المقالات

14 يوليو 2022

شخصيات الكتاب المقدس عاموس

عاموس " لست أنا نبيا ولا أنا ابن نبى، بل أنا راع وجاني جميز "عا 7: 14 " مقدمة فى أوائل القرن التاسع عشر، هاجم واعظ أمريكى شعبى اسمه بطرس أكرز، تجارة العبيد، وكانت هذه التجارة فى ذلك الحين، مما يبيحه القانون، ولا يرى أغلب الناس فيها ضرراً أو شراً، على أن أكرز وأمثاله من المسيحيين، رأوا فيها وصمة عار فى جبين الإنسانية والمسيحية معاً، وأنه يجدر بهم مقاومتها مقاومة الحياة أو الموت،.. ووعظ بطرس أكرز عن الرق، وندد به، وأعلن أنه لابد سيسقط فى يوم من الأيام،.. وكان هناك شاب فى الاجتماع ينصت بكل جوارحه إلى كلمات الواعظ، وقد مست شغاف قلبه، وخرج من المكان ليؤكد لصديق له، أن شيئاً ما فى أعماقه، يحدثه عن الدور الذى سيلعبه فى هذه القضية التعسة، قضية الرق،... وكان هذا الشاب هو الرجل العظيم الذى عرف فيما بعد بمحرر العبيد « إبراهام لنكولن،.. ».كان لنكولن ابن حطاب وكان فقيراً معدماً، ولكنه كان فى الوقت نفسه أميناً صادقاً، نقى القلب، متسامحاً وديعاً، يدرك أنه لا يشترط بالضرورة أن يكون الإنسان غنياً أو متعلماً أو فيلسوفاً، أو ذا مواهب متعددة، حتى يختاره اللّه،... إنما المهم أن يكون نقى القلب، مطيعاً مستعداً أن يسير حيث يرسله السيد،.. كان عاموس النبى رجلاً فقيراً، إذ كان راعى أغنام وجانى جميز، وكلا العملين لا يؤديهما إلا الفقراء المساكين المحتاجون، ومع ذلك فقد أرسله اللّه برسالة رهيبة إلى مملكة إسرائيل، ومن الغريب أن هذه المملكة كانت فى أوج مجدها حين ذهب إليها عاموس، فى أيام يربعام الثانى ملك إسرائيل، ولكن عاموس لم ير المجد، بل رأى الوثنية والشر والفساد والإثم، فتنبأ عليها بالخراب والضياع والهلاك، ومع أننا لا نعلم على وجه التحقيق متى ذهب إلى بيت إيل لكننا نرجح أن نبوته كانت عام 760 ق.م.. وها نحن نتابع قصته فيما يلى: عاموس ومن هو فى قرية تقوع الواقعة على بعد خمسة أميال إلى الجنوب الشرقى من بيت لحم، أو عشرة أميال إلى الجنوب من أورشليم نشأ عاموس. والكلمة « عاموس » من أصل معناه « يثقل » أو « يحمل » وقد ذهب المفسرون لليهود إلى أنه دعى كذلك لأنه كان ثقيل اللسان، ولكن المرجح أن اسمه كان يشير إلى الرسالة الثقيلة التى كان عليه أن يحملها إلى إسرائيل، وما نظن أبداً أن الرجل كان ثقيل النطق، بل يبدو من لهجته أنه كان إنساناً صريحاً بسيطاً وديعاً، صافى النفس والروح والمشاعر، ومع أنه - على الأغلب - لم يكن متعلماً كثيراً، لكنه كان وافر الاطلاع على أسفار موسى والكتب المقدسة،.. وإذ لم يذكر الكتاب شيئاً عن أبيه أو عائلته، يرجح المفسرون أنه كان ينتسب إلى عائلة فقيرة مغمورة، ولكن هذا الإنسان الفقير المغمور الذى لم يدخل مدرسة الأنبياء، أو يولد إبناً لأحدهم، إذ كان راعياً وجانى جميز، تفتحت نفسه إلى اللّه، ولم تتلوث بشرور المجتمعات وضجيج المدن، ولذا فكثيراً ما يشبهونه فى طباعه ومزاياه، بيوحنا المعمدان، الذى عاش فى البرية إلى يوم ظهوره لإسرائيل!!.. عاموس ورسالته سبق لنا فى الحديث عن شخصية أمصيا كاهن بيت إيل، أن تعرضنا للفارق بينه وبين عاموس، أو الفارق بين الخادم المزيف والخادم الحقيقى، وقد حاول أمصيا طرد عاموس من أرض إسرائيل، بدعوى أنه من المملكة الجنوبية، وأن رسالته لا يجوز أن تتعدى أرض يهوذا أى المملكة الجنوبية، وقد رد عليه عاموس بالقول: « لست أنا نبياً ولا أنا بن نبى، بل أنا راع وجانى جميز. فأخذنى الرب من وراء الضأن وقال لى الرب: اذهب تنبأ لبنى إسرائيل » " عا 7: 14 و15 " ولعل هذه العبارة تكشف عن رسالته العظيمة إلى أبعد الحدود!!.. الدعوة إلى الرسالة فوق روابى تقوع عاش عاموس يرعى ضأنه ويجنى الجميز، وأغلب الظن أنه كان سيعيش هكذا، ويموت هكذا لو لم يأته الصوت الذى دعاه إلى النبوة وأخذه من وراء الأغنام. ويرى بعض شراح الكتاب أن الكلمة « من وراء » تشير فى الأصل العبرانى إلى عنصرى المباغتة والأمر، اللذين أحس بهما هذا النبى الراعى،... وقد تحقق عاموس من دعوته، واستجاب لها. وما من شك أن أصواتاً كثيرة كان يمكن أن تهتف فى أذنى عاموس، بأنه ليس كفواً لهذه الخدمة، كما أن هذه الخدمة ليست له، فما هو من سلك الأنبياء، أو من أبنائهم ولم يتدرب فى مدارسهم، فكيف يمكن أن يكون نبياً، ولم يتعلم علومهم؟!!... أليس هذا هو منطق الكثيرين الذى نسمعه فى القرن العشرين؟؟، ممن يظنون أن أبناء الخدام لابد أن يكونوا خداماً مثل آبائهم، يأخذون الخدمة بالوراثة أو ما أشبه،... كما يظنون أنه لابد أن يتوافر فى الخادم العلم العالى، وأنه لا يجوز لضئيل المعرفة أو العلم، ممن لم يصل إلى الشهادات العالية، أو لم يأخذ الدراسات الدينية المنظمة أن يكون خادماً... كلا، لقد كان عاموس نبياً وخادماً للّه دون أن يكون متعلماً، ودون أن يأخذ دروساً لاهوتية معينة... كما أن عاموس كان إنساناً فقيراً مغمور الأصل والنسب، يمتهن أصغر الأعمال والحرف، فكيف يجرؤ على أن يرقى عتبات الملوك والرؤساء والعظماء، ليقرعهم برسائله المرهبة؟!.. لكن الجهل أو الفقر أو وضاعة النشأة، لم تمنع هذا النبى من الإحساس العميق بدعوة اللّه!!.. ألا فلنسمع بعضاً من أقوال جوزيف باركر عن عاموس بهذا الصدد: « إن خدام اللّه لا يصنعون أنفسهم، فليكن المجئ إلى الخدمة مجيئاً ضاغطاً لا يقاوم، مصحوباً بالإحساس العميق لعدم الكفاية، ولتكن حياة الخادم ختما وشهادة ومصداقاً للدعوة، وسيجد اللّه خدامه،.. وأى رجال يدفعهم الناس للخدمة هم رجال مخطئون، قد يكونون لطفاء ولطفاء جداً، وقد يكون بعضهم بهى الطلعة وادع النفس برئ النظرة، له وداعة الأطفال وحلاوتهم، لا يحدث ضجيجاً ما فى مجلس، ولا يؤذى أو يبغض مخلوقاً، … ومع ذلك، فاللّه هو الذى يجد خدامه وقد يكون البعض الآخر خشناً عنيفاً ذا قرون ناطحة، وله تعليم لاهوتى منظم، ولكن المهم هو كيف يتكلم عندما يعظ، وكيف يلتهب ويهدد من جانب، ويرعى ويرفق من الجانب الآخر؟؟.. عندما يلتقى بالمتكبرين الذاتيين يشتعل بالغيرة المقدسة والسخط الإلهى، وعندما يلتقى بالمنبوذين والتعابى والمنفردين والضائعين، يقول قول السيد للمرأة التى أمسكها اليهود ليرجموها « إذهبى ولا تخطئ أيضاً ».. " يو 8: 11 ". مكان الرسالة «إذهب تنبأ لشعبى إسرائيل »... " عا 7: 15 " عندما يرسل اللّه رسولا يقنعه بالمكان الذى سيذهب إليه، وقد يكون هذا المكان بعيداً عن البيئة والأهل والعشيرة، وقد يكون مكاناً مرعباً مرهباً بغيضاً، لكن الواجب الأول علينا هو أن نطيع ونذهب إلى المكان الذى يختاره الرب، كان عاموس من المملكة الجنوبية مملكة يهوذا، وكانت تقوع فى الجنوب من أرض فلسطين لكن اللّه أمر عاموس أن يترك بلده وأهله ومملكته ليذهب إلى بيت إيل فى مملكة الشمال ويتنبأ عليها... إن فشل الكثيرين من الخدام والمرسلين، يرجع إلى أنهم يريدون أن يختاروا لأنفسهم الأماكن التى فيها يعملون!!.. ثقل الرسالة «فأخذنى الرب من وراء الضأن وقال لى الرب إذهب »... كان اسم « عاموس » - كما ذكرنا - يعنى الحمل أو الثقل، نسبة للرسالة الثقيلة التى كان عليه أن يحملها ويبلغها: « فقال السيد: ها أنا واضح زيجاً فى وسط شعبى إسرائيل. لا أعود أصفح له بعد، فتقفر مرتفعات اسحق وتخرب مقادس إسرائيل وأقوم على بيت يربعام بالسيف».. " عا 7: 8 و9 " وما أثقلها من رسالة، تلك التى يهاجم فيها فرد واحد أمة وملكاً وكهنوتاً وشعباً!!.. كان وراء الضأن وفى ظلال الجميز هادئاً وادعاً ساكناً آمناً، فما باله يقتحم المخاطر، ويمضى إلى عرين الأسد ليسمع قول أمصيا للملك: « وقد فتن عليك عاموس فى وسط بيت إسرائيل. لا تقدر الأرض أن تطيق أقواله » " عا 7: 10 " كان أمصيا - كما ذكرنا عند تحليل شخصيته - موتورا من الرجل الذى جاء يتهدده ومجده وكهنوته وبيته ومركزه فى وسط الشعب، وقد توعده وأرهبه، عساه أن يبتعد ويرجع إلى بيته وأمته،... على أن عاموس كان يحس ثقل الرسالة على وجه أشد وأقسى، لأنها كانت تتناول أمة عزيزة عليه، أثيرة على قلبه،... ولكنه لم يكن يستطيع التحول عنها يمنة أو يسرة، أو يتراجع عن إبلاغها، ولو كلفته حياته لأنها صوت الرب الذى تكلم إليه، أو كما قال: « السيد الرب قد تكلم فمن لا يتنبأ » " عا 3: 8 "!!.. غرابة الرسالة كانت رسالة عاموس غريبة لأنها تحدثت عن خراب إسرائيل، فى وقت كان إسرائيل يمرح فى حياة المجد والبذخ والقوة،... ولو أن كاتباً من كتاب التاريخ طلب إليه أن يتحدث عن عصر يربعام الثانى، لتحدث عن المجد والثروة العظمة والسلطان والقوة، وكان آخر ما يفكر فيه كلمة الخراب، لكن عاموس أبصر هذه، وأبصر فيها وخلفها الخطية، فنادى بالسقوط والانهيار، ولكن التاريخ دائماً يعطى صورة صادقة لفكر عاموس ونبوته، فإن الخطية هى السوس الذى ينخر فى عظام الأمة، فى صمت وخفاء، فإذا جاء الانهيار، فإنه يأتى مباغتة ودون توقع من أحد!!.. عاموس والعبادة الكاذبة كانت العبادة الكاذبة فى إسرائيل أس الداء وأساس البلاء، وقد وقف منها عاموس موقف التنديد والهجوم الصارخ، وكان من المستحيل عليه أن يهدأ أو يسكن، والعبادة الوثنية الشريرة تتفشى فى كل البلاد، ففى كل إسرائيل من دان إلى بئر سبع أقيمت المرتفعات المحلية والأنصاب لتمجيد البعل والعجل الذهبى، ويرجح أن بئر سبع والجلجال كانتا المكانين الرئيسيين لعبادة البعل، بينما كانت السامرة وبيت إيل مخصصتين للعجل الذهبى، ومما يدعو إلى الأسف والحزن والغرابة معاً، أن الإسرائيليين أرادوا أن يخلطوا بين النور والظلمة، والحق والباطل، واللّه والشيطان، إذ كانو يحفظون الطقوس،الفرائض، الأعياد، ويقدمون المحرقات والتقدمات والذبائح، ولكن على هذه المذابح الوثنية وبأسلوبها المنحرف الشرير، وها نحن نرى عاموس يتحدث عنها فى أسلوب تهكمى لاذع فيقول: « هلم إلى بيت إيل وأذنبوا إلى الجلجال وأكثروا الذنوب وأحضروا كل صباح ذبائحكم وكل ثلاثة أيام عشوركم » " عا 4: 4 " وقد رأى عاموس كذب العبادة من أكثر من وجه: عبادة من صنع الإنسان فالعبادة التى أقامها بنو إسرائيل فى دان وبيت إيل والجلجال وبئر سبع، عبادة من صنع الإنسان وتفكيره، وما عجول الذهب التى صنعها يربعام بن نباط إلا وليدة فكرة سياسية، فقد أراد أن يبتعد بالإسرائيلين بعد انقسام المملكة عن أورشليم وعبادتها السماوية، ولذا أقام فى دان وبيت إيل عجلى الذهب،... وأما بعد فهو الصورة التى ابتكرها الخيال الوثنى، لتعبر للعابدين عن الإله الذى يتخيلونه أو يتصورونه، وهنا يتم فيهم قول الرسول. « وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء، وأبدلوا مجد اللّه الذى لا يفنى يشبه صورة الإنسان الذى يفنى والطيور والدواب والزحافات »... " رو 1: 22 و23 " إن كل عبادة كاذبة من أصل بشرى!!.. عبادة الإغراق فى الطقوس والملاحظ فى العبادة التى تحدث عنها عاموس، أنها عبادة طقسية، بل عبادة عمادها الأول والأخير الإغراق فى الطقوس، فالتقدمات والمحرقات والنذور كانت هائلة، وقد سخر النبى من العابدين وهو يقول: « وأحضروا كل صباح ذبائحكم، وكل ثلاثة أيام عشوركم »... والعشور سنوية، وكل ثلاث سنوات، ولكنهم أكثروا من تقدمتها بكيفية مذهلة عجيبة، والواقع أن الإغراق فى الطقوس نوع من الخداع النفسى الذى يلجأ إليه الإنسان لإراحة نفسه وتهدئة ضميره فى العبادة،... وماذا نقول اليوم عن الطقوس التى تصاحب العبادة والأعياد والأفراح والجنائز، الطقوس التى غدت ترتد بنا فى بعض المواطن، إلى ما يشبه الوثنية القديمة التى ندد بها عاموس!!.. العبادة التى لا خير فيها هذه العبادة لا خير فيها على الإطلاق سواء للأمة أو للأفراد، ولعل الدليل على هذا هو المصير المفزع الذى سينتهى إليه الجميع، وما سيصيب أماكن العبادة التى ستدمر تدميراً، فالجلجال ستسبى سبياً، وبيت إيل تصير عدماً، وسيقتحم الرب بيت يوسف كنار تحرق ولا يكون من يطفئها من بيت إيل،.. " انظر عا 5: 5 و6 " ولو أن العبادة كان فيها أدنى خير لغيرت حياة المتعبدين، الذين ظلوا على ما هم فيه من شرور، بل أمعنوا فى آثامهم وضلالهم حتى قال لهم النبى: « يا أيها الذين يحولون الحق إفسنتينا ويلقون البر إلى الأرض »!!.. " عا 5: 7 ". عاموس والعبادة الصادقة لم يكتف عاموس بالتنديد بالعبادة الكاذبة، بل وجه الأنظار إلى العبادة الصادقة، وكشف عن إتجاهها ومضمونها!!.. وهى: العبادة التى تطلب اللّه «اطلبوا " الرب " فتحيوا » "عا 5: 4 و6 " ولم يكن هذا الإله مجهولا أو محدوداً أو ضعيفاً أو مصنوعاً وفق الخيال البشرى، بل هو الإله المتعالى السامى المقتدر « الذى صنع الثريا والجبار ويحول ظل الموت صبحاً ويظلم النهار كالليل الذى يدعو مياه البحر ويصيبها على وجه الأرض يهوه اسمه » " عا 5: 8 " هو الإله الذى: « السموات تحدث بمجده والفلك يخبر بعمل يديه » " مز 19: 1 " الذى يستطيع أن يجعل القوى ضعيفاً، والضعيف قوياً يخرج النور من الظلمة، ويرسل الظلمة إلى النور، إله الطبيعة والإنسان، العارف بكل الأمور، والقادر على كل شئ..!! هذا الإله العظيم يقترب إلى الناس، ويقول: « اطلبونى فتحيوا ». ولعله من اللازم أن نشير دائماً، إلى أن العبادة، وإن بدت لأول وهلة طلب الإنسان للّه، إلا أنها فى الحقيقة هى طلب اللّه للإنسان، والدليل على ذلك مستمد من القول الإلهى: « اطلبوا الرب »... وهو قول يجاهد فيه اللّه وراء الإنسان، ويتجه إلى إرجاعه إلى الوضع الصحيح، فإذا نظرنا إلى العبادة بهذا المعنى، أضحى اللّه أسمى هدف يتجه إليه الإنسان، فهو يتجه إلى الحياة نفسها، فهنلك علاقة دائمة بين وجه اللّه والحياة، وبين الشركة مع السيد، وأفضل ما يمكن أن نصل إليه على الأرض،... إذ أن اللّه - فى الواقع - هو الحياة نفسها، ومن ثم كان الرسول بولس دقيقاً أبلغ الدقة وهو يقول: « لأن لى الحياة هى المسيح » " فى 1: 21 ".. وكان أوغسطينوس على حق وهو يقول: « قد خلقتنا لنفسك وقلوبنا لن تجد الراحة إلا عندك ».. العبادة التى تطلب البر إن العبادة فى إتجاهها إلى اللّه، لابد تتجه حتما إلى حياة البر والحق والقداسة، وهنا يقول عاموس: « أطلبوا الخير لا الشر لكى تحيوا فعلى هذا يكون الرب إله الجنود معكم كما قلتم. ابغضوا الشر وأحبوا الخير وثبتوا الحق فى الباب لعل الرب إله الجنود يتراءف على بقية يوسف ».. " عا 5: 14 و15 " « وليجر الحق كالمياه والبر كنهر دائم » " عا 5: 24 " لقد ضاق اللّه بالطقوس والفرائض: « بغضت كرهت أعيادكم ولست ألتذ بأعتكافاتكم. إنى إذا قدمتم لى محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضى وذبائح السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عنى ضجة أغانيك ونغمة ربابك لا أسمع » " عا 5: 21 - 23 " هل نعلم أن اللّه يهتم بحياة الحق والخير والبر والأستقامة، وأن هذا أجمل وأفضل وأقدس أمامه، من الاهتمام ببناء الكنائس، ورسومها، وجوقات الترنيم، وما أشبه؟!!.. عاموس والشرور الاجتماعية هاجم عاموس الشرور الاجتماعية التى أبصرها فى إسرائيل، هجوماً عنيفاً صريحاً لاذعاً، وهذه الشرور الاجتماعية ليست قاصرة على إسرائيل القديمة، إذ أن جرثومتها تكمن فى أعماق النفس البشرية الخاطئة، ولذلك ما أكثر ما نراها فى قصة التاريخ فى الشرق والغرب معاً، وما أكثر ما تراها - على وجه أدق وأخص - قبيل سقوط الدول العظيمة، فالذين قرأوا تاريخ سقوط الدولة الرومانية القديمة، أو الثورة الفرنسية، أو الثورة الشيوعية يعلمون أن جميع هذه الدول سقطت بسبب نفس الشرور التى هاجمها عاموس قديماً.. والتاريخ يعيد نفسه كما يقولون، ولذا سنرى: عاموس والشهوات الحسية إن أقسى مأساة تصاب بها أمة أو أسرة أو فرد، هى الاستسلام للشهوات الحسية العالمية، وقد انغمس إسرائيل فى هذه الشهوات إلى آخر مدى، وليس أدل على ذلك من إنحراف الطبقة الأرستقراطية من النساء والرجال وراء جميع المتع واللذات، وها عاموس فى الأصحاح الرابع من سفره يدعو النساء « بقرات باشان » إذ أبصرهن يرتعن كالبهائم دون فهم أو عقل أو إدراك، فى رياض المتعة والشهوة والشرور، بل كن يحرضن أزواجهن على الطاس والكأس، وفى الأصحاح السادس يتحدث عما يصحب هذا الإغراق الحسى من آثام ودنايا... فساسة صهيون والرؤساء فى جبل السامرة، والنقباء فى أفضل مملكة فى الأرض، الذين يأتى إليهم بيت إسرائيل، يلتمسون الرأى والمعونة والإرشاد والمشورة، هؤلاء قد استكانوا إلى الراحة والأطمئنان والكسل والجمود، وإهمال الواجب... ولم ينتهوا إلى هذا فحسب بل نسوا العبرة التى كان يمكن أن تأتى إليهم ممن سلكو ا ذات السبيل قبلهم من الأمم المجاورة، وخربوا وهلكوا وضاعوا.. « أعبروا إلى كلتة وانظروا واذهبوا من هناك إلى حماة العظمة ثم انزلوا إلى جت الفلسطينيين » " عا 4: 2 " ثم تأمل رعونتهم وحمقهم وغباوتهم إذ « يبصرون يوم البلية » بمثل ما تفعل النعامة الحمقاء المطاردة الهاربة المعيية، عندما تدفن فى الرمال رأسها لتبعد عنها سهم الصياد وقوسه،... وانظر إليهم وقد أصيبوا بالبطنة، فهم يتهالكون على الطعام: « الآكلون خرافاً من الغنم وعجولا من وسط الصيرة » " عا 4: 4 " ومثل هؤلاء، ليس أمتع إلى نفوسهم أو أحلى من جلسات الغناء الماجنة الخليعة: « الهاذرون مع صوت الرباب المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود. الشاربون من كؤوس الخمر والذين يدهنون بأفضل الأدهان » " عا 4: 5 و6 " مع الجمود التعس عن الإحساس بالمسئولية وآلام الآخرين: « ولا يغتمون على انسحاق يوسف »... وهل يفعل الإغراق فى الشهوات الحسية فى كل الأجيال والأمم والجماعات والأفراد، غير ما فعل أيام عاموس؟ وأليست الشراهة والدعارة، والبلادة والاستهتار، والإستباحة والحيوانية، والضعة والبوهيمية، وجمود الفكر تبلد الشعور والضمير، هى الظواهر التى تصاحب عادة وأبداً – عابدى الجسد وأسرى البطن والشهوة واللذة؟!!.. عاموس والظلم وهل يمكن للشهوات أن تنمو فى تربة دون أن يتبعها الظلم؟، والظلم الرهيب الصارخ القاسى؟؟! وقد صدر هذا الظلم أول ما صدر عن المرأة، المرأة التى كان ينبغى أن تكون شعاراً للحنان والرقة والعطف، فبقرات باشان يصفهن عاموس بالقول: « الظالمة المساكين الساحقة البائسين » " عا 4: 1 " وأغلب الظن أن نساء إسرائيل قد ظلمن هؤلاء المساكين البائسين عن طريق أزواجهن وقد قسا الرجال بدورهم حتى كان يبلغ هذا الظلم مرتبة الإفناء: « المتهمون المساكين لكى تبيدوا بائسى الأرض » "عا 8: 4 " وقد صاحب هذا الظلم الكثير من الآثام والدنايا والشرور، فالرؤساء قبلوا الرشوة، ومن ثم تفشى فى القضاء الاعوجاج، ولم يستطع المسكين البائس أن يقف على قدميه، فجاع وتعرى، وبيع بثمن بخس رخيص: « الضعفاء بفضة والبائس بنعلين » " عا 8: 6 " وغمر الغش الأسواق، لنصغر الإيفة ونكبر الشاقل وتعوج موازين الغش » "عا 8: 5 " كان ظلمهم الأكبر لنفوسهم وللحياة وللواجب، هو طرحهم اللّه وراء الظهر، وضياع العبادة الحية الحيقية الكريمة. عاموس والعقاب القاسى وهذا ينتهى بنا آخر الأمر، إلى ما أعلنه عاموس عن العقاب الإلهى... فالإله العادل القدوس، هيهات أن يسكت أو يتغاضى أو يرضى عن آثام الناس وشرورهم، أو كما قال أحدهم: « قد ينجو الناس من العقاب البشرى كثيراً، فالعدالة البشرية، إذ هى بشرية، بعيدة عن الكمال، ومع ذلك فإن من لا ينجون من هذا العقاب أكثر كثيراً ممن ينجون، وقد يتأخر العقاب، ولكنه سيأتى فى صورة ما، بهذه الكيفية أو بتلك، ولنفرض أن الناس نجوا من العقاب البشرى، فهل يمكن أن ينجوا من مواجهة الضمير؟،... وإذا أمكنهم إسكات الضمير، فهل يمكنهم أن يخلصوا أولادهم من نتائج ما ارتكبوا من خطايا وشرور؟؟.. كلا، فليس هناك من نجاة.. »... لأن من يزرع للجسد فمن الجسد يحصد فساداً،... وقد زرع الإسرائيليون فحصدوا، وحصدوا حصاداً قاسياً شديداً، فقد جاءتهم الساعة التى تحول فيها كل مجدهم وعزهم إلى الهوان والجوع، والخوف والشقاء، فأين أيام بقرات باشان!!؟. لقد أخذن بخزائم فى الأنوف، وأخذت ذريتهن بشصوص السمك، ومن الشقوق خرجن إلى السبى والعار والتعاسة والفجاعة،... وهكذا أيضاً سادة صهيون ونقباء السامرة الذين ألفوا الناعمات نراهم وقد سيقوا سوق الماشية إلى السبى والعار والتشريد!!.. جاء تغلث فلاسر ملك آشور وقضى على بيت إيل، وجاء بعده شلمناصر وأخذ السامرة،... وعندما تبدأ أمة حياتها بالأصنام، كما بدأ يربعام بعجول الذهب، فإنها - إن آجلا أو عاجلا - ستتحطم هى وأصنامها معاً كما حدث لإسرائيل عام 722 ق. م. وليست إسرائيل وحدها بل كل أمم الأرض كما تشهد وتؤكد فصول التاريخ!!... أو كما قال أحدهم: عندما لم يبق فى قرطاجنة سوى الغنى الفاحش، والفقر الذريع، سقطت قرطاجنة تحت أقدام الرومان، وعندما نسيت روما هذا الدرس وتلاشت منها الطبقة المتوسطة سقطت عند أقدام الغزاة البرابرة الذين وفدوا إليها من الشمال!!.. هل لنا - كأفراد أو جماعات أو أمم - أن نطلب طلبة أجور ابن متقية مسا: « اثنتين سألت منك فلا تمنعهما عنى قبل أن أموت: أبعد عنى الباطل والكذب لا تعطنى فقراً ولا غنى، أطعمنى خبز فريضتى لئلا أشبع وأكفر وأقول من هو الرب، أو لئلا أفتقرو أسرق وأتخذ اسم إلهى باطلا » " أم 30: 7 - 9 ".
المزيد
07 يوليو 2022

شخصيات الكتاب المقدس صفنيا

صفنيا " اطلبوا البر. اطلبوا التواضع لعلكم تسترون فى يوم سخط الرب "" صف 2: 3 " مقدمة فى تقليد قديم، أن المسيح وهو خارج من مدينة أورشليم، سقط بصليبه أمام أحد البيوت هناك،... وخرج من البيت صاحبه ليصيح بكل قسوة فى وجه السيد: قم أعبر من هذا المكان!!.. ونظر إليه السيد متألما محزوناً وقال ّ: وأنت أيضاً ستعبر،... هذا هو اليهودى التائه فى كل العصور كما يصوره التقليد القديم، والذى لا يمكن أن يعرف الراحة أو يجدها ما لم يعد إلى السيد الذى رفضه وصلبه!!.. وسواء صحت هذه الرواية أم لم تصح،. فإن المؤكد أن مغزاها صحيح وسيبقى صحيحاً حتى يعود اليهودى مرة أخرى إلى يسوع المسيح!!.. إن النداء المشترك لجميع الأنبياء فى العهد القديم لليهود وغير اليهود، هو أن الخطية قاتلة ورهيبة ومدمرة، وأنه لا يمكن أن يفلت من عقابها مخلوق على ظهر هذه الأرض،.. وأن السبيل الوحيد لخلاص الإنسان منها هو الإيمان برحمة اللّه وحنانه وحبه، والعودة إليه بالتوبة الصادقة الكاملة،... وإذا كان بعض الأنبياء، قد ركزوا نبواتهم على الأمم الخاطئة فإن البعض الآخر كان أكثر تركيزاً على خطية اليهود وإثمهم وشرهم،.. وقد تناول صفنيا الاثنين. ولكن اهتمامه الأكبر كان بخطية يهوذا وأورشليم وأنه لا أمل أو رجاء للخلاص من يوم الغضب، يوم العقاب إلا بالتوبة والعودة إلى اللّه،... وقد مد الرجل بصرنا إلى اليوم الأخير، يوم الدينونة الأبدى الذى سيفرق تفرقة نهائية بين الأشرار والأبرار،... ولعلنا بعد ذلك نستطيع متابعة الرجل فيما يلى: صفنيا ومن هو لا يكاد يعرف الشراح ودارسو الكتاب شيئاً عن صفنيا النبى، خارج ما جاء فى سفره ونبوته، ومع ذلك فالعبارات التى ذكرت عنه، كافية لأن تكشف لنا شخصية عظيمة، لعلها كانت من أبرز وأعظم الشخصيات المعروفة فى عصرها، فنسبه يرجع فى الجيل الرابع إلى حزقيا الذى يرجح أغلب المفسرين أنه ملك يهوذا العظيم، ولذا فمن المعتقد أنه كان واحداً ممن جرى فيهم الدم الملكى، والاسم، صفنيا معناه: « الرب يخبئ » أو « الرب يحرس » ويشير إلى الشخص الذى يخبئه الرب ويحرسه فى يوم الخطر والدمار، وحيث أنه تنبأ فى أيام يوشيا الملك فمن المحتمل أن نبوته كانت بين عامى 639 - 608 ق. م، ومع أن أحداً لا يعلم على وجه التحقيق هل كانت نبوته قبل إصلاح يوشيا أم بعده، غير أنه معظم المفسرين المحدثين أمثال ديلتش وروبنسون وكيركبترك، يعتقدون أنه تنبأ قبل الإصلاح ومن المحتمل أن ذلك كان عام 625 ق. م. وعندما بدأ صفنيا نبوته كانت الأمة الأشورية قد أخذت فى التراجع والتقهقر، بعد أن بلغت قمة مجدها، أمام الكلدانيين الذين قاموا بغزواتهم الواسعة فى غرب آسيا، وابتدأ نجمهم يعلو ويرتفع ويسود بسرعة خاطفة وقوة مذهلة!!.. وأسلوب صفنيا يتميز بالصراحة والعنف والقوة والوضوح، ولئن كانت رسالته قد وجهت أولا إلى يهوذا وأورشليم، فإنها قد امتدت بعد ذلك إلى الأمم المجاورة، وأوغلت مع الزمن حتى بلغت يوم الرب الذى كان خراب أورشليم بمثابة رمز وظل ونبوة له... والبعض يقول إنه ربما لا يوجد فى الكتاب ما يعدل نبوته حزناً وألماً، وعلى أى حال فإن الرجل قد صور شناعة الخطية وعقاب اللّه لها، وكان أكثر الأنبياء والرسل فى الحديث عن يوم الرب، ويوم الرب إذا كان يشير مبدئياً إلى العقاب الذى ألم بأورشليم والممالك التى حولها، فإنه يرمز أساساً إلى اليوم الأبدى المخوف بين يدين اللّه المسكونة بالعدل والشعوب بالإستقامة، وحين يظهر الأرض من كل النجاسات والمفاسد، ويقيم العصر المجيد الذى تنزل فيه أورشليم السماوية من عند اللّه كعروس مزينة لرجلها!!.. وحين يحكم اللّه حكمه الأبدى فى المجد العتيد!!.. صفنيا وخطية يهوذا وأورشليم والممالك التى حولهما كان أساس الخطية - كما يفهمها صفنيا - الارتداد عن اللّه: « والمرتدين من وراء الرب » "صف 1: 6 " ومن الملاحظ أن هذا الارتداد جمع بين عبادة البعل، وعبادة اللّه، بين « الكماريم »، وهم الكهنة الذين يلبسون ثياباً سوداء فى خدمة البعل، وكهنة إسرائيل،... ولا مانع عند العابدين من عبادة النجوم والكواكب من فوق السطوح، وعبادة اللّه: والحلف باسم ملكوم،... والحلف باسم اللّه،... هذه الصورة تتحول فى كل العصور إلى ذلك الخلط الذى لا يبعد اللّه تماماً، محاولا أن يرضى النزعة الدينية التى لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عنها إذ الأبدية فى قلبه، ولكن لا مانع من تحويل مجراها إلى الوثنية والخرافة والحماقة التى تتباعد عن اللّه وحقه وقصده ورغبته ومجده، ومن هنا نجد صفنيا يصف يهوذا وأورشليم بالأمة « التى لم تتقرب إلى إلهها » " صف 2: 2 "... ولعل ماكتبه اسبرجن هنا يعد من الروائع، إذ قال: « كثير من الصلوات لا تعتبر صلوات!!. يوجد كلام كثير عن الحق، وكلام كثير لما ينبغى أن نفعله، ولكن ليس هناك سؤال عن اللّه، وليس هناك ذهاب إلى المخدع، وبسط الأمور أمامه، وانتظار رحمته،... ليس هناك فكر عن اللّه لأن العقل ليس قريباً منه، والرغبات تتجه نحو آلاف الطرق المختلفة، لكنها لا تأتى إلى اللّه... ينبغى أن نفكر فيه، ينبغى أن نبحث عنه، ينبغى أن نأتى إليه، كما تأتى الفراخ الصغيرة، عندما يكون صقر فى الجو، وتسمع نداء أمها فتأتى لتحتمى تحت جناحيها، ينبغى أن نجرى إليه بالصلاة حتى يمكن أن نتحقق أنه « بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمى ترس ومجن حقه » " مز 91: 4 " إن مأساة أورشليم أن عقيدتها فى اللّه وصلت إلى الحد الذى كان فيه الناس يقولون بقلوبهم - وإن كانوا لا يذكرون ذلك بألسنتهم -: « إن الرب لا يحسن ولا يسئ » " صف 1: 12 " أو كأنما هو لا يهتم بالتفريق بين الخير والشر، والحق والباطل،... وأنه لا يتدخل ولا يبالى بما يحدث على الأرض، ومن المؤسف أن هذه هى الخطية التى نبصرها اليوم، فى أناس قد يكونون مسيحيين إسماً، وبينهم وبين نفوسهم، أن اللّه لا سلطان له ولا عمل بين البشر!!.. كانت مدينة أورشليم، وهى على هذه الحال، تظن أنها أفضل من غيرها، ولكن صفنيا يصفها بالقول: « ويل للمتمردة النجسة المدينة الجائرة »... " صف 3: 1 " أو فى لغة أخرى، هى المدينة الغارقة فى إثمها وشرها وشهواتها، الجامدة على دروبها أى الشبيهة بالخمر العكرة التى رسب عكارها، فلم تنتقل من إناء إلى إناء لتتنقى!!.. وليس هذا فحسب، بل أكثر من ذلك، أن القادة والرؤساء فى وسطها أشبه بالأسود الزائرة فى قسوتهم،... ولعل أقسى ما تصاب به أمة أن يكون رؤساؤها قسوة القلوب، غلاظ المشاعر،... أما القضاة، فقد كانت شراهتهم لا توصف، إذ كانوا أشبه بذئاب المساء التى تنقض على الفريسة لتأكلها لحماً وعظماً،... ولا تبقى منها شيئاً إلى الصباح،... ولنتصور عالماً يكون قضاته على هذا الوصف، فهل ينصح بعد ذلك، إلا ظلماً وفساداً وشراً وإثماً... أما الأنبياء فهم متفاخرون، أهل غدوات، والكلمة « متفاخرون » تعنى أنهم يتكلمون من أنفسهم، بدون رسالة من الله،... وبذلك يغدرون بالشعب، وما أشر أن ينطق النبى عن الهوى والخداع، إذ يعيش المجموع بذلك فى عالم من الأضاليل والأباطيل، أما الكهنة فهم منجسون إذهم نجسون بأعمالهم وتصرفاتهم، كما أنهم خالفوا الشريعة فى نظمها وفرائضها ووصاياها... وهل يرى اللّه هذا ويسكت وهو الإله العادل الذى لا يفعل ظلماً، ووشيكاً سيظهر حقه وعدله كالنور؟!!.. على أن اللّه، وقد صب سخطه على خطايا يهوذا وأورشليم، لا يمكن أن يترك خطايا الممالك والبلاد التى حولهما، … إن الخطية خطية فى نظر اللّه، سواء يرتكبها اليهودى أو الأممى، فإذا كان اللّه قد ابتدأ ببيته، « فالفاجر والخاطئ أين يظهران؟... " 1 بط 4: 18 ".. وهو هنا يندد بخطايا الفلسطينين فى مدنهم الرئيسية، غزة، وأشقلون، وأشدود، وعقرون، وساحل البحر، ويتحول إلى كبرياء الموآبين وبنى عمون، والكوشيين، وأشور - لأن اللّه لا يمكن أن يسكت على الشر أو يتهاون مع الإثم!!.. صفنيا والتوبة الصحيحة عندما قامت الحرب العالمية الأولى، فتح اللورد غراى " وكان وزير خارجية إنجلترا فى ذلك الوقت " النافذة، وصاح: « على الدنيا السلام »، وأخذ يسأل نفسه: ترى هل نهضت بريطانيا متأخرة أم ضاعت الفرصة؟! وربما سأل تشرشل نفسه هذا السؤال، وهو يتحدث فى الحرب العالمية الثانية عن العرق والدم والدموع!!... ولعل هذا السؤال كان فى ذهن يوشيا الملك وصفنيا النبى، وهما يواجهان خطية الأمة ووثنيتها وشرها وفسادها الذى وصل - كما يقولون - إلى النخاع، وكان السؤال: هل ثمة من رجاء؟!!.. لقد سارع يوشيا بالإصلاح، على النحو الذى استطاعه، وكان بطلا دون شك،... ولكن يبدو أنه جاء متأخراً، وربما كان عابس الوجه والحياة، وهو يقوم بالجهد فى اللحظات الأخيرة،... ولعل صفنيا كان يراقبه فى جهده الكبير، ولكن أغلب الظن أنه كان أكثر تشاؤماً،... فإذا كان الإثنان ينتسبان إلى الملك حزقيا،... فإنها المأساة القاسية، إن واحداً آخر من السبط الملكى، يرى أمته تتجه نحو الخراب بجنون دون أن يتمكن أحد من وقف الكارثة،... إن إصلاح الشعوب، لا ينبغى أن يتناول المظهر، ويهمل الحقيقة، ولا ينبغى أن يتعلل بالشكل، دون الجوهر، أو بالصور المادية دون الروح،... ولعل ما قاله صموئيل شوميكر، وهو يصف أمريكا فى كتابه: « كيف تصبح مسيحياً »، يوضح هذه الحقيقة إذ يقول: « يخيل إلى مرات كثيرة أن الحياة ضاعت من نفس أمريكا، فالحرية التى كانت يوماً غايتنا وشهوتنا، أضحت اليوم ملكنا وفسادنا،... ولابد أن يحدث شئ ثورى فى نفس الأمة، كما حدث فى البلاد التى اكتسحتها الشيوعية،... فإذا كانت هذه البلاد قد فرضت عليها الثورة من الخارج، فإننا ينبغى أن نصنع ثورتنا من الداخل،... ومن واجبنا أن نتبصر الشر الذى يجرى فى العالم، والروح الشريرة فى الشيوعية التى ترغب فى استعباد العالم،... ما هى وماذا تعنى!!؟ غير أننا لا ينبغى أن نقصر النظر على ذلك، بل علينا أن نعرف ماذا أصاب أمريكا من فساد واستباحة ومادية، ولا دينية تنخر فى عظام الأمة،... فالفساد من الداخل، والشيوعية من الخارج يمكن أن يدمرانا، ما لم نردعهما، إنهما يحملان معول التدمير، إنهما يعمياننا عن الحق، ويخدران شبابنا... وخط دفاعنا الأول عن أمريكا لا يمكن أن يكون بعيداً عن أخلاق وإيمان شعبنا »... وهذا يتفق مع ما قاله أمريكى آخر: « إن ما تحتاج إليه الشعوب هو ضمير جديد، ليس ذاك الذى يحاول أن يجد عذراً أو تبريراً لما تفعل، بل الذى يقرر المبادئ التى يلزم أن تنهجها قبل أن تفعل شيئاً،... فأغلب الشعوب - القديمة كيهوذا والحديثة كأمريكا - تعتقد أن ما تفعله دائماً هو الصحيح، وأن ما يفعله أعداؤها دائماً هو الخطأ، وهذا لا يمكن أن يكون الواقع والحق!!... وقد صلى أحد الأمريكيين قائلا: « أبانا السماوى، نحن نصلى أن تنقذنا من نفوسنا. فإن العالم الذى صنعته لنا لنعيش فيه بسلام، قد حولناه إلى معسكر مسلح، إذ نعيش فى خوف دائم من حرب قادمة... ونحن نخاف: « من سهم يطير فى النهار ومن وبأ يسلك فى الدجى ومن هلاك يفسد فى الظهيرة »... ردنا عن طريق أنانيتنا فقد كسرنا وصاياك وأنكرنا حقك، وتركنا مذابحك لنخدم الآلهة الكاذبة من المال والشهوة والقوة،... سامحنا، وساعدنا!!.. فالظلام يتجمع من حولنا ونحن حائرون فى مشورتنا، وإذ فقدنا الإيمان بك، فقدنا الإيمان بأنفسنا،... هبنا الحكمة جميعاً من كل لون أو جنس أو عقيدة، لنستعمل ثروتنا وقوتنا لمساعدة إخوتنا بدلا من تدميرهم، وساعدنا لنتمم مشيئتك كما فى السماء، ولنكون أهلا لوعدك بالسلام على الأرض، واملأنا بإيمان جديد، وقوة جديدة، وشجاعة جديدة لنكسب معركة السلام.. اللهم أسرع إلينا لإنقاذنا قبل أن يحل الظلام!! ».. لم تكن التوبة الصحيحة أيام صفنيا قائمة، ولأجل ذلك لم يتحدث عن عودة من السبى كغيره من الأنبياء، بل تحدث فقط عن بقية انتزع اللّه كبرياءها وتعديها،فأضحت شعباً مسكيناً بائساً يتوكل على الرب: « بقية إسرائيل لا يفعلون إثماً ولا يتكلمون بالكذب ولا يوجد فى أفواههم لسان غش » " صف 3: 13 " ومثل هؤلاء لن يتركهم اللّه، بل بالحرى يفيض عليهم بالبركات والإحسان، فلن يعودوا إلى الاضطراب والقلق والخوف، فاللّه سيكون لهم وفى وسطهم معطياً إياهم بركات التوبة، بركة الترنم والهتاف، بركة القوة فلا ترتخى أيديهم ولا تخور عزائمهم، بركة التعالى والسمو، فلن يكون بينهم متعثر ضعيف مكسور ذليل!!... إن الذين يتوكلون على اللّه لا يمكن أن يصب عليهم حكماً أو قضاء، أو يرسل عليهم من يضايقهم أو يتعبهم، كلا فقد نزع الرب، الأقضية عليك، أزال عدوك ».. " صف 3: 15 " أما الذين ذهبوا إلى السبى، وتاقت نفوسهم إلى بيت اللّه وهيكله، وكانوا محزونين، بل يحسون العار الذى جاء عليهم بسبب الخطية، فهؤلا يقول عنهم: « اجمع المحزونين على الموسم. كانوا منك. حاملين عليها العار » " صف 3: 18 " ويدعوهم إلى الفرح والبهجة والترنم!!.. لأن الرب عاد إليهم ويسكن فى وسطهم!!.. صفنيا ويوم الرب على أن الصورة الأخرى التى رسمها صفنيا عن يوم الرب، كانت صورة رهيبة مرعبة، أخذت شكلها الأول فى غزو الكلدانيين والذى كان مخيفاً إلى أبعد الحدود، وقد وقف هذا الغزو على أبواب أورشليم ويهوذا، على أبشع ما يمكن أن يتصوره الإنسان: « نزعاً أنزع الكل عن وجه الأرض يقول الرب. أنزع الإنسان والحيوان. أنزع طيور السماء وسمك البحر والمعاثر مع الأشرار، وأقطع الإنسان عن وجه الأرض يقول الرب. وأمد يدى على يهوذا وعلى كل سكان أورشليم ».. " صف 1: 2 - 4 "« قريب يوم الرب العظيم قريب وسريع جداً. صوت يوم الرب. يصرخ حينئذ الجبار مراً. ذلك اليوم يوم سخط، يوم ضيق وشدة، يوم خراب ودمار، يوم ظلام وقتام، يوم سحاب وضباب، يوم بوق وهتاف على المدن المحصنة وعلى الشرف الرفيعة، وأضايق الناس فيمشون كالعمى لأنهم أخطأوا إلى الرب فيسفح دمهم كالتراب ولحمهم كالجلة، لا فضتهم ولا ذهبهم يستطيع إنقاذهم فى يوم غضب الرب، بل بنار غيرته تؤكل الأرض كلها. لأنه يصنع فناء باغتاً لكل سكان الأرض!!.. » " صف 1: 14 - 18 " « لذلك فانتظرونى يقول الرب إلى يوم أقدم إلى السلب لأن حكمى هو بجمع لأمم وحشر الممالك لأصب عليهم سخطى كل حمو غضبى، لأنه بنار غيرتى تؤكل كل الأرض »... " صف 3: 8 ". ولعل من اللازم أن نشير هنا إلى أن ما تحدث به صفينا كان هو بعينه الذى تحدث عنه الرب يسوع المسيح فى الأصحاح الرابع والعشرين من إنجيل متى، والذى كانت فيه أورشليم وخرابها الرهيب القريب، رمزاً لذلك الخراب النهائى الشامل الذى سيلحق الأشرار فى اليوم الأخير،... وذكره الرسول بطرس فى قوله: « يعلم الرب أن ينفذ الأتقياء من التجربة ويحفظ الأثمة إلى يوم الدين معاقبين » " 2 بط 2: 9 "... وجاء فى رسالة يوحنا الأولى: « بهذا تكملت المحبة فينا أن يكون لنا ثقة فى يوم الدين لأنه كما هو فى هذا العالم هكذا نحن أيضاً " 1 يو 4: 17 " »... وفى سفر الرؤيا: « لأنه قد جاء يوم غضبه العظيم ومن يستطيع الوقوف » " رؤ 6: 17 ".. ولئن كان هذا اليوم يوم نجاة وسرور للمؤمنين، فما أرهبه وما أقساه على الأشرار! كما سبقت الإشارة فى وصفه، أو كما ذكر الرسول بولس فى رسالته إلى أهل تسالونيكى: « وإياكم الذين تتضايقون راحة معنا عند استعلان الرب يسوع من السماء مع ملائكة قوته فى نار لهيب معطيا نقمة للذين لا يعرفون اللّه والذين لا يطيعون إنجيل ربنا يسوع المسيح الذين سيعاقبون بهلاك أبدى من وجه الرب ومن مجد قوته. متى جاء ليتمجد فى قديسيه ويتعجب منه فى جميع المؤمنين» " 2 تس 1: 7 - 10 ".. إن يوم الرب بالحقيقة إذا كان للأشرار قديماً أو حديثاً أو فى النهاية عقاباً وعذاباً وضياعاً، فهو للمؤمنين أغنية ومجد وسلام، أو كما قال المرنم فى المزمور الثامن والتسعين: « اهتفى للرب يا كل الأرض اهتفوا ورنموا وغنوا، رنموا للرب بعود. بعود وصوت نشيد. بالأبواق وصوت الصور اهتفوا قدام الملك الرب. ليعج البحر وملؤه المسكونة والساكنون فيها. الأنهار لتصفق بالأيادى، الجبال لترنم معاً، أمام الرب، لأنه جاء ليدين الأرض، يدين المسكونة بالعدل والشعوب بالإستقامة.
المزيد
30 يونيو 2022

شخصيات الكتاب المقدس شمعي

شمعي "لأن الرب قال له سب داود" 2صم 16: 10 مقدمة كثيراً ما يسأل المؤمن هذا السؤال: ما هي الحكمة في أن يرسل الله من ينغص حياتك، ويقلق راحتك، ويقلب أمنك، ويهدد سلامك؟!!.. وأنت تصرخ مرات بلا عدد أن يرفع الله عنك هذا الضيق أو الشوكة التي تقض مضجعك، وإذا بالمنغص يزداد إمعاناً في شره وظلمه واستبداده وطغيانه، وإذا هو رسول حكمة علوية لا يدرك كنهها إلا من تدرب على معاملات الرب، التي قد تبدو غريبة أو عجيبة لمن هو أقل فهماً وإدراكاً وتأملاً،… ظهر هذا المنغص في طريق داود، ظهر ظالماً قاسياً متشفياً، ولم يره أبيشاي سوى كلب ميت يسب الملك،… ولكن داود كان له رأي آخر، إذ أن شمعي لم يكن عنده مجرد كلب يقطع رأسه أو لسانه، بل هو رسول من الله جاء إليه في اللحظة الدقيقة ليتمم أمراً إلهياً، على الملك أن يقبله بكل خضوع وتسليم واتضاع،… إن شخصية شمعي تعطينا صورة واضحة لا نقف فيها عند الأسباب الثانوية الظاهرة، بل نتغور معها إلى أسباب أعمق خفية إلهية، ولذا يمكن أن نراه من جوانب متعددة على الصورة التالية. شمعي المتعصب الأعمى والتعصب الأعمى هو مفتاح قصة شمعي بن جيرا، لقد كان شمعي من عشيرة بيت شاول بنياميني، لا يمكن أن ينسى أنه ينتسب إلى الأسرة المالكة التي ضاع كرسي الملك منها، وأن داود حل محل شاول، وأن سبط يهوذا أخذ مكان الرئاسة من سبط بنيامين،.. والتعصب الأعمى مهما كان لونه وصورته، هو شر وباء يمكن أن يصيب فرداً أو جماعة، وأنواعه متعددة لا حصر لها،... ولكنها دائماً تخلف الهلاك والدمار وراءها،... فهناك التعصب القومي الذي يكاد يكون خلف أغلب الحروب بين الناس، والذي جعل أبا هنيبال القرطجني يطلب أن يقسم ابنه على المذبح أن يكره روما إلى الأبد،... والذي صنع العداء التقليدي بين اليهود والسامريين، والذي أنشأ أسطورة "ألمانيا فوق الجميع" وقاد العالم في القرن العشرين إلى الحربين العالميتين الأخيريتين بما تركتا من آثار رهيبة مدمرة،... وجعلت استيفن ديكاتور الضابط في البحرية الأمريكية أن يضع شعاراً أمريكياً بشعاً قائلاً: "أنا مع بلدي في الحق أو الباطل على حد سواء"... ولم يستطع أمريكي مسيحي أن يقبل هذا الشعار، فصححه: "أنا مع بلدي في الحق، غير أني أصححه عندما ينساق وراء الباطل"... سخر وينفرد هيلتباي من حماقة التعصب الأحمق، في قصة كتبها تحت عنوان: "صوت الله"... وفيها يتخيل ما يحلم به الناس، من أن جميع الأصوات محفوظة، وقد اخترع أحدهم آلة تستطيع بأن تأتي بهذه الأصوات من الماضي، وقد راق له أن يحضر أمام جمع يتكلم الإنجليزية، صوت المسيح،.. وعندما تكلم السيد حصلت همهمة وتذمر وغضب، لأن الصوت لم يتكلم بالإنجليزية، بل تكلم بالأرامية، كما كان المسيح يتحدث إلى معاصريه في تجسده على الأرض!!... وهناك التعصب العقائدي الذي عذب جاليليو الذي نادى بنظرية دوران الأرض حول الشمس، وأنها كروية، وذات مرة أرغموه أن يركع ويقول أن الأرض مسطحة، وركع وقام ليقول: ولكنها كروية،.. وسجن روجر بيكون لمدة عشر سنوات، وهو يقوم بأبحاثه في الطبيعة والكيمياء، وإذ عرض ما اكتشفه حكم عليه بالسجن بالزعم أنه يتعامل مع الشيطان،... وفي المجال الديني البحت كم ذهب العديد من الشهداء، ضحايا الحماقة والخرافة والجهل، وكم عانى لوثر في القرن السادس عشر، والميثودست في القرن الثامن عشر، ورجال جيش الخلاص في القرن التاسع عشر،.. وهل قرأت قصة ذلك الشاب الزنجي الذي طلب أن ينضم إلى كنيسة من كنائس البيض، أحرج الراعي، إذ أن حياة الزنجي لا تمنعه قط من الانضمام،... ولكن الراعي يعلم أنه سيثير ثائرة البيض إذا سمح له بهذا الانضمام،... وإذا أراد مخرجاً من حريته... قال له: لنصل ونتقابل بعد ذلك،.. وبعد شهور التقى به في الشارع وسأله: لماذا لم يأت إليه مرة أخرى؟.. وأجاب الشاب: لقد صليت وأعطاني المسيح الجواب... وقال الراعي: وماذا قال لك؟!! أجاب! قال لي لا تفزع لأني أنا واقف على باب هذه الكنيسة منذ عشر سنوات وأقرع ولم يفتح لي أحد الباب!!.. وهل نعود لنذكر الحروب الرهيبة التي قامت بين الأديان المختلفة، والاضطهادات الدينية البشعة في كل جيل وعصر، وليس فقط بين الأديان المختلفة، بل بين المذاهب المتعددة في الدين الواحد، وكلها لم تخرج إلا من التعصب الأحمق البغيض.. وربما إلى اليوم لم يعرف العالم كثيرين لهم الخيال الخصب الذي كان ليوحنا بنيان في سياحة المسيحي، والحرب المقدسة... وفي الحرب المقدسة يصور بنيان نفس الإنسان أشبه بالقلعة الحصينة ذات الأبواب الخمسة التي أطلق عليها، باب الأذن، وباب العين، وباب الفم، وباب الأنف، وباب اللمس، ويقصد الحواس الخمس في الإنسان، وعندما يأتي عمانوئيل ليفتح القلعة، يجد عدو الخير قد حصن باب الأذن مثلاً بالمتعصب الأعمى ومعه ستون من الجبابرة الذين لا يبالون بأحد على الإطلاق".. كان شمعي بن جيرا واحداً من هؤلاء المتعصبين التاريخيين بكل ما في كلمة التعصب من معنى... شمعي الوضيع الخسيس ربما ليست هناك فرصة يمكن أن تتعرف فيها على معدن الإنسان وطبيعته وصفاته، كما تراه في وقت المحن والآلام سواء بالنسبة له، أو بالنسبة لغيره من الناس،.. وقد كشف شمعي بن جيرا عن معدنه الخسيس الوضيع، عندما خرج داود في محنته القاسية هارباً من أورشليم أثر ثورة إبشالوم ابنه عليه،.. ولقد كان شمعي "قاسياً" في منتهى القسوة، إذ لاقى داود في أضعف لحظة من لحظات حياته، وإذا كان من المباديء الأساسية في المبارزة أو المصارعة أو الملاكمة التوقف عن المناضلة مع خسم ساقط إلى الأرض، أو سقط سلامه من يده،.. كما لا يعد شهماً أو رجلاً ذاك الذي يفرح أو يشمت ببلية آخر،.. فإن شمعي بني جيرا كان من ذلك النوع القاسي الذي فقد كل مرؤة أو شهامة، تجاه رجل منكوب في محنة من أقسى المحن التي مرت به في حياته!!... وكان شمعي إلى جانب هذا "جباناً" انتهز فرصة مرور داود أمام بحوريم وهي مدينة من مدن سبط بنيامين، وكان حريصاً أن تكون المسافة بعيدة بينه وبين أية محاولة لمطاردته، ليهرب إذا حاول من أحد من رجال داود القضاء عليه، ومن هناك ابتدأ يسب داود ويرمي عليه التراب والأحجار، وذلك منتهى الجبن والضعة،.عندما هرب نابليون من جزيرة ألبا كتبت الصحف الفرنسية عنه "الوحش يهرب من ألبا"، وإذ اقترب من فرنسا كتبت "نابليون يهرب إلى فرنسا".. وإذ دخل فرنسا كتبت "الامبراطور يدخل البلاد".. على أنه كان كاذباً، إذ كان "كاذباً مفترياً" نسب إلى داود ما هو براء منه، بعلم الجميع، لم يكن داود بالنسبة لبيت شاول رجل الدماء "قد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول".. بل بالأحرى الرجل الذي وقع شاول في يده مرتين، ولكنه رفض أن يمسه، ولم يكن داود أكثر من ذلك "رجل بليعال" الرجل الذي تحول عن الرب، وابتعد عنه، وعبد آلهة أخرى،.. كان وصفه بهذه الأوصاف غاية الظلم، وعكس الحقيقة على وجه كامل،... ولكن الإنسان المتعصب ليس هناك حدود لافترائه وكذبه،.. ولا حاجة إلى القول أنه إلى جانب هذا كله كان "غادراً" يطعن الملك الشرعي للبلاد في ظهره، يرحب بالثورة ويتمنى نجاحها، بل يؤكد هذا النجاح بدافع الرغبة الدفينة في قلبه للغدر والخيانة،... وهو في عرف أية قوانين شرعية خائن لمليكه، تحكمه قواعد الخيانة العظمى!!.. شمعي العصا الإلهية المستخدمة على أن شمعي -مع هذا كله- يبدو في نظر داود شيئاً مختلفاً تماماً عن مجرد نظرة أبيشاي أو غيره من السائرين معه من الناس أو الجنود، لم يزد شمعي في نظر أبيشاي عن أكثر من مجرد كلب حقير ينبح، ويلزم إسكاته، أما في نظر داود فكان عصا الله المستخدمة لتأديبه، وهو لهذا يتصرف مع شمعي تصرفاً آخر، فهو "الصامت" الذي لا يشكو بل يقول بالحري: "دعوه يسب" ومع أنه كان يملك أن يتكلم، ومع أن الذين حوله كانوا يملكون ما هو أكثر من الكلام، لكنه مضى في طريقه كأصم، ووضع رأسه ووجهه في التراب، ولعل هذا أفضل ما يمكن أن يفعله الإنسان، عندما يلتقي بالأحمق الذي لا يحمل أن نرد عليه حتى لا نتساوى معه في الحماقة،... ولعلنا في الصمت نمتد إلى آفاق أبعد، وراء ذاك الذي كان أفضل وأعظم من داود: "ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه".. "وسأله بكلام كثير فلم يجبه بشيء"... وهنا يحق القول إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب!!... وهو "المعترف بالخطأ" وليس بما يزعمه شمعي، فهو بريء من هذا كله، ولكن الضمير في تلك اللحظة كان له حسابه العميق معه،.. إن الذي يظهر أمامه في الطريق، ليس شمعي بن جيرا، بل آخر اسمه، أوريا الحثي ودم أوريا يصرخ في وجهه، ومع أنه يعلم علم اليقين بأن الله غفر خطيته، إلا أن لطمة الضمير كانت تصفعه في تلك اللحظة على وجهه، وهنا لابد من السؤال: ألم يتب إلى الله؟؟ وألم يصرخ مزموره العظيم بهذه التوبة التي قبلها الله، ورفع عنه إثمه وخطيئته؟؟ فهل كان غفران الله كاملاً وشاملاً، أم أن الغفران الإلهي مجزأ ومحدود؟؟.. لا شبهة في أن غفران الله كامل وشامل، ولكن هذا الغفران الكامل لم يمنع الرسول بولس أن يقول بعد سنوات طويلة من غفران الله: "أنا الذي كنت مجدفاً ومضطهداً ومفترياً ولكنني رحمت إذ فعلت بجهل في عدم إيمان" وقد تعقبته ذكريات الخطية لا لتقلق مضطجعه، بل لكي تعلمه الاتضاع، وإدراك شر الخطية وبشاعتها، فهي حاجز واق يكشف له الضعف البشري يوم تتخلى النعمة الإلهية عن أي إنسان على ظهر هذه الأرض"!!.. وها نحن نرى هنا داود في كل خضوع وتسليم واحترام لمشيئة الله وقضائه وإرادته، وهو يضع "التفسير الصحيح" لتصرفات شمعي،.. وهنا يختلف داود مع أبيشاي -وقد سبق له الاختلاف- في مفهوم العناية عندما عبرا إلى شاول النائم والذي سقط تحت يد داود، وأراد أبيشاي أن يأذن له داود بالقضاء عليه بضربة واحدة، معتقداً بأن الرب قد أوقعه في يده، ولكن داود رفض هذا التفسير، ورأى في الأمر -بالعكس- امتحاناً من الله، لأنه لا يستطيع أن يقتل مسيح الرب ويتبرأ،.. وهنا لا يرى أبيشاي أيضاً إلا الصورة البشرية، كلب ينبح، ومع أن الكلب الذي ينبح يعتبر كلباً حياً، إلا أن أبيشاي يراه أقل من ذلك، إذ هو كلب ميت،.. أما داود فإنه يرى صورة أخرى تختلف كل الاختلاف، إذ يراه عصا الله المؤدبة، ولتكن هذه العصا ما تكون، لكن داود يرى يد الله خلفها، وهنا نحن نقف أمام حقيقة من أضخم الحقائق الكتابية، ألا وهي الأسباب الثانوية والأسباب الأصيلة، أو الأسباب الظاهرة، والأسباب الخفية،... وإذا كانوا يقولون إن في المحيطات والبحار يوجد تياران: التيار الظاهري الذي يدفع الأمواج ويرفعها إلى أعلى أو أسفل، والتيار الخفي العميق الذي يدفع المياه، وهو التيار الصحيح الحقيقي الذي يحرك المياه ويسيرها..كان إبشالوم وأخيتوفل وشمعي بن جيرا الأسباب الثانوية، الظاهرة، لكن السبب الحقيقي هو ما قاله الرب على لسان ناثان: "لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس"... لقد عفا الله عن داود كشخص، ولكنه يعاقبه ويؤدبه كقائد جلب عثرة كبيرة أمام الشعب، وجعل أعداء الرب يسخرون،.. وإذا لم يعاقب الله العثرة، فسيستهين الجميع بالخطية ويشربون الإثم كالماء،.. إذا أصيب الإنسان بمرض الجدري، وشفى منه، ستنتهي آلامه وأخطاره، لكن آثاره ستبقى في الجلد، وسيغفر الله لكل إنسان جاء إليه تائباً، لكن الجسم الذي حطمته الخطية، لا يمكن أن يعود -بعد أن أوغل الإنسان فيها- سليماً كالذي عاش حياته عفا نقياً من بدء الحياة!!.. ومن اللازم أن نعلم أن الله يستخدم جميع الوسائل والناس، ويسيطر على الخير والشر، وعلى الأخيار والأشرار لإتمام مقاصده، ومن القديم قال يوسف لإخوته: "أنتم قصدتم لي شراً وأما الله فقصد به خيراً"... وقال شمشمون في أحجيته المعروفة: "من الآكل خرج أكل ومن الجافي خرجت حلاوة".. وقال بولس: "ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم مدعوون حسب قصده".. كان يهوذا الاسخريوطي -وهو يتمم أبشع جريمة في التاريخ- كان يتمم هذا وهو لا يقصد مشورة الله المحتومة التي لابد أن تكون!!.. قال أحدهم ربما لم يكن في ركب داود في ذلك اليوم من استطاع أن يفهم عمق التفسير لكلمات داود سوى ناثان النبي،.. ومن أعظم الأمور عند المؤمنين قدرتهم في التعمق والوصول إلى الأسباب الحقيقية لمعاملات الله معهم في الحياة، بل أن التغور إلى الأسباب الحقيقية سيرفع عن المرء الكثير من الثقل والمرارة، وسيفتح أمامه طريق الرجاء والأمل والانتصار على المحنة والمعاناة،.. أن تتحول من شمعي إلى الله، وأن يختفي الإنسان مهما كان نصيبه أو مسئوليته، وأن نرى الله، ولا شخص غير الله، سنجد السبيل إلى ما هو أفضل وأسمى وأعظم أو كما قال داود في مرة أخرى: "قد ضاق بي الأمر جداً فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة ولا أسقط في يد إنسان"... لقد اعتنق داود فلسفة طيبة تجاه تصرف شمعي، لقد هون الأمر على نفسه بصورتين: الصورة الأولى إذ قارن بين عمل شمعي وعمل إبشالوم، فإذا كان إبشالوم قد أجاز لنفسه وهو ابن داود أن يثور على أبيه، فكم بالحري هذا البنياميني البعيد، وكانت الصورة الثانية أبعد وأعمق إذ هي صورة الله، الذي سمح لشمعي أن يفعل هذا، ولا توجد بلية في الأرض إلا والرب صانعها، بهذا المعنى البعيد والعميق، إن النظر إلى الإنسان مرات كثيرة انتهى بالناظر إلى طريق مسدود، لكن النظر إلى الله دائماً يتفجر بالرجاء والأمل، كان داود دائماً يعلم أن الله لا يحتقر البتة القلب المنكسر والروح المنسحقة، ولأجل ذلك غطى رأسه ومشى حافياً ذليلاً في ذلك اليوم واستسلم باليقين لمراحم الله الصادقة والكثيرة، وهو يدرك تماماً أن الله لا يسمع سب الرجل الكاذب المفتري المسيء وهو شديد الأمل أن الله لا يرضى بالافتراء والتجني والكذب،.. هل نعي هذا الدرس من داود، أو بالأفضل والأعظم من ابن داود الذي قال فيه الرسول بطرس: "لأن هذا فضل إن كان أحد من أجل ضمير نحو الله يحتمل أحزاناً متألماً بالظلم لأنه أي مجد هو إن كنت تلطمون مخطئين فتبصرون بل إن كنتم تتألمون عاملين الخير فتصبرون فهذا فضل عند الله لأنكم لهذا دعيتم فإن المسيح أيضاً تألم لأجلنا تاركاً مثالاً لكي تتبعوا خطواته الذي لم يفعل خطية، ولا وُجد في فمه مكر الذي إذ شُتِمَ لم يكن يَشتِم عوضاً وإذ تألم لم يكن يهدد بل كان يسلم لمن يقضي بعدل"؟!.. شمعي المنافق قضى على الثورة في مهدها، وأدرك شمعي أنه قامر وراهن على الفرس الخاسر، وأسرع لمواجة الموقف فجمع ألفاً من البنياميين ونزل مع رجال يهوذا للقاء الملك، وسقط على وجهه أمام داود واعترف بإثمه وافتراءه، وطلب العفو والصفح والغفران، وهنا يظهر مرة أخرى أبيشاي طالباً القضاء عليه،.. ولكن الملك كان في تلك اللحظة مأخوذاً، مشدود النفس، لا يرغب في توسيع الجراح أو مدها، أو إراقة دماء أخرى بعد مصرع ابنه، فرفض أن يرى نقطة أخرى من دم تراق في يوم النصر، وحلف للرجل ألا يقتله، خاصة وهو لا يأتي بمفرده، بل يأتي بأسلوب ماكر بألف رجل بنياميني معه،.. ومع أن انبطاحه أمام الملك، واعترافه الكامل بإثمه، وطلبه العفو يمكن أن تكون هذه أركان توبة صحيحة لو أنه كان في الداخل، كالخارج قد تاب حقاً، ولم تأت التوبة نتيجة خوفه من الملك وليس حباً فيه، أو رغبة في الولاء له،.. إن توبة شمعي في تصورنا أشبه بتوبة عيسو التي لم تأت إلا لإحساس الندم على الخسارة التي ألمت به لفقدان البركة: "فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع ".. ومع أن داود وعده، وحافظ على وعده معه طيلة حياته، وعفا عنه بقسم أمام الرب.إلا أن السؤال مع ذلك يبقى: ولماذا لم ينس داود مع عفوه هذا عمل الرجل، وذكره لابنه سليمان وهو في ضجعة الموت، طالباً منه أن يتصرف معه بالحكمة، وبالكيفية التي تجعله يحدر شيبته بالدم إلى الهاوية؟؟.. أهو الضعف البشري الذي فرق بين داود في العهد القديم وابن داود في العهد الجديد؟؟ وأن المسيح ارتفع بنا إلى صفح غير المحدود والشامل والكامل، إذا قورن بصفح العهد القديم المحدود والجزئي والناقص؟!!.. أم هي التفرقة التي يدعو إليها بين الإساءة الشخصية إلى داود، والإساءة إليه كمسيح الرب،.. وأنه إذا كان يملك العفو عن الإساءة الشخصية التي توجه إليه كشخص، فإنه لا يملك العفو عن الإساءة التي وجهت إليه كمسيح الرب،.. وهو يطلب أن يتعامل معه بالحكمة التي لا تجعله ينسى أنه كيوآب ثار على الملك الشرعي الممسوح من الله، وعقابه حسب الناموس الموت؟!!.. أم أن الوصية كانت منصرفة أساساً إلى خطورة الرجلين على سليمان كملك، وأنهما أشبه بالحية التي لا يؤمن جانبها، مهما كان مظهرها أملس ناعماً، وما أسرع ما تلدغ متى واتتها الفرصة، وعلى سليمان أن يتعامل معها بكل حكمة وفطنة كما يتعامل من الأفعوان الخطر؟!!.. قد يكون الجواب في واحد من هذه، أو فيها جميعاً معاً،.. لكننا نعلم -على أي حال- أن الرجل كان مرائياً منافقاً يبطن غير ما يظهر، وهو على استعداد الطاعة فقط في الظاهر دون الخفاء، وقد أطاع كارهاً ما أمره به الملك سليمان في البقاء في أورشليم دون الخروج منها، حتى اضطر إلى الخروج بحثاً عن عبدين هاربين، ولم يدر أنه هو كان عبداً هارباً من وعده، والرياء أو النفاق لابد له من عقاب طال الزمن أو قصر!!.. وانتهت قصة شمعي بقتله، وحصد الرجل ما زرع، وكان لابد أن يكون الحصاد من نفس الزرع لأنهم لا يمكن أن يجتنوا التين أو العنب من الشوك أو الحسك!!... ولعل القصة بعد هذا كله ترينا أن الخطأ -مهما كان يسيراً أو جسيماً- لا يمكن علاجه بالنفاق والرياء، بل على العكس سيتحقق الخلاص بالاتضاع والتسليم والصدق والصراحة،.. لقد كانت خطية داود أشنع بما لا يقاس من خطية شمعي، وقد قبل داود من الله ما فعل به شمعي بكل صبر وتسليم وكأنما يقول: "صمت لا أفتح فمي لأنك أنت فعلت" ورفع الرب عن كاهله المحنة القاسية: "لأنه إن لامتنا قلوبنا فالله أعظم من قلوبنا ويعلم كل شيء". وعلى العكس فليس أقبح أمام الله من الرياء، وحق للسيد المسيح أن يصف نهاية العبد الرديء الشرير الذي يضرب رفقاءه بالقول: "يأتي سيد ذلك العبد في يوم لا ينتظره، وفي ساعة لا يعرفها فيقطعه ويجعل نصيبه مع المرائين" وهكذا كان نصيب شمعي بن جيرا كواحد من أظهر المرائين وأخسهم وأوضعهم في كل التاريخ!!..
المزيد
23 يونيو 2022

شخصيات الكتاب المقدس شمشون

"دعا شمشون الرب وقال يا سيدي الرب اذكرني" قض 16: 28 مقدمة لست أظن أن هناك قصصاً كثيرة، يمكن أن تتحدث عن بطش الخطية وقسوتها وطغيانها، كم تتحدث قصة شمشون الجبار،.. هل لك أن تحدثني عن الشاب الذي التقى في كروم تمنة بشبل أسد يزمجر، ورفض الاثنان أن يفسح أحدهما الطريق للآخر، وانقض الشاب على الأسد ومزقه كشق الجدي وليس في يديه شيء.. وعاد بعد أيام ليرى دبراً من النحل في جوف الأسر مع عسل، فاشتار منه على كفيه، وأكل، وأعطى أبويه معه فأكلا؟؟!! وهل رأيت نفس الشاب وقد أنامته امرأة على ركبتيها، وكان موسى الحلاقة الناعمة أشد فتكاً من أنياب الأسر،.. وذهب العهد الذي يربطه بمصدر قوته، فقلعت عيناه، وربط بسلاسل نحاس، وكان يطحن في بيت السجن؟؟! وهل رأيت شمشمون الأعمى، وقد طحنه الألم، فثاب إلى رشده، وابتدأ شعر رأسه ينبت، وعاد إلى مصدر عهده وقوته؟؟، وهل رأيت النعمة تأخذه في حضنها الأبدي، وهو يصلي أن يغفر الله له، ويذكره؟؟.. وهل رأيت كاتب الرسالة إلى العبرانيين، وهو يكشف عن رحمة الله العظمى، وهي تضم شمشون إلى قائمة أبطال الإيمان في الأصحاح الحادي العشر عن الرسالة؟؟.. أن قصة شمشون تحمل في الواقع أرهب تحذير وأرق نداء، ولعلنا بعد ذلك يمكن أن نراها من الجوانب التالية: شمشون.. من هو؟؟!! دعته أمه شمشون والكلمة عند البعض: شمس وعند آخرين "مشمس" وهي في تصور يوسيفوس تعني "القوة" وربطها البعض بالكلمة شماس، وتعني الخدمة، وهي في المعنى الغالب تفيد النور القوى المبهج، ولد من عائلة من أعظم العائلات في عصرها، كان أبوه -كما يقول يوسيفوس- أعظم رجل في عصره، كان تقياً مقدساً رقيق المشاعر،.. وكانت أمه امرأة عظيمة، ربما تفوقت في إدراكها وتقواها عن أبيه.. ويمكن أن نراه من نواح متعددة الشخص المشمس المنير،.. إنه المنير في ذاته يبدو عندما ولد صحيح البنية جميل الطلعة، وقد أخذ شعره ينساب على كتفيه مع الأيام، ويبدو أنه كان شديد العناية بشعره إذ جعله سبع خصل، وفي هذا كله كان أدنى إلى الشمس الساطعة، فإذا أضفنا إلى ذلك روحه المرحة الحلوة، إذ لم يكن مظلم الوجه، كئيب النفس، بل هو الإنسان المرح، صاحب الفكاهة الحلوة، والأحجية البهة، واللغز الطروب، ولعلك تستطيع ملاحظة هذا كله من أقواله وأفعاله، فهو يحاج أصحابه أحجية، وهو يحرق الأكداس والزرع والكروم بأسلوب مضحك، فهو يجمع ثلاثمائة ابن آوي ويربط كل ذيلين معاً، مع مشعل في وسطهما، وإذا بالثعالب تجري على نحو غريب مضحك، والنار من المشاعل تحرق كل شيء،.. وهو يدخل إلى غزة ويجد الكمين يريد أن يحاصره في المدينة، فإذا به يقلع مصراعي باب المدينة والقائمتين والعارضة، ويحمل الكل على كتفيه ويصعد الجبل مقابل حبرون.. كان صاحب القلب المرح والفم الضحوك،.. وهو المنير في بيته، كانت أمه عاقراً، وكانت تحن إلى ولد، وجاءها رجل، وكان منظره كمنظر ملاك الله مرهب جداً، وتحدث إليها عن الولد المرتقب،.. ومنعها من أن تشرب خمراً أو مسكراً أو تأكل نجساً، لأن الولد سيكون نذيراً للرب من بطن أمه،.. ولم تكن المرأة في حاجة إلى خمر، لأن الخبر في حد ذاته أسكرها وأسكر زوجها، وكان الولد نور البيت المتلألئ المشرق، والأولاد في العادة نور البيوت، فكيف بهم إذا كانوا على النحو الخارق الذي كان عليه شمشون.. وهو المنير في أمته، إذ كان بطل الأمة وملاؤها، تتجه إليه في لحظة من أدق اللحظات عندما خيمت الظلمة والضيق والتعاسة على شعبه وبلاده من اضطهاد الفلسطينيين في ذلك الوقت!!.. وهو المنير في عصره، إذ كان المرهب المخيف، الذي يثير بعضلاته المفتولة، وقوته الخارقة الأصدقاء والأعداء على حد سواء،.. وهل يكون الأمر غير ذلك، والناس إلى الآن في القرن العشرين، تقيم المباريات المحمومة بين المصارعين والملاكمين وأبطال كمال الأجسام، وتجزل لهم العطاء، وتنقل الأقمار الصناعية مبارياتهم، إلى عالم مشدوه ذاهل يكاد يتوقف عن العمل وهو يراقب صراعهم، وملاكماتهم، وألعابهم؟!!.. هذا هو شمشون إذا شئنا أن نتعرف على شخصيته وطبيعته!!.. شمشون وشعره ولا يستطيع الإنسان أن يعرف قصة شمشون على حقيقتها، ما لم يقف عند هذا الشعر العجيب الذي كان ينسدل على كتفيه، والذي طال، ووزعه شمشون إلى سبع خصل، وكان هذا الشعر أشبه بعرف الأسد حول الرجل الجبار، كان رمز العهد أو المعاهدة التي تربطه بالله من بطن أمه،.. فلنقف قليلاً من هذه المعاهدة أو العهد لنرى معناه ومغزاه.. إنه أولاً: العهد السري بينه وبين الله الذي أفرزه من بطن أمه، كان عهد النذير،.. ولم يكن أحد غير أمه وأبيه يعرف مغزى العهد ومعناه، وعندما أدرك الصبي الأمور، عرفته أمه بهذا السر،.. وطوى الشاب السر في صدره، وبقى مكتوماً، حتى عرفته امرأة، وخرج السر من مكمنه الذي كان لا ينبغي أن يخرج منه!!.. وكل مؤمن في الحياة لابد له من شركة سرية مع الله،.. إذ لابد له من علاقة سرية مع خالقه وسيده وفاديه، ولا يمكن أن يكون المؤمن مؤمناً حقاً، دون هذه العلاقة العميقة القوية المباركة،.. إن الفرق بين إنسان العالم وإنسان الله، هو أن إنسان العالم يعيش دائماً في الدار الخارجية، ليست له الحياة أو الشركة أو الرؤى الإلهية، لكن إنسان الله هو الذي يدخل إلى القدس، وإلى قدس الأقداس، وهو الذي يقول في السريرة تعرفني حكمة، وهو الذي يرى ما لا يرى، أو بتعبير أعلى وأسمى: من لا يرى،.. وهو الإنسان الذي ليس له البصر فحسب، بل البصيرة أيضاً،.. وهو أيضاً العهد الأسمى، الذي لا يدانيه عهد، إذ أنه في شعر الرأس، أعلى ما في الإنسان، وموضع الاحترام والتوقير وأي عهد يربطنا بالله لابد أن يأخذ أعلى مكان فينا، ولا يجمل أن نضعه في منطقة أقل، أو أسفل حياتنا وأقدامنا،.. قال واحد من أعظم رجال الموسيقى في التاريخ: إن أية حياة لا يكتب الإنسان في أعلاها "الله" هي حياة فاشلة ضائعة.. والعهد إلى جانب ذلك -كان العهد الظاهر، فهو ليس مجرد العهد السري بين الإنسان وسيده، بل هو الظاهر في أجمل ما يكون المظهر،.. ولم يكن في شمشون ما يلفت النظر أكثر من شعره، وكان الشعر رمز النذر والتكريس، والتكريس- ولو أن أساسه خفي- إلا أن مظهره واضح للجميع، في الحياة الخالصة الكاملة لله أمام الجميع، ولا يجمل بالمؤمن أن يدعي حياة التكريس بمجرد العلاقة الخفية التي تربطه بالله، بل إن هذه الحياة في عمقها وجلالها ومجدها وعظمتها تظهر من انعكاس أثرها في الحياة أمام الناس.. ألم يقل السيد: "فإذا من ثمارهم تعرفونهم؟".. وكان العهد أيضاً عهد القوة، إذ لم تكن قوة شمشون قوة أصيلة، بل هي قوة مكتسبة، وطالما أن العهد يقوم بينه وبين الرب، فهو أشبه بالكهرباء، يسري تيارها طالما يبقى السلك قائماً بين المصدر والاستهلاك، فإذا انفصل الاستهلاك عن المصدر لأي سبب، فإن السيال الكهربائي يتوقف في نفس الثانية التي يحدث فيها الانفصال،.. وكل قوتنا من نبع القوة الإلهية، التي تصنع من الضعيف بطلاً، ومن العاجز أعجوبة، ومن القزم عملاقاً!!.. كان العهد عهد الحماية، إذ لا قوة على الأرض تغلب إنساناً ارتبط بعهده مع الله.. فإذا زمجر أسد في الطريق، وكان الصدام محتوماً، فإن روح الرب يدخل فينا، يحل علينا، وإذا بنا أقوى من كل أسود الدنيا، وإذا وقفنا في معركة مع ألف رجل، ونحن موثقون بالكثير من الحبال المقيدة، فإن لحي حمار طري يمكن أن نصرع به الألف، وحتى لا نجرب بأنها قوتنا الأصيلة، فنحن على شفا الموت ظمأ، حتى يأتي الينبوع من اللحي، ونشرب وننتعش، وترجع روحنا إلينا،.. إن حمايتنا من الله، وطالما العهد بيننا وبين الله،.. فماذا نقول لهذا؟.. إن كان الله معنا فمن علينا!!.. أجل “لولا الرب الذي كان لنا ليقل إسرائيل لولا الرب الذي كان لنا عندما قام الناس علينا إذاً لابتلعونا أحياء عند احتماء غضبهم علينا إذا لجرفتنا المياه، لعبر السيل على أنفسنا إذاً لعبرت على أنفسنا المياه الطامية، مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم، انفلتت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين، الفخ انكسر ونحن انفلتنا عوننا باسم الرب الصانع السموات والأرض!!.. والعهد آخر الأمر إذا انقضى. لا يمكن أن ينقضي من جانب الله،.. ونحن نتعجب في قصة شمشون كيف كان صبر الله عجيباً على ضعفه، ورغم الأخطاء والخطايا المتعددة؟! بقى الله معه، إلى أن غدر هو بالعهد وانفصل عنه!!.. وهي حقيقة واقعة في حياة المؤمنين في كافة الأجيال والعصور، إن نقض العهد لا يمكن أن يأتي على الإطلاق من جانب الله، إذ وإن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً لا يقدر أن ينكر نفسه!!.. شمشون وتجربته ولعله من اللازم أن نلاحظ كيف جرب هذا الرجل على النحو الذي قاده إلى السقوط الرهيب: حياة اللهو والمرح كان شمشون في الأساس شاباً ضحوكاً بشوشاً، يميل إلى المرح واللعب والحفلات والألغاز والأحاجي، لم يكن من النوع الانطوائي، المنعزل، المتباعد عن الجماهير، ومع أن هذه الحياة قد تكون في الكثير من الأحايين نعمة كبرى، إلا أنها مرات كثيرة، ما تكون طريقاً قاسياً إلى التجربة، يتحول فيها المرح إلى الهزل، والأحجية إلى النكتة، والنكتة إلى السخرية، والسخرية إلى البذاءة في اللفظ أو الفعل،.. وكثرة الكلام لا تخلو من المعصية، فبالأولى إذ تحول الكلام إلى مجلس المستهزئين: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار وفي طريق الخطاة لم يقف، وفي مجلس المستهزئين لم يجلس". ومن المؤسف أن الكثيرين من المرحين لا يعرفون نقطة التوقف، وقد قال أحدهم: كان مودي مرحاً ولكنه كان تقياً،.. وكلما تعمق الإنسان في الشركة مع الله، وكلما تعمق في حياة التقوى، كلما عرف نقطة التوقف، التي لا تخرجه عن حياة التقوى والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب!!.. المصاهرة الغريبة كانت هذه المصاهرة الغريبة شركاً مزدوجاً إذ كانت شركاً للفلسطينيين، وشركاً لشمشون،.. كانت شركاً للفلسطينيين إذ كانت نقطة الاحتكاك مع شمشون، الاحتكاك الذي سار به إلى سلسلة من المعارك معهم،.. لكنها كانت للأسف شركاً لشمشون ذاته، إذ كانت الفتاة وثنية ومن أعدائه،.. ومن المؤكد أن الفتاة كانت لمنوح وزوجته ما كانت يهوديت ابنة بيري الحثي وبسمة ابنة إيلون الحثي اللتين كانتا مرارة نفس لاسحق ورفقة، وقد لاحق هذا الزواج من البداءة، ما لاحق من متابع لشمشون نفسه، الأمر الذي أدى إلى صراعه مع الفلسطينيين وحرقها وأباها بالنار،.. ومن ثم فمن الحقيقي أن نبارك الأبناء الذي يولدون لآبائهم في الرب!!.. ومن الحقيقي أن نباركهم يوم يأتون لآبائهم، قائلين قد اخترنا الفتاة المؤمنة الشريكة لنا في حياة الإيمان، وحب الله، وخدمته، ومجده في الأرض!!.. يومئذ سيحمد الآباء الرب ويشكرون فضله الذي هدى أبناءهم إلى هذا الاختيار، ولم يسمح لهم أن يقعوا في شرك الوثنيات الجميلات أو الغنيات أو المثقفات، ما دمن في الجمال أو الغنى أو الثقافة، لا يعرفن الرب أو حياة الإيمان المقدسة، التي يقال معها: إن ما جمعه الرب لا يفرقه إنسان!!.. ولا شبهة في أن فتاة تمنة كانت أبعد الكل عن هذه الحياة!!.. عدم الابتعاد عن التجربة ويبدو هنا أن شمشون مثلاً مخجلاً ومخيفاً، لهذه الحقيقة، فهو يذهب إلى الزانية في غزة، وهو يحب دليلة في وادي سورق، وهو يقبل أن ينام على ركبتيها بشعره المقدس، وهو يراها تضع له الكمين تلو الكمين، وهو يلهو معها بهذا العبث الغريب: بماذا قوتك العظيمة، وبماذا توثق لإذلالك" وهو يسمح لها أن تربطه بسبعة أوتار طرية، أو بسبعة حبال جديدة، أو تربط خصل شعره السبع بوتد النسيج والسدى، إلى أن يتحدث -وقد ضاق بعبثها- بسره الكامل الذي لم يعرفه أحد سوى أبويه العجوزين، اللذين كانا وعلى ما هو واضح من الرواية الكتابية -قد ماتا، ولا يعلم سره أحد من الناس إلى أن عرفته دليلة الزانية الفلسطينية،.. وهنا لابد لنا من وقفة تأمل، كيف استمر الرجل عشرين عاماً ينتقل في شراك التجربة، ومع ذلك فهو قاض الأمة. وقائدها، ومعلمها؟؟ وكيف يتركه الله، مثل هذا الوقت الطويل وكيف يصبر عليه، وكيف يساعده، رغم هذا الانهيار الأخلاقي الرهيب عنده؟!! من المؤكد أن الله أرسل إليه أصواتاً كثيرة محذرة، ومن المتصور أن شمشون كانت له نوبات وقتية يعود بها إلى حالة من السوء والخطية،.. ونحن لا نستطيع أن نرميه بالأحجار، ونحن نذكر صبر الله العجيب والعظيم. ربما عشرين سنة أو أكثر من حياتنا، وهو ينبهنا، ويبكتنا، ويتحدث إلينا عن مركزنا وعن العار الذي نسببه لأنفسنا، ولمجده، ونحن نرجع إلى ضعفنا، وقصورنا، وكثيراً ما يأتي التوبيخ لنا حتى من أهل العالم، كما وبخ أبيمالك إبراهيم من أجل سارة وهو يقول له: "ماذا فعلت بنا وبماذا أخطأت إليك حتى جلبت عليَّ وعلى مملكتي خطية عظيمة أعمالاً لا تعمل عملت بي".. على أي حال، لقد صبر الله على شمشون عشرين سنة بأكملها، قبل أن يدخله في أتون العذاب، أو في أشد الضيقات والمتاعب، وكأنما يقول له: "أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة"..إن مأساة هذا الرجل أنه كان واثقاً بنفسه أكثر مما ينبغي، وهو لم يتعلم الحكمة التي سمعها لوط: "اهرب لحياتك" أو حكمة يوسف عندما ترك ثوبه وهرب خارجاً من نطاق التجربة وهو يصيح: كيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطيء إلى الله!!.. شمشون وسقوطه إن قصة سقوط هذا الرجل درس ينبغي أن يلقنه كل جيل للجيل الذي يأتي بعده، لقد واجه الرجل أسدين، أولهما منظور والثاني خفي، أما الأول فقد جاءه في كروم تمنة في صدر الشباب، وكان شمشون قوياً ببراءته ونقاوته وطهارة شبابه، فحل عليه روح الرب، فشق الأسد كشق جدي ولم يكن معه شيء،.. أما الثاني فقد جاء مختفياً وراء امرأة: "لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمساً من يبتلعه هو".. جاءه الأول وهو في كمال يقظته، فانتصر عليه، وجاءه الثاني، وهو نائم على ركبتي امرأة فقضى عليه، جاءه الأول بمخالب وأنياب رهيبة، ومع ذلك فقد تمكن منه وصرعه،.. وجاءه الثاني- ومن عجب أن موسي الحلاقة الناعمة كانت هذه المرة أرهب وأشد فتكاً من المخالب والأنياب، فانتهت قوته على ركبة المرأة. في الصراع المنظور تستطيع أن تعلم من أين يأتي الهجوم، وبأي أسلوب يكون، وتعرف كيف تواجهه مهما كانت شدته، والله معك،.. أما في الآخر، فإنك تدخل في صراع رهيب غير منظور، لا تعلم فيه عدد أعدائك، ومن هم، ومن نقط الوثوب التي يريدون أن يثبوا عليك منها: "فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحية في السماويات من أجل ذلك احملوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير وبعد أن تتموا كل شيء أن تثبتوا".. هل سمعت أو قرأت عن ذلك الراهب الذي كان يهتم بخدمة بلده في أعلى الجبل، وكان أميناً قوياً متعففاً في الخدمة، وأراد الشيطان أن يمنعه؟. تصارع الاثنان، ووعده الشيطان إذا أمكنه أن يهزمه، فإنه سيقدم له دجاجة في كل يوم، واستطاع الراهب أن يسقط الشيطان تحته، وقام الشيطان ليوفي بوعده، وكان يقدم له فعلاً كل يوم دجاجة يأكلها، ولاحظ الراهب أن الشيطان قدم له أول دجاجة وكانت ممتلئة من اللحم والدسم، ثم لم يلبث أن أخذ حجم الدجاجة ووزنها يتناقص يوماً بعد آخر، حتى جاء يوم لم يقدم الشيطان للراهب سوى قليل من المرق، بعد أن شربه، دخل في عراك مع الشيطان، وتعجب الراهب، إذ سرعان ما سقط تحت قدمي الشيطان فريسة سهلة ميسورة، بعد أن استطعم الدجاج ومرقة!!.. وكم من الناس بدأوا أسوداً يشقون التجارب والإغراءات والصعاب، كشق جدي!! لكنهم على ركبتي امرأة أو أمام مال، أو جاه، أو وظيفة، تأتي موسي الحلاقة على عهد النذير، وتقطع علاقته العظيمة بالله، فيسقط سقوط العملاق الجبار، ويكون سقوطه، كما قال السيد المسيح، عظيماً!!.. شمشون ومأساته انتهى الرجل الضحوك إلى المأساة الغارقة، ولا أعلم كم بكى، أو كم حزن على ما فقد، ولكني أعلم أنه فقد الكثير: فقد الرب وهي أكبر كارثة ألمت به، وأقسى ما فيها أنه لم يعلم أن الرب فارقه!!.. لقد كان الشعر هو الرابط الدائم الذي يربطه بإلهه، ومد يده إلى رأسه الزلحاء، ولم يجد شعرة واحدة هناك،.. لقد حملت دليلة الشعر في حجرها وهكذا ضاعت معاهدته مع الله، وجاء نقض المعاهدة من جانبه، وهيهات أن يأتي من جانب الله،.. وفقد بمفارقة الرب كل شيء، وانتفض وهو يظن أنه ينتفض بعضلات الأمس القوية، ولكن شمشون ضاع، لأنه أضاع شركته مع الله!!.. وليس هناك ما يعدل في الحياة ضياع إنسان يسير بغير الله في العالم!!.. ألم يصح قايين: "إنك قد طردتني اليوم من وجه الأرض ومن وجهك أختفي وأكون تائهاً وهارباً في الأرض؟!!.. وألم يقل موسى: “إن لم يسر وجهك فلا تصعدنا من ههنا فإنه بماذا يعلم أني وجدت نعمة في عينيك أنا وشعبك أليس بمسيرك معنا نمتاز أنا وشعبك عن جميع الشعوب الذين على وجه الأرض”؟!.. وألم يصرخ داود: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني"؟!!.. عندما يفقد الإنسان ربه سيصيح صيحة شاول بن قيس اليائسة: "وقد ضاق بي الأمر جداً، الفلسطينيون يحاربونني والرب فارقني ولم يعد يجيبني لا بالأنبياء ولا بالأحلام، فدعوتك لكي تعلمني ماذا أصنع فقال صموئيل ولماذا تسألني والرب قد فارقك وصار عدوك"؟!!.. فقد القوة كانت قوة شمشون محفوفة بالخطر على الدوام، لست أعلم لماذا زمجر شبل الأسد في وجهه عند اللقاء في كروم تمنة، وماذا فهم شمشون من هذه الزمجرة، هل أراد كلاهما -وهما في أول طريق الحياة- أن يختبرا كل قوته، وها هي الفرصة الأولى أمام شبل الأسد ليعلم ماذا تستطيع عضلاته الفولاذية أن تعمل، ومن الواضح أنه بهذه الزمجرة كان هو الباديء في الهجوم، أو كما صوره أحدهم كما لو أنه يقول لشمشون: أفسح الطريق، فهو طريقي، ولا يمكن أن تمر فيه إلا فوق جثتي، وقال شمشون للأسد:.. لا.. إن الطريق طريقي أنا، وأنت المعترض بدون وجه حق، وسأجعل منك لغزاً يروى، وقصة، وأحجية تمتحن بها أذهان الناس،.. كان اللقاء الرهيب بين الاثنين بمثابة الامتحان الحقيقي لكليهما من أول الطريق، وحل روح الرب على شمشون فشقه شق جدي وليس معه شيء!!.. على أننا نستطيع أن نفسر الزمجرة بصورة أخرى: هل كان شبل الأسد وكأنما يتحدث إلى شمشون أن ورطة الطريق التي ينهجها من أول خطى حياته كقائد لأمة، كان شمشون في كامل نشوته بين كروم تمنة، وهو ذاهب ليخطب لنفسه فتاة فلسطينية، وكان يسير في الطليعة، وخلفه أبوه وأمه على مساندة بعيدة إلى الوراء، وكانت مهمة خطبة الفتاة ثقيلة على الأبوين لاختلاف الدين، والمذاهب، والمشارب، ولكنهما إزاء إلحاح ابنهما سارا وراءه، فزمجر شبل الأسد، وكأنما يريد أن ينبه شمشون إلى وعورة الطريق، وخطورته،.. علي أي حال لم يفهم شمشون شيئاً من هذا، وقامت المعركة، واندفع في الطريق الموروط، ليلتقي بعد عشرين عاماً مع الأسد غير المنظور الذي فتك به، ولم يجعله إنساناً عادياً فحسب، بل سخرية الناس في كل جيل وعصر،.. وخسر شمشون شهرته التقليدية كبطل العصور كلها في القوة البدنية، على أي حال إنه من الواضح دائماً أن الخطية قتلاها أقوياء، وهي النزيف المستمر لقوة الإنسان في الأرض مهما كان لون هذه القوة في البدن أو الذهن، أو العاطفة، أو الإرادة، وسيتبين الإنسان عندما ينتفض، أن قوته ضاعت دون أن يعلم!!. فقد البصر قلع الفلسطينيون عينيه. وما من شك بأنه صرخ صراخاً مراً، وهم يقلعون العينين، وفي الحقيقة لو أن هاتين العينيين قلعتا من البداءة لما حدث معه ما حدث،.. إن هناك علاقة بين البصر والبصيرة في الإنسان، فإذا انفتح البصر على منظر شهوة ملوثة، أغلقت البصيرة، والعكس صحيح، إذ عندما تفتح البصرية يغض المرء طرفه خشية وخوفاً وفزعاً،.. لم يدرك شمشون هذه الحقيقة، ففتحت عيناه على المحرمات، وكان لابد لهاتين العينين أن تنتهيا إلى ما وصلت إليه، وهو يدور في الظلام، يطلب من الغلام الذي يجره أن يدله على موضع العمودين في معبد الفلسطينيين الذي سيق له ليلعب هناك، إمعاناً في الإيذاء والإذلال، -والخطية دائاً تقلع عيني صاحبها، وتقتل الرؤية الصحيحة لأنها تغشى البصيرة،.. ومن ثم فإن أول علاقات التجديد هي أن يقول الإنسان: "كنت أعمى والآن أبصر".. "لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله حتى ينالوا بالإيمان بي غفران الخطايا ونصيباً مع المقدسين".. كانت مأساة شمشون أنه فقد البصيرة من الابتداء، ففقد البصر في النهاية!!.. فقد الحرية ربط بسلاسل نحاس، وقادوه إلى بيت السجن، وهناك سجن، ومن الغريب أنه لم يكن يعلم أن هذه السلاسل من النحاس، بدأت أول الأمر من حرير، وأنها كانت تلتف حول جسده يوماً بعد يوم وهو لا يعلم، كان يهزأ بكل سلاسل، أليس هو الرجل الذي يستطيع -وقد قيد بالحبال الطرية أو الأوتار القوية- أن يحطمها كما لو كانت خيوطاً ناعمة شمتها النار، إنه لم يعرف ما قاله إشعياء، فيما بعد، ويل للجاذبين الإثم بحبال البطل، والخطية كأنه يربط العجلة- سمح الشاب للحية الرقطاء أن تلتف حوله، وهو يعتقد أنه يستطيع أن ينتصر عليها، ولم يدر أنها ستضغط عليه لتحطمه تحطيماً،.. كان شمشون القوي حراً يذهب كيفما يشاء ومتى يشاء، لكنه انتهى إلى الإنسان الأسير مقلوع العينين في سجن غزة!!.. وكان في هذه الحالة جداً بعيداً لأولئك الذين قالوا للمسيح: "إننا ذرية إبراهيم ولم نستعبد لأحد قط، كيف تقول أنت أنكم تصيرون أحراراً، أجابهم يسوع الحق الحق أقول لكم إن كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد أما الابن فيبقى إلى الأبد، فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً".. كان الاسكندر سيد العالم وعبد الخمر، وانتصر نلسون في ووترلو وكان عبد الشهوة الآثمة،.. وكم يعيش أبطال العالم من كل لون، داخل سجن غزة مع شمشون البطل، وهم يعلمون أو لا يعلمون!!.. فقد المركز إذ هوى من المجد إلى الحضيض، من قائد الأمة إلى الطحن في السجن، إلى أحط عمل، وكان عقوبة المجرمين أو العبيد، أو العمل الذي يترك للإماء الأجيرات، وأي هوان أشد من هذا الهوان؟! وأي عار أقسى من هذا العار؟!.. ولكنها القصة الدائمة للخطية، والتي بدأها الشيطان بنفسه، إذ هوى من مركزه التليد عندما ترك رياسته، وأراد أن يأخذ مكاناً آخر، مكان الله في كبرياء قلبه،.. وهناك المفسرون الذين يبدأون به، وهم يرونه في شخص ملك بابل الذي تعالى وارتفع، في نبوة إشعياء، وسواء كان إشعياء يقصد الشيطان نفسه أو يقصد ملك بابل، أو يقصد أي إنسان آخر، تسقطه الخطية من مركزه المنيع، وهو يقول: "كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح كيف قطعت إلى الأرض يا قاهر الأمم".. فمما لا شك فيه أن الخطية أسقطت شمشون كالزهرة من السماء، من مركزه العظيم التليد لينتهي به المطاف إلى عمل طحان في سجن غزة!!.. شمشون وتوبته والذي لا شبهة فيه، هذه التوبة الأخيرة للجبار العظيم!!.. ما هي عناصرها وكيف حدثت وبماذا أثرت وأنتجت؟!!.. توبة الألم وكان هذا الألم لازماً وضرورياً، لكي يتبين سخط الله وغضبه، وإن ابتداء القضاء من بيت الله،... وحتى لا يتوهم أحد أحد أن الله يمكن أن يهادن الخطية أو يسكت على مرتكبيها، كائناً من يكون، وعلى أي وجه تأتي،.. لم يكن الفلسطينيون هم الذين دفعوا شمشون إلى سجن غزة، بل كان الله، وما من شك أن المدينة التي شهدت تبذله وفجوره، لابد أن تكون مكان سجنه أيضاً،.. هذا هو قضاء الله العادل، لأن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضاً!!.. على أن الله في الوقت عينه جعل الألم رسول الرحمة للإنسان البائس،.. وكم يجعل الله الباب الضيق طريقاً إلى الحياة الأبدية: "وأضيق عليهم لكي يشعروا".. ومع أن الألم في حد ذاته رسول قاس صعب مرهب، لكنه مرات متعددة ما يكون الرسول المناسب للإنسان الموغل في آثامه وخطاياه،.. وقد قيل عن منسى الملك القديم: "فلما تضايق طلب وجه الرب إلهه".. لم تكن هي إذاً قسوة الله، بل هي رحمته الكاملة في غطاء قاس، أو هي لب ولبن جوزة الهند المغطى بالغطاء الخشن الصعب القاسي!!.. توبة التأمل لم يعرف شمشون التأمل وهو على حجر دليلة، ولم يعرفه في ليالي عزه الآثمة،. ولكنه وهو في السجن مقلوع العينين ضعيف القوة يطحن في مذلة ومهانة، فتحت بصيرته على الانحراف الرهيب الذي وصل إليه، وأغلب الظن أن الحياة وقد أضحت ليلاً دائما أمام عينيه، كان يقول لنفسه إنها رحمة من الله أن يصل به إلى هذا الحد من المعاملة،.. إنه بالحري لا يستحق أدنى رحمة،. وقد جعل مجد الله في الحضيض وحق الله في الرغام، وقداسة الله أضحوكة الساخرين، إنه الآن يشكر الله على الظلمة الضاربة حوله، لأنها هي التي فتحت عينيه على العالم الآخر!!.. توبة العهد الراجع أخذ يتحسس شعره، وفي كل يوم يتزايد الشعر، يعود عهده إلى قلبه وذهنه، وهو يسأل الله: هل تعود وتقبل ابنك الضائْع؟؟ وهل يمكن وقد نفضت العهد أن تسترد مرة أخرى لي؟!!.. هل استطاع بصورة ما أن يغني هذه الأغنية: كما أنا وقد نقضت عهدك جهلاً بحبك أهنت مجدك الآن كي لك أكون وحدك آتي أنا يا حمل الله الوديع توبة المصلي على أي حال لقد مات والصلاة على شفتيه، وهي صلاة رائعة عظيمة.. لقد قال الله: إنه مات فعلاً عندما خرج عن الخط الإلهي، وهو يريد أن يسترد هذه الحياة، وهو لا يستطيع أن يستردها في العالم الحاضر بعد أن ضيع كل شيء ولكنه يريد أن يصنع خدمة لله بخروجه إليه معوضاً ما فاته من الخدمة والسنين التي أكلها الجراد -وآمن شمشون برحمة الله الواسعة، وصرخ: اذكرني يا سيدي الرب!! وأنت أيها الخاطيء، هل تستطيع أن تصرخ، وأنت شمشون آخر، لتقول لله: اذكرني يا سيدي الرب: "ما الفائدة من دمي إذا نزلت إلى القبر هل يحمدك التراب، هل يخبر بحقك، استمع يا رب وارحمني، يا رب كن معيناً لي، حولت نوحي إلى رقص، حللت مسحي ومنطتقني فرحاً لكي تترنم لك روحي ولا تسكت، يا رب إلهي إلى الأبد أحمدك!!".. "لا تشمتي بي يا عدوتي، إذا سقطت أقوم، إذا جلست في الظلمة فالرب نور لي أحتمل غضب الرب لأني أخطأت إليه حتى يقيم دعواي، ويجري حقي "سيخرجني إلى النور، سأنظر بره، وترى عدوتي فيغطيها الخزي القائلة لي أين الرب إلهك، عيناي ستنظران إليها. الآن تصير للدرس كطين الأزقة".وإذا كان الله قد أجاب شمشون، ورحم من لا يستحق الرحمة، فإنه بكل تأكيد سيرحمك لأنه يسر بالرأفة ويكثر الغفران!!..
المزيد
16 يونيو 2022

شخصيات الكتاب المقدس شمجر بن عناة

شمجر بن عناة وكان بعده شمجر بن عناة فضرب من الفلسطينيين ست مائة رجل بمنساس البقر "قض 3: 31 مقدمة هل سمعت أو قرأت عن المشاجرة الخيالية الطريفة بين أصابع اليد الواحدة، والتي تخيلها أحد الكتاب وتقول، إنها بدأت بالإبهام، عندما ادعى أنه الأعظم، وأن الله لهذا السبب خلقه منفصلاً عن بقية الأصابع، حتى لا تجسر على الاقتراب منه، إذ هو السيد، وهي العبيد؟؟ وثارت السبابة على هذا المنطق، وقالت: لو أن الرآسة بالحجم لتسلط الثور أو الفيل على ابن آدم، إنما الرآسة بمن له القدرة على الأمر والنهي،.. والناس عندما تأمر أو تنهي، تجدني أنا في مواجهة الغير، أنا الآمر الناهي بين الناس، أنا الرئيس، وضحكت الإصبع الوسطى وهي تقول: إن السيادة متوفرة لي، فأنا أطول الكل، والكل إلى جواري أقزام،.. وصاحت البنصر، ولوحت بالخاتم الذهبي فيها التي تعود الناس أن يضعوها في اليد اليسرى، وقالت: إنه لا يضعون خاتم الزواج إلا فيَّ!!.. وقالت الخنصر مهلاً أيها الصحاب، فقد أكون أصغر الكل، لكنني كما تلاحظون أحمل الجميع فوقي!!.. ربما كانت الخنصر أقرب الجميع إلى الصدق والصواب،.. لكن العبرة الحقيقية ليست في واحدة من الأصابع، بل في صاحب اليد الذي يحملها ويحمل أصابعها معاً!!.. كان شمجر بن عناة واحداً من أكثر المغمورين في الكتاب، لكن هذا الرجل المغمور المجهول، استخدمه الله كالأصبع الصغير في إنقاذ شعبه، والله على استعداد أن يستخدم أضعف الناس أو أقلهم حظاً من ظروف الحياة، حتى ولو لم يملك من الأسلحة في يده إلا منساس البقر، أو ذلك المنخص الذي يخز به الحيوان عندما يتوقف عن السير ويرفض التقدم بعناء!!.. إنها قصة إنسان تبعث الرجاء في أضعف الناس عندما يدفعهم الله إلى الأمام،.. ولو لم يكن يزيد في حياته العادية عن راعٍ من رعاة الأبقار. هلم معاً نر قصة شمجر بن عناة، ولماذا اختارته العناية ليكون من أوائل القضاة في إسرائيل: شمجر راعي البقر ليس هناك ما يخلب لب الصغار أو الشباب، قدر رؤياهم على الشاشة أو في صفحات الكتب رعاة الأبقار الأمريكيين، ولا أنسى صبياً صغيراً طريفاً التقيت به ذات يوم، وهو يلبس زيهم، بالحزام العريض، وإذ سألته ماذا تود أن تكون في الحياة؟، وظننت أنه سيختار مهنة من مهن الناس التي يراها حوله، كأن يكون طبيباً أو مهندساً أو صانعاً أو تاجراً، وجاء في الجواب: أريد أن أكون واحداً من رعاة الأبقار.. إنه يريد أن يمتطي صهوة جواد يسابق الريح، ويصعد به فوق الجبال أو السهوب، ويدفع أمامه الأبقار إلى المراعي، وهو يدخل في عراك مع من يعتدي عليها أو عليه، وهو لا يبالي بالجروح التي تصيبه أو تأتيه من الآخرين، إنه يريد أن يكون ابن الطبيعة الطليق وهو لا يرغب في قيود الحضارة أو المتحضرين!!.. إنه مفتون بما أطلق عليه توماس كارليل "عبادة البطولة" أو تمجيد البطولة كما يقول علماء النفس، أو هو ذلك النوع من الحياة الذي يضيق بالمنطق القائل نأكل ونشرب لأننا غداً نموت، أو نقضي أيامنا بهدوء وسكينة، حتى يطوح بنا من بعدنا في حفرة يسوونها بالتراب، لأننا تراب وإلى تراب نعود،.كان شمجر بن عناة راعياً من رعاة الأبقار، ظهر منذ آلاف السنين، قبل رعاة الأبقار الأمريكية، وكان لا يملك عندما داهمه في مزرعته وبين أبقاره ستمائة من الغزاة، وتلفت حوله، فلم يجد سلاحاً يواجههم به، ولم يجد بين يديه سوى منساس البقر، فأمسك به، وأبى أن يتراجع وقتل ستمائة بمنساس البقر، ويبدو أنه كان يملك في ذاته وداخله شيئاً أعظم وأكمل بما لا يقاس من هذا المنساس. شمجر والإيمان الخارق في أعماق كل واحد منا كمؤمنين قوة خارقة، لو نملك الإفصاح عنها تصبح آية للعالمين هل قرأت عن ذلك الرجل الذي وجد فرخاً صغيراً من أفراخ النسر فحمله إلى بيته، ووضعه بين أفراخ الدجاج، وأطعمه من طعامها، وكان ينظر إلى الفراخ، والفراخ تنظر إليه، كان وضعه غريباً في وسطها، وكان وضعها معه لا يقل غرابة، وابتدأ ينمو في حجمه، وابتدأ جناحاه يطولان، على أنه لم يلبث أن أصابه الضمور، وقلت حركته، فأخذه صاحبه إلى أعلى البيت وتركه على السطوح، ولكنه لم يلبث أن عاد من هناك إلى وسط الفراخ،.. ماذا يفعل معه الرجل؟، أخذه ذات صباح، إلى جبل عال، وأعطى وجهه للشمس وظهر النور العظيم، وهب النسيم، وإذا بشيء عجيب لا يدري النسر كنهه، فقد رفع عينيه نحو السماء، ومد جناحيه في الفضاء وارتعش بكامله، وصعد إلى أسمى علو، وعندئذ أدرك أنه لم يخلق للأرض، ولكنه خلق للسماء!! هذا هو شمجر بن عناة، وهذا هو أنا وأنت حينما ندرك الحقيقة التي تغيب عن حياتنا سنوات طويلة، نعيش فيها أسرى الهزيمة، والضياع، واليأس كفرخ النسر في عشش الدجاج، كان شمجر بن عناة يعلم أن أمة ولدت إبراهيم واسحق ويعقوب ويوسف وموسى ويشوع أمة أبطال، لم يكن لهم من قوة في ذاتهم ولكنهم استمدوا قوتهم من الله القادر على كل شيء.. وما من شك بأن شمجر بن عناة كان يسأل نفسه على الدوام لماذا نعيش في ظل الطغيان والضيق والهزيمة واليأس والله لم يتغير، وآباؤنا كشفوا عن أعظم الانتصارات التي جاءتهم من الاستناد إلى الله،.. وقد أدرك الرجل بأنه ليس في حاجة إلا إلى الإيمان،.. وليس الإيمان ببعيد عنه أو من أي إنسان يرغب في الاتصال بالله،.. إن الإيمان لا يزيد عن تغيير حالة قلب، وارتقاء بالنفس لتفرد جناحيها بلا حدود أو قيود في سماء الله،.. وليس الإيمان إلا أن ينتظر الله: "ومنتظرو الرب يجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور".. وما الذي يمنعه من الأجنحة المرتفعة!!.. لم يطلب الله من الإنسان شروطاً معينة حتى تكون له هذه الأجنحة. فهي للعالم ولمحدود العلم، وهي للفقير وللغني، وهي للصغير وللكبير، وهي للرجل والمرأة، وهي لمن يقف في أول الصف، أو من يكون في الصف الأخير!!.. وإذا كان شمجر بن عناة قد أدرك هذه الحقيقة في عودته إلى التاريخ القديم، فلعلنا أكثر قدرة منه نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، وما أكثر ما يحفل التاريخ المقدس بآلاف الأبطال الذين جاءوا من الصف الأخير ليأخذوا الصف الأول، ولم يكن لهم ما يميزهم سوى الإيمان بالله!!.. ألم يكن غلاماً صغيراً ذاك الذي لم يدع إلى المعركة بل ذهب إليها ليرى إخوته الكبار؟؟ أو في لغة أخرى لم يكن حتى في الصف الأخير، بل كان خلف الصفوف جميعاً، ومع ذلك برز لا يضحى في الصف الأول مع الملك، وقائد الجيش، بل ليبرز الجميع، ويصبح هو وحده بطل المعركة، وذلك لأنه كان يملك إيماناً أكثر من الجميع.. ألم تكن "جان دارك" الفتاة الفلاحة الفرنسية في الثامنة عشرة من عمرها، عندما قادت الجيش الفرنسي المهزوم، لتحول الهزيمة إلى نصر، وتتوج الملك، وهي لا تعرف شيئاً عن فنون الحرب، وتعرف كل شيء عن قدرة الإيمان في حياة أبسط الناس على الأرض؟؟ أمن فقط، قد يكون هو النداء الأول والأخير لأبسط إنسان على الأرض ليتحول مثل راعي البقر القديم ليصنع المعجزات!!.. شمجر والغضب المقدس تقول دبور في أغنيتها العظيمة: "في أيام شمجر بن عناة في أيام ياعيل استراحت الطرق، وعابرو السبيل ساروا في مسالك معوجة".. وهي تعطي الصورة التي تلت عصر يشوع، والتي عاث الفساد فيها في البلاد، وضاع الأمن، وانقلبت الأوضاع حتى أضحى المسافرون لا يجرؤون على السير في الطرق التي امتلأت باللصوص، إلى الدرجة أن عابري السبيل كانوا يبحثون عن المسالك الجانبية المعوجة، لعلهم يفلتون من قطاع الطرق، كان النهب هو الشائع، والأمان هو الاستثناء، وكان السر واضحاً في ذلك أن الشعب ترك إلهه، فتركه إلهه للفزع والرعب والضياع، وكان راعي الأبقار ينظر إلى الأوضاع فيلتهب قلبه بالثورة المكبوتة، إنه يعلم أن سر البلوى هو انصراف الناس عن الإله العظيم الذي أخرجهم من مصر وأعطاهم الأرض، ومع ذلك رفضوه واختاروا: "آلهة حديثة حينئذ حرب الأبواب".. وستبقى الحرب دائماً على الأبواب، عندما نقفل الباب في وجه إلهنا، ورأى شمجر الظلم والطغيان والنهب، في الحقول الضائعة، والجموع الجائعة، والشعب المستعبد المسكين،.. وامتلأ الرجل بالغضب المقدس،. هناك نوعان من الغضب يختلفان تمام الاختلاف، ويتباينان تمام التباين،.. هناك الغضب الآثم الذي يصنع بر الله، كغضب نبوخذنصر عندما امتلأ غيظاً وتغير منظر وجهه على شدرخ وميشخ وعبد نغو، وأمر بأن يحمي الأتون سبعة أضعاف أكثر مما كان معتاداً أن يحمي، وذلك لأن هؤلاء تعمدوا ألا يعبدوا آلهته أو يسجدوا لتمثال الذهب الذي نصبه،.. ومثل هذا الغضب أناني حقود قاس مستبد متغطرس يكرهه الله كل الكراهية، ويعاقب -إن آجلاً أو عاجلاً- صاحبه والداعي إليه،.. لكن هناك نوعاً من الغضب الآخر، كغضب فنيحاس الذي طعن الزاني والزانية، ودان القباحة المتسهترة التي تفعل الشر في المكان المقدس، وهناك غضب موسى عندما رأى العجل الذي عبدوه الإسرائيليون، وطحنه وسحقه وذراه على وجه المياه، وهناك غضب المسيح عندما حمل سوطه وطرد من حولوا بيت الله إلى مغارة لصوص،.. رؤى أحد رجال الله، وهو يتميز غيظاً وغضباً في الطريق، لأنه رأى لونا ًمن ألوان الظلم لا يستطيع أن يسكت عليه ويهادنه، ورؤى آخر يمسك فرشاته، ويحمل سلماً، إلى مكان كتبت فيه كلمات قبيحة، لابد له أن يمحوها محواً، لأنها آذت عينيه، ويمكن أن تفسد حياة الكثيرون من الشباب الذين يقرأونها كان شمجر بن عناة يملك هذا النوع من الغضب المقدس!!.. شمجر والدفاع المشروع إن المدقق في قراءة قصة شمجر بن عناة، يرى أن شمجر لم يكن مهاجماً، إذ لا يتصور قط أن رجلاً يحمل معه منساس البقر ليأخذه سلاحاً يهاجم به ستمائة رجل من الأعداء الأشداء المسلحين، بل المتصور أن الرجل كان في حقله أو كان يرعى أبقاره في مكان ما، وتعرض له الغزاة على أسلوب وحشي مثير،.. فهل كان له أن يهرب، ويترك أرضه، أو أبقاره، ويعتبر النجاة نوعاً من الفوز، يغبطه عليه أهله وصحبه عند عودته إلى البيت؟؟ لا أعتقد أن الرجل أصيب بحالة من الجنون، كذلك الجندي الذي دخل في وسط الأعداء وأخذ يمعن تقتيلاً، وعندما نظره معسكره على هذه الحال، ورجع إليهم، قالوا له ماذا فعلت وكيف جرؤت على الدخول في وسط الأعداء على هذه الصورة؟.. أجاب: لست أعلم، لأني وجدت نفسي في حالة من الجنون لا أدريها، هي التي فعلت كل هذا،.. لا أظن أن شمجر بن عناة كان له هذا النوع من الجنون، إنما أعلم أن الرجل أدرك ما قاله كرومويل فيما بعد، عندما سألته أمه: ألا يحسب حساب المعارك التي يدخلها.. أجاب: يا أمي توجد لحظات في الحياة لا يستطيع الإنسان فيها أن يقيم أي وزن لما يمكن أن يحدث،.. أليس هذا ما وصل إليه الثلاثة فتية الذين رحبوا بالنار سواء خرجوا منها أحياء أو لم يخرجوا، وهذا نسمعه من جوابهم الحاسم للملك القديم!: "يا نبوخذنصر لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من آتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك وإلا فليكن معلوماً لك أيها الملك أننا لا نعبد آلتهك، ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته".. لو أن حادث شمجر مع الغزاة كان حادثاً شخصياً لا يتكرر، لربما أمكن التصرف فيها بصورة مخالفة،.. لكن هذا الاعتداء كان أكثر من اعتداء شخصي إذ هو اعتداء على أمة وشعب، وأكثر من ذلك هو تحد وإهانة واستهتار باله هذا العشب، والعقيدة الدينية التي يتمسك بها، هو صراع بين تابوت الله وداجون، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة،.. وأدرك شمجر بن عناة أنه أفضل له أن يعود إلى بيته حياً أو ميتاً من أن يسلم للظلم والفساد والشر أن يفعله فعله!!.. إن السؤال عن الدفاع المشروع، ما يزال من أهم الأسئلة التي تطرح على الذهن البشري -ما هي فلسفته ووسائله وحدوده؟!! وباديء ذي بدء نحن لا نعرف جماعة إنسانية ترفض في الأرض كلها فكرة الدفاع المشروع، إلا طائفة الكويرز أو الأصحاب، وهذه الطائفة لا تقبل العنف بأي صورة، وقد حدث أن سيدة من "الأصحاب" دخلت ذات يوم إلى بيتها، فرأت لصاً يعبث بأموالها ومجوهراتها، ولما رآها وجه غدارته نحوها، فقالت له: لا تفزع ولا داعي لأن توجه غدارتك إلى، إن عندي الكثير، وخذ ما تريد، وأنت قبل وبعد الكل إنسان وأخ لي،.. وأسقط في يد الرجل،.. وقال لها: يا سيدتي لقد قاومني الناس كثيراً، وحولوا بهذه المقاومة مني مجرماً عتيداً، ولم أسمع لغة كهذه قط من بين الناس، ولم أسمع أن واحداً دعاني أخاً، بل أنا في نظرهم مجرم حثالة الناس، لن آخذ شيئاً منك يا سيدتي،.. وخرج، ولعله خرج إنساناً آخر.. هذه هي فلسفة الأصحاب، إنهم يرفضون مقاومة الشر استناداً إلى قول المسيح: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين"، على أن المسيح -فيما أعتقد- لم يكن يقصد المعنى الحرفي بالدليل أنه لم يطبقه هو، وقال للخادم الذي لطمه أمام رئيس الكهنة: "إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي وإن حسناً فلماذا تضربني".. كما أن بولس فسر المقاومة المقصودة هنا مقاومة الشر بالشر إذ قال: لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل اعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. على أن بولس نفسه، وهو خير مفسر للمسيح ولكلامه، لم يفسر الأمر بالتخلي عن الحق المشروع للإنسان الذي يمكنه أن يتمسك به في لحظات الدفاع عن النفس، فعندما اعتدى عليه دون حق في فيلبي، وأرسل الولاة الجلادين إلى حافظ السجن ليطلقه وسيلا أجاب: "ضربونا جهراً غير مقضي علينا ونحن رجلان رومانيان وألقونا في السجن أما الآن يطردوننا سراً كلا بل ليتأتوا هم أنفسهم ويخرجونا".. ولم يكن له لطف المسيح عندما أمر حنانيا رئيس الكهنة أن يضربوه على فمه: "حينئذ قال له بولس سيضربك الله أيها الحائط المبيض أفأنت جالس تحكم على حسب الناموس وأنت تأمر بضربي مخالفاً الناموس".. إن فلسفة الدفاع المشروع تدور وجوداً وعدماً حول كسب المعتدي، والوصول إلى السلام، ورفعه إلى مستوى العدالة والحق الإلهي،.. وفي سبيل ذلك يمكن التخلي عن الحق الشخصي، في سبيل غرض أعلى وأسمى، على أن هذا لا يعني بحال ما طرح جميع الوسائل الأخرى التي قد تكون في إمكانية الإنسان، كالحق الذي كان لبولس بصفته مواطناً رومانياً يحق له التمسك بتطبيق القوانين الرومانية العادلة، إذا ما شط المعتدي، وحاول أن يتجاوز هذه القوانين والحقوق!!.. على أن الالتجاء إلى القضاء ليس مطلقاً، فقد يكون الأفضل مرات متعددة معالجة الأمور بعيداً عن هذا السبيل، ولا سيما إذا كان المتنازعون من الإخوة أو المؤمنين، وقد عاب الرسول على الكورنثيين الالتجاء إلى المحاكم الخارجية، وطلب دعوى التحكيم الكنسي دون هذه المحاكم: "أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر أن يحاكم عند الظالمين وليس عند القديسين ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم. فإن كل العالم يدان بكم فأنتم غير مستأهلين للمحاكم الصغري".. إن الحق في الدفاع المشروع أمر ينبغي أن يقدره الإنسان بكل كلمة وفطنة، ولسنا نعلم مدى فلسفة ذلك المرسل الذي كان يسير في ليلة من الليالي وهو يركب في إحدى البلاد الشرقية، فخرج إليه جماعة من قطاع الطرق، فرفع سلاحه في وجههم، وكانوا يعرفونه، فقالوا له: هل يجوز لمرسل أن يقتل الآخرين، وهو أول من ينادي بالوصية القائلة: لا تقتل؟.. وكان جوابه: إني وأنا أرفع السلاح أنفذ الوصية، لأني إذا سلمت بسهولة في نفسي، فأنا أشارككم في قتلها، وترك القاتل ليقتل دون الوقوف في طريقه دون حماية النفس، إنما هو تشجيع مباشر له على العدوان وحماية غير مباشرة للنفس التي حرم الله قتلها!!.. هل كانت هذه الحكمة هي حكمة شمجر بن عناة؟.. أم أن شمجر كان يرى نفسه قاضياً لإسرائيل، وأن مهمته أن يدفع الظلم والاعتداء، وأن أنوار العهد الجديد لم تصل إليه أو تصل إلى ياعيل التي ضربت رجلاً نائماً لا يملك الدفاع عن نفسه، وقد استأمنها على نفسه في هذا البيت؟؟.. مهما يكن الأمر فإن عصر الرجل، كان يختلف ولا شك عن عصرنا من نوع الحياة والهدف والغاية، وكانت قضية الرجل قضية دينية، لم يدفع فيها عن نفسه شراً فحسب، بل كان أكثر من ذلك رجلاً يدفع الشر على البؤساء والمعذبين والمظلومين من شعب الله في أيامه!!.. فإذا جئنا إلى العصر المسيحي، فليكن موقفناً دائماً من الاعتداء نسيان الصالح الشخصي، أو الرغبة الشخصية في الانتقام، والسعي ما أمكن إلى كسب المعتدى لله، والحق والسلام، والتسليم في كافة الأمور لمن يقضي بعدل!!. غير أن هناك شيئاً واحداً لا يجوز التزحزح عنه قيد أنمله، وهو أن لا يكون السلام على حساب الحق ومجد الله،.. وهنا لننصت بكل خشوع إلى قول السيد: "لم آت لألقي سلاماً على الأرض بل سيفاً".. ولقد بلغ المؤمنون أروع صور الشهادة، عندما أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله!!.. لقد أبى الشهداء في روما أن يقبلوا السلام على حساب يسوع المسيح، ومع أن هناك أمثلة لا تنتهي، لكننا سنذكر قصة غلام صغير ارتبطت قصته باستشهاد مارسيلوس، وكان الغلام اسمه ماركوس بولو سيرفيللي، وكان في الثالثة عشرة من عمره وكان ينتسب إلى عائلة سيرفيللي النبيلة التي أدت أروع ما تستطيعه عائلة لبلادها،.. وعندما وجه القاضي التهمة للغلام بأنه مسيحي، أجاب على الفور: هذا الاتهام يعد شرفاً لي. أنا مسيحي، وأعتبر نفسي سعيداً لأني أستطيع أن أعترف بذلك أمام هذا الجمع الغفير، وعندما قال له القاضي: أيها الولد الشقي: هل تعرف نوع التهمة الموجهة ضدك؟؟ أجاب: أنا متهم بغير جريمة، وإيماني يعلمني أن أخاف الله، وأخدم الامبراطور، وأطيع كل القوانين العادلة، وقد نفذت كل هذا بضمير صالح،.. قال له القاضي: إن جريمتك أنك مسيحي خائن للوطن، فأجاب: أنا مسيحي، ولكني لست خائناً للوطن، وإذ قال له القاضي: إن القانون يحرم الإيمان بالمسيح ومن يكسر هذا القانون عقابه الموت.. أجاب: أنا مسيحي.. قال القاضي: إذاً فعقابك الموت.. وقال الغلام: فليكن. حاولوا أن يثنوه بكافة الطرق، بالتهديد، والإغراء، ولكنه ثبت كالطود الراسخ ووضع الغلام أمام نمر جائع.. وتحول كتلة من العظام والدم!!.. ومات شجاعاً كأفضل ما يكون الإنسان في الشهادة المسيحية ولو غرق في بحر من دم!!.. شمجر والوسيلة الضعيفة هوجم شمجر بن عناة، ولم يكن يملك سلاحاً، فإن الفلسطينيين جردوا الشعب من كل سلاح، كان يرعى أبقاره، وكان يمسك بمنساس البقر، وكان المساس هو السلاح الوحيد الذي يحمله، ويمكن أن يستخدمه، ولم يتوان الرجل عن استخدام الوسيلة الهزيلة الضعيفة، التي قادته إلى النصر وإلى قيادة الأمة بأكملها،.. من الناس من هو على استعداد أن يحارب، ولكن بشرط أن يكون في يده السلاح المناسب، ولو أدرك الحقيقة أن السلاح المناسب، هو الذي بين يديه، مهما كان ضعيفاً أو ضئيلاً أو صغيراً،.عند الأمريكيين قصة صبي صغير اسمه لوقا فارنوم، وكان ولداً فقيراً أعرج، صبي حداد، وحدث ذات يوم أثنآء حرب الاستقلال، والصبي يقف أمام الدكان، وهو حزين لأنه لا يستطيع أن يذهب إلى المعركة لعجزه وضعفه، وإذا بجماعة من الفرسان تمر به، ويسألونه وقد تبينوا أن معلمه غير موجود، عما إذا كان يستطيع أن يضع حدوة للحصان، فأجاب بالإيجاب لأنه ساعد معلمه كثيراً في صنع الحدوات، وتركيبها،.. وقام بالعمل خير قيام، وقال له القائد: اعلم أيها الصغير أنك قمت بعمل في خدمة بلدك يساوي عمل عشرة جنود، وكان المتكلم هو الكولونيل وارنر الذي أرسل لنجدة معركة من أهم المعارك التي قلبت ميزان الحرب، ولم يكن يعلم الولد الصغير الأغنية القائلة: لما سقط المسمار ضاعت الحدوة لما ضاعت الحدوة ضاع الحصان لما ضاع الحصان ضاع الراكب لما ضاع الراكب ضاعت المعركة لما ضاعت المعركة ضاعت الدولة كل هذا حدث لما ضاع المسمار ليس الأمر أمر راعي البقر أو المنساس في يده، إذ أن الأمر أعظم من ذلك بما لا يقاس، إذ هو أمر الله الذي يمسك بالراعي والمنساس معاً، والله لابد أن يكون الأول والأخير في المعركة، وكرامته لا يعطيها لآخر، لو كان هناك شيء آخر مع موسى غير العصا، لربما التفت الناس إلى هذا الشيء، ولم يروا الله السيد المنتصر،.. ولو كان هناك شيء بيد داود غير المقلاع وحجارة الوادي الملس، في مواجهة جليات، لما ظهر الله، ولما استطاع الشاب القديم أن يقول للجبار: "أنت تأتي إليَّ بسيف ورمح وترس وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتم اليوم، هذا اليوم يحبسك الرب في يدي فأقتلك وأقطع رأسك..".. لم ير شمشون على مقربة منه -وهو يواجه الفلسطينيين- سوى لحي حمار كان سلاحه في قتل ألف منهم!!.. وهكذا يعمل الله في الآنية الضعيفة في كل العصور والأجيال أو كما قال أحدهم: "لا بالقدرة ولا بالقوة استطلع لوثر أن يواجه ثورة روما وقوتها ومقامها ويحقق الإصلاح،.. ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم بوث أن يقابل الفقر والسخرية والهزء وينشيء جيش الخلاص العظيم.. ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم لويد جارسون أن يهاجم -وهو أعزل- نظام الرق، ويطلق من عقالها القوة التي حررت آخر الأمر أربعة ملايين من العبيد"..لقد أدهشت شجاعة وليم أورنج في تسليح الفلاحين في هولندا والفلاندرز ضد طغيان الملك فيليب وألفا الدموية، وإذ تساءل الملك الأسباني عمن يكون وراء هذه الحركة من حلفاء أو ملوك: أجاب وليم الشجاع: "إنك تسألني عما إذا كانت قد دخلت في حلف رسمي مع قوة أجنبية ألا فاعلم أني قبل أن أحمل على عاتقي قضية هذه الولايات المنكوبة قد دخلت في الحلف والعهد مع ملك الملوك ورب الأرباب".. ولقد فعل هذا من قبل شمجر بن عناة وهو يمسك منساس البقر، وتستطيع أنت وأنا أن نفعل، في مواجهة معارك الخطية والإثم والفساد والشر، ذات الشيء ونحن نغني أغنية بولس العظيمة: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني"..!!..
المزيد
09 يونيو 2022

شخصيات الكتاب المقدس شاول الملك

شاول الملك "..فمات شاول وبنوه الثلاثة وحامل سلاحه وجميع رجاله في ذلك اليوم معاً" 1صم 31: 6 مقدمة منذ سنوات عديدة، كتب شاب إيطالي كتاباً صغيراً عن الشهيد ورجل الله العظيم "چون هس"، وكان هذا الشاب في ذلك الوقت مثالياً يكره العنف والطغيان، ومن ثم جاءت في الكتاب هذه العبارة: أتمنى لكل قاريء لهذا الكتاب أن يكره العنف والطغيان الروحي، بل كل ألوان العنف والطغيان،.. ولكن هذا الشاب اجتذبته السياسة، وتحول شيئاً فشيئاً حتى أصبح طاغية من أكبر طغاة التاريخ، وقد قاده هذا الطغيان إلى مصير مفجع، كان هذا الطاغية هو "موسوليني"!!.. وفي الحقيقة ما أكثر ما تتلون النفس البشرية من النقيض إلى النقيض،.. ولعل هذا يظهر بوضوح في شخصيتين كانتا تحملان اسم "شاول" وكلا الشخصيتين من سبط واحد هو سبط بنيامين، كان الأول شاول بن قيس، الذي بدأ كأروع ما تكون البداءات، لينتهي إلى أسوأ ما يمكن أن تكون النهايات،.. هذا في الوقت الذي بدأ فيه شاول الطرسوسي على العكس بداءة مرهبة قاسية سيئة، لينتهي إلى أجمل ما يمكن أن تكون عليه حياة الإنسان في الأرض، وليس هناك كارثة يمكن أن تكون قدر كارثة الإنسان الذي يبدأ حسناً لينتهي سيئاً، وربما يبدو السؤال الهام وكيف يمكن أن يحدث هذا؟!! إذا أردت أن تعرف السبب الصحيح الوحيد، فإنه يتلخص في كلمتين: “الله” و“النفس”، وموضع كليهما من الإنسان، ومشكلة الإنسان التعس، هو أنه يضع “النفس” مكان الله، فإذا أراد السعادة، والبهجة والعظمة والخلود، فليس عليه إلا أن يعكس الوضع فيتحقق له كل هذا!!.. كانت تعاسة الملك شاول أنه بدأ بالله لينتهي مع النفس، فذهبت قصته مثلاً مخيفاً يقرؤها الناس للتعجب والتحذر معاً… ويجمل بنا أن نراها فيما يلي: شاول والرغبة الشعبية لو أنك أردت أن تعرف سر الرجل من البداءة لأدركت أنه قبل وبعد كل شيء نتاج الرغبة الشعبية أو هو في لغة أخرى "نداء المنظور" نداء شعب هتف للمرة الأولى في حياته: "ليحيي الملك"، نداء شعب يريد قائداً منظوراً يواجه أعداءهم، وقد كان الفلسطينيون في ذلك الوقت قوة رهيبة لهم ثلاثون ألف مركبة وستة آلاف فارس، وشعب كالرمل الذي على شاطيء البحر في الكثرة، وربما لم ير الإسرائيليون قوة مماثلة لهذه القوة، فيما سبق منذ وطأة أقدامهم أرض كنعان، ولم يكتف هؤلاء بالحرص على تزايد قوتهم، بل عملوا على الدوام على إضعاف اليهود، وذلك عن طريق خطة ماكرة، إذ قضوا على جميع الحدادين العبرانيين حتى لا يستطيع هؤلاء أن يحرزوا سلاحاً على الإطلاق، ومن ثم كان ينزل إسرائيل إلى الفلسطينيين كي يحدد كل واحد سكته ومنجله وفأسه، عندما كانت حدود السكك والمناجل والمثلثات الأسنان والفؤوس ولترويس المناسيس، ومع أننا لا نعلم كيف سمح الإسرائيليون لأنفسهم أن يصلوا إلى هذه الحالة كلها على أي حال كانت منتهى الذل والضعة والضعف التي وصلوا إليها، ومن ثم جاءت النتيجة الحاسمة لهذه الحالة، فما أن رأى الشعب أعداءهم بهذه القوة والكثرة حتى استولت عليهم الرعدة والفزع فاختبأوا في كل مخبأ يمكن أن يجدوه في المغاير والغياض، والصروح والآبار، وبعضهم عبر الأردن هارباً إلى أرض جاد وجلعاد!!.. على أن نداء المنظور كان إلى جانب ذلك رغبة التفاخر بمنظر الملك المهيب، الذي يواجه الملوك الآخرين، وقد كانت هذه الرغبة عميقة في قلوبهم إلى الدرجة أنهم على استعداد أن "يأخذ بنيكم ويجعلهم لنفسه لمراكبه وفسرانه أمام مراكبه.... ويأخذ بناتكم عطارات وطباخات وخبازات، ويأخذ حقولكم وكرومكم وزيتونكم أجودها ويعطيها لعبده، ويعشر زروعكم وكرومكم ويعطي لخصيانه وعبيده. ويأخذ عبيدكم وجواريكم وشبانكم الحسان وحميركم ويستعملكم لشغله" هذه الرغبة مهما تكلف، فهي حياة هذا الشعب في كل التاريخ، وهي صور متكررة للعجل الذهبي الذي صنعوه في سيناء، أو أقامه يربعام بن نباط في بيت إيل ودان، أو العجل الذي يعبدونه إلى اليوم من أيام المسيح إلى الآن، وهو المال الذي يجمعونه في كل أقطار الأرض إلى أن يهديهم الله، ويعيدهم إلى الفادي الذي صلبوه على هضبة الجلجثة في أورشليم!!... وهو "المنظور" عند أي إنسان يضعه ملكاً في حياته بديلاً عن الله، ويظن أنه بذلك يستطيع أن يسير في موكب الحياة،.. وهو لا يعلم أنه لن ينتفع بذلك الملك على النحو الذي يحلم به، بل سيتحول الملك إلى طاغية رهيب: "فتصرخون في ذلك اليوم من وجه ملككم الذي اخترتموه لأنفسكم، فلا يستجيب لكم الرب في ذلك اليوم"... ويح الإنسان إذ يستبدل الله كما استبدله الإسرائيليون، وهل لله من نظير أو بديل كما يقول موسى: "ليس مثل الله يايشورون يركب السماء في معونتك والغمام في عظمته الإله القديم ملجأ والأذرع الأبدية من تحت فطرد من قدامك العدو وقال أهلك فيسكن إسرائيل آمناً وحده تكون عين يعقوب إلى أرض حنطة وخمر وسماؤه تقطر ندى طوباك يا إسرائيل، من مثلك يا شعباً منصوراً بالرب ترس عونك وسيف عظمتك فيتذلل لك أعداؤك وأنت تطأ مرتفعاتهم!!.. شاول والإجابة الإلهية أدرك صموئيل عندما طلب الإسرائيليون منه ذلك، أن الشعب يقف على مفرق الطريق في أخطر تحول منه عن الله،.. الانتقال من الحكم الإلهي، إلى الحكم الملكي، أو الانتقال من الحكم الإلهي المباشر إلى الحكم الإلهي غير المباشر عن طريق ملك منظور، وما من شك بأن هناك فرقاً بارزاً بين الاثنين، فالأول أقرب إلى النظام الجمهوري بينما يتجه الثاني صوب النظام الملكي الوراثي، الأول يحصر فكره في الله كملك الأمة، وما القضاء والأنبياء إلا خدمه وممثلوه في القيادة وتدبير الأمور دون أن يكون لهم أدنى حقوق على الشعب، بينما يخضع الثاني للمك المنظور وما تفرضه الملكية من التزامات وفرائض!!.. وإذ أصروا على الطلب أجاب الله طلبهم وانتظارهم في شخص شاول،.. وقد كان شاول قمة انتظارهم، وإن كان من الواضح أن الرجل الذي كان ينشده الرب، كان شخصاً يختلف كل الاختلاف عن الصورة المرسومة في أذهانهم.. ولكنها عادة الله دائماً أن يعطي الإنسان حسب شهوة قلبه، وويل لمن له هذه الشهوة، التي تحجب رغبة الله الصحيحة، والتي يرفض أن يعطيها إلا لمن يطلبها بعمق التسليم لإرادته وحكمته.. كان شاول كما يريد الشعب: الملك المهيب الطلعة كان شاول الملك المهيب الطلعة، فإذا أخذنا الأمر بالقياس المادي، فهو أطول من كل الشعب من كتفه فما فوق، والجمال الجسدي هو أول ما يلفت النظر في الإنسان، وإن كان مرات كثيرة ما يكون السر الأكبر في خطأ تقييم الشخصية، رأى أحدهم اللورد لويد الذي قاد بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، وكان قصير القامة،.. فقال له: إني أتعجب أن رجلاً مثلك يمكن أن يكون رئيس الوزراء لبلاد تأتي في الطليعة بين الأمم،.. ورد عليه اللورد لويد قائلاً: في بلادكم تقيسون الرجل من هامة الرأس إلى أخمص القدم، وفي بلادنا يقيسون الرجل من هامة رأسه وأسفل ذقنه،... أي أن القياس بالعقل لا بالطول الفارع المديد،.. ومع ذلك فالشعوب تؤخذ في العادة بالبنيان الجسدي، وكان شاول متميزاً من هذا القبيل. الملك الوطني على أنه -كان أكثر من ذلك- الملك الوطني الشجاع الذي يدرك معنى رسالة الملك بالنسبة لأمته، فإذا تعرض ناحاش العموني ليابيش جلعاد يريد أن يستعبدها ويذلها على نحو لم يسمع به في كل التاريخ، بتقوير العين اليمني لكل رجل فيها، وإذا بشاول يسمع ويرى بكاء أهل المدينة، فتثور فيه الكرامة الوطنية، وإذ هو يرسل نداءه إلى الأمة كلها، ويأخذ فدان بقر يقطعه ويرسله إلى كل تخوم إسرائيل بيد الرسل قائلاً: من لا يخرج وراء شاول ووراء صموئيل يفعل هكذا ببقرة فوقع رعب الرب على الشعب فخرجوا كرجل واحد وراءه، وهو يدافع عن يابيش جلعاد وينتصر لها، وهو يعيش الملك الوطني حتى يسقط مع أولاده الثلاثة على جبال جلبوع دون أن يتنكر للأمة أو يتخاذل عن قيادتها، مهما أحاطت به الظروف، أو تغيرت به الأوضاع!!. الملك الديمقراطي وهو يبدأ حياته الملكية، لا متعالياً على أحد، أو منتقماً من أحد، بل بالحري يطلبونه يوم التتويج، فيجدونه مختبأ بين الأمتعة وهو لا ينسى عندما يتحدث إليه صموئيل في أمر المملكة أنه بنياميني من أصغر أسباط إسرائيل، وأن عشيرته أصغر كل عشائر أسباط بنيامين، وهو يبدأ من القاع، ذهب باحثاً عن أتن ضالة، ليجد مملكة، وإذ يحتقره بنو بليعال لضآلة منبته، ويقولون كيف يخلصنا هذا؟ ويرفضون أن يقدموا له هدية، يصبح كأصم!!.. ولعلنا نلاحظ أنه من فرط الوداعة التي كان عليها أولاً، عندما سأله عمه عما حدث في لقائه مع صموئيل، أجابه: “أخبرنا بأن الأتن قد وجدت، ولكنه لم يخبره بأمر المملكة الذي تكلم به صموئيل”… الملك الغيور وهو فيما نقرأ عنه كان الملك الغيور الملتهب العاطفة الذي يقضي على العرافات، ويحاول تطهير المملكة منهن، والجبعونيين الذين قطع يشوع لهم عهداً،.. وإذ يدخل في معركة مع الفلسطينيين يلعن من يتذوق خبزاً حتى المساء قبل أن ينتقم منهم، وهو على استعداد أن يضحي بابنه يوناثان الذي خالف الأمر، وإذا تذوق شيئاً من العسل حمله بطرف النشابة، وكاد أن يقتله لولا أن افتداه الشعب من يده!!.. وهل يمكن أن ينتظر شعب من مليكه أكثر من هذه الخلال العظيمة، الملك المهيب الرائع المنظر، والوطني المتقد، والديمقراطي الوادع،.. والغيور الذي ينقب على مصالح الشعب، ويتقدم لمواجهته في الحرب أو السلم على حد سواء!!.. شاول والفرصة الذهبية كان شاول من كل وجه يملك الفرصة الذهبية التي أتيحت له،.. لقد أعطاه الله، عندما أدار كتفه من عند صموئيل قلباً آخر، والله يعطي القلب الآخر على الصورة التي يشتهيها المرء أو يطلبها وعندما طلب داود "قلباً نقياً" غسله الله من الخطية البشعة التي تردي فيها وعندما طلب ابنه سليمان "قلباً فهيماً" أعطاه الله هذا القلب وليته طلب مع القلب الفهيم طلب أبيه، إذ أنه حكم مملكة بأكملها، وعجز في الوقت نفسه عن حكمة قلبه الذي مال وراء النساء الغريبة مع بنت فرعون من الموآبيات والعمونيات والصيدونيات والحثيات من الأمم الذين قال عنهم الرب لبني إسرائيل: لا تدخلون إليهم وهم لا يدخلون إليكم لأنهم يميلون قلوبكم وراء آلهتهم، فالتصق سليمان بهؤلاء بالمحبة... وكان في زمن شيخوخته أن نساءهن أملن قلبه وراء آلهة أخرى... وقد وضع صموئيل ثلاث علامات أمام شاول، هدية الثلاثة الرجال الذين سيلتقي بهم، ويأخذ منهم رغيفي خبز بعد أن يسلموا عليه، ومقابلة الزمرة من الأنبياء عند المرتفعة وأمامهم الرباب والدف والناي والعود، وهم يتنبأون، وسيتنبأ هو مثلهم، وسيتعجب الناس من تنبؤه وسيجيب آخرون بما سيضحى مثلاً بين الجميع: "أشاول بين الأنبياء" وسيكون الجواب: "ومن هو أبوهم"... والأمر الثالث أن الله سيعطيه قلباً آخر، وأغلب الظن أن شاول وقد امتلأ فكره بهذا الشيء العظيم المباغت الجديد، تحول ذهنه من الأتن الضائعة إلى المملكة الضائعة، والتي كان عليه أن يعيدها من قبضة المستعبدين الغاصبين، وكان قلبه مفعماً بهذا الإحساس، وإذ أدار كتفه من عند صموئيل أعطاه الله هذا القلب الآخر، الذي يحمل خواص الملك والقائد،.. وليس في هذا قليل أو كثير من حياة الولادة الجديدة، التي لم يكن يعرفها أو تدور في قلبه ومطلبه،... ومع ذلك فقد أعطاه الله الفرصة للارتفاع إلى ما هو أعلى وأسمى، بالنضمام إلى زمرة الأنبياء، والتي يعتقد أن صموئيل أنشأ مدرستها ليرفع من حياة الأمة، ويسمو بنقاوتها ورسالتها، وارتقى شاول إلى هذا المستوى وتنبأ بينهم،.. وقد أعانه في المعارك المتعددة التي واجهته: "وأخذ شاول الملك على إسرائيل وحارب جميع أعدائه حواليه موآب وبني عمون وآدوم وملوك صوبة والفلسطينيين، وحيثما توجه غلب وفعل ببأس وضرب عماليق وأنقذ إسرائيل من يد ناهبيه،... غير أن هذا كله لم يعط شاول القلب الجديد المولود ثانية من الله، وعندما استولت الخطية على هذا القلب ذهب مرة أخرى ليتنبأ وهو يطارد داود راغباً في قتله، ومن السخرية أنه ذهب إلى نايوت في الرامة، وهناك حل عليه روح وتنبأ هذه المرة وهو عار من ثيابه، ولسنا نعلم ماذا قال في نبوته، ولعله كان أشبه ببلعام بن بعور، أو قيافا رئيس الكهنة أو غيرهما ممن فصل الله في شخصياتهم بين النبوة والحياة، على أي حال أنها الفرصة الذهبية العظيمة، التي أعطاها له الله، كما أعطاها لواحد آخر بعد أكثر من ألف عام ليكون واحداً من الاثنى عشر، ومن الغريب أن كليهما انتهى إلى الليل الرهيب: "فقال شاول لعبيده: فتشوا على امرأة صاحبة جان فأذهب إليها وأسألها... وجاءوا إلى المرأة ليلاً"!!.. "فذاك لما أخذ اللقمة خرج للوقت وكان ليلاً"... أجل وفرصة الله إذ لم تقتنص وضاعت، تنتهي بصاحبها إلى الليل، إلى الظلمة الخارجية، إلى حيث يكون البكاء وصرير الأسنان!!. شاول والانحدار الرهيب كان شاول أسوأ حظاً من جواد الاسكندر الأكبر، والذي قيل إن هذا الجواد كان من أعظم الجياد، ولكن ما ركبه أحد إلا وأسقطه على الأرض، وحاول الاسكندر أن يفهم السر، حتى أدرك أن الجواد كان يخاف من ظله، فأداره في اتجاه لا يستطيع معه أن يرى الظل، واستأنسه بهذه الصورة،.. وقد حاول صموئيل أن يفعل نفس الشيء مع شاول، حاول أن يستغل ملكاته، وينقذ نفسه، فأحبه حباً عميقاً، وبكى عليه عندما رفضه الرب الليل كله،.. وقد جاهد بالمشورة والمعونة والنصيحة أن يخرجه من ظل "النفس"، لكن هذا الظل بقى معه إلى النهاية حتى بلغ به جبال جلبوع ليموت هناك مع أولاده الثلاث أشنع ميتة... ولعلنا الآن نرى هذا الظل الرهيب الذي انحدر بالرجل إلى مثل هذا المنحدر القاسي: شاول وعدم التعمق في الدين لعله من أغرب الأشياء أن هذا الرجل الذي كان على رأس الأمة كان سطحياً إلى أبعد الحدود في الحياة الدينية، وليس أدل على ذلك من أنه لم يكن حتى ساعة الأتن الضائعة يعرف شخص صموئيل، وصموئيل -كما نعلم- كان في ذلك الوقت نبي الأمة وقاضيها ومحررها، وكان الإسرائيليون يذهبون إليه من كل مكان يتلمسون الحكمة والإرشاد والهداية والدين على يديه، ومن العجب أن شاول عندما ذهب إليه، لم يكن مدفوعاً برغبة دينية، بل لمعرفة الأتن الضالة!!.. كان في ذلك الوقت كما يعتقد البعض في الخامسة والأربعين عن عمره،.. ولكنه أشبه بمن يكون في هذه السن، وعقله في الخامسة أو العاشرة من العمر عند المتخلفين عقلياً، وما أكثر الذين لا تستطيع أن تجد توازناً أو تقابلاً بين أعمارهم، وحياتهم الدينية، أو مبادئهم الخلقية،.. ومن الغريب أن يكون شاول على رأس أمة دينية، وهو أبعد الناس عن العمق الروحي المطلوب،.. كانت هذه ضربته الأولى القاتلة،.. بل هي الأساس لكل الضربات الأخرى اللاحقة، لم يشرب هذا الرجل من النبع العميق الذي شرب منه موسى ويشوع وصموئيل وغيرهم، ولا نعرف له أغنية في حضرة الله، كما ترنم الملك الآتي بعده، أو كما رنم الكثيرون الذين عاشوا يلهجون في ناموس الرب ليلاً ونهاراً،... كان شجرة سامعة طويلة، لكن أصولها الداخلية توقفت بعيداً عن النهر، فعجزت عن أن تجد حياة الارتواء لملك عظيم على رأس أمة!!.. شاول وعدم الصبر ويبدو هذا في تجاسره على تقديم الذبيحة قبل مجيء صموئيل، وقد كان أمر الله صريحاً له في الانتظار حتى يأتي صموئيل ويقدم المحرقة، وقد تصور البعض أنه قدم الذبيحة بنفسه، وكانت هذه خطيته، غير أن البعض الآخر لا يرى هذا الرأي، ويعتقد أنه أمر واحد من الكهنة أن يقدم الذبيحة، دون أن يقوم هو بالعمل مباشرة، وأياً كان الأمر، فمن الواضح أن صموئيل ركز على عدم انتظاره الميعاد الإلهي، وتعجله في تقديم الذبيحة، وربما اندفع شاول إلى ذلك خوفاً من ملل الشعب أو من هجوم الفلسطينيين، على أي حال فإنه الرجل الذي سمح لمشاعره أو أفكاره الشخصية أن تقوده دون انتظار الإرادة الإلهية،... وهي نقطة الفشل البالغ لمن يعمل مع الله!!.. وما أكثر الذين يفشلون في الحياة، لأنهم لا يريدون انتظار الوقت المعين من الله في حياتهم، لقد كان على موسى أن يصبر أربعين سنة في البرية حتى تأتي إليه رسالة الله، وكان على السيد أن ينتظر ثلاثين سنة في الناصرة ليقوم بعدها بخدمة نيف وثلاث سنوات، ولم يصبر شاول، فانزلق بعدم صبره في المنحدر القاسي!! شاول والكبرياء وأين شاول الوديع المتواضع المختفي وراء الأقنعة، من شاول الذي لا يهتم بالتعدي على قول الرب وكلامه بقدر اهتمامه بكرامته الشخصية أمام شيوخ إسرائيل وهو القائل لصموئيل: "قد أخطأت والآن فاكرمني أمام شيوخ شعبي وأمام إسرائيل وارجع معي فاسجد للرب إلهك"؟!. لقد أمره الله أن يقضي قضاء تاماً على عماليق ولكنه لم يطع الله، وأبقى على أجاج ملك عماليق ولعله كان يبغي من وراء ذلك أن يبدو في عظمة الملوك الذين كانوا يرجعون إلى بلادهم بعد الانتصار في الحروب، ومعهم الأسلاب والملوك المهزومون كمظهر من مظاهر عظمتهم ومجدهم، وليس هناك شيء يبغضه الله كما يبغض روح الكبرياء.. في أساطير العصور الوسطى أن تنينا هائلاً ظهر في أحد البلدان، وذهب إليه أبطال المدينة لمحاربته، ولكنه قضى عليهم جميعاً، وكانت الخيل إذ رأته فزعت من منظره، وولت هاربة، دون أن يقدر راكبوها على القضاء عليه، حتى أمر الملك بأن لا يجازف أحد ويغامر بحياته في الصراع معه، غير أن بطلاً واحداً أراد قتله، فعمد إلى صنع تنين من الحديد شبيهاً به، وأخذ يدرب خيله وكلابه على الاقتراب منه دون فزع، ثم ذهب آخر الأمر إلى التنين وقتله، وهتفت المدينة كلها له، ولما دخل على الملك، صاح الملك في وجهه: لقد كسرت قانون الطاعة فلم تعد أهلاً لأن تكون من رعاياي، فخرج الرجل في صمت وخجل، وعند ذاك ناداه الملك وقال له: لقد أضحيت الآن أهلاً لأن تكون من أتباعي، لأن الشخص الذي يستطيع الانتصار على كبريائه أعظم من الذي يقضي على التنين!!... ولم يكن شاول من هذا الصنف، بل تمادى كبريائه إلى السقوط الشنيع الذي وصل إليه!!.. شاول والطمع وهناك مدمر آخر دخل في حياة الرجل، وهو الطمع، عندما كان فقيراً وصغيراً كان مكتفياً، لكن عندما أثرى واغتنى وبدأ يعيش حياة الملوك، لم تعد هناك نهاية لقناعته، وتولد فيه نوع عجيب من خداع النفس، والمال هكذا يدفع الإنسان إليه.ولعل الحديث بينه وبين صموئيل يكشف عن هذا الخداع الغريب، إن خوار البقر عند النفس الطامعة أشبه بالموسيقى الحلوة الطروب، وقد أنصت صموئيل إلى هذا الخوار، قال لشاول: "وما هو صوت الغنم هذا في أدنى، وصوت البقر الذي أنا سامع"... وتحدث شاول عن هذه الموسيقى الآتية من خيار البقر والغنم، فقال مخادعاً نفسه، وكأنما يريد أن يخدع صموئيل أيضاً: "من العمالقة قد أتوا بها لأن الشعب قد عفا عن خيار الغنم والبقر لأجل الذبح للرب إلهك"... ومن الحق أن الطامع يتحول في لحظة الطمع إلى عابد وثن، وصوت الدنانير عنده أجمل موسيقى تشنف أذنيه.. والقبح في نظر الآخرين يضحى آية الجمال أمام عينيه، ولهذا قال الرسول بولس لأهل كولوسي: "والطمع الذي هو عبادة أوثان"... شاول والحسد وعلاقة شاول بداود أبرع صورة يمكن أن يراها الإنسان في الوضع المتغير لعاطفة الحسود، كان داود في مطلع الأمر محبوباً من شاول، إذ بدأت العلاقة بين الاثنين عندما دخل داود إلى القصر الملكي كعازف على العود لنفس شاول المضطربة أقسى الاضطراب، من الروح الرديء الذي باغته بعد ذهاب روح الله عنه، وجاء داود إلى شاول عازفاً بأروع الألحان، فكان يطيب ويذهب عنه الروح الردي، وأصبح داود حامل سلاح لشاول، ووقف أمامه فأحبه جداً،... وظل الحب قائماً حتى سمع الملك أغنية أخرى من النساء الخارجات بالدفوف والفرح والمثلثات يقلن: "ضرب شاول الوفه وداود ربواته"... وأضحت الأغنية العظيمة نشازاً رهيباً قاسياً في أذنيه،.. فحسد الغلام، وأضحى موته هو الهدف الأعظم أمام عينيه!!.. وعندما يستعبد الحسد إنساناً سيدمره تدميراً!!... في قصة قديمة أن راهباً متعبداً تقياً حاولت الشياطين إسقاطه بمختلف الوسائل فلم يفلحوا، وذهبوا إلى رئيسهم وتحدثوا إليه عن الرجل الذي لم تفلح معه تجارب الشهوة والشك والتعب وما أشبه، فذهب إليه الرئيس وهمس في أذنه بكلمة واحدة، إذ قال له: هل سمعت الأخبار؟.. إن زميلك نصبوه أسقفاً على الإسكندرية، وكانت هذه كافية لإسقاطه، إذ ألهبت قلبه بالغيرة والحسد!! شاول والتمرد والتمرد هو أن يسير الإنسان عامداً في الطريق الذي كان يقف ضده بكل حزم في الابتداء، ولعل قصته مع العرافة تتحدث عن ذلك بأجلى وضوح، لقد بدأ عمله بالغيرة لله، والقضاء على العرافة المرتبطة بالجان... وكان مخيفاً مفزعاً للعرافين والعرافات ووصل الرجل إلى الدرك السحيق، فإذا كان الله يفارقه، فليكن، ولا مانع من الالتجاء إلى الشيطان،.. وإذا كان الله لا يتكلم إليه، فلا بأس من أن يسمع، ولو من صوت الشيطان، ماذا سيكون مصيره المظلم أمام عينيه!!.. وهكذا تدور الأيام به وهو يذهب إلى عين دور،... وقد اختلف الشراح والمفسرون أوسع اختلاف حول روح صموئيل، وهل جاءت إلى شاول لكي تتحدث إليه بما سيأتي به الغد،... فمن قائل (1) إنها جاءت فعلاً بجهد المرأة كما يذهب التلمود ويوسيفوس أو بتدخل القوة الإلهية بدون مساعدتها وعلى عكس ما كانت تتوقع (2) أو هو ظهور خيالي شيطاني أو ملائكي لم يأت فيه صموئيل على الإطلاق، وإن كان الله قد استدخم هذا الظهور كإعلان إلهي، وإلى هذا الرأي يذهب لوثر وكلفن وجروتيوس وهول وباترك ومتى هنري.. (3) أو هو ضغط ذهني وتمثيلي أحدثه الله في ذهن المرأة لتنطق ما نطقت به (4) أو هو خداع خرافي تعودت المرأة أن تتحدث به إلى الآخرين مع التحليل النفسي لشخصياتهم وما يقولون أو يطلبون (5) استقراء ذكي للحالة التي كان عليها الملك، وما تعتقد أن الغد سيأتي به له، مع رغبتها في دفعه إلى اليأس، إذ أرادت بذلك أن تنتقم منه للمعاملة القاسية التي عامل بها أصحاب الجان في القضاء عليهم وقتلهم،... وما أزال أميل للرأي القائل إن الله قد جاء بصموئيل على غير العادة وتوقع المرأة ليتكلم إليه بالقضاء الإلهي الذي سيقع عليه، وأن المرأة نفسها روعت على غير العادة بظهور المظهر الذي رأت فيه روح صموئيل، وأنها أشفقت على مصير شاول ولم تكن تقصد انتقاماً منه، بل حاولت أن تسري عنه وتذبح له العجل المسمن لتقدم له كملك أكرم ما عندها من طعام!!.. على أي حال، كان ذهاب شاول إلى العرافة هو آخر مدى في التمرد على الله، والسير بعناد في طريقة المخالفة للمشيئة الإلهية!!.. شاول والمصير المفجع سار شاول في هذا المنحدر الرهيب حتى انتهى إلى ليلة القاسي الطويل، وعندما ذهب إلى العرافة كان الليل قد لفه من كل جانب، وقد يسأل البعض: متى ابتدأ هذا الليل!!.. لقد ابتدأ من اللحظة التي فارقه فيها روح الرب، وباغته روح رديء ولعل الحكيم القديم كان أدق متحدث عن هذه الحقيقة وهو يقول: "أما سبيل الصديقين فكنور مشرق يتزايد وينير إلى النهار الكامل، أما طريق الأشرار فكالظلام لا يعلمون ما يعثرون به".. كان ليل شاول.. ليل الحيرة وهل هناك حيرة أبلغ من كلمة الوحي التي جاءت في سفر أخبار الأيام الأول: "فمات شاول بخيانته التي بها خان الرب من أجل كلام الرب الذي لم يحفظه، وأيضاً لأجل طلبه إلى الجان للسؤال ولم يسأل من الرب فأماته وحول المملكة إلى داود بن يسى" وقد ذكر سر وليم بارت: إن جميع الأنبياء العبرانيين من موسى إلى إشعياء اتحدوا في تحذير الشعب من أية محاولات لاستطلاع المستقبل... فإن العقود على هذا الاتجاه يميل بهم إلى إبهام الفكر الإلهي، وإضعاف الإيمان، والعبادة اللائقة للكائن الواحد القادر على كل شيء، والذي كان على هذه الأمة أن تكشفه للناس"... وأنه لمصير مفجع أن ينتهى قائد الأمة للبحث عن البخت" عن طريق الجان، ومن المؤسف أنه ما يزال إلى اليوم من يتمشون وراء شاول في ليلهم الطويل بالبحث عن "المصير" و"البخت" عن طريق "السحر" و"الرمل" و"الودع" و"النجوم" و"الكوتشينة" و"الفنجان" وقراءة "الكف" و"التنويم المغناطيسي" وما أشبه "ومن الغريب أنه في قمة الحضارة العلمية، وما يزال الكثيرون إلى اليوم يقرأون في الصحف باب "حظك اليوم" أو ما تتحدث به "الأبراج" إلى المولودين في هذا الشهر أو ذاك، ولو عقل الإنسان لأدرك كذب الحديث وضلاله من مجرد حظ التوائم الذين يولدون في يوم واحد، ومع ذلك تختلف حظوظهم كاختلاف حظ عيسو ويعقوب، أو زارح وفارص!!... ولو عقل الإنسان لأدرك أيضاً ما قاله موسى: "السرائر للرب إلهنا والمعلنات لنا ولبنينا إلى الأبد لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة" وما أكده إشعياء: "إلى الشريعة وإلى الشهادة إن لم يقولوا مثل هذا القول فليس لهم فجر"... ولا فجر هناك إلا بالتماس مشورة الله، وكلمته الصالحة، وإرشاده الإلهي في الضمير المدرب، والرسالة الواضحة من المنبر، أو الاختبار، أو نصيحة المؤمنين القديسين وقد رفض شاول نصيحة صموئيل حياً، وبحث -للأسف- عن هذه النصيحة ميتاً،.. وكان هذا منتهى ما وصل إليه الرجل من حيرة وضلال!!.. ليل الدم وقد طلب الدم من كل جانب، إذ تحول وحشاً، وليس أبلغ من سعيه وراء داود لإراقة دمه والقضاء عليه، وليس هناك أدق أو أعمق من اعترافه مرتين بحقيقة الضياع النفسي الذي وصل إليه: "فلما فرغ داود من التكلم بهذا الكلام إلى شاول قال شاول أهذا صوتك يا ابني داود ورفع شاول صوته وبكى ثم قال لداود أنت أبر مني لأنك جازيتني خيراً وأنا جزيتك شراً وقد أظهرت اليوم أنك عملت بي خيراً لأن الرب قد دفعني بيدك ولم تقتلني فإذا وجد رجل عدوه فهل يطلقه في طريق خير فالرب يجازيك خيراً عما فعلته لي اليوم هذا والآن فإني علمت أنك تكون ملكاً وتثبت بيدك مملكة إسرائيل فأحلف لي الآن بالرب أنك لا تقطع نسلي من بعدي ولا تبيد اسمي من بيت أبي فحلف داود لشاول ثم ذهب شاول إلى بيته وأما داود ورجاله فصعدوا إلى الحصن"... وفي المرة الثانية: "فقال شاول قد أخطأت ارجع يا ابني داود لأني لا أسيء إليك بعد من أجل أن نفسي كانت كريمة في عينيك اليوم. هوذا قد حمقت وضللت كثيراً جداً: فأجاب داود وقال هوذا رمح الملك فليعبر واحد من الغلمان ويأخذه والرب يرد على كل واحد برده وأمانته لأنه قد دفعك الرب اليوم ليدي ولم أشأ أن أمد يدي إلى مسيح الرب، وهوذا كما كانت نفسك عظيمة اليوم في عيني كذلك لتعظم نفسي في عيني الرب فينقذني من كل ضيق فقال شاول لداود مبارك أنت يا ابني داود فإنك تفعل وتقدر. ثم ذهب داود في طريقه ورجع شاول إلى مكانه"... فإذا أضفنا إلى هذا كله واقعة البطش بكهنة الرب، والتي رفض عبيده القيام بها، وقام بها دواغ الأدرمي والذي قتل في يوم واحد خمسة وثمانين رجل البسي أفود الكتاب وضرب مدينة نوب مدينة الكهنة بحد السيف الرجال والنساء والأطفال والرضعان والثيران والحمير والغنم، على أسلوب وحشي رهيب... وكان من المستحيل على شاول أن يغسل يديه من هذا الدم البريء، بل وسيبقى ملطخاً يديه، حتى ولو تعطرت اليدان بكل عطور الدنيا... ولكنه ليل الوحشية والدم الذي وصل إليه!!.. ليل الضياع وقد انتظره هذا الليل فوق جبال جلبوع، ولم يذهب وحده، بل ذهب أبناؤه الثلاثة معه، وسقط يوناثان النبيل، والظبي الحلو، على الجبال الشامخة، وذهب مع إخوته ضحية هذا الأب، الذي ضيع ابنه، ومملكته، وتاريخه الأول،... وإذا كان لنا أن نغني مع داود نشيد القوس، نشيد الرجل الباكي على عوده، نشيد الإنسان الذي يعلم بأن الطريق قد فتح أمامه للملك، ولكنه مع ذلك لم يشمت أو يهلل بل مزق ثيابه في أروع سمو نفسي، وفي أقوى عاطفة باكية، لأنه لا يمكن أن ينسى أن مصرع شاول ستفرح به على أي حال بنات الغلف، وأعداؤه الذين قطعوا رأسه ونزعوا سلاحه وأرسلوا إلى أرض الفلسطينيين لأجل التبشير في بيت أصنامهم وفي الشعب..قال صموئيل لشاول: "وغداً أنت وبنوك تكونون معي" وهو يقصد بذلك موته، ولست أتصور هنا أنه يتحدث عن مكانه الأبدي مع صموئيل في السماء، فإن الرجلين قد افترقا في الأرض، وسار كل منهما في طريق تختلف تماماً عن الآخر، وتنتهي إلى مصير لا يتلاقى، فإذا كان لنا أن نطوب صموئيل في مجده الأبدي، فمن حقنا أن نبكي شاول بنفس الدموع التي بكى بها الأعظم: "وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها"... والذي قال: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ بل ابكين على أنفسكن وعلى أولادكن، لأنه هوذا أيام تأتي يقولون فيها طوبى للعواقر البطون التي لم تلد والثدي التي لم ترضع حينئذ يبتدئون يقولون للجبال أسقطي علينا وللآكام غطينا لأنه إن كانوا بالعود الرطب يفعلون هذا فماذا يكون باليابس".
المزيد
26 مايو 2022

شخصيات الكتاب المقدس شمجر بن عناة

شمجر بن عناة وكان بعده شمجر بن عناة فضرب من الفلسطينيين ست مائة رجل بمنساس البقر "قض 3: 31 مقدمة هل سمعت أو قرأت عن المشاجرة الخيالية الطريفة بين أصابع اليد الواحدة، والتي تخيلها أحد الكتاب وتقول، إنها بدأت بالإبهام، عندما ادعى أنه الأعظم، وأن الله لهذا السبب خلقه منفصلاً عن بقية الأصابع، حتى لا تجسر على الاقتراب منه، إذ هو السيد، وهي العبيد؟؟ وثارت السبابة على هذا المنطق، وقالت: لو أن الرآسة بالحجم لتسلط الثور أو الفيل على ابن آدم، إنما الرآسة بمن له القدرة على الأمر والنهي،.. والناس عندما تأمر أو تنهي، تجدني أنا في مواجهة الغير، أنا الآمر الناهي بين الناس، أنا الرئيس، وضحكت الإصبع الوسطى وهي تقول: إن السيادة متوفرة لي، فأنا أطول الكل، والكل إلى جواري أقزام،.. وصاحت البنصر، ولوحت بالخاتم الذهبي فيها التي تعود الناس أن يضعوها في اليد اليسرى، وقالت: إنه لا يضعون خاتم الزواج إلا فيَّ!!.. وقالت الخنصر مهلاً أيها الصحاب، فقد أكون أصغر الكل، لكنني كما تلاحظون أحمل الجميع فوقي!!.. ربما كانت الخنصر أقرب الجميع إلى الصدق والصواب،.. لكن العبرة الحقيقية ليست في واحدة من الأصابع، بل في صاحب اليد الذي يحملها ويحمل أصابعها معاً!!.. كان شمجر بن عناة واحداً من أكثر المغمورين في الكتاب، لكن هذا الرجل المغمور المجهول، استخدمه الله كالأصبع الصغير في إنقاذ شعبه، والله على استعداد أن يستخدم أضعف الناس أو أقلهم حظاً من ظروف الحياة، حتى ولو لم يملك من الأسلحة في يده إلا منساس البقر، أو ذلك المنخص الذي يخز به الحيوان عندما يتوقف عن السير ويرفض التقدم بعناء!!.. إنها قصة إنسان تبعث الرجاء في أضعف الناس عندما يدفعهم الله إلى الأمام،.. ولو لم يكن يزيد في حياته العادية عن راعٍ من رعاة الأبقار. هلم معاً نر قصة شمجر بن عناة، ولماذا اختارته العناية ليكون من أوائل القضاة في إسرائيل: شمجر راعي البقر ليس هناك ما يخلب لب الصغار أو الشباب، قدر رؤياهم على الشاشة أو في صفحات الكتب رعاة الأبقار الأمريكيين، ولا أنسى صبياً صغيراً طريفاً التقيت به ذات يوم، وهو يلبس زيهم، بالحزام العريض، وإذ سألته ماذا تود أن تكون في الحياة؟، وظننت أنه سيختار مهنة من مهن الناس التي يراها حوله، كأن يكون طبيباً أو مهندساً أو صانعاً أو تاجراً، وجاء في الجواب: أريد أن أكون واحداً من رعاة الأبقار.. إنه يريد أن يمتطي صهوة جواد يسابق الريح، ويصعد به فوق الجبال أو السهوب، ويدفع أمامه الأبقار إلى المراعي، وهو يدخل في عراك مع من يعتدي عليها أو عليه، وهو لا يبالي بالجروح التي تصيبه أو تأتيه من الآخرين، إنه يريد أن يكون ابن الطبيعة الطليق وهو لا يرغب في قيود الحضارة أو المتحضرين!!.. إنه مفتون بما أطلق عليه توماس كارليل "عبادة البطولة" أو تمجيد البطولة كما يقول علماء النفس، أو هو ذلك النوع من الحياة الذي يضيق بالمنطق القائل نأكل ونشرب لأننا غداً نموت، أو نقضي أيامنا بهدوء وسكينة، حتى يطوح بنا من بعدنا في حفرة يسوونها بالتراب، لأننا تراب وإلى تراب نعود،.. كان شمجر بن عناة راعياً من رعاة الأبقار، ظهر منذ آلاف السنين، قبل رعاة الأبقار الأمريكية، وكان لا يملك عندما داهمه في مزرعته وبين أبقاره ستمائة من الغزاة، وتلفت حوله، فلم يجد سلاحاً يواجههم به، ولم يجد بين يديه سوى منساس البقر، فأمسك به، وأبى أن يتراجع وقتل ستمائة بمنساس البقر، ويبدو أنه كان يملك في ذاته وداخله شيئاً أعظم وأكمل بما لا يقاس من هذا المنساس. شمجر والإيمان الخارق في أعماق كل واحد منا كمؤمنين قوة خارقة، لو نملك الإفصاح عنها تصبح آية للعالمين هل قرأت عن ذلك الرجل الذي وجد فرخاً صغيراً من أفراخ النسر فحمله إلى بيته، ووضعه بين أفراخ الدجاج، وأطعمه من طعامها، وكان ينظر إلى الفراخ، والفراخ تنظر إليه، كان وضعه غريباً في وسطها، وكان وضعها معه لا يقل غرابة، وابتدأ ينمو في حجمه، وابتدأ جناحاه يطولان، على أنه لم يلبث أن أصابه الضمور، وقلت حركته، فأخذه صاحبه إلى أعلى البيت وتركه على السطوح، ولكنه لم يلبث أن عاد من هناك إلى وسط الفراخ،.. ماذا يفعل معه الرجل؟، أخذه ذات صباح، إلى جبل عال، وأعطى وجهه للشمس وظهر النور العظيم، وهب النسيم، وإذا بشيء عجيب لا يدري النسر كنهه، فقد رفع عينيه نحو السماء، ومد جناحيه في الفضاء وارتعش بكامله، وصعد إلى أسمى علو، وعندئذ أدرك أنه لم يخلق للأرض، ولكنه خلق للسماء!! هذا هو شمجر بن عناة، وهذا هو أنا وأنت حينما ندرك الحقيقة التي تغيب عن حياتنا سنوات طويلة، نعيش فيها أسرى الهزيمة، والضياع، واليأس كفرخ النسر في عشش الدجاج، كان شمجر بن عناة يعلم أن أمة ولدت إبراهيم واسحق ويعقوب ويوسف وموسى ويشوع أمة أبطال، لم يكن لهم من قوة في ذاتهم ولكنهم استمدوا قوتهم من الله القادر على كل شيء.. وما من شك بأن شمجر بن عناة كان يسأل نفسه على الدوام لماذا نعيش في ظل الطغيان والضيق والهزيمة واليأس والله لم يتغير، وآباؤنا كشفوا عن أعظم الانتصارات التي جاءتهم من الاستناد إلى الله،.. وقد أدرك الرجل بأنه ليس في حاجة إلا إلى الإيمان،.. وليس الإيمان ببعيد عنه أو من أي إنسان يرغب في الاتصال بالله،.. إن الإيمان لا يزيد عن تغيير حالة قلب، وارتقاء بالنفس لتفرد جناحيها بلا حدود أو قيود في سماء الله،.. وليس الإيمان إلا أن ينتظر الله: "ومنتظرو الرب يجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور".. وما الذي يمنعه من الأجنحة المرتفعة!!.. لم يطلب الله من الإنسان شروطاً معينة حتى تكون له هذه الأجنحة. فهي للعالم ولمحدود العلم، وهي للفقير وللغني، وهي للصغير وللكبير، وهي للرجل والمرأة، وهي لمن يقف في أول الصف، أو من يكون في الصف الأخير!!.. وإذا كان شمجر بن عناة قد أدرك هذه الحقيقة في عودته إلى التاريخ القديم، فلعلنا أكثر قدرة منه نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور، وما أكثر ما يحفل التاريخ المقدس بآلاف الأبطال الذين جاءوا من الصف الأخير ليأخذوا الصف الأول، ولم يكن لهم ما يميزهم سوى الإيمان بالله!!.. ألم يكن غلاماً صغيراً ذاك الذي لم يدع إلى المعركة بل ذهب إليها ليرى إخوته الكبار؟؟ أو في لغة أخرى لم يكن حتى في الصف الأخير، بل كان خلف الصفوف جميعاً، ومع ذلك برز لا يضحى في الصف الأول مع الملك، وقائد الجيش، بل ليبرز الجميع، ويصبح هو وحده بطل المعركة، وذلك لأنه كان يملك إيماناً أكثر من الجميع.. ألم تكن "جان دارك" الفتاة الفلاحة الفرنسية في الثامنة عشرة من عمرها، عندما قادت الجيش الفرنسي المهزوم، لتحول الهزيمة إلى نصر، وتتوج الملك، وهي لا تعرف شيئاً عن فنون الحرب، وتعرف كل شيء عن قدرة الإيمان في حياة أبسط الناس على الأرض؟؟ أمن فقط، قد يكون هو النداء الأول والأخير لأبسط إنسان على الأرض ليتحول مثل راعي البقر القديم ليصنع المعجزات!!.. شمجر والغضب المقدس تقول دبور في أغنيتها العظيمة: "في أيام شمجر بن عناة في أيام ياعيل استراحت الطرق، وعابرو السبيل ساروا في مسالك معوجة".. وهي تعطي الصورة التي تلت عصر يشوع، والتي عاث الفساد فيها في البلاد، وضاع الأمن، وانقلبت الأوضاع حتى أضحى المسافرون لا يجرؤون على السير في الطرق التي امتلأت باللصوص، إلى الدرجة أن عابري السبيل كانوا يبحثون عن المسالك الجانبية المعوجة، لعلهم يفلتون من قطاع الطرق، كان النهب هو الشائع، والأمان هو الاستثناء، وكان السر واضحاً في ذلك أن الشعب ترك إلهه، فتركه إلهه للفزع والرعب والضياع، وكان راعي الأبقار ينظر إلى الأوضاع فيلتهب قلبه بالثورة المكبوتة، إنه يعلم أن سر البلوى هو انصراف الناس عن الإله العظيم الذي أخرجهم من مصر وأعطاهم الأرض، ومع ذلك رفضوه واختاروا: "آلهة حديثة حينئذ حرب الأبواب".. وستبقى الحرب دائماً على الأبواب، عندما نقفل الباب في وجه إلهنا، ورأى شمجر الظلم والطغيان والنهب، في الحقول الضائعة، والجموع الجائعة، والشعب المستعبد المسكين،.. وامتلأ الرجل بالغضب المقدس،. هناك نوعان من الغضب يختلفان تمام الاختلاف، ويتباينان تمام التباين،.. هناك الغضب الآثم الذي يصنع بر الله، كغضب نبوخذنصر عندما امتلأ غيظاً وتغير منظر وجهه على شدرخ وميشخ وعبد نغو، وأمر بأن يحمي الأتون سبعة أضعاف أكثر مما كان معتاداً أن يحمي، وذلك لأن هؤلاء تعمدوا ألا يعبدوا آلهته أو يسجدوا لتمثال الذهب الذي نصبه،.. ومثل هذا الغضب أناني حقود قاس مستبد متغطرس يكرهه الله كل الكراهية، ويعاقب -إن آجلاً أو عاجلاً- صاحبه والداعي إليه،.. لكن هناك نوعاً من الغضب الآخر، كغضب فنيحاس الذي طعن الزاني والزانية، ودان القباحة المتسهترة التي تفعل الشر في المكان المقدس، وهناك غضب موسى عندما رأى العجل الذي عبدوه الإسرائيليون، وطحنه وسحقه وذراه على وجه المياه، وهناك غضب المسيح عندما حمل سوطه وطرد من حولوا بيت الله إلى مغارة لصوص،.. رؤى أحد رجال الله، وهو يتميز غيظاً وغضباً في الطريق، لأنه رأى لونا ًمن ألوان الظلم لا يستطيع أن يسكت عليه ويهادنه، ورؤى آخر يمسك فرشاته، ويحمل سلماً، إلى مكان كتبت فيه كلمات قبيحة، لابد له أن يمحوها محواً، لأنها آذت عينيه، ويمكن أن تفسد حياة الكثيرون من الشباب الذين يقرأونها كان شمجر بن عناة يملك هذا النوع من الغضب المقدس!!.. شمجر والدفاع المشروع إن المدقق في قراءة قصة شمجر بن عناة، يرى أن شمجر لم يكن مهاجماً، إذ لا يتصور قط أن رجلاً يحمل معه منساس البقر ليأخذه سلاحاً يهاجم به ستمائة رجل من الأعداء الأشداء المسلحين، بل المتصور أن الرجل كان في حقله أو كان يرعى أبقاره في مكان ما، وتعرض له الغزاة على أسلوب وحشي مثير،.. فهل كان له أن يهرب، ويترك أرضه، أو أبقاره، ويعتبر النجاة نوعاً من الفوز، يغبطه عليه أهله وصحبه عند عودته إلى البيت؟؟ لا أعتقد أن الرجل أصيب بحالة من الجنون، كذلك الجندي الذي دخل في وسط الأعداء وأخذ يمعن تقتيلاً، وعندما نظره معسكره على هذه الحال، ورجع إليهم، قالوا له ماذا فعلت وكيف جرؤت على الدخول في وسط الأعداء على هذه الصورة؟.. أجاب: لست أعلم، لأني وجدت نفسي في حالة من الجنون لا أدريها، هي التي فعلت كل هذا،.. لا أظن أن شمجر بن عناة كان له هذا النوع من الجنون، إنما أعلم أن الرجل أدرك ما قاله كرومويل فيما بعد، عندما سألته أمه: ألا يحسب حساب المعارك التي يدخلها.. أجاب: يا أمي توجد لحظات في الحياة لا يستطيع الإنسان فيها أن يقيم أي وزن لما يمكن أن يحدث،.. أليس هذا ما وصل إليه الثلاثة فتية الذين رحبوا بالنار سواء خرجوا منها أحياء أو لم يخرجوا، وهذا نسمعه من جوابهم الحاسم للملك القديم!: "يا نبوخذنصر لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر يوجد إلهنا الذي نعبده يستطيع أن ينجينا من آتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك وإلا فليكن معلوماً لك أيها الملك أننا لا نعبد آلتهك، ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبته".. لو أن حادث شمجر مع الغزاة كان حادثاً شخصياً لا يتكرر، لربما أمكن التصرف فيها بصورة مخالفة،.. لكن هذا الاعتداء كان أكثر من اعتداء شخصي إذ هو اعتداء على أمة وشعب، وأكثر من ذلك هو تحد وإهانة واستهتار باله هذا العشب، والعقيدة الدينية التي يتمسك بها، هو صراع بين تابوت الله وداجون، وبين الإله الحق والآلهة الباطلة،.. وأدرك شمجر بن عناة أنه أفضل له أن يعود إلى بيته حياً أو ميتاً من أن يسلم للظلم والفساد والشر أن يفعله فعله!!.. إن السؤال عن الدفاع المشروع، ما يزال من أهم الأسئلة التي تطرح على الذهن البشري -ما هي فلسفته ووسائله وحدوده؟!! وباديء ذي بدء نحن لا نعرف جماعة إنسانية ترفض في الأرض كلها فكرة الدفاع المشروع، إلا طائفة الكويرز أو الأصحاب، وهذه الطائفة لا تقبل العنف بأي صورة، وقد حدث أن سيدة من "الأصحاب" دخلت ذات يوم إلى بيتها، فرأت لصاً يعبث بأموالها ومجوهراتها، ولما رآها وجه غدارته نحوها، فقالت له: لا تفزع ولا داعي لأن توجه غدارتك إلى، إن عندي الكثير، وخذ ما تريد، وأنت قبل وبعد الكل إنسان وأخ لي،.. وأسقط في يد الرجل،.. وقال لها: يا سيدتي لقد قاومني الناس كثيراً، وحولوا بهذه المقاومة مني مجرماً عتيداً، ولم أسمع لغة كهذه قط من بين الناس، ولم أسمع أن واحداً دعاني أخاً، بل أنا في نظرهم مجرم حثالة الناس، لن آخذ شيئاً منك يا سيدتي،.. وخرج، ولعله خرج إنساناً آخر.. هذه هي فلسفة الأصحاب، إنهم يرفضون مقاومة الشر استناداً إلى قول المسيح: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين"، على أن المسيح -فيما أعتقد- لم يكن يقصد المعنى الحرفي بالدليل أنه لم يطبقه هو، وقال للخادم الذي لطمه أمام رئيس الكهنة: "إن كنت قد تكلمت ردياً فاشهد على الردي وإن حسناً فلماذا تضربني".. كما أن بولس فسر المقاومة المقصودة هنا مقاومة الشر بالشر إذ قال: لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل اعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. على أن بولس نفسه، وهو خير مفسر للمسيح ولكلامه، لم يفسر الأمر بالتخلي عن الحق المشروع للإنسان الذي يمكنه أن يتمسك به في لحظات الدفاع عن النفس، فعندما اعتدى عليه دون حق في فيلبي، وأرسل الولاة الجلادين إلى حافظ السجن ليطلقه وسيلا أجاب: "ضربونا جهراً غير مقضي علينا ونحن رجلان رومانيان وألقونا في السجن أما الآن يطردوننا سراً كلا بل ليتأتوا هم أنفسهم ويخرجونا".. ولم يكن له لطف المسيح عندما أمر حنانيا رئيس الكهنة أن يضربوه على فمه: "حينئذ قال له بولس سيضربك الله أيها الحائط المبيض أفأنت جالس تحكم على حسب الناموس وأنت تأمر بضربي مخالفاً الناموس".. إن فلسفة الدفاع المشروع تدور وجوداً وعدماً حول كسب المعتدي، والوصول إلى السلام، ورفعه إلى مستوى العدالة والحق الإلهي،.. وفي سبيل ذلك يمكن التخلي عن الحق الشخصي، في سبيل غرض أعلى وأسمى، على أن هذا لا يعني بحال ما طرح جميع الوسائل الأخرى التي قد تكون في إمكانية الإنسان، كالحق الذي كان لبولس بصفته مواطناً رومانياً يحق له التمسك بتطبيق القوانين الرومانية العادلة، إذا ما شط المعتدي، وحاول أن يتجاوز هذه القوانين والحقوق!!.. على أن الالتجاء إلى القضاء ليس مطلقاً، فقد يكون الأفضل مرات متعددة معالجة الأمور بعيداً عن هذا السبيل، ولا سيما إذا كان المتنازعون من الإخوة أو المؤمنين، وقد عاب الرسول على الكورنثيين الالتجاء إلى المحاكم الخارجية، وطلب دعوى التحكيم الكنسي دون هذه المحاكم: "أيتجاسر منكم أحد له دعوى على آخر أن يحاكم عند الظالمين وليس عند القديسين ألستم تعلمون أن القديسين سيدينون العالم. فإن كل العالم يدان بكم فأنتم غير مستأهلين للمحاكم الصغري" إن الحق في الدفاع المشروع أمر ينبغي أن يقدره الإنسان بكل كلمة وفطنة، ولسنا نعلم مدى فلسفة ذلك المرسل الذي كان يسير في ليلة من الليالي وهو يركب في إحدى البلاد الشرقية، فخرج إليه جماعة من قطاع الطرق، فرفع سلاحه في وجههم، وكانوا يعرفونه، فقالوا له: هل يجوز لمرسل أن يقتل الآخرين، وهو أول من ينادي بالوصية القائلة: لا تقتل؟.. وكان جوابه: إني وأنا أرفع السلاح أنفذ الوصية، لأني إذا سلمت بسهولة في نفسي، فأنا أشارككم في قتلها، وترك القاتل ليقتل دون الوقوف في طريقه دون حماية النفس، إنما هو تشجيع مباشر له على العدوان وحماية غير مباشرة للنفس التي حرم الله قتلها!!.. هل كانت هذه الحكمة هي حكمة شمجر بن عناة؟.. أم أن شمجر كان يرى نفسه قاضياً لإسرائيل، وأن مهمته أن يدفع الظلم والاعتداء، وأن أنوار العهد الجديد لم تصل إليه أو تصل إلى ياعيل التي ضربت رجلاً نائماً لا يملك الدفاع عن نفسه، وقد استأمنها على نفسه في هذا البيت؟؟.. مهما يكن الأمر فإن عصر الرجل، كان يختلف ولا شك عن عصرنا من نوع الحياة والهدف والغاية، وكانت قضية الرجل قضية دينية، لم يدفع فيها عن نفسه شراً فحسب، بل كان أكثر من ذلك رجلاً يدفع الشر على البؤساء والمعذبين والمظلومين من شعب الله في أيامه!!.. فإذا جئنا إلى العصر المسيحي، فليكن موقفناً دائماً من الاعتداء نسيان الصالح الشخصي، أو الرغبة الشخصية في الانتقام، والسعي ما أمكن إلى كسب المعتدى لله، والحق والسلام، والتسليم في كافة الأمور لمن يقضي بعدل!!. غير أن هناك شيئاً واحداً لا يجوز التزحزح عنه قيد أنمله، وهو أن لا يكون السلام على حساب الحق ومجد الله،.. وهنا لننصت بكل خشوع إلى قول السيد: "لم آت لألقي سلاماً على الأرض بل سيفاً".. ولقد بلغ المؤمنون أروع صور الشهادة، عندما أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله!!.. لقد أبى الشهداء في روما أن يقبلوا السلام على حساب يسوع المسيح، ومع أن هناك أمثلة لا تنتهي، لكننا سنذكر قصة غلام صغير ارتبطت قصته باستشهاد مارسيلوس، وكان الغلام اسمه ماركوس بولو سيرفيللي، وكان في الثالثة عشرة من عمره وكان ينتسب إلى عائلة سيرفيللي النبيلة التي أدت أروع ما تستطيعه عائلة لبلادها،.. وعندما وجه القاضي التهمة للغلام بأنه مسيحي، أجاب على الفور: هذا الاتهام يعد شرفاً لي. أنا مسيحي، وأعتبر نفسي سعيداً لأني أستطيع أن أعترف بذلك أمام هذا الجمع الغفير، وعندما قال له القاضي: أيها الولد الشقي: هل تعرف نوع التهمة الموجهة ضدك؟؟ أجاب: أنا متهم بغير جريمة، وإيماني يعلمني أن أخاف الله، وأخدم الامبراطور، وأطيع كل القوانين العادلة، وقد نفذت كل هذا بضمير صالح،.. قال له القاضي: إن جريمتك أنك مسيحي خائن للوطن، فأجاب: أنا مسيحي، ولكني لست خائناً للوطن، وإذ قال له القاضي: إن القانون يحرم الإيمان بالمسيح ومن يكسر هذا القانون عقابه الموت.. أجاب: أنا مسيحي.. قال القاضي: إذاً فعقابك الموت.. وقال الغلام: فليكن. حاولوا أن يثنوه بكافة الطرق، بالتهديد، والإغراء، ولكنه ثبت كالطود الراسخ ووضع الغلام أمام نمر جائع.. وتحول كتلة من العظام والدم!!.. ومات شجاعاً كأفضل ما يكون الإنسان في الشهادة المسيحية ولو غرق في بحر من دم!!.. شمجر والوسيلة الضعيفة هوجم شمجر بن عناة، ولم يكن يملك سلاحاً، فإن الفلسطينيين جردوا الشعب من كل سلاح، كان يرعى أبقاره، وكان يمسك بمنساس البقر، وكان المساس هو السلاح الوحيد الذي يحمله، ويمكن أن يستخدمه، ولم يتوان الرجل عن استخدام الوسيلة الهزيلة الضعيفة، التي قادته إلى النصر وإلى قيادة الأمة بأكملها،.. من الناس من هو على استعداد أن يحارب، ولكن بشرط أن يكون في يده السلاح المناسب، ولو أدرك الحقيقة أن السلاح المناسب، هو الذي بين يديه، مهما كان ضعيفاً أو ضئيلاً أو صغيراً،..عند الأمريكيين قصة صبي صغير اسمه لوقا فارنوم، وكان ولداً فقيراً أعرج، صبي حداد، وحدث ذات يوم أثنآء حرب الاستقلال، والصبي يقف أمام الدكان، وهو حزين لأنه لا يستطيع أن يذهب إلى المعركة لعجزه وضعفه، وإذا بجماعة من الفرسان تمر به، ويسألونه وقد تبينوا أن معلمه غير موجود، عما إذا كان يستطيع أن يضع حدوة للحصان، فأجاب بالإيجاب لأنه ساعد معلمه كثيراً في صنع الحدوات، وتركيبها،.. وقام بالعمل خير قيام، وقال له القائد: اعلم أيها الصغير أنك قمت بعمل في خدمة بلدك يساوي عمل عشرة جنود، وكان المتكلم هو الكولونيل وارنر الذي أرسل لنجدة معركة من أهم المعارك التي قلبت ميزان الحرب، ولم يكن يعلم الولد الصغير الأغنية القائلة: لما سقط المسمار ضاعت الحدوة لما ضاعت الحدوة ضاع الحصان لما ضاع الحصان ضاع الراكب لما ضاع الراكب ضاعت المعركة لما ضاعت المعركة ضاعت الدولة كل هذا حدث لما ضاع المسمار ليس الأمر أمر راعي البقر أو المنساس في يده، إذ أن الأمر أعظم من ذلك بما لا يقاس، إذ هو أمر الله الذي يمسك بالراعي والمنساس معاً، والله لابد أن يكون الأول والأخير في المعركة، وكرامته لا يعطيها لآخر، لو كان هناك شيء آخر مع موسى غير العصا، لربما التفت الناس إلى هذا الشيء، ولم يروا الله السيد المنتصر،.. ولو كان هناك شيء بيد داود غير المقلاع وحجارة الوادي الملس، في مواجهة جليات، لما ظهر الله، ولما استطاع الشاب القديم أن يقول للجبار: "أنت تأتي إليَّ بسيف ورمح وترس وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيرتم اليوم، هذا اليوم يحبسك الرب في يدي فأقتلك وأقطع رأسك..".. لم ير شمشون على مقربة منه -وهو يواجه الفلسطينيين- سوى لحي حمار كان سلاحه في قتل ألف منهم!!.. وهكذا يعمل الله في الآنية الضعيفة في كل العصور والأجيال أو كما قال أحدهم: "لا بالقدرة ولا بالقوة استطلع لوثر أن يواجه ثورة روما وقوتها ومقامها ويحقق الإصلاح،.. ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم بوث أن يقابل الفقر والسخرية والهزء وينشيء جيش الخلاص العظيم.. ولا بالقدرة ولا بالقوة استطاع وليم لويد جارسون أن يهاجم -وهو أعزل- نظام الرق، ويطلق من عقالها القوة التي حررت آخر الأمر أربعة ملايين من العبيد" لقد أدهشت شجاعة وليم أورنج في تسليح الفلاحين في هولندا والفلاندرز ضد طغيان الملك فيليب وألفا الدموية، وإذ تساءل الملك الأسباني عمن يكون وراء هذه الحركة من حلفاء أو ملوك: أجاب وليم الشجاع: "إنك تسألني عما إذا كانت قد دخلت في حلف رسمي مع قوة أجنبية ألا فاعلم أني قبل أن أحمل على عاتقي قضية هذه الولايات المنكوبة قد دخلت في الحلف والعهد مع ملك الملوك ورب الأرباب".. ولقد فعل هذا من قبل شمجر بن عناة وهو يمسك منساس البقر، وتستطيع أنت وأنا أن نفعل، في مواجهة معارك الخطية والإثم والفساد والشر، ذات الشيء ونحن نغني أغنية بولس العظيمة: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني"..!!..
المزيد
19 مايو 2022

شخصيات الكتاب المقدس سنبلط

سنبلط " ولما سمع سنبلط أننا آخذون فى بناء السور غضب واغتاظ كثيرا "" نح 4: 1 " مقدمة سنبلط واحد من أقدم الأسماء التى تقف على رأس كل تعصب دينى أو جنسى أو اجتماعى أو ثقافى فى الأرض!!.. ولا يمكن أن تعرف قصته الصحيحة، وقصة طوبيا العبد العمونى، وجشم العربى، قبل أن تعلم أنه وقف على رأس الصراع، لأنه كان سامرياً تشرب روح الحقد والبغض والشر لكل ما هو يهودى، الحقد الذى عاش مئات السنين حتى نراه على لسان السامرية وهى تقول للمسيح: « كيف تطلب منى لتشرب وأنت يهودى وأنا امرأة سامرية ».. " يو 4: 9 " لأن اليهود لا يعاملون السامريين، وعندما رفضت إحدى قرى السامريين أن تقبل المسيح ثار ابنا زبدى، وطلبا من السيد أن تنزل نار من السماء لتحرق القرية بأكملها، وزجرهما المسيح قائلا: « من أى روح أنتما؟!.. " لو 9: 55 " ولكنها - على أية حال - روح التعصب التى تنتقل على مر العصور والأجيال، وتأخذ ألوانها المتعددة بين الناس، فى الصراع بين العبد والحر، والأسود والأبيض، والشيوعى والرأسمالى، ومختلف الأديان والعقائد والمذاهب،... وكم سالت الدماء أنهاراً لهذه الدوافع الرهيبة الكريهة الحمقاء بين بنى البشر من فجر التاريخ وإلى يومنا الحاضر، دون أدنى توقف أو تردد أو خشية أو تسامح أو تعقل!!..ولعله من المناسب لهذا أن نتعرض لقصته ونعرف كيف يضيع أكثر الجهد البشرى فيما هو ضار وبشع ومخيف، بسبب الأشخاص الممتلئين بالتعصب الأعمى الممقوت!!... ولهذا يحسن أن نراه من الجوانب اتالية: سنبلط وعداوته الأسم سنبلط يعنى « سن معطى الحياة » وسن هذا كان إله القمر الذى يتعبدون له،... وفى مخطوطات البردى التى وجدت فى معبد الفيلة بمصر، ذكر اسم سنبلط كحاكم السامرة فى وقت داريوس الثانى حوالى عام 407 ق.م.، وكان له ولدان يحملان أسماء عبرانية اسم أحدهما دلايا، والاسم الآخر شلمايا،.. وهو على أية حال وقف مع طوبيا العبد العمونى، وجشم العربى وقفة العداء المستحكم من نحميا وأورشليم، وبدأت بين الفريقين حرب حياة أو موت، والسر فى هذا كله، اعتقاد سنبلط الجازم بأن قوة أورشليم ضعف للسامرة، وأن حياتها فناء لبلده، أو على أقل تقدير، على حساب السامرة ومجدها وجلالها وعظمتها!!... وفى الحقيقة أن سر العداء والحزبية البغيضة والقاتلة بين الناس، هو فيما يطلق عليه « المزاحمة »، إذ أن الأرض، مهما اتسعت، لا تتسع فى تصور المتزاحمين لاثنين يجمعهما مكان واحد، أو مكانان متقاربان أو مجالان فيهما شبهة التزاحم أو التضارب أو التنافس،... وقد ضاقت الأرض كلها أمام أول أخوين، إذ لم يستطع قايين أن يرفع وجهه أو يأخذ مكانه، طالما كان هناك هابيل أخوه على وجه الأرض، وطالما حظى بالرضا الإلهى، والسمو الذى يجعله متقدماً عنه، وهو الأصغر. وربما الأضأل حجماً وشكلا!!... ولم تتسع الأرض كلها أمام لامك، ومن تعدى عليه، والمظنون أنه كان بسبب أمور نسائية: « اسمعا قولى يا أمرأتى لامك، وأصغيا لكلامى. فإنى قتلت رجلا لجرحى، وفتى لشدخى »" تك 4: 23 "... وكيف تحتمل الأرض المتصارعين على امرأة والمتقاتلين فى سبيلها، وقد نشبت حرب تروادة من أجل هيلين اليونانية الجميلة والصراع عليها!!؟... فإذا تحولنا إلى إبراهيم ولوط، أو إلى إسحاق وإسماعيل، أو إلى يعقوب وعيسو، لوجدنا أن المزاحمة القاسية لم تمكنهم من البقاء فى وحدة واحدة أو جيرة متقاربة،.... كان داود ولداً محبوباً جداً من شاول، إلى أن تغنت بنات إسرائيل: « ضرب شاول ألوفه وداوود ربواته » " 1 صم 18: 7 " وإذا به يقول ليوناثان ابنه: « لأنه مادام بن يسى حياً على الأرض لا تثبت أنت ولا مملكتك. والآن أرسل وأت به إلىّ لأنه ابن الموت هو ».. " 1صم 20: 31 ".إن التاريخ حافل بصراع البيوت المختلفة على القوة والجاه والنفوذ والسيطرة فهى تتصاهر أو تتقاتل، وهى تحب أو تحقد، وهى تتعاهد أو تتآمر بدافع المزاحمة للوصول إلى المكان الأسمى والأفضل!! والدولة فى كافة الصور والألوان تتصارع صراعها الخفى أو المنظور، من أجل مصالحها المتعارضة المتضاربة، وهى تعقد المعاهدات أو تثير الحروب تبعاً لهذه المزاحمة العنيفة القاسية،... والعداوة والصداقة بينها تدور وجوداً وعدماً تبعاً لمصالحها المختلفة المتضاربة المتشابكة!!.. والنظم الاجتماعية والاقتصادية تلعب دورها الرهيب فى هذا المجال!!.. فالصراع بين العبد والحر، وبين الأسود والأبيض، وبين الفقير والغنى، والشيوعى والرأسمالى جعلت الإنسان بلا عقل، وحولته وحشاً ضارياً يبطش بأخيه الإنسان دون وازع أو زاجر من ضمير أو إنسانية،... فإذا انتهينا إلى ما هو أرهب وأقسى ونعنى به صراع الأديان منذ فجر التاريخ، وصراع المذاهب المختلفة فى الدين الواحد،... لتعجبنا للمذابح والمجازر التى جرت فيها الدماء أنهاراً باسم الدين، الذى تحول اسمه الجميل إلى أبشع ما عرف الإنسان من حقد وكراهية وطغيان وانتقام!!... ومن الموسف أو المؤلم أنه باسم المسيح، حدثت المعارك المذهبية، ومذبحة سان بارثولميو، وغيرها من صور المعارك المتكررة فى أحشاء التاريخ، ومن الموسف أو المؤلم أن يتقدم زنجى أمريكى إلى راعى كنيسة من كنائس البيض يطلب أن ينضم إلى عضوية الكنيسة، وقد ارتبك الراعى لطلب هذا الزنجى، وتحير كثيراً، إذ كيف يستطيع أن يرفض طلبه، وهو شخص مشهود له بالحياة المسيحية التى تجيز له القبول فى عضوية الكنيسة، وكيف يقبله،الكنيسة لا تقبل إلا البيض فى عضويتها، وإذ لم يكن له من جواب ينقذه من حرج الموقف قال للزنجى: دعنا نصلى ونتقابل فيما بعد لنرى ماذا يقول المسيح لنا!!؟ وقد كان هذا الجواب كافياً لأن يفهم منه الزنجى أن طلبه مرفوض، فخرج متألماً ولم يعد لمقابلة الراعى … غير أنه حدث أن تقابل الاثنان صدفة فى الشارع بعد ذلك بمدة، فقال الراعى، وقد أراد أن يغطى موقفه الأول، لم لم تحضر إلى مرة أخرى … ألم نتفق على المقابلة ثانية!!؟ فأجابه الزنجى: لقد صليت وأخذت الجواب!!... وإذ سأله الراعى ماذا قال له المسيح أجاب: لقد قال لى لا تحزن، فأنا نفسى واقف على باب هذه الكنيسة منذ عشرة أعوام دون أن يسمح لى أحد بالدخول فيها!! وقد يكون هذا الجواب لاذعاً،.. لكنه فى واقع الأمر الصورة الدقيقة لما يحدث فى عالمنا الحاضر، باسم الدين، وتحت مظلته!!.. سنبلط وأسلحته شاء اللّه أن يعطينا صورة واضحة لأسلحة سنبلط، لا لأنها أسلحة قديمة، يلزم أن نعرفها، كما نتعرف على القوس والسهام والترس والحراب التى تعود الناس أن يقاتلوا بها، قبل أن يعرف العالم أسلحة الدمار والتخريب الحديثة المعروفة فى الوقت الحالى!!.. فالحقيقة أن سنبلط يتكرر فى كل جيل وعصر وأسلحته القديمة تظهر فى حياة الإنسان العصرى سواء بسواء!!.. ولعل أول سلاح استخدمه هو السخرية: « ولما سمع سنبلط الحورونى وطوبيا العبد العمونى وجشم العربى هزأوا بنا واحتقرونا » " نح 2: 19 ".. « ولما سمع سنبلط أننا آخذون فى بناء السور غضب واغتاظ كثيراً وهزأ باليهود وتكلم أمام إخوته وجيش السامرة وقال ماذا يعمل اليهود الضعفاء. هل يتركونهم؟. هل يذبحون؟. هل يكملون فى يوم؟ هل يحيون الحجارة من كوم التراب وهى محرقة؟ وكان طوبيا العمونى بجانبه، فقال إن ما يبنونه إذا صعد ثعلب فإنه يهدم حجارة حائطهم، إسمع يا إلهنا لأننا قد صرنا احتقاراً » " نح 4: 1 - 4 ".. والسخرية فى العادة هى التعبير االدقيق عن الكبرياء والتعالى والحقد والضغينة والمرارة والكراهية، التى تظهر فى لغة الإنسان ولفظه،... وهى التمنى الأسود الذى قد يظهر فى الفكاهة أو النكتة أو الشتيمة أو الملحمة أو ما أشبه من عبارات أو ألفاظ،... وهى المحاولة التى يبدأ بها الإنسان لإرضاء نفسه، قبل أن يرضى الآخرين، إذ هى الصورة الذهنية لما يتمناه لعدوه أو خصمه - سواء أكان يدرى أو لا يدرى - فى لغته وكلامه،... ولم يكن سنبلط يرى فى خياله إلا مدينة أورشليم وهى أكوام من تراب محرقة بالنار، بدون ذبيحة أو مذبح، يسكنها جماعة من الضعفاء والتعساء البائسين،.. وكان طوبيا يتخيل المدينة وقد امتلأت بالثعالب وبنات آوى، والثعلب يقفز هنا وهناك بين خرائبها، ليهدم البقية الباقية من أنقاضها لكى تسوى بتراب الأرض،... وكلاهما يستريح إلى هذا الخيال الذى يملأ ذهنه، ويحلو أن يعبر عنه بما يصادفه من ملحة أو نكتة، وإذا صح ما يتجه إلىه رجال علم النفس من أن النكتة ليست إلا انعكاساً للكبت النفسى، وأن الفرد أو الشعب الذى يحسنها، قد يكون فى الحقيقة معذباً فى داخله، يسرى عن نفسه أو يخادعها أو يغطيها أو يتجاهلها، باللفظ المضحك أو الرواية الساخرة،... وقد تحول العذاب النفسى لسنبلط وطوبيا وجشم إلى الهزل الذى به يواجهون نحميا فى بناء سور أورشليم!!... والسخرية إلى جانب ذلك هى نوع من المداورة تجاه العجز عن العمل،... ومن ثم تظهر فى العادة تعويضاً فى الشعوب المغلوبة على أمرها، إفصاحاً عن السخط العاجز عن أى سلاح آخر قد يحمله الإنسان لاقتضاء حقه، ودفع ما يتعرض له من ظلم أو شر!!.. ولما لم يكن لدى سنبلط شئ فى البداءة يستخدمه ضد نحميا، أسرع بسلاح السخرية يجرب حده، ومفعوله، تعبيراً للوصف الكتابى الدقيق: « ولما سمع سنبلط الحورونى وطوبيا العبد العمونى ساءهما مساءة عظيمة لأنه جاء رجل يطلب خيراً لبنى إسرائيل».. " نح 2: 10 " وكان سنبلط - إلى جانب السخرية - مفترياً، وهو يذكر بشاول الطرسوسى عندما كتب عن نفسه يسجل تاريخه الآثم فى القول: « كنت مجدفاً ومضطهداً ومفتريا ».. (1 تى 1: 13) والافتراء هو الكذب الذى يأخذ صورة النميمة والوقيعة، وقد أراد سنبلط أن يستعدى الملك على نحميا فادعى: « ما هذا الأمر الذى أنتم عاملون، أعلى الملك تتمردون» " نح 2: 19 ".. وليس على المفترى إلا أن يكذب، ويصور الأمور على العكس ما هى عليه، ويكررها حتى يبدأ هو فى تصديقها، ثم يشيعها لعلها تأتى بالمقصود منها... والافتراء هو السلاح الذي صال به المتآمرون وجالوا فى كل عصور التاريخ، فجعلوا الحلو مراً، والمر حلواً، والظلام نوراً، والنور ظلاماً،.. ألم تستخدمه إيزابل باتهام نابوت اليزرعيلى بالتجديف على اللّه والملك؟ وليس أيسر من إثبات التهمة بإشاعة الجو المناسب لها بالصوم والصلاة، وإبداء الحزن عليها كأعظم جريمة يتصور وقوعها فى ذلك الحين، فإذا وجد الشاهدان اللذان يمكن أن يعدا للشهادة بذلك، فالعقوبة لا تلحق بنابوت وحده، بل لابد لفظاعتها ورهبتها، أن تجرف أسرته معه، فيرجم الكل، ويصبح الكرم بلا وارث، فيرثه الملك بحكم تقليد كان متبعاً وقتئذ!!.. وألم يستخدمه اليهود فى أكبر جريمة فى التاريخ بتصوير يسوع المسيح، ثأثراً على قيصر، ولابد من وضع حد لهذه الثورة بالصليب!! وما أكثر ضحايا الافتراء من الشهداء الذين ذهبوا كاستفانوس، تلصق بهم أبشع التهم وأقساها وأحطها، وهم منها جميعاً براء، ولكنه الافتراء والكذب اللذان استخدمهما الشيطان منذ القديم، وربما من فوق المنابر التى هى أساساً للنداء بالحق!!.. ويكفى أن ننقل صورة لعظة ألقاها أحد رجال الدين ممن حملوا قرار حرمان مارتن لوثر إلى كنيسة ألمانية، وقد قال فى روتشبرج ما يلى: « أيها الآباء والأخوة والأبناء، إن الكنيسة عانت طويلاً من سم حية نشأت بين أحضانها، هذه الحية هى مارتن لوثر، والسم هو تعاليمه التى ينشرها... ولا حاجة إلى أن أخبركم عن قصة ضلاله فهو أولا فى كبرياء قلبه يحتج على المحبة العظمى فى قلب أبينا البابا المقدس الذى جعل من الميسور بيع غفران الخطايا عند أبوابنا،... وهو فى هذا يؤذى الكنيسة إذ يعظ ضد الصكوك المقدسة والغفرانات، ويمنع خلاص النفوس، وهو قد كتب حججاً كاذبة وسمرها على باب الكنيسة وتنبرج، وانتشرت من هناك فى كل ألمانيا، وكثيرون يموتون فى خطاياهم، ويذهبون إلى الجحيم بسبب هذه الحجج، وقد كانت الكنيسة مترفقة به، إذ وعدته بالعفو إذا تراجع، وأعطته الفرصة ليظهر فى أوجسبرج أمام قداسة الكاردينال جاجيتان الذى تعامل معه بلطف، ولكن دون جدوى، وبعد هروبه الجبان من أوجسبرج كان له الشرف أن يتقابل مع دكتور إيك العظيم الذى تغلب عليه تماماً، ومع ذلك فهو ما يزال ينشر أكاذيبه فى كل مكان، وقد أضحى الآن أكثر غطرسة وقسوة،.. إذ لم يكتف بمهاجمة الغفرانات، بل بدأ يهاجم البابا نفسه، وقد كتب كتباً متعددة ممتلئة بالباطل والأضاليل، وزرع الشوك فى عقول الكثيرين من أبناء الكنيسة المؤمنين، وأبعد آلافاًعن الأم الوحيدة الحقيقية، الكنيسة، ولهذا فإن البابا عزم على أن يضع حداً لهذا الهرطوقى الكبير وأبى الأكاذيب »...كان سنبلط من أقدم الناس الذين لجأوا إلى الافتراء فى مقاومة نحميا بمحاولة استعداء الملك ضد الرجل الذى وثق به، وجعله من فرط الثقة فيه ساقياً له!!... ولم يكتف سنبلط بذلك، بل لجأ إلى سلاح الغدر باستخدام عنصر المفاجأة فى الحرب،... ولما سمع سنبلط وطوبيا والعرب والعمونيون والاشدوديون أن أسوار أورشليم قد رممت والثغر ابتدأت تسد غضبوا جداً وتآمروا جميعهم معاً أن يأتوا ويحاربوا أورشليم ويعملوا بها ضرراً... وقال أعداؤنا لا يعلمون ولا يرون حتى ندخل إلى وسطهم ونقتلهم ونوقف العمل »" نح 4: 7 - 11 ".. والغدر من أشر الأسلحة الشيطانية، منذ ذلك اليوم الذى قتل فيه قايين أخاه الآمن الوادع عندما دعاه ليذهب معه إلى الحقل وقام هناك على أخيه وقتله،... ومنذ أن باع أخوة يوسف أخاهم وغمسوا قميصه فى الدم، وسلموه إلى أبيه الذى أكد أن وحشاً افترس ابنه، ولم يعلم أن الوحش كان أبناءه أخوة يوسف،.. ومنذ أن صاح يوليوس قيصر عندما انهالت عليه الطعنات: « حتى أنت يابروتس »... وكم بيت المتآمرون الخطط والمؤامرات حتى يفاجأ الضحايا: « لا يعلمون ولا يرون حتى تدخل إلى وسطهم ونقتلهم ».. ولم يردع الغادرين أيام نحميا إلا علمه بالنية الغادرة، واستعداده لمواجهتها!!.. فإذا لم يكن هناك من سبيل إلى الحرب الخارجية، فلا بأس من الحرب الداخلية، فيما أطلق عليه فى الحرب العالمية الأخيرة الطابور الخامس، وهم جماعات الحزنة، والنفعيين، والوصوليين، وقد كانوا كثيرين أيام نحميا فأشاعوا الرعب، والمذمة، والتذمر حتى تكل الأيدى عن العمل، وحتى يستولى اليأس والقنوط على العاملين،... وحتى تنطفئ الجذوة الممتلئة بالحماس والولاء والنشاط فى الخدمة،... لست أعلم مدى الصدق فى قول الرجل الذي صاح: « ربى احمنى من أصدقائى أما أعدائى فأعرف كيف أقابلهم »... فأنا إنسان أحتاج مع نحميا إلى حماية اللّه من الصديق ومن العدو أيضاً،... لكن الحقيقة المريرة أن الذين قد يكونون معنا فى الكنيسة، هم أشد ضراوة وقسوة من الذين نواجههم فى الخارج،... لقد كان المتآمرون يوم المسيح فى حاجة إلى يهوذا الأسخريوطى حتى تنجح مؤامرتهم البشعة الرهيبة،... وفى أيام نحميا يكفى القول: « وكان واحد من بنى يوياداع بن الياشيب الكاهن العظيم صهراً لسنبلط الحورونى فطردته من عندى » " نح 13: 28 " دانية سنبلط المتزوجة بابن الكاهن العظيم، كان يمكن أن تفعل الكثير مما فعلته إيزابل من قبل فى شعب اللّه!!.. وكان يمكن للكثيرين من المتحالفين مع سنبلط أو المتعاطفين معه، أن يضروا بالقضية ضرراً بالغاً، لولا شجاعة نحميا ومقاومته الباسلة لهم!!...على أنه وقد عجزت هذه الأسلحة جميعها عن إسقاط الرجل، عمد سنبلط إلى سلاح آخر، يمكن أن نطلق عليه سلاح المداهنة بغية اللقاء والتشاور والتفاهم، فى الوقت الذى يبطنون الشر له، يزعمون أن اللقاء للخير ولمصلحة الجميع، وكل مرادهم إدخاله فى متاهة النظريات والمفاوضات وما تحفل به من كلام منمق، وقبلات حلوة، وولائم كريمة، إنه مزج السم بالدسم ومحاولة إبعاد الرجل عن العمل الجاد، وصرفه عنه بالحيل والأساليب الملتوية الشيطانية،... وإنها لأكبر كارثة فى حياة فرد أو أمة أو شعب، إبطاء العمل أو تأجيله حتى تنتهى اللجان المعينة من درسه، والأخذ بأفضل الوسائل للوصول به إلى غايته،... وليس أبلغ من سخرية أحدهم عندما قال: « إن اللّه صنع العالم فى ستة أيام لأنه لم تكن هناك لجنة معينة للعمل!!..والسلاح الأخير الذى حاول سنبلط استخدامه للقضاء على عمل نحميا، هو إسقاط القيادة أمام الشعب وإظهارها بمظهر الخوف والجبن إذ استأجر شمعيا بن دلايا من الكهنة، والذى كان يسكن فى بيت اللّه، لكى يدعو نحميا للدخول إلى بيت اللّه فى الهيكل على زعم أنه المكان الذى يمكن أن يختبئ فيه عن أعين الذين قد عقدوا العزم على أن يأتوه فى الليل ليقتلوه،... وهو لم يقصد حمايته، بل قصد فى الواقع تعريته ليظهر أمام الناس بمظهر القائد الجبان الذي يخاف على نفسه وعلى مصيره،.. لقد كان نحميا هو قائد الحركة وزعيمها البارز، فإذا ظهر أنه إنسان يبحث عن سلامته الخاصة، فى وقت ينبغى أن يقود الصفوف، وأن يبرز أمامها، فهنا الكارثة، إذ تتلطخ سمعته بالوحل، فينصرف الناس عنه، ويشكون فى خدمته وعمله ورسالته!!... ولكن نحميا فطن إلى الهدف الخبيث، وصاح صيحته العظيمة المدوية: « أرجل مثلى يهرب ومن مثلى يدخل الهيكل فيحيا؟ لا أدخل ».. " نح 6: 11 " عندما حاولوا تخويف لوثر بالقول أنه لن يعود من ورمس حياً، … وعندما جاءه رسول من قبل صديق من النبلاء الألمان بهذا.. قال للرجل: « اذهب وقل لسيدك إنه لو كان هناك شياطين فى ورمس بعدد القراميد على سطوح المنازل فإنى سأذهب إلى هناك »...!!.. سنبلط: الرد على أسلحته وصراعه من الطريف أن أحدهم، وهو يتحدث عن أسلحة سنبلط، شبهه ببعض البنادق التى أرسلت إلى الانجليز فى حرب البربر فى جنوب إفريقيا، وقد أراد الانجليز أن يجربوا فاعلية هذه الأسلحة ومدى بلوغها الهدف،... كانوا على رابية، وأبصروا على رابية أخرى، بالمنظار المكبر، قطيعاً من الماعز عدده عشرة، فجعلوها هدفهم، وأطلقوا عليها عشرين طلقة، ثم ذهبوا إلى المكان ليروا أن العشرة تحولت إلى إحدى عشر من الماعز، لأن واحدة فى ذلك الوقت ولدت أخرى!!... لم يفشل سنبلط فحسب، بكل أسلحته، بل أعطانا صورة للنجاح الذى تتمخض عنه خدمة اللّه فى وسط الشدائد والمتاعب والمقاومات، وهذا ما يحدث دائماً فى كل جيل وعصر، عندما يصنع اللّه من الشر خيراً، ومن الآكل أكلا ومن الجافى حلاوة،... ومن حقنا ونحن فى قلب المؤامرات الشريرة التى لا تنتهى طالما بقى أشرار ومؤمنون على الأرض،... أن نسأل كيف نقاوم الشر وننتصر عليه؟.. ومن اللازم أن نعلم بادئ ذى بدء، أننا: « وإن كنا نسلك فى الجسد لسنا حسب الجسد نحارب. إذ أسلحة محاربتنا ليست جسدية بل قادرة باللّه على هدم حصون. هادمين ظنوناً وكل علو يرتفع ضد معرفة اللّه ومستأثرين كل فكر إلى طاعة المسيح » " 2 كو 10: 3 - 5 ".. لقد كان السلاح الأول فى مواجهة سنبلط هو سلاح الإيمان،.. إذ أن حركة نحميا من أولها إلى آخرها كانت تتميز بالإيمان،.. وهذا الإيمان بدأ من أول الأمر فى عزلة النقاوة التى رفضت الاختلاط أو التعاون أو التهاون مع الوثنيين، فهو لا يرضى شركتهم، ولا يقبل مصاهرتهم، وهو لا يقود جماعة اختلط فيها الحابل بالنابل، والمؤمن بغير المؤمن،... إنه جاء ليبنى سوراً للمدينة، وسوراً أعظم، عازلا من الوجهة الروحية، كل اختلاط بالفساد والشر والوثنية والتعامل مع الشر،... على أن هذا الإيمان كان من الوجهة الأخرى، الإيمان فى قوة اللّه التى تعمل معه،.. لقد أدرك أن له الصديق القوى القادر على كل شئ... وسلاح الإيمان هو أمضى الأسلحة فى مقاومة الصعاب الهائلة التى تعترض طريقنا فى الحياة،... وهو الذى مكن أبطال الإصلاح فى كل العصور والأجيال من أن يهتفوا هتاف الرسول: « فماذا نقول لهذا. إن كان اللّه معنا فمن علينا »... " رو 8: 31 " وكان السلاح الظاهر أيضاً مع نحميا: سلاح الصلاة... كان الرجل يؤمن بأن الصلاة تستطيع أن تواجه جيوش الأرض كلها، وليس سنبلط وحده،.. وقد كان اختباره عظيماً فى فاعليتها، منذ اللحظة التى وقف فيها أمام الملك، عندما رأى وجهه المكمد،... وإذا خاف رفع عينيه فى الصلاة إلى اللّه، وقال: « فصليت إلى إله السماء » " نح 2: 4 " وأنت لا تستطيع أن تقرأ السفر دون أن تدرك أن نحميا كان يواجه دائماً مشكلاته بالصلاة،... وما أجمل أن ندخل معه فى مواجهة الظروف والمشاكل فى اختبار الصلاة، قال بللى صاندى فى حديثه عن الصلاة: « صلى إبراهيم من أجل ابن فأعطاه اللّه نسلا كالرمل الذى على شاطئ البحر.. صلى من أجل سدوم فسمع اللّه صلاته وأخرج لوطاً منها،.. صلى يعقوب من أجل اللقاء الطيب مع عيسو!!.. وصلى موسى من أجل الغفران لشعبه، وصلى جدعون للانتصار على المديانيين، وصلى إيليا وأجابه اللّه بنار، وصلى يشوع فكشف عاخان، وصلت حنه فولدت صموئيل، وصلى حزقيا فقتل مائة وخمسة وثمانون ألفاً من الأشوريين، وصلى دانيال فسد اللّه أفواه الأسود، وصلى الرسل فجاء يوم الخمسين!!... وكان من المستحيل على نحميا أن ينجح من غير الصلاة! على أن نحميا أجاب على سنبلط، وعلى سخريته، ونقده، وتهديده، وتشويشه بشئ واضح ظاهر، هو العمل المستمر، دون توقف أو تردد أو إهمال أو تكاسل،... وما من شك بأن ظروفه كانت قاسية، والعمل الذى يواجهه كان جسيما، لكنه أجاب على كل شئ إجابة أحد خدام اللّه الذى جاءته ذات يوماً سيدة تشكو مر الشكوى من مدرسى مدرسة الأحد الذين يعلمون أولادها الأربعة، وقالت للراعى: أعتقد أنه يلزم أن تغيروا هؤلاء المدرسين جميعاً!!.. وأنصت إليها الراعى ثم قال: « إنى أتفق معك، وأنت تعلمين أنه خلال العامين السابقين، وأنا أحاول معك ومع زوجك للمساهمة فى خدمة مدرسة الأحد،.. وأنت إلى هذه الساعة ما تزالين ترفضين!!.. بل لا تزالين ترفضين تحمل أية مسئولية فى عمل الكنيسة، فهل يحق لك بعد هذا أن تنتقدى الذين يبذلون جهدهم حتى ولو لم يكن كافياً؟ ».. على أية حال، كان نحميا عظيماً ورائعاً، إنه واجه النقد بالعمل، ولم يتوقف قط ليدخل فى نقاش أو مجادلة مع هذا أو ذاك من الناس!!.. وليس هناك ما هو أعظم من أن نرد على الناس، وعلى سخريتهم، ونقدهم، واحتقارهم، بغير العمل، حتى نصل معهم إلى الحقيقة التى فيها يتحولون من الاحتقار للعاملين، إلى الاحتقار لأنفسهم!!.. وما من شك فى أن اليقظة والسهر من أهم ما ينبغى أن نواجه به عداوة. الآخرين وخصومتهم، ونحن لا نستطيع أن نبنى سوراً لخدمة اللّه ومجده، بغير العين المفتوحة، والقلب الملتهب، واليد المجتهدة، واليقظة الكاملة كما فعل نحميا قديماً فى مواجهة سنبلط وطوبيا وجشم، وكما علمنا السيد فى معنى أعظم وأكمل عندما قال: « إسهروا وصلوا لئلا تدخلوا فى تجربة» " مت 26: 41 "..!!.
المزيد
12 مايو 2022

شخصيات الكتاب المقدس سليمان

سليمان "فلنسمع ختام الأمر كله اتق الله وأحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله" جا 12: 13 مقدمة لا شبهة في أن سليمان الحكيم يعد واحداً من أعقد الألغاز التي اختلف الناس في فهمها، وذهبوا فيها شتى الأفكار والمذاهب،.. وقد تساءل الكثيرون منذ القديم، وما يزالون إلى اليوم يتساءلون، وأغلب الظن أن سؤالهم سيبقى قائماً لي أن تنتهي الأرض، وما عليها ومن عليها ما مصير سليمان الأبدي؟!!.. وإذا كان دانتي الشاعر العظيم لم يتردد في ضمه في كتاب الكوميديا الإلهية إلى الزمرة المنتخبة من المعلمين العظماء في السماء،.. فإن الكسندر هوايت على العكس من ذلك، لم يترك لنا بارقة أمل في ذهابه إلى المجد، إذ عده من المطروحين خارج المدينة المقدسة السماوية، ولم يقطع الرسام العظيم أوركاخبا بهذا الرأي أو ذاك، إذ استبدت به الحيرة الكاملة، في الصورة العظيمة التي رسمها في بيزا، وفي فلورنسا، وفيها نرى سليمان ينهض في يوم القيامة عند سماع البوق الأخير، مرتدياً ثوبه الملكي، وتاجه، متعباً متألماً، لا يدري أين يتجه.. أإلى اليمين مع المخلصين، أم إلى اليسار مع الهالكين؟!!.. وإن كان لنا أن ندلي برأي في الأمر، وأية كفة نعتقد أنها الراجحة،.. فإن الرجاء في سليمان لا يرجع في شيء البتة، إلى الرجل أو عظمته، أو حكمته بل إلى كل شيء، في إحسان الله، ورحمته، وجوده، وحبه، وهباته، وعطاياه التي هي بلا ندامة،.. ومن ثم سندرس قصة سليمان من جوابنها المختلفة التالية: سليمان من هو؟!! هو سليمان بن داود، أطلق عليه أبوه الاسم "سليمان".. والكلمة مرتبطة بالسلام، وهي تشير في أكثر من معنى إلى أن مولده مرتبط بالسلام.. وقد أطلق عليه ناثان "يديديا" أو "محبوب الرب" لكي يؤكد هذا المعنى، وما هو أكثر منه!!.. أجل وإنها النعمة العظيمة التي اختارت هذا الابن بالذات، ليكون هو مختار الرب، ووارث العرش، وإذا كان الله قد عبر بوفاة الابن الأول -ثمرة الخطية- عن كراهيته العميقة العتيدة للخطية، وإذا كان قد أعلن عن أكثر من عقوبة، للعثرة التي جلبتها هذه الخطية في حياة الأمة والناس،.. فإنه في الوقت نفسه قد عبر عن رضاه العميق بتوبة داود وبثشبع في الابن الثاني محبوب الله ومختاره،.. ولم يتردد داود لذلك أن يدعوه "سليمان" تعبيراً عن السلام العميق الذي ناله بالغفران الإلهي، والثقة بأن الله قد طرح وراء ظهره خطيته الكبرى،.. كما أنه -إلى جانب ذلك- آمن بالوعد الإلهي، بأن عصر ابنه سيكون عصر السلام والهدوء والراحة، الذي يتمكن معه هذا الابن من إتمام رسالته العظيمة، وبناء بيت الله، البيت الذي سيصبح نقطة تجمع الشعب حول الحياة الدينية، والاقتراب الصحيح لله!!.. ومع أن نشيد الأنشاد يمتد بكل تأكيد إلى ما هو أبعد وأعظم من سليمان، إلى ذلك الذي هو أبرع جمالاً من بني البشر، إلا أن المفسرين أكدوا أن سليمان لم يكن جميلاً فحسب، بل كان بارع الجمال. وأن جماله الذي ورث فيه الكثير من أبويه، قد جاء وصفه في قول العروس: "حبيبي أبيض وأحمر معلم بين ربوة رأسه ذهب إبريز قصصه مسترسلة حالكة كالغراب عيناه كالحمام على مجاري المياه مغسولتان باللبن جالستان في وقبيهما، خداه كخميلة الطيب واتلام رياحين ذكية، شفتاه سوسن تقطران مراً مائعاً، يداه حدقتاه من ذهب مرصعتان بالزبرجد، بطنه عاج أبيض مغلف بالياقوت الأزرق ساقاه عمودا رخام مؤسستان على قاعدتين من إبريز، طلعته كلبنان فتى كالأرز، حلقه حلاوة وكله مشتهيات. هذا حبيبي وهذا خليلي يا بنات أورشليم". فإذا كانت هذه الأوصاف الرمزية تشير إلى المسيح في أكثر من معنى، إلا أنها على الأقل تعطينا صورة واضحة إلى من جاء في حد ذاته رمزاً ليسوع في كثير من المواضع والصور"..وقد اشتهر سليمان قبل وبعد كل شيء بالحكمة، إذ دعى في الأجيال كلها "سليمان الحكيم"، ونحن نعلم أن فرصته العظمى للتفوق في الحكمة جاءت إثر حلمه في جبعون، لكنه الواضح أن سليمان كان حكيماً، بطلبه هذه الحكمة، وقد وفر له الله منابع الحكمة، إذ ولد من أبوين مقتدرين في الإداك والفهم، فداود أبوه كانت له المقدرة العظمى في التأمل العميق، وأمه وإن كانت قد اشتهرت بجمالها الفائق- إلا أنه يعتقد أنها ورثت عن جدها أخيتوفل الألمعية والذكاء وقوة التمييز،.. وأعطاه الشفافية، والقدرة الهائلة في فهم الطبيعة البشرية، والحكم على العلاقات بين الناس، كما أنه كان من أقدر الناس في عصره، وفي كافة العصور، على استيعاب الفلسفة، والشعر، والتاريخ الطبيعي، وغيرها من المعارف والعلوم!!... "وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر، وكان أحكم من جميع الناس من إثيان الأزراحي وهيمان وكلكول ودردع بني ما حول، وكان صيته في جميع الأمم حواليه وتكلم بثلاثة آلاف مثل وكانت نشائده ألفاً وخمساً، وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا الثابت في الحائط، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن الدبيب وعن السمك، وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعون حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته"..وكان سليمان -بكل تأكيد- أقرب أولاد داود إلى الله، ولعل أثر ناثان في مطلع حياته كان عميقاً، إذ كان ناثان مربياً له، ويبدو أن داود وهو شيخ يراقب أولاده، رأى ابنه سليمان أصلح أولاده جميعاً ليرث العرش، وشتان بينه وبين أمنون أو إبشالوم أو أدوينا، ومن ثم وعد داود بثشبع بقسم أن يكون سليمان وريثه في العرش،.. ولم يشأ أدونيا الذي كان ابناً مدللاً متكبراً، ويكفي أن الكتاب يصفه: "ولم يغضبه أبوه قط قائلاً لماذا فعلت هكذا".. لم يشأ أن ينتظر وفاة أبيه أو حتى أخذ رأيه وموافقته، فنصب نفسه على العرش بدون علمه، وقد انحاز إليه جميع إخوته الذين كانوا أقرب على شاكلته، من سليمان الذي لم يدع إلى الحفل أو يشارك فيه،.. فإذا أضفنا إلى ذلك أنه الرجل الذي يعتقد أنه كاتب المزمور الثاني، والخامس والأربعين، والثاني والسبعين، والمائة والسابع والعشرين، وكلها واسعة الرؤى ممتدة الأحلام، إلى جانب أسفار الأمثال، والجامعة، ونشيد الأنشاد، والذي لم يسترح أو يهدأ حتى أكمل بناء بيت الرب وصلى في تدشين صلاته العظيمة، وكلها تشهد بعظمة الحياة الدينية التي وصل إليها ذلك الملك القديم!!... سليمان واختياره بعد أن توج سليمان واستوى على عرشه، أحس أنه في حاجة عميقة إلى الله، وإلى إرشاده وهدايته ومعونته، فسعى إلى جبعون الواقعة على بعد ستة أميال إلى الشمال من أورشليم حيث كانت هناك خيمة الاجتماع التي عملها موسى، وحيث كانت تقدم الذبائح لله، وأقام حفلاً دينياً عاماً يبدأ به حياته الملكية بتكريس عظيم أمام الله، وأصعد هناك ألف محرقة، وليس العبرة في حد ذاتها بهذا العدد الكبير من المحرقات كما يقول صموئيل: "هل مسرة الرب المحرقات والذبائح كما باستماع صوت الرب هوذا الاستماع أفضل من الذبيحة والإصغاء أفضل من شحم الكباش" أو كما يقول ميخا "بم أتقدم إلى الرب وأنحني للإله العلي هل أتقدم بمحرقات بعجول أبناء سنة هل يسر الرب بألوف الكباش بربوات أنهار زيت هلى أعطي بكري عن معصيتي ثمرة جسدي عن خطية نفسي. قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب إلا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعاً مع إلهك"...وقد جاء سليمان في الواقع بإحساس الضعف والاتضاع والحاجة إلى الله،.. وإذ رآه الله على هذا الوضع ظهر له في حلم، ووضع أمامه الاختيار المطلق دون قيد أو شرط،.. ولعله من اللازم قبل أن نتعرض لاختيار سليمان أن نشير إلى أنه ليس وحيداً أو منفرداً في هذا الاختيار، إذ أن كل واحد منا مثله له مملكته الخاصة، ومن حقه أن يختار اختياره المطلق، وما يريد بالنسبة لهذه المملكة صغرت أو كبرت على حد سواء،.. وإذا كان اليونانيون قد صوروا في أساطيرهم القديمة، هرقل بطلهم العظيم، وقد جلس ذات يوم في شبابه محزوناً متضايقاً، وإذا بفتاتين حسناوين تمران به، واحدة اسمها "اللذة" والأخرى اسمها "الفضيلة".. أما الأولى فقد وعدته أن تقدم له حياة رضية ممتلئة بالبهجة والمسرات، بينما وعدته الأخرى أن تقدم له حياة ممتلئة بالنفع والشهرة، ورفض هرقل نداء اللذة، واستجاب لنداء الفضيلة، وعاش حياته كلها لمعونة الضعيف والمحتاج والبائس... وإذا كان لورد ملبورن عندما أعلن الأميرة الشابة فيكتوريا أنها أصبحت ملكة انجلترا لم يجد أفضل من أن يقرأ لها حلم سليمان في جبعون، فمن الواضح أن الاختيار يواجه كل إنسان في الحياة،.. وحتى رفض الاختيار، هو نوع من الاختيار الذي لا يمكن تفاديه!!..جاء الاختيار إلى سليمان وهو نائم، والاختيار الصحيح يأتينا مصحوباً بنوم ما، إذ لابد أن ينام فينا الإنسان الأناني الضعيف، الناقص، الشرير المقاد بالجسد، ليستيقظ فينا الإنسان الأسمى والأعلى والأعظم،.. وقد نام هذا الإنسان في سليمان، إذ أن الله عندما سأله: "اسأل ماذا أعطيك، ربما همست في أذنه التجربة.. "أطل طول أيام، أطلب ثروة وغنى، أطلب أنفس أعدائك"!!.. ويبدو هذا من قول الله: ولم تسأل لنفسك أياماً كييرة ولا سألت لنفسك غني، ولا سألت أنفس أعدائك، مما يشجع على الاعتقاد أن المجرب قد جرب بهذه كلها، ولكنه انتصر عليها جميعاً. وطلب القلب الفهيم. والقلب الفهيم يتطلب أمرين واضحين، إذ يبدأ أولاً بالذهن الجبار المقتدر الحكيم، الذي يستطيع الكشف عن الحقيقة المخبأة وراء ستار من الأضاليل والأكاذيب، وخير مثال علي ذلك قصة الزانيتين اللتين احتكمتا إليه في قصة الابن الميت والآخر الحي،.. على أن الأمر أكثر من ذلك لا يقف عند حدود الذهن بل يتعداه إلى "القلب" والذي قال عنه في الأمثال: "فوق كل تحفظ احفظ قلبك لأن منه مخارج الحياة"... والحكمة الصحيحة عند سليمان تتضح من قوله في سفر الأمثال: "بدء الحكمة مخافة الرب ومعرفة القدوس فهم"... وفي الحقيقة أن سليمان كان يدرك بالتأكيد أن الإنسان لا يمكن أن يكون حكيماً إلا إذا كانت له الرابطة القوية العميق بالله، والتي جعلته يقول في المزمور الثاني والسبعين: "اللهم أعط أحكامك للملك وبرك لابن الملك يدين شعبك بالعدل ومساكينك بالحق تحمل الجبال سلاماً للشعب والآكام بالبر يقضي لمساكين الشعب يخلص بني البائسين ويسحق الظالم"... أو إذا جاز التعبير: إن الحكمة هي "الشفافية" التي يعطيها الله للإنسان لكي يبصر الحقيقة، أو الإلهام، أو الإيحاء، بالمعنى الذي قاله يعقوب: "وإنما إن كان أحدكم تعوزه حكمة فليطلب من الله الذي يعطي الجميع بسخاء ولا يعير فسيعطي له"!!..كان اختيار سليمان بجانبيه "السلبي والإيجابي" مقبولاً وحسناً أمام الله، وقد أعطاه الله لذلك فوق ما يطلب أو ينتظر، إذ أعطاه الغنى والكرامة إلى جانب الحكمة الفائقة التي اشتهر بها، على أنه من اللازم أن نشير أيضاً إلى أن عطية الله كانت مشروطة بشرط واضح متكرر: "فإن سلكت في طريقي وحفظت فرائضي ووصاياي كما سلك داود أبوك فإني أطيل أيامك"... "والآن أيها الرب إله إسرائيل: احفظ لعبدك داود أبي ما كلمته به قائلاً لا يعدم لك أمامي رجل يجلس على كرسي إسرائيل إن كان بنوك إنما يحفظوا طرقهم حتى يسيروا أمامي كما سرت أنت أمامي".. "وأنت إن سلكت أمامي كما سلك داود أبوك بسلامة قلب واستقامة، وعملت حسب كل ما أوصيتك، وحفظت فرائضي وأحكامي فإني أقيم كرسي ملكك على إسرائيل إلى الأبد كما كلمت داود أباك قائلاً لا يعدم لك رجل عن كرسي إسرائيل"... وقد أخفق سليمان في تحقيق هذا الشرط، أو كما قال أحدهم: إن الاختيار الموضوع أمام الإنسان ليس مجرد اختيار بين الرديء والحسن، بل أكثر من ذلك، بين الرديء والحسن والأحسن، وقد اختار سليمان الحسن، وعجز عن أن يصل إلى الأحسن، ومرات كثيرة يكون الحسن عدو الأحسن، أو أن التوقف عند الحسن قد يعود بصاحبه إلى الوراء إلى الرديء.. إنه من الحسن أن نطلب "القلب الفهيم" الذي ميز بين الحق والباطل، والخير والشر، والنور والظلام،.. ولكن الأحسن أن نطلب "القلب النقي"... ولو طلب سليمان طلبة أبيه العظيمة: "قلباً نقياً أخلق في يا الله وروحاً مستقيماً جدد في داخلي" لما تردى في المنحدر الذي آل إليه فيما بعد،.. كانت طلبة سليمان الحسنة، كمن يبني قلعة عظيمة من غير أسوار، ما أسرع ما تسقط أو تنهار عند أي اقتحام أو هجوم،.. ألم يقل كونفوشيوس الحكيم الشرقي الذي جاء بعد سليمان بخمسة قرون: "هذه هي الأشياء التي ترعبني، إني لا أصل إلى مستوى الفضيلة الذي أرغبه، وأنني لا أعيش تماماً حسبما علمت، ولست قادراً على السير في حياة البر وعمله في الوقت الذي أعرف فيه أن هذا هو البر إني لا أستطيع عمل الخير، ولست قادراً على تغيير الشر في نفسي أنا لست الإنسان الذي ولد حكيماً"؟؟ سليمان وأمجاده لم يكن سليمان الملك من أعظم ملوك يهوذا وإسرائيل فقط "بل من أعظم ملوك التاريخ قاطبة، وقد أحاطت به هالة من المجد لم تتح لكثيرين قبله أو بعده، حتى اقترن اسمه في بعض المواطن بالتقاليد والأساطير التي لا تجد سندها في كتاب الله، ويكفي أن نعلم أنه كان من أعظم ملوك الأرض وأغناهم وأحكمهم، حتى أن شهرته ذاعت في الخافقين، فاجتذبت من أقصى الأرض ملكة سبأ لتسمع حكمته كما أن سيدنا له المجد أدناه من نفسه كثيراً عندما قال هوذا أعظم من سليمان ههنا، ولعل أمجاده الثلاثة الشهيرة: مجد الإمبراطورية وما أكثر ما يشبهون امبراطورية سليمان بالامبراطورية الأغسطسية إذ كان عصر سليمان أقرب العصور إلى عصر أوغسطس قيصر أول امبراطور للامبراطورية القديمة، على أن مجدها الحقيقي جاء في أنها كانت رمزاً وصورة ضئيلة لمجد مملكة ابن الله في الأرض، إذ كانت تجمع إليها ثروة الأمم: وجعل الملك الفضة في أورشليم مثل الحجارة، وجعل الأرز مثل الجميز الذي في السهل في الكثرة".. وأليست هذه رمزاً لصورة أورشليم العليا أمنا جميعاً والتي وصفها الرائي بالقول: "وكان بناء سورها من يشب والمدينة من ذهب نقي شبه زجاج نقي وأساسات سور المدينة مزينة بكل حجر كريم الأساس الأول يشب. الثاني ياقوت أزرق. الثالث عقيق أبيض الرابع زمرد ذبابي. الخامس جزع عقيقي. السادس عقيق أحمر. السابع زبرجد. الثامن زمرد سلقي. التاسع ياقوت أصفر. العاشر عقيق أخضر. الحادي عشر اسمانجوني. الثاني عشر جمشت. والاثنا عشر باباً اثنتا عشرة لؤلؤة كل واحد من الأبواب كان من لؤلؤة واحدة وسوق المدينة ذهب نقي كزجاج شفاف"... كما أن الامبراطورية كانت متسعة امتدت من حدود مصر إلى العراق، وكان الملوك المجاورون يتزلفون إلى سليمان بالهدايا والتقدمات والخدمة وكان الرعايا من اليهود أو الأمم على حد سواء، أما اليهود فكانوا أشبه بالرمل الذي على البحر في الكثرة أما الأمم فكانوا من ممالك متعددة تخضع لهذا الملك العظيم، وقد خلا حكم سليمان من الحروب الخارجية والمنازعات الداخلية، وسكن يهوذا وإسرائيل آمنين كل واحد تحت كرمته وتحت تينته من دان إلى بئر سبع كل أيام سليمان، كما امتلأت البلاد بالرفاهية والترف، ويبدو هذا من طعام سليمان اليومي وخيله ومربكاته، وألوان العظمة التي كان يرفل فيها... ولم يكن هذا كله إلا رمزاً لذاك الذي وصفه سليمان في المزمور الثاني والسبعين: "يشرق في أيامه الصديق وكثرة السلام، إلى أن يضمحل القمر ويملك من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض. أمامه تجثو أهل البرية وأعداؤه يلحسون التراب، ملوك ترشيش والجزائر يرسلون تقدمة ملوك شبا وسبأ يقدمون هدية ويسجد له كل الملوك. كل الأمم تتعبد له. لأنه ينجي الفقير المستغيث، والمسكين إذ لا معين له، يشفق على المسكين والبائس، ويخلص أنفس الفقراء من الظلم والخطف يفدي أنفسهم، ويكرم دمهم في عينيه، ويعيش ويعطيه من ذهب شبا... يكون اسمه إلى الدهر قدام الشمس يمتد اسمه ويتباركون به. كل أمم الأرض يطوبونه، مبارك الرب إله إسرائيل الصانع العجائب وحده ومبارك اسم مجده إلى الدهر، ولتمتليء الأرض كلها من مجده آمين ثم آمين"... أو الصورة الأخرى التي أشار إليها دانيال في القول: "وأما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيراً وملأ الأرض كلها"... مجد الهيكل عندما بنى جستناين الامبراطور كنيسة أجا صوفيا. وكانت أعظم عمل قام به إلى جانب تجميع القانون الروماني البيزنطي، ودشنها عام 548م. رفع يديه نحو السماء وصرخ: مجداً لله الذي حسبني مستحقاً أن أقوم بعمل عظيم كهذا، ثم تلتفت حوله وصاح: لقد تفوقت عليك يا سليمان!!!.. وهو يقصد أن يقارن بين الكنيسة العظيمة التي بناها، وهيكل سليمان العظيم على أرض المريا،.. وحقاً كان الهيكل آية من آيات الفن والجمال.ومن صلاة سليمان نعلم أن الهيكل كان عنده أكثر جداً من الأبهاء والعظمة التي كانت لمبانيه، إذ كان المكان الذي يحمل اسم الله، ويرمز إلى حضوره،.. كما أنه كان مركز العبادة، والشركة، والأخوة التي تربط الشعب بإلههم، وببعضهم البعض،.. وهو المكان الذي يستطيع أن يتجه إليه خيال المنفي والمسبي، ومن ثم رأينا دانيال في السبي، وإن كان لا يراه بعينه المادية، أو يراه حطاماً في أورشليم، إلا أنه الرمز الذي تفتح في اتجاه الكوى، كمكان الغفران والتضرع والأمل،.. وقد أوضح الله لسليمان أن هذه المعاني جميعاً ستبقى ما بقيت الرابطة الروحية مع الله، فإذا تمسك الشعب الصورة المادية، فإن الله سيجعل إسرائيل مثلاً وهزأة في جميع الشعوب: "وهذا البيت يكون عبرة".. مجد الحكمة ومن العجيب أن امبراطورية سليمان ذهبت، وذهب معها الهيكل، تماماً كما ذهبت الامبراطورية الرومانية القديمة، وكنيسة أجا صوفيا، وبقيت حكمة سليمان في سفر الأمثال، والجامعة ونشيد الأنشاد، تماماً كما بقى القانون الروماني البيزنطي، والذي هو أبو القوانين الحديثة، وكان مفخرة جستينان عندما أمكنه تجميعه، ليحمي الحضارة الحديثة ويمدها بأعظم الصور القانونية في الأرض!!.. ومن الملاحظ دائماً أن الكلمة المكتوبة، أقوى من كل الأوضاع المادية، وأبقى وأخلد!!.. وإذا كان أبناء عصر سليمان، قد تعلموا الكثير من الحكمة في سعيهم إليه من هنا ومن هناك، من أبناء أمته أو الأمم الغريبة، كما سعت إليه ملكة سبأ، تستلهم منه الحكمة والمعرفة،.. فإن العصور بأكملها ما تزال إلى اليوم تنهل، وستنهل مما ترك سليمان في أسفاره الكتابية الثلاثة!!.. سليمان وتجاربه كان شكسبير يقول: إن الجهل في الحياة سبب كل تعاسة ومأساة، ولكن سليمان لم يكن جاهلاً، وقد سقط سقوطه الشنيع رغم حكمته العظيمة، لثلاث تجارب قاسية: دبلوماسية الحكم كانت الدبلوماسية في نظر چورچ ماثيسور، وهو يحلل شخصية سليمان هي السر في كل ما وصل إليه وأصابه،... وماثيسون يعتقد أن سليمان لم يجمع في قصره ألف امرأة لمجرد الشهوة الجنسية، مهما كانت رغبته فيها، بل أن سليمان نفسه والأمم الذي حوله بروابط سياسية، بهذا الجمع الحاشد من النساء، إذ جاء مع بنت فرعون بالموآبيات والعمونيات والأدوميات والصيدونيات والحثيات، وهو يخطط لذلك في الوصول إلى السلام مع جميع جيرانه، دون الحاجة إلى النزاع معهم ورفع السلاح في وجوههم!!.. كما أنه أراد أن يوحد الأمة من الداخل، وهو لا ينسى أن الأمة كانت أساساً تلتف حول عائلة شاول في سبط بنيامين. وأن الاتحاد الظاهري، يحمل في أطوائه جرثومة الانقسام التي لم تلبث أن ظهرت فيما بعد في أيام ابنه، وهو يريد أن يذيب كل انقسام وفرقة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن يشغل الناس بالحصول على الثروة التي تغنيهم عن كل تفكير في نزاع داخلي ومن ثم عمد إلى التجارة فأنشأ أسطولاً ناجحاً وتبادل مع الأمم الذين حوله التجارة التي دفعت الأمة دفعاً قوياً إلى الأمام.. ومن ثم جعل -كما ذكرنا- الفضة في أورشليم مثل الحجارة، والأرز مثل الجميز الذي في السهل في الكثرة!!... وعندما ينشغل الناس بالثروة، ستنسيهم الثروة أي شيء آخر يمكن أن يكون موضوع اهتمامهم وانشغالهم على الإطلاق!!... بل لعله من الناحية الدينية قصد بأن يجمع الشعب حول الهيكل، إذ يصبون هناك حنينهم وأشواقهم وشركتهم، الأمر الذي أفزع خيال يربعام فيما بعد، فأراد أن يفصل إسرائيل عن يهوذا بتمثالي الذهب في بيت إيل ودان، ليمنع الشعب من العودة إلى أورشليم إلى الهيكل،.. وسقط سليمان في الفصل -بهذه الدبلوماسية- بين الحكمة النازلة من السماء، والحكمة النفسية الأرضية البشرية، ونسى سليمان أول درس في الحكمة أنها عطية الله، وليست ذكاء البشر!!.. ومن الغريب أن الرجل الذي قال: "توكل على الرب بكل قلبك وعلى فهمك لا تعتمد في كل طرقك أعرفه وهو يقوم سبلك".. لم يستطع أن يدرك هذه الحقيقة، وارتبط أول ما ارتبط بمصر وغيرا من الأمم، على العكس من القصد الإلهي والغاية من شعب الله نفسه،.. وحفر بذلك -وهو لا يدري- الهوة الواسعة التي تردي فيها أخريات حياته!!.. إن الحكمة الإلهية لمن يريد أن يأخذها هي أشبه الكل بالتيار الكهربائي سيظل قوياً جباراً متغلباً طالما كان مرتبطاً بأصل الكهرباء، فإذا انفصل عن هذا الأصل لأي سبب من الأسباب، فإنه يموت في نفس الدقيقة التي يتم فيها هذا الانفصال!!.. وقد حدث هذا -للأسف- في قصة سليمان، وأين سليمان الذي قيل عنه في مطلع حياته: "والرب أحبه" من سليمان الذي وصف في أخريات حياته: "فغضب الرب على سليمان"..! الترف واللذة كانت التجربة الثانية أمام سليمان تجربة الترف واللذة، وقد أفصح عن ذلك في الأصحاح الثاني من سفر الجامعة، على النحو العجيب الذي وصل إليه، وهل كان من المنتظر من الإنسان الذي قال في سفر أمثال لله: "أبعد عني الباطل والكذب لا تعطني فقراً ولا غنى أعطني خبز فريضتي لئلا أشبع وأكفر وأقول من هو الرب أو لئلا أفتقر وأسرق وأتذخ اسم إلهي باطلاً" هل كان من المنتظر وقد أغرق نفسه في الثورة بغير حدود، والتصق بالمحبة وبالعدو الهائل من الفساد، وبحث عن الشهرة هنا وهناك ألا تفعل حياة الترف واللذة فيه ما فعلت، فتحرقه كالشمعة، إذ يضعف أمام نسائه، فيملن قلبه ويبني لهن -إلى جانب هيكل الله- مرتفعات وثنية ليقدمن عليها ذبائحهن، ويموت في الستين من عمره، دون أن يتحقق له طول العمر، الوعد المشروط بالسير مع الله وفي صحبته، ولكنها حياة اللذة والترف التي كتب عنها في الأصحاح الأخير من سفر الأمثال: "كلام لموئيل ملك مسا علمته إياه أمه ماذا يا ابني ثم ماذا يا ابن رحمي ثم ماذا يا ابن نذوري لا تعطي حيلك للنساء ولا طرقك لمهلكات الملوك ليس بالموئيل ليس للملوك أن يشربوا خمراً ولا للعظماء المسكر لئلا يشربوا وينسوا المفروض ويغيروا حجة كل بني المذلة".. ومن المؤسف أن سليمان شرب من الكأس حتى الثمالة، ونسى كل المفروض عليه!!.. القسوة والعنف لقد بدأ حكمه وختمه بكل قسوة وعنف، لقد اعتقد أنه من الحزم أن يتخلص في مطلع حكمه ممن يظن أنهم سيقفون في طريق هذا الحكم، لم يوصه أبوه بقتل أدونيا أخيه، فعفا عنه حتى طلب أبيشج الشونمية الفائقة الجمال، وكان أدونيا -كما يعتقد الشراح- يقصد بخبث أن يعيد مركزه مع الشعب بأخذ امرأة أبيه وضمها إلى بيته، كما كانت عادة الملوك بضم النساء والسراري للملوك السابقين، ولهذا قال سليمان لأمه: "ولماذا أنت تسألين أبيشج الشونمية لأدونيا، فاسألي الملك لأنه أخي ولأبياثار الكاهن ويوآب ابن ضرويه".. وبطش سليمان بأخيه، وتحول أيضاً إلى يوآب، ثم بعد ذلك إلى شمعي بن جيرا، لكي يتخلص من كل من يمكن أن يكونوا مقاومين له في الخفاء أوالظاهر،.. ودفع سليمان الشعب إلى السخرة القاسية، وأقام له الرب في أخريات حياته الخصوم أمثال هد الأدوحي ورزون بن البيداع ويربعام بن نباط، وزرع سليمان بهذه القسوة والعنف ما حصده ابنه رحبعام بعد ذلك سريعاً!!.. كان سليمان حكيماً، ومع ذلك لم يستطع أن يدرك أن السيطرة الحقيقية للإنسان على آخر، لا يمكن أن تتم بالعنف والطغيان، بل بالرفق والمحبة!!.. وعجز الملك العظيم أن يصل إلى القلوب بمثل ما فعل من هو أعظم منه إذ استولى على قلوب تلاميذه وأتباعه بالمحبة العجيبة الفائقة الحدو!!.. سليمان ومصيره لا نستطيع أن نذهب ما ذهب إليه الكسندر هوايت في فقدان الرجاء في سليمان،.. من الحق أنه انحرف في أخريات حياته، وليس عن جهل، لقد تنكب الطريق، وانحرف وهو يعلم معنى الانحراف: "وكان في زمن شيخوخة سيلمان أن نساءه أملن قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب كقلب داود أبيه".. لكن رجاءنا لا يرجع إلى شيء في سليمان نفسه بل إلى كل شيء في شخص الله، الذي وعد داود: "متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك أثبت مملكته، هو يبني بيتا لاسمي وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً إن تعوج أؤدبه بقضيب الناس، وبضربات بني آدم ولكن رحمتي لا تنزع منه كما نزعتها من شاول الذي أزلته من أمامك ويأمن بيتك ومملكتك إلى الأبد أمامك كرسيك يكون ثابتاً إلى الأبد!!" ومع هذا الوعد ينصرف أساساً إلى بيت داود الذي سيبقى ثابتاً حتى يأتي منه المسيح مخلص العالم، حتى ولو تعوج بعض أبنائه، ممن سيعالج الله تعوجهم بالضربات والمتاعب والآلام،.. وإذ كان سليمان قد بنى المرتفعات لنسائه الغريبات، فمن المتصور أنه لم يسجد هو أمام هذه المرتفعات، وإنما فعل ليترك لهن حرية السجود كما يردن: وهكذا فعل لجميع نسائه الغريبات اللواتي كن يوقدن ويذبحن لآلهتهن".. ومن المتصور أن سليمان كتب سفر الجامعة في أخريات حياته، وإذا كان الكسندر هوايت لم يستطع أن يكتشف توبة سليمان خلال أسفاره التي كتبها، فنحن على العكس من ذلك نرى رجلاً عاش وقتاً طويلاً يشرب من كأس العالم، محاولاً أن يرتوي من ملذاته الكثيرة المتعددة، ولكنه خرج باختباره المؤلم الحزين: "باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح".. ولعله -وهو يشرب من كافة المسرات والمباهج- قد تبين ما قاله السيد فيما بعد: "الذي يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً. ولكن الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية"... وهو شديد اليقين بالدينونة الأبدية: "افرح أيها الشاب في حداثتك وليسرك قلبك في أيام شبابك واسلك في طرق قلبك وبمرأى عينيك واعلم أنه على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة".. وقد ختم الجامعة بقوله: "فلنسمع ختام الأمر كله "اتق الله واحفظ وصاياه لأن هذا هو الإنسان كله. لأن الله يحضر كل عمل إلى الدينونة على كل خفي إن كان خيراً أو شراً"...كان لورد بيكون من أعلى الناس فهماً ودراية وعلماً وحكمة، وكان أشبه بالحكيم القديم سليمان في حكمته وفي سقوطه أيضاً، لكنه وجدوا في مخلفاته في النهاية صلاة مرفوعة إلى الله يقول فيها: "أيها الرب الإله الكريم، أبي منذ صباي، وخالقي وفادي ومعزي، وأنت الإله الذي تتغور إلى أعماق القلوب، وتفحص أسرارها، وأنت تعرف المستقيم القلب، وتحكم على المنافق، وتأتي بأفكار الناس وأفعالها إلى الميزان، وتقيس نواياها بالمقياس الدقيق، ولا يمكن للطرق المتلوية أن تختفي عن عينيك، لقد أحببت يا رب محافلك، ونحت على الانقسامات في كنيستك، وسررت ببهاء مقدسك، وقد جعلت مخلوقاتك كتبي، ولكن الكتب المقدسة كانت قراءاتي، وقد بحثت عنك في دور القضاء، والحقول، والحدائق ووجدتك في هيكلك.. إن خطاياي تعد بالألوف، وتعدياتي بعشرات الألوف أيضاً، ولكن تطهيرك بقى لي، والتهب قلبي كالجمرة التي لم تطفيء بنعمتك على مذبحك،.. وكما تزايدت أفضالك عليَّ تزايدت أيضاً تصحيحاتك، وكلما كثرت امتيازاتي العالمية، كثرت سهامك السرية المصوبة إليَّ، وكلما ارتفعت أمام الناس تهاويت في وضاعتي أمامك، وأعترف أنني إلى جانب خطاياي التي لا تحصى مدين لك بالوزنات والنعم التي أغدقتها على، والتي لم أضعها في منديل، أو أستثمرها، بل استخدمتها أسوأ من ذلك فيما لا يفيد، حتى أضحت نفسي غريبة في بيت سياحتي،.. يا رب ارحمني، واهدني في طرقك، ثم خذني بعد ذلك إلى مجدك!!.. كان الكسندر هوايت يتمنى فيما يقدر أن يجد شيئاً من مخلفات سليمان يمكن أن يكون مثل هذه الصلاة، ونحن نعجب كيف لم يتنبه الواعظ الكبير، إلى الروح الغالبة في الجامعة، روح الإحساس العميق بالأسى والألم والبطلان في كل ما يمكن يخلف المجد العالمي، في أعماق النفس البشري، والصرخة الباكية في كل العصور: "باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح" روح الإفلاس الذي لم يعد يقدره الإنسان يجمعه سوى في تقوى الله وحفظ وصاياه: "لأن هذا هو الإنسان كله".. أجل ومرة أخرى إن رجاءنا في مصير سليمان لا يرجع إلى مجرد التمني ألا يضيع كاتب الأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد، وبعض المزامير التي غنت للأجيال بمجد من هو أعظم من سليمان، وملكوته الأبدي الذي لا ينتهي،.. لكن الرجاء ينصب أولاً وأخيراً في وعد الله بالتأديب بقضيب الناس، وضربات بني آدم، دون انتزاع الرحمة من ذاك الذي قال أكثر من مرة، وهو أرحم الراحمين: "هوذا أعظم من سليمان ههنا"... له المجد الدائم الأبدي آمين.
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل