 23)، ويعاين بجلاء مجد الألوهة مخبوءاً في فجوة الصخرة كما يقول الكتاب. ولكن الصخرة إنما هي المسيح الإله المتجسد كما علّمنا بولس: “هذه الصخرة كانت المسيح” (1 كور 10: 4)”[11]. لقد كانا يتباحثان مع يسوع بخصوص آلامه وصلبه وقيامته، بخصوص “العمل الذي أعطاه إياه الآب” (يو 17: 4)، أي مجيئه إلى هذا العالم من أجل إتمام خلاص البشر. يسوع أتى وتجسد وليس في فكره غير الجلجلة، أي خلاصنا. يسوع ممتلئ بالمجد على ثابور وفكره في الجلجلة. وكذا كل من ودّ أن يتجلى فعليه أن يمر بالجلجلة. الذي به سررتُ يقول القديس نيقوديموس الآثوسي: “الذي به سررت” تعني بحسب القديس بالاماس، حسب مشيئة الله السابقة في سر تدبير ابنه بالجسد”[12]. لماذا غلب عليهم النوم؟ أليس هذا مفاجئاً؟ أن يناموا فجأة هكذا، على الجبل فيما هم يشهدون أموراً فائقة الوصف؟ يقول القديس اندراوس الكريتي: “… فهم، إذ عجزوا عن احتمال شعاع هذه البشرة التي لا عيب فيها، الذي انبجس كما من نبع، من ألوهة الكلمة، بطريقة فائقة الطبيعة من خلال البشرة التي اتحد بها بحسب الأقنوم، سقطوا على وجوههم، يا للمعجزة! في خروج كامل جداً خارج من الطبيعة، مأخوذين بنوم ثقيل وفزع، مغلقين حواسهم، موقفين تماماً كل حركة فكرية وكل فهم، هكذا كانوا سوية مع الله، في عمق هذه الظلمات الإلهية الفائقة النور وغير المنظورة…”[13] صوت الآب رفعهم يقول القديس افرام السرياني إن “صوت الآب أسقطهم وأما صوت الابن فقد رفعهم بالقدرة الإلهية لأجل تلك الألوهة الحالّة في جسده والمتحدة به بلا تغيّر”[14]. ماذا يعلّمنا التجلي؟ يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي: “… أنا أشعر بأنه سوف يأتي بالجسد كما ظهر للتلاميذ على الجبل حيث استعلن، والألوهة تنتصر على الجسد الشقي[15].. ويوافقه ذيونيسيوس الأريوباغي الذي يؤكد: “سوف يظهر الرب لخدامه الكاملين (في ذلك اليوم) كما رآه الرسل تماماً على جبل ثابور”. لنتأمل بعيوننا الداخلية هذا المشهد العظيم: طبيعتنا تستقر أبدياً مع نار الألوهة اللاهيولية، ولنترك هنا أقمصتنا الجلدية التي نلبسها منذ معصية آدم وسقوطه، ولنقف في أرض مقدسة مظهرين كل واحد منا بأن أرضه مقدسة بفضيلته وشوقه إلى الله، وبثقة من يقف في نور الله لنهرع كي نستنير من بهائه ونعيش إلى الأبد مستضيئين في مجد البهاء المثلث الشموس والواحد في آن، الآن وإلى دهر الدهور، آمين.
المزيد
18 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس ملاخى

ملاخى " ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء فى أجنحتها "" ملا 4: 2 " مقدمة لعل من أطرف ما يقال أن بقالا أخذ يكيل المدح لأحد الرعاة، وكان هذا الراعى قد نصب حديثاً على كنيسة فى المدينة التى يعيش فيها البقال، وإذ سئل البقال عما إذا كان قد سمع الراعى وهو يعظ!!؟ فأجاب، كلا.. ولكنه منذ أن وفد على المدينة وجميع الزبائن الذين ينتمون إلى هذه الكنيسة يدفعون فواتيرهم … أو فى لغة أخرى أن البقال رأى حياة الأعضاء فى تصرفاتهم وأسلوبهم الجديد فى الحياة!!.. وقد لخص احدهم خدمة ملاخى كتب نبوته فى عام 432 ق. م. فى ذلك الوقت الذى عاد فيه نحميا حين استدعاه الملك أرتحشستا حيث يقول فى سفره: « وفى كل هذا لم أكن فى أورشليم لأنى فى السنة الاثنتين والثلاثين لأرتحشستا ملك بابل دخلت إلى الملك وبعد أيام استأذنت من الملك وأتيت إلى أورشليم وفهمت الشر الذى عمله ألياشيب لأجل طوبيا بعمله له مخدعاً فى ديار بيت الرب » " نح 13: 6 و7 " وكان الارتداد رهيباً فى فترة غياب نحميا، وظهر ملاخى لالينادى بعودة نحميا فجأة ليواجه الفساد والشر الذى عاد إليه الشعب بصورة رهيبة، بل من هو أعظم من نحميا، شمس البر الذى يشرق والشفاء فى أجنحته، … إن آخر كلمة فى العهد القديم كانت كلمة « بلعنٍ » … وأول كلمة فى العهد الجديد تواجه هذه اللعنة: « كتاب ميلاد يسوع المسيح » … والمسيح وحده وفيه تتحول اللعنة إلى بركة ويدخل الأمل الضائع فى العهد القديم، فى الرجاء الأبدى فى العهد الجديد، … ولهذا يحسن أن نرى ملاخى من النواحى التالية: ملاخى ومن هو!!؟ يعد ملاخى النبى الثانى عشر من الأنبياء الصغار، وآخر أنبياء العهد القديم - والكلمة - « ملاخى » تعنى « ملاكى » أو « رسولى ». ونحن لانكاد نعرف عن هذا النبى شيئاً خلا اسمه وسفره، وقد ظن البعض أن اسمه لا يشير إلى شخص بقدر ما يشير إلى رسالة، ومن قالوا إن الكلمة « ملاخى » ليست اسم علم بل هى صفة لنبى أو رسول، ولذا قالوا إن عزرا الكاتب هو صاحب سفر ملاخى، غير أن هذا الرأى مردود لاختلاف أسلوب السفر عن سفر عزرا، ومن العجيب أن أوريجانوس كان يعتقد أن كاتب السفر ملاك من السماء!!... غير أن معظم الشراح ودارسى الكتاب يعتقدون أن ملاخى اسم علم لشخص حقيقى، عاش معاصراً لنحميا وتنبأ فى الشطر الأخير من حياة هذا الحاكم العظيم، ووهناك تقليد يقول إنه كان عضواً هو وزكريا فى مجمع اليهود العظيم، وأنه ولد فى بلدة صوفا من سبط زبولون، وأنه مات ولما يزل فى عنفوان شبابه. وقد تنبأ هذا النبى بعد الرجوع من السبى وبناء الهيكل، ومع أن أسلوبه ربما لا يرقى إلى أسلوب أنبياء ما قبل السبى، لكنه قد يتفوق فى الصراحة والقوة وجمال التشبيه وبراعة الحوار، ومن الغريب أنه كان معاصراً سقراط، ودعاه بعضهم «سقراط العبرانى »، إذ كان كالفيلسوف اليونانى العظيم فى طريق العرض والاعتراض والنقاش واستخلاص النتيجة.وفى الواقع إن ملاخى تأثر فى أسلوبه وتفكيره بالأحداث العظيمة التى كانت تجرى فى العالم فى أيامه، الأحداث التى كان لها ولا شك أكبر الأثر فى أمته وشعبه رسالته... ففى النصف الأول من القرن الخامس قبل الميلاد كانت الإمبراطورية الفارسية تجتاز مرحلة حاسمة فى تاريخها، فلقد بسط داريوس سلطانه على مصر، وإن كان قد انهزم أمام اليونان فى موقعة الماراثون. وفى عام 485 اعتلى ابنه زركسيس « أحشويرش » حفيد كورش، وأراد أن يثأر لمعركة الماراثون، وجهز أكبر جيش عرف فى التاريخ القديم، ولكنه خسر معركة سلاميس عام 480 ق... كما أن معركة بلاتيه أجهزت على سلطان الفرس الأخير فى أوربا، وفتحت الباب أمام ظهور اليونان كالدولة التى تحل محلها. وفى غمرة هذا الصراع بين الشرق والغرب، سرت فى العالم كله موجة من القلق والفوضى والمادية التى استولت على الشعوب، بما فيها الشعب الإسرائيلى الراجع من السبى، وفى الواقع أن الشعب قد عاد من السبى، وهو يظن أن كل شئ سيتغير إلى الأفضل، ولما لم يحدث هذا التغير سريعاً، انقلب الشعب إلى النقيض وارتد، وفقد كل حماس وغيرة وروحانية، فقل عنده الاعتبار الدينى، وضعفت روح العبادة، وانطوت نفوس الكهنة على إهمال واحتقار خدمة الهيكل، وانحطت حياة الشعب إلى الدرك الأسفل، ووقف ملاخى أمام أمة كانت فى طريقها إلى النقاهة، ولكن مضاعفات المرض ونكسته قاداها إلى ما هو أسوأ وأقسى وأشر!!.. ملاخى والحوار بين اللّه وشعبه قامت نبوة ملاخى على الحوار بين اللّه وشعبه، فإذا كان سقراط فى أثينا يجمع الناس حوله ويناقشهم فى فلسفة الحياة، وكيف يمكن أن يعيش الإنسان فى عالم ضرب فيه الفساد فى أثينا وأورشليم إلى آخر الحدود، حتى أنهم حكموا على سقوط أن يشرب كأساً من السم، ولفظوا الرجل الذى كان أحكم إنسان فى وسطهم،... لكن أورشليم كانت تواجه حواراً أعظم ليس بين إنسان وإنسان، بل بين اللّه والإنسان، ولم يكن وحى ملاخى إلا تسجيلا لهذا الحوار، والكلمة « وحى » فيها معنى الحمل أو العبء أو الثقل أو المسئولية، فالحديث هنا ليس حديث فكاهة أو تسلية أو سمر يقوم بين اثنين، بل هو فى الحقيقة الحديث الجدى العميق الباهظ الثقل لما فيه من أهمية ومسئولية، وسيكون وقعه رهيباً على من يرفض الالتزام أو يتنكب الطريق عنه،... وعلى وجه الخصوص هو رهيب من حيث الطرفين أو من حيث الموضوع، فأما طرفاه فهما: اللّه، والإنسان، أو بتعبير أدق هما: « اللّه » فى وضعه « كأب » و« كسيد »، والإنسان فى وضعه كإبن وعبد،... أما من حيث الموضوع فهو اسمى موضوع فى الوجود: « الحب »، واللّه من جانبه لا يمكن أن يتباعد عن هذا النوع من الحوار، إذ أن « اللّه محبة »، وهو بطبيعته ينتظر أن يقوم كل حوار بيننا وبينه على المحبة، سواء فى العهد القديم أو العهد الجديد،... وهل ننسى ذلك الحوار الذى حدث بين المسيح وتلميذه على بحر طبرية يوم قال المسيح لبطرس ثلاث مرات: « يا سمعان بن يونا أتحبنى أكثر من هؤلاء »... « يا سمعان بن يونا أتحبنى »... « يا سمعان بن يونا أتحبنى »... ورد بطرس مثلثا: « يارب أنت تعلم أنى أحبك » « يارب أنت تعلم أنى أحبك »... « يارب أنت تعلم كل شئ. أنت تعرف أنى أحبك » " يو 21: 15 - 17 "..، وليس عند اللّه بديل أو نظير للمحبة!!... أجل!! فهذا حق، ومن ثم رأينا أوغسطينوس يقول: « أحب وبعد ذلك أفعل ما تشاء »... ولعله ليست هناك مأساة تعادل فقدان الإحساس بالمحبة، الأمر الذى قاله الشعب فى وجه اللّه بجرأة لا يحسد عليها: « بم أحببتنا ». " مل 1: 2 ". وفى الحقيقة لا يبقى للإنسان شئ فى الحياة بعد ذلك، يوم يعجز عن إدراك أن اللّه أحبه وما يزال يحبه!!... ومع ذلك فقد كان اللّه كريماً إذ دخل فى حوار المحبة!!..عاد اللّه بالشعب إلى التاريخ القديم، والتاريخ فى العادة - لمن يعود إليه - أعظم برهان عملى وواقعى على محبة اللّه الفائقة العظيمة، تاريخ الأمة أو البيت أو الفرد،... ويكفى أن يعود شعب اللّه إلى تاريخ يعقوب وعيسو، ومهما نحاول أن نبحث، فإننا لا نستطيع أن نصل إلى عمق الاختبار الإلهى، وقد تحدثنا فيما سبق عند التعرض لقصة عيسو ويعقوب، عن هذه الحقيقة العجيبة،... والأمل أن يرجع من يرغب فى المزيد من التأمل إلى الشخصيتين اللتين درسناهما فيما سبق بين شخصيات الكتاب،... ولكننا نلاحظ أن الحب الإلهى تأسس أولا على عدم الاستحقاق، إذ أن النعمة وحدها هى التى يستطيع يعقوب أن يرد الأمر إليها فى قصة اختياره دون أخيه، أولا لأن هذا الاختيار حدث قبل أن يفعلا خيراً أو شراً، فهو اختيار أسبق من كل عمل أو تصرف، فإذا قسناه بحسب المنصرف الذى جاء فيما بعد، فإن تصرف يعقوب فى غشه وخداعه وأنانيته وخبثه، كان فى كثير من الأوضاع أبعد من كل تصرف وصل إليه عيسو الذى هو آدوم.وكان الحب الإلهى أكثر من ذلك - منحازاً، إذ أخذ من عيسو ما يبدو أنه حقه باعتباره البكر، ليعطى ليعقوب،... ولم يتعلق الأمر بالاختيار فحسب، بل بالضمان والحراسة والبركة،... ومن المؤكد أن هناك أشياء كثيرة فى عيسو كان يمقتها اللّه ويكرهها، لأنه مهما يبدو فى الظاهر من فضائل فيه، قد لا يصل إليها يعقوب، إلا أنه كان يملك رذيلة الرذائل ومستنقع الأوحال، إذ كان هو الشخص الذى يمكن أن يطلق عليه القول « بلا إله » وهو على أية حال حيوان حتى ولو بدا كالزرافة أو الحمار الوحشى أو أى حيوان جميل الشكل،... ولكنه فى أية صورة هو حيوان، ولا يمكن أن يقارن بالإنسان!!... وكان يعقوب، على العكس، إنساناً به النقائص التى ظل اللّه يعمل على إخراجها منه، وتنقيته منها حتى، أضحى إسرائيل الذى جاهد مع اللّه والناس وغلب..هذه المحبة الإلهية، كانت أكثر من ذلك، المحبة التى باركت يعقوب وأخربت عيسو، أو فى لغة أخرى كانت المعطية للواحد والمقاومة للآخر، فهى تعطى ليعقوب إلى الدرجة التى يقول معها: « صغير أنا عن جميع ألطافك وجميع الأمانة التى صنعت إلى عبدك. فإنى بعصاى عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جيشين » " تك 32: 10 "... على العكس من عيسو الذى يقول عنه ملاخى: « وأبغضت عيسو وجعلت جباله خراباً وميراثه لذئاب البرية. لأن أدوم قال قد هدمنا فنعود ونبنى الخرب، هكذا قال رب الجنود هم يبنون وأنا أهدم ويدعونهم تخوم الشر والشعب الذى غضب الرب عليه إلى الأبد »... " مل 1: 3 و4 " وشتان بين إنسان يجد المعونة والقوة من اللّه، وآخر يجد الهدم، والتدمير منه كلما فكر فى النهوض للتعمير والبناء،... واللّه فى هذا كله، لابد أن يلتقى حبه بعدالته، إذ أن الهدم الذى يلحق آدوم إلى الأبد، مرتبط بإصراره على أن يكون تخوم الشر. ومن هنا نعلم أن الغضب الإلهى له أسباب ومقوماته!! إنتظر اللّه من شعبه حباً بحب، وشركة بشركة،.. ولكن الشعب لم يرد على اللّه صدى هذه المحبة العظيمة، وخاب انتظار اللّه فيه،... وإذا كان للمرء أن يسأل: وماذا ينتظر اللّه جواباً على حبه؟ إنه ينتظر ما ينتظره كل أب من ابنه، وهل أقل من أن يفعل ما فعله هنرى هفلوك وهو صبى صغير، إذ أطاع أباه، ورفض أن يتزحزح من مكانه فى شوارع لندن المزدحمة ساعات طويلة حتى جاء الليل، وعاد الأب إلى بيته وكان قد نسى ابنه، فى زحام عمله، ولم يتذكر ذلك إلا بعد عودته، فأسرع إلى المكان ليجد ابنه هناك فى انتظار أبيه!!.. « أن أفعل مشيئتك يا إلهى سررت وشريعتك فى وسط أحشائى » "مز 40: 8 " « لأجل ذلك حسبت كل وصاياك فى كل شئ مستقيمة كل طريق كذب أبغضت ».. " مز 119: 128 " وليس الأمر مجرد الطاعة، بل « نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولا،.. "1 يو 4: 19 " إننا من هامة الرأس إلى إخمص القدم مدينون له كخالق، وكمعتن، وكفار وهو يستحق كل حب وولاء، أن يكون هو صاحب المركز الأول والأخير فى قلوبنا وحياتنا!!.. ومن حقه علينا أن نغار لمجده وكرامته، وإذا كان الابن لا يقبل قط أن يهان أبوه الأرضى أمام عينيه بأية صورة من الصور، فكم بالأولى الآب السماوى المستحق كل إكرام وإجلال ومجد، ولسنا نصنع فضلا إذ نجند أنفسنا لخدمته، بل هذه هى رسالتنا الوحيدة فى الأرض أو السماء!!!.. ملاخى والكهنة فى أيامه وليست هناك صورة أسوأ من صورة الكهنة فى أيام ملاخى، وحتى يمكن أن نفهم الصورة على وضعها الصحيح، كشف لنا اللّه عن رسالة الكاهن العظيمة: « كان عهدى معه للحياة والسلام وأعطيته إياهما للتقوى فاتقانى ومن اسمى ارتاع هو. شريعة الحق كانت فيه واثم لم يوجد فى شفتيه. سلك معى فى السلام والاستقامة وأرجع كثيرين عن الإثم. لأن شفتى الكاهن تحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود » " مل 2: 5 - 7 " وأية صورة أجمل وأروع من هذه الصورة لخادم اللّه، إذ أنه: أولا: الخادم المدعو من اللّه الذى دخل فى ميثاق مع اللّه: « فينحاس ابن العازار بن هرون الكاهن قد رد سخطى عن بنى إسرائيل يكون غار غيرتى فى وسطهم حتى لم أفن بنى إسرائيل بغيرتى. لذلك قل هأنذا أعطيه ميثاقى ميثاق السلام فيكون له ولنسله من بعده ميثاق كهنوت أبدى لأجل أنه غار للّه وكفر عن بنى « إسرائيل »... " عد 25: 11 - 13 " وما أجمل أن يحس الكاهن أو خادم اللّه أنه إذ يدخل الخدمة مدعواً من اللّه، إنما يدخلها بميثاق وعهد أبدى مع القدير،..ومن ثم تأخذ الخدمة. ثانياً: أعلى مكانة فى ذهنه، إذ هى خدمة اللّه العلى الجدير بكل إجلال واحترام: « ومن اسمى ارتاع.. ثالثا: الخدمة، ينبغى أن تحاط بالمهابة والجلال والاحترام والقدسية.. إذ هى للّه العظيم القدوس،.. ولذا من الواجب أن يكون الممسك بها هو الإنسان الصادق الأمين: « سريعة الحق كانت فيه وإثم لم يجد فى شفتيه » ورجل اللّه لا ينبغى أن تكون هناك شبهة فى صدقه وأمانته وحقه. والخدمة رابعاً: لا يجوز أن يقوم بها إلا من كان سلوكه العملى واضحاً وثابتاً أمام الجميع، وهو مع اللّه فى سلام، ومع نفسه والناس فى استقامة: « سلك معى فى السلام والاستقامة ». وهو خامساً: الإنسان النافع: « وأرجع كثيرين عن الإثم »... إذ هذه هى رسالته العظيمة فى الحياة. وأخيراً هو الإنسان الواسع الإدراك والمعرفة، الذى يطلبه الحائر والمتعثر عندما تبهم أمامه الأمور وتستغلق: « لأن شفتى الكاهن تتحفظان معرفة ومن فمه يطلبون الشريعة لأنه رسول رب الجنود ». هذه هى الصورة الوضيئة للكاهن وخادم اللّه،... والتى كان الكهنة فى أيام ملاخى على عكسها تماماً،... ولعل أدق الأوصاف للكاهن فى ذلك الوقت أن: أولا: « الكاهن المحتقر الدنئ »... وما أكثر صور الدناءة التى كان عليها،... ولكن أقساها وأشدها، هو فى تعامله مع الذبيحة التى تقدم للّه إذ كانت تقدم له الذبيحة السليمة، فكان يستبدلها بالعمياء أو العرجاء أو السقيمة، ليحتفظ بفرق الثمن، وهو أشبه بذلك الرجل الذي جاءت قصته فى الأدب الروسى، الذى قيل إنه كان فلاحاً، ومرض ابنه للموت، فنذر للّه حصانه إن شفى الولد وكان الحصان فى ذلك الوقت يساوى عشرين جنيهاً، وشفى الابن، ولكن عز عليه أن يبيع الحصان ويقدم ثمنه كما نذر، وفكر ثم فكر، وأخيراً ذهب إلى السوق ومعه حصانه، وديك أيضاً، وقرر أن يبيع الاثنين معاً، وإذ سأله أحدهم عن الثمن قال: الحصان ثمنه عشرون قرشاً، وإذ هم الرجل أن يدفع الثمن، قال له: لا.. أنا أبيع الاثنين معاً،.. فسأله: وما ثمن الديك؟: قال: عشرون جنيهاً، واشترى المشترى الاثنين وعاد الرجل ليقدم ثمن الحصان كما باعه بمبلغ عشرين قرشاً، لأنه باعه فى السوق بهذا الثمن!!.. وكان الكاهن ثانياً: « الكاهن النفعى » الذى يقبل على الخدمة ويقدرها على قدر ما ينتفع منها، وهو لا ينظر إليها كعهد سام بينه وبين اللّه، بل على قدر ما تعطيه من مغنم أو مكسب مادى. وهو ثالثاً: « الخادم الملول » الذى يتأفف من الخدمة، وهى ثقيلة عليه، ويؤديها كرهاً،... وليس أقسى على النفس من أن نجد خادماً بهذه الصورة، فهو يخدم لأنه مضطر للخدمة، أما بسبب الحاجة أو التقليد، أو العيب أمام المجتمع إذا تخلى عنها، وهو يعظ بدون حياة أو روح أو ثقة فى صدق ما نقول!!.. وهى مأساة من أكبر المآسى التى يتردى فيها الخدام فى كل عصور التاريخ!!.. ملاخى وخطايا الشعب فإذا كان الكهنة بهذه الصورة، فكم يكون الشعب إذاً؟؟.. كانت خطايا الشعب حقاً قاسية وثقيلة، ولعل من أظهرها: أولا: تفشى الطلاق، والزواج بالأجنبيات، وهو الأمر الذى يكرهه اللّه من كل قلبه، ويرى فيه غدراً بالزوجة وغدراً بشخصه هو أيضاً!!.. أما الغدر بالزوجة، فواضح من أن الإنسان يطوح بامرأة شبابه التى ارتبط بها بعهد مقدس أمام اللّه،... واللّه يكره الغدر ويستأصل الغادر، ولكن الأمر هنا أكثر من ذلك، إذ أن الغدر هو أيضاً باللّه ذاته، الذى منع إسرائيل من الاختلاط بالشعوب ليحفظ الزرع المقدس، فلا يأتى أولاد ترتبط أمهاتهم بالوثنية التى - لا شك - ستلحق الأولاد إن آجلا أو عاجلاً: « غدر يهوذا وعمل الرجس فى إسرائيل وفى أورشليم. لأن يهوذا قد نجس قدس الرب الذى أحبه وتزوج بنت إله غريب »... " مل 2: 11 "ولا نظن أن هناك كلمات أقسى من هذه الكلمات فى كل الكتاب المقدس، حتى جاء يسوع المسيح ليقف ضد الطلاق ويرجع الوصية إلى مكانها الأول فى قصد اللّه!!.. وكانت الخطية الثانية عند الشعب: هى عدم المبالاة فى فعل الشر، إلى درجة أنهم تصوروا أن اللّه لا يزجر الشر بل يسر بمن يفعله!!.. وأنه لا يوجد إله عادل يفرق بين الخير والشر فى الأرض: « قد أتعبتم الرب بكلامكم، وقلتم بم أتعبناه؟ بقولكم كل من يفعل الشر فهو صالح فى عينى الرب وهو يسر بهم. أو أين إله العدل؟ »... " مل 2: 17 " وهذا كلام متعب حقاً لقلب اللّه،... ولكن من الحقيقى أيضاً أنه يتردد على اللسان مرات كثيرة عندما نرى الأوضاع مقلوبة فى الأرض،... وقد يأتى سؤال أين إله العدل على لسان الخاطئ الذى ينشد التوبة، ويجد جوابه فى الصليب الذى استوفى فيه اللّه عدله،!!.. زار أحد خدام اللّه من الشباب يوحنا نيوتن وهو فى ضجعة الموت، وكان نيوتن قبل مجيئه للمسيح تاجراً للعبيد، وغارقاً فى أوحال الإثم والخطية!!.. ولكنه عندما جاء للخدمة أصبح الخادم العظيم، والشاعر المسيحى،... وعندما تأسف الخادم الشاب، لأنه سيفارق خادماً عظيماً كهذا الخادم، قال له نيوتن: ياابنى: سأذهب أمامك فى الطريق، وبعد ذلك ستأتى أنت، وعندما تصل إلى السماء وتبحث عنى فإنك ستجدنى غالباً هناك عند قدمى المسيح مع اللص التائب حيث هناك مكانى.فالذين لا يصدقون عدالة اللّه لينظروا إلى الصليب،.. لأن ديان كل الأرض لابد أن يصنع عدلا!!.. وكانت الخطية الثالثة: سلب اللّه فى حقه فى العشور والتقدمة - ولعل ما قاله دكتور ج. كامبل فى هذا الصدد، يوضح لنا الفكرة: « إن طلب اللّه من شعبه يبدو محدداً وهو، أن يعطى العشور.. ومن واجبهم أن يطيعوه.. لكن لا ينبغى أن تخطئ فالشعب فى العادة يقول إن اللّه يطلب العشور. وهذا يغاير تماماً الوضع الحقيقى،.. اللّه طلب العشور - كحد أدنى - وهم فى إهمالهم لا يعطون العشور والتقدمة، فقد سلبوا اللّه بعدم الاستجابة إلى مطلبه وأنا أسأل: ما هو المطلب الإلهى بالنسبة للمسيحى والمسيحية!!؟.. إن اللّه لا يسألك العشور.. البعض يقدم العشور من دخله وقد يكون هذا صحيحاً، لكن إذا كانت هناك مظاهر الصحة من جانب، فإن هناك أيضاً مظاهر الشح من الجانب الآخر،.. بعض الناس لا يهتمون بتقديم العشور، ولهذا لا يقدمونها.. غير أنه يوجد أيضاً من يسلب اللّه لأنه لا يقدم سوى عشور دخله، واللّه لا يقبل العشور إذا كنت تقدمها بمعنى آلى دون شعور.. العشر حسن تماماً إذا كنت تقدمه للّه بكل إحساس... لكن ما أكثر الذين يقدمون وهم ينتظرون الوعد دون أن يحققوا الشروط: أن يفتح كوى السموات ويفيض عليهم بركة... واللّه إذ يقول هاتوا العشور. كأنما يقول: إن بيدك أنت أن تفتح كوى السموات!!.. ولا تتصور أنك مادمت تعيش بالناموس الروحى، فأنت لست مرتبطاً بعطايا مادية.. ويلزم أن نعطى العشور!!.. واللّه لا يطلب العشور منك فحسب لكنه يطلب كل شئ.. وهنا لا ينبغى أن ننسى أن العشور والتقدمة مصحوبان بوعد البركة التى لا توسع!!..وكانت خطايا الشعب اللاحقة لهذا الخطايا، « الحياة المستبيحة »، إذ كان بينهم السحرة والفاسقون، والحالفون زوراً والسالبون أجرة الأجير، الأرملة، واليتيم، ومن يصد الغريب. والسحر طبعاً يلجأ فيه المرؤ إلى طلب الأرواح الشريرة وغايته ليست إلا غاية فاسدة، وقد حاربه الكتاب لأنه يفسد ثقة الإنسان فى اللّه والتطلع إليه، والاعتماد عليه دون الاعتماد على الشيطان!!.. والفسق خطية شنيعة كما نعلم، تلوث جسد الإنسان ونفسه، والكذب مع الأصرار الذى يستند إلى الحلف، دليل على بشاعة الاستهتار والاستهانة باسم اللّه القدوس. والظلم الذي يقع على الأرملة واليتيم والغريب، هو إهانة للّه نفسه، كالسيد والحاكم الأدبى الأبدى بين الناس!!. ملاخى ونبوته عن السيد المسيح وملاخى - كآخر أنبياء العهد القديم - لا يجد حلا لقضية الإثم والفساد والشر والمرض الذى تسببه الخطية، سوى فى اللّه نفسه: « ها أنذا أرسل ملاكى فيهيئ الطريق أمامى ويأتى بغتة إلى هيكله السيد الذى تطلبونه وملاك العهد الذى تسرون به هوذا يأتى قال رب الجنود ».. " مل 3: 1 " ولا بد من الملاحظة هنا أن رب الجنود هو الذى يتكلم، وهو يتكلم عن شخصه المبارك: « فيهيئ الطريق أمامى، وهو السيد نفسه وملاك العهد الذى ننتظره ونسر به »... وقد أوضح السيد المسيح أن هذه النبوة تمت فيه، وأنه أرسل يوحنا المعمدان لتهيئة الطريق أمامه،... اعتقد البعض أن هذا الملاك أو الرسول كان نحميا عندما عاد إلى الهيكل بعد أن رجع إلى بلاده، وقام بثورة عارمة ضد الفساد الذى استشرى، لكن نحميا لم يكن إلا صورة ورمزاً إلى السابق الذى جاء ينادى بمجئ المسيح،... ومن الملاحظ أيضاً أنه فى هذه النبوة، كما يقول أغسطينوس يظهر المجيئان الأول والثانى ليسوع المسيح، فإذا كان مجيئه الأول يحمل معنى التطهير والإحراق للخطية والإثم، فإن مجيئه الثانى سيفصل بين الحق والباطل، والشر والخير، فصلا أبدياً!!.. وقد بين كيف يلجأ السيد إلى التطهير، إذ يعمد إلى النار والغسل، فهو بالنار يمحص وبالغسل يجمل وينظف كما يفعل القصار فى الثياب بالاشنان المنظفة المبيضة، وهو إذ يبدأ بالتطهير، يبدأ بخدامه مباشرة قبل الجميع!!.. وقد ذكر النبى أن إيليا سيأتى قبل مجئ يوم المسيح العظيم المخوف الذى يقضى فيه السيد على كل فساد وشر، واليهود ما يزالون إلى اليوم ينتظرون ظهور إيليا مرة ثانية، غير أن أغلب الشراح المسيحيين يتفقون على أن هذه النبوة إشارة إلى المعمدان الذى جاء بروح إيليا كما أشار السيد المسيح، غير أنه وجد من المفسرين من قال إن إيليا سيأتى مرة أخرى قبل يوم الدينونة ومجئ المسيح الثانى، وأنه إذا كانت النبوة قد تمت مبدئياً فى المعمدان، فإنها ستتم نهائياً وأخيراً بمجئ إيليا ذاته، وستكون رسالته رد قلوب الآباء إلى الأبناء والأبناء إلى الآباء. والبعض يعتقد أن معنى « على » هنا هو « مع » فيقولون إن الآباء مع الأبناء سيستجيبون لنداء النبى، ويوجد من يقول إن الآباء إشارة إلى الآباء الأقديمن، وإن الأبناء سيرجعون بقلوبهم إلى قلوب آبائهم وإيمانهم.وأيان يتجه تيار التفسير وهل هو عن المجئ الأول للمسيح بمفرده أو مجيئيه الأول والثانى، كما يذهب أوغسطينوس، وهل يوحنا المعمدان، هو رسول المسيح الذى جاء سابقاً له بروح إيليا،.. أم أن إيليا سيأتى مرة أخرى الأمر الذى لا نعتقده أو نرجحه.. إلا أن التفسير، مهما اختلف، فهو مركز فى شخص المسيح... وإذا كانت آخر كلمة فى العهد القديم هى كلمة « بلعن » كما سبقت الإشارة، فإن انتزاع الخطية من الأرض، والقضاء على اللعنة، والفصل بين الشر والخير إلى الأبد، لا يمكن أن تكون إلا فى إسمه المجيد العظيم المبارك، له المجد، هللويا إلى الأبد آمين فآمين فآمين!!..
المزيد
11 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس قايين

قايين "وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة" تك 4: 7 مقدمة إن مأساة قايين الكبرى أن كلمة "خطية" وردت لأول مرة في الكتاب المقدس في سياق الحديث عن قصته المفجعة الدامية!! وفي الواقع أن كلمة "خطية" وكلمة "قايين" كلمتان متقابلتان متلازمتان حتى ليسهل أن نضع أحدهما موضع الأخرى ونحن في أمن من الزلل والخطأ والتجني!! أليس قايين هو أول بشري يمكنه أن يقول: "ها أنذا بالإثم صورت وبالخطية حبلت بي أمي" بل أليس قايين هو الأحرى بالقول: "وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية.. فإني أعلم أنه ليس ساكن في (أي جسدي) شيء صالح لأن الإرادة حاضرة عندي وأما أن أفعل الحسنى فلست أجد.. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت".. ولئن كان داود وبولس قد وجدا من ينقذهما من جسد هذا الموت، ومن الخطية الموروثة والفعلية، فإن قايين لم يجد إلى الخلاص سبيلاً، لأنه رفضه، عندما عرض عليه، بغباوة وعناد وحماقة وشر!! في اجتماع ديني وقف ثلاثة: طبيب، ومحام، ومهندس، ليتحدث كل منهم، ويضع تعريفاً للخطية، مستمداً من طبيعة مهنته وعمله، فقال الطبيب "أن الخطية مرض" وقال المحامي: "إنها التعدي" وقال المهندس: "إنها الهدم والتدمير"، وقد كانت الخطية عند قايين هي الثلاثة معاً، إذ كانت المرض، والتعدي، والهدم والتدمير، بل وأكثر من ذلك، إذ لاحقته بأقسى جزاء يلحق بإنسان في هذه الأرض، ألا وهو العذاب والطرد والتشريد وعدم الاستقرار حيثما تجه وأني ساد.. وإذا كان العالم الإنجليزي هكسلي قد دحض نظرية التطور النفسي، ووصف الإنسان الخاطيء بالقول: "أعلم أن هناك دراسة انتهت إلى نتيجة محزنة للنفس كدراسة تطور الإنسانية، فمن وراء ظلام التاريخ إلى اليوم، بين الإنسان أنه خاضع لعنصر وضيع فيه، مسيطر عليه بقوة هائلة!! إنه وحش ولكنه وحش أذكى فقط من الوحوش الأخرى، إنه فريسة واهنة عمياء لدوافع تقوده إلى الخراب، وضحية لأوهام لا نهائية، جعلت كيانه العقلي هما وحملا، وأضنت جسده بالهموم والمتاعب والصراع، لقد بلغ شيئاً من الراحة، وانتهى إلى نظام عملي في الحياة على ضفاف النيل أو ما بين النهرين، ولكنه هو هو لآلاف السنين ما يزال يصارع بحظوظ مختلفة، مصغياً إلى دوافع لا نهائية من الشر والدم والبؤس ليشق طريقه بنفسه بين جشع الآخرين وطمعهم!! لقد قاتل واضطهد الذين حاولوا دفعه وتحريكه عما هو عليه، ولكنه لما تحرك خطوة عاد باكياً ضحاياه بانياً قبورهم".. إذا كان هذا العالم قد وصف الإنسان الخاطيء بهذه الصورة فإنه أعطانا، وهو لا يدري، صورة دقيقة رهيبة لأول قاتل وسافك دم على هذه الأرض!! دعونا إذاَ نتأمل للعظة والعبرة شخصية قايين من هو وما طباعه وأخلاقه؟؟ وما الخطايا المميتة التي ارتكبها؟؟ والعقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه؟؟ قايين من هو وما طباعه؟!! لا يحتاج المرء إلى عناء كبير، وهو يتأمل قصة قايين كما وردت في سفر التكوين. مضافاً إليها ثلاث عبارات أخرى قصيرة حاسمة وردت في العهد الجديد في الرسالة إلى العبرانيين، ورسالة يوحنا الأولى، ورسالة يهوذا –في أن الخطية صنعت من هذا الإنسان مخلوقاً بشعاً مريعاً يقف على رأس المجرمين العتاة في كل التاريخ، ولعل الرسول يوحنا لم يجد لهذا السبب، وصفاً يصف به قايين أدق من القول: "كان قايين من الشرير" أي أنه كان من الشيطان، كما أن الفرع جاء من الأصل، وكما أن الغصن جزء من الشجرة، وكما أن الماء العكر جزء من الينبوع الموحل!! فهو ابن الشيطان وتابعه وربيبه، ومن ثم فكل صفاته وطبائعه أثمة شريرة شيطانية، وإذا كان من المتعذر الإحاطة بها جميعاً، في هذا المقام، فليس أقل من أن نشير في كلمات إلى أهمها وأظهرها، ولعلها: الضراوة والوحشية.. يعتقد بعض الشراح أن قايين كان -من الناحية البدنية- أقوى وأصح من أخيه هابيل، ويرجع هذا في نظرهم لا لأنه استطاع أن يقضي على أخيه ويقتله فحسب، بل لأن حواء إذ لاحظت ضعف هابيل الجسدي، من مولده، إذا قورن بأخيه، أطلقت عليه الاسم هابيل، الذي يعني "الضعف" أو "البطل" بينما يرجح آخرون أن حواء أطلقت هذا الاسم على ابنها الثاني تعبيراً عن ألمها ويأسها ومرارتها وخيبة أملها من الحياة كلها، ومن ابنها قايين، الذي بدا على غير ما كانت تحلم وتتمنى؟ وسواء صح هذا الرأي أو ذاك، فمما لا شك فيه أن قايين يقف على رأس تلك السلسلة الطويلة من الأبناء الذين ولدوا حسب الجسد، بينما يقف هابيل على رأس الصف المقابل من أبناء الموعد والروح!! وكما كان أبناء الجسد يبدون على الدوام في عنف وضراوة ووحشية، وفي مواجهة أبناء الروح، كما بدا اسمعيل في مواجهة اسحق، وعيسو في مواجهة يعقوب، هكذا نرى من اللحظة الأولى في التاريخ البشري كيف يبدو قايين أولهم وأبوهم في ضراوته ووحشيته وعنفه إزاء أخيه الطيب الوادع الآمن هابيل!! الكبرياء والاعتداد بالذات.. وما من شك بأن قايين كان متكبراً، صلفاً، شديد الاعتداد بالنفس، والذات، ويبدو هذا بوضوح من الطريقة التي تخيرها، وهو يقدم تقدمته لله، إذ أنه لم يقدم التقدمة التي أمر بها الله، قدم التقدمة التي ظن هو أنها أفضل وأعظم بحسب تفكيره وعقله، بل أن سقوط وجهه بعد التقدمة يدل إلى حد كبير على أنه كان في الأصل ذا طبيعة متعالية شامخة!! والكبرياء من أشر الرذائل التي تصيب الإنسان، وهي دليل بالغ على الحماقة والغباوة والجهل!! إذ ليس في أي بشري ما يدعوه إلى التسامي والتعالي والتشامخ، إذ يكفي أن ندرك مركزنا إزاء الله والكون والأبدية والحياة والواجب حتى نتضع ونصغر ونتلاشى!! كان الذهبي الفم يقول: إن أساس فلسفتنا التواضع، وكان كلفن يقول: لو أنك سألتني عن النعمة الأولى والثانية والثالثة التي ينبغي أن نتحلى بها في الحياة المسيحية، لأجبتك أنها أولاً وثانياً وثالثاً، وإلى الأبد.. التواضع.. كان جورج واشنطون كرافر من العلماء المبرزين، وقد سأل الله ذات يوم قائلاً: يا رب ما هو الكون؟!! فأجابه الله: يا جورج إن الكون أوسع وأكبر من أن تدركه أنت!! ولعلك تطالبني فيما بعد بالاهتمام به؟!! وإذ أحس العالم المتواضع مركزه من الله والحقيقة سأل إلهه: يا رب ما هو الفول السوداني؟!! فأجابه الله: الآن تسأل سؤالاً يتناسب مع حجمك؟!! اذهب وسأعينك على فهمه!! وقضى جورج المتواضع بقية حياته يجري بمعونة الله تجاربه العديدة على هذا النبات حتى انتهى إلى نتائج مذهلة عجيبة!! الحسد.. والحسد هو الرذيلة النكراء التي تملكت قايين وأسقطت وجهه، عندما رفض الله تقدمته وقبل تقدمة أخيه، وهي الرذيلة الوحيدة التي يقول عنها الكسندر هوايت أنها تولد وتنمو وتثمر في الحال، إذ يكفي أن ترى غيرك يفضل عليك، حتى تشعر في التو واللحظة أن نيران الجحيم بأكملها قد استعرت فيك؟!! ومن القديسين من نجح في مكافحة كثير من الرذائل ولكنه سقط في رذيلة الحسد!! ولقد قيل إن الشياطين عجزت ذات مرة عن إسقاط أحد الرهبان!! مع أنهم جربوه بأنواع مختلفة من التجارب، وإذ اشتكوه إلى رئيسهم قال: دعوه لي، ثم ذهب إليه وقال له: هل علمت أن زميلك اختير أسقفاً على الإسكندرية، وكان هذا كافياً لإسقاطه!!.. ما أحوجنا جميعاً إلى روح وصلاة توماس شبرد مؤسس جامعة هارفورد، ذلك الرجل الذي جرب ذات مرة بأن يحسد زميلاً شاباً من الخدام، لأن مواعظه أخذت المكان الأول على صفحات الصحف، بينما أخذت مواعظه هو مكاناً منزوياً خفياً، وذات يوم ظهرت عظة للشاب قرأها الجميع، وكانت موضع الحديث والتقدير والإعجاب!! وما أن سمع شبرد الناس يتحدثون عنها حتى استعرت نيران ملتهبة في أعماق نفسه، فدخل إلى مكتبه، وهناك اجتاز في تلك الليلة جثسيماني، وفي منتصف الليل انبطح على وجهه في أرض الغرفة، وهو يصارع بعرق ودموع العاطفة البغيضة التي استولت عليه، وقبيل الفجر، كان قد انتصر تماماً، إذ أخذ يصلي بنفس هادئة، ومحبة عميقة، ليبارك الله أخاه وزميله الواعظ، لكي ينجح ويتقدم أكثر فأكثر.. وكانت هذه بمثابة نقطة التحول في حياة الواعظ البيورتاني العظيم!!. وسمع التاريخ عنه، أما زميله الواعظ فلا نكاد نعرف حتى مجرد اسمه!! الأنانية وحب الذات.. وهل هناك من شك في أن قايين كان أنانياً، بل كان غارقاً في الأنانية وحب الذات؟!! ألم ير الدنيا وكأنما هي أضيق من أن تتسع له ولأخيه، وكأنما لا تستطيع أن تحملهما معاً متعاونين متحابين متساندين؟!! بل ألا تبدو هذه الأنانية في قوله لله: "أحارس أنا لأخي" وهي عبارة إن دلت على شيء، فإنما تدل على الإثرة والذاتية وعدم الاهتمام بالآخرين؟!! ومن له في الدنيا أفضل من هابيل، ومن رعايته وحراسته والحدب عليه؟!! ولكنها هي الأنانية التي لا تفكر في الواجب، بل ترى فيه، وفي الاهتمام بالغير، ثقلاً وعبئاً ونكراً، حتى ولو كان هذا الغير هو أعز وأقرب الناس إلينا، أو في لغة أخرى، هو أخونا ابن أمنا وأبينا!!.. لم يقل قايين قولة لويس الخامس عشر المنكرة: أنا وبعدي الطوفان!! لأن الطوفان لم يكن قد جاء بعد ليغرق الدنيا بأكملها، ولكنه أثبت بما قال وفعل أنه أبو لويس وأبو الأنانيين جميعاً على اختلاف أجناسهم ولو أنهم في كل العصور والحقب والأجيال!! هناك صورة مشهورة لمصور بريطاني عنوانها: "أحارس أنا لأخي" وهي عبارة عن مقعد حجري على نهر التيمز، وقد جلس عليه ستة أو سبعة من التعساء البؤساء المشردين، ممن لم يكن لهم مكان في المدينة، فأتوا إلى ذلك المكان ليقضوا فيه ليلتهم، وتراهم في الصورة وقد ناموا وهم جلوس على المقعد، وكان ثلاثة منهم من العمال العاطلين، ورابع من الجنود المسرحين، وإلى جواره امرأة تحتضن طفلها وتميل برأسها على زوجها الجالس إلى جانبها، والجميع مستغرقون في النوم، وعلى مقربة من المكان فندق عظيم، يتلألأ بأنواره الفخمة التي يسكبها هنا وهناك!!.. والمعنى الذي يقصده المصور من صورته هذه، واضح وظاهر، إذ أن هؤلاء البؤساء ليس لهم مكان بين أخوتهم من رواد الفندق الفخم القريب!! الخداع والمكر.. والخداع والمكر من الصفات البارزة في قايين والتي دعته إلى أن يخفي في نفسه أمر مؤامرته وغدره، ثم يدعو أخاه إلى الحقل دون أن يستبين هذا من الأمر شيئاً، وقد قيل في بعض التقاليد أنه تحدث إلى أخيه مهنئاً إياه على الذبيحة التي قبلها الله، وقيل في تقاليد أخرى، أنه دعا أخاه ليذهب وإياه إلى الحقل للتريض والنزهة!! وسواء صح هذا الرأي أو ذاك أو لم يصح فمن المؤكد أن شيئاً خبيثاً شريراً كان يلمع في عيني قايين، وأن هابيل الوادع الآمن لم يستطع تبينه ومن ثم ذهب ضحية ثقته بأخيه الذي لم يكن أهلاً لهذه الثقة!! الكذب.. وكذلك قايين واضح في الجواب الذي رد به على الله عندما سأله قائلاً: "أين هابيل أخوك" إذ قال: "لا أعلم"، وليس عجباً أن يكذب قايين، بل العجب ألا يكذب وهو من الشرير، أي من ذاك الذي قال عنه المسيح "متى تكلم بالكذب فإنما يتكلم مما له لأنه كذاب وأبو الكذاب" (يو 8: 44) والكذب من الصفات الأصيلة في الأشرار والشياطين، إذ هم بطبيعتهم منحرفون عن الحق، وكارهون له!! ومن ثم فالشيء من معدنه لا يستغرب، وكل إناء ينضح بما فيه كما تذهب وتقول الأمثال!! العالمية.. ونقصد بالعالمية ههنا ما ذهب إليه أوغسطينس عندما تحدث عن الفرق بين قايين وهابيل في كتابه العظيم: مدينة الله إذ قال: "إن قايين، مؤسس مدينة العالم، ولد أولاً، ودعى قايين أي اقتناء، لأنه بنى مدينة، وبذلك انصرف انصرافاً كلياً للاهتمام بأمجاد العالم وهمومه، ولقد اضطهد ذاك الذي اختير من العالم، أما هابيل فهو أول سكان مدينة لله، وقد ولد ثانياً، وقد أطلقه عليه الاسم هابيل أي البطل، لأنه أبصر بطل العالم، وقد خرج من العالم بموت غير عادي، وهكذا جاء الاستشهاد على الأرض مبكراً، ومن أسف أن الرجل الأول الذي مات من البشر مات من أجل الدين". وإن كنا لا نتفق مع أوغسطينس في الربط بين معنى الاسم قايين والمدينة التي بناها ذلك الرجل القديم، إلا أننا نؤيده تماماً في أن قايين خرج من لدن الرب، ليسكن في أرض "نود" أو أرض "البعد" حيث وضع هناك أساس المدينة المستقلة المنعزلة المتباعدة عن الله!! ولقد ضرب بنوه في هذه المدينة بسهم وافر من الحضارة إذ كان منهم يوبال الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار، وتوبال قايين الضارب كل آلة من نحاس وحديد، ولكنها -أي المدينة- مع ذلك عجزت عن أن تتحقق لهم الراحة والسعادة والبهجة والسلام، إذ ولدت بعيدة عن الله، وفي أحضان الشر والشهوانية والفساد والإثم!! قايين والخطايا المميتة التي ارتكبها رغم تحذير الله.. أما وقد أدركنا طبيعة قايين الشريرة فلنتحول قليلاً لنتأمل الخطايا المميتة التي ارتكبها هذا الرجل، وتزداد هذه الخطايا بشاعة ورهبة وشناعة إذا لاحظنا أن الله لم يتركه ليقدم عليها أو يندفع فيها دون تنبيه أو تحذير!! وهذه الخطايا هي: خطية عدم الإيمان.. وهي أول خطية يبرزها ويحددها الكتاب لنا، وتتمثل في القربان الذي قدمه قايين إلى الرب من ثمار الأرض، على العكس من أخيه الذي قدم ذبيحة لله من أبكار غنمه ومن سمانها!! ولا أحسب أن هناك كلمات أفخم وأدق وأروع من كلمات دكتور أ.ب. سمبسون عندما وصف الاثنين بالقول: "إن الرجلين اللذين وقفا على أبواب عدن ليعبدا الله يمثلان الجنس البشري في انقسامه إلى مؤمنين وغير مؤمنين!!. أما الرجل الأرضي فيبدو في ديانته كما لو أنه أكثر طرافة وكياسة وجمالاً، إذ يقدم من أثمار تعبه ومن أولها وأحسنها!! أو في لغة أخرى، أنه يقدم زهور الربيع العطرة النقية، وثمار الصيف الناضجة الغنية، وربما بدا مذبحه أكثر بهاءً وجمالاً إذا قورن بالمذبح الخشن غير المصقول الذي قدم هابيل عليه الذبيحة العاصية والتي تبدو في صفرة الموت لحمل دام محتضر ملتهب!! غير أن تقدمة قايين في جملتها ليس إلا نكراناً تاماً شاملاً لكل ما قال الله عن لعنته للأرض وأثمارها، وعن حقيقة الخطية والحاجة إلى مخلص مكفر، الأمر الذي أوضحه الله لآدم وحواء عندما صنع لهما أقمصة من جلده، والذي لا شك أنه أكده أكثر من مرة في تعاليمه ووصاياه لكليهما!! ولم تكن ذبيحة هابيل صوى اعتراف وديع متضع بكل هذه، وقبول صريح واضح لطريقة الله في الغفران والقبول".والواقع أن كاتب الرسالة إلى العبرانيين يتحدث بكيفية جازمة عن هذه الحقيقة بالقول: "بالإيمان قدم هابيل لله ذبيحة أفضل من قايين"، وهل يمكن أن يكون هناك إيمان ما لم يكن هناك إعلان سابق يثق به هذا الإيمان ويرجوه ويعتمد عليه؟!! أجل فهابيل لم يقدم ذبيحته لمجرد التصور أو الاستحسان البشري بل لابد أن الله أعلن من البدء للبشر بوضوح وجلاء أنه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة"!! والعمل الأول للإيمان هو أن نثق بما يقول الله عن الخطية!! ولا عبرة بعد ذلك بما يمكن أن يقوله الفكر أو الشعور عنها، فإذا حلا لبعض الفلاسفة والملحدين تجاهلها. فلن يفيد هذا التجاهل شيئاً، وستبقى الخطية رغم ذلك أرهب حقيقة عرفها التاريخ البشري، وإذا زعم غيرهم أن الخطية ضرورة من ضرورات الاجتماع، فزعمهم كاذب وليس الحق فيه، وستبقى الخطية كما قال عنها الآباء الأولون: إنها إرادة الإنسان الفاسدة تعاكس إرادة الله المقدسة، أو كما قال عنها اليهود: إنها العجز عن بلوغ الهدف، أو كما قالوا عنها أيضاً: إنها خضوع الإنسان لرغبات الجسد التي تقاوم إرادة الله، أو كما وصفها الكتاب في تعبير دقيق جامع مانع بالقول: "والخطية هي التعدي" (1يو 3: 4) وأياً كان نوع هذا التعدي ووجهته، وسواء كان موجهاً ضد النفس، أو ضد الآخرين، أو ضد الله مباشرة، فهو على أي حال التعدي الذي يستجلب غضب الله ودينونته ونقمته. وما يصح في القول عن الفكر يصح في القول عن الشعور أيضاً، إذ لا ينبغي أن نزن الخطية أو نقيسها بميزان أو مقياس الشعور، إذ يكفي أن نؤمن بأننا خطاة لأن الله قال هكذا!! وهذا ما فعله هابيل إذ أخذ مكانه كخاطيء فوجد في الحال سبيله إلى الخلاص من خطيته!! على العكس من أخيه الذي كان الشعور هو المضلل الأكبر له، إذ لم يشعر في البداءة بخطيته، أو بحاجته إلى الخلاص!! وعندما شعر بالخطية في النهاية، كان شعوره أفدح وأثقل من اللازم، وأدعى إلى اليأس والقنوط، الأمر الذي دعاه يصرخ صرخته المرة: "ذنبي أعظم من أن يحتمل". على أنه لا يكفي أن يثق الإنسان بما يقوله الله عن الخطية، بل ينبغي أن يثق بما يقوله أيضاً عن الخلاص، وقد قال الله في كلمته في هذا الشأن، فأبى قايين أن يصدقها، وقبلها أخوه بإيمان وخضوع وتسليم، والجنس البشري كله لا يخرج في جميع العصور والأجيال عن واحد من اثنين إما منكر لهذه الكلمة أو مصدق لها، كيف لا والصليب هو الحقيقة الكبرى التي كانت ترمز إليها جميع الذبائح في العهد القديم و"كلمة الصليب عند الهالكين جهالة وأما عندنا نحن المخلصين فهي قوة الله.. لأن اليهود يسألون آية واليونانيين يطلبون حكمة. ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة وأما للمدعويين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس" (1كو 1: 18، 22-24).كان الاسكتلندي العجوز يركب عربته ذات يوم، وإذا به يسقط تحت ثقل خطاياه، وتبادره نفسه بهذا السؤال الملح: "ماذا تقدم لله لكي يرضى عليك؟!" وفكر في أن يقدم دموعه وخدماته وعهوده وإصلاحاته ولكن هذه جميعها لم تعطه الراحة والأمن والسلام!! وإذا به يسمع صوتاً هامساً من الأعماق يقول له: قدم المسيح!! وإذ قدمه امتلأت حياته كلها بالفرح والبهجة والسلام والسعادة!! ومن الملاحظ أن الله لم يهمل في أن ينبه قايين، بعد أن رفض تقدمته، إلى أنه يحسن أو لا يحسن بالقدر الذي يرفع الذبيحة أو لا يرفعهاوهكذا تكشف لنا هذه القصة القديمة إلى أي حد يهتم الله بإعلان سياسته الثابتة الأبدية في الخلاص!! خطية قتل هابيل.. وهي الخطية الثانية الرهيبة التي ارتكبها قايين، وقد ارتكبها مع سبق الإصرار دون أن ينتفع بتحذير الله وإنذاره، وقد اتسمت هذه الخطية على الأقل بثلاث سمات، إذ كانت أولاً الخطية القريبة من الباب، ولعلنا نستطيع أن نفهم اقترابها من قايين إذا أدركنا معنى القول: "إن أحسنت أفلا رفع وإن لم تسحن فعند الباب خطية رابضة". والشراح في ذلك يذهبون ثلاثة أو أربعة مذاهب، فمنهم من يفسرها بهذا المعنى: إن أحسنت أفلا رفع لوجهك، وإن لم تحسن فعند الباب خطية رابضة، وهؤلاء يعتقدون أن الرفع هنا مقصود به الوجه الذي سقط وامتلأ خزياً، وعلى رأس هؤلاء يقف كايل وديلتش وجيزينيس، بينما وجد غيرهم ممن توسع في فهمه لمضمونها فقال إن المقصود هو إن أحسنت أفلا رفع لمركزك على اعتبار أنه البكر، وعلى رأس هؤلاء يقف بشن.. ووجد آخرون ممن فسروها على هذا المعنى: إن أحسنت أفلا رفع لذبيحة، وهؤلاء يذهبون إلى أن مركز قايين بجملته يتحدد على أساس الذبيحة التي يقدمها أو يرفضها، فإذا قدمها فإنه يحسن صنعاً ويسلك السبيل السوي الذي عينه الله وإن لم يحسن إذ ظل على كبريائه وعناده ورفضه فهناك سوء وخطر ينتظرانه عند الباب ولعل لوثر وكلفن في مقدمة الآخذين بهذا الرأي وإن كان لوثر يذهب إلى أن المقصود بالرفع هو رفع حمل الخطية نتيجة الذبيحة بينما يتجه كلفن إلى أن المقصود بالرفع هو القبول الإلهي للذبيحة والمعنيان على أي حال مقتربان ومتفاعلان!! على أن هناك مذهباً آخر طريفاً يقول إن قايين حمل تقدمته المرفوضة التي لم ينظر إليها الرب وألقى بها عند الباب وكان يراها في دخوله وخروجه فتشعل نفسه غضباً وغيظاً ورأى الله أن تجربته هناك فطلب إليه أن يرفعها بالقول: إن أحسنت أفلا رفع للتجربة- حتى لا تتحول إلى وحش كاسر يوشك أن ينقض عليك!! وسواء صح هذا الرأي أو ذاك أو غيره، فمن الواضح أن التجربة كانت قريبة جداً من قايين، وأنها تربض على بابه، فإذا لم يفزع منها ويهرب، فإنها لا تلبث أن تنقض عليه وتفتك إذا حبلت لأن: "كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتاً" (يع 1: 14 و15). إن الخطية تبدأ أولاً بخيوط أو هي أدق من خيوط العنكبوت تلف بالخاطيء، ثم لا تلبث أن تتحول هذه الخيوط إلى قيود وأغلال دونها القيود والأغلال الفولاذية!! سار فاوست في طريقه مع الشيطان وقد اتفقا على أنه إذا نجح الشيطان في إشباع رغبات فاوست يضحى له عبداً، أما إذا لم يشبعها فإن له الحق أن يتحلل من سيطرته وسيادته، وقبل الشيطان ذلك، وأخذ ينتقل بفاوست من شر إلى شر، ومن متعة إلى متعة، وفي كل مرة يسأله: هل شبع؟! وإذ بالجواب يأتيه على الدوام كلا، واستنفذ الشيطان كل المتع والشهوات والشرور وأعلن ذلك لفاوست!! فقال له هذا: إذاً فأنا حر!! وأجابه الشيطان: أنت حر، وحاول فاوست أن يرجع، ولكنه أدرك أن الخطية قيدته وهو لا يدري بقيود من حديد!!. والسمة الثانية في الخطية التي ارتكبها قايين وحشيتها وقسوتها إذ أنها: رابضة عند الباب" والمعنى في الأصل يشير إلى أن الخطية وحش كاسر يجسم على مقربة من قايين، ويوشك أن يمزقه تمزيقاً، وفي الواقع أن الخطية التي ارتكبها قايين كانت بالغة الفظاعة والوحشية!! كيف لا والصريع أخوه ابن أمه وأبيه، أخوه الحلو البريء الوادع الآمن؟!! أخوه الذي كانت تحلو معه العشرة، وكان يتقاسم وإياه الحياة في ألوانها المتعددة المختلفة!! تخيل أحد الكتاب هابيل وكأنما يصيح في اللحظة الأخيرة لأخيه الغادر المتوحش: أي أخي ابن أمي وأبي ماذا ستفعل؟!! إنك إذ تقتلني ستقتل أبهج ذكريات الحياة عندما كنا نسير هنا وهناك على مقربة من عدن، نلعب ونتحادث ونكافح ونضحك!! بل إنك إذ تقتلني ستقتل أثمن ما فينا على الأرض إذ ستقتل الثقة والصدق والمحبة والشرف والإيثار والأخوة!! ويحك يا أخي لا تفعل هكذا!! ولكن قايين فعل خطيته الشنعاء على أقسى وأرهب وأحط ما يمكن أن يكون الفعل الشنيع. والسمة الثالثة والأخيرة في هذه الخطية: إنه كان من الممكن لقايين أن ينتصر عليها لو أراد، إذ لوح له الله بهذا في القول: "وأنت تسود عليها" أجل فلئن كانت الخطية مقتربة دانية من قايين، ولئن كانت أكثر من ذلك، تتوق وتشتاق إلى الوثوب عليه، إلا أن قايين كان يمكنه أن يتغلب عليها، لو أنه اتجه إلى الله وتمشى وراء إرادته الصالحة!! والله على استعداد أن يساعد كل إنسان مجرب، بل على استعداد أن يهيء له من الأواضع والظروف والمساعدات ما يمكنه من التغلب على تجاربه مهما تبد هذه التجارب مخيفة رهيبة قاسية!! وإذا كانت الطبيعة كلها، كما يقولون، تقف بكل قواتها إلى جوار الإنسان الذي يريد أن يعيش مستقيماً!! فإن الله على استعداد أن يقف بكل سلطانه وقوته إلى جانب الإنسان المجرب الذي يطلبه!! خطية عدم التوبة.. وهي الخطية الثالثة التي يذكرها الكتاب لقايين، ويبدو أن كل خطية ارتكبها كانت تمهد وتعد للخطية التي تأتي بعدها!! فخطية عدم الإيمان بالذبيحة ورفضها، مهدت وأعدت لخطية قتل هابيل، وخطية القتل هذه انتهت به إلى الخطية الثالثة: ونعني بها خطية الإصرار وعدم التوبة!! قال له الله بعد أن ارتكب جريمته: "أين هابيل أخوك" ولم يكن يقصد الله من قوله هذا أن يريه قايين أين يوجد هابيل أخوه؟! فالله يعلم أين يثوي هابيل ويضطجع! ولكن الله قصد أن يثير قايين ويدعوه إلى الاعتراف والتوبة؟! ومن الملاحظ أن الله لم يقل له أين هابيل وحسب بل قال له أين هابيل أخوك، ولعله قصد بذلك أن ينبهه إلى عظم الجرم الذي ارتكبه ضد أخيه!! إن القتل في حد ذاته، بشع رهيب، ولكنه أبشع وأرهب إذا ارتكبه ضد الأخ المحب العزيز.. ولعل هذا القول يعزز إلى حد كبير ذلك التقليد القديم الذي يقول إن قايين بعد أن قتل أخيه حار في أين يخفي جثته!! وإذا به يرى غرابين يتقابلان، ويقتل أحدهما الآخر، وإذا بالغراب القاتل يحفر بمنقاره وقدميه حفرة يدفن فيها الآخر، وإذ رأى قايين هذا المنظر قال: الآن علمت ماذا أفعل بهابيل ثم حفر حفرة ووضعه فيها، ووراه تحت التراب!! وعلى أي حال لقد حاول قايين أن يتخلص من الخطية بالإصرار عليها ودفنها!! ولكن هل يستطيع حقاً أن يدفن الخطية ويغطيها بعيداً عن عيني الله؟!! كلا وألف كلا!! وما عمله إلا الحماقة الكبرى التي كان عليه أن يتحاشاها بالاعتراف الصريح!! كان من الممكن أن يأتي إلى الله ويقول: أنا أعلم أين أخي!! لقد قتلته بحماقتي وشري، وليس لي من عذر أتقدم به إليك سوى أن ألوذ برحمتك التي وسعت كل شيء وتتسع للمجرم والخاطيء والأحمق والشرير: "ارحمني يا الله حسب رحمتك حسب كثرة رأفتك أمح معاصي اغسلني كثيراً من إثمي ومن خطيتي طهرني لأني عارف بمعاصي وخطيتي أمامي دائماً إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك صنعت لكي تتبر في أقوالك وتزكوا في قضائك" ولو قال قايين هذا أو شيئاً من مثل هذا لغفر له الله خطيته الشنيعة..كان أحد ملوك فرنسا يسير في رفقة ملك أجنبي في سجون طولون، وقال الملك الفرنسي للملك الضيف أنه مستعد أن يفرج في الحال عن أي سجين يقع اختياره عليه، وأخذ الملك الضيف يسأل المسجونين واحداً بعد الآخر عن السبب الذي من أجله جاءوا إلى السجن، وإذا بهم جميعاً يدعون أنهم دخلوا السجن ظلماً وعدواناً، إلا واحد لاحت عليه الذلة والانكسار، وإذ سأله الملك عن سبب دخوله السجن أجاب: لقد ارتكبت إثماً كبيراً، ولا أعلم لماذا خففوا الحكم على هكذا مع أني كنت أستحق حكماً أقسى وأشد! وعندئذ وقع اختيار الملك عليه، وقال: أنت هو الشخص الوحيد الذي أجد فيه شيئاً يحتاج إلى الغفران على العكس من جميع هؤلاء الأبرياء المظلومين!.. أجل لأنه "إن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم. إن قلنا أننا لم نخطيء نجعله كاذباً وكلمته ليست فينا". قايين والعقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه.. بعد أن تحدثنا عن قايين وطبيعته الشريرة، والخطايا المميتة التي ارتكبها، يجدر بنا أن ننتهي بالحديث عن العقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه، وهذا العقاب إن تحدث عن شيء، فإنما يتحدث قبل كل شيء عن عدالة الله الساهرة الحية التي لا تموت، وقد بدت هذه العدالة في قصة قايين في أكثر من مظهر إذ كانت أولاً العدالة الكاشفة، أو العدالة التي لا يمكن أن يخفي عليها شيء، أو تبهم لديها الأمور، بل هي العدالة التي تزن الظاهر والخفي بميزان دقيق وهي أيضاً العدالة الساهرة التي لا تغفل أو تنام، بل ترقب وتلاحظ كل ما يجري على الأرض، وترى من حقها التدخل بين الإنسان وأخيه، إذ أن حقها في الواقع أسبق على كل حق، بل أساس كل حق، ومصدر كل حق.. وقد يتصور قايين أنه ليس لأحد حق محاسبته أو محاكمته على ما فعل، ولكنه سرعان ما يتبين أنه واهم، وأن ديان كل الأرض، قد أوقفه أمام كرسيه ليعطي حساباً عما فعل ضد أخيه.. وهي إلى جانب ذلك العدالة الطيبة التي تفزع لموت هابيل، وتستمتع إلى صرخات دمه المرتفعة من الأرض، لتقتص له من قاتله، محققة ما قاله المرنم: "عزيز في عيني الرب موت أتقيائه".. وعلى أي حال فإن عقاب قايين كان عقاباً شاملاً تناوله من كل جانب من جوانب الحياة، وقد ظهر بوضوح على الأقل في أربعة مظاهر: الفشل الروحي وقصة قايين بجملتها ليست إلا قصة الفشل الروحي العميق، على أوسع ما تشمل عليه كلمة الفشل من معنى، لقد دعته أمه قايين أي "اقتناء" إذ قالت: اقتنيت رجلاً من عند الرب" والرأي الراجع أنها دعته بهذا الاسم وهي تعتقد أنه النسل الموعود الذي سيسحق رأس الحية، والذي سيثأر لها من عدوها المكروه البغيض، الذي أخرجها وزوجها ونسلها من جنة عدن بالتجربة والكذب والخداع، ولعل كلمات الكسندر هوايت هي خير ما يمكن أن يقال هنا على وجه الإطلاق!! قال هوايت: "لقد أخطأت حواء في فهمها لقايين إذ ظنته يسوع المسيح!! وعندما رأته يوم مولده لم تعد تذكر حزنها، إذ كانت المرأة المبتهجة السعيدة!!.. بل إن جنة عدن بكل ما فيها من أزهار وثمار لم تعد تصبح بعد موضع الاهتمام أو التفكير من اليوم الذي تدانت فيه السماء من الأرض، واقتنت حواء ابنها البكر من عند الرب!! وليس عجباً أن تخطيء حواء في فهم قايين إذ يكفي أن تضع نفسك موضعها!! لقد جلبت هذه المرأة على نفسها وعلى زوجها الطرد إذ أصغت لأبي الكذاب!! ولكن الله جاءها في محنتها ويأسها، وفتح لها كتاب وعوده بأفضل وعده إذ وعدها بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحية، وبذلك يفتديها من كل الشر الذي جلبته على نفسها، وعلى زوجها.. والآن تبارك الرب هوذا نسلها بين يديها، وها هو يأتيها في صورة حلوة مبهجة للقلب، سماوية، في صورة رجل من عند الرب!! فهل تكون حواء بعد ذلك جاحدة القلب ملحدة المشاعر وهي تنظر إلى ابنها على اعتبار أنه النسل الموعود؟؟ وهل تكون مخطئة إذا قالت هذا هو إلهنا الذي انتظرناه، الإله الذي جاء لنا برجل من عنده؟!! ومع كل هذا فنحن نعلم أن قايين لم يكن المسيح!! وأن ملاك البشارة الواقف في حضرة الله عبر عن حواء وسارة وراحيل وحنة وأليصابات وسائر النساء الأخريات في إسرائيل، وجاء إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف، وقال لها: "سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك، مباركة أنت في النساء" "فقالت مريم تعظم نفسي الرب".. أجل لم يكن قايين هو النسل الموعود، أو على الأقل، الأمل الباسم، والأغنية الطروب، واللحن الشادي، في أرض متعبة!! بل كان الإنسان الذي تمثلت فيه المأساة والفشل وخيبة الأمل، على أوسع صورها وأرهب معانيها!! لقد كان عند أبويه في بدء حياته حلماً جميلاً، ولكن سرعان ما تحول إلى كابوس مريع ليس لأبويه فحسب بل لنفسه وأخيه وجميع المتصلين به أو الآتين من نسله!! أجل فليس هناك شيء يبدد الأحلام، ويضيع الأمل كما تفعل الخطية!! العوز المادي لم نعلم كم عاش قايين من السنين، وكم طال به العمر، لكننا مع ذلك نعلم أنه عاش طوال حياته في عوز مادي، وفي احتياج دائم، إذ لعنه الله بضيق ذات اليد، في القول: "فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك. متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها" أو في لغة أخرى، إنه وجد الشوك في موضع الزهور، ووجد الحسك في موضع البقول، ووجدت اللعنة الدائمة تصاحب ما يزرع ويستنبت، اللعنة التي ذكرها الكتاب عن جماعة تمشت في طريقه عندما قال: "زرعتم كثيراً ودخلتم قليلاً. تأكلون وليس إلى الشبع. تشربون ولا تروون، تكتسون ولا تدفأون، والآخذ أجره يأخذ أجره لكيس منقوب.. انتظرتم كثيراً وإذا هو قليل ولما أدخلتموه نفخت عليه.. لذلك منعت السموات من فوقكم الندى ومنعت الأرض غلتها ودعوت بالجر على الأرض وعلى الجبال وعلى الحنطة وعلى المسطار وعلى الزيت وعلى ما تنبته الأرض وعلى الناس وعلى البهائم وعلى كل أتعاب اليدين" أجل فلقد لحقت اللعنة قايين في كل هذه، فكان في عداء دائم مع المحصول الوفير. واللقمة الهانئة، والعيش الرغيد، والحظ الحسن -إن جاز أن نستعمل هذا التعبير- وهكذا أدرك أن الخير المادي كالروحي سواء بسواء يرجع إلى أمر الله ومشيئته وإرادته دون أن يرجع في قليل أو كثير إلى حكمة الإنسان أو يقظته أو تعبه أو مجهوده أو عمله أو ما أشبه مما يظن الناس أنها تحدد المعايش والأرزاق على هذه الأرض!! التعب الجسدي لم تكن لعنة قايين في ذلك العوز المادي الذي سيصاحبه طوال الحياة فحسب بل كانت في التعب الدائم الذي يحرم عليه الاستقرار في بقعة واحدة من الأرض، لقد كان عليه أن ينتقل من مكان إلى مكان سعياً وراء الرزق بما يصاحب هذا الانتقال من تعب وضيق ومشقة، لقد عاقبه الله بالقول: "تائهاً وهارباً تكون في الأرض" والكلمة العبرانية المترجمة "تائهاً" تشير في الأصل إلى حالة التردد والاضطراب والتيه التي تصاحب الإنسان الحائر الذي لا يعرف أين يتجه، أو المعيي الذي يسقط من الجوع، فإذا أضيفت إليها حالة الهروب أو الحالة التي تنشأ من الفزع والخوف وعدم الاطمئنان، أدركنا إلى أي حد كان قايين أشبه بالرحالة المكدود الذي يسعى في البيداء المقفرة أو الجواد التعب الذي يقطع الفيافي من غير هدف!! وهكذا يؤكد الكتاب لنا أن الله لا يمنح أو يمنع اللقمة النهائية فحسب بل يمنح السكن المريح أو الوسادة اللينة!! العذاب النفسي وهو العذاب الذي سجله قايين في القول: "ذنبي أعظم من أن يحتمل إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض ومن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الأرض فيكون كل من وجدني يقتلني" والشراح مجمعون على أن هذه اللغة ليست بحال ما لغة الاعتراف والتوبة، بل هي لغة اليأس والقنوط لمجرم هاله الحكم القاسي الذي صدر ضده، ومما يشجع على هذا الاعتقاد أن الكلمة "ذنبي" يمكن أن تترجم "عقابي"، والواقع أن قايين كان مأخوذاً بالعقاب أكثر من إحساسه بالجرم!! وكان مدفوعاً بالخوف، أكثر من اندفاعه بالتوبة، ولعل هذا يبرز بوضوح في القول: "كل من وجدني يقتلني" وأين يوجد هذا القاتل والأرض لم تعمر بعد؟!! أهو الخوف من الوحوش كما يزعم بعض المفسرين ممن يقولون أن الكلمة "من" يمكن ترجمتها "ما" وبذلك ينصرف المعنى إلى وحوش الفلاة والبرية؟!! أو هو الخوف من المستقبل حين تأتي ذراري أخرى من آدم تثأر منه للمقتول، كما يذهب آخرون؟!! لا ندري وكل ما ندريه أن صيحته هنا على أي حال ليست إلا صيحة الضمير في قصيدة رائعة، يرينا فيها قايين الرحالة المتعب، وهو يفزع من نجوم الليل، وهمهمة الرياح وخشخشة الأوراق، وصوت العصافير، ويتوهم أنها ضواري كواسر توشك أن تنقض عليه، وتفتك به!! بل رأينا إياه صريع الأرق والضيق والوسوسة والمخاوف! أجل ليس هناك أرهب من صوت الضمير إذا تيقظ، وأقصى من عذاباته إذا حاسب ودان!! والفنان المشهور فيرناند كوكمون يرنا قايين في أخريات حياته، وحوله من تبقى من نسله، وما يزال هو الإنسان المتعب التائه الزائغ البصر الذي يندفع في طريقه دون أن يلوى على شيء أو يستقر على قرار إذ هو أشبه الكل باليهودي التائه الذي حقت عليه لعنة الله بعد أن صلب المسيح!! على أننا لا يمكن أن ننتهي من الحديث عن قايين دون أن نذكر تلك العلامة التي أعطاها له الله لكي لا يقتله كل من وجده، ونحن لا نعلم ما هي؟!! أهي تحول غريب في وجهه كما تزعم بعد التقاليد اليهودية؟!! أم تغير تام في لون جلده؟!! أم هي نوع من الملابس كان عليه أن يرتديه؟!! أم شيء يشبه القرن نبت في رأسه؟!! أم علامة على جبينه؟!! أم غير ذلك من العلامات؟!! لا نعلم، ومن العسير على أحد أن يجزم بنوع هذه العلامة وهيئتها؟!! ولكنها إن تحدثت وأكدت شيئاً فإنها تتحدث وتؤكد أن الله لا يحاكم إلى الأبد ولا يحقد إلى الدهر، وإنه في وسط الغضب يذكر الرحمة، وأنه حتى قايين الآثم الشرير الذي لم يرحم أخاه يمكن أن يجد رحمة عند الله.ليت إيمان قايين كان قد اتسع لرحمة أشمل وأعم عند الله، ولم يخف فقط من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها بل خاف بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم، إذاً لشملته رحمة الله، ولالتقى هو وأخوه في السماء في ظلال ذلك الذي هو وسيط عهد جديد، ودمه الذي هو دم رش يتكلم أفضل من هابيل.
المزيد
04 أغسطس 2022

شخصيات الكتاب المقدس عيسو

عيسو "فباع بكوريته ليعقوب..." مقدمة تعد قصة من أعجب القصص وأغربها أمام الذهن البشري!!.. أليست هي القصة التي يقف الإنسان فيها حائراً أمام الاختيار الإلهي: "لأنه وهما لم يولدا بعد ولا فعلا خيراً أو شراً لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار ليس من الأعمال بل من الذي يدعو قيل لها أن الكبير يستعبد للصغير كما هو مكتوب "أحببت يعقوب وأبغضت عيسو".. بل أليست هي القصة التي أثارت الصراع الدفين بين عقل إسحق أبيه وقلبه؟.. وقد بلغ هذا الصراع ذروته، يوم طلب إسحق من عيسو أن يتصيد له صيداً ويجهزه ليدرك أن أخاه سبقه إلى أخذ هذه البركة، وإذ تبين إسحق ما فعل الصغير: "فارتعد إسحق ارتعاداً عظيماً جداً وقال فمن هو الذي اصطاد صدياً وأتى به إليَّ فأكلت من الكل قبل أن تجيء وباركته. نعم ويكون مباركاً".. لقد ثاب إسحق إلى رشده وأدرك أنه بارك، من خصصت له بركة السماء دون ذاك الذي أوشك أن يأخذ البركة، وهو مرفوض، بمجرد العاطفة المتحيزة الأبوية.. إن عيسو هو الابن الثاني في مثل المسيح القائل: "ماذا تظنون كان لإنسان ابنان فجاء إلى الأول وقال يا ابني اذهب اعمل اليوم في كرمي، فأجاب وقال ما أريد ولكنه ندم أخيراً ومضى، وجاء إلى الثاني وقال كذلك.. فأجاب وقال: ها أنا يا سيد، ولم يمض".. كان عيسو حسب الظاهر أفضل من يعقوب بما لا يقاس، ولكنه في الحقيقة أتعس وأشر،.. كان الظاهر فيه هو الذي جعله أدنى إلى قلب أبيه وأحب، ولكن وازن القلوب أدرك طبيعته الدنسة الشريرة الملوثة الخربة، ومن ثم رفضه، وقدم عليه الصغير المختار، وهل لنا بعد هذا كله أن نتأمل الرجل الذي يصلح أن يكون نموذجاً عظيماً "للرجل العالمي" على العكس من الآخر الذي أحبه الله، وطهره من الشوائب المتعددة التي لحقت بقصته وحياته،. ومن ثم يمكن أن نرى عيسو من الجوانب التالية: عيسو ذو المظهر الرائع من المؤكد أنك ستفتن به وتحبه، عندما تتطلع إليه لمظهره الخلاب،.. ومن المؤكد أنك ستحبه، كما أحبه أبوه إسحق لما يبدو عليه من جلال الصورة، وجمال المنظر،.. ومن المؤكد أنه كان شيئاً يختلف تماماً في الصورة عن أخيه الأصغر، فهو أشعر بفروة حمراء، متين العضلات، رائع البنيان،.. لو أنه ظهر في أيامنا لكان من أولئك الذين يمكن أن يدخلوا مع العالم في مباريات كمال الأجسام، أو الملاكمة، أو المصارعة، أو ما إلى ذلك من صور يعتز بها من كان البنيان الجسدي عندهم، هو أهم ما يملكون أو يفضلون في هذه الحياة، ومن المؤكد أن قوته البدنية كانت كافية لأن يصرع بها أخاه، عندما فكر أن ينتقم منه، لتعديه عليه في البركة وسلبها منه، كما فعل بالخداع والختال والمكر عندما أخذ البكورية أيضاً.. ومن المؤكد أنه كان سريع الحركة، بطلاً في العدو وهو يجري وراء الحيوانات في الأحراش والغابات يحمل قوسه وسهمه،.. ويصرعها ويحملها على منكبيه، ليهييء منها طعاماً لنفسه وأبيه الذي كان يؤخذ بعظمة ابنه الصياد وما يصطاد من حيوانات شهية دسمة، دون أن يطيش سهمه، وترجع قوسه خائبة إلى الوراء،.. ومن المؤكد أنه كان جذاب المنظر، مهيب الطلعة، يقف نداً للحثيين وغير الحثيين الذين يخشون بطشه فيما لو حاول أحدهم التصدي على بيته الكبير وأسرته العظيمة.. ومن المؤكد أن بنات حث اللواتي تزوج منهم أكثر من واحدة، كن يعجبن به، وتشتهي كل أنثى فيهن أن تكون زوجته أو حبيبته على حد سواء.. ومن المؤكد أنه أكثر من أخيه مروءة وشهامة،.. ولو أن أخاه عاد جائعاً من الحقل، ووجد عنده صيداً، وسأله طعاماً، لأعطى لأخيه من أشهى ما عنده دون أن يطلب ثمناً أو ينتظر مقابلاً،.. وهل لنا أن نراه في كل هذا الإنسان البشوش الضاحك، إنسان المجتمعات الذي يتعلق بالآخرين، ويتعلق الآخرون به، والذي يربط نفسه بصداقات متعددة، حتى أن أربعمائة على استعداد أن يلبوا إشارته عند أقل طلب، بل على استعداد أن يقاتلوا في سبيله ومن أجله، في أي معركة يدفعهم إليها!!.. وهل تتعجب بعد هذا من حب إسحق له وولعه به وكلفه بشخصه، وميله العميق من أن يعطيه البركة رغم أن الوعد بها للأخ الأصغر،.. وهل تتعجب لمن يملك مثل هذه الخلال الصفات من الرجولة والشهامة والكرم والحركة والقوة والشجاعة، كيف لا يأخذ مكانه الطبيعي دون أن يسلب من أخ مهما يكن شأنه، فهو أضأل وأصغر فيها جميعاً من كل الوجوه!!.. على أي حال أن عيسو هو أروع النماذج والصور "لإنسان العالم"، والذي قد يعتبر في كثير من النواحي البدنية والأخلاقية والاجتماعية والعلمية من يصح أن نطلق عليه "إنسان الله"!!.. عيسو ذو الداخل الخرب إذا كان عيسو على هذا المظهر الرائع الخلاب، فكيف يمكن أن يقال أن الله أبغضه وأحب يعقوب؟!! وهنا نحن نقف أمام الحقيقة العظيمة، التي أدركها فيما بعد صموئيل النبي، وهو يتحدث عن الملك المختار لإسرائيل من بين أبناء يسى البيتلحمي، إذ قال له الرب: "لا تنظر إلى منظره وطول قامته، لأني قد رفضته لأنه ليس كما ينظر الإنسان. لأن الإنسان ينظر إلى العينين وأما الرب فإنه ينظر إلى القلب".. وفي الحقيقة أن عيسو كان خرب الحياة والقلب أمام الله، وإذا صح أن نصفه فلا يمكن أن وصفاً أدق أو أبرع من وصف المسيح للكتبة والفريسيين في أيامه، إذ كانوا يشبهون القبور المبيضة التي تظهر من الخارج جميلة، وهي من الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة!!. عيسو الخرب في العلاقة بالله كان عيسو يمثل الإنسان العالمي‎، الخرب العلاقة بالله، وصف كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "مستبيحاً" والكلمة في أصلها اللغوي: تعني الرجل الذي لا "قدس" في حياته،.. أو في لغة أخرى: هو الرجل الذي يعيش في الدار الخارجية، ولا قدس أو قدس أقداس في حياته، الرجل الذي غاب عن الله، وغاب الله عن حياته، فلم يمنحه النعمة التي تلمس قلبه، وتفتحه على العالم غير المنظور، سأل أحدهم هذا السؤال: ألا يوجد ملحدون يبرزون الكثيرين من المؤمنين في صفاتهم ومزاياهم وأخلاقهم في الجوانب الكثيرة من الحياة، فهل هم أفضل عند الله أو الناس من هؤلاء المؤمنين؟!!.. وجاء الجواب: قد يكون هذا صحيحاً، ولكن أضعف مؤمن عند الله، أعظم بما لا يقاس من أي ملحد، مهما تسلح هذا الملحد، بالكثير من المظاهر الخلقية في الحياة!.. ولعل أكبر دليل على ذلك الحيوان نفسه، فإن في الغرائز الحيوانية ما هو أسمى من الإنسان وأجمل وأعظم،.. فمن له شجاعة الأسد؟، أو وداعة الحمام؟ أو وفاء الكلب؟، ولكن الأسد؟ والحمام والكلب –مع هذا التفوق الغريزي- لا يمكن أن يفضل عن الإنسان، لأن الإنسان يملك إلى جانب هذه الصفات: الضمير الذي يؤكد له أن هذه الصفات عطية من الله له، وأنه إذ يستخدمها، إنما يستخدمها كعطية من الله، على العكس من الحيوانات التي لا تعرف شيئاً كهذا ولا تستطيع أن ترد فضل الله بالشكر لأنه أعطاها مثل هذه الصفات!!.. وهذا حال الملحد الذي قد يفعل في كثير من المواطن بالغريزة ما لا يفعله الكثيرون من المؤمنين، فهو مرات أكثر دقة وتعففاً وسمواً دون أن يملك إلى جوارها جميعاً الإحساس بأنها نعم الله في حياته، وأنه يعطي مما أعطاه الله وهو لا يدري،.. على العكس من المؤمن الأضعف، ولكنه الأسمى إحساساً بعطايا الله، والشكر على هذه العطايا والنعم،.. كانت الضربة القاتلة لعيسو أنه ابن الموعد بدون ميراث، وابن المذبح بدون ذبيحة، والابن الذي كان يمكن أن يكون شديد التعلق بالله،.. ولكنه كان وثنياً من هامة الرأس إلى أخمص القدم.. إذ رضى لنفسه أن يكون خرب العلاقة بالله، لا يستيقظ على موعد صلاة، أو يترنم في الغابة أو البيداء لإله، أو يعيش مستمعاً لكلمات أبيه إسحق عن الله!!.. كان عيسو الإنسان الذي يصح أن يقال عنه: بلا إله!!.. عيسو بائع البكورية مثل هذا الإنسان لا معنى للبكورية عنده، إذ هو أعمى عن جميع القيم الروحية في الحياة،.. كان الإنسان البكر هو سيد العائلة وممثلها أمام الله، وهو كاهنها الذي يتقدم بالذبائح نيابة عنها أمام المذبح الإلهي وهو الذي يصلي معها ولها ويباركها بما يأخذ من بركات الله، وهو الذي يرث في المستقبل بعد أبيه نصيب اثنين مما يملك،.. ولكن جميع القيم الروحية كانت بلا معنى أو مذاق أمام عيسو وهو مغلق العين والقلب بالنسبة لها جميعاً، وأقل ما في الحاضر أفضل من كل ما ينتظر في المستقبل، وعصفور في اليد أفضل من عشرة على الشجرة،.. ومن ثم كانت البكورية لا معنى لها ما دامت ترتبط بمستقبل قريب أو بعيد،.. وعندما عرض عليه أن يبيع البكورية بطبق من عدس، كان الطبق أفضل بما لا يقاس وهو يعي عن كل بركات البكورية في المستقبل، وباع عيسو بكوريته بأكلة عدس!.. ومع أن الإعياء قد يكون واحداً من الأسباب التي شجعت عيسو على هذه الصفقة القاسية الخاسرة، إلا أنه بالتأكيد ليس السبب الأول،.. لقد باع عيسو في سره، كما يقول الكسندر هوايت البكورية آلاف المرات، لقد كانت حقيرة في عينيه قبل أن يعرض عليه أخوه ثمنها البخس الغريب!!.. وما يزال عيسو إلى اليوم أبا لكل بائع لبكوريته بمثل هذا الثمن التافه الحقير!!.. هل تتوقف معي للبكاء على الرجل الذي باع هذا الامتياز بمثل هذا الثمن الغريب؟.. وهل تسير معي في درب الحياة لكي نقف عند كل واحد من أبنائه المنكوبين بهذه الضربة القلبية القاسية؟!!.. كم من شاب أضاع عفته، وفقد بكوريته بمتعة وقتية قبيحة لا تلبث أن تنتهي لذتها ونكهتها بانتهاء مذاق العدس الأحمر في فم عيسو القديم،.. وكم فتاة فقدت طهارتها وامتيازها إذ باعت في لوثة جنون أعز ما تملك، ثم عاشت بعد ذلك تعض بنان الندم!!.. لم يقف عيسو في الانحدار عند حد، وبائع البكورية سيفقد معها كل شيء، وقد انفتح طريق الانحدار أمام عيسو بلا توقف أو نهاية، فهو لا يرى بأساً من مخالطة الوثنيين أو إدخالهم حياته وبيته وعائلته، ورأى إسحق ذات يوم، وإذا يهوديت ابنة بيري الحثي وبسمة بنت إيلون الحثي تقحمان عليه البيت وتضحيان كنتين إذ جاء بهما عيسو زوجتين تدخلان بما فيهما من الشر والوثنية إلى عقر داره، وعانى إسحق ورفقة ما عانيا، من هذه الوثنية الشريرة داخل البيت،.. ولم يقف عيسو عند هذا الحد، بل كان زانياً بكل ما تحمل الكلمة من معناها الحرفي!!.. كان عيسو في الحقيقة حيواناً في صورة إنسان، ومهما يكن جسمه الأشعر وفروته الحمراء، فهو على أي حال حيوان كالدب القطبي الجميل الفروة، مهما تسليت بمنظره أو حدقت الرؤية في شكله فهو أولاً وأخيراً حيوان، وحيوان متوحش، حتى ولو كان جميل المنظر، غزير الفروة، رائع البنيان!!.. عيسو فاقد البركة علم إسحق –ولاشك- بالصفقة بين ولديه، وتبادل مركز البكورية بالقسم بينهما، وكان ولا شك أسبق علماً بالنبوة الخاصة بكليهما، عندما قال الرب لرفقة: "في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير" وكان من الطبيعي –والحالة هكذا- أن يعرف إسحق، من هو صاحب البركة والمستحق لها،.. غير أن إسحق كما أشرنا في الصراع بين عقله وعاطفته، استجاب للنداء العاطفي دون نداء العقل والحكمة والصوت السماوي،.. ولا نستطيع أن نفسر معنى القول: "فارتعد إسحق ارتعاداً عظيماً جداً وقال فمن هو الذي اصطاد صيداً وأتى به إليَّ فأكلت من الكل قبل أن تجيء وباركته. نعم ويكون مباركاً" دون أن ندرك أنه في تلك اللحظة التي صعق فيها بما حدث، ثاب إلى رشده، وأدرك أنه مهما تكن عواطفه فإن مشيئة الله أصدق وأحق وأعظم،.. ولهذا صاح في مواجهة بكره: "نعم ويكون مباركاً".. وهنا صرخ عيسو صرخته المرة الأليمة، وأدرك فداحة ما ضاع منه، ولم تكن صرخته تعبيراً عن التوبة الحقيقية لما أضاع بحماقته واستباحته، أو رجوعاً عن الحياة الملوثة التي يتمرغ فيها، أو اقتراباً إلى الله العلي الذي جهله ونسيه أياماً بلا عدد، بل هي نوع من الإحساس بالخسارة التي يحس بها المجرم إذا سجن، والمريض إذا سقط فريسة مرضه المتولد عن الخطية، أو التلميذ الذي يرسب في الامتحان نتيجة إهماله وعدم مذاكرته، أو ما أشبه، دون أن تتحول إلى تغيير الحياة والنهج والأسلوب، ويكفي أن تسمع أنه كان يصرخ لأبيه أن يعطيه بركة ولو صغيرة إلى جانب ما استأثر به أخوه من بركات جليلة مجيدة عظيمة!!.. ولعله من الملاحظ أن الشراح وهم يفسرون قول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع ".. اختلفوا في المقصود بالتعبير: "طلبها بدموع" فرد البعض إلى البركة وليس إلى التوبة آخذين القرينة مما جاء في سفر التكوين، إذ لم تكن صرخة عيسو هناك تعبيراً عن توبة، بل كانت حزناً على خسارة وضياع أصاباه بقسوة بالغة فيما لم يكن قد تنبه إليه سابقاً بفطنة أو تأمل أو وعي،.. وهل كانت صخرة فرعون إلى موسى وهرون توبة عندما قال: "أخطأت إلى الرب إلهكما وإليكما، والآن أصفي عن خطيتي هذه المرة فقط".. لقد كانت رعباً من الضربات المتلاحقة، دون أدنى إحساس بالاتجاه الصحيح أمام الله، وهل كانت صيحة شاول بن قيس تعبيراً عن التوبة، عندما قال لصموئيل: "أخطأت لأني تعديت قول الرب وكلامك لأني خفت من الشعب وسمعت لصوتهم" بقدر ما هي أسى وأسف لقضاء الرب الذي حكم به عليه؟.. إن التوبة الصحيحة أمام الله هي التي ينظر الإنسان فيها إلى الإساءة إلى الله ومجده، قبل أن يراه نوعاً من الخسارة البشرية في شيء، ولذلك قال داود معبراً عنها في خطيته الكبرى: "إليك وحدك أخطأت والشر قدام عينيك فعلت".. لكن هذ لم يكن عند عيسو أو معروفاً لديه،.. وقد شجع هذا الشراح الآخرين إلى أن يردوا الكلمة إلى التوبة، ولكنها ليست توبة عيسو، بل هي بالأحرى توبة إسحق التي لم تستطع دموع عيسو أن تغير فكره واتجاهه، بعد أن ارتعد ارتعاداً عظيماً، لأنه أدرك أنه كان موشكاً أن يقع في أقسى خطأ لو أنه أعطى البركة لعيسو، وهي معطاة من الله للابن الآخر الأصغر!!.. وهو إذ يقف من ابنه الصارخ الباكي لا يستجيب على الإطلاق لبكائه ودموعه، إذ كان قد تاب عن الفعل الذي رتب أن يفعله مخالفاً المشيئة الإلهية العالية، ومن ثم نراه يصيح وهو يتمشى وراء هذه المشيئة العظيمة: "نعم ويكون مباركاً".. وأياً كان اتجاه هذا التفسير أو ذاك،.. فإن العلامة الأساسية في كل توبة، هو تحول الاتجاه الكامل عن الماضي، الأمر الذي لم يحدث في حياة عيسو من قرب أو بعد، والذي سار في طريقه البشع إلى النهاية، مما أخرجه تماماً من كل بكورية أو بركة، كانت أساساً له، ثم فقدها بما عاشه من حياة الاستباحة والزنا والبعد المتوالي عن الله في أرض الوثنية والشر!!. عيسو والمصير التعس وأي مصير تعس أكثر من أن يوصف بأنه الإنسان الذي يبغضه الله: "وأبغضت عيسو".. وهل يمكن أن تحل كارثة إنسان أكثر من أن يكون مكروهاً من الله،.. ما أوسع الفرق بين مشاعر الله ومشاعر الناس خطاة كانوا أو قديسين، هذا الرجل الذي أحبه الحثيون والذي سار وراءه أربعمائة رجل، يرون فيه فخر الرجال ومجدهم وعظمتهم،.. هذا الرجل الذي فتنت به الحثيات، وتطلعن إليه كما يتطلع العالم إلى الأبطال والجبابرة والعظماء،. هذا الرجل الذي أحبه أبوه من جماع قلبه، وكان يرى فيه صورة متلالئة مضيئة للرجولة والبهاء والعظمة،.. هذا الرجل بعينه كان مكروهاً وممقوتاً ومبغضاً من الله، أيها الشاب!!.. أيها الشابة: هل عرفتما السر في ذلك؟ كان ذلك لأن عيسو كان موجوداً أمام العالم، ولكنه ميت أمام الله،.. وكان ممدوحاً من البشر، وهو والقيء سواء عند الله،.. وأنت أيها الشاب، وأنت أيها الشابة: احذرا من أن يبيع واحد منكما بأي ثمن بكوريته وامتيازه، وبركته وحياته ومجده أمام الله العلي، احذرا أن تريا الأحمر في طبق عدس أو حفل ماجن، أو رقصة خليعة، أو شرود هناك أو هنا من صور التجارب المختلفة في الأرض فتعزيا بالباطل، وتدفعا أقسى ثمن إذ تطيحا بنقاوتكما وبكوريتكما وبركتكما!!.. لم يكن عيسو ضياعاً لنفسه وحده، بل كان أكثر من ذلك أصل مرارة، يصنع الضياع والانزعاج والمرارة في حياة الآخرين،.. ومن الناس من يكون نبعاً صالحاً يرتوي، ويروي غيره من الناس بالماء العذب القراح،.. ومن الناس من يكون على العكس نبع مرارة لا ينتهي لنفسه وجيله وعصره وأجيال أخرى تتعاقب وتأتي في أثره، وكان عيسو كذلك،.. ولا تحسبن عيسو –وهو يقود أربعمائة رجل وهو بمثابة الزعيم- إنه كان سعيداً، كلا وألف كلا، فإن الذي ينحرف عن خط الحياة الإلهي، والذي يحتقر البكورية والبركة، والذي يتمشى على رأس الناس في العالم، يمكن أن يأخذ كل شيء، ولكنه لابد أن يأخذ كأس العلقم والافسنتين والمرارة جزاءاً وفاقاً للبعد عن الله، لأنه لا سلام قال إلهي للأشرار،.. وعيسو الذي أدخل يهوديت وبسمة إلى بيت أبيه وأمه، فكانتا كلتاهما مرارة لإسحق ورفقة لابد أنه أدخل المرارة لا إلى بيته فحسب الذي لم يعد يعرف هدوءاً أو أمناً أو سلاماً، بل مد المرارة إلى كل من عاشره أو اتصل به أو تعاقب بعده، وهل يمكن لإنسان أبغضه الله، وحلت لعنة القدير عليه بعد أن فقد بركته إلا أن يكون كذلك؟.. عندما رفع عيسو صوته أمام أبيه وبكى وأخذ إسحق يبحث له عن بقايا من بركة هنا أو هناك: "قال له هوذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك، وبلا ندى السماء من فوق. وبسيفك تعيش ولأخيك تستعبد. ولكن يكون حينما تجمح أنك تكسر نيره عن عنقك".. وهكذا عاش أدوم في الصراع لأجيال طويلة مع شعب الله، حتى سمع القول الإلهي الرهيب المخيف: "من أجل ظلمك لأخيك يعقوب يغشاك الخزي وتتعرض إلى الأبد يوم وقفت مقابلة يوم سبت الأعاجم قدرته ودخلت الغرباء أبوابه وألقوا قرعة على أورشليم كنت أنت أيضاً كواحد منهم.. كما فعلت يفعل بك. عملك يرتد على رأسك".. أيها الشاب.. أيتها الشابة: احذرا من بيع البكورية، وفقد البركة، والطريق الذي سلكه عيسو فانتهى به إلى الكارثة والضياع والخراب الأبدي!!..
المزيد
28 يوليو 2022

شخصيات الكتاب المقدس عوبديا

عوبديا " وإن كان عشك موضوعا بين النجوم فمن هناك احدرك يقول الرب "" عو 4 " مقدمة لا يكاد المرء يعلم شيئاً عن عوبديا النبى، سوى أنه « عابد الرب » أو « خادم الرب » على ما يفهم من معنى اسمه فى اللغة العبرانية، فهو الإنسان الذى يعبد الرب أو يخدمه، وسفره أصغر سفر فى العهد القديم، على أن نبوته كانت - كما هو واضح - عن أدوم، وتقع أرض أدوم شرقى البحر الميت على طول مائة ميل، وعرض عشرين ميلا من أقصى جنوب البحر حتى خليج العقبة، والأرض غير مستوية وجبلية، ممتلئة بالشعاب والمسالك الوعرة، فهى تشبه إلى حد كبير حياة من سكنوها من أبناء أدوم، وأدوم هو عيسو، وقد كان أخا يعقوب، وكما تزاحما فى بطن أمهما، هكذا تزاحم نسلاهما وتصارعا، وقد كان أبناء أدوم كأبيهم، أدنى إلى الوحشية وأقرب، وكانوا شوكة فى جنب الإسرائيليين، وقد ضايقوهم فى عصور متعددة، وانتهزوا فرص هجمات الآخرين عليهم، وتعاونوا على مضايقتهم،... ولذلك رأى عوبديا رؤياه التى كشفها الرب له ضد الأدوميين، ومن خلال رؤياه ستعرف - ما أمكن - على طبيعته، ورسالته، وما من شك بأنه، وهو يندد بشر الأدوميين وصفاتهم القبيحة، كان يكشف فى الوقت نفسه، عن خبيئة نفسه، وكراهيته للخطايا التى يندد بها ولعلنا نستطيع بذلك أن نتابعه فيما يلى:- عوبديا ومحاجئ الصخر كان أدوم يعيش بين محاجئ الصخور، وقد بنى بيوتاً منحوته فى الصخر، ولعله وهو يبنى هذه البيوت، كان يهنئ عبقريته التى تلوذ بالحصون التى لا يمكن اقتحامها،... كان أدوم شديد الاعتداد بعقله وذكائه وحكمته، شأنه فى ذلك شأن كل إنسان لا يعلم أن العقل البشرى، مهما وصل فإنه أحمق وضعيف، إذا لم يأخذ حكمته من اللّه،... وكان عوبديا كعبد أو خادم للّه، يرجع فى كل ما يعمل، إلى الحكمة السماوية النازلة من السماء!... فى أيام الثورة الفرنسية عندما أرادوا أن يلغوا الدين والعبادة، أقاموا معبوداً دعوه « العقل البشرى »... وكانوا يقولون إن العقل هو الإله الذى ينبغى أن نعبده،... والعقل البشرى يحاول اليوم وهو يغزو الفضاء، أن يصنع عشه هناك بين النجوم، إلى الدرجة التى قال فيها « جاجارين » الروسى، وهو يسبح فى الفضاء، إنه بحث عن اللّه هناك ولكنه لم يره،... وهيهات له ولأمثاله أن يروا اللّه، لا لأن اللّه غير موجود، فهو يملأ كل مكان، بل لأنه هو أعمى لا يستطيع أن يبصر أو على حد قول الرسول بولس: « إذ معرفة اللّه ظاهرة فيهم لأن اللّه أظهرها لهم لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولا هوته حتى أنهم بلا عذر. لأنهم لما عرفوا اللّه لم ليمجدوه أو يشكروه كإله بل حمقوا فى أفكارهم وأظلم قلبهم الغبى » " رو 1: 19 - 21 ".. وكما قضى اللّه على جا جارين، سيقضى على كل متحصن وراء عقله ليقول له: « وإن كان عشك موضوعاً بين النجوم فمن هناك أحدرك »... ومن المعلوم أن أدوم كان يتحصن وراء شئ آخر، ثروته المنيعة، والمحفوظة بكيفية يستحيل على المقتحم أو المهاجم أن يصل إليها، وهو فى محاجئ الصخر، وما أكثر الذين يفعلون اليوم فعل أدوم، من أمم وجماعات وأفراد، إذ يتحصنون وراء الثروات الخرافية التى يظنون أنها تحميهم من كدارات الحياة، أو هجمات الأيام والأزمان، وهم يجلسون على تلال من ذهب، لم تعد تكفيهم الألوف أو الملايين، بل دخلوا فيما يطلق عليه البلايين والمليارات!!.. لقد بنوا أعشاشهم فوق الريح كما يقال، ووزعوا أموالهم كاليهود فى سائر أرجاء الأرض،... ولكن كلمة عوبديا تلاحقهم فى كل زمان ومكان: « وإن كان عشك موضوعاً بين النجوم فمن هناك أحدرك يقول الرب »... على أن محاجئ الصخر كانت عند أدوم شيئاً آخر، إذ كانت تمثل القوة،... فبلاده لا يسهل اقتحامها، على أنه من المثير والغريب فى تاريخ الجنس البشرى أن القوة المادية أو العسكرية، والتى يبنيها الإنسان لحمايته والدفاع عنه، تتحول آخر الأمر إلى وحش غير مروض، ويكون صاحبها فى كثير من الأوقات أول ضحاياها، ولعله مما يدعو إلى العجب، أن أقوى دولتين فى العالم الآن، وهما الولايات المتحدة وروسيا الإتحادية وما تملكان من قنابل ذرية وهيدروجينيه، هما أكثر الدول رعباً وخوفاً من الحرب، ومن قوتها المدمرة،... ومهما تحصن الإنسان، ووصل إلى النجوم ليجعلها مراكز غزو فى الفضاء، فإن كلمة عوبديا النبى تلحقه هناك: « وإن كان عشك موضوعاً بين النجوم فمن هناك أحدرك يقول الرب ».. عوبديا وشر أدوم كان الشر القاسى لأدوم، أنه عاش بلا إله، فهذا هو الذى وضع فاصلا بينه وبين أخيه يعقوب،... وقد ورث أبناؤه عنه هذه السمة، فتحولوا عن اللّه، واستقلوا، وعاشوا بلا إله فى العالم، وبنوا عظمتهم على أساس الاستقلال عن اللّه، وعندما يبنى الإنسان عشه بعيداً عن اللّه، فإنه يبنى الكارثة لنفسه مهما كانت عظمته بين الناس!!... ولعل دراسة التاريخ فى ذلك خير شاهد على الحقيقة،... لقد حاول الشيطان أن يبنى عظمته على أساس الاستقلال عن اللّه: « والملائكة الذين لم يحفظوا رياستهم بل تركوا مسكنهم، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم بقيود أبدية تحت الظلام » " يهوذا 6 " وسقط آدم وحواء فى نفس التجربة إذ أرادا أن يكونا مثل اللّه، فطردا من جنة عدن، ليسجل التاريخ مأساة البشر الكبرى فى كل العصور،... لقد خدعتهما الحية بالاستقلال عن اللّه،... ورفض المسيح التجربة عندما حاول الشيطان أن يجربه بالاستقلال:... إن خررت وسجدت لى أعطيك!!.. عندما خرج قايين من حضرة اللّه، إلى أرض نود أو أرض البعد، خرج إلى التيه والضياع، والعذاب، الذى لاحقه الحياة كلها!!.. كانت مأساة الابن الضال القاسية، هى بعده عن بيته، ولم يتذوق الراحة، حتى عاد إلى بيت أبيه، بل ما يحمل البيت من حياة وهدوء وسلام وأمن وراحة، وتعلم ألا يستقل عن أبيه البتة!!.. وكان أدوم آثما إلى جانب ذلك بالكبرياء التى ملأت قلبه، كان الأدومى عملاقا فى الجسد، متحصناً وراء ما سبقت الإشارة إليه سواء فى الذهن أو الثروة أو القوة، ومن ثم ذكر عوبديا « تكبر قلبك » أو خطية الكبرياء والتى لحقت بالكثيرين ممن حاولوا أن يبنوا عشهم بين النجوم. وهل ننسى وصف إشعياء فى الأصحاح الرابع عشر وهو يهجو ملك بابل: « كيف باد الظالم بادت المتغطرسة... الهادية من أسفل مهتزة لك لاستقبال قدومك منهضة لك الأخيلة جميع عظماء الأرض. أقامت كل ملوك الأمم عن كراسيم كلهم يجيبون ويقولون لك أ أنت أيضاً قد ضعفت نظيرنا وصرت مثلنا. أهبط إلى الهاوية فخرك رنة أعوادك تحتك تفرش الرمة وغطاؤك الدود كيف سقطت من السماء يازهرة بنت الصبح؟ كيف قطعت إلى الأرض ياقاهر الأمم. وأنت قلت فى قلبك أصعد إلى السموات أرفع كرسى فوق كواكب اللّه وأجلس على جبل الاجتماع فى أقاصى الشمال. أصعد فوق مرتفعات السحاب. أصير مثل العلى. لكنك انحدرت إلى الهاوية إلى أسافل الجب. الذين يرونك يتطلعون إليك يتأملون فيك. أهذا هو الرجل الذى زلزل الأرض وزعزع الممالك؟ » " إش 14: 4 - 16 " وما أكثر الذين جاءوا بعد ملك بابل لينالوا المصير نفسه، نابليون بونابارت، وهتلر، وموسولينى وأمثالهم كل هؤلاء الذين بنوا عشهم، بين النجوم، ومن هناك أحدرهم اللّه القادر على كل شئ!!.. وكان أدوم أيضاً مصاباً بنعرة الجنس، ولم يعد يبالى بأخيه يعقوب، بل يناصبه العداء، وقد فقد كل عواطف الأخوة،... وما يزال العالم إلى اليوم يعانى، أقسى المعاناة من التعصب الجنسى،... كان سسل رودس يقول عن الشعب البريطانى إنه أعظم شعب فى العالم، وها نحن إلى اليوم نرى المشكلة الروديسية بين البيض والسود، وكأنما يلوم البيض اللّه لأنه خلق أجناساً سوداء اللون،... كان فوليتر يقول: سيأتى الوقت الذى يقال مدحاً فى الآخرين: هذا فرنسى المذاق.. وقال أحد السياسيين الأمريكيين: إن اللّه لم يصنع شيئاً أو أحداً يساوى الأمريكيين، ولا أظن أنه سيصنع!!.. وهل هناك حماقات تؤذى البشر أكثر من هذه الحماقات!!؟. وقد تمكنت من أدوم عاطفة من أقبح العواطف وأثرها فى الإنسان، وهى عاطفة الشماتة فضلا عن أنها عاطفة بغيضة جداً فى نظر اللّه إذ هى تيار أسود ملئ بالحقد والضغينة وعدم المروءة، فهى أمر غير إنسانى وقبيح، فمن سوء الأخلاق وضعتها وانحطاط النفس، أن نقف من تعاسات الآخرين وعجزهم وضعفهم موقف المتشفى المبتهج بهذا العجز والألم والتعاسة والضيق!. ولم يقف أدوم عند حدود الشماتة، بل تعدى الأمر إلى الظلم متمشيا مع التعبير الشعبى القائل: عندما تقع البقرة تكثر السكاكين،... وعندما حدثت المأساة لشعب اللّه، فرح أدوم، واتهمهم بكل نقيصة وشر، ووسع دائرة الاتهام، وألصق بهم مالم يفعلوه، وحملهم النتائج القاسية التى وصلوا إليها.. مع أن الخصم النبيل ولا نقول الأخ،... هو الذى لا يضرب إنساناً ساقطاً أمامه!!.. ولا يجهز على بائس مسكين يترنح من الضربات التى تكال له!!.. لكن أدوم أكمل شره بالقساوة الباغية، فقد تربص للضعفاء الهاربين من الغزو على مفارق الطرق ليقضى على المنفلتين، وهم فى عمق بؤسهم وضيقتهم، بشدة ولؤم وخسة!!.. عوبديا وخداع أدوم سقط أدوم فريسة الخداع، ويبدو أن خداعه جاء من اتجاهين: خداع الأصدقاء، وخداع النفس: « طردك إلى التخم كل معاهديك. خدعك وغلب عليك مسالموك. أهل خبزك وضعوا شركاً تحتك. لا فهم فيه »... " عو 7 " والذين يخدعون الآخرين قد يكونون مدفوعين بالخوف أو التملق أو المصلحة،... كان نيرون صاحب صوت منكر، ولكنه كان يعتقد أن صوته من أرخم الأصوات، وكان يلزم الآخرين أن يسمعوا غناءه، وكانوا يبدون إعجابهم الكبير بالصوت، خوفاً على حياتهم من بطشه وانتقامه،... وقد تملق الصوريون والصيداويون وهم « يلتمسون المصالحة لأن كورتهم تقتات من كورة الملك، وفى يوم معين لبس هيرودس الحلة الملوكية وجلس على كرسى الملك، وجعل يخاطبهم. فصرخ الشعب: هذا صوت إله لا صوت إنسان. ففى الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعط المجد للّه. فصار يأكله الدود ومات.. » " أع 12: 20- 23 " والإنسان متى سمح للآخرين أن يخدعوه، فسينتهى به الأمر إلى الاتجاه الآخر، إن يخدع نفسه بنفسه، « تكبر قلبك قد خدعك » " عو 3 ".. «والقلب أخدع من كل شئ وهو نجيس من يعرفه ». " إر 17: 9 " والإنسان من تاريخه الأول إلى اليوم ضحية الخداع،.. وكما ذهب الشيطان إلى أبوينا الأولين فى جنة عدن، وبدأ معهما هناك بقصة الخداع، فهو إلى اليوم يضلل ويخدع فى كل مكان وزمان!!.. ولعله يوحنا ويسلى الذى وعظ ذات يوم عظة رائعة عظيمة، وما أن نزل من المنبر، حتى استقبله أحد السامعين بالقول... « ما أروعها وأعظمها من عظة ». وإذا بالواعظ العظيم يقول: لقد قال لى غيرك ذلك!!.. وقال السامع: ومن هو!!؟ وأجاب الواعظ: إنه الشيطان!!؟.. قالها له قبل أن ينزل من فوق المنبر،... وإذا كان يفعل ذلك فى أقدس الأماكن، فكيف يكون الأمر فى أحطها وأشرها؟!!. عوبديا وسقوط أدوم ونتعرض أخيراً لسقوط أدوم البشع، ولعل أول مظهر من مظاهر سقوطه، كان فى الفرصة الضائعة، لقد أصيب أخوه يعقوب بالنكبة التى كانت تقتضى منه المسارعة إلى المعونة، لا الوقوف موقف المتفرج، أو الإجهاز على بقايا المنفلتين. وما أكثر ما يقف الناس على الطريق فى موكب الحياة، موقف أدوم القديم: « يوم وقفت مقابله يوم سبت الأعاجم قدرته ودخلت الغرباء أبوابه وألقوا قرعة على أورشليم كنت أنت أيضاً كواحد منهم. ويجب أن لا تنظر إلى يوم أخيك يوم مصيبته ولا تشمت ببنى يهوذا يوم هلاكهم ولا تغفر فمك يوم الضيق. ولا تدخل باب شعبى يوم بليهم. ولا تنظر أنت أيضاً إلى مصيبة يوم بليته ولا تمد يداً إلى قدرته يوم بليته. ولا تقف على المفرق لتقطع منفلتيه ولا تسلم بقاياه يوم الضيق »... " عو 11 - 14 " وما أكثر ما يفعل الناس هكذا وهم مشغولون بأنانيتهم وكبرياء قلوبهم.. فى أسطورة وثنية قديمة، أن واحداً من الرؤساء القدامى حفر بئراً، وأمر بألا يشرب منها أحد غيره وغير عائلته، وكانت النتيجة أن البئر لم تعط ماء، فطلب العرافين الذين قالوا له إن البئر لا يمكن أن تعطى ماء إلا إذا شارك الشعب فى الانتفاع بها، فما كان منه، مدفوعاً بأنانيته، إلا أن يصدر قراراً بأن يشرب الشعب منها فى الليل، وهو وبيته يشربون منها فى النهار،... وحدث أن البئر فاضت بالماء عند غروب الشمس، وظلت طوال الليل تعطى ماء، وفى الصباح جفت، وعندئذ علم أن المشاركة الصحيحة هى أن يشرب هو والشعب فى وقت واحد،... وفاضت البئر عندئذ ليلا ونهاراً.. إن الحياة فى حقيقتها هى الإيثار لا الاستئثار وهى الخدمة الباذلة المضحية، وليست الأنانية أو الوصولية أو النفعية التى يعيشها ملايين الناس على الأرض!!.. فى ساحة إحدى الكنائس عبارة مكتوبة: « ما أعطيه أملكه وما أحفظه أفقده »،.. لقد زمجر عاموس - فيما ذكرنا عند التعرض لشخصيته - لحياة الأنانية التى تنسى آلام الآخرين: « ويل للمستريحين فى صهيون.. أنتم الذين تبعدون يوم البلية وتقربون مقعد الظلم، المضطجعون على أسرة من العاج والمتمددون على فرشهم والآكلون خرافاً من الغنم وعجولا من وسط الصيرة، الهاذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر والذين يدهنون بأفضل الأدهان ولا يغتمون على انسحاق يوسف ».. " عا 6: 1 - 6 " إن الأنانية وحدها بشعة كل البشاعة، ولكنها أكثر بشاعة عندما تكون فى مواجهة النفس والمنكوب والمتألم والمتضايق!!.. وسقط أدوم أيضاً عندما لم يدرك أن الزمن دوار، وطوبى للرحماء لأنهم يرحمون.... فى أساطير عيسوب أن الحمار الضعيف المسكين توسل إلى زميله الحصان أن يحمل عنه بعض حمله، وقال له إنه إن لم يفعل فالنتيجة ستكون أنه سيموت، وسيحمل الحصان الكل،... ولم يبال الحصان بالكلام، فسقط الحمار تحت ثقله ومات، ونقل صاحبهما كل حمل الحمار ووضعه على الحصان، بل أكثر من ذلك أنه وضع عليه جثة الحمار الميت، وقال الحصان: يا لى من أحمق! لقد رفضت أن آخذ شيئاً من حمل الحمار، وها أنا لا آخذ حمله فحسب، بل أحمل جثته أيضاً!!.. لعل من أطرف ما قيل، أن أحد المرسلين - وكان جراحاً فى مدارس بالهند رأى ذات يوم عند بابه كلباً صغيراً مكسور القدم، فما كان منه إلا أن جبر ساقه، وقال المرسل إن الشئ الغريب الذى حدث أنه أحس بخربشة فى اليوم التالى عند الباب وعندما فتح الباب وجد الكلب، وقد صحب كلباً آخر صغيراً مكسور الساق، وقد جاء به ليعالج،.. لئن صحت الرواية، فإن الإنسان مرات كثيرة يكون أحط من الحيوان، وأكثر أنانية،... ولعل هذا ما حد برئيس الأساقفة هو يتلى أن يقول: إذا سألتنى أن أخبرك عما يسبب الاضطراب الأكبر، والذى يهدد بأقسى الأخطار، فإنى أستطيع أن أقول لك إنك إذا تطلعت إلى المرآة، هناك سترى أصدق صورة لذلك!.. ومن المؤسف حقاً أن الناس فى كثير من أدوار الحياة تنسى أن الدنيا لا تبقى إنساناً على حال فهى ترفع المنخفض، وتخفض المرتفع، وهى تغنى الفقير وتفقر الغنى، وهى تقوى الضعيف، وتضعف القوى.. إنها الساقية التى تدور بسرعة أو ببطء، لكنها على أية حال تدور!!... وقديماً قال أحدهم للنعمان: إن كنت تعلم يا نعمان أن يدى قصيرة عنك، فالأيام تنقلب وقال آخر: أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتى به الغير وسالمتك الليالى فاغتررت بها وعند صفو الليالى يحدث الكدر والمثير فى الأمر على الدوام، أن الجزاء من جنس العمل: « كما فعلت يفعل بك، عملك يرتد على رأسك. لأنه كما شربتم على جبل قدسى يشرب جميع الأمم دائماً يشربون ويجرعون ويكونون كأنهم لم يكونوا » " عو 15 و16 ".. عندما قبض الإسرائيليون على أدونى بازق وقطعوا أباهم يديه ورجليه، قال الرجل: « سبعون ملكاً مقطوعة أباهم أيديهم وأرجلهم كانو يلتقطون تحت مائدتى. كما فعلت كذلك جازانى اللّه »... " قض 1: 7 " وقال جدعون، « لزبح وصلمناع: كيف الرجال الذين قتلتماهم فى تابور؟ فقالا مثلهم مثلك. كل واحد كصورة أولاد ملك. فقال هم اخوتى بنو أمى. حى هو الرب لو استحييتماهم لما قتلتكما ».. " قض 8: 18 و19 " ولم يدر هامان وهو يجهز الصليب المرتفع ليصلب عليه مردخاى، أنه يجهز لنفسه المصير التعس الذى سيصل إليه!!.. كان أدوم يرى نفسه، كما لاحظنا، القوة والمنعة، وهو « القائل فى قلبه من يحدرنى إلى الأرض » (عو 3) لقد وضع عشه بين النجوم أو أعلى من أن تصل إليه يد بشرية، ولكن المثل الشائع يلحقه: ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع لقد فكر أدوم فى قدرة البشر وهو يلقى على نفسه السؤال: « من يحدرنى إلى الأرض »،... ونسى أنه توجد يد أعلى من كل يد بشرية، خالقة الكواكب والنجوم ذاتها،... « ومن هناك أحدرك يقول الرب!!... " عو 4 " وحسب المقاييس البشرية ماذا ينقص أدوم وقد ارتفع بعشه فوق الزوابع والعواصف والمحن التى تتلف الكرة الأرضية، ولكنها تغلف جوها دون أن تبلغ النجوم، أما الذى يبلغ من المناعة ما يعلو به على الريح، فهو آمن من ثورة الطبيعة والإنسان، ومن غدر الزمان، كما يحلو للمخدوع أن يتصور ولكن هذا الإنسان، فرداً كان أو أمة، ينسى أن المصير دائماً تحكمه اليد الإلهية العليا،... وأن هذه اليد تسمح أن يرتفع الجبار إلى أعلى ما يتصور الخيال البشرى، حتى يسقط سقوطاً ملحوظاً من كل البشر، بل ومن كل التاريخ أيضاً!!.. ويكون سقوطه عظيماً!!.. كان سقوط أدوم رهيباً، لأنه كان سقوطاً من النجوم العالية إلى الأرض أو الحضيض كما يقولون،... وها نحن لا نعرف عن أدوم الآن شيئاً، لقد ضاع وانتهى إلى الأبد، وتحولت جباله وصخوره إلى مقابر رهيبة لمجده وجلاله ومتعته وتاريخه بأكمله،ونحن لا نستطيع أن ننهى القصة دون أن نتعمق إلى ما هو أعظم وأكمل وأبهى، إذ أن الدورة عادت لتصحح الوضع المقلوب، لقد أضحى القوى ضعيفاً، وعاد الضعيف قوياً، وجاءت نهاية أدوم بيد يعقوب جزاءاً وفاقاً لإثمه وشره وخطيته وحقده وانتقامه، ولذلك نقرأ: « ويكون بيت يعقوب ناراً وبيت يوسف لهيباً وبيت عيسو قشا فيشعلونهم ويأكلونهم ولا يكون باق من بيت عيسو لأن الرب تكلم »... " عو 18 " ونحن نسأل عن السر، وهل هو نوع من الانتقام رد به يعقوب على عيسو فى يوم من الأيام!!.. لا نظن إذ أن الأمر أعلى وأسمى، وليس هو مجرد صراع بين جماعات تدور بها الأيام وتلف، بين غالب ومغلوب، لقد أعطانا عوبديا الصورة الصحيحة الحقيقية، إذ ختم نبوته بما يمكن أن نطلق عليه « مسك الختام » فى القول: « ويكون الملك للرب »... " عو 21 " وهذا يحولنا بدورنا من الأرض أو النجوم، إلى من هو فوق الاثنين، إلى الحاكم المطلق الأبدى الذى يضع ولا أحد يرفع، ويرفع ولا أحد يضع!!.. ويقود التاريخ فى كل أدواره صوب النهاية المؤكدة، التى تجعلنا نغنى مع عوبديا بكل بهجة ويقين: « ويكون الملك للرب »..!!..
المزيد
21 يوليو 2022

شخصيات الكتاب المقدس عزرا

عزرا " عزرا هذا صعد من بابل وهو كاتب ماهر فى شريعة موسى "" عز 7: 6 " مقدمة ربما كان عزرا، صاحب المنبر الخشبى، هو أول واعظ فى كل التاريخ، بالمعنى المألوف المعروف الذى نراه الآن فى التفسير والتعليم والوعظ بين الناس!!... وقد سبقه - ولا شك - الكثرون من القادة والأنبياء والملوك الذين تحدثوا بكلمة اللّه إلى الناس بكل حماس وقوة وحمية، فى الحض والزجر والوعظ،... غير أن عزرا يكان يكون الأول من نوعه، الذى صنع منبراً خشبياً، وجمع الناس حوله ليعظهم ويشرح لهم كلمة اللّه، على النحو المألوف الآن عند جميع الوعاظ فى كل مكان،... وحق للبعض أن يدعوه لذلك أبا الوعاظ وأمراء المنابر فى كل التاريخ!!... ومن المهم أن تعلم أن عزرا الكاهن كان أول « كاتب » فى شريعة موسى، بالمعنى الذى عرف به نظام « الكتبة » المشهور فيما بعد!!... أى أن الرجل الذي لا ينسخ الشريعة فحسب، بل يعلمها ويشرحها للناس،... كانت كلمة « الكاتب » قبل عزرا، تقصر على الناسخ الذى ينسخ الكلمة، كباروخ الذى كتب لإرميا،... لكن عزرا الكاتب أعطى الكلمة مفهوماً أعمق وأقوى... فهو الناسخ والشارح الذى يتعمق فى فهمها والوعظ بها للناس، وقصته جديرة بأن تروى للمؤمنين عامة، وللواعظ على وجه الخصوص. ولعلناً نلاحظه بعد ذلك فيما يلى: عزرا من هو!!؟ عندما سقطت بابل العظيمة أمام جحافل الفرس عام 538 ق.م. واعتلى كورش الفارسى عرش الإمبراطورية العظيمة، كان من أول أعماله أن سمح للمسبيين من اليهود الذين سباهم نبوخذ ناصر أن يرجعوا إلى بلادهم كما سبقت الإشارة فى دراسة شخصية زربابل، وقد تمكنوا بعد متاعب كثيرة من بناء الهيكل وتدشينه، وإقامة العبادة فيه حوالى عام 516 ق.م.، وأعقب ذلك فترة تبدلت فيها الأحوال، واختلط الراجعون من السبى بالوثنيين وتزاوجوا معهم، وضعفت عزيمتهم وروحهم المعنوية والدينية، وباتوا فى أمس حاجة إلى مصلح وهاد وواعظ، وقد تحقق لهم ذلك فى شخص عزرا الكاهن الكاتب، الذى أعطاه ارتحشستا الملك عام 458 ق.م. الأمر بالذهاب إلى أورشليم، هو ومن يريد أن يذهب معه من الباقين من السبى فى بابل، وأعطاهم الملك أموالا وقرابين وذبائح تقدم لبيت اللّه. وقد وصل عزرا ومعه حوالى 1700 رجل إلى أورشليم بعد خمسة شهور، وهناك قام بإصلاحه العظيم، وانقضى على ذهابه ثلاثة عشر عاماً، لاندرى هل عاد بعدها إلى بابل أم بقى فى أورشليم؟، وكل الذى نعلم أنه ظهر بعد هذه الفترة إلى جانب نحميا الوالى، وظهر ليكون معلم الأمة وواعظها، والأمير الأول من أمراء المنابر فى التاريخ.ولعله من المناسب أن نذكر أن هذا الرجل كان من سبط لاوى، وقد دون فى سفره نسبه حتى هرون الرأس. وكان حلقياً الكاهن، جده القريب، هو الذى اكتشف سفر الشريعة: فى بيت الرب، ولعل أحداً قص على عزرا الذى ولد فى السبى، ماذا فعل يوشيا يوم قرىء السفر أمامه، وكيف مزق ثيابه، واتضع أمام الرب، وقام باصلاحه العظيم،... وعلى أية حال، فإن عزرا اكتشف هو بنفسه هذا السفر عندما قيل عنه: « هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها » " عز 7: 10 "... ومن المحقق أن عزرا عاش فى بابل وأرشليم، متعظاً بكلمة اللّه، عميق التأمل فيها، يحفظها ويعمل بها قبل أن يطلب من الآخرين العمل بها!!.. وإذا كان من الواضح أن الرجل فوق منبره الخشبى، هو أول الوعاظ وأبوهم بالمعنى المفهوم حديثاِ، فقد حمل دون شك فى أعماقه خصائص الواعظ الناجح، وهذا الواعظ - كما يتعلم الطلاب فى كليات اللاهوت فى علم الوعظ - لا يمكن فصله عن العظة... لأن العظة عند فيلبس بروكس: « أن يقوم إنسان بتوصيل الحق إلى إنسان آخر »... والوعظ بهذا المعنى يشتمل على أمرين: الحق والشخصية، والفرق بين عظة وعظة، أو واعظ وواعظ - هو الفرق فى توافر هذين العنصرين أو غيابهما، أو نقص أحدهما أو اهتزازه أمام السامعين،... ويقول الدكتور جارفى مؤيداً هذا الاتجاه: « إن الوعظ ليس مجرد توصيل معلومات أو معارف، ذلك لأن الوعظ يستغرق شخصية الواعظ كلها، ومن ثم فهو يخاطب شخصية المستمع كلها باعتباره موضوعاً أدبياً أو دينياً، وطالما أن الحق الذى ينادى به ويدعو إليه الوعظ هو أمر يتعلق باللّه والحرية والخلود، كذلك فإن غايته وغرضه هو حفز الإيمان والدعوة إلى النهوض بالواجب وإبقاء جذوة الأمل والرجاء متقدة لا تخبو »... ومن المستحيل الوصول إلى ذلك دون التطلع إلى وجه الواعظ، ومحاولة النظر والتأكد، من أنه يعنى ما يقول، أن أقواله تنبع من وجدانه العميق... ويتفق المختصون بعلم الوعظ على أن من أهم سمات الواعظ أموراً أربعة توفرت بالتمام فى عزرا الواعظ، والكاتب الماهر فى شريعة السماء!!.. ولعل أولها: التقوى!!.. كان عزرا عميق الشركة مع اللّه، وتستطيع أن تبين ذلك، من أنه عاش فى بابل ينهل من الكلمة الإلهية، ويحرص على دراستها وتطبيقها فى حياته. والواعظ الناجح هو المستفيد الأول من العظة،... وقد كانت تقواه بارزة فى أكثر من إتجاه، فهو من أعمق الناس إحساساً بالخطية، ويكفى أن تراه وقد اكتشف فى أورشليم اختلاط الشعب وتزاوجهم مع غيرهم من الشعوب، وقد هاله هذا وأفزعه إلى أبعد الحدود: « فلما سمعت بهذا الأمر مزقت ثيابى وردائى ونتفت شعر رأسى وذقنى وجلست متحيراً، فاجتمع إلى كل من ارتعد من كلام إله إسرائيل من أجل خيانة المسبيين، وأنا جلست متحيراً إلى تقدمة المساء. وعند تقدمة المساء قمت من تذللى وفى ثيابى وردائى الممزقة جثوت على ركبتى وبسطت يدى إلى الرب إلهى. وقلت: اللهم إنى أخجل وأخزى من أن أرفع يا إلهى وجهى نحوك، لأن ذنوبنا قد كثرت فوق رؤوسنا، وآثامنا تعاظمت إلى السماء. منذ أيام آبائنا نحن فى إثم عظيم إلى هذا اليوم، ولأجل ذنوبنا قد دفعنا نحن وملوكنا وكهنتنا ليد ملوك الأرض للسيف والسبى والنهب وخزى الوجوه كهذا اليوم. والآن كلحيظة كانت رأفة من لدن الرب ليبقى لنا نجاه ويعطينا وتدا فى مكان قدسه لينير إلهنا أعيننا ويعطينا حياة قليلة فى عبوديتنا » " عز 9: 3 - 8 " وإذا كان اليهود اللذين حوله لا يرون هذه الرؤية أو يحسون هذا الإحساس، فإن مرجع الأمر هو أنه أعمق حساً وأكثر إدراكاً للذنب والخطية،... ومع أنه هو شخصياً كان بعيداً عن هذا الإثم، إلا أنه كان عميق التقوى، يحس أن خطايا شعبه هى خطاياه، وآثامهم هى آثامه،... وبعدهم عن اللّه، كأنما يشارك فيه على النحو المفزع القاسى البعيد!!... وكان الرجل، إلى جانب هذا، تقياً فى يقينه بإلهه واعتماده عليه،... كانت كلمته المفضلة أو التى هى شعار حياته، يد اللّه الصالحة علينا، " عز 7: 9، 8: 18 " وقد تكررت مرات فى اختباراته الشخصية وعندما سمح له الملك بالذهاب إلى أورشليم على رأس القافلة التى أشرنا إليها، وزوده بالتبرعات السخية، رأى فى ذلك يد اللّه معه، وقد حمل معه تقدمات تقدر بعملتنا الحالية بحوالى مليون ونصف مليون جنيه، ومثل هذه الثروة تغرى اللصوص، وقطاع الطرق، فى رحلة تستغرق خمسة أشهر، وقد أبى عزرا أن يستعين بقوة حارسة أو يطلب من الملك جيشاً وفرساناً لنجدتهم، لأنه كان قد سبق فأخبر الملك: « إن يد إلهنا على كل طالبيه للخير. وصولته وغضبه على كل من يتركه » " عز 8: 22 " فصاموا وصلوا وساروا فى طريقهم مشمولين بالحراسة والرعاية الإلهية حتى وصلوا إلى أورشليم!!... إن التقوى فى الواعظ هى إحدىِ خصائص النفس الروحية، وهى الحماس الأخلاقى البعيد الجذور الذي ينعكس على الاختبار الدائم فى علاقة الواعظ باللّه، وهى علاقة شركة وصداقة ورفقة طيبه يصبح الإنسان بمقتضاها خليلاً للّه، وهى - فى لغة أخرى - تكريس مهيب للّه،.. وهى ليست جامدة ساكنه، بل هى نشطة متحركة تمضى قدماً، متألقة مزدهية بالحق ومجد وفضائل النعمة المسيحية وبركاتها... وهى ليست شيئاً ينتمى إلى عالم آخر، بمعنى العزوف المتكبر والأنطواء المترفع عن حاجيات الناس ومصالحهم، بل هى تختلط بهم وتعاشرهم وتعاملهم، تندمج فى الحياة مزودة بل مسلحة بالفضائل المسيحية، وهى ليست ضعيفة خائرة، بل هى بطلة قوية، وبطولتها متركزة فى إنتصار الروح الرائع على الجسد، وهى الحقيقة الروحية التى لا تتقبل أى تهادن أو تهاون مع الزيف أو الكذب أو الخداع أو التظاهر أو النفاق، وهى فى الواقعية الروحية تعترف بوجود أعداء الحياة فى جوانبها الخلقية والروحية، ومن ثم تتحداهم، وليس من المبالغة فى شئ أن نذكر أن هذه السمة من سمات الروح هى المطلب الأول فى حياة الواعظ، والضمان لتأثيره وأثره إذ أنها تلهب الواعظ نفسه بالغيرة المتقدة بالحماس النارى، وهى التى تبقى الشعلة حية متوهجة وسط كل اللامبالاة الجليدية، التى ما أكثر ما يجد الواعظ نفسها وهو بجابهها.. إن هذه التقوى هى التى تظفر للواعظ بتقدير موعوظيه وعطفهم ونواياهم الطيبة، بل إن أكثر الناس شراً بينهم، سوف لا يتمالكون أنفسهم من أن يشعروا أن ذلك الحماس الصادق من جانبه، أمر خليق باحترامهم، وجدير بكل أنحناء وتقدير.. ولقد وعد اللّه مثل هذا الواعظ الصادق والأمين بأن يبارك جهوده وأتعابه!!.. ولا حاجة إلى القول إن التقوى بهذا المعنى كانت عميقة الجذور فى حياة عزرا، ولذا كان تأثيره عميقاً وبعيداً كما سنرى فى حياة الشعب والناس!!.. وإلى جانب التقوى كانت المواهب الطبيعية التى زوده بها - للّه، وهى الصفة الثانية فى حياة الواعظ،... والمواهب اللازمة لكل واعظ تبدأ أولا بقدرته على التفكير السليم الواضح، ثم تمتد بعد ذلك إلى العاطفة المتدفقة والفيض الزاحر من المشاعر والأحاسيس التى تتملكه، وهو إلى جانب هذا يحتاج إلى الخيال القوى المجنح الذى يرتفع ويعلو إلى العرش الإلهى، ويتجاوز الحدود المادية والمنظورة بين الناس، وبالإضافة إلى هذا كله لابد أن يتزود بالقدرة على التعبير، وامتلاك ناصية المنطق الفعال،... وأنت لا يمكن أن تقرأ عن عزرا دون أن تحس أنه يمتلكها جميعاً.. الصفة الثالثة فى الواعظ هى المعرفة، والمقصود بالمعرفة هو القدرة على الإحاطة بالكثير من المعلومات والحقائق،... وواضح أن عزرا كان على حظ كبير من الحنكة والدراية والإلمام، فقد كان كما يقول « ألكسندر هوايت » من ذلك النوع الذى تملك (جون كلفن) عندما حكم جنيف، « وجون نوكس » عندما سيطر على أدنبره،... وكان من المستحيل أن يجعله أرتحشستا على رأس العائدين ويزوده بالسلطان الكامل، ما لم يكن واثقاً فى مقدرة الرجل ودرايته وحنكته!!... والأمر الأخير الذى يؤكد أستاذة علم الوعظ ضرورة وجوده فى الواعظ هو المهارة،... وكان عزرا الكاتب الماهر، واحداً من أقدر الناس وأقواهم على المنبر، له تلك الأصالة التى ترتفع به فوق التقليد والمحاكاة وما أشبه، التى تعجز عن إطلاق الحق الإلهى دون تردد أو إبهام أو زيف!! فإذا كانت هذه هى المقاييس الوعظية الفنية، فإن عزرا الكاهن الماهر فى شريعة اللّه، كان من أقدر الوعاظ وأظهرهم، ويحق القول إنه أبوهم التاريخى القديم فى المنبر الذى أقامه، وبحسب مالدينا من معلومات لم يسبقه كاتب آخر أو واعظ مفسر لكلمة اللّه من فوق المنبر الذى درج هويتفيليد أن يدعوه عرشه العظيم!!... عزرا وكتاب الشريعة ولعل عزرا يعطينا هنا الدرس العظيم فى مفهوم العظة، وبعدها، وعمقها فإذا أخذنا بالتقسيم الفنِى للفظ، من حيث ارتباطها بالآية، لوجدنا ما يطلق عليه فى علم الوعظ، العظة الموضوعية، والعظة الآيية، والعظة التفسيرية،.. أما العظة الموضوعية فهى العظة التى تستخلص موضوعاً معيناً من الآية، تركز الحديث عليه، وتأخذ الأقسام فى استقلال عن الآية نفسها، وقد يعطى هذا الاستقلال اتساعاً ليس من السهل أن نجده فى الوعظ الآيى أو التفسيرى إذ يمكن للواعظ أن يعظ عن موضوع معين دون أن يكون محصوراً فى الآية وحدها، بل يمكن أن تمتد جولته فى الكتاب لينتقى من أرجائه الزهور ليجمعها فى باقة جميلة خلابة، دون أن يتقيد بركن معين أو مجموعة معينة من الزهور!!.. ولا نعتقد أن هذا النوع من الوعظ كان الأسلوب الذي لجأ عزرا إليه فى تفسير وشرح كلمة اللّه!!... أغلب الظن أن عزرا كان يتقن الوعظ الآيى أو التفسيرى. والعظة الآيية هى التى تكون الآية لحمتها وسداها، وتأخذ الموضوع الذى تطرقه من تحليلها للآية وشرحها لها، كما أن أقسامها ترجع دائماً إلى كلمات الآية أو أجزائها المختلفة، فهى فى الواقع نوع من التوسع، لما يمكن أن يستنبط من الآية أو ينطبق عليها، ولا شبهة فى أن هذا النوع من الوعظ يغوص فى البحث الكتابى أكثر من الوعظ الموضوعى، وإذا كان هذا الأخير عريضاً إلا أنه أقل عمقاً » والواعظ الماهر فى الوعظ الآىى أشبه بالغواص الذى ينزل إلى الأعماق البعيدة فى البحر بحثاً عن الدرر والجواهر حتى يعثر عليها ويخرجها لتبهر بجمالها الأنظار، والجماهير التى ألفته، والكنائس التى تعودت عليه تكون أقوى وأعمق فى البنيان المسيحى، والعظة التفسيرية هى بنفسها العظة الآيية، مع هذا الفارق، أنها لا تتقيد بآية واحدة، بل قد تكون قطعة كتابية كاملة، يغوص الواعظ فى أعماقها باحثاً عن دور الحق الإلهى فيها!!... وتاريخ الوعظ اليهودى - ابتداء من هذا الرجل العظيم وحتى العصور الحديثة - يميل إلى الوعظ الآيى أو التفسيرى دون الوعظ الموضوعى فهو يعتمد على قوة الكلمة الإلهية، وسلطانها، وفاعليتها فى النفس البشرية!!... وعظ عزرا الشعب من فوق منبر خشبى مرتفع، ومما لا شك فيه أن المنبر كان مرتفعاً ليستطيع الشعب أن يرى الواعظ ويستمع إليه، ولكن الارتفاع له معنى أعمق من ذلك، فالمنبر ينبغى دائماً أن يكون مرفعاً عن المقعد، لأنه يحمل صوت اللّه وسلطانه، ويفهم الجميع بأن الواجب الأول للمستمع أن يكون خاضعاً مطيعاً لكلمة اللّه وأمره، أما الواعظ نفسه فقد كان - كما أشرنا - أميراً من أمراء المنبر وواعظاً نموذجياً مجيداً. إذ وعظ بحياته وسيرته قبل أن يعظ بلسانه وكلامه، إذ كان رجلا غيوراً تقياً مصلياً، وعندما بدأ وعظه، بدأ بداءة الشخص المتمكن من تأملاته ودراسته وإرشاد الروح القدس له، وما أجمل مادة موضوعه! إذ لم تكن هذه المادة فلسفة وعلماً، منطقاً وخطابة وبلاغة، لقد كانت قبل كل شئ وبعد كل شئ، كلمة اللّه التى قرأها ببيان وفسر معناها للسامعين، وهل فعل أمراء المنبر فى كل التاريخ غير ما فعل عزرا قديماً، ففم الذهب، وأوغسطينوس وكلفن ومتى هنرى وتوماس جدوين - كما يقول الكسندر هوايت - لم يفعلوا أكثر مما فعل هذا الأمير الأول، والواعظ المتمكن، والمفسر للكلمة الإلهية الحية الفعالة!!.. ولا يستطيع الإنسان منا وهو يستعرض هذا التاريخ، إلا أن يتذكر كلمات ف. ب. ما ير عندما قال: « إن دراسة عزرا للكتاب تذكرنى بما حدث فى إنجلترا فى حكم الملكة أليصابات، حيث وضعت نسخة من الكتاب المقدس فى كاتدرائية القديس بولس، بعد أن أجيز للجمهور قراءته، ووقف جون بورتر بصوته الرائع يقرأ الكتاب للنفوس التى كانت متعطشة لسماع الكلمة الإلهية »... وهل يمكن نسيان الحب العميق الذي تمكن من مارى جونز الفتاة الفقيرة والتى كافحت، فى الأوقات التى كانت فيها نسخ الكتاب قليلة وباهظة الثمن حتى حصلت على نسخة منه، وعاشت حياتها وهى تدرسه دراسة عميقة حتى حفظت الكثير منه عن ظهر قلب، وعندما ماتت وضعوا هذه النسخة إلى جانب رأسها،... وصنعوا لها تمثالا عظيماً. بعد أن كانت السبب فى إنشاء دار الكتاب المقدس التى تنشره فى العالم، فى إنجلترا وغير إنجلترا!!.. عزرا والإصلاح العظيم الذى قام به كان أثر الكتاب بالغا وعميقاً فى حياة الشعب، وعندما التفوا حول منبر عزرا يفسر لهم كلمة اللّه، يقول نحميا فى الأصحاح الثامن من سفره: « اجتمع كل الشعب كرجل واحد إلى الساحة التى أمام الباب وقالوا لعزرا ».. " نخ 8: 1 " كانت رغبتهم قوية إلى الدرجة أنهم استمروا من الصباح إلى نصف النهار يستمعون « دون ضجر أو ملل، وقد بدا احترامهم للكلمة فى وقوفهم عندما فتح عزرا السفر، وفى سجودهم للرب عند صلاته. وقد تأثروا إلى درجة الدموع إذ بكوا حين سمعوا كلام الشريعة، ثم ذهبوا يعملوا بما سمعوا وفى الحقيقة إن القياس الصحيح لتأثير الكلمة الإلهية، ليس فى مجرد ما يسكب الإنسان من دموع، قد تكون وقتية، مهما كانت غزارتها، وكثرتها،... بل فيما تترك من أثر فى حياة الإنسان وسلوكه،... عندما وعظ بولس فى أفسس « كان كثيرون من الذين يستعملون السحر يجمعون الكتب ويحرقونها أمام الجميع. وحسبوا أثمانها فوجدوها خمسين ألفاً من الفضة ».. " أع 19: 18، 19 " أو ما يقرب من عشرة آلاف جنيه بعملتنا الحالية،... لقد كانت الكلمة الإلهية أقوى وأفعل من كل سحر شيطانى،... وعندما وعظ سافونا رولا فى فلورسنا أثر وعظه فى الكثيرين من الرجال والنساء والفنانين والموسيقيين، فأحضروا من الصور والزينات والتحف كل ما وجدوه غير لائق بالحياة المسيحية الصحيحة، وجعلوها أكواماً فى ميدان القديس مرقس وأحرقوها،... وقد سبقت الإشارة فى بعض الدراسات إلى الأثر البعيد العميق الذى أحدثه يوحنا ويسلى فى القرن الثامن عشر فى إنجلترا، عندما هوت الحياة الأدبية والروحية إلى الحضيص، ونادى الرجل بإنجيل المسيح وهو ينتقل من مكان إلى مكان ما بين الشوارع والأزقة، والمدن والقرى، والمصانع والمناجم، يعظ يومياً ما بين عظتين وخمس عظات، وكان اللّه معه، ففعل مالا تفعله قوات العالم مجتمعة معاً،... وقد كانت كلمة اللّه حية وفعالة عندما نادى بها عزرا، وليس أدل على هذا من انفصال الكثيرين من القادة والشعب عن الزوجات الوثنيات اللواتى تزوجوا منهن،... والحرص على تقديس يوم السبت والامتناع عن التعامل والبيع والشراء مما كان سارياً فى ذلك الوقت، والأخذ بالحياة المقدسة، والحرص على التدقيق فى مراعاة الفرائض، والطاعة للشريعة الإلهية!!... وقد فعلوا هذا كله بالدخول فى العهد المقدس مع اللّه!!. لقد أدرك الجميع ما قاله دكتور تشارلس رينولدز براون: « إن النجاة أو الدفاع عن مدينة أورشليم لا يتحقق بمجرد بناء سورها فالقرميد والملاط والقلاع والشرفات، قد تحقق دفاعاً جزئياً..، غير أن أعدى أعداء أية مدينة ليس خارجها، بل داخلها، إذ أن أقوى دفاع فى حياة المدينة، ليس ما هو مادى، بل ما هو أدبى وروحى، فإن لم يحرس الرب المدينة بالمبادئ العظيمة والمثل النبيلة المستقرة فى عقول وقلوب مواطنيها، فباطلا يتعب الحارس الذي يحرس أسوارها »... « ومن ثم فإن الانتباه الأعظم ينبغى أن يتحول من أسوار المدينة إلى قلوب الناس الذين يسكنون فيها، إذ يلزم أن تتحول الأفكار إلى السبل الروحية التى يستطيع بها خادم اللّه إنهاض الحياة الروحية وتقويتها فى نفوس الناس، وهو يفتح الكتاب أما مهم معلماً إياهم شريعة اللّه السماوية بفهم وبيان » ومن المهم أن تختم هنا بما ذكره نحميا فى الأصحاح الثامن من جواب الشعب على الكلمة الإلهية إذ ردد بعمق وسجود: آمين آمين!!... والكلمة « آمين » من أكثر الكلمات شيوعاً وترديداً على لسان المؤمنين دون أن يدركوا على الأغلب عمقها وكنهها والكلمة فى أصلها العبرانى تعنى « ليكن هكذا »!!... فعندما نرددها فى صلاة أو ترنيمة أو بركة، نحن نقصد أن نقول فى الختام.. ليكن هكذا يارب، فإذا ردد المؤمنون معاً « آمين »، فإنها تبدو، كما كان المسيحيون القدامى يعتقدون، كالرعد الهارى أو موج البحر الذي يصفق على الصخور!!... وقد كان هناك تقليد عند الربيين اليهود أطلقوا عليه: « آمين اليتيم »... ويقولون إن هذه الآمين، هى التى يقولها الناس بدون وعى أو فهم أو تأمل،... وأن من يقولها يموت ويصبح أولاده يتامى!!... وعلى العكس من ذلك، إذا نطقها إنسان بكل هيبة ووقار وحرص وإيمان، فإن أبواب الفردوس ستفتح أمامه!!... ولا شبهة فى أن المجتمعين حول عزرا، هدر صوتهم كالرعد القاصف وهم يقطعون العهد مع اللّه فى صيحة قوية « آمين آمين ».. وعبر بهم الرجل برزخ الضياع والتقهقر والتعاسة والردة، إلى الحياة المباركة االتى خرجت من سبى أقسى من السبى البابلى، سبى الخطية والإثم والشر!!.. ليتك أيها الخاطئ، فرداً كنت أو بيتاً أو شباً أو كنيسة، تفعل هذا لتفلت من السبى القاسى الرهيب آمين آمين!!..
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل