المقالات
05 أغسطس 2021
شخصية مريم العذراء والدة الإله
مريم العذراء والدة الإله
أليس كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم، ومع ذلك فغالباً ما يخشى المرء أن يتناول موضوع هذه الشخصية التي نالت تقديراً عظيماً وبركة عجيبة بين نساء العالمين. وهناك سبب آخر ربما يعوق الكثير من المؤمنين في دراسة امتيازاتها وصفاتها، هذا السبب هو الوثنية التي جرفت معها الملايين الكثيرة من المسيحية المعترفة. وليس من ترياق لعلاج هذا الميل الوثني – الذي يُحزن كثيراً روح الله ويهين الرب نفسه – سوى التأمل فيما أنشدته هذه الأنية المختارة، هذا النشيد أو التسبحة المحفوظة لنا في الأناجيل. وهذا هو العمل الذي نقوم به بحسب قيادته لنا، بغرض أن نفهم فهماً جيداً، كما نتعلم من الروح القدس، نعمة الله العجيبة التي أفرزت تلك المرأة الفقيرة لهذه الكرامة التي لا يُنطق بها، وأيضاً ثمار تلك النعمة المستعلنة في إيمانها البسيط بالرب غير المتزعزع وفي تقواها وحياتها المتواضعة.ومن الملفت للنظر أننا نجد كلمات مريم وأعمالها مسجلة فقط في أناجيل لوقا ويوحنا، بينما في متى تُذكر مريم مع تفاصيل أخرى بالارتباط مع ميلاد يسوع في هذا العالم ولا تتجاوز أكثر من ذلك. ويوسف في هذا الأناجيل يبرز بشكل واضح فتنحدر سلسلة نسب يسوع من خلاله إذ يُحسب أنه ابن داود (ص 1: 16 و 20). وتبقى مريم الإناء المختار والمُعد من الله لامتياز لا يوصف لتصبر إناء تُقدم يسوع في وسط إسرائيل. ذاك الذي يخلص شعبه من خطاياهم، كما كتب هذا الإنجيلي "وهذا كله كان لكي يتم من الرب بالنبي القائل هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعون اسمه عمانيوئيل الذي تفسيره الله معنا".لقد تمت هذه النبوة وولد الطفل، وضياء مجده أشرق بلمعان من خلال مريم. ومن ثم نقرأ في الإصحاح التالي إذ قيل خمس مرات "الصبي وأمه" ولا يقال "الأم والصبي". فكيف يقال ذلك ما لم يكن هذا المولود ليس أقل من عمانوئيل – الله معنا؟ هذه الحقيقية متى فهمت كما ينبغي فإنها تخمد وراءها إلى الأبد الرغبة في تعظيم مريم فوق ابنها، كما علم الرب بنفسه في موضع آخر عندما أظهرت واحدة ممن أعجبها ما سمعته وأدهشها كلامه فقالت له "طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما" فأجابها "بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه" (لو 11: 27 و 28). إنها ليست المرأة التي حظيت نعمة عظيمة ولكنه "نسل المرأة" الذي سحق رأس الحية، وهو ذاك الذي استغلت به كل مقاصد الله واكتملت. إنه هو ابن الله المحبوب وليس مريم الذي أمكنه أن يملأ قلوب شعب الله بالتسبيح والتعبد.
إرسالية جبرائيل إلى مريم:-
وعندما نأتي إلى إنجيل لوقا فإن تحتل مكانة بارزة في قصة الميلاد. أما التدريب الذي اجتازه يوسف في هذا الأمر فلا يرد عنه شيئاً هنا. إذ يقال هنا فقط أن مريم "عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم" (ص 1: 27). ويُنسَب لها أنها كانت تسكن الناصرة حيث أُرسِل الملاك جبرائيل من الله. وإذ كانت جالسة في المنزل، كما يتضح من هذه الكلمات "فدخل إليها الملاك"، قبلت منه التحية التي حياها بها – "سلام لك أيتها المنعم عليها، الرب معك مباركة أنت في النساء". وجبرائيل هذا هو "الواقف قدام الله" (ع 19) والذي معه السر الإلهي بخصوص العذراء المختارة ونتبين من طبيعة تحيته لمريم أنه بمقدار النعمة المتفاضلة مع البركة التي تفردت بها بين نساء العالمين – والتي نالتها من الله. أيضاً نجد من كلماته مدى سرور إذ يشترك في أفكار الله.أما مريم فعندما رأت الملاك – الذي ظهر لها في صورة رجل بلا شك (انظر ص 24: 4) "اضطربت من كلامه وفكرت ما عسى أن تكون هذه التحية". لقد تفكرت في داخلها في كلمات جبرائيل ما مغزى ومعنى تلك الكلمات. ويمكننا أن ندرك ذلك جيداً إذا أعدنا على ذاكرتنا صفاتها ومركزها – فقد كانت امرأة تقية تخاف الله، وكيفما كانت سلسلة نسبها فقد يبدو أنها عاشت في ظروف متواضعة. فالتواضع والوداعة والإيمان هي السمات البارزة في حياتها الروحية. ولذلك فإنها اضطربت عند سماعها كلامه، وفكرت في داخلها، لا بالذهن الطبيعي تجاه شكوك ولادتها، بل بالحري كانت حيرة نفسها في معنى خطاب الملاك لها. وبما لها من بصيرة إلهية معطاة لها ونتبين ذلك في مشاعرها، فإن جبرائيل بدأ أول كل شيء أن يهدئ عقلها وحيرتها، لكي يعدها لتشترك في هذه الأمور العجيبة والتي جاء خصيصاً لذلك، مؤكداً لها أنها وجدت نعمة أمام الله. نقول أن إرسالية جبرائيل كانت لإعدادها. فما لم تصبح النفس في سلام وحرية تجاه الأمور الإلهية لا يمكنها أن تتمتع بها بعد (قارن دانيال 10: 19).ويا لها من رسالة سلمها جبرائيل "وها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلى يدعى" ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه: ويملك على بيت يعقوب على الأبد، ولا يكون لملكه نهاية" (ع 31 - 33).ولأن موضوع تأملنا هنا شخصية مريم، فإننا لا نريد أن نسهب في الحديث عن هذا السر الذي لا يوصف وهو تجسد ربنا ومخلصنا المبارك، كما لا نريد أن نتوقف هنا عند هذه الألقاب المتعددة والأمجاد الكثيرة الممنوحة له. ولكننا نقول أولاً أن مجد شخصه متضمن في اسمه الكريم "يسوع" ومعناه "الله المخلص". وثانياً فإن كل ألقابه ترتبط بالأرض وبتمجيده على الأرض فهو "ابن العلى" و "ابن داود" الذي سيسود إلى الأبد على بيت يعقوب – هذا باعتباره وارث لحقوق داود الملكية، فهو رب داود كما أنه ابن داود كما يستحضر أمامنا في هذه النصوص. ولعل القارئ لا ينسى أن هذه المواعيد جميعها تنتظر تحقيقها عن قريب، ولابد أن تتم، وستتحقق بشكل غير قابل للخطأ بقوة اله بحسب مقاصده الأزلية. ربما يقيم الملوك أنفسهم ويتآمر الرؤساء معاً ضد الرب وضد مسيحه، ولكن كيفما كان تمرد الشعوب ورؤسائهم فإن الله في مقصده الذي لا يتزعزع أقام ملكه على صهيون جبل قدسه. وسيحكم إلى أن يضع جميع أعدائه تحت قدميه.وعندما وعد الله إبراهيم بابن فان سارة ضحكت في نفسها متشككة ولم تعرف قوة الله القادر على كل شيء صاحب الوعد. كما أن زكريا وقع في مشكلة الشك عندما قبل إعلاناً من جبرائيل بأن امرأته أليصابات ستحبل وتلد ابناً. ومريم أجابت الملاك "كيف يكون هذا؟" وعلى الرغم من أن ما وعد به كان خارج النظام الطبيعي، إلا أنه في حالة مريم لم يكن مثل الحالات السابقة مرتبطاً بعدم التصديق في التساؤل الذي طرحته. وهذا نجده من الحقيقة التي كان على جبرائيل أن يجيب عليها إجابة كاملة معلناً شيئين أولهما الحبل المعجزي لربنا المبارك وثانيهما أن الطفل المولود به يدعى ابن الله، وبحسب المزمور الثاني فهو ابن الله المولود في هذا العالم. ولكن لكي يقوي الإيمان المعطى لها من الله والذي نراه فيها فإن جبرائيل يعلنها أيضاً بنعمة الله المعطاة لإليصابات نسيبتها، وإذ يعطيها الأساس الذي لا يتغير لكل إيمان فإنه يقول لها "لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله". فالله لا يمكن أن يكون هو الله ما لم يكن هكذا، وأيضاً كما علم الرب نفسه "كل شيء مستطاع لدى المؤمن". وهذا هو الدرس الذي تتعلمه مريم الآن داخل أعماقها، وكما تظهر من إجابتها "ها أنا أمة الرب" (أي عبدته) "ليكن لي كقولك".وليس فقط أن مريم تعلمت أنه بدون الله ليس شيء مستحيلاً، ولكنها أيضاً بنعمة الله قدمت نفسها طوعاً وبدون تحفظ، بالتأكيد فقد تم ذلك بقوة الروح القدس لأجل تتميم إرادته المباركة. وفي كل الكتاب لا نجد إيماناً له تقديره دون ارتباطه بالخضوع التام. إنها لا تستطيع أن تتجاهل النتائج الممكن حدوثها في هذا العالم. ونتعلم من متى أنها صارت موضوعاً للشك والامتحان حتى من يوسف لكن الإيمان لا يجادل ولا تتملكه الحيرة ولكنه يستند ببساطة على الله، في يقين أنه إذا دعانا لأي خدمة أو حرضنا للسير في أي اتجاه فإنه يقودنا ويؤازرنا كيفما كانت التجربة أو الاضطهاد. إن سكون النفس التي استقرت على إرادة الله لهو شيء يفوق التعبير، وهذا هو الميراث التي تمتعت به مريم في ذلك الوقت. إن النعمة الممنوحة لها كانت بلا حدود ولم تكن أقل من النعمة التي مكنتها أن تقبل بروح هادئة ووديعة. وفي هذا الصدد أيضاً كما في اختبارها إناء لولادة يسوع فإن جميع الأجيال يطوبونها.
زيارة مريم لأليصابات:-
وحينما يكون هناك عمل لنعمة في النفوس فإنها تتجمع معاً بروابط الحب الإلهي – وهذا ما حدث مع مريم وأليصابات. فقد أعلن جبرائيل لمريم أن الله افتقد نسيبتها أليصابات، لكي تقوم بما كان يجب عليها أن تؤديه، سواء فهمت معنى الرسالة كاملة أم لا. وأصبح لديها الشعور أن لها صديقة واحدة يمكنها تسكب معها نفسها ولذلك "قامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ودخلت بيت زكريا وسلمت على أليصابات".وإذا كانت محملة بهذه الأخبار – التي قيلت لها. وهي تحكي عن أمانة الله لكلمته وعن تلك المحبة التي لا تنطفئ من نحو شعبه، فلم يكن أمامها غير أن تذهب مسرعة. ترى أي أفكار كانت تملأ قلبها المتعبد الساجد وهي تسرع في إرساليتها! وهي كواحدة من النساء القديسات من يهوذا والتي عرفت الكتب المقدسة جيداً التي تتحدث عن الملك الآتي ومجد تلك المملكة. إنها أقوال مثل: "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك. صوت مراقبيك. يرفعون صوتهم يترنمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون. أشيدي ترنمي معاً يا خرب أورشليم لأن الرب قد عزى شعبه فدى أورشليم" (أشعياء 52: 7 - 9) أو أيضاً "ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هوذا ملكك يأتي إليك. هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" (زكريا 9: 9). إن كلمات الملاك عينها التي تكلم بها نجحت في أن تذكرها بهذه النبوات المجيدة ليفيض قلبها بالتسبيح فهي كعذراء متواضعة ارتبط بها تتميم تلك النبوات.وزيارتها لأليصابات كانت من الرب، وهذا رأيناه من التحية التي استقبلت بها – هذه التحية كانت دافعاً لتثبيت إيمانها بشكل ملحوظ. وحالما سمعت أليصابات سلام نسيبتها تذكرت حالتها الخاصة، وفي الحال امتلأت بالروح القدس وأوحى لها أن تعلن البركة لتلك التي ميزها الرب بنعمته "وصرخت بصوت عظيم وقالت مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي؟. فهوذا حين صار صوت سلامك في أذني. ارتكض الجنين بابتهاج في بطني: فطوبى للتي آمنت أن يتم لها ما قيل من قبل الرب".وقبل أن نتناول إجابة مريم لأليصابات، هناك ملاحظات قليلة في هذه الكلمة. أليصابات إذ "امتلأت من الروح لقدس" صارت في شركة تامة مع أفكار الله تجاه مريم. كان جبرائيل قد قال لها: "مباركة أنت في النساء"، والآن أليصابات تقول لها: "مباركة أنت في النساء" وتضيف أيضاً "ومباركة هي ثمرة بطنك". وإذا انفتحت عيناها بقوة الله، رأت كما رأى الله فنطقت بذات تقدير الله لتلك التي اختارها لهذه الميزة المتفردة. وإذ امتلأت بالروح في تواضع ووداعة اعترفت بمجد مريم بنعمة الله. وأكملت قائلة "فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي؟". وهي نفسها إذ كانت غرض رحمة الله فإنها اتخذت المكان المتداني أمام تلك التي ستصبح أماً للرب.ليت هذا التعليم يتغلغل بعمق في قلوبنا. فمتى كان روح الله عاملاً في نفوسنا فإن كل حسد وخصام وغيرة ستختفي. وستنساب المحبة بلا عائق وكذلك التواضع الذي هو ثمرة المحبة. ثم أنها بعدما وصفت تأثير سلام مريم عليها، فهي تعلن الصفة الثالثة لتلك البركة. فقد بوركت مريم لأنها غرض رحمة الله، وبوركت أيضاً باعتبارها إناء لتجسد ربنا، كذلك بوركت بسبب إيمانها – الإيمان الذي يتخطى المصاعب ويستريح على قوة الله الفائقة. وهي كإبراهيم، لم تتزعزع بالشك في وعد الله ولكنها تقوت بالإيمان معطية مجداً لله. وهي إذ تمسكت بكلمة الله لم تتردد متحققة أن الذي وعد هو قادر أن يتمم. وبهذه الطريقة أكرمت الله، كما تلقت تأكيداً إلهياً على شفتي أليصابات بأنه سيتم لها عن هذه الأمور من قبل الرب.
أنشودة مريم The Magnificat:-
هذه هي كلمات مريم وقد وضعناها هنا أما القارئ لكي يدقق بعمق أكثر من معانيها الإلهية وجمالها الصحيح:
"تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلصي لأنه نظر إلى اتضاع أمته فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني لأن القدير صنع لي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه. صنع قوة بذراعه شتت المستكبرين بفكر قلوبهم أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين أشبع الجياع خيرات وصرف الأغنياء فارغين عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة كما كلم آباءنا لإبراهيم نسله إلى الأبد"
قال كاتب معروف: "من الملاحظ أنه لم يقال أن مريم كانت مملوءة من الروح القدس". ويكمل الكاتب قائلاً: "ويبدو لي أن هذا كان تمييزاً مكرماً لها. فقد افتقد الروح القدس أليصايات وزكريا بصورة استثنائية. ومع أننا لا نشك أن مريم كانت تحت تأثير روح الله، فقد كان تأثيراً داخلياً أكثر ويرتبط بإيمانها وتقواها وكذلك بعلاقات قلبها مع الله (والتي تكونت بسبب إيمانها وتقواها) واستطاعت أن تعبر عن نفسها أكثر من يجيش في حاسياتها ففاض من تلك الفتاة المتواضعة الشكر لأجل النعمة المقدمة لها، ولكن يرتبط تسبيحها وشكرها رجاء وبركة إسرائيل". هذه الملاحظات ستساعدنا في التأمل في ترنيمة الحمد وهذه والتي يمكن أن نصفها بحق "أفراح إسرائيل بالمسيح المعطى لهم". فبينما كانت أقوالها هذه نابعة من المشاعر التي تغمر قلبها بواسطة الروح القدس، فإن مشاعرها أيضاً كانت تتفق وتتجاوب ع النعمة الممنوحة لها والتي ميزتها، فمع كونها خاطئة إلا أنها صورة لإسرائيل (انظر عدد 54).وبنظرة سريعة على هذه التسبحة نجدها ذات طابع يهودي، فهي لا تتجاوز إبراهيم ونسله. وفي هذا الصدد يمكن مقارنتها بتسبحة حنة التي هي أيضاً لم تصل إلى ما وصلت إليه مريم من جهة مواعيد الله لإبراهيم ولكنها تتكلم عن معاملات الله في شعبه وتوقع الانتصار والخلاص الكامل عندما يتدخل الرب "مخاصموا الرب ينكسرون. من السماء يرعد عليهم. الرب يدين أقاصي الأرض، ويعطي عزا (أو قوة) لملكه ويرفع قرن مسيحه". أما مريم فمن الجهة الأخرى تنظر إلى الخلاص إذ يتحقق في شخص ذاك الذي سيولد – ولذلك تقول "عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة كما كلم آباءنا لإبراهيم ونسله إلى الأب".هناك شيئان يدفعاننا إلى ملاحظتهما في ترنيمة مريم: أولاً أنها تنسب كل شيء إلى الله، وثانياً أنها تتخذ مكاناً باعتبارها لاشيء على الإطلاق، ولذلك ترنمت بنعمته. وبخصوص هاتين النقطتين فإننا لا نتغاضى عن تقرير هذه الكلمات: "لقد اعترفت بالله مخلصها بالنعمة التي ملأتها بالفرح، في الوقت الذي فيه اعترفت بصغرها وأنها لاشيء أبداً. ولذلك فمهما كان يتطلب من قداسة للإناء الذي يستخدمه الله فقد وجدناه حقاً في مريم – كانت عظيمة فقط بالقدر الذي أخفت فيه نفسها إذ كان الله كل شيء لها. ومتى حاولت أن تجعل شيئاً فهذا معناه أنها تفقد مكانها، وهذا ما لم تفعله. وقد حفظها الله لكي تستعلن نعمته استعلاناً كاملاً. ليتنا جميعاً نعطي الانتباه لهذا التعليم المبارك ومن المستحيل أن النعمة يكون لها السيطرة التامة على نفوسنا ما لم نأخذ مكاننا الحقيقي أي لا شيئيتنا أمام الله."ويستطيع القارئ أن يفهم لغة ترنيمة الحمد هذه إذ استوعب تلك الأفكار. وعندما يكون هناك عمل حقيقي لروح الله في نفوس شعبه فإن قلوبهم ترتفع إلى المصدر الذي تأتي منها بركتهم. وهكذا مع مريم فقد كان أول ما انطبع في فكرها عندما افتقدها الرب بنعمته التي لا توصف "تعظم نفسي الرب وتبتهج روحي باله مخلصي". لقد اندمجت فرديتها في الحال بعمل روح الله العظيم في إسرائيل، ولذلك ابتهجت بإله إسرائيل ومخلصه. صحيح أنها تكلمت عن نفسها في العدد التالي وقالت أن الله نظر إلى اتضاع أمته (أو جاريته) وأن جمع الأجيال ستدعوها الطوبة، ولكن هذا باعتبارها فقط الإناء المختار للبركة الآتية لإسرائيل. إنها فكرة خلاص إسرائيل من حالتهم المتدنية التي ملأت نفسها عندما قالت "لأن القدير صنع بي عظائم، واسمه قدوس". وتضيف للتو "ورجمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه". وترينا فضلاً عن ذلك أن إسرائيل كمختار الله هو الذي كان يملأ ذهنها – إسرائيل الذي كان يتكلم عنه بلعام بانحصار عندما قال أن الله لم يبصر إثماً في يعقوب. ولا رأى انحرافاً في إسرائيل – إسرائيل بحسب قصد الله وأفكاره.وتقدم لنا الثلاثة أعداد التالية مبادئ أعمال الله بالنعمة وما يجب أن تكون عليه النفس أساساً لتتجاوب مع النعمة وما يجب أن تكون عليه النفس أساساً لتتجاوب مع النعمة. فالمستكبرون بفكر قلوبهم والأعزاء وهم على الكراسي والأغنياء والشباعى ولا يمكنهم أن يقفوا أمام الله القدوس في دينونته. ولكن لهؤلاء الفقراء يكرز بالإنجيل دائماً وللمتواضعين والأدنياء يرفعهم الله وللجياع يملأهم بالخيرات. والرب نفسه يعلن ذات الدرس عندما قال "طوباكم أيها المساكين لأن لكم ملكوت الله. طوباكم أيها الجياع الآن لأنكم تشبعون. طوباكم أيها الباكون الآن لأنكم ستضحكون..." ثم يتحول إلى الجانب الآخر ويقول: "ولكن ويل لكم أيها الأغنياء لأنكم قد نلتم عزاءكم. ويل لكم أيها الشباعى لأنكم ستجوعون. ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون" (لوقا 6: 20 - 26). ليت هذه الكلمات الجادة تعمل بأقصى قدر وبصورة متسعة على تشجيع وتعزية الفقراء والمتألمين والمذلين من شعب الله، كما تكون أيضاً تحذيراً عالياً ومتوالياً للذين يطلبون الشبع والغنى والمجد في هذا العالم.وتختتم مريم تسبحتها بلغة أشرنا إليها قبلاً "عضد إسرائيل فتاه ليذكر رحمة. كما كلم آباءنا لإبراهيم ونسله إلى الأبد". إن الإيمان هو البرهان أو الإيقان بالأمور التي ترجى، ومريم في تلك اللحظة عاينت تتميم كل مقاصد الله بالنعمة لشعبه الأرضي. حقاً فقد كان كل شيء آمناً ومستقراً في شخص ذاك الذي سيولد في هذا العالم. كما هتفت الملائكة بتسبحتها في الإصحاح التالي "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام للذين سر الله بهم".واستمرت مريم ثلاثة أشهر مع نسيبتها العجوز ثم عادت إلى بيتها. ويزيح الكاتب الستار عن تلك العلاقة الروحية والشركة بين هاتين القديستين ولا شك أنهما كانتا مشجعتين لبعضهما في الإيمان والفرح بالرب. وانتهت الزيارة وعادت مريم إلى بيتها "لتتبع طريقها بكل تواضع لتميم مقاصد الله". كان هذا المنزل هو البقعة التي على الأرض تجتذب اهتمام السماء وتتركز فيها.
وللحديث بقية
المزيد
29 يوليو 2021
شخصيات الكتاب المقدس تارح
تارح
ومات تارح في حاران" تك 11: 32
مقدمة
قصة تارح قصة الرجل الذي توقف في منتصف الطريق قبل أن يصل إلى كنعان، قصة الرجل الذي سجل عنه الوحي: "ومات تارح في حاران".. وقد يسأل البعض: وأي شيء في هذا التعبير يمكن أن يثير أو يشير؟!! لقد مات الرجل شيخاً عن مائتين وخمس من السنين، فهو لم يذهب في قوة الصبا أو أوج الشباب حتى يمكن أن يتوقف الناس ليبكوا عوده الزاوي وشبابه الضائع في صبح الحياة؟!! وهو الرجل الذي خلف وراءه الأولاد إذ لم يمت عقيماً، بل ترك أولاداً على رأسهم إبراهيم الابن العظيم الخالد،.. قد يكون هذا صحيحاً وحقاً،.. ولكننا لا ينبغي أن ننسى أن الرجل مات في رحلة من أعظم رحلات الإنسان على الأرض،.. وقد خرجت القافلة الصغيرة من أور الكلدانيين، وعلى رأسها شيخ ورجل وشاب، وكان الشيخ تارح، والرجل إبراهيم، والشاب لوط، وسقط الشيخ في الطريق، وجرد الشاب من كل ما يملك، ولم يبق سوى الرجل الذي كان النموذج الأعظم الثاني في الرحلة الخالدة ومن المؤسف أن الشيخ الذي قطع أكثر من خمسمائة ميل في الرحلة حتى وصل إلى حاران، أو في لغة أخرى قطع أكثر من نصف الطريق، هذا الشيخ لم يلبث أن أصابه الملل والتعب والكلل والإعياء، فرفض أن يتقدم خطوة أخرى واحدة بعد هذا،.. ومات في حاران دون أن يدخل أرض الموعد،.. هذه مأساة الرجل القديم الذي خرج يبحث عن الله، أو بتعبير أصح، خرج مع ابنه الذي استجاب الدعوة السماوية وقطع شوطاً طويلاً في الطريق دون أن يتمم أو يبلغ نهايته،.. إنه يمثل الكثيرين من المسيحيين الذين أطلق عليهم مودي: "المسيحيين الحارانيين" الذين يبدءون الرحلة بالغيرة والحماس والقوة والنشاط، ولكنهم هم أبناء "تارح" الذي سقط في الأرض، وليس أبناء إبراهيم الذين وصلوا إلى نهاية المطاف إلى كنعان السماوية، إن قصة تارح تعطي تحذيراً أكيداً للسالكين في رحلة الحياة الأبدية إلى الله في المجد، ولذا يحسن أن نراها من النواحي التالية:
تارح وتجاربه
وما أكثر ما واجه تارح من تجارب،.. وربما كانت تجربته الأولى تجربة الإعجاب الوقتي،.. ولعلك تلاحظ عند المقارنة الدقيقة بين إبراهيم وتارح، أن الكتاب يقول: "ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم وهو ما بين النهرين قبلما سكن في حاران".. وليس في لغة الكتاب ما يدل على أنه ظهر لتارح، وقد صنع هذا الفارق القصة المختلفة بين الأب وابنه،.. وسيتاح لنا عندما نقرأ في الشخصيات الكتابية شخصية إبراهيم، أن مفتاح حياته كان هذه الرؤية المجيدة، التي كانت بمثابة الجاذب المغناطيسي الذي حركه حيثما حل وذهب، وهل يستطيع الحديد المقترب من القطب المغناطيسي إلا أن يسير أسراً لهذه القوة المغناطيسية وفي نطاق دائرتها؟!!.. وهكذا كان إبراهيم في صداقته وعلاقته بالله، ولقد ضرب في الأرض، وهو لا يعلم إلى أين يأتي، لأنه سبى بشخص الله الذي ظهر وهو ما بين النهرين قبلما سكن ولسنا نعلم كيف واجه تارح الوثني هذا التغيير العجيب الذي طرأ على ابنه!!.. هل قاومه الأمر، عندما أدار إبراهيم ظهره لعبادة القمر، وغيرها من ديانات الوثنية؟!! قد يكون إذ ليس من السهل التصور أن أبينا يخرج على دين آبائه، ثم يستقبل الآباء هذا الخروج بالهدوء أو التصفيق والاستحسان!! وإذا كانت التقاليد تقول إن نمرود اضطهد إبراهيم اضطهاداً مريراً عندما تحول عن العبادة الوثنية، فليس من المستبعد أن تارح فعل الشيء نفسه تخوفاً أو مصانعه لأهله وعشيرته!!.. على أن إبراهيم وقد تمكنت الرؤية من نفسه ومشاعره –تحمل كل شيء كما يتحمل المؤمن الحديث الإيمان بفرح كل ما يمكن أن يفعله الأشرار في نفسه؟!!.. ولعله –وقد أضاءت حياته بهذا النور اللامع الجديد- قد استطاع أن يؤثر في أبيه ويثير إعجابه إلى أبعد الحدود!!.. ولعل أباه إعجاباً أو خوفاً على ابنه من الاضطهاد أبى أن يتركه وحده في رحلته، بل سار معه في ارض المجهول حتى جاءت القافلة إلى مدينة حاران. وهكذا ذهب تارح وإبراهيم ولوط في الطريق إلى الأرض الجديدة، والأب معجب كل الإعجاب بابنه العظيم.. والإعجاب في العادة يصلح أن يكون ابتداءً، لكنه لا يمكن أن يصمد في السير إلى النهاية، ما لم يكن مصحوباً بعوامل أخرى فعالة وعظيمة،.. وهو أشبه الكل بالزرع الساقط على الأرض الذي وصفه السيد المسيح بالقول: "والمزروع على الأماكن المحجرة هو الذي يسمع الكلمة وحالاً يقبلها بفرح ولكن ليس له أصل في ذاته بل هو إلى حين فإذا حدث ضيق أو اضطهاد من أجل الكلمة فحالاً يعثر".. ولعل الرؤيا التي أبصرها إبراهيم –ولم يرها تارح- هي التي صنعت الفرق العظيم بين القلبين أو التربتين، فكان الأصل العميق في قلب إبراهيم، والسطحية المحجرة في قلب تارح،.. وكان الفارق بين من قطع الطريق إلى آخر الشوط، ومن تخلف في منتصفه دون أن يتم الرحلة إلى أرض الموعد!!.. كما أن التجربة الثانية أمام الرجل كانت ولا شك الإعياء، فهو شيخ يضرب في الفيافي والقفار، مئات الأميال، بعد أن ترك أهله وصحبه وبيته، والحياة التي درج عليها وعاشها سنوات متعددة طويلة، وهو إذا كان قد بدأ متحمساً غيوراً نشطاً، فمما لا شك فيه أن خمسمائة ميل خلفها وراءه أصابته بالإعياء البالغ الجسدي أو النفسي على حد سواء، ولم نعد نراه على الحماس القديم أو الغيرة السابقة،.. وهو صورة للكثيرين من المسيحيين الذين يدلفون صوب كنعان السماوية، وقد يقطعون أشواطاً متعددة من الرحلة، والهتاف يملأ قلوبهم، ونفوسهم، على أنهم شيئاً فشيئاً –والرحلة طويلة ممتدة قاسية فوق حصباء الحياة ورمال الزمن- نجد الكلال والتعب والتبرم والضيق يستولي عليهم، وعلى وجه الخصوص إذا أحاطت بهم التجارب، أو حفت بهم الآلام، أو ضاقوا بالحياة أو ضاقت الحياة بهم، وإذ بحاران أول مدينة يلقون فيها عصا الترحال دون رغبة في مواصلة السير، حتى ولو كانت هناك نهاية الحياة، وآخر المطاف،.. إنهم أحوج الكل إلى القول الإلهي: "بصبركم اقتنوا أنفسكم".. أو: "سمعتم صبر أيوب ورأيتم عاقبة الرب لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف".. أو: "الرب يهدي قلوبكم إلى محبة الله وإلى صبر المسيح".. صور دانتي في الكوميديا الإلهية الذئب أشد ضراوة من النمر أو الأسد وذلك للفارق البعيد بين هجوم الاثنين على الفريسة المطاردة، إذ أن النمر أو الأسد ينقض على الفريسة من أول الحركة، وهو لا يسلم من صراعها، إذ تبدو في كامل قوتها، وتحاول أن ترد العدوان بكل ما تملك من جهد أو قوة!!، وعلى العكس من الذئب الذي يطارد فريسته أولاً، ثم ينقض عليها عندما يتملكها التعب والإعياء، وتكون أعجز عن أي مقاومة، وتصبح بذلك لقمة سهلة سائغة ميسورة!!.. وقد بدا هذا واضحاً وصحيحاً في الكثير من الصور الروحية التي جاءت في كلمة الله.. ألم يأتي عيسو ذات يوم من الحقل وهو قد أعيا وقال عيسو ليعقوب: أطعمني من هذا الأحمر لأني قد أعييت، لذلك دعي اسمه أدوم فقال يعقوب: بعني اليوم بكوريتك، فقال عيسو، ها أنا ماض إلى الموت فماذا في بكورية!!.. وباع عيسو أثمن ما يملك وهو معيي بطبق من عدس!!.. كان عماليق أخطر الأعداء على شعب الله، وذلك لأنه ترك الشعب حتى الإعياء، ثم انقض عليه، ومن ثم جاء الأمر الإلهي بمحو ذكره من تحت السماء، لأنه لم يرحم المتعب المجهد المعيي،ألم يسر إيليا في البرية مسيرة يوم، وإذ أخضه التعب الجسدي والروحي جلس تحت الرتمة، وطلب الموت لنفسه وقال كفى الآن يا رب، خذ نفسي لأنني لست خيراً من آبائي،.. ورأى الله حاجة إيليا القصوى إلى الراحة فأنامه وأطعمه حتى تهدأ نفسه وتستريح، قبل أن يلتقي به أو يتحدث معه في جبل الله حوريب وكانت التجربة الثالثة أمام تارح تجربة الإغراء والعودة إلى الماضي القديم، إذ كانت حاران أقرب المدن جميعاً إلى أور الكلدانيين، فالمدينتان كانتا مركزين متماثلين لعبادة القمر، وكلتاهما كانت على درجة عالية من الحضارة والثروة والتجارة والصناعة، فإذا سكن تارح في حاران، فإنما يستعيد بذلك ما فاته أو ما ضاع منه في أور الكلدانيين، ولعل السؤال الملح الذي كان يطوف بذهنه، ويطارده ليلاً ونهاراً.. ألم يكن متعجلاً في الخروج من أور الكلدانيين؟!!.. وهل رأى ابنه حقاً الرؤيا الإلهية أم هي بعض الخيالات أو الأوهام أو الوساوس التي ألمت به، فظنها رؤيا الله البعيد الساكن السموات؟ مسكين الإنسان عندما يقع بين شقي الرحى، التعب من جانب، والإغراء من الجانب الآخر إنه مثل هرقل كما تصوره أساطير الإغريق، والذي كان عبداً لملكه، وأراد الملك أن يتخلص من قوته الخارقة، فكان يرسله إلى أخطر الرحلات، ويطلب منه أشق الأعمال، لعله يهلك، أو تأتيه الكارثة بأية صورة من الصور،.. وقد جلس هرقل ذات يوم يلتقط أنفاسه المتعبة، وإذا به يبصر فتاتين تقبلان عليه في الطريق، وتقول أولاهما: أي أيها البطل العظيم، لقد جئتك أدعوك إلى المسامرة، وأمد لك أسباب الحياة الحلوة الجميلة الفياضة المترعة بالملاهي والمتعة والملذات، إن سرت معي وصاحبتني الرحلة طول الطريق، ويسألها هرقل: من هي ومن تكون وما اسمها؟ فتقول: أنا اللذة، وإن كان أعدائي يطلقون عليَّ اسماً آخر هو الرذيلة".. وتتقدم الثانية لتقول: لا تصدقها يا هرقل، فهي مدعية وكاذبة، ولن أعدك أنا بما أدعت أو صورت، لكني أعدك بأن أسير معك الطريق المضني المتعب القاسي، وأن أزودك بالقوة والشجاعة الأمانة والصبر، فتحيا، وتصبح قصتك قصة عظيمة تتوارثها الأجيال، ويتحدث بها عابرو الطريق في كل جيل وعصر!!.. وسألها هرقل: من هي ومن تكون وما اسمها؟ فقالت: اسمي "الفضيلة"!!
قد تكون هذه أسطورة من أساطير الإغريق، ولكنها تنطق بما يواجه الإنسان في كل زمان ومكان،.. ورأى تارح وإبراهيم القصة بكاملها في أرض حاران، وسقط الأب، ونجا الابن،.. وعاد الأب على الأغلب لعبادة القمر، أو كان على أية صورة من الصور الإنسان الذي تقاعس في الطريق دون أن يتم رحلته إلى آخر الشوط،.. ولم يكن له من نصيب في موعد الله ما كان لابنه أبي المؤمنين في الأرض!!.. وقد أضاف بعضهم إلى القصة تجربة رابعة، هي تجربة الشيخوخة الطاعنة في السن، ومع أن رحمة الله يمكن أن تنتقد الإنسان مهما طال عمره حتى إلى أخريات حياته لكن هناك فارقاً واضحاً بين إنسان كبلته الشيخوخة بالكثير من التقاليد والعادات والسير والماضي، وبين آخر لم تحكم حوله السنون شراكها بما يمكن أن يتركه أسيراً لا يفلت من شرها وخداعها!!.. ولعل هذا ما قصد الرسول يوحنا بعد آلاف من السنين أن يذكر به الأحداث في القول: "كتبت إليكم أيها الأحداث لأنكم أقوياء، وكلمة الله ثابتة فيكم وقد غلبتم الشرير. لا تحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم إن أحب أحد العالم فليست فيه محبة الآب لأن كل ما في العالم شهوة الجسد شهوة العيون وتعظم المعيشة ليس من الآب بل من العالم والعالم يمضي وشهوته، وأما الذي يصنع مشيئة الله فيثبت إلى الأبد".. وقف تارح في حاران شيخاً طاعناً في السن، ووقف معه إبراهيم إلى أن دفنه هناك!!..
تارح وخطاياه
أما وقد أدركنا هذه التجارب التي ألمت بتارح، فمن حقنا أن نعرف الخطايا التي أودت به إلى أسوأ مصير،.. ولعل أول خطية كانت البقاء في مكان التجربة،.. هل سمعت عن القديس الذي تاب عن الخمر، وصلحت حاله، وأصبح من أروع الأمثلة عن التعبد والشركة مع الله؟، لكنهم رأوه ذات يوم مخموراً ساقطاً في الطريق، وتعجبوا كيف يمكن للرجل الذي أصبح عيافاً أن يصل إلى هذه الحال،.. وتبينوا شيئاً عجيباً غريباً، أن الرجل وهو في سبيله إلى العبادة في الكنيسة تعود أن يربط حصانه على مقربة من الحانة القديمة التي كان يشرب فيها الخمر، فكان المكان القريب من الماضي الآثم مصيدته التعسة وهو لا يدري،.. من المؤكد أن يوسف لم يكن في قوة شمشمون الخارقة، ونجا يوسف من السقوط في الخطية لأنه ترك ثوبه وهرب، ونام شمشمون على حجر دليلة ليسقط الجبار كما يسقط الوعل في شبكة!!.. إن النصيحة التي سمعها لوط من الملاك كانت "اهرب لحياتك" وكان تارح في حاجة إلى هذه النصيحة أكثر من إبراهيم، ولكنه توقف في حاران لينتهي هناك!!..
وكانت خطية تارح الثانية خطية التأجيل، لست أعلم هل استحثه إبراهيم على السير قدماً إلى الأمام؟ وهل راوغه الأب يوماً وراء يوم حتى جاءت النهاية؟.. الذي أعلمه أنه لم يجعل حاران نقطة انتقال، بل مكان سكن، هل اقتنى بيتاً هناك، ورفض السكن في خيام؟، هل تلكأ لهذا السبب أو ذاك، ومنع ابنه سنة بعد أخرى عن الرحلة الخالدة؟!!.. إنه على أي حال التأجيل، وما يصاحب هذا التأجيل من أخطاء وبلية!!.. "اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم كما في الإسخاط يوم التجربة في القفر" لقد أوشك لوط أن يضيع في سدوم رغم إنذار الملاكين بسبب التأجيل في مواجهة الخطر الداهم وقيل: "ولما توانى أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه لشفقة الرب عليه وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة وكان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: "اهرب لحياتك، لا تنظر ورائك ولا تقف في كل الدائرة اهرب إلى الجبل لئلا تهلك".. وهل تعلم أن شاول الطرسوسي كان في حاجة أيضاً غداة لقاء المسيح إلى نصيحة حنانيا الذي قال له: "والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب".. والخطية الثالثة كانت خطية الارتداد أو العودة إلى الدين القديم، كانت البلاد المحيطة بحاران تعبد آلهة مختلفة فبعضها كان يعبد الشمس أو غيرها من الكواكب، لكن حاران بالذات كانت تعبد القمر، مما شجع على التصور أنها طابت مكاناً ومقاماً لتارح، حيث عاد إلى العبادة الوثنية التي رفضها إبراهيم،.. هل نشأ النزاع بين الأب وابنه، وكانت سنوات حاران انقساماً فكرياً أو روحياً بين الاثنين؟!! أو هل جاهد إبراهيم طوال هذه الفترة أن يقنع أباه ببطلان القمر والشمس والنجوم كآلهة معبودة، لسنا ندري سوى أن الموت حسم النزاع، وذهب تارح بعيداً عن إله إبراهيم ومواعيده وأمجاده، وتجددت الدعوة لإبراهيم بعد موت أبيه أن يحمل عصا الترحال إلى أرض كنعان!! مهما يكن الذي حدث، فمما لا شك فيه أن إبراهيم كان يمثل الإيمان بكل شجاعته وقوته وصلابته، وكان أباً للمؤمنين وما يزال في كل العصور أو الأجيال. وكان تارح رمزاً للهزيمة والضياع والتراجع، وأبا للمرتدين الذين تذوقوا الحلاوة الأولى، ثم عافوا عنها، أو أضحت مراً لهم، إذ أفقدتهم الخطية الطعام والشهوة والمذاق الصحيح!!.
تارح ومأساته
وأية مأساة أقسى من هذه المأساة؟ وأي ضياع أرهب وأشد من هذا الضياع؟، أليس هو ذلك الرجل الذي كان من أقدم من وصفهم الرسول بطرس يوم قال: "لأنه كان خيراً لهم لو لم يعرفوا طريق البر من أنهم بعدما عرفوا يرتدون عن الوصية المقدسة المسلمة لهم قد أصابهم ما في المثل الصادق كلب قد عاد إلى قيئه وخنزيرة مغتسلة إلى مراغة الحمأة"؟! أجل لقد ضاعت الخمسمائة ميل في طريق دون خير أو جدوى، فلا هو بالإنسان الذي استقر مع قومه دون أن يرحل عنهم وعن صحبتهم وعن الليالي السامرة التي لم يعد يجد مثيلها في الأرض الغريبة النائية،.. ولا هو الذي سار مع ابنه إلى الأرض العظيمة أرض الموعد، ليرى بركات الله وإحسانه ورحمته وجوده!!.. كان تارح من أقدم رجال التاريخ الذي عرجوا بين الفرقتين، وأدرك أنه لا يمكن الاستفادة من القديم أو الجديد على حد سواء!!.. وكان مثلاً بشعاً من أقدم الأمثلة التي تحكي مأساة الارتداد الديني المحزن عن شخص الله،.. وما من شك بأن إبراهيم ابنه –وقد دفنه هناك- وقف على قبره في آلم حالة وأقسى حزن، إذ لم يكن يود له هذا المصير، وودع هذا القبر بالعين الباكية وكأنما يردد بعد ألفي عام ما قاله المسيح لبنات أورشليم اللواتي خرجن وراءه في يوم الصليب نائحات باكيات: "يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ بل أبكين على أنفسكن وعلى أولادكن".. أو ما قاله الرسول بولس، عندما كتب رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، ويعتقد أنه كتبها من كورنثوس وكان يرى من بعض النوافذ هناك مقابر الوثنيين وقد حفر فوقها لغة اليأس والحزن في عبرات تعتبر ضياع الأمل، وانقضاء الرجاء!!.. ومن ثم كتب: "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الأخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم".. أجل إنه شيء محزن أن نخسر الضياع أو المركز أو الشهرة أو الجاه أو أي متاع أرضي، لكن هذا كله لا يمكن أن يقارن بالخسارة الأبدية!!.. وحق للشاعر "دانتي" أن يكتب على باب الجحيم هذه العبارة: "أيها الداخل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!"..
كان تارح مأساة لنفسه، ومأساة قاسية لابنه الذي كانت ينتظر ولا شك أن يأخذ أباه معه إلى كنعان السماوية،.. ولكن الرجل تخلف وراءه في الطريق، وأضحى مأساة تحذر الآخرين أيضاً في كل جيل وعصر!!.. كان من أشد ما روع الكابتن سكوت في رحلته في القطب الجنوبي. وهو يسير أميالاً متعددة فوق الجليد المتكسر، أن أبصر ورفقاؤه المتعبون معه، شيئاً يلوح من بعيد،.. كان علماً أسود رفع على بقايا ضحايا من الرحالة الذين سقطوا في الطريق، وقد فقدوا الحياة دون أن يبلغوا الغرض المنشود!!... ومنذ آلاف السنين ارتفع علم أسود فوق قبر قديم في أرض حاران لرجل تعثر في الطريق، ومات هناك، وتركه ابنه بعيون دامعة وهو يضع رخامة محزنة فوق القبر ما تزال كلماتها باقية إلى اليوم: "ومات تارح في حاران"..
المزيد
22 يوليو 2021
شخصيات الكتاب المقدس بيلشاصر
بيلشاصر
" فى تلك الليلة قتل بيلشاصر ملك الكلدانيين "" دا 5: 30 "
مقدمة
لعله ليس هناك وصف أروع أو أجل من وصف متى هنرى، لليد التى ظهرت أمام النبراس على مكلس الحائط أمام بيلشاصر عندما قال: " يقول الربيون: إنه الملاك جبرائيل الذي استخدم هذه الأصابع فى الكتابة، ويقول دكتور لا يتفوت، وهو واحد منا، إنها ذات اليد الإلهية التى كتبت لوحى الشريعة للشعب، وهى تكتب الآن نهاية بابل وبيلشاصر معاً على الحائط "!! ومن العجيب أنه لا يوجد هنا ما يمكن أن يخيف من صوت، أو تهديد للحياة، أو رعد قاصف، أو برق خاطف، أو ملاك مهلك يحمل فى يده سيفاً مسلولا، بل قلم تحمله يد تكتب على الحائط أمام النبراس أو الشمعدان، حتى تظهر للجميع،.. وكتابة الكلمة الإلهية تفزع أعتى الخطاة عندما يقصد اللّه ذلك. ومن الملاحظ أن الملك لم ير سوى طرف اليد التى تكتب، وبالتالى لم ير الشخص الذى له هذه اليد التى تكتب ما يفزع،... ونحن لا نرى من اللّه، عندما يريد أن يكتب فى كتاب الخليقة أو الكتاب المقدس، إلا طرف اليد التى تكتب أو على حد قول أيوب: " ها هذه أطراف طرقه وما أخفض الكلام الذى نسمعه منه، وأما رعد جبروته فمن يفهم " " أيوب 26: 14 "... فإذا كانت هذه إصبع اللّه فكم تكون ذراعه!!؟.. هل نستطيع أن ندرك أنها ليست قصة بيلشاصر وحده، بل قصة كل واحد على ظهر الأرض؟ لأنه لابد أننا جميعاً نظهر أمام كرسى المسيح لينال كل واحد ما كان بالجسد بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً!! " 2 كو 5: 10 ".. ومن ثم فنحن فى أمس الحاجة إلى أن نتعلم ونتعظ من الملك القديم،.. ولعلنا لذلك يمكن أن نتابع قصته فيما يلى:
الملك والميزان الإلهى:
كان بيلشاصر ملكاً على بابل، وشريكاً لأبيه نابونيداس، الذى كان يهتم أكثر من ابنه بالنواحى العلمية والثقافية، وكان الابن هو الحاكم الفعلى لبابل، وعلى وجه الخصوص عندما غاب الأب لمدة عشر سنوات فى حملة خارج البلاد فى أواسط الجزيرة العربية، وقد كشف الحفريات الحديثة عن اسمه مع أبيه، مما لم يكن معروفاً من قبل، حتى أن بعض النقاد ادعوا بأنه لا يوجد اسم ملك يحمل هذا الاسم، ولكن الكتاب يثبت صدقه دائماً، وتتهاوى كل الأراجيف التى تحاول النيل منه،.. ومن المعتقد أنه إبن ابنة نبوخذ نصر، إذ أن أباه تزوج بابنه نبوخذ نصر وأنجب منها هذا الأبن،... وبهذا المعنى قالت أمه الملكة، عندما أرشدته إلى دانيال ليفسر الكتابة، إن أباه نبوخذ نصر كان يستخدمه فى تفسير الأحلام والعوائص التى تواجهه!.. ومن المعتقد أنه كان فى أوج الشباب عندما حاصره كورش الفارسى، وقد كان شاباً أيضاً يصحب جيوشه الجرارة، بالمشاركة مع حميه داريوس المادى، وكان الشاب يعطى توقيراً كاملا لحميه، ويقدمه، ولذا أشير إلى أن حماه استولى على المملكة وهو فى الثانية والستين من عمره،... على أية حال كانت جيوش مادى وفارس تحاصر بابل، عندما أقام بيلشاصر حفلة لعظمائه الألف، والاسم. بيلشاصر " معناه " بيل يحمى الملك " وبيل هو إله بابل، ونحن لا نعلم لماذا أقام هذا الحفل العظيم،... هل أقام لمناسبة عيد ميلاده، أو عيد تتويجه؟، أو لأنه عيد إلهه،؟ أو لأنه - كما يعتقد البعض - أراد أن يقوى من عزيمة أبطاله فجمع ألفاً منهم، وهو يعتد بحصونه ضد القوات المهاجمة، وقد أراد أن يظهر كبرياءه وشجاعته، وقدرته التى لم يصل إليها نبوخذ نصر نفسه، فأمر بإحضار الآنية المقدسة ليشرب فيها الخمر ويسبح آلهته!!.. على أية حال، لقد ظهرت الكتابة أمامه تقول: " وزنت فى الموازين فوجدت ناقصاً"!!.. " دا 5: 27 " وهل لنا أن نقف قليلا من الميزان الإلهى؟!!.. إن هذا الميزان يختلف - ولا شك - من كل الموازين الاخرى!!.. إنه يختلف عن ميزان الإنسان لنفسه، أو الميزان كما يتخيله الإنسان، ويزن به نفسه!!.. وإذا صح ما يتفكهون به أنك إذا سألت اليهودى عن قيمة شئ، وثمنه، فإنه سيسألك أولا: هل سيشترى هذا الشئ أم يبيعه، فإذا كان هذا هو المشترى فإن الثمن أقل، وإذا كان هو البائع فإن الثمن أكثر - ولعله بهذا يفسر ما قاله الحكيم سليمان: " ردئ ردئ يقول المشترى وإذا ذهب فحينئذ يفتخر " " أم 20: 14 ".. وهى النفس البشرية التى حذرها المسيح فى الموعظ على الجبل: " لا تدينوا لكى لا تدانوا لأنكم بالدينونة التى بها تدينون تدانون، وبالكيل الذى به تكيلون يكال لكم، ولماذا تنظر القذى الذى فى عين أخيك وأما الخشبة التى فى عينك فلا تفطن لها أم كيف تقول لأخيك دعنى أخرج القذى من عينك وها الخشبة فى عينك. يا مرائى أخرج أولا الخشبة التى من عينك وحينئذ تبصر جيداً أن تخرج القذى من عين أخيك.. " " مت 7: 1 - 5 ".. أو ما قاله بولس: " لذلك أنت بلا عذر أيها الإنسان كل من يدين لأنك فيما تدين غيرك تحكم على نفسك لأنك أنت الذى تدين تفعل تلك الأمور بعينها. ونحن نعلم أن دينونة اللّه هى حسب الحق على الدين يفعلون مثل هذه " " رو 2: 1 - 2 ".يقول ما كارتنى فى عظته المشهورة عن حزائيل، عندما قال لأليشع: " ومن هو عبدك الكلب حتى يفعل هذا الأمر العظيم " " 2 مل 8: 13 ".. إن أعظم فاعلى الشر فى الأرض كانوا رجالا لم يخطر ببالهم أن يفعلوه من أول الأمر، فنابليون فى مطلع حياته كتب رسالة لأكاديمية ليون بعنوان: " أخطار الطموح "... وقال نيرون: " ليت هذه اليد ما تعلمت الكتابة " وهو يوقع على أول قرار بالإعدام،.. وروبسبيير والذى أرسل الآلاف إلى المقصلة فى الثورة الفرنسية، كان قد قدم استقالته قبل ذلك كقاض فى محكمة إقليمية لأنه لا يستطيع أن يوقع عقوبة الإعدام على مجرم ثبتت إدانته!!... ولو أنك جئت إلى الملك داود وقلت له إنك ستكون زانياً وقاتلاً فى يوم من الأيام لصرخ فى وجهك: ومن هو عبدك الكلب حتى يفعل هذا!!.. ولو أنك جئت إلى سليمان فى جبعون وهو جاث يقدم على المرتفعة ألف ذبيحة، ويطلب القلب الفهيم ليميز بين الخير والشر!!.. وقلت له إنك ستبعد عن اللّه وتتبع النساء الأجنبيات اللواتى انحرفن إلى عبادة الأوثان، لصاح: هذا مستحيل!!.. سل بطرس الذى سيخرج فى تلك الليلة، وقبل أن يضيع طعم الطعام من فمه،.. وقل له إنه سينكر السيد، وهو يصيح: هذا لا يمكن أن يكون.. تصور نفسك نبياً، واعرف ماذا سيفعل الناس، وانظر أعمالهم، وحدثهم بها، وهم سيرمونك بالكذب لأنك تجرؤ على أن تصورهم بهذه الصورة ولكن نبوتك ستتحقق، وكما بكى أليشع قد تبكى عندما تثبت عينيك فى إنسان لتحدثه بما لا يخطر بباله أن يفعل لأن " القلب أخدع من كل شئ وهو نجيس من يعرفه!!.. " إرميا 17: 9 " حقاً إن الميزان البشرى الذى يصنعه الإنسان لنفسه لا يمكن أمام كبريائه أو ضعفه أو فساده أو نجاسته أن يكون صحيحاً أو دقيقاً،.. ومن الواضح أن بيلشاصر لم ير أى خطأ فيما فعل أو عيب أو نقص أو قصور،... بل لعله وهو يفعل ما لم يجرؤ عليه نبوخذ نصر نفسه، كان يرى فى نفسه أشجع وأعظم وأصدق وأدق من سلفه العظيم!!..
فإذا نظرنا إلى ميزان آخر - وهو ميزان الناس لغيرهم من الناس - لوجدنا أنه ليس أقل خطأ أو قصوراً أو تضليلا،.. كان بيلشاصر قد أقام حفله العظيم لألف من عظمائه، الذين هم أبطال الأمة وقادتها،.. وقد نظر إليه هؤلاء نظرة الإعجاب كالقائد الشاب الشجاع الذى هو سيد الأمة وبطلها العظيم،.. وشتان بين حكم الأرض، وحكم السماء... وشتان بين تفسير العظماء، وتفسير دانيال، وقد شاء المسيح أن يعطينا صورة كاملة عن الفارق بين الحكمين والتفسيرين، فى منظر الغنى ولعازر، والصورة الأرضية والصورة السماوية المتتابعتين لهذا المنظر العتيد،... ففى ركن زاوية على الطريق جلس لعازر فى مواجهة قصر الغنى الذى يرفل فى البز والأرجوان،.. ولو طلب إلى الناس أن يضعوا مقارنة بين الرجلين، لما وجدوا أى مجال للمقارنة، فهل يمكن أن يقارن المترف بالمجروح والشبعان بمن لا يجد الفتات؟ والذى يمتلئ بيته بالإشراف من الزوار، بمن لا يجد إلا الأصدقاء من الكلاب التى تلحس القروح؟!!.. ولعلهم يقولون: وأين الثرى من الثريا؟ وهم - ولاشك - سيرون الثرى فى المسكين الذى يجلس على التراب، والثريا فى ذاك الذى يتألق بيته بالأنوار اللامعة المنيرة العظيمة!!.. هذا هو حكم الأرض،.. ولكن ميزان السماء صنع الهوة التى لا تعبر، وفى قمتها بائس الأمر، وفى قاعها المترف الذى هبط إلى الهاوية التى لا قرار لها!!. إن القصة ترينا أن هذا الميزان سجل حكمة إزاء النبراس أو الشمعدان حتى يراها الكل،. وميزان اللّه هو ميزان النور،.. إن عدالة اللّه ليست عمياء، كما ألف الناس أن يروا العدالة فى صورة امرأة معصوبة العينين تمسك ميزاناً بيدها، وفى اليد الأخرى سيفها المجرد!!.. إن عدالة اللّه، بالأحرى، فاحصة نيرة بالغة الدقة، فى وزنها، أو على ما تقول حنة فى صلاتها: " لأن الرب إله عليم وبه توزن الأعمال " " 1 صم 2: 3 ".. مررت يوماً بميزان من تلك الموازين التى توضع فى الأماكن أو المؤسسات العامة أو الخاصة، والتى تضع فيها العملة حتى تخرج لك تذكرة مكتوب عليها وزنك...، وهل رأيت من باب التسلية أوحب الاستطلاع، أو الخوف من زيادة الوزن أو نقصه من يزنون أنفسهم؟، أو هل رأيت الطبيب يزن الطفل أو الرجل قبل أن يفحصه طبياً؟،.. هذه موازين بشرية لغايات تتصل بالجسد أو سلامته، أو الاطمئنان على الصحة أو ما أشبه، وأين هذه من ميزان النفس عند اللّه؟، وعلى وجه الخصوص، إن الرب إله عليم، وبه توزن الأعمال، وهو فى وزنه للأعمال يتغور إلى الداخل العميق، لأنه يعرف السرائر ولا تخفى عليه خافية،.. وهو يصل إلى أعماق النبضات والنأمات، والنوايا والبواعث المتشابكة التى لا تستطيع العين أن تدركها!!.. فإذا أصدر اللّه أمراً إلى يا هو بن نمشى أن يبيد بيت أخاب ليحل محله فى الملك، وإذا صادف الأمر الهوى العميق فى قلب ياهو، فهو يبيد، وبغير اعتدال، وهو لا يرى فى عمله هذا إلا إتماماً لأمر اللّه، إلى الدرجة التى يقابل فيها يهو ناداب بن ركاب فيباركه ويقول له: " هل قلبك مستقيم نظير قلبى؟ فقال يهوناداب: نعم ونعم... هات يدك، فأعطاه يده، فأصعده إليه إلى المركبة وقال: هلم معى وانظر غيرتى للرب، وأركبه معى فى مركبته وجاء إلى السامرة وقتل جميع الذين بقوا لآخاب فى السامرة، حتى أفناه حسب كلام الرب الذى كلم به إيليا " " 2 مل 10: 15 - 17).. وإذا كان اللّه قد بارك ياهو وأجلس أبناءه إلى الجيل الرابع، لأنه تمم الإرادة الإلهية،... لكن هناك تياراً رفيعاً أسود كان فى قلب ياهو، استطاع أن يخفيه عن يهوناداب بن ركاب، وعن كل إنسان آخر، لكنه لم يكن خافياً على اللّه، وجرى فى القلب التيار الأسود مع الأبيض، ووزن اللّه وفصل بين التيارين، وقال على لسان هوشع: " بعد قليل أعاقب بيت ياهو على دم يزرعيل " " هو 1: 4 "... هل تستطيع مهما بلغت من الإدراك والحكمة أن تكتشف التيارين الممتزجين؟؟، وإذا أمكن أن تكتشف، فهل تستطيع الفصل بينهما فتبارك التيار الأبيض، وتعاقب الأسود؟،... ليس هناك إلا ميزان واحد يستطيع ذلك، هو ميزان اللّه، الذى فصل من البداءة بين النور والظلمة، " فالظلمة أيضاً لا تظلم لديه، والليل مثل النهار يضئ كالظلمة هكذا النور، " " مر 139: 12 " هل أساء إليك زميل أو رفيق، فحفظت فى قلبك شيئاً عميقاً غائراً لا يدركه أحد، وانتهزت خطأ ارتكبه هذا الزميل، أو خطية ما، فإذا بك تثور ناهضاً ضد هذا الخطأ أو الخطية، باسم الغيرة للّه؟ ويحمدك الناس لأنك لا تعرف المجاملة على حساب الحق،... ولكن رقيب الناس يتعقب شيئاً دفيناً أسود لا يراه أحد، ويزنه بميزان العدالة البالغة الدقة، ويفصله على حده، ويتعامل معك إزاءه، سواء فى السريرة أو فى العلانية، حتى تعلم أنك تستطيع أن تخدع نفسك أو تخدع الآخرين، لكنك لا تستطيع أن تخدع اللّه البتة!! كان بيلشاصر عظيماً فى ميزان النفس، وميزان الناس،.. ولكنه أبصر على مكلس الحائط تجاه النبراس القول: " وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً "..
بيلشاصر والأوانى المقدسة: -
يقولون إن بيلشاصر كان متعبداً لبيل إله الكدانيين، وقد أراد أن يثبت لعظمائه شيئاً يختلف عما وصل إليه نبوخذ نصر، فإذا كان نبوخذ نصر قد انتهى إلى سيادة اللّه على كافة الآلهة، عندما قال لدانيال الذى فسر له الحلم الذى عجز حكماء بابل عن معرفته وتفسيره: " حقاً إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار " " دا 2: 47 "... كما قال للثلاثة فتية بعد خروجهم من الأتون: " إذ ليس إله آخر يستطيع أن ينجى هكذا " " دا 3: 29 ".. فإن بيلشاصر يمكن أن يثبت شيئاً يختلف عما ذكره الملك العظيم، إذاً فليرفع بيل على حساب اللّه، ولا مانع من التسبيح لآلهة الفضة والذهب، والنحاس، والحديد، والخشب، والحجر - التى لا تبصر ولا تسمع ولا تعرف - متجاهلا، اللّه الذى بيده نسمته وله كل طرقه!!.. كما قال له دانيال " دا 5: 23 " وغنى بليشاصر وعظماؤه لبيل على أمل أن يساعدهم فى اليوم الأسود ضد الجيوش المهاجمة التى تحاصر المدينة، وما هو البرهان، فى عرفه، تزلفاً وتملقاً لبيل، وتحدياً لإله إسرائيل، وذلك بإحضار الآنية المقدسة، واستخدامها لشرب الخمر والسكر والعربدة!!.. أو أنه - فى عبارة أخرى التمرد والنجاسة معاً،.. وما فعله بيلشاصر قديما ما يزال يفعله الإنسان فى كل جيل وعصر عندما يتمرد على اللّه، وينجس الأوانى المقدسة التى أعطاه اللّه إياها لتستخدم لجلاله ومجده: " ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية بل قدموا ذواتكم كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات بر للّه... ألستم تعلمون أن الذى تقدمون ذواتكم له عبيداً للطاعة، أنتم عبيد للذى تطيعونه إما للخطية للموت أو للطاعة للبر ". " رو 6: 13 و16 " " أما تعلمون أنكم هيكل اللّه وروح اللّه يسكن فيكم، إن كان أحد يفسد هيكل اللّه فيفسده اللّه لأن هيكل اللّه مقدس الذي أنتم هو " "1 كو 3: 16 و17 ".. " ألستم تعلمون أن أجسادكم هى أعضاء المسيح، أفآخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية، حاشا، أم لستم تعلمون أن من التصق بزانية هو جسد واحد لأنه يقول يكون الاثنان جسداً واحداً، وأما من التصق بالرب فهو روح واحد لأنه يقول يكون الاثنان جسداً واحداً، وأما من التصق بالرب فهو روح واحد. اهربوا من الزنا، كل خطية يفعلها الإنسان هى خارجة عن الجسد لكن الذي يزنى يخطئ إلى جسده، أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذى فيكم الذى لكم من اللّه وأنكم لستم لأنفسكم " " 1 كو 6: 16 - 19 "أيها الشاب الذى تذهب إلى الفجور والدنس، إنك بيلشاصر، على مائدة النجاسة تقدم الأوانى المقدسة التى صنعها اللّه لمجده وجلاله!!.
بيلشاصر والضمير:-
والضمير كما وصفه ا. ج. جوردون هو: " سلم يعقوب الحقيقى فى داخل قلب الإنسان والذى يصل إلى السماء، وفوقه ملائكة الاستحسان والتوبيخ تصعد وتنزل ".. وقد جاء إلى الملك فى لحظة الموسيقى الضاحكة والكأس الممتلئة، فلماذا يفزع ويرتعب، وألا يجوز أن بيل آلهته أرسلت إليه كلمات مشددة مشجعة ضد الجيش المهاجم؟ فلماذا تفزعه أفكاره وتنحل خرز حقوبه، وتصطك ركبتاه؟،.. إنه الضمير الذى ينهض اللّه فى أعماق الإنسان ليفزعه ويروعه، وهو العين المرهبة التى صورها " فيكتور هوجو " تلاحق قايين ليلا ونهاراً، وهو يصرخ على الدوام: " ذنبى أعظم من أن يحتمل " " تك 4: 13 "... وهو الضمير الذى جعل هيردوس الملك،.. مع أنه كان من الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالقيامة إلا أنه عندما يسمع عن المسيح يقول: إنه يوحنا المعمدان الذي قطعت أنا رأسه... وهو الضمير الذى أرعب فيلكس لما كان بولس يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون!!.. وهو الضمير الذى كانت تتمنى، معه، أن تقابل " مارى الدموية " جيشاً من عشرة آلاف مقاتل، دون أن تواجه يوحنا نوكس بصوته المفزع المرهب الشديد "!!ومن الغريب أن بيلشاصر شرب الكأس فى مواجهة الجيوش الغازية دون أن يفزع منها، وارتعب من طرف يد تكتب على مكلس الحائط أمام النبراس: " وزنت بالموازين فوجدت ناقصاً ".. إنه الضمير الذى ينهض فى اليوم الأخير فى الأشرار وهم يقولون للجبال اسقطى علينا وللآكام غطينا من وجه الجالس على العرش ومن غضب الحمل؟؟!!.. والسؤال: أيها الشاب ماذا أنت فاعل تجاه الضمير وهو يكتب علي مكلس الحائط تجاه عينيك: " وزنت فى الموازين فوجدت ناقصاً "..؟؟
بيلشاصر والنهاية المخيفة:-
والنهاية فى مرات كثيرة، تكون أسرع جداً مما يظن أو يتصور أصحابها. لست أعلم إلى أى مدى أخذ بيلشاصر تفسير دانيال، فمع أن دانيال تحدث معه بكل قسوة وعنف، فهو يرفض عطاياه، أو إذا أراد أن يعطيها فلتكن لغيره: " لتكن عطاياك لنفسك وهب هباتك لغيرى " " دا 5: 17 ".. على أية حال إن بيلشاصر صدق كلمات دانيال، ومع ذلك فهو يظن أنها لن تكون بهذه السرعة، ومن ثم فهو يصدر قراراً: " أن يلبسوا دانيال الأرجوان وقلادة من ذهب فى عنقه وينادوا عليه أن يكون متسلطاً ثالثاً فى المملكة " " دانيال 5: 29 ".. ومع أن هذا القرار لن يتسع وقت بيلشاصر لتنفيذه، إلا أن دانيال سيأخذ مركزه العظيم بقرار آخر، ولكن من داريوس، وليس من بيلشاصر!!.. وسيبقى دانيال أميناً يعلم أن القرار الصحيح لا يصدره ملك أرضى، بل يصدره اللّه ملك الملوك ورب الأرباب، الإله المتسلط فى مملكة الناس، وهو الذى يمنع ويمنح. وسعيد ذلك الذى يتسلم مركزه وسلطته ومجده من اللّه وليس من الناس!! سقطت بابل بدون قتال، بخدعة عملها كورش والماديون والعيلاميون الذين كانوا معه بتحويل مجرى نهر الفرات وسقطت فى ذات الليلة التى كان يعربد فيها بيلشاصر ويسكر، ولعله مما تجدر الإشارة إليه أن مصوراً أمريكياً اسمه " واشنطون ألستون " قضى اثنى عشر عاماً وهو يرسم منظر حفل بيلشاصر دون أن يتمكن من إتمام الصورة، وكانت العقبة الرئيسية أمام المصور العبقرى الفنان هى عجزه عن إبراز الفزع الكامل، واليأس الرهيب الذى استولى على الملك، وظهر على قسمات وجهه،... ومع ذلك، فالصورة في متحف الفنون فى بوسطن، وهى تكشف، بالعمل الناقص، عن عجز الإنسان مهما كانت قوته وقدرته وعبقريته عن تصوير فزع الضمير الذى يلاحق الخاطئ ملاحقة أبدية!!..
المزيد
15 يوليو 2021
شخصيات الكتاب المقدس بلعام بن بعور
بلعام بن بعور
"لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم" عدد 23: 10
مقدمة
لست أعلم من أي غدير أو نبع استقى روبرت لويس استفنسون فكرته، وهو يكتب كتابه العظيم: "دكتور چيكل ومستر هايد" الرجل المزدوج الشخصية، فهو تارة چيكل الطيب، وأخرى هايد الشرير، وهو يملك دواء يغير شخصيته كلما رام التنقل بين الشخصيتين،.. ومفعول الدواء يستمر معه لحظات من الزمن، غير أنه تأتي الساعة التي يفقد فيها هذا الدواء فاعليته، ويتوقف الرجل -للأسف- عند هايد الشرير، دون أن يبلغ چيكل الطيب،.. هناك من يؤكد أن استفنسون استوحى فكرته من الأصحاح السابع من رسالة رومية من قول الرسول بولس: "فإننا نعلم أن الناموس روحي أما أنا فجسدي مبيع تحت الخطية لأني لست أعرف ما أنا أفعله إذ لست أفعل ما أريده بل ما أبغضه فإياه أفعل فإن كنت أفعل ما لست أريده فإني أصادق الناموس أنه حسن فالآن لست بعد أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة في.. لأني لست أفعل الصالح الذي أريده بل الشر الذي لست أريده فإياه أفعل.. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت!!.." ولعل روبرت لويس استفنسون لو بحث عن نموذج بشري يصلح لهذه الفكرة، لما وجد أفضل من بلعام بن بعور، الرجل الذي ارتقى إلى مصاف الملائكة، ثم هبط إلى القاع مع الشياطين!!.. وربما نستطيع أن نتابع الرجل وقصته الغريبة لو وقفنا منه من الجوانب التالية:
بلعام وامتيازه
لا شبهة في أن بلعام كان من أعظم الشخصيات المعروفة في عصرها،.. وكان يتسم بصفات متعددة واضحة إذ هو:
الرجل ذو العقل الجبار
كان من فتور ما بين النهرين، والبلدة كانت مشهورة بالحكمة، ومليئة بالحكماء، وكان بلعام بن بعور مقصد الكثيرين الذين يأتونه من كل البلاد، يبحثون عن الحلول لمشاكلهم، وما يواجهون من متاعب وصعاب،.. وقد حلت مشكلة أمام بالاق، وهو يفتش هنا وهناك عن ناصح وحكيم، يستطيع أن يعطيه حلاً لها، فلا يجد إلا الرجل القابع ما بين النهرين، اللامع التفكير الجبار الذهن، المقتدر الفهم، وهو لا يكاد يجد في الأرض كلها شبيهاً له، ونظيراً،.. وهو واحد من المجوس حكماء المشرق القدامى، والذي ظهر قبل أن يأتي المجوس إلى السيد بعد ذلك بخمسة عشر قرناً من الزمان.على أن المعرفة الأكبر عند الرجل كانت معرفة الله، وقد كان من أعظم العارفين بالله، فالله ليس شخصاً غامضاً أمام عينيه أو صورة يحف بها الإبهام والظلام، كلا.. بل هو رجل غزير المعرفة بالله، عندما يتحدث عنه تعالى، لا يتحدث عن ألوهيم" إله الكون والخليقة، بل عن "يهوه" إله العهد -وقد حار الشراح والمؤلفون، من أين للرجل هذه المعرفة، المعرفة التي تصف الله في ثباته وجلاله وقوته وانتصاره؟!.. إن الجواب على ذلك يكمن في أنه كان واحداً من الذين أودعهم الله النور الذي ينير كل إنسان، وقد أتى إلى العلم، وعرفه الكثيرون من غير شعب الله، لأنه لا يترك نفسه بلا شاهد،.. فكان هناك ملكي صادق، وكان هناك أيوب، وكان هناك صوفر النعماني، وبلدد الشوحي، وأليفاز التيماني، وأليهو بن برخئيل البوزي، وغيرهم.
الرجل ذو اللسان الساحر
لم يكن بلعام جبار العقل فحسب، بل كان ساحر اللسان أيضاً،.. من الناس من يكونون على أعظم قدرة ومعرفة ذهنية، لكنهم لا يملكون اللسان الزرب البارع المنطق،.. ولكن بلعام كان يملك ناصية الاثنين، إذ كان ذهبي اللسان رائع المنطق، سديد التعبير، وكان خطيباً مفوهاً، وصل ببيانه إلى أسمى الذرى، وكان ندا لأروع ما نطق به الأنبياء، وفي ألفاظه الرائعة، كان أقرب إلى شعر إشعياء، وبلاغة حبقوق!!.. كان أميراً من أمراء البيان، ولو اعتلى المنبر، لكان واحداً من خطباء العصور، وسيداً من سادة المتكلمين بين الوعاظ في كل زمان!!..
الرجل الممتليء الأشواق
لم يكن بلعام ذهناً يفكر، أو لساناً زربا يتكلم، بل كان هناك شيء أكثر عند الرجل وفيه، إذ كانت له أشواق ملتهبة قوية، تزداد عنفاً وقوة ولمعاناً في وقت الصفاء، وساعات التأمل والهدوء،.. وأمام المذابح التي أقامها، والذبائح التي قدمها، التهب الرجل التهاباً، وهو يرى المخلص الآتي من بعيد: "أراه ولكن ليس الآن أبصره، ولكن ليس قريباً يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم قضيب من إسرائيل فيحطم طرفي موآب ويهلك كل بني الوغى".. وهو إذ يرى عالماً أفضل، ومجداً أروع وأعظم يهتف: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم!!.. ومن المؤكد أن الشعب الذي رآه، والصور التي أثارها هذا الشعب أمام عينيه وفي خياله، هي التي رفعته إلى هذا المستوى الرفيع الممتلئ من الأشواق السماوية!!.. وكم من الناس دخلوا في وسط حفل مقدس، وأنصتوا إلى ترنم أعظم من كل أغاني الأرض، وأسمى من كل ما يعرف الإنسان،.. وسمعوا لغة إلهية أعلى من البيان البشري، فصاح كيانهم: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم"!!..
الرجل الباحث عن مشورة الله
كان هناك شيء في الرجل يؤكد أن الحكمة البشرية -مهما بلغت أو عظمت، واللسان الزرب، مهما تكلم وأفصح، والشوق العميق مهما امتد والتهب- فإن الإنسان في حاجة إلى شيء أعظم من هذه كلها، وإلى جانبها، ألا وهو المشورة الإلهية التي لا يمكن أن يسير بدونها،.. وأبى بلعام أن يتخطى الطريق دون معرفة رأي الله وإرادته،.. ونحن نسأل هنا: هل أدرك الرجل أن ذكاء المرء محسوب عليه؟ وأن خطأ الحكمة البشرية بين وواضح في شتى المواقع الأرضية؟ وأن الإنسان مهما بلغ من الإدراك تائه في الظلام، لا يمكن أن يعرف ما يأتي به الغد، أو ما يتمخض عنه الزمن، أو ما تأتي به الأيام؟ وهو لا يتحرك إلا إذا أدرك ماذا يريد الله، وما هي مشيئته، وهو لذلك يطلب من رجال بالاق بن صفور أن ينظروا حتى يضيء له الله الظلمة الضاربة في الطريق؟!!.
الرجل المستخدم من الله
وبلعام بن بعور عنده الرغبة قبل وبعد هذه كلها أن يكون: "الرجل المفتوح العينين.. الذي يسمع أقوال الله ويعرف معرفة القدير، الذي يرى رؤيا القدير ساقطاً وهو مكشوف العينيين" وهو يصمم وقد جاء من بين النهرين- على شيء واحد "ألعلي الآن أستطيع أن أتكلم بشيء من الكلام الذي يضعه الله في فمي به أتكلم" ومن العجيب أن هذا الرجل فتحت عيناه حقاً، ومد بصره إلى ما وراء القرون والأجيال البعيدة، وتكلم بأروع النبوات وأعظم الرؤى، وارتفعت نبواته إلى مصاف أعلى النبوات وهي تتحدث عن المسيح سيدنا مخلص العالم!!..
بلعام وسقوطه
ولكن كيف يمكن لهذا الرجل العظيم أن يسقط من الجبل الشاهق الذي وصل إليه، وكيف يمكن أن يكون سقوطه عظيماً على الصورة التي جعلته عبرة لكل الأجيال والتاريخ!!.. وما هي عوامل سقوطه الشنيع هذا؟!!.
أسقطته الكبرياء
ولعل هذه أول تجربة واجهها الرجل إذ أن القارئ المدقق في كلمة الله يعلم أن بلعام رفض أن يذهب إلى بالاق من المرة الأولى، وأن بالاق داهن الرجل وتملقه، بأن أرسل إليه وفدا أعظم وأعلى من الوفد الأول، حتى يحس تقديره الكبير له، وسقط الرجل في الفخ المنصوب، وذهب مع الوفد الثاني،.. ولعل هذه تجربة العظماء والموهوبين في كل جيل وعصر، إذ يجربهم الشيطان بالتعالي والكبرياء والغرور، وعندما يتملقهم الناس تنزلق الطريق أمامهم، وما أسرع ما يسقطون!!.. ألم تكن هذه تجربة الشيطان نفسه، الذي وضعه الله في المكان العظيم المحدد له، ولكنه ترك رياسته، محاولاً أن يأخذ مكاناً أعظم وأعلى، وحبسه الله في القيود الأبدية تحت الظلام؟.. أليس هذه تجربة الجبابرة والملوك الذين قهروا الممالك ودوخوا الشعب، ولكن مأساتهم العظيمة، أنهم سقطوا من عل، لأنهم كانوا يتصورون أنهم من طينة غير طينة الناس، إلى الدرجة التي جعلت الإسكندر عندما انهمر الدم من جرح حدث له، أن يتعجب كيف يسقط دمه مثلما يسقط دم الآخرين من الناس، وكانت عقيدته أنه ابن الآلهة كما صوروا له أو خدعوه؟ أليست هذه تجربة نبوخذنصر الذي قال: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال ملكي.. والكلمة بعد بفم الملك وقع صوت من السماء قائلاً: لك يقولون يا نبوخذنصر الملك إن الملك زال عنك.. "في تلك الساعة تم الأمر على نبوخذنصر فطرد من بين الناس وأكل العشب كالثيران وابتل جسمه بندي السماء، حتى طال شعره مثل النسور وأظفاره مثل الطيور، وعند انتهاء الأيام أنا نبوخذنصر رفعتُ عينيَّ إلى السماء فرجع إلىَّ عقلي وباركت العلي وسبحت وحمدت الحي إلى الأبد الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلي دور فدور، وحسبت جميع سكان الأرض كلا شيء وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض، ولا يوجد من يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل؟؟"، أليست هذه هي تجربة هيرودس الذي تملقه الصوريون والصيداويون، وهو لابس حلته الملوكية وعلى عرش الملك وهو يخطابهم، وإذا بهم يصرخون: هذا صوت إله لا صوت إنسان، ففي الحال ضربه ملاك الرب لأنه لم يعط المجد لله فصار يأكله الدود ومات؟؟.. أليست هذه تجربة الكثيرين من أشهر الوعاظ، ولعله يوحنا ويسلي الذي جاءه واحد بعد عظة رائعة، وقال له -وهو نازل من المنبر-: ما أعظم ما وعظتنا به في هذه العظة، وأجاب الرجل العظيم: لقد قالها واحد غيرك من قبلك الآن، وتعجب الرجل وقال: من؟ وكان الجواب: إنه الشيطان؟؟ ولئن كان ويسلي نجح في مكافحة الشيطان، فإن بلعام بن بعور لم ينجح وهو ينزل من فوق منبر بالاق بن صفور، ومع أنه من هناك ألقى عظاته التي تلقفتها الأجيال، لكنه كان الواعظ الذي بعدما كرز للآخرين صار هو بنفسه مرفوضاً!!.. هذه الحقيقة العظيمة تؤكد أن الله لا يعطي مجده أو كرامته لآخر، وتكشف عن السياسة الإلهية الثابتة: "إن الله يقاوم المستكبرين أما المتواضعون فيعطيهم نعمة".. كانت الكبرياء المسمار الأول في نعش بلعام بن بعور.
أسقطه الطمع
كان يزعم أنه لا يتجاوز قول الرب ولو أعطاه بالاق ملء بيته فضة وذهباً، وعينه على كل درهم أو دانق يلقي به الملك إليه، كان محباً للمال بكل ما في الكلمة من معنى، كان واحداً من ذلك الموكب الرهيب الذي يتمشى في كل العصور: "الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة تغرق الناس في العطب والهلاك لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة وأما أنت يا إنسان الله فاهرب من هذا..".. ولم يهرب بلعام، بل -على العكس- سعى إلى الذهب، الذي ذهب به إلى الدمار، ومال إلى المال الذي مال به عن الطريق المستقيم، إلى طريق الأفك والضلال، أو كما وصفه الرسول بطرس مع محبي المال: "قد تركوا الطريق المستقيم فضلوا تابعين طريق بلعام بن بعور الذي أحب أجرة الإثم".. هل رأيت الطريق من فتور إلى موآب؟ كان طريقاً طويلاً متعباً لكن بلعام بن بعور الطريق المرصوف بالذهب، وأحب بلعام أجرة الإثم، وسال لعابه طوال الطرق، وعبارة رهيبة تدوي في أذنيه في كل خطوة منه: الفضة.. الذهب!!.. الفضة.. الذهب!!.. الفضة.. الذهب!!.. وويل لمن يقتحم المحرم من أجل الفضة أو الذهب،.. اقتحمه عخان بن كرمي من أجل الرداء الشنعاري النفيس، والمائتي شاقل من الفضة، واللسان من الذهب، ودفن المال عخان- بن كرمي ملفوفاً بردائه الشنعاري!!.. واقتحمه جيحزي غلام أليشع بعد أن رفض سيده أن يأخذ من يد نعمان السرياني ما أحضره هدية من أجل شفائه، وأخذ وزنتي فضة وحلتي ثياب، وعندما مثل أمام أليشع كان الجواب: "أهو وقت لأخذ الفضة ولأخذ ثياب وزيتون وكروم وغنم وبقر وعبيد وجوار فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد فخرج من أمامه أبرص كالثلج". واقتحمه يهوذا الاسخريوطي الذي ذهب إلى رؤساء الكهنة وقال: "ماذا تريدون أن تعطوني وأنا أسلمه إليكم، فجعلوا له ثلاثين من الفضة، ومن ذلك الوقت كان يطلب فرصة ليسلمه".. وارتكب أكبر جريمة في التاريخ مقابل ما يقرب من ثلاثة جنيهات!!..كل واحد يباع بثمن إذا تجرد من نعمة الله، وكان أشبه بذلك الرجل الذي عرض عليه الأعداء أن يخون وطنه، وعرضوا ثمناً ورفض، ورفعوا الثمن، وظلوا يرفعونه إلى أن وصلوا إلى النقطة التي جعلته يصرخ: لقد اقتربتم من الثمن الذي يمكن أن تشتروني به،.. ولا أعلم إن كانوا قد نجحوا أم لا، لكني أعلم أن بلعام بن بعور أخذ الأجرة الآثمة التي أسقطته!! هل أدرك بلعام بن بعور ما قاله أحد الشعراء، وهو يرى الناس تباع بأثمان مختلفة ومتنوعة!!.. ليس بالفضة، وليس بالذهب، بل توجد آلاف الطرق التي بها يشتري الإنسان،.. فالصداقة الآثمة، أو الرغبة الشريرة، أو الاسم الفارغ كثيراً ما تكون الثمن الذي به يباع الناس ويشترون!!.. وقد اشترى بالاق بن صفور بلعام بثمنين رهيبين: "فعاد بالاق وأرسل أيضاً رؤساء أكثر وأعظم من أولئك.. فأتوا إلى بلعام وقالوا هكذا قال بالاق بن صفور لا تمتنع عن الإتيان إليَّ لأني أكرمك إكراماً عظيماً وكل ما تقول لي أفعله" "فقال بالاق لبلعام ألم أرسل إليك لأدعوك لماذا لم تأت إليَّ أحقاً لا أقدر أن أكرمك".. كان الثمن الأول ما يمكن أن نطلق عليه إكرام الشهرة والحفاوة والإجلال في الوفود المرسلة، والاستقبال الفخم العظيم،.. وفي حلوان العرافة المتزايدة في المقدم أو المؤخر من الرشوة الكبيرة!!..كان بلعام بن بعور قائداً عظيماً من أقدم القادة، الذين جمعوا وراءهم كل خطيب، وواعظ، ورجل دين، استخدم منبره بحثاً عن الصيت الذائع، أو عن المادة المتكاثرة!!.. ولم يعلم هؤلاء جميعاً أن مصيرهم لابد أن يكون مصير الرجل التعس الذي ذهب على أبشع صورة وأقسى منظر!!.. بلعام وطريقه
لم يتبع بلعام نهجاً وسلوكاً خاصاً به، بل أصبح أكثر من ذلك مدرسة مشهورة من مدارس الضلال والكذب، ويكفي أن يصف الرسول بطرس أتباعه: "لهم عيون مملوءة فسقاً لا تكف عن الخطية خادعون النفوس غير الثابتة لهم قلب متدرب في الطمع أولاد اللعنة. قد تركوا الطريق المستقيم فضلوا تابعين طريق بلعام بن بعور الذي أحب أجرة الإثم"، أو ما قاله السيد لملاك كنيسة برغامس: "إن عندك هناك قوماً متمسكين بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا".. ولعل المشاهد لطريق بلعام يلاحظ أنها: طريق الخداع النفسي
وهذه هي الحقيقة الأولى، إن المخادع قبل أن يخدع الآخرين لابد أن يخدعه نفسه أولاً، وهذا ميسور ويستوي فيه الجميع لأن "القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه".. وقد منع الله بلعام من الليلة التي ذهب فيها رؤساء موآب إليه، وكان المنع واضحاً وصريحاً، وعندما عاد بالاق وأرسل له رؤساء أعظم وأكثر، كان من واجبه ألا يكون عنده جواب إلا الجواب الأول، لأنه هو يعلم جيداً أن مشيئة الرب لا تتقلقل أو تتذبذب، وهو ليس في حاجة إلى أن يعود مرة أخرى إلى سؤال الله،.. وعاد بلعام يسأل الله مرة أخرى، وأدرك الله أن الرجل يريد أن يخادع نفسه، وهو يطلب أذناً من الله، ليفعل ما لا يريده الله أن يفعل، ولم يكن هنا يخدع الله، بل كان يخدع نفسه، لعل الله -قد مثل أمامه إكرام البشر وذهبهم وفضتهم- يعطيه رخصة للذهاب، وأسلم الله إلى ذهنه المرفوض وهكذا يفعل الله على الدوام لمن يريد أن يحجز الحق بالإثم، ويغطي المشورة الإلهية بالرغبة البشرية،.. مرات كثيرة ما يطلب الناس الله بذات الصورة التي طلبها بلعام بن بعور، لعل ضميرهم الثائر يستريح، أو يعطي تبريراً لما ينتوون من رغبات شريرة أو آثمة،.. ويجيبهم الله بذات الإجابة القديمة، وعندما تتنكب بهم الطريق يصرخون ويجأرون!! ألم نطلب الله.. ألم ننتظره فلماذا أصابنا هذا كله؟، وهم يعلمون أن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحداً..” ولكن كل واحد يجرب إذا انجذب وانخدع من شهوته ثم الشهوة إذا حبلت تلد خطية والخطية إذا كملت تنتج موتاً”..
طريق الورطة
إن طريق الخداع النفسي على الدوام طريق موروط، وكان لابد لبلعام أن يفهم موقف الرب بكل وضوح، فالله لم يتغير أبداً في موقفه، إنما الذي تغير هو بلعام، ويبدو أنه كان في صراع مع نفسه، وفي تساؤل هل يتبع الطريق الصحيح أم لا، وهو يركب الأتان التي تميل به في الطريق يميناً ويساراً مع الذبذبة النفسية، التي كانت تموج بها نفسه،.. وجاء إلى خندق، وكان هو قد وصل إلى خندق نفسي عظيم، حيث لا مجال للنكوب هنا أو هناك، وربضت الأتان تحته، ولم تفعل ما فعلته قبل ذلك مرة ومرتين، إذ كانت تغير طريقها من موقف الملاك الواقف قبالتها!!.. وضربها بلعام، ونطقت الأتان، وتكلمت بلغة البشر،.. لقد وقف بلعام في الطريق بين الملاك والأتان، لأن حياته كانت بين الوثنيين، ومن المؤسف أن النفس البشرية تبدأ في الطريق بالملاك لتنتهي إلى الحمار، أو في الواقع لتصل إلى حماقة لا يصل إليها الحمار نفسه!!.. وأي ورطة أعظم من هذه الورطة؟ وأي قسوة أشنع منها وأبلغ؟.. أهكذا تقع النفس البشرية بين الملاك والحمار؟ بين أعلى حكمة وأدنى غباوة؟.. ولكنها حقيقة الإنسان في طريق الورطة بعيداً عن الله!!.. لأن "الثور يعرف قانيه والحمار يعرف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف وشعبي لا يفهم"!!.. على أن السؤال الأعمق والأبعد: لماذا يسمح الله بطريق الورطة التي لا يرغبها، والتي أعلن رفضها من الأول؟!!.. إن الله يسمح لا لأنه يريد ألا يقهر الحرية البشرية فحسب بل أكثر من ذلك لأنه يريد أن يخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة، ولأنه يريد أن ينتصر على القصد الشرير، ويصنع منه قصداً رائعاً جميلاً خيراً، وما كان من الممكن أن نسمع عن هذه النبوات الرائعة والعظيمة، أو نعرف إجادة الرب إلا كما يقول ميخا: "يا شعبي اذكر بماذا تآمر بالاق ملك موآب وبماذا أجابه بلعام بن بعور من شكيم إلى الجلجال" (مي 6: 5)..
بلعام وخطورته
كان بلعام خطراً داهماً على نفسه، وعلى شعب الله أيضاً، وكانت خطورته:
خطورة الإسفاف
وأي إسفاف أبلغ من هذا الإسفاف الذي نزل به النسر المحلق في الأعالي بأعلى الرؤى وأقدس النبوات، إلى الجثث الميتة والجيف النتنة؟! خطورة الرائي الذي يرى رؤى القدير بعين مكشوفة.. إلى العراف الذي تحول إلى الخرافات والتنجيم؟.. خطورة الذي بدأ أعظم بداية لينتهي أسوأ نهاية؟!. إنه يذكرنا بالتعبير العظيم: لماذا سقطت يا زهرة بنت الصبح، ولماذا يهوى الجمال إلى حضيض الطين؟!! إنه شيء يروع النفس، ويدمي القلب، ويغمد النصل الحاد في القلب المحزون، عندما ينتهي تلميذ المسيح إلى قبلة الغدر، ويسمع للصيحة الأليمة الباكية: يا صحب لماذا جئت!!.. وهكذا كان إسفاف يهوذا الاسخريوطي، ومن قبله بلعام بن بعور الذي قتل نفسه قبل أن يقتل الآخرين!!
خطورة الرأي الملتوي
وأي التواء أكثر مما وصفه به "فردريك وليم روبرتسن" عندما قال: "إنه الرجل الذي أراد أن يرضي نفسه دون أن يغضب الله"؟ وكان في ذلك واحداً من أبرع أئمة الدبلوماسيين والمرائين!!.. إنه ذلك النوع من الثعالب الفضية اللون، التي يروق لك منظرها، ولا تعلم في أي جحر تبيت، ولا من أي باب تخرج، إنه الإنسان الذي يلقى عبارته التي تحتمل الكثير من التفسير والإيماء والتساؤل، وهو من أدهى الدهاة الذين يمكن أن تفسر بمائة تفسير، قد يذمك في قالب مدح، وقد يمدحك في قالب ذم، وهو قد يحتفل بك برقصة الثعلب في وسط الدجاج، أو احتفال ياهو بمن أراد أن يذبحهم من أنبياء البعل،.. أو بالحفلة التي أجهز بها محمد علي على المماليك في مصر!!.لقد وقعت أمامه مشكلة، الله يريده أن يبارك، وبالاق يريده أن يلعن، وهو يريد أن يرضي الله ويرضي بالاق أيضاً، ويبارك ويلعن في الوقت عينه، فماذا يفعل الداهية؟!!.. لقد بارك كما أراد الله،.. ومن خلال البركة فتح الطريق أمام بالاق للعنة –خذ مثلاً هذا التعبير- وهو صحيح مائة في المائة- وهو خطير أيضاً إلى أبلغ حد: لقد جاء في بركته: “ لم يبصر إثماً في يعقوب ولا رأى تعباً في إسرائيل الرب إلهه معه ”(عد23: 21).. وهذه بركة حقيقية ودائمة،.. ولكنها بمفهوم المخالفة (كما يقول رجال القانون).. إنك يا بالاق إذا أردت أن تقضي على هذا الشعب، فليس هناك إلا سبيل واحد،.. وهو أن تسقطه في الإثم، فتأتي به إلى خيانة الله، والبعد عنه.. وتلقف بالاق بن صفور الإشارة البارعة، وأخرج بنات موآب يرقصن ويلعبن أمام شعب الله، ويقتدنه إلى ما ذبح للأوثان، وللزنا،.. وغبط بلعام بهذه البراعة، فهو لم يقل شيئاً إلا الذي قاله الله له،.. وهو لم يخرج عن وصيته أو يتجاوز قوله،.. وفي الوقت عينه قال كل شيء يرضي بالاق بن صفور، ويعطيه أقرب طريق إلى قتل الشعب والقضاء عليه!!.. كان واعظاً بارعاً ألقى عظته باسم الله، وأخذ الثمن من الشيطان!!..
خطورة العدو الخبيث
هذا هو الرجل الذي كان بهذه المشورة القاتلة، أخطر أعداء شعب الله، والتاريخ ينظر إليه كواحد من أخبث القتلة وأشدهم ضراوة.وهكذا عرفه الفكر اليهودي، إذ قال موسى في سفر التثنية وهو يتحدث عن الموآبيين: "ولأنهم استأجروا عليك بلعام بن بعور من فتور آرام النهرين لكي يلعنك ولكن لم يشأ الرب إلهك أن يسمع لبلعام فحول لأجلك الرب إلهك اللعنة إلى بركة لأن الرب إلهك قد أحبك" (تث 23: 4 5).
وقال يشوع: "وقام بالاق بن صفور ملك موآب وحارب إسرائيل وأرسل ودعا بلعام بن بعور لكي يلعنكم ولم أشأ أن أسمع لبلعام فبارككم بركة وأنقذتكم من يده"(يش 24: 9 10).. وكان المسيحيون في مطلع التاريخ المسيحي يرونه في كل تعليم خبيث يمزج الحق بالباطل، والسم بالدسم، كما جاء في سفر الرؤيا عن الذين يتمسكون: "بتعليم بلعام الذي كان يعلم بالاق أن يلقي معثرة أمام بني إسرائيل أن يأكلوا ما ذبح للأوثان ويزنوا"(رؤ2: 14).. وهو الرجل الذي حار فيه أوغسطينوس وچيروم، فالأول كان يعرفه الإنسان الذي يستخدم الدين طمعاً في الكسب، والثاني الذي كان يراه أشبه بسقطة النبي القديم في بيت إيل، الذي قتله الأسد بجوار حماره!! ورغم أن الرجل أعطى أعظم النبوات وأبرعها، لكن التاريخ الكنسي لم يذكره قط صديقاً للكنيسة، بل عدواً قاسياً خطراً، كما ذكر النبوة التي جاءت على لسان قيافا، وكانت من أعظم النبوات عن المسيح: "فقال لهم واحد منهم وهو قيافا، كان رئيساً للكهنة في تلك السنة أنتم لستم تعرفون شيئاً ولا تفكرون أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه بل إذ كان رئيساً للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد"(يو11/ 4951).. ومع ذلك فإن التاريخ لم ير في قيافا صديقاً للكنيسة، بل عدواً من أقسى أعدائها.
بلعام ومصرعه
ومصرع بلعام عظة بالغة لمن يريد أن يتعظ ويتعلم، لقد جائته نهايته بأسرع مما كان يتصور أو يحلم، إذ لم يمت في بيته وأرضه، بل مات في أرض غريبة، أرض المديانيين، ولا يعلم أحد على وجه التحقيق لماذا كان هناك.. يظن البعض أن المديانيين دعوه كما دعاه بالاق ملك موآب، وأنه وقد استمرأ الدعوة الأولى وحلوانها، فقد ذهب إلى الثانية ليضاعف الحلوان ويكثر الثروة ولم يدر أن هناك نهايته ومصرعه، إذ قتله الإسرائيليون مع ملوك مديان،.. كانت الطريق الأولى ورطة أمامه، وبقيت له الحياة مع ورطة الطريق،.. لكنه عند تكرار الأمر لم يجد في الغالب ملاكاً يقف في طريقه، أو حماراً يزحم قدمه،.. لقد رأى الطريق رحب إلى الهلاك، والنهاية أسرع مما كان يظن،.. وإنها حكمة الله العجيبة، إذ أنه قبل أن يقضي على الحياة، يضيق الطريق ويزحم القدم، لعل الإنسان يثوب إلى رشده ويرجع، أيها الخاطئ، قد يزحم الله قدمك بالخسارة، أو الضيق، أو الشدة، أو المعاناة أو التعب من كل جانب، فإذا لم تنتبه، فقد يفسح أمامك، ويوسع الطريق، ولكن إلى الهاوية والهلاك وأنت لا تدري!!..ومن المؤسف أن الرجل الذي وعظ بسحر البلاغة وروعة البيان، كان في حاجة إلى العظة القاسية من الحمار الأعجم الذي نطق بصوت إنسان،.. وهكذا كان الرجل الحكيم في عصره غبياً إلى الدرجة التي يحتاج فيها إلى عظة حمار: "إذ منع حماقة النبي حمار أعجم".. وإذا كانوا قد قالوا إن الإنسان قد يأخذ الحكمة من أفواه المجانين، فليس بعيداً عن الله، أن يعلم الحكيم الذي هوى بشره إلى الحماقة، على لسان حمار!!..وفي الحقيقة أن بلعام بن بعور الذي لم تفده عظة الحمار، والذي بلغ من الحماقة ما لا يبلغه الحيوان نفسه، كان لابد أن يموت موت أحمق، ولقد مات أشنع ميتة وأقساها، إذ لم يعش ليستفيد من إكرام بالاق بن صفور الموآبي، أو من ملوك مديان أوى وراقم وصور وحور ورابع الخمسة الذين قتلوا فوق قتلاهم، وقتل معهم بلعام بن بعور (عد 31: 8)، وذهب الرجل إلى مصيره التعس دون أن يأخذ شيئاً من ذهب بالاق أو فضته معه،.. وهو يذكرنا بالحقيقة القاسية إن ثوب الكفن لا جيوب له، وأن الكرامة المزعومة ستذهب أدراج الرياح، وأنه ليس ذهب بالاق أو المديانيين أو الأرض، يمكن أن يساوي خسارة نفس عرفت الحق الإلهي يوماً ما وغنت به، ولكنها لم تلبث أن لفظته وخرجت عليه: "لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه!!".كان على بلعام أن يعلم أن الرجل الذي يتمنى: "لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم.. لا يمكن أن يتحقق له ذلك ما لم يقل أيضاً: "لتحيا نفسي حياة الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم". وإذ لم يحيي الرجل هذه الحياة، لم يحقق الأمنية التي طافت بذهنه في لحظة سمو واتضاع" وذهب الرجل ليحقق قولاً آخر:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!!
المزيد
10 يوليو 2021
حياة بولس الرسول المبكرة :-
ولد بولس فى مدينة طرسوس فى كليكية الواقعة فى أسيا الصغري ( تركيا الان ) ، وفى فتره محتملة غير مؤكده ( ما بين السنة الخامسة والعاشرة للميلاد ) . كان اسمه عند الولادة ” شاول ” وترعرع فى كتف أسرة يهودية منتمية لسبط بنيامين (بحسب شهاده فى رسالته الى اهل رومية ) – كما انه ايضا كان مواطناً رومانياً – عمل كصانع للخيام ، وكان مهتماً بدراسة الشريعة اليهودية – حيث انتقل الى أورشليم لكى يتلمذ على يد الفريسى ( غمالائيل ) وهو احد اشهر المعلمين اليهود فى ذلك الزمان ويبدوا انه لم يلتقى فى هذه الفترة بيسوع الناصرى .
التحول :-
كان شاول ذا ميول متطرفه ، عمل على محاربة المسيحية الناشئة وأعتبرها فرقة يهودية ضالة تجدد الديانة اليهودية الرسمية ، وكان يراقب الشماس أستفانوس وهو يُرجم حتى الموت ، بينما كان هو يحرس ثياب الراجمين ، وهو راضى بما يقومون به .
على طريق دمشق :-
فى طريقه الى دمشق وبحسب رواية العهد الجديد ، قد حدثت رؤيا لشاول كانت سبباً فى تغير حياته .. حيث أعلن الله عن أبنه بحسب ما قاله بولس الرسول فى رسالته إلى أهل غلاطية – وبشكل اكثر تحديداً قال بولس ” أنه رأى الرب يسوع” وحدث ذلك وهو فى طريقه الى دمشق ، وبعدها أقتيد بولس ( شاول ) وهو بعد أعمى الى دمشق حيث أعتمد علي يد حنانيا ورد اليه بصره ، وعرف شاول بعد ذلك بأسم بولس …
بعد أعتناق بولس المسيحية قضى فترة من الزمن فى الدول العربية ( ربما يكون بلدية الشام ) – ثم عاد الى دمشق ، وهناك تأمر عليه اليهود لكى يقتلوه وابلغوا عنه الحاكم ، فقام رفاقه بتسهيل هروبه من المدينة ، بأن دلوه فى سل من فوق السور وهو مكانه الأن ” كنسية ماربولس فى باب كيسان اليوم ” .
عمله الرسولي ….:
بعد ثلاث سنوات ، عاد بولس الى أورشليم ( 40 م) وهو راغب بلقاء رسل المسيح ، فمكث عند بطرس خمسه عشر يوماً قابل خلالها يعقوب البار .
بعد ذلك بدأ رحلاته التبشيرية الشهيرة فى الغرب ولكنه قام أولاً بالتبشير فى سوريا وكليكية – وفى العشرين سنة اللاحقة قام بولس بتأسيس العديد من الكنائس فى أسيا الصغرى وثلاث كنائس على الاقل فى أوروبا ..
الرحلات التبشـــيرية لبولــس الرســـول :-
أولاً : الرحلة التبشـــيرية الاولـــى :-
مكث بولس الرسول لفتره من الزمن فى مدينته طرسوس – ومن ثم أنضم الى برنابا وذهبا معاً الى انطاكية حيث وعظاً فيها سنة كاملة ومن هناك انحدروا الى منطقة اليهودية حاملين معهم مساعدات من كنيسة انطاكية ، وبعد ان أكملا مهمتهما غادرا أورشليم برفقتهما مرقس ، من أنطاكية بدأ بولس رحلته التبشيرية الاولى رافقه فيها برنابا ، وفى قسم منها أبن أخت برنابا ( مرقس ) – فعبروا البحر الى قبرص ، وبعد ذلك الى جنوب تركيا ( بيرجه بيسيديه ، أيقونيه ، لستره ، ودربه ) كان بولس ورفاقه يتبعون أسلوباً فى الدعوة ، فقد كانوا ينتقلون من مدينة الى أخرى ينادون باخلاص بيسوع المسيح فى مجامع اليهود وفى الأسواق والساحات العامة حيث اوجدوا جماعات مسيحية جديدة واقاموا لها رعاة وقساوسة ، أنقسم اليهود من مسامتعهم بين مؤيد ومعارض ، واما بولس فقد حول وجهه صوب الوثنيين لتلمذتهم هم ايضاً على ما يؤمن به .
مجمع اورشليم :-
حوالى سنة 48 م ، وقعت أزمة بين مسيحى أنطاكية حول مسألة الختان عندما وصل الى المدينة مسيحيين ذو خلفية يهودية يطالبون بضرورة تطبيق شريعة الختان على المسيحيين القادمين من الديانات الوثنية لكى ينالوا الخلاص .
أما بولس وبرنابا فقد خالفا ذلك بشكل كبير ، ولما لم يتمكنا من حل المسألة – أرسلت كنيسة أنطاكية بهما مع أناس أخرون الى الرسل ومشايخ أورشليم للنظر فى الأمر – وتم عقد ( ما يعتبروه مؤرخو الكنيسة ) أول أجتماع او مجمع كنيسى وهو ” مجمع أورشليم ” . الذى وافقت فيه الكنيسة على مقترحات بولس وبرنابا وهو مؤاده ” لايلزم بالختان كل الأمميون المؤمنون بالمسيح ، – وأنما يكتفى بمنعهم عن ” نجاسات الأصنام ، والزنى ، والمختون ، والدم .” بحسب وصف سفر أعمال الرسـل .
بعد هذا الأجتماع ( المجمع )– تم تحديد المهام التبشيرية فى الكنيسة حيث أصبح :-
1 – بطرس ويعقوب البار ويوحنا أبن زبدي رسولاً للختان ( أى لليهود ) .
2 – وأعتبار بولس وبرنابا رسولاً للأمم ( أى غير اليهود ) وفى هذا المجمع تحدد وجه المسيحية كديانة مستقلة وليس كفرع من فروع اليهودية …
الرحله التبشيرية الثانية :-
أراد برنابا أن يصطحب مرقس معهما .. لكن لم يوافق بولس على ذلك فوقع خلاف وشجار بينهما وأفترقا على إثره ، ومضى بولس فى طريقه مع سيلا وهو أحد الوعاظ المسيحيين – كان هدف بولس الرئيسى من تلك الرحله هو المرور على الجماعات المسيحية التى أقامها فى جنوب الاناضول خلال رحتله الاولى لتفقد أحوالها .
فى لستره التقى تيموثاوس الذى أنضم اليه هو الأخر ، ثم تابع طريقه باتجاه الشمال حتى وصل الى (الدردينيل )- ومن هناك عبر الى اليومنان – وفى تلك البلاد أسس بولس كنائس جديدة فى فيلبى وتسالونيكى وبيريه وأثينا وكورنثوس .
وخلال أقامة بولس الرسول الطويلة نوعاً ما فى كورنثوس أقام بولس بكتابة رسالتيه الأولى والثانية الى أهل تسالونيكى ( حوالى عام 52 م ) – ومن المحتمل أنه كتب فى تلك الفتره أيضا رسالته الى الغلاطيون – مع أن الباحثيين يرجحون أن تكون هذه الرسالة المكتوبة فى أنطاكيه – هى باكورة إعماله – بينما يذهب أخرون الى أنها كتبت فى فترة لاحقة فى مدينة أفسس – ثم أبحر بولس بعد ذلك إلى قيصرية فى فلسطين ، ومنها قام بزيارة لاورشليم ومن ثم عاد إلى انطاكيه .
الحركة التبشيرية الثالثة : ( وهى ما بين سنة 54 – 58 ) .
من غلاطية ثم إلى فريجيه ومنها إلى أفسس ( لمده عامين ونصف ) قضاها بولس الرسول فى أفسس وهى أكثر فترات حياته أثماراً حيث كتب فيها رسالتين الأولى والثانية إلى أهل كورنثوس ( حوالى عام 56 م ) بعدها ذهب إلى كورنثوس بنفسه حيث يعد أنه كتب فيها رسالته الى أهل روما – ثم عاد إلى أفسس ، وبعدها إلى اورشليم حيث اعتقل هناك وكانت تلك هى الزيارة الأخيرة للمدينة المقدسة ( بين عاملى 57 ، 58 م ) ….
المزيد
08 يوليو 2021
8- شخصيات الكتاب المقدس برزلاي الجلعادي
برزلاي الجلعادي
"وهو عال الملك عند إقامته في محنايم لأنه كان رجلاً عظيماً جداً" 2صم 19: 32
مقدمة
في قصيدة رائعة لواحد من شعراء الغرب، قال: إنه كان يسير ذات يوم في الصحراء، في يوم اشتدت فيه الحرارة كاللظي الملتهب، وإذا به يبصر على بعد خميلة ظليلة سعي إليها، ليجد تحتها مقعداً وكلمة مكتوبة فوق المقعد.. اجلس أيها المسافر واسترح قليلاً!!.. فجلس ولفت نظره سلة ممتلئة بالتفاح، فاقترب منها ليجد عبارة فوقها تقول: خذ تفاحة من السلة وكل!!.. فأخذ تفاحة،.. ورأى ورقة أخرى على بعد تقول: هناك غدير ماء، فاذهب إليه واشرب، فأسرع ليجد ماء حلواً سلسبيلاً، فانحنى على الغدير، وشرب الماء،.. وفي كل هذا كان يأخذه العجب، وتاق أن يعرف سر المكان،.. وإذا به يبصر على مقربة من المكان كوخاً يقف على بابه رجل عجوز،.. ذهب إليه مستفسراً وعلم منه القصة كلها، أن الرجل هو صاحب الخميلة، وصاحب التفاح، والمرشد إلى الماء، وقد أدرك الرجل أن المسافر في الصحراء يحتاج إلى خميلة يستظل بها، وربما هو جائع ويحتاج إلى تفاحة يأكلها، والسلة من التفاح فائضة عن حاجة الرجل، فلماذا لا يعطي الغريب الجائع؟!! ولماذا لا يرشده –وهو ظاميء- إلى النبع من الغدير الذي قد لا يتنبه إليه، وهو في أمس الحاجة إليه،.. رأى الشاعر كل هذا، فكتب قصيدته، متمنياً أن يفعل هو ما يفعل هذا العجوز، إذ يقف على الطريق البشري ليمد يده إلى المتعب السائر في برية الحياة، لعله يظلله في خميلة الحب والحنان، ويمد له الطعام، ويرويه بالماء، وقد استبد به الجوع والعطش، وهذا من أعظم ما يفعله الإنسان للإنسان في هذه الحياة،.. كان بزرلاي الجلعادي هو العجوز القديم الذي آوى داود في المحنة والتعب والجوع والعطش، وأضحى على مر العصور مثلاً يحتذى وقدوة صالحة، حتى جاء المعلم الأعظم يحدثنا عن السامري الصالح الذي لم يتخلف عن إسعاف المنكوب الحظ، الذي تركه اللصوص بين حي وميت في الطريق من أورشليم إلى أريحا!!.. هل لنا أن نتأمل برزلاي وقد أمسك بالفرصة، التي لم تضع منه، وقدم شيئاً مهما كانت عظمته فإنه لا يساوي ما أخذ من مجد وخلود، وقصة تتلقفها الأجيال من جيل إلى جيل على مر التاريخ!!…
برزلاي الوفي
كان برزلاي الجلعادي -كما يصفه الكتاب- "رجلاً عظيماً جداً" ولعل الوصف هنا يعطينا صورة عن الشيخ الجليل المهيب المحترم، الواسع الثروة، الذائع الصيت، المكرم المقام،.. ومهما تكن أوصافه، فإن أعلى ما يظهر به الرجل هو ذلك الوفاء العظيم النادر الذي اتسم به في موقفه من داود غداة الثورة التي قام بها أبشالوم ضد أبيه،.. فهو أولاً وقبل كل شيء الوفاء الصادق الخالص، الذي لا يبحث عن غرض أو يرجو مصلحة، بل يقف إلى جانب الحق والأمانة والصدق والشرف، لقد كان طرفا الثروة داود وابنه أبشالوم، الملك الشرعي والابن المتمرد، الرجل الذي يقود الأمة بإرادة الله، والابن الذي استمال الشعب بالخداع والكذب والنفاق والتملق،.. ولم يستطع الرجل أن يغمض عينيه، أو يتجاهل الموقف، أو يقف على الحياد،.. وهو الصورة المشرقة الواضحة للمؤمن الأمين الوفي، الذي يعرف أن الخط المستقيم لا يمكن أن يكون معوجاً، ولا يحتمل الالتواء أو التردد أو التراجع أو الانقلاب،.. ولقد سار برزلاي على الطريق دون أن يلوي على شيء، وهو سيبقى مع داود حياً أو ميتاً على حد سواء!!.. ولم يستخدم ما يستخدمه الناس عادة من حيطة أو حرص أو ذكاء في مثل هذه المواقف، وهو لم يقف ليراقب الريح، ويعلم أين تتجه المعركة ليأخذ المكان الذي يتصور أن إلى جانبه الفوز،.. ومع أو الوضع الظاهري كان أدنى إلى أبشالوم منه إلى داود، إذ أن الشعب كله كان من المتمرد، ولم يكن مع الهارب الذي كان يقود مجموعاً قليلاً يسيراً محدوداً من الناس،.. وكانت أملاك الرجل وأسرته وحياته جميعآً في أدق المواقف لو نجح أبشالوم في ثورته، لكن هذا كله لم يمنع الرجل من أن يؤكد أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن على الإنسان أن يقف إلى جانب الحق، حتى ولو وقف فريداً وحيداً منعزلاً دون الجميع،.. ووقف العالم كله على الجانب الآخر!!...
ولعله من الواجب أن نلاحظ أن وفاء برزلاي امتحن أقسى امتحان، بمحنة داود، ولكن الوفاء الصحيح لا يغيره الملك فوق عرشه، أو ساقطاً تحت حمله وعاره وصليبه،.. وداود هنا رمز لذاك الذي ترك عرشه، وخرج خارج المحلة، فلنخرج إليه خارج المحلة حاملين عاره!!... هل رأيت الفتاة القديمة "مريم" تقف في وسط البستان، وهي تبكي، وتتحدث إلى من تظنه البستاني، وتقول في لغة الوفاء: أخذوا سيدي ولست أعلم أين وضعوه": "يا سيد إن كنت قد حملته فقل لي أين وضعته وأنا آخذه"؟.. وهي لا تتبع السيد في مجده وجلاله وعظمته، بل وهي تظن أنه لا يزيد عن جثة في قبر!!.. وهل رأيت ذلك الصف الطويل الذي لا أول له ولا آخر، وهو يقبل عار المسيح غني أعظم من خزائن!!؟ وهو يسير معه في وادي الاتضاع قبل أن يراه في مجده الأبدي العظيم؟! إنها صورة برزلاي تعود مرة أخرى لتكرم اسم المسيح وترفعه فوق كل اسم، مهما تعرض للهوان والتمرد والثورة، من أمثال أبشالوم في كل الأجيال والعصور.
برزلاي المعطي
وإذا كان الوفاء الصادق العميق هو الحقيقة الداخلية التي تملأ الرجل،.. فإن العطاء على وجه الخصوص كان المظهر العظيم للحقيقة الخفية، وها نحن نقف الآن لنتأمل سمات هذا العطاء السخي الكريم الذي جاء في أدق الأوقات في حياة داود، ولعله كان أولاً: العطاء التلقائي، فلم يأت هذا العطاء لأن داود سأل، أو لأن هناك ضغطاً وقع على برزلاي، أو إكراهاً بأية صورة من الصور،.. لقد جاء العطاء نابعاً من النفس الكريمة المضيافة،.. لقد وقف برزلاي الجلعادي مع شوبي بن ناحاش وماكير بن عميئيل أمام شعب: "جوعان ومتعب وعطشان في البرية".. وكانت حالة الشعب أبلغ من كل كلام!!.. إنه أشبه بذلك الرجل اليائس الذي وقف على قارعة الطريق ينتظر إحسان الناس دون أن يتكلم!!.. وإذ سأله أحدهم لماذا لا يرفع صوته، ويتحدث عن حاجته،.. وقال الرجل إنه ليس في حاجة إلى رفع صوته، إذ أن بؤسه المرسوم على وجهه يتكلم بمالا يستطيع أن يتكلم به أفصح لسان!!... إن بعض الناس قد يعطون عطاء الأسفنجة والتي لابد من عصرها حتى يخرج ما فيها من ماء،.. فإذا لم يعصر هؤلاء، فهم لا يعطون أو يقدمون على الإطلاق،.. وآخرون مثل البقر الحلوب التي سئل صاحبها عما إذا كانت تدر اللبن الكثير، وقال الرجل إنها تعطي اللبن الوفير على شرط أن أحصرها في ركن المكان، وأكون حريصاً من نطحها ورفصها،.. ومن الناس من قد يعطي، ولكن بعد أن ينطح أو يرفص.. لكن برزلاي الجلعادي لم يكن من هذا الضعف،.. إنه يدر اللبن، ويكثر العطاء، لأن شيئاً في أعماقه يدفعه إلى ذلك، لأن روحه الكريمة السخية تجزل العطاء، لأن عطاؤه نابع من قلبه،.. وهو ثانياً: العطاء العملي، إذ قدم برزلاي وأصدقاؤه لداود ومن معه: "فرشا وطسوسا وآنية خزف وحنطة وشعيراً ودقيقاً وفيركاً وفولاً وعدساً وحمصاً مشوياً وعسلاً وزبدة وضاناً وجبن بقر"... وألغب الظن أن من يسخو في العطاء، لا يتكلم كثيراً،... سقطت الآنية من الغلام الصغير وقد تحطمت وما بها من لبن، وهو يبكي لأنه يخشى عقاب سيده إذا ذهب إليه فارغاً من غير إناء، ومر الناس بالغلام الصغير، بعواطف متعددة مختلفة، فمنهم من لامه لأنه لم يحرص على الإناء، ومنهم من هز رأسه ومضى، ومنهم من رثى له بكلمات عابرة، لكن واحداً وقف وجمع له أكثر مما ضاع منه، وكان ولا شك أفضل الجميع،.. أليس هذا ما ردده الرسول يعقوب في قوله: "إن كان أخ وأخت عريانين ومعتازين للقوت اليومي فقال لهما أحدكم امضيا بسلام استدفئا واشبعا ولكن لم تعطوهما حاجات الجسد في المنفعة".. وثالثاً: كان عطاء برزلاي العطاء السخي، لقد وصف بالقول: "وهو عال الملك عند إقامته في محنايم"... أي أن العطاء لم يكن ليوم أو لأيام قليلة بل امتد إلى زمن غير قصير، ولم يتبرم الرجل أو يتراجع عن المساعدة والمعونة، بل بالحري أدرك رسالته، لقد أعطاه الله الكثير، وهو لا يمكن أن يعطي بالشح أو البخل،.. إنه ذلك النوع من الرجال الذي يؤمن بأنه ليس بئراً يخزن الماء حتى يصبح آسناً، بل أنه النهر المتدفق الذي لا يكف عن العطاء أو الإرواء،.. جاء في أساطير القدماء أن شيخاً من شيوخ القبائل حفر بئراً، وأصدر أمراً بأنه لا يجوز لأحد أن يشرب من البئر غيره وغير أسرته، وإذ به يجد أن البئر جفت ولم تعد تعطي الماء، فأتى بالعرفاء ليسألهم كيف يأتي الماء إلى البئر،.. فقالوا له: إن البئر لن تفيض حتى يشترك الناس مع الشيخ في الانتفاع بها، فأصدر أمراً بأن يشرب هو وبيته من البئر نهاراً، ويشرب الناس منها في الليل، وتعجب أن الماء جف في النهار، وغزر في الليل، فعكس الوضع إذ أصدر أمره بأن يشرب الناس في النهار وهو في الليل،.. وإذا بالماء يأتي في النهار، لينتهي في الليل،.. وتعلم من ذلك أن المشاركة الدائمة هي التي تعطي النبع فيضه الكريم.. كان مال برزلاي أصلاً مثل مال أيوب عندما قال"إن كنت منعت المساكين عن مرادهم أو أفنيت عيني الأرملة أو أكلت لقمتي وحدي فما أكل منها اليتيم بل منذ صباي كبر عندي كأب ومن بطن أمي هديتها إن كنت رأيت هالكاً لعدم اللبس أو فقيراً بلا كسوة إن لم تباركني حقواه وقد استدفأ بجزه غنمي إن كنت قد هززت يدي على اليتيم لما رأيت عوني في الباب فلتسقط عضدي من كتفي ولتكسر ذراعي من قصبتها".. وقد تعلم برزلاي من صغره أن تكون يده كريمة فياضة مبسوطة لا يقبضها عن بائس أو مسكين، وعندما جاء الملك ومن معه، سخا برزلاي إلى آخر حدود السخاء والعطاء والكرم!!... في ساحة كنيسته كتبت هذه العبارة: ما أعطيه أملكه. وما أحتفظ به أفقده!!... وكان عطاء برزلاي رابعاً: من غير مقابل، فالرجل لم يعط كما يعطي بعض التجار إذ يقدمون عطاياهم أو هداياهم على أمل التعويض المتكاثر من الصفعة أو الصفعات التي تلحق ما يقدمون أو يعطون، إنه على العكس من ذلك يعطي عطاء الآباء أو المحبين،.. والأب الذي يكد ويجتهد ويأخذ أجره أو عائده، لا شيء عنده أبهج أو أسعد من أن يعود إلى البيت محملاً بالخيرات والعطايا لزوجته وأولاده، ولا شيء يعمق الفرح في قلبه أكثر من رؤيتهم سعداً مبتهجين، بما يأخذون أو ينتظرون،.. والمحب كم يسعده أن يتمتع الحبيب بما يقدم له يجزل من هدايا وعطاء!!...
وكان عطاء الرجل القديم آخر الأمر عطاء المسعد للآخرين!!... لقد جاءت عطيته في وقتها. والناس ملوكاً أو صعاليك يحتاجون بعضهم للبعض، والزمان دوار، والملك الآن في مركز الشريد الطريد الصعلوك، المحتاج إلى أقل مساندة أو مساعدة، وعندما هزمت الثورة، وعاد الملك إلى مجده.. تغير الوضع، وعرض على برزلاي أن يجزل له العطاء،.. على أن داود لم يسعد بالعطاء المادي، وهو في ذله وهوانه فحسب، بل سعد أكثر بالعطاء المعنوي الذي يرمز إليه العطاء المادي،.. لقد كانت نفس داود منحنية أشد الانحناء، وكان السؤال الذي ربما سأله لنفسه عشرات المرات!!.. هل تخلى الله عنه في الثورة؟!!.. وهل أقام ابنه ضده لكي يعاقبه دون رقة أو رحمة أو شفقة؟!! وجاءته عطايا برزلاي ومن معه، كالنسمة الحلوة الهادئة الرقيقة لنفسه المتعبة!!... لقد أدرك بأن الله لم يتخل عنه قط وقد أرسل له في هذه العطايا كأس الماء البارد الذي تحتاجه شفتاه الظامئتان الملتهبتان من الضيق والظمأ، وأدرك أن الله في الغضب يذكر الرحمة... ومن المؤكد أنه شكر الله، لا على ما قدم برزلاي من مادة، بل على ما أظهر من مودة وحنان ورقة ولطف وشركة،.. وكانت هذه جميعاً عنده أعظم وأكرم،.. وهل من شك في هذا؟ لقد استنشق المسيح طيباً أعبق وأسمى، ومريم أخت لعازر تسكب على رأسه قارورة الطيب التي ملأت رائحتها المكان،… لقد استنشق طيب الحب والحنان والولاء والتكريس، والذي لا يمكن أن يباع بذهب الدنيا كلها!!.. وغنى بولس على هذا الأساس وهو يلمس بيديه عطايا الفلبيين وهو يقول: “قد امتلأت إذ قبلت من ابفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة مرضية عند الله”… ودع داود برزلاي بالقبلة والبركة وهما يفترقان على ضفاف الأردن، ولست أعلم مدى الانفعالات التي كانت تملأ نفسه في ذلك الوقت، لكني أعلم أنه انفعل ذات مرة وهو يمسك بين يديه جرعة الماء التي جاءته من بئر بيت لحم، البئر التي تعود أن يشرب منها وهو صبي صغير، ورأى في تلك اللحظة، أن الماء أقدس من أن تتناوله شفتاه، فسكبه سكيباً وهو يغادر محنايم، وقد وقف برزلاي ومن معه يودعونه، رأى فيها جيشاً من الملائكة –وكانوا هذه المرة من بشر- يختلف عن ذلك الجيش الذي رآه جده يعقوب مرسلاً من الله لمعونته، ولكنه في كلا الحالين كان بسمة الله للنفس المتضايقة المكنوبة المتعبة في الحياة!!…
برزلاي الشيخ العجوز
والآن نأتي إلى حديث الوداع بين الشيخ العجوز وداود، لنرى فيه صورة رائعة لهذا الشيخ، وهو يتحدث بمنطق الشيخوخة التي وصل إليها،.. ولعلنا نستطيع أن نرى هذا أولاً إذا ذكرنا: الشيخ والبقية الباقية من العمر إذ يقول لداود وقد طلب إليه أن يذهب معه إلى أورشليم: "كم أيام سني حياتي حتى أصعد مع الملك إلى أورشليم"... كان هذا الشيخ يمد بصره إلى الغروب البهيج الذي تدنو شمسه منه، بلمعان ذهبي،.. وهو يذكر الأيام القليلة الباقية قبل مجيء الغسق بنفس راضية،.. وهو ليس من ذلك الصنف من الشيوخ الذي كلما اقترب من النهاية، كلما حاول تجاهل هذه الحقيقة، وظل على بحثه في تزايد المركز أو الجاه أو الثروة، لقد أدرك برزلاي أنه "غريب ونزيل في الأرض" وهو ينبغي أن يتصرف به الغريب النزيل في قصة طريفة أن أحد الدراويش طرق قصر الملك، وإذ خرج الحراس طلب منهم أن يبيت في المكان، إذ هو فندق، فقالوا له: ليس هذا فندقاً، بل هو قصر الملك، ولكنه أصر على أن المكان فندق، وبينما هم يتجادلون ويتنازعون، جاء الملك ليؤكد للرجل أن هذا قصر وليس فندقاً، ويؤكد الرجل العكس، وأخيراً قال الدرويش للملك.. من الذي سكن هذا المكان قبلك؟!! فقال الملك: أبي.. فقال الدرويش: وأين أبوك؟!! وأجاب الملك: لقد رحل من العالم!! فقال الدرويش: ومن كان قبل أبيك.. فقال: جدي!!.. وأين هو الآن؟!! وكان الجواب: لقد رحل من قبل أبي!!.. وقال الدرويش: ألم أقل لك أنه فندق.. وليس قصراً؟!!.. في قصيدة: "لست أدري" للشاعر إيليا أبو ماضي، والتي فيها صور نفسه يناجي البحر قال:
كم ملوك ضربوا حولك في الليل القباب
طلع الصبح عليهم لم يجد إلا الضباب...
ألهم يا بحر يوماً رجعة أم لا مآب؟..
فأجاب البحر: إني لست أدري!!..
وفي عرف الشاعر أنه لا فرق بين القباب والضباب، وكان هذا ما يعنيه برزلاي الجلعادي، وهو يتحدث إلى داود عن الأيام القليلة الباقية له من العمر!!.. وكان برزلاي ثانياً: الشيخ الشبعان من الأيام، الذي لا يأسف على ما أخذت الأيام معها -كما يفعل الكثيرون من الشيوخ- لما ضاع من أجسادهم من قوى بدنية، أو عقلية، أو عدم قدرتهم على التذوق الحسي أو العاطفي، فهو وإن كان لا يستطيع التذوق إلى حد الاستطعام بما يأكل أو يشرب، أما سماع أصوات المغنين والمغنيات، فهو لا يأسف على هذا، أو يتشبث به، فلكل وقت وقته، وهو يستبدل بهذه أشياء أخرى أسمى وأعلى وأكمل، لأنه على حد قول الرسول: إن كان إنساننا الخارج يفنى فإن الداخل يتجدد يوماً فيوماً،.. وعند برزلاي من الرؤى الداخلية، والشركة الحية التي تربطه بالله، والمتع العميقة للمعنى الروحي الأعلى للحياة، ما يتفوق على أعظم الرؤى الأرضية، وأشهى الأطعمة، وأرق الموسيقى، وأرخم الأصوات بين المغنين والمغنيات،.. وأي جمال يمكن أن يداني جمال الشيخوخة التي لا تعيش متذمرة على ما فاتها من صحة أو قوة أو أرضيات، لتعيش الغروب في صحبة الله، حتى تأتي اللحظة الرائعة المجيدة، لحظة الانطلاق!!..
عندما كتب أفلاطون جمهوريته، ذكرنا بالشيخ العجوز ثأوفيلس، الذي أقام فلسفته على أن ما أضاعه من قوى الشباب لم يكن ضربة أصابته، بل بالحري كان تحريراً لنفسه لما هو أعلى وأسمى،.. فإذا صح أن الخيال الوثني يمكن أن يبلغ هذا المبلغ، فكم بالأحرى الشيخ العجوز الجليل الذي يعيش حياته مع الله، ولو طعنت به الأيام وامتد به العمر على الأرض!!.. وكان برزلاي ثالثاً: الشيخ الرافض الرقيق الاعتذار في رفضه،.. وهو يقدر ولا شك عرض داود، وهو يذكر المعاني الرقيقة العميقة الممتليء بها، إلا أنه يرفض برقة وولاء وأدب، ويعطي نموذجاً للأدب الرقيق الرافض، وهو يريد أن يذكر داود بجلال الرفض الذي ينبغي أن يتمسك به الشيخ، وهو يرفض المسرات والملذات والمباهج والمراكز والثروات المتزايدة وما أشبه، لا لأنها في حد ذاتها شر أو خطأ، ولكن لأن التربة القديمة لم تعد تصلح لزرع جديد،.. إن برزلاي سيبقى إلى جوار أرضه القديمة، يرعاها على قدر ما يتمكن من جهد أو تعب، دون أن يرهق نفسه بتوسعات انتهى أمرها، ولم تعد تصلح إلا أن تكون عبئاً عليه أو على الآخرين: "فلماذا يكون عبدك أيضاً ثقلاً على سيدي الملك".. ولقد كان الرجل موفقاً ودقيقاً إزاء إلحاح الملك إلى أن يبين أن ما يصلح مع كمهام ابنه الشاب لا يمكن أن يصلح معه وهو شيخ.. وما أعظمه من شيخ ذلك الذي يحسن التفرقة الذهنية والعلمية بين الشيوخ والشباب،.. ولعله أكبر خطأ يمكن أن يتردى فيه إنسان أن لا يجيد التفرقة بين الأجيال والأعمار المختلفة في حياة الناس، وما أكثر ما يفشل الشيوخ الذين لا يدركون هذه الحقيقة، ويستولى عليهم الحزن واليأس وانكسار القلب، لأنهم يطلبون لأنفسهم مطلب الشباب دون جدوى، أو لأن الشباب من أبنائهم وذويهم، على العكس، لا يعيشون كما يتخيلون هم أو يتصورون كشيوخ!!.. وهم أعجز من أن يعبروا البرزخ الذي يفصل بينهم وبين الشباب،.. وعلى أي حال إن برزلاي يعطي أبدع نموذج وأروع مثال للقدرة في التوفيق بين التحية الرقيقة والرفض المهذب،.. وهو يذكرنا بهذا بالأعظم الذي قيل عنه: "أعطوه خلا ممزوجاً بمرارة ليشرب، ولما ذاق لم يرد أن يشرب"... لقد كان الخل الممزوج بمرارة، نوعاً من المخدر تقدمه جميعة من بنات أورشليم لكل محكوم عليه بالموت، وقيل إن الأصل التاريخي لذلك ما ورد في سفر الأمثال: "أعطوا مسكراً لهالك وخمراً لمري النفس يشرب وينسى فقره ولا يذكر تعبه بعد" أو هو يشبه ما يقدم في العصور الحديثة للمحكوم عليه بالإعدام مما يطلبه قبل أن يموت،.. وقد رأى المسيح في هذا رقة يجمل أن يقدرها بالتذوق، للمعنى الإنسان الرقيق العميق، الذي يرغب في تخفيف آلام المحكوم عليهم بالإعدام،.. وفي الوقت عينه يرفض أن يتناول ما يخدر به آلام الصليب، التي لابد أن يحتملها بكاملها دون أدنى تخفيف أو تخدير!!.. وهو مثل يعملنا الأدب عندما نقصد أو نرفض ونقول كلمة: لا.. وعندما نقدر الدافع الذي يدفع من يقدم شيئاً لنا، يمكن أن يكون خاطئاً أو غير مقبول!!... وكان برزلاي رابعاً: الإنسان الذي يحسن الرجوع إلى الماضي بذكرياته الحلوة الجميلة: "دع عبدك يرجع فأموت في مدينتي عند قبر أبي وأمي".. لقد عاد الرجل بذكرياته إلى الأيام الهانئة الطويلة التي قضاها، وهو يعبر قصته الأرضية، عاد إلى أبيه وأمه اللذين فارقهما منذ زمن بعيد،.. وهو يذكر قبرهما الذي سيضمه بعد زمن لن يكون على الأغلب طويلاً،.. عاد الرجل إلى دفء الذكريات، وما أحلاها من ذكريات، ونحن نسير في ثقل الحياة، ومتاعبها وآلامها ومعاركها،.. قال واحد من عظماء الناس: من يعود بي مرة أخرى إلى أحضان أمي؟! ولعله كان يذكر أحلى الأيام الخالية من الهموم والقلق والمتاعب والأحمال، عندما كان صبياً صغيراً، تضمه أحضان أمه بكل ما فيها من حنان وحب وبساطة وهدوء، كأجمل مكان يستعذبه الإنسان في الأرض!!.. ولكن إن عز علينا أن نجد المكان، فإنه لا يعز علينا أن نعود بالذكريات الحلوة الجميلة المبهجة للأيام القديمة!!.. إن الشيخ يستطيع أن يغالب قسوة الحاضر، بالعودة بالخيال الحلو الجميل للماضي البهيج،.. وهذا الخيال لا يمكن أن يعوقه معوق، حتى ولو دخل المرء إلى الزنزانة القاسية،.. وقد استطاع بولس في سجنه أن يعود إلى دموع تيموثاوس يوم الوداع، وأن يذكر الصحاب الأوفياء، الذين أحبوه، ووجد فيهم من قدم عنقه من أجله،.. وكانت هذه الذكريات هي أحلى ما ذكره الرجل، وهو على قيد خطوات قصيرة من الرحلة القاسية الأرضية!!.. على أن برزلاي لم يتجه بفكره إلى الماضي البعيد القديم،.. لقد حول عينيه أيضاً إلى المستقبل الأكثر لمعاناً من كل قصور داود وأبهائه ومجده،.. إنه يتطلع إلى بيته الأبدي، إلى المدينة التي لها الأساسات، وهو لا يمكن أن يتحدث عن المستقبل كمجرد عظام ينضم فيها في قبر إلى عظام أبيه وأمه في أرض جلعاد... إن هناك شيئاً أغلى وأسمى عند الرجل القديم،.. إنه الطائر الذي يحلق، وقد اقترب المساء، فهو يسرع إلى عشه، حيث هناك الراحة، والأمن والهدوء والاستقرار، إن لبرزلاي قصراً أمجد من كل قصر أرضي في جلعاد أو في أورشليم الأرضية، ولعله يقول ما قاله آخر وهو شيخ كان يودع العالم: "إني أدنو من الخطى الأخيرة، في غربتي على الأرض، وها هي شمسي تسرع إلى المغيب، وتغطي الفضاء بمجد لامع،.. وها بيت أبي يشع بنوره أمام عيني، وبابه المفتوح يدعوني إلى الدخول إلى الوطن بنفسي راغبة، وكل كنوزي الغالية، وكل أشواقي العميقة قد شحنت قبلي، وها أنا على الجناح الطائر لألحقها هناك".. فإذا كان هناك من شيء أخير يهتم به برزلاي، فهو أن تمتد قصته بكل ما فيها من نبل وجمال وأمانة ومكافأة إلى ابنه كمهام!!... فإذا راق لداود أن يفعل شيئاً له، فهل يقبله ممتناً شاكراً إذ يفعله مع ابنه كمهام، وغريزة الشيخ تنفعل هنا، مع أجمل وأرق وأعمق العواطف البشرية، إنك تحسن إليَّ بما تقدمه لابني، وتسعدني بما يسعد به أولادي من بعد!!.. وتدفع نفسي لترضى حياً أو ميتاً بما يمكن أن تصنعه مع من يخلفوني على هذه الأرض!!... وهكذا يدرك الرجل أن الله لا يرجيء المكافأة كلها لما بعد الوفاة، بل إن الخير لابد أن يكافأ هنا في هذه الأرض... قبل أن نحصل على المكافأة الكاملة في السماء: "فأجاب بطرس حينئذ وقال لها ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا فقال لهم يسوع الحق أقول لكم إنكم أنتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً على اثنى عشر كرسياً تدينون أسباط إسرائيل الاثنى عشر وكل من ترك بيوتاً أو إخوة أو أخوات أو أباً أو أماً أو امرأة أو حقولاً من أجل اسمي يأخذ مائة ضعف ويرث الحياة الأبدية"..!!
المزيد
03 يوليو 2021
بناتنا على مثال أعمدة في الكنيسة
ربِّي ابنة مقدسة وسط عالم غير مقدَّس
"لتكن بناتنا جميلات مزيَّنات على مثال أعمدة الهيكل." (مز 143: 12و13 - الترجمة السبعينية) "ولا تكن زينتكن خارجية من ضفر الشعر، والتحلِّي بالذهب، ولبس الثياب؛ بل بما في باطن القلب، من زينة نفس وديعة مطمئنة لا تفسد، وثمنها عند الله عظيم." (1بط 3: 3و4 - الترجمة الجديدة)إن الوسط الذي تواجهه ابنتكِ هو وسط مُناقِض للقيم الروحية الإلهية. وكم من البنات يتغذَّيْن على هذا الوسط بمنتهى البساطة والسذاجة، فيفقدن فضائلهن على المدى القريب والبعيد. ولكنكِ كأُم (أو كخادمة الفتيات والشابات في الكنيسة) يمكنكِ أن تساعدي ابنتكِ لتُقاوِم الوسط بما يحمله من ثقافة الأنانية والخطية والعشوائية في الحياة، لكي تحيا الحياة المقدسة التي يشاء الله لها أن تعيشها، فتكون ابنتكِ عموداً في الكنيسة وشجرة مثمرة لله وللأسرة والمجتمع كله، يفرح بها الجميع، ويُمجِّدون الله بسببها.وهذه بعض الإرشادات التي بها يمكن أن تربِّي ابنتكِ وتنشئيها لتكون قديسة وسط عالم غير مُقدَّس:
1. معركة التربية تستدعي منكِ اليقظة والتأهُّب:-
إن التربية الروحية هي معركة وليست نزهة. فأولاً لا تستسلمي للواقع، وتتركي ابنتكِ تتغذَّى على الثقافة الخاطئة المدمِّرة السائدة وسط عامة الناس والمسيطرة على حياتهم وأفكارهم. اعزمي على أن تستثمري أكثر جهد ووقت ممكنَيْن لتُدرِّبي ابنتكِ على مقاومة هذه الحياة الخاطئة، وذلك أولاً بتقديم الحقائق الإلهية التي أعلنها لنا الله في شخص ربنا يسوع المسيح.
2. استثمري ما وضعه الله فيكِ من طاقة الأمومة:-
اعرفي ما فيكِ من طاقة قوية كأُم يمكنكِ بها أن تؤثـِّري في ابنتكِ. قدِّمي لها أولاً نمط حياة الإيمان العامل بالمحبة، وناقشي معها بانتظام أساسيات الحياة المقدسة كما وردت في الكتاب المقدس وحياة القديسة العذراء مريم وسِيَر القديسات والشهيدات (نفترض طبعاً أنكِ قارئة ودارسة للكتاب المقدس ومتشبعة بحياة النعمة التي كانت في نساء الكتاب المقدس وقديسات الكنيسة). وتشبَّهي بأُم القديس تيموثاوس وجدَّته كما ذكر وذكَّر القديس بولس تلميذه تيموثاوس فضائلهما: "إذ أتذكَّر الإيمان العديم الرياء ... الذي سكن أولاً في جدَّتك لوئيس وأُمك أفنيكي." (2تي 1: 5)
3. ربِّي ابنتكِ على حياة الشركة داخل البيت أولاً:-
من العيوب المدمِّرة في مجتمعنا عموماً شيوع الروح الفردية والأنانية. فالأُم تريد أن تُعطي ابنتها كل ما تطلبه مهما كانت ظروف الأهل الاقتصادية، ومهما كان ما تطلبه الابنة غير ضروري ولا غير موافق لتربيتها. وقد تحتج الأُم بأن ذلك يُعبِّر عن محبتها لابنتها إذا لبَّت كل طلباتها خوفاً من شماتة أو استهزاء زميلاتها أو جيرانها إلى آخر هذه الأسباب التي لا علاقة لها بحياة التقوى وعيشة الكفاف وسيرة القداسة التي يجب أن نربِّي أولادنا وبناتنا عليها. هذه روح فردية أنانية تطلب ما لنفسها، وحتى الأُم قد تفتخر بابنتها أمام الآخرين فيما تلبسه أو تقتنيه أو تتزيَّن به.لابد أن تربِّي ابنتكِ على حياة الشركة حتى تحس معكِ بظروف الأسرة الاقتصادية. ولكن حتى إن كانت الظروف مواتية ومُيسَّرة، فحذار من الإغداق وتلبية كل طلبات الابنة إن كانت غير لازمة، أو إذا كان فيها ضرر محتمل لحياتها وسلامة تربيتها. وليكن ذلك بتفاهم واقتناع متبادَل بينك وبين ابنتكِ، وليس قسراً وفرضاً. إن تربية ابنتكِ على حياة الشركة ستثمر في حياتها هي أيضاً بعد أن تصير زوجةً وأُماً.
4. التحقُّق من التأثيرات الخارجية:-
تحقَّقي من التأثيرات الخارجية على ابنتكِ. اعرفي صديقات وأصدقاء ابنتكِ: مَن هم، وأية قِيَم ومبادئ وأنماط حياة يعتنقونها. ساعدي ابنتك على التخلُّص من التأثيرات السلبية التي تتعرَّض لها، ثم على بناء مجموعة من خيرة الصديقات والأصدقاء. واعلمي أن الصداقات غير المتوافقة مع حياة الكفاف والعفاف والقداسة كفيلة - بعد حين - أن تُحوِّل حياتكِ وحياة ابنتكِ إلى جحيم ربما لن يمكنكِ النجاة منه.وفي مجال المؤثـِّرات الخارجية: ذلك الصديق العدو الذي يقبع داخل البيت - أعني التليفزيون ومثيله الكمبيوتر - فاجعلي لهذين الجهازين حدوداً لأنواع المشاهدات من برامج وأفلام وعروض وموسيقى تسمحين لها بمشاهدتها. ونفس الأمر يسري على المجلات والكتب ومواقع الإنترنت التي تقع في متناول ابنتكِ. وتناقشي مع ابنتكِ فيما تشاهده وتقرأه من وسائل الإعلام والمعلومات المختلفة، سواء من جهة محتوياتها أو المبادئ التي تُروِّج لها، وتكلَّمي معها بمحبة وتفاهُم عن مدى توافقها مع أساسيات وأخلاقيات إيمانها وسلوكها وحياتها المسيحية. اجعلي ابنتكِ صريحة معكِ دون أن تخشى مصارحتكِ بكل هذا دون خوف منكِ.
5. الشجاعة في مواجهة الانجراف والانسياق:-
ساعدي ابنتكِ على أن تكون شُجاعة في مواجهة الانجراف والانسياق وراء التطبُّع مع أخلاقيات الوسط الذي تعيش فيه دون تروٍّ، بل بانتقاءٍ واختيارٍ مبنيَّيْن على الإيمان والحياة المسيحيَّيْن. علِّمي ابنتكِ كيف تكون في العالم، ولكن دون أن تكون من العالم، كما أوصى المسيح تلاميذه (يو 15: 19). علِّميها كيف تتغيَّر دائماً بتجديد ذهنها لتعرف أكثر فأكثر ما هي مشيئة الله الصالحة (رو 12: 2). علِّميها واشرحي لها لماذا وضع الله الأساسيات الأخلاقية للتمييز بين الخير والشر حتى تُميِّز أفكار العالم الفاسدة التي تعتبر الخطية والرذائل مجرد أنماط للسلوك الفردي الحر والسائدة الآن في أوساط الشباب (وهو ما يُعبَّر عنه بالنظرة النسبية للسلوك relativism).
وهنا لابد من أن تكون حياتكِ أنتِ وسلوككِ أنتِ صورة دقيقة مُطابقة لكلمة الله ووصايا الإنجيل وفضائل القديسات والقديسين. وإذا حدث أن كان لكِ تصرُّف أو سلوك غير مُطابق لإيمانك، فلا تخجلي أو تتأخَّري في التراجُع عنه أمام ابنتكِ مع الاعتذار عنه باعتباره سلوكاً خاطئاً لا تريدين أن ابنتكِ تقتدي به. واطلبي من الله أن يُساعدك لتعيشي وتسلكي أنتِ أيضاً بحسب إنجيل المسيح: "فقط عيشوا كما يحق لإنجيل المسيح." (في 1: 27)
6. لتعلَم ابنتكِ قيمة نفسها وكفاءتها في المسيح:-
علِّمي ابنتكِ كيف تُحدِّد القيمة الحقيقية لنفسها. اشرحي لها أن مقاييس العالم لتحديد قيمة النفس لا تصلح للمؤمن المسيحي. إن قيمة نفس ابنتكِ - وليتها تؤمن بذلك - هي مستمدة من النعمة الفائقة للطبيعة التي أغدقها المسيح على الإنسان بتجسُّده وأَخْذه طبيعتنا البشرية لنفسه، ثم بإنعامه على الإنسان بالتبنِّي لأبيه الصالح، وإلباسه الفضائل الإلهية، وباتخاذ المسيح للبشر إخوة له، وباقترانه بالنفس البشرية لتكون عروساً له. هذا المجد العظيم والنعمة الجزيلة نالها الإنسان عن فضلٍ من الله ونعمة مجانية منه.فإذا عرفتْ ابنتكِ هذا، وأن الروح القدس الذي نالته وسكن فيها يوم معموديتها ومَسْحها بالمسحة المقدسة، وتتأجَّج ناره المقدسة في كل مرة تتناول فيها من جسد الرب ودمه الأقدسين؛ فإنها لا شكَّ سوف تحرص على هذه النعمة وتحفظها من أي دنس خارجي، وسوف تتحقَّق أن هذا الجمال الإلهي الذي أنعم به الله عليها هو مُخَبَّأ داخل نفسها ويُستعلَن جهاراً في حياتها وسلوكها ووجهها وحركاتها وسكناتها.
لذلك لابد أن تعرف أن جمالها وقيمتها الحقيقيَّيْن لا ينبعان من مظاهر خارجية مصطنعة يضعها الناس على أجسامهم (لأن الله ينظر إلى القلب الداخلي أكثر من المظهر الخارجي)، وقيمتها تنطق لا من خلال ما تفعله (لأن الله يهتم لا بما تعمله، بل بما هي عليه بسبب نعمته التي أعطاها للإنسان في المسيح)، ولا بما يقوله الناس عنها أو يفكِّرون فيه بشأنها (لأن ما يهمها ويهم الله هو ما يقوله الله ويراه ويُفكِّر فيه عنها، وما يشهد به ضميرها المسيحي). أخبري ابنتكِ، بأن مقاييس الله هي الصحيحة والصائبة دائماً: إن قيمتها تكمن في مقامها ومكانتها التي وضعها الله فيها بواسطة المسيح.
7. بدِّدي الخرافات الشائعة حول الجنس:-
بدِّدي وادحضي الخرافات الشائعة عن الأمور الجنسية عن طريق تعريفها بالحقائق. واعلمي أنتِ، أنكِ يجب أن تكوني المصدر الرئيسي للمعرفة الجنسية لابنتكِ. واجتهدي أن تُزوِّديها بأصدق كمٍّ من المعلومات الدقيقة حول هذا الموضوع. بدِّدي من ذهنها الأكاذيب حول الاستهتار بأية علاقة غير شرعية قبل الزواج تحت أية دعاوى كاذبة بأن "الجميع يفعلونها"، أو "ما المانع من فعلها مع مَن أُحبه وسأتزوَّجه"، وغير ذلك مما بدأ يشيع في أوساط الشباب. وحتى إذا امتنعت الفضيحة بالوسائل الطبية، فلن يمتنع الضرر النفسي والأذى الجسدي، والذي قد يُبعد الشباب الطاهر عنها. اكشفي لها عن سموِّ حياة الطهارة والعفة وضرورتها لسلامة حياتها الزوجية والعائلية في المستقبل؛ وأن جسدها الساكن فيه روح الله ليس مُباحاً مُستباحاً، فهو وديعة من الله لها ولِمَن سيكون زوجها في المستقبل الذي قد يُحجم عن الاقتران بها بسبب أية إشاعات عن عدم طهارتها.وعلِّمي ابنتكِ أن العفة والطهارة ليستا قاصرتَيْن على الفعل الجنسي؛ بل على كل الملامسات الجنسية الأخرى. اجعليها تُقدِّم نذراً شخصياً لله أن تحفظ عفتها لسرِّ الزيجة، وأن تكون صديقاتها وأصدقاؤها لهم نفس النذر. وعلِّميها أن الله وضع الغريزة في أجسادنا كشيء حسن وجميل من أجل حياة الشركة التي ستعيشها مع زوجها وأطفالهما. أما إذا أُسيء استعمال هذه الغريزة أو استُعملت في غير موضعها ووقتها، فسوف يكون لها نتائج جسدية وعاطفية وروحية مُدمِّرة على حياتها فيما بعد.
8 . الحشمة في اللبس والتزيُّن يحمل تمجيداً لله:-
شجِّعي ابنتكِ على اللبس المحتشم. اشرحي لابنتكِ لماذا يكون لباس الحشمة وسيلة هامة في تمجيد الله عـن طريق الجسد الذي وهبه الله لكِ وشرَّفكِ وقدَّسكِ بحلول روحه القدوس فيكِ. بينما يكون اللباس المتبرِّج والزينة المصطنعة الصارخة بمثابة إهانة لله من خلال كشف هذا الجسد، لأن هذا اللبس غير المحتشم يكون بمثابة رسالة صامتة ودعوة خفية للشهوانيين لكي يُفكِّروا بالشهوة تجاهها. ولتعلم ابنتكِ أن اختيار الملابس المحتشمة هو أحد الأركان الهامة لاحترامها كشخصٍ مخلوق على صورة الله في الجمال والقداسة الحقيقيَّيْن. صلِّي لله كثيراً أن يُعطي لابنتكِ الثقة في النفس التي تحتاجها لتتفادى محاولة جذب الانتباه بالطريقة الخاطئة، أي باللبس غير المحتشم لعرض جسدها وكسب استحسان الآخرين.
9. بدِّدي الأحلام الزائفة عن الزواج:-
ساعدي ابنتكِ لكي تميِّز بين الحقائق والخيال حول الحياة الزوجية. ساعديها لكي تحذر من الوقوع في أكاذيب الحياة اليومية الشائعة بأن العثور على عريس أحلامها سوف يوفِّر لها الحياة السعيدة إلى الأبد. وأفهِميها أنها إذا انتظرتْ عريساً غير مستحق، ولكن سيُحقِّق لها أحلامها؛ فسيكون ذلك فيما بعد وبالاً عليها. أخبريها أن محبة المسيح هي وحدها - إذا ملأت قلبيهما - سوف تشيع السعادة الحقيقية في بيتهما. شجِّعيها أن تطلب احتياجاتها الأساسية من خلال شركتها الشخصية مع المسيح، وليس بأن تطلبها من خلال العلاقات الرومانسية الزائفة. اجعليها أن تعرف بأنه من غير المعقول ولا المناسب أن تضع عبء سعادتها الشخصية على عاتق شخص آخر (عريسها المنتظر). علِّميها أن تتحقَّق من أن الزيجات الصحيحة تقوم على الحقائق وتستلزم الوقت الكافي والجهد الشاق من كِلاَ العروسين بهدف التزامهما معاً بحياة الشركة بحلوها ومرِّها.
10. الحذر من المقابلات والتنزُّه والرحلات غير المتوافقة:-
يجب أن تُرتِّبي أنتِ خطة للتلاقي بين ابنتكِ وصديقاتها وأصدقائها. وليكن تنفيذ هذه اللقاءات والمقابلات في الوقت الذي تصل فيه ابنتكِ إلى السن الملائم للقيام بمثل هذه اللقاءات. لا توافقي على اللقاءات لمجرد المرح أو لمجرد التنزُّه. وعلِّميها أن مثل هذه اللقاءات ليست بالأمر السهل العابر، بل إن حدوثها عشوائياً وبغير ترتيب يؤدِّي إلى مضاعفات لا يمكن إيقافها. اجعليها تتفادى أي لقاء يقوم على المشاعر والعواطف وليس على سبب جدِّي مسموح به.
وفِّري على ابنتكِ الكثير من المشاكل والصداع الذي يترتَّب على اللقاء والصداقات مع غير المؤمنين حقاً بالمسيح (حتى ولو كانوا مسيحيين بالاسم، وهنا نُحذِّر من شيوع الاختلاط غير المقنَّن وغير الموجَّه داخل اجتماعات الشباب في الكنائس، وكذلك الرحلات والأنشطة المختلطة لمجرد أن أعضاءها مسيحيون بالاسم).
11. المحبة والرحمة مقابل سوء المعاملة:-
ساعدي ابنتكِ على أن تتصرف مسيحياً داخل شلة صديقاتها وأصدقائها. فتستخدم المحبة والرحمة في مواجهة المعاملة غير الكريمة. ساعديها على أن تتأكَّد من أن شلَّة صديقاتها وأصدقائها ليست منغلقة على نفسها (أي تستبعد الآخرين وتتصرَّف بتعالٍ مع أي شخص ليس منها). فإذا حدث أن فتاة أخرى أساءت إليها، علِّميها أن تصلِّي من أجل هذه الفتاة، طاعةً لوصية المسيح: "صلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم..." (مت 5: 44) حتى تتشجَّع ابنتكِ وتؤدِّي لهذه الفتاة أي عمل خير، عالمة بأنها بتقديمها المحبة والرحمة قد تغيِّر قلب هذه الفتاة. شجِّعي ابنتكِ أيضاً على عدم الاشتراك في ترويج الإشاعات حول الآخرين حتى ولو كان الكل يفعلون ذلك. ساعديها أن تتفادى الغيرة والحسد من البنات الأُخريات، واثقة أنها تقتني مركزاً خاصاً لدى الله، وكذلك كل واحدة من البنات الأُخريات. علِّميها أن تتفادى هاتين الرذيلتين: الحسد والغيرة، قبل أن تتطوَّرا إلى ما هو أسوأ.
12. علِّمي ابنتكِ وسلِّميها المحبة والثقة في الإنجيل:-
ساعدي ابنتكِ منذ نعومة أظفارها على أن تعرف الإنجيل وتحبه وتثق فيه باعتباره إعلان الله عن محبة الله الأبدية لنا. اشرحي لابنتكِ عملياً كيف أن الإنجيل ليس مجرد كتاب كسائر الكتب الممتلئة بالقصص الجميلة والمبادئ السامية؛ بل هو إعلان الله للبشر، وطريق الله للخلاص، والبشارة بتدبير الله لتجسُّد ابنه يسوع المسيح. وعلِّميها كيف أن حقائق الإنجيل يمكن الاعتماد عليها في حياتها اليومية، وهي مدعَّمة باختبارات رجال الله القديسين ونساء الله القدِّيسات مما نسمع عنهم وعنهن في الكنيسة من خلال قراءات السنكسار.واذكري لها بين الحين والآخر كيف أن حقائق الإنجيل متوافقة مع خير حياتها اليومية، وعلِّميها كيف تطبِّق الإنجيل في سائر نواحي حياتها اليومية. واشتري لها إنجيلاً ليكون خاصاً بها، وعلِّميها كيف تقرأ فيه بانتظام كغذاء يومي، وكيف تتأمل في كلماته وآياته لمنفعة نفسها، وكيف تحوِّل قراءاتها فيه إلى صلاة وعبادة وخشوع. إن الاختبار الشخصي لكلمة الله يعطي النفس ثباتاً في الإيمان والعفة والطهارة أكثر من مئات العظات.
13. علِّمي ابنتكِ الصلاة:-
ساعدي ابنتكِ لكي تتعلَّم كيف تصلِّي. شجِّعيها على أن تدخل غرفتها لتصلِّي، ولكي تنصت إلى صوت الله وليس فقط مجرد الصلاة لله. اشرحي لها أنواع الصلاة المختلفة (التسبيح، الاعتراف لله ببركاته ونِعَمه، وكذلك الاعتراف بالخطايا، وطلب السماح والمغفرة من الله، سؤال الله من أجل طلب شخصي خاص أو من أجل طلبات متنوعة). ويمكنكِ الاستعانة بكتاب: "حياة الصلاة الأرثوذكسية" وتبسيط الفصول الأولى منه وشرحها لابنتكِ. وشجِّعيها على أن تمارِس كل هذه الأنواع من الصلاة بانتظام، ودرِّبيها لكي تختبر الاستماع إلى صوت الله في حياتها من خلال الصلاة والتأمُّل.
14. شجِّعي واصطحبي ابنتكِ إلى الكنيسة:-
شجِّعي وعلِّمي ابنتكِ الحرص على حفظ يوم الرب (الأحد) والمواظبة على حضور القدَّاس الإلهي والاستعداد للتناول من الأسرار المقدسة. وليتكِ تشتري لابنتكِ كتابَي الخولاجي المقدس والأجبية المقدسة، لكي تتابع ابنتكِ القداس الإلهي وتشارِك في مردَّاته. وحذِّريها من الخروج من الكنيسة والانشغال عن حضور القداس الإلهي لأي عذر أو حجة (ما أصبح ظاهرة مؤسفة في بعض الكنائس). وفي المناسبات المختلفة، اصطحبيها لتتتبَّع أحداث حياة المسيح من خلال ليتورجية الكنيسة (أسبوع الآلام، تسابيح كيهك، صلوات القداس الإلهي أيام وليالي الأعياد السيِّدية: الميلاد - الغطاس - القيامة - العنصرة... إلخ).
إن الارتباط بالكنيسة من خلال أسرارها المقدسة وليتورجياتها ومناسباتها الكنسية هو خير حافظ لإيمان المسيح داخل قلب ابنتكِ.
15. احذري المساومة على إيمانكِ ومُثُلكِ وقيَمكِ المسيحية:-
أخيراً، لا تساومي على إيمانك الشخصي بالمسيح وبقيَمكِ ومُثُلكِ المسيحية، وبالتالي فلن تساومي على إيمان ابنتكِ. ابتعدي عن كل هذه السلوكيات والاتجاهات: عدم الانتظام في حضور الكنيسة، الاقتصار في عبادتكِ على حضور القداس الإلهي والإهمال في ممارسة الحياة المسيحية باقي أيام الأسبوع، القلق والهمّ والفشل في الثقة في عناية الله في أيام الضيق، الفشل في اتِّباع الوصايا الإلهية والمُثُل المسيحية في استخدام المال، التذمُّر على الآلام والضيقات وليس الشكر على بركات الله في كل حال، الخجل من مشاركة إيمانكِ مع الآخرين (وعلى الأخص أثناء الزيارات العائلية ولقاءات المعارف، والانشغال بالأحاديث العالمية ومَسْك سيرة الآخرين بدلاً من التفاوض في كلام الله)، محاولة تطويع إيمانكِ حسب متطلبات الحياة، وليس تطويع حياتك حسب متطلبات الإيمان، ترك ماضيك يحكم حاضرك ومستقبلك بدلاً من الثقة في الله ليشفي ضعفات ماضيك وقصور حاضرك، ولكي يقودك إلى المستقبل السعيد، التحجُّر والافتخار بما لا يفيد بدلاً من التمسُّك بالسلام والهدوء وبساطة الحياة.
المزيد
01 يوليو 2021
شخصيات الكتاب المقدس باروخ
باروخ
"وأنت فهل تطلب لنفسك أموراً عظيمة. لا تطلب "إر 45: 5
مقدمة
لم يكن باروخ الكاتب نبياً أو ملكاً، ولكنه كان - إذ صح التعبير - الساعد الأيمن لإرميا النبى، وسعيد إرميا إذ عثر على هذا المساعد الأمين، الذى عندما قدم نفسه للخدمة، لم يقدمها طمعاً فى مال، فأغلب الظن أنه كان من عائلة غنية شريفة، ولم يقدمها طمعاً فى جاه، إذ قبل على العكس أن يكون ثانياً للنبى، عندما يريد الناس أن يعرفوه، فإن معرفتهم به ستأتى خلال معرفتهم للنبى العظيم، وإذا تحدثت قصته إلينا بشئ فإنها تؤكد أن خدمة اللّه ليست قاصرة على أصحاب الخمس الوزنات، بل هى فى حاجة إلى أصحاب الوزنتين أيضاً، وأن أعظم حركات التاريخ لم تتم بدون هؤلاء المساعدين الذين يقفون إلى جوار العظماء والأبطال، كما وقف يشوع إلى جوار موسى، وكما وقف أليشع إلى جوار إيليا، وكما وقف تيموثاوس إلى جوار بولس، إنهم قد يكونون من الرعيل الثانى فى الخدمة عندما يسقط الرداء عن الرعيل الأول، ومهما يكن الدور الذى يلعبونه، فقد يكون دور الغلام الصغير المساعد، الذى كان لابد أن يقوم به، عندما قدم الخمسة أرغفة من الشعير والسمكتين، فصنع بها المسيح معجزة إطعام الخمسة اللاف رجل ما عدا النساء والأولاد.وعلى هذا الأساس يمكن متابعة قصة باروخ فيما يلى:
باروخ: من هو
كان باروخ بن نيريا، ونحن لا نعلم من هو نيريا هذا على وجه التحديد لكن العائلة - على الأغلب - كانت من العائلات الشريفة الارستقراطية، إذ أن سرايا أخا باروخ (إر 15: 95) كان من الرؤساء الذين رافقوا الملك صدقيا إلى بابل، وأو بعبارة أخرى، كانت هذه العائلة من العائلات التى انتظم واحد من أبنائها فى السلك السياسى، وآخر فى السلك الدينى،.. واحد كان صديق الملك وفى معيته، وآخر كان صديق النبى وفى صحبته، ويبدو أن العلاقة بين سرايا وإرميا كانت طيبة، وفى الغالب كان سرايا من الرجال الطيبين، الذين مس اللّه قلبهم، حتى أن إرميا كلف برسالة خاصة يحملها إلى بابل، تحدث عن عمق إيمان النبى بمصير المدينة العظيمة التى أذلت بلاده، وحطمتها تحطيماً: " الأمر الذى أوصى به إرميا النبى سرايا بن نيريا بن محسيا عند ذهابه مع صدقيا ملك يهوذا إلى بابل فى السنة الرابعة لملكه، وكان سرايا رئيس المحلة فكتب إرميا كل الشر الآتى على بابل فى سفر واحد كل هذا الكلام المكتوب على بابل. وقال إرميا لسرايا إذا دخلت إلى بابل ونظرت وقرأت كل هذا الكلام، فقل أنت يارب قد تكلمت على هذا الوضع لتفرضه حتى لا يكون فيه ساكن من الناس إلى البهائم بل يكون خرباً أبدية. ويكون إذا فرغت من قراءة هذا السفر أنك تربط به حجراً وتطرحه إلى وسط الفرات، وتقول: هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبه عليها ويعيون " " إر 51: 59 - 64 ".. ومهما تختلف الظروف الاجتماعية بين أخوين، ومهما يكن خط كل واحد منهما، فيكون الواحد فى القصر الملكى، ويكون الآخر فى الكوخ الصغير، فإنه لا يجوز لأحدهما أن يتعالى على الآخر، وعلى كل منهما أن يتمم رسالته، ويؤديها مهما يكن حظه أو وضعه فى الحياة!!.. ومهما يكن من وضع باروخ، فمما لا شك فيه، أن الرجل كان آية فى الوداعة والتواضع ونكران الذات، وذلك لأنه جاء دائماً ثانياً بعد إرميا وفى موضع الظل منه،.. فهو لم يضع حساباً لأصله وفصله كما تعود الناس أن يأخذوا هذا فى الاعتبار والحسبان. وهو لا يمانع فى خدمة إرميا وحمل حذائنه، والمسير معه، والمبيت على الطوى، دون أن يرى فى هذا أية مهانة أو تحقير لحياته ومركزه،.. ومع ذلك فقد كان الرجل شجاعاً، ولعله كان من أشجع الناس فى جيله، لقد كان عليه أن يحمل رسالة إرميا الثقيلة ضد الملك ورؤساء البلاد بل وضد الشعب نفسه، ولا يستطيع أن يفعل ذلك إلا من بلغوا أعلى درجات الجسارة والبطولة،.. من السهل جداً أن يصفق الناس لمن يرضى عليه الرئيس أو لملك، أو من يتمشى مع لغة الجماهير والشعوب ويتملقها،... ولكن أصعب الصور أن يسبح الإنسان ضد التيار مهما كان عاتياً وقوياً،.. وكان باروخ بهذا المعنى فى مواجهة التيار بل كان باروخ، أكثر من هذا، من أخلص الناس وأوفاهم، لقد ظل فى صحبة النبى وخدمته عشرين عاماً على الأقل، وقد صاحبه، لا فى مختلف الظروف فحسب، بل فى جولاته وتنقلاته، وقد ذهب معه إلى مصر، وهكذا كان الرفيق الوفى الأمين لنبى الأحزان،... وإذا كان الناس قد درجوا فى العادة على الفخر بالوفاء والإخلاص لمن ضحكت لهم الحياة وابتسمت الدنيا، فإن الوفاء الأصدق والأعمق يبدو فى الحقيقة عندما تأتى المحن والآلام،... كان فخر لوقا أن بولس وصفه بالقول: " لوقا وحده معى "،.. " 2 تى 4: 11 " فى الوقت الذى قال فيه: عن الآخرين فى احتجاجى الأول لم يحضر أحد معى بل الجميع تركونى لا يحسب عليهم "!!.. " 2 تى 4: 16 " وهكذا جاء باروخ ليعطى صورة للوفاء والولاء، عندما عز هذا أو ذهب من بين الناس!!..
باروخ والرسالة التى كلف بها
لعل من أهم الحوادث فى حياة الرجل، الرسالة التى أوصاه إرميا النبى أن يكتبها، ويقرأها فى بيت اللّه، فى الهيكل، ويبدو أن عداء الرؤساء كان مستحكماً ضد إرميا، إذ منعوه من الدخول إلى البيت المفدى، بل كان محرماً عليه أن يدنو منه،.. ولما لم يجد سبيلا إلى الاتصال بالشعب، أملى الرسالة إلى باروخ وكلفه أن يقرأها فى آذان الشعب، وإذ قرأها، وكانت تتحدث عن عقاب أورشليم ويهوذا الرهيب نتيجة لخيانتهم الرب، وكان هذا كثيراً على الكهنة، والملك الذى بدلا من أن يتعظ ويتوب كما فعل يوشيا، ارتكب الحماقة الكبرى، إذ حاول القضاء على الكلمة وعلى الرسول الذى أعلنها، وعلى النبى المرسل بها من اللّه،.. كان يهوياقيم عندما قرأوا أمامه بعضاً من الرسالة جالسا فى بيت الشتاء يستدفئ، ولم يطق الملك سماع الرسالة المرسلة، فأخذ مبراة ومزق بها الكلمة، وألقى بها فى النار وظن أنه بذلك استطاع أن يتخلص منها وينتهى" انظر إر 36: 20 -32 "، وهو لا يعلم بأن ما مزقه، لن تحرقه النيران، إذ عاود إرميا وكتبه مرة أخرى بصورة أقسى وأشد، وحمل باروخ مرة أخرى الكلمة التى يحسن أن نقف لنراها، فيمن لا يزالون إلى اليوم يحاولون حرقها، ومع أننا لا نستطيع أن نعدد أنواعهم لكننا على الأقل يمكن أن نرى أشهرهم فى جماعات الملحدين الذين لا يؤمنون باللّه، وعندما تقدم كلمته لهم، لا نسمع منهم سوى كلمات السخرية والهزء، فالكتاب فى نظرهم قصة خرافية قديمة لا يأبهون لها، أو يتأملون فيها، وكم من الفلاسفة والناقدين والمتهجمين، من مد يده بجرأة وكبرياء ودون تعقل إلى الكتاب العظيم، وأمسك مبراته ومزقه ورمى به فى النيران،.. وهى كبرياء العقل البشرى، وسيتبين لنا عما قليل، حماقة هذا العقل وقصوره عن الرؤية الصحيحة للكتاب،.. وهناك جماعات السياسيين، الذين مزقوا الكتاب المقدس بدافع من سياستهم التى لم تستطع أن تعطى ما لقيصر لقيصر وما للّه للّه،.. وهناك أيضاً جماعات المتعصبين، الذين أعماهم التعصب الدينى، وهم لا يريدون للكتاب انتشاراً، فقاوموا ترجماته، ليفسروه كما يحلو لهم ولرجال الكهنة فيهم،.. وتعيش الشعوب أسرى تقاليدهم التى ما أنزل اللّه بها من سلطان،... وهناك أيضا المهملون الذين قد ينتسبون إلى المسيحية، وقد نجد فى بيوتهم كل شئ إلا نسخة من الكتاب المقدس،... وقد نجد الكتاب، ولكن قد غطاه التراب إذ هو أقرب الأشياء إلى التحف التى يراها الإنسان كصورة أو زينة،.. ومن الغريب أن وقت هولاء يتسع لقراءة مختلف الكتب والدراسات، لكنه لا يتسع مطلقاً لدراسة الكلمة الإلهية أو قراءتها، أو الإلمام بما فيها،... وهناك أيضاً الخطاة المتعلقون بشرورهم وخطاياهم، وهم لا يقبلون الكلمة الإلهية التى توبخ خطاياهم، أو كما قال السيد المسيح: " وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة لأن كل من يعمل السيآت يبغض النور ولا يأتى إلى النور لئلا توبخ أعماله " " يو 3: 19 و20 ".. وهؤلاء جميعاً يتوجون يهوياقيم بن يوشيا ملكاً عليهم، ويحمل كل واحد منهم مبراته ليمزق الكلمة الإلهية ويلقى بها فى النار!!.. على أن السؤال هو هل استطاع هؤلاء الرافضون أن يتخلصوا من الكتاب المقدس، ومن سلطانه الأبدى عليهم؟؟.. كلا وإلى الأبد كلا!! إذ أن نيران التاريخ كلها أعجز من أن تنتصر على كتاب اللّه،... عندما ترجم وليم تندال العهد الجديد، وأقبل الناس على شرائه، أرادته الحكومة الانجليزية فى ذلك الوقت منع هذه الترجمة، فسعت إلى جمع النسخ وشرائها بأى ثمن وأحرقتها، وكان تندال فى حاجة إلى المال ليتوسع فى نشر الكتاب، ومن المال الذى وصل إليه، نتيجة شراء الحكومة الإنجليزية للكتاب لحرقه، استطاع أن يترجم الكتاب المقدس بأكمله، وينشره بين الناس، ولعلنا نذكر ما قاله فولتير عندما قال: إن هذا الكتاب سينتهى بعد خمسين سنة، ولم يحلم فولتير بأن بيته سيكون فى ذلك التاريخ الدار التى يطبع فيها الكتاب المقدس، ويخرج منها إلى فرنسا وغير فرنسا!!... ومن المثير أن الألمان النازيين عندما أحرقوا الكتب الدينية والمقدسة، وقال جوبلز إننا نضع الآن أساس حرية جديدة، وروح جديدة، وبهما سنغلب، لم يكن يعلم أن صحيفة ألمانية ستكتب بعد سقوط النازية: إن، الكتاب المحترق مايزال يعيش!!... كان الملك يهوياقيم أحوج الكل إلى كلمة اللّه،... كانت مصر تستعبده، وبابل تهدده، والظروف الضيقة تحيط به من كل جانب، وكان فى حاجة إلى صديق ومرشد ومنبه ومحذر، وكانت كلمة اللّه يمكن أن تكون هذه جميعها له، ولكنه لم ينتفع بالكلمة كما انتفع أبوه يوشيا بها، وكانت خسارته لذلك فادحة وقاسية،... وليس هناك من خسارة تعدل خسارة إنسان لا يقرأ الكلمة الإلهية، أو يطوح بها، أو يحرقها، أو يلقى بها فى طريق حياته، وموكبه الأرضى،... وإذا كانت توماس كارليل قد قال: إنه من وقت عصا موسى حتى اليوم ليس هناك قوة تضارع قوة العلم،... وهو يقصد بذلك أثر الكلمة المكتوبة فى حياة الناس، ومما تفعله الصحف والكتب والمجالات، فإنه مما لا شك فيه أن الكلمة الإلهية تقف من كل كلمة أخرى مكتوبة الموقف الذى ذكره إرميا حين قال: " ما للتبن مع الحنطة يقول الرب، أليست هكذا كلمتى كنار يقول الرب وكمطرقة تحطم الصخر "؟.. " إر 23: 28 و29 "، أو بعبارة أخرى، إن الفارق بين كلمة البشر، وكلمة اللّه، هو الفارق بين التبن والحنطة،... وكل الاثار التى يمكن أن يتمخض عنها كلام البشر، وإذا قورنت بالكلمة الإلهية، هى التبن عندما يقارن بالحنطة إذ صح أن نقارن بين الاثنين،... فالتبن بادئ ذى بدء خفيف وكلام البشر كاذب يطير فى الهواء إذا قورن بالصدق الإلهى،... وما أكثر كذب الناس أو نفاقهم الذى تمتلئ به الصحف والمجلات والكتب كل يوم بالمقارنة أو الموازنة مع الحق الإلهى!!.. والتبن ليس غذاء للإنسان، بل هو طعام الحيوان والكلمة البشرية فى سداها ولحمتها، ليست إلا غذاء للحيوانية الكامنة فى الإنسان، ويوجد كثيرون من الكتاب لا يفعلون شيئاً من وراء الكلمة التى يكتبونها سوى إشباع الحيوانية فى الإنسان، أو إرضاء النزوات الحسية أو الاجتماعية، ويحتاجون إلى من يصرخ فيهم، هذا كذب، وبهتان وتضليل، وهوس وحشى حيوانى!!.. والتبن رخيص، وكل أدب إذا قورن بأدب الكتاب هو أدب رخيص وتافهه وحقير،... والتبن تذروه الرياح سريعاً، وتلتهمه النيران فى ومض البصر!!.. وكذا الكلام البشرى أمام الحق الإلهى واللهيب الأبدى!!... وعلى العكس من ذلك كلمة اللّه التى هى الحنطة المشبعة... كان شيشرون عندما يخطب يعتقد أنه يقول الحق تماماً،... وعندما يذهب إلى بيته يتساءل: هل كل ما قاله حق تماماً،... لكن كلمة اللّه تشبع على الدوام الفكر والمشاعر والإرادة،... إنها الحنطة الحقيقية للإنسان،... وهى إلى جانب ذلك الكلمة الملهبة إذ أنها نار، والنار تضئ قبل ان تحرق،... وكلمة اللّه هى النور المرسل لإنسان يعيش غارقاً فى الظلام - وهى النار المحرقة التى تحرق كل كذب وضلال.وجاء فى أسطورة قديمة أن هناك سائلا إذا شربه أى إنسان فإنه يضحك ويظل يضحك حتى يموت من الضحك،... وما أكثر ما تكون هكذا كلمات البشر التى تخدع الإنسان وتضحكه، وكان أولى بها أن تبكيه، لو أنها كانت بحسب الحق الذى يعلنه اللّه القدير فى كتابه، والذى يحرق الأوهام والأضاليل، ويضع الحقيقة مجردة وعادية أمام الإنسان،.. والكلمة الإلهية هى أيضاً، المطرقة التى تحطم الصخر، والإنسان إذا قسا قلبه وتحجر واستعبد للتقاليد والعادات الاثمة والشريرة، فليست هناك قوة تستطيع أن تحطم عنفه وقسوته وشره كما تفعل كلمة اللّه،... ولعل يهوياقيم بن يوشيا كان فى حاجة إلى هذه الكلمة التى رق أمامها قلب أبيه العظيم الملك يوشيا!!
باروخ والعظمة المهجورة
قال اللّه لباروخ: " وأنت فهل تطلب لنفسك أموراً عظيمة؟ لا تطلب ". ولعل باروخ كإرميا ضاق بالالام التى أحاطت به، والمتاعب التى توالت فى حياته، فى أيام امتلأت بالاضطهاد والمشقة والأحزان،... وربما جرب كإنسان، عندما كان أخوه فى القصر الملكى، يتمتع به الساكنون فى القصور،... لماذا لا يكون كأخيه، واحداً من عظماء الأمة، وسادة القوم ألم تلده أمة، كما ولدت أخاه!!؟ وألم ينشأ فى بيت واحد، فلماذا ينعم أخوه بما ينعم به العظماء فى الأرض، ويبقى هو على حظ من المعاناة والمتاعب! فى الحقيقة إن هذه تجربة البيوت العظيمة فى الأرض، عندما يتراجع أو يتقاعس أولادها عن الخدمة الدينية، لما قد يكون فى هذه الخدمة من عار أو تعب أو مشقة أو ضيق، ولكن أولئك الذين دخلوا الخدمة، وكانوا من أعظم البيوت على الأرض، لم يترددوا قط فى إدراك الحقيقة التى ملأت قلب موسى الذى " لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنه فرعون مفضلا بالأحرى أن يذل مع شعب اللّه على أن يكون له تمتع وقتى بالخطية، حاسباً عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر " عب 11: 24 - 26 ". واستولت على مشاعر يوسف حتى حمل شعبه الرسالة أن تؤخذ عظامة عند رحيلهم من مصر، مع أنه كان يمكن أن يفاخر بأنها تتحنط لتغالب الأيام والليالى كجثث المصريين المحنطة،... وهى التى دعت نحميا إلى أن يرى فخره العظيم، لا فى أن يكون ساقياً للملك، أو وزيراً مفضلا فى قصره بل بالأحرى، أن يقف على أكوام التراب فى مدينة ابائه المحترقة، كى يرممها ويعيد أسوارها من جديد!!.. وهى التى جعلت دانيال ورفاقه من الشرفاء، أن يتطلعوا بأحلامهم وخيالهم، من البلاد البعيدة، نحو المدينة التى أسروا منها، ولكنها كانت آسرة لقلوبهم وعواطفهم فى السبى والمنفى،... كان باروخ يدرك ما هى العظمة الحقيقية، إذ أنها ليست المنبت العريق أو القصور الشامخة الماضية،... بل هى الحقيقة الكامنة فى أعماق الإنسان نفسه حيث يمكن بشخصه، دون بيته، أن يكون عظيماً أو غير عظيم،... كان اثنان يتجادلان، وكان أحدهما يفخر بعائلته، ويقول للآخر: وأنت من أنت!!؟... وأجابه الآخر: إن فضيلتى تبدأ من حيث تنتهى فضيلتك، إذ حسن أن تكون من عائلة عظيمة وعريقة، ولكن الأفضل لا أن تنبت من عائلة عظيمة، بل أن تكون أنت فى ذاتك عظيماً!. وكان باروخ، بهذا المعنى، على عكس الظاهر، أعظم من أخيه سرايا، الذى وإن كان كما يبدو من اللغة الكتابية، رجلاً كريماً طيباً، لكنه لا يمكن أن يرقى بحال ما إلى شخصية أخيه الذى عاش مع إرميا وفى خدمة اللّه!!... إن نقطة العظمة الصحيحة تبدأ من علاقة الإنسان باللّه،... عندما زار مارك نوين أوربا، استقبله المللوك والأمراء، وأفردت له الصحف مكاناً كبيراً على صفحاتها، وفى عودته إلى أمريكا قال له ابنه الصغير على ظهر الباخرة: يا أبى يخيل إلى أنك أصبحت تعرف جميع الملوك والأمراء والعظماء، ولم يبق إلا اللّه لتعرفه!!.. وأنها لأكبر مأساة على الأرض أن يعرف الناس العظمة بهذا المعنى فيعرفون ويعرفون إلا من اللّه،... إن الشهرة طبل أجوف لا يلبث ان ينتهى أو يضيع، ولعل اللّه وهو يقول لباروخ لا تطلب لنفسك أموراً عظيمة، كان يقصد أن يذكره بهذه الحقيقة التى ربما غابت عنه وراء التجارب والمحن التى أحاطت بحياته!!.
وما أكثر الأخطار التى تلحق بالإنسان من العظمة حسب مفهوم الناس، وهو يوم ينسى اللّه، أو يهمل الشركة معه، سيتعرض للكثير من التجارب الروحية والأدبية، إذ يتعرض للانانية وحب الذات، والرغبة الكاملة فى أن يعيش جيله وعصره، تسلط عليه الأضواء، ويلمع اسمه بالنور، وإلا فإنه سيقاتل ويصارع، ويسحق كل من يحاول أن يقف فى طريقه، أو يضعه فى الظلال أو الظلام،... وهو على استعداد أن يفعل ذلك، فى نطاق الحياة العالمية أو الكنسية أيضاً، ألم يفعل هذا ديو تريفس الذى يحب أن يكون الأول، وهو على استعداد أن يفعل كل شئ فى سبيل ذلك إلى الدرجة التى فيها لا يقبل الرسول يوحنا، ويهذر عليه بأقوال خبيثة، ولا يقبل الأخوة، ويمنع أيضاً الذين يريدون ويطردهم من الكنيسة، " انظر 3 يو: 9 و10 ".. كما يتعرض الباحث عن العظمة إلى ما يخف بها من حياة الترف والدعة أو الكسل، أو حياة الكأس والطاس، دون أن يبالى بآلام الآخرين أو تعاساتهم أو أحزانهم أو ماسيهم، وكان باروخ مجربا بهذه كلها، ومن ثم قال له: " وأنت فهل تطلب لنفسك أمورا عظيمة؟ لا تطلب … "..
باروخ والضمان الإلهى
لا يستطيع الإنسان أن يفهم الضمان الإلهى لباروخ إلا إذا ذكر أن هذا الضمان جاءه فى عام 605 ق. م. عندما قام نبوخذ ناصر بغزواته الواسعة، فقضى على اشور فى عام 613 وتحول إلى مصر فى موقعه كركميش المشهورة، وانتصر على فرعون نخو، وكان نبوخذ ناصر فى اكتساحه للأمم والممالك، أشبه بهتلر فى اكتساحه لغرب أوربا فى الحرب العالمية الأخيرة حيث ترك وراءه الفزع والرعب والحيرة والقلق فى كل مكان، ولا شبهة فى أن باروخ كان كإرميا مشغولا بمصير بلاده ووطنه، وزادته نبوات إرميا حزناً على حزن، وألماً على ألم، وعندما كانت بنفسه أفكار العظيمة التى يحلم بها، ولماذا لا يكون على الأقل مثل أخيه فى القصر الملكى؟... أعطاه اللّه الصورة المروعة للخراب الذى ستصل إليه بلاده،...: " هأنذا أهدم ما بنيته، واقتلع ما غرسته وكل هذه الأرض " (إر 54: 4) ولعله قد أبصر المصير التعس الذى سيذهب إليه أخوه نفسه، الذي سيهوى مع الملك صدقيا من حالق، ويساق وإياه إلى السبى القاسى فى بابل، وهو لن يأسف على العظمة الضائعة لبلاده فحسب، بل على المصير المحزن للاخ الذى تاق أن يكون مثله!!.. وقد قصد اللّه أن يريه قصة العظمة البشرية التى مهما علت، فإنها فى سبيلها إلى الحضيض والرماد،... ولست أظن أن هناك صورة تتفوق على ماكتبه إرميا عن مصير بابل المؤكد مما أشرنا إليه قبلا، وكيف أن المدينة، فى أعلى مجدها وقمته، ستغرق إلى الأبد دون أن تقوم لها قائمة إذ هى رمز للشر والفساد اللذين مهما علا فعلهما وامتد، فإنه سيسقط، كما صاح الرائى فى روياه العظيمة: " سقطت سقطت بابل العظيمة.. من أجل ذلك فى يوم واحد ستأتى ضرباتها موت وحزن وجوع وتحترق بالنار لأن الرب الإله الذي يدينها قوى. وسيبكى وينوح عليها ملوك الأرض الذين زنوا وتنعموا معها حينما ينظرون دخان حريقها، واقفين من بعيد لأجل خوف عذابها قائلين: ويل ويل. المدينة العظيمة بابل المدينة القوية، لأنه فى ساعة واحدة جاءت دينونتك ".. " رؤ 18: 2 و10 "وكل عظمة بشرية، طال الزمان عليها أو قصر، مصيرها إلى الضياع والهلاك، لأن يد اللّه القوية تتعقبها فى كل مكان، وتغرقها كالحجر الذى يسقط فى نهر الفرات!!..
على أنه على قدر ما يحدث من اضطراب أو فزع لجميع الشعوب والناس، فإن المؤمن سيبقى على الدوام محروساً باللّه مضموناً بقدرته وقوته، وأينما يذهب باروخ وأينما يتنقل، وفى الوقت الذي يجلب فيه اللّه الشر على كل ذي جسد: " أعطيك نفسك غنيمة فى كل المواضع التى تسير إليها ".. " إر 45: 5 " فإذا كان إرميا قد طوحت به الحياة، وباروخ معه، ورأيا روى العين، الهجوم الذي دمر أورشليم، والجماعات التى ألزمتهما بالذهاب معها إلى مصر،.. فهما فى أى مكان فى الأرض، وفى وسط الحروب والقلاقل والفزع الذى يكتسح العالم بأجمعه يعلمان تمام العلم، أن المؤمن آمن لأنه فى قبضة يمين القادر على كل شئ،... ولعلهما غنياً معاً، أو غنى الواحد منها: " الساكن فى ستر العلى فى ظل القدير يبيت أقول للرب ملجأى وحصنى إلهى فأتكل عليه. لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبأ الخطر. يخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمى - ترس ومجن حقه - لا تخشى من خوف الليل ولا من سهم يطير فى النار، ولا من وبأ يسلك فى الدجى ولا من هلاك يفسد فى الظهيرة، يسقط عن جانبك ألف وربوات عن يمينك. إليك لا يقرب إنما بعينيك تنظر وترى مجازاة الأشرار ".. " مز 91: 1 - 8 ".
المزيد
26 يونيو 2021
الأولويات فى حياة الخادم
الحاجة إلى واحد (لوقا 10: 41)
ذهب يسوع إلى بيت مريم و مرثا فاختارت مريم أن تجلس عند قدمي المعلم لتسمع منه واختارت مرثا أن تعمل لتجهز طعام للمعلم ولم يعجبها اختيار مريم فذهبت تشتكي للمعلم فقدم لها السيد المسيح تعليما هاما مَرْثَا مَرْثَا أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ( لو 10 :41 ) وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا».(لوقا 10: 41)
كانت مرثا مضطربة لأن أمور كثيرة تريد أن تفعلها وإمكانياتها لا تساعدها ووقتها لا يسعها على إنجازها فتوقفت وابتدأت تشتكي فكانت النصيحة لها أن تختار الأهم والأولي والأصح لحياتها وتعمله كما فعلت مريم فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا ( لوقا 10: 42).
عندما نشرع في العمل نجد أمامنا مهاما كثيرة علينا فنبدأ في تنفيذ أمر ثم نقلق على بقية الأمور فنترك الأول بدون اكتمال لنبدأ في الثاني والثالث وهكذا وفي النهاية نجد أمامنا أمورا كثيرة غير مكتملة وعملا واحدا لم ينجز قد يكون السبب في ذك إننا لا نملك القدرة مثل مريم على اختيار وترتيب الأولويات في حياتنا وفي أعمالنا.
اطلبوا أولاً. من مبادئ الحياة المسيحية الهامة هي تحديد ما هو الأول والأهم ففي الصلاة يعلمنا السيد المسيح أن نطلب أولا ملكوت الله قبل أي طلبات أي نرتب طلباتنا في الصلاة حسب أهميتها وحتى الوصايا هناك وصايا أولي ولها أهمية فقد سأل واحد من الكتبة السيد المسيح «أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ أَوَّلُ الْكُلِّ؟» 29فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الْوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ. 30وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى.( مر 12: 28 – 30).
ويستخدم الكتاب المقدس تعبيرات تدل على تحديد الأولويات منها رأس الحكمة باكورة رتبه ترتيب فيقول أن رأس الحكمة مخافة الله أي أهم غرض للحكمة والأولوية الأولي لعمل الحكمة أن نصل إلى مخافة الله.
كما أن بولس الرسول أوصي كثيراً بالترتيب وأهميته فيقول وَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ.(1كو 14 :40 ) كما انه يهتم أن يرتب وينظم الأولويات بنفسه فيقول. وَأَمَّا الأُمُورُ الْبَاقِيَةُ فَعِنْدَمَا أَجِيءُ أُرَتِّبُهَا. (1كو 11: 34)
وأعطي توجيها لكنيسة تسالونيكي أَنْ تَتَجَنَّبُوا كُلَّ أَخٍ يَسْلُكُ بِلاَ تَرْتِيبٍ (2تس 3: 6).
ولنا في قصة الخلق نموذج رائع على تحديد الأولويات فالله لم يخلق النبات إلا بعد أن خلق النور ولم يخلق الإنسان إلا بعد أن خلق له الأرض والمياه والنبات فالخلق تم بترتيب معين حسب أولوية احتياج المخلوقات الأخرى لها.
لماذا الأولويات؟
من حقائق الحياة أن الإنسان محدود أي إمكانياته محدودة وقدراته محدودة وكذلك وقته محدود لذلك لا يوجد إنسان يستطيع أن يعرف كل المعارف والعلوم ولا أن يعمل كل الأعمال ولا يستطيع أن يستمتع بكل الأشياء فإذا دعيت إلى وليمة وقدم لك أشهي الأطعمة وأجود الأصناف هل تستطيع أن تأكل كل الطعام هل تستطيع أن تستمتع وتتذوق كل الأصناف ولكن ماذا تفعل لابد أن تأخذ ما يكفيك فقط فماذا تختار ما الذي تعطيه الأولوية؟ وعلى أي أساس تختار؟
هذا مثال يتكرر معنا في أمور كثيرة في حياتنا داخل وخارج الخدمة فلأنك لا تستطيع أن تعرف كل المعرفة فاختار المعلومات الهامة لك ولحياتك أولاً ولا تبدد وقتك وعقلك في معارف غريبة نظرية لن تفيدك الآن ولأنك لا تستطيع أن تستمتع بكل الأشياء فاختار أن تستمتع بالأفضل لك أولاً الخمر الجد أولاً ثم بعد ذلك الدون كما قيل في معجزة عرس قانا الجليل عن كنت لا تستطيع أن تعرف كل المعرفة فاختار المعرفة المفيدة لحياتك ولعملك أولاً وإن كنت لا تستطيع أن تعمل كل الأعمال فاعمل ما تحتاجه أولاً وإن كنت لا تستطيع أن تستمتع بكل الأشياء فاستمتع بالأفضل لك أولا.
كيف يجيد الخادم ترتيب أولوياته؟
الخادم شخص نجح في ترتيب الأولويات في حياته فاختار الله وخدمته أولاً ثم واجباته نحو خلاص الآخرين وسعادتهم ثم نجاحه وتحقيقه لذاته ثم بعد ذلك تأتي الأمور الأخرى الخادم يعرف جيداً كيف يفاضل وكيف يختار ويعرف ما هو الأهم وما هو الواجب هناك خمسة قواعد تساعدنا على ترتيب اولوياتنا.
القاعدة الأولي: الله ثم الآخرين وأخيرا نفسي.
ما لله أولاً: ما يخص الله لابد أن يكون أول كل أمر وقبل أي شيء فالكتاب المقدس علمنا اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ (متى 6: 33) كذلك يعلمنا أن نعطي البكور أول الأشياء والوقت لله لماذا؟! الله أولاً لأن الله الآب هو مصدر حياتنا ولا تستمر بدونه فأي شيء أو أمر بدون الله الآب هو مصدر حياتنا ولا تستمر بدونه فأي شيء أو أمر بدون الله يكون مصيره الفناء فلا أولوية على أولوية التمسك بمصدر الحياة وسر استمرارها لذا يجعل الخادم الله هو الأول في يومه وفي أعماله وفي خدمته العبادة أولاً ثم واجباتنا يتمم الخادم صلواته وقراءاته الروحية قبل أن يخدم ويعلم ويفتقد الخادم بالله أولاً قبل لقاءه بالناس في حياته اليومية فلا يذهب لافتقاد دون أن يصلي ولا يعظ ويعلم دون أن يصلي ولا يعطي مشورة دون أن يطلب مشورة الله ولا يتكلم عن أمر دون ان يذكر الله وبمجد اسمه.
واجبات الخادم تجاه الآخرين لها أولوية على ما يخصه الخادم لا يفعل ذلك بدافع الحب الباذل فقط ولكنه يعرف جيدا مفهوم الكنيسة الجسد الواحد ويشعر بمسئولية عن سلامة هذا الجسد وتماسكه ويعرف أن في سلامة الجسد سلامته ومن صحته خيره فكل عطاء للآخرين يعود خيرا عليك فسلامة أسرتك يحقق استقرارك نمو كنيستك ينشط روحانياتك استقرار مجتمعك يمنحك الأمان كذلك بقدر عطائك للآخرين تتحقق إنسانيتك ثم إن السيد المسيح كان له توجيها خاصا إيجابيا للخدام من أراد أن يكون أول الكل فليكن أخر الكل وخادم للكل.
القاعدة الثانية: العمل ثم الراحة.
وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ (التكوين 2: 2) هذا ما يعلنه الله في بداية خلقه العالم العمل أولاً ثم الراحة أجعل الأولوية لما يبني حياتك روحيا أو جسديا أو اجتماعيا ثم بعد ذلك الراحة واللهو والمرح فعندما نأكل نعطي الأولوية للطعام الذي يبني الجسد ثم بعد ذلك الأطعمة ذات المذاق أو الشكل الحسن أو حسب المزاج فبهذه القاعدة نعطي الأولوية للمذاكرة والعمل ثم بعد ذلك الهواية والرحلة ونعطي الأولوية في الحياة الروحية للتعلم والتوبة ثم إلى الخدمة والتعليم.
القاعدة الثالثة: الواجب لا يؤجل.
في مثل العشرة عذارى العذارى الجاهلات ناموا قبل أن يجمعوا زيتا في آنيتهم وحينما أرادوا إصلاح ذلك جاء العريس ودخلت معه المستعدات وأغلق الباب ولم يفتح لهم بعد ذلك.
في حياتنا لآبد أن نتذكر دائما أن هناك بابا يغلق وأن الأمور محكمة بوقت معين وزمن محدد فهناك أمور مستعجلة لا تحتمل التأجيل وهناك ما يمكن أن يؤجل إلى وقت أخر لِكُلِّ شَيْءٍ زَمَانٌ وَلِكُلِّ أَمْرٍ تَحْتَ السَّمَاوَاتِ وَقْتٌ. (الجامعة3 :1)* كذلك هناك أوقات مناسبة لأمور معينة بعدها لا يصلح عمل الأمر ويكون بلا معني وبلا قيمة وكما يقول الكتاب الكلام في غير وقته كالغناء في النوح( سيراخ 22: 6).
فقترة الشباب المبكر والمراهقة فترة التعليم وليست فترة الحب والزواج هناك وقت لتعليم وآخر للزواج والعمل فلا نضيع فرصة التعليم فلنتعلم أولاً لأنه لن نجد وقتا للتعليم والدراسة فيما بعد لأبد أن تكون الأولوية لما لا يمكن تأجيله وهكذا فأمور كثيرة لا تؤجل التوبة لا تؤجل عمل الخير لا يؤجل الواجب لا يؤجل لنه لن ينفع في وقت آخر فما لا يؤجل لابد أن يأخذ أولوية تنفيذها على كل الأمور الأخرى.
القاعدة الرابعة الأكثر احتياجا في ذلك الوقت له أولوية.
عندما هرب إيليا من وجه إيزابيل الشريرة وسقط على وجهه في الصحراء أرسل له الله الملاك وأعطاه فطيرة ليأكل وماء ليشرب أولا ثم بعد أن ارتاح حدثه الله وعابته وعلمه وعرفه ماذا يفعل فعند التعب تكون الأولوية للراحة وللماء عند العطش فعند التعب نرتاح أولاً ثم نواصل العمل لأن العمل مع التعب يسبب المزيد من الإرهاق ويجعل العمل غير متقن.
القاعدة الخامسة: أصنع ما تستطيع أولاً وأجل ما لا تستطيع إلى مراحله أخري.
هناك أمور ليست في إمكانياتي أو قدراني الحالية فهذه أمور تؤجل أما الأمور التي تحسن مهاراتي وقدراتي هي التي أصنعها أولاً مثلاً تعلم ثم علم كن تلميذاً أولاً معلماً كذلك أبدا بالسهل من الأعمال ثم بعد ذلك العمال الصعبة.
المزيد