المقالات

11 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس النبي المرسل إلى يربعام

"فصادفه أسد في الطريق وقتله" 1مل 13: 34 مقدمة لست أعلم ما هي المشاعر التي تجتاحك إذا وقفت أمام قبر، أو نصب تذكاري، أو تمثال أو صورة لإنسان انتهت قصته الأرضية، وسمعت عن هذه القصة، أو قرأت كلمات قليلة عنها، أو ما يمكن أن تحيكه بين الناس، أغلب الظن أنك ستمتليء بالانفعالات، وستسمع الصمت نفسه يتكلم بلغة أبلغ من كل كلام. في الأصحاح الثالث عشر من سفر الملوك الأول، يظهر أمامنا النبي المرسل إلى يربعام بن نباط، كما يظهر البرق الخاطف، في يوم واحد، فهو النبي الذي ينادي يربعام وهو أمام المذبح المبتدع، بالرسالة الرهيبة، وهو الخارج من المدينة التي أمره الله ألا يبقى فيها، وهو الجالس تحت البلوطة، وهو المخدوع بكلمات النبي الشيخ، وهو الصريع وجثته إلى جوار الأسد والحمار، وهو المدفون في قبر النبي الشيخ في بيت إيل... حدث كل هذا في تعاقب سريع متتابع في يوم واحد، ولم تنته مع ذلك قصة الرجل، إذ بعد ثلاثمائة عام، في الأصحاح الثالث والعشرين من سفر الملوك الثاني، يقف يوشيا الملك أمام قبر فوقه كومة من الأحجار، قبر يختلف عن غيره من القبور الأخرى، ويسترعى الانتباه: "وقال ما هذه الصورة التي أرى، فقال رجال المدينة هي قبر رجل الله الذي جاء من يهوذا ونادى بهذه الأمور التي عملت على مذبح بيت إيل، فقال دعوه، لا يحركن أحد عظامه، فتركوا عظامه وعظام النبي الذي جاء من السامرة"... أجل وإلى الأبد أجل، وسيبقى الله صادقاً، وسيكذب كل إنسان، وسيتم الله صدقه في الحال وبعد ثلاثمائة عام، وبعد ثلاثمائة ألف مليون عام... وحاشا لله أن يكذب أو يتراخى أو يرجع، إذ هو الصادق الأمين في حياتنا أجمعين، وسترى صدقه وأمانته في كل شيء، ونحن نطالع قصة هذا النبي الذي تلاحقت الأحداث العجيبة في قصته في يوم واحد، ولعلنا نتعلم: النبي ويربعام لسنا نعلم ما اسم هذا النبي الذي أرسله الله من يهوذا إلى يربعام، وإن كان يوسيفوس المؤرخ اليهودي يطلق عليه اسم، "يعدون" والبعض يعتقد أن يعدو الرائي الذي جاء ذكره في سفر أخبار الأيام الثاني، متنبأ على يربعام بن نباط، وأياً كان الاسم، وأياً كان الشخص، فإن الصورة الأولى له تبدو من أروع الصور وأجملها وأبهجها،.. فهو النبي المرسل بكلمة الله أولاً وقبل كل شيء، وهو الواعظ المجيد الذي لا يتكلم من نفسه، بل بسلطان الكلمة الإلهية، لقد ذهب إلى الملك، بعد أن تلقن الدعوة بوضوح من الله في أدق دقائقها، وهو لا يلفت النظر إلى نفسه، فهو مجهول، وسيبقى اسمه مجهولاً، ولكنه يلفت النظر إلى الرب، وكلام الرب،.. وهو يتحدث إلى المذبح لأنه إذا لم يسمع الأحياء، وإن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ -وعندما يعيش الواعظ في يقين الدعوة، فإن منبره -كما قال سبرجن وهويتفلد من قبل- يتحول عرشاً، ويسبح هو في مياه الفردوس،.. وهو النبي الشجاع الذي لا يرى أمامه أحداً، عندما يتكلم إلى المذبح أو أحجار المذبح، معتقداً بأن الأحجار أقل صلابة من قلب يربعام، وهي تسمع عندما لا يسمع الملك نفسه، وهو لا يرى أمامه ملكاً، أو جمعاً من الناس، أو عيداً من الأعياد ابتدعه يربعام،.. لأنه إذا كان سليمان قد دشن الهيكل، فيربعام ليس أقل من سليمان، وهو أكثر منه يستطيع أن يكون ملكاً وكاهناً في الوقت عينه،.. والنبي لذلك يمثل كل صوت شجاع يتحدث دون خوف أو وجل أو تردد، فهو موسى أمام فرعون، وهو إيليا أمام آخاب، وهو يوحنا المعمدان أمام هيرودس، وهو بطرس ويوحنا أمام السنهدريم، وهو بولس أمام فيلكس، وهو أمبروز، وفم الذهب، ويوحنا نوكس، ممن كانوا أعظم صور للشجاعة في الأرض!!... وهو النبي الواثق من الحق الذي ينادي به، وسيصبح هذا الحق في الحال مؤيداً بالبرهان الإلهي، الذي لن يكون خفياً، بل سيشهده الجميع في المذبح المنهدم، والرماد الذي سيصيب وجه الملك، وجميع المعيدين معه، وسيعفر وجوههم وحياتهم، وسيدمر تاريخهم، ويحرق عظام كهنتهم، وعظام الناس معهم، فإذا امتد التنفيذ إلى أكثر من ثلثمائة عام، فإن برهانه السريع سيأتي في ومضة عين، على نحو واضح لا تجدي معه المكابرة،.. فإذا كابر يربعام، ومد يده ليأمر بالقبض على النبي، فإن يده لا تستطيع أن ترجع إذ تيبس عن الحركة، ويتحول الملك الآمر، إلى الملك المتضرع، ويصبح الوحيد الأعزل، أقوى من صاحب السلطان الطاغية المتجبر،.. فماذا نقول لهذا إنه إن كان الله معنا فمن علينا،.. وهو النبي العف، الذي لم يخضعه تهديد الملك، وبالأحرى إغراء الملك، بالاحترام والتحية والعطية، حتى ولو أعطاه نصف بيته،.. إن هذا النبي المرفوع الرأس وضع الشيطان أمامه الأمرين اللذين كثيراً ما يضعهما أمام خدام الله لعله يستطيع القضاء عليه بواحد منهما، التهديد، فإذا لم يجد أو يفلح، فليجرب العكس تماماً وهو الإغراء، وكم من أناس صمدوا أمام التهديد، ولم يصمدوا أمام الإغراء،.. لكن النبي المجهول الاسم، كانت عنده حتى تلك اللحظة الشجاعة والمثالية معاً، فلم يزجره وعيد، ولم يخضعه إغراء، وكان صورة مثلى للخادم العف الذي يستطيع أن يرفض ما يسيل له لعاب الآخرين، حتى يمكنه أن يتكلم عن البر والتعفف والدينونة العتيدة أن تكون،.. عندما عجز التهديد عن أن يضعف لوثر أو يلين قناته، عرضوا عليه ألواناً متعددة من الإغراءات والمنح والوظائف!!... ومع ذلك فقد كان شجاعاً أمام التهديد، وكان أشجع أمام سيل الإغراءات غير المنتهية!!... وهو النبي الرحيم الذي إذا جاء في الظاهر، يعلن غضب الله وشدته وبأسه وانتقامه، فإنه في الباطن ينادي بالرحمة الكاملة الإلهية العظيمة لو أحسن يربعام اقتناسها، وقد ظهرت هذه الرحمة واضحة في استجابته لرجاء الملك أن يضرع إلى الله من أجل يده، ولم يتركه النبي متصلب اليد كالخشبة سواء بسواء، بل ترفق به أمام الجميع، وطلب رحمة الله له،.. وكانت هذه إشارة لرحمة أكبر يمكن أن يصل إليها يربعام لو أنه فعل ما فعل ملك نينوى، عندما علم أن الله سيقلب المدينة بعد أربعين يوماً... كان يمكن أن يعلم بأن الله بطيء الغضب، وكثير الرحمة والإحسان والوفاء، لو أنه حطم البقية الباقية من المذبح المنهدم، وأمسك بعجلي الذهب، وكسرهما وطحنهما ورمى بهما على وجه المياه كما فعل موسى سواء بسواء،.. كان النبي المرسل ينادي يربعام بالاستعداد الإلهي للرحمة من فوق غبار المذبح الذي ملأ المكان!! ومن وابجنا على أي حال، مهما حدث فيما بعد، ألا ننسى له هذه الخلال العظيمة التي تحلى بها في موقفه الشجاع من يربعام!!.. النبي والبلوطة ونحن ننتقل هنا إلى المنظر الثاني في مسرحية الرجل، إذ نتحول من النظر إليه مع يربعام إلى جلسته تحت البلوطة، ونحن نسأل: لماذا جلس تحت البلوطة وقد أمره الله أن يفر من المكان، ويتباعد عنه، بأسرع وأقوى ما يمكن أن يكون التباعد؟، وما هي العواطف التي أحاطت أو سيطرت عليه أو اجتاحته، أو قادته إلى التجربة هناك؟؟ لعل أول عاطفة، كانت تجربة الإعجاب بالنفس، لعلنا نذكر ذلك الواعظ العظيم -وأغلب الظن أنه يوحنا ويسلي- الذي جاءه واحد من المستمعين ذات مرة ليقول له: ما أعظمك واعظاً، وما أروع عظتك وأعظمها تلك التي سمعتها في هذا اليوم،.. وأجاب الرجل الناضج الكبير: لقد سمعت كلمتك من آخر سبقك، فقال له الرجل متلهفاً: ومن هو؟ فأجاب: الشيطان!!،.. لقد جلس النبي تحت البلوطة، ودغدغ الشيطان إحساسه، وهنأه بالشجاعة التي لا مثيل لها، المثالية العظيمة التي من حقه أن يفاخر بها، وربما حدثه عن شخصيته العظيمة المنفردة، التي لا تعرف الأمة بأكملها نظيرها، وكيف يكون الحال، لو أنه لم يكن موجوداً،.. وكم تكون الخسارة البشعة، لو لم يوجد نظيره أو مثيله أمام الأزمات العظيمة، والصعوبات الهائلة المروعة... إن هذا الرجل كان أبعد من أن يدرك أن واحداً من أعظم الرجال في العصور كلها، رأى الله أن يحفظه من مثل هذا الخطر الداهم بشوكة قاسية: "ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات أعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع".. أيها المصلح: أيها النبي: أيها الواعظ: احذر وصل ليلاً ونهاراً حتى لا تجلس تحت بلوطة النجاح، وأنت تنظر إلى شخصك بالكبرياء والخيلة والإعجاب بالنفس،.. فإن هذه تجربة الشيطان تدري أو لا تدري، وليحفظك الله من تجربة النجاح، كتجربة الفشل سواء بسواء!!.. على أن التجربة الثانية كانت: تجربة الجوع وهي تجربة أخرى تختلف تماماً عن التجربة الأولى،.. فإذا كانت التجربة الأولى أشبه بتجربة الشيطان للمسيح عندما أخذه على جناح الهيكل في المدينة المقدسة، وطلب إليه أن يطرح نفسه إلى أسفل ليراه الكل محمولاً على أيدي الملائكة دون أن يصيبه أذى، فيتملكهم الإعجاب، ويرون فيه المسيا المنتظر،.. فإن التجربة الثانية أشبه بالتجربة في البرية وهو جائع، الذي وإن كان ابن الله فليقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً، والله الطيب لابد أن يهتم بجوع ابنه، ورفض المسيح التجربة بقوله المعروف العظيم: "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله"!!... جلس النبي تحت البطمة، وربما قسا عليه الجوع واشتد في تلك اللحظة ليسأل: كيف يمكن أن يتركه الله جائعاً، وهو النبي الذي يقدم خدمة ناجحة أمينة لسيده؟!.. هذه هي التجربة التي تتشكل بآلاف الصور تحت أية شجرة بلوط، عندما يجلس الخادم في وحدته القاسية ليسأل: أليس من حقه أن يأكل ويشرب كما يأكل ويشرب غيره من جميع الناس؟!... أليس من حقه أن يجد ضروريات الحياة، قبل الكماليات، كما ينبغي لأي ابن لله يرعاه الآب السماوي القادر على كل شيء!!.. فلماذا يجوع؟!! ولماذا يشقى؟!! ولماذا يتألم؟!! ولماذا يحتاج أولاده إلى الطعام والكساء وقد يجدهما أو لا يجدهما مع الصعوبة البالغة القاسية، وأين حنان الله، وحبه ورحمته وجوده؟!! آه أيتها البلوطة كم يحدث تحتك في السريرة من التجارب وأنت لا تدرين؟!!.. وكانت التجربة الثالثة: تجربة المجد العالمي، وكما أخذ السيد إلى جبل عال ليرى ممالك العالم ومجدها، والشيطان على استعداد أن يعطيه إياها جميعاً بشرط أن يخر ويسجد أمامه،.. جاء المجرب إلى النبي ليقول له: ترى هل كان من الضروري أن يرفض دعوة الملك يربعام؟، وألم يكن من الأفضل أن يتريث قليلاً قبل رفضها، حتى يقدم الخدمة الناجحة لإلهه؟!! أليس يربعام بن نباط في حاجة إلى من يرشده ويهديه إلى التصرف الصحيح؟.. وأليس هو في حاجة إلى نبي يعلن له الحق، ويصحح له السبيل؟!!، وأليس إذا ترك يربعام إلى شأنه، هل يضمن أحد أن يستجيب لدعوة الله، وينتفع بالرسالة الواضحة التي تبينها؟!!... هذه أسئلة كثيرة ربما تكون قد أتت له،.. لأنها تأتي إلى خدام الله الكثيرين، الذين يسألون مرات متعددة: هل من الضررة أن يفصل الإنسان بين الدنيا والدين؟، بين الحكمة البشرية وكلمة الله؟!!. وألا يصبح الأمر هنا نوعاً من العزلة التي لا ينتفع بها العالم، أو تغير المؤمنين أنفسهم،... ولماذا لا يدخل الخدام في قصور الملوك حتى تكون لهم الفرصة للخدمة والوعظ، والتعليم والإرشاد؟!!... ما أكثر الخدام الذين يجلسون مع النبي القديم تحت البلوطة تملأهم مثل هذه الأفكار والعواطف، وتهز عقيدتهم ووجدانهم ومفهومهم الديني هزا عنيفاً عميقاً من الأساس!!.. النبي والشيخ الزميل والآن نأتي إلى الفصل الثالث من المسرحية، وتتحول من البلوطة إلى الشيخ النبي الذي سار وراء رجل الله حتى وجده هناك، لتقسو التجربة وتكمل وتفعل فعلها الآثم الرهيب، ولعل القسوة تأتي هنا، من هذا القناع الديني الذي لبسته التجربة وتدثرت به، وجاء الشيطان في شبه ملاك نور، وجاء فحيح الأفعوان على لسان نبي شيخ قديم كان يسكن في بيت إيل ويعيش فيها،... وقد صاح المسيح في وجه بطرس، إذ لم يره التلميذ الحبيب العزيز، بل رأى الشيطان الذي يطل من خلال عينه، ويتكلم على لسانه، ومن ثم قال له: "اذهب عني يا شيطان، أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس" وإذا صح أن الشيطان يأتي إلى المسيح في بطرس، فمن السهل جداً أن نتصور، أنه جاء إلى النبي المرسل إلى يربعام، في زميله الشيخ الأسبق في النبوة، والذي يسكن في بيت إيل،.. ولعل من أصعب الأمور أن تأتي العثرة إلينا ممن هم أكبر منا سناً أو أكثر دراية في حياة المعرفة أو الفهم المسيحي،... ونحن لا نعلم لماذا ذهب الشيخ يبحث عن الشاب ليلتقي به، ويدعوه إلى الطعام، ويكذب عليه،... هل دعاه بدافع الإعجاب، فهو شاب قد بز الشيوخ، وهو صغير قد فعل ما لم يفعله الكبار، وهو المتكلم فيما أغلق غيره الفم وخاف من الكلام فيه،.. وهو الابد أن يجيبه، لأنه جرؤ على ما لم يجرؤ عليه هو،... لقد أرسل الشيخ أولاده إلى الحقل الكبير، ولم يذهب هو، ربما إبقاء على شيء من الإحساس الديني، بأنه لا يجوز له أن يذهب إلى منكر يفعله الملك، وهو لا يريد في الوقت عينه أن يسيء الملك التفكير فيه، أو يتصور إذا امتنع هو وأولاده معاً، أن هذا الامتناع هو نوع من العصيان الذي قد يعاقب عليه وإذا فلا مانع عنده من أن يداور الأمر، فلا يذهب هو، على أن يذهب أولاده، ولن يجد الملك غضاضة من قبول الوضع في التصور أن الشيخ قد يكون مريضاً أو عاجزاً عن المجيء، ما دام يوجد من يمثله ويحل محله،.. وعندما عاد أولاده ليقصوا عليه الأخبار المثيرة في ذلك الشاب الذي شق الصفوف بشجاعة، ووقف أمام الملك ليرعد في وجهه برسالة الله،... استولى على الشيخ الإعجاب وقاده هذا الإحساس بالإعجاب، إلى أن يدعو الشاب إلى بيته، حتى ولو اختلق الأمر وصور له أنه مرسل إليه بالرسالة من الله ليسهل عليه قبول الأمر والاستجابة له!!.. على أن البعض يصور الوضع تصويراً آخر، إذ يعتقدون أن الشيخ قد ذهب إلى الشاب مدفوعاً بالحسد منه، أليس هو الأكبر سناً؟ وها هو قد جلس في بيت إيل أخرس الفم واللسان، دون أن ينطق بكلمة لأن الملك أغلق الأفواه، وهوذا شاب جديد أفضل وأحسن وأعظم منه يتكلم بما عجز هو عن أن يفعله،... وهو إذا لم يكن له مثل هذه البطولة العظيمة فلا أقل من أن يصور لنفسه أنه يمكن أن يكون شريكاً صاحب الفضل في جانب من هذه الخدمة، عندما يرى الناس الشاب داخل بيته، وعلى مائدته، وإذ لم يقبل النبي مائدة الملك إطاعة لأمر الله، فإنه يقبل مائدة الشيخ النبي لأن الأخير شريك في الرسالة العظيمة التي قام بها الأصغر!!... نحن لا نملك أن نعرف تماماً وعلى وجه التحقيق الدوافع التي دفعت الكبير إلى الكذب على الشاب،.. ولكننا نعلم بكل يقين أن الشاب أخطأ خطأ فادحاً قاتلاً!!... وذلك لأنه أبهم الرسالة الواضحة المرسلة له من الله،.. نحن نعلم أن الله كلم الآباء بالأنبياء بأنواع وطرق كثيرة،... وليس من السهل أن نعلم الطريقة التي تكلم بها إلى هذا النبي وحدد له بكل وضوح رسالته إلى يربعام... فهو مرسل من الله ليتحدث عن نبوة ستبدأ به وتنتهي بملك في بطن المستقبل البعيد اسمه "يوشيا" وسيأتي هذا الملك على بعد ثلاثة قرون من يربعام، ولكنه سيأتي ليقود حركة واسعة من الإصلاح، ويحرق عظام الكهنة الكاذبين، ويطهر الأمة كلها،... ومثل هذا الكلام الواضح لا يحتمل الشبهة والتردد، فإذا جاءه شيخ أو ملاك من السماء ليقول له ما يبهم هذه النبوة في جانب منها أو ما يلاحقها من أمر إلهي واضح صريح، فإن واجبه الكامل أن يرفض رفضاً قاطعاً، أية أفكار أو مزاعم تدعى أنها منسوبة إلى الله، والسر واضح بين لا يحتمل الإبهام والتردد، لأن الله لا يكذب أو يناقض نفسه وأقواله،... لكن النبي الشاب، وقد اختمرت التجربة تحت البلوطة في ذهنه، كان أشبه ببلعام بن بعور الذي عاد يسأل الله، ما يعلم يقيناً أن الله كشفه له بكل وضوح.. كان الشيطان قد وجه إلى الشاب ضرباته الشديدة التي جعلته يترنح، وجاءت كلمات الشيخ الكاذبة، لتكون الضربة القاضية الأخيرة عليه!!... على أن الأمر الأكثر إثارة وعجباً، أن الشيخ وهو على المائدة أجبره الله على أن ينطق بمصير الشاب التعس ومصرعه الوشيك على الحدوث، ومن حقنا أن نقف هنا على حقيقة بالغة، إن المجرب في العادة لا يشفق على الضحية، وسيكون هو أول من يخبرها بالقضاء الإلهي الذي يقع عليها،.. ومن المحزن المؤلم أن النبي الشيخ بعد أن سمع بمصرع النبي الشاب أخذ يصيح عليه قائلاً: "آه يا أخي".. ونحن نسأل عن هذه الصيحة أو هذا النوح أو البكاء، وما معناه أو مغزاه،.. أهو نوع من الإحساس بالذنب أدرك الرجل إذ علم أنه السبب في هذا المصرع البشع؟!!.. أم هو نوع من الألم عندما نرى أنفسنا تجاه مقتل رجل عظيم، ولا كل الرجال!!.. أم أن الرجل مد بصره بعيداً فرأى في المصرع رمزاً لمصرع أمة بأكملها؟!!... قد يكون الأمر واحداً من هذه، أو قد تكون هذه جميعاً مختلطة معاً!!... النبي والأسد كان مصرع النبي قاسياً بشعاً: "فصادفه أسد في الطريق فقتله" ولابد لنا أولاً وقبل كل شيء أن ندرك هذه الحقيقة أن ما يأتي في فهم الناس على أنه "مصادفة" سيئة، لا يمكن أن تكون في واقعها إلا أمراً إلهياً معيناً،... ومهما كانت المصادفة رهيبة، فإنه لا توجد بلية في الأرض إلا والرب صانعها،... والمصادفة عند الناس مردها في الواقع صعوبة التحليل، ومعرفة الخط الإلهي، في الأحداث والحوادث، ويكفي أن تقرأ مثلاً ما جاء في المزمور المائة والرابع: "الأشبال تزمجر لتخطف ولتلتمس من الله طعامها"... والشطر الأول يتحدث عن الظاهرة في الحيوان الأعجم الذي يحركه الجوع إلى الزمجرة والخطف،... والشطر الثاني يتغور إلى الأعماق، إذ تتحول الزمجرة إلى ما يشبه الصلاة والالتماس من الله أن يعطيها الطعام،.. وفي مصرع النبي جاء الجواب هنا بالدليل العكسي، إذ أن الأسد لم يأكل الجثة أو يفترس الحمار، ووقف إلى جوارهما حتى جاء الشيخ وأخذ الجثة ليدفنها!!... ولعلنا نستطيع أن ندرك هنا، أن المادة الصماء، والغريزة المنفعلة، والعقل المفكر، والقلب الواعي: تخضع جميعها، وتتحرك تحت سلطان الله وأمره وسيطرته، وأن كل ما في الوجود، يتمم مشيئته، ويعمل لمجده، وينتهي إلى إثبات مقصده العلوي العظيم!!... والسؤال بعد هذا كله لماذا قضى الله على نبيه بهذه الصورة القاسية الشديدة البشعة؟ هناك أكثر من تفسير لذلك،... والتفسير الأول: أنه ابتداء القضاء من بيت الله، وأن الله يحكم كل شيء، لا بحسب مفهوم الترتيب البشري، بل بحسب الحكمة العلوية الخفية، التي تختلف أفكارها عن أفكار الناس، وطرقها عن طرقهم،... ولو وضع الأمر بحسب الترتيب البشري، لكان المتصور أن الضربة الأولى لابد تقع على يربعام بن نباط، ولكن الله أرجأ هذه الضربة اثنين وعشرين عاماً ليقضي عليه بعد أن تمادى في شره، ولم يرع، أو يتنبه أو يقبل أصوات الله المتلاحقة،... وكان التصور الآخر أن الضربة الثانية تقع على عاتق الشيخ الذي كذب عليه، وكان السر والمشجع على ضياعه ولكن الشاب مات قبل الشيخ، ودفنه الشيخ في قبره، وتصورناه أنه يمكن أن تقع عليه الضربة الثالثة جاء ترتيبه أولاً لكي يتأكد الناس أن الله لا يمكن أن يتحيز أو يحابي الوجوه أو كما يقول الرسول بطرس: "لأنه الوقت لابتداء القضاء من بيت الله، فإن كان أولاً منا فما هي نهاية الذين لا يطيعون إنجيل الله، وإن كان البار بالجهد يخلص فالفاجر والخاطيء أين يظهران... وسندع الله يضرب ضرباته الرهيبة التي ستأتي فيما بعد، لكن على المؤمن أن يتحذر لأن الله قد يجعله أولاً عبرة للآخرين، وإذا كانت خطية النبي قد عوملت هذه المعاملة، فستكون معاملة يربعام أقسى وأشد وأشنع، وستبقِى عظام النبي ثلاثمائة عام في قبرها، أما يربعام فسيلحقه الدمار الرهيب: "لذلك ها أنذا جالب شراً على بيت يربعام، وأقطع ليربعام كل بائل بحائط محجوزاً ومطلقاً في إسرائيل وأنزع آخر بيت يربعام كما ينزع البحر حتى يفنى من مات ليربعام في المدينة تأكله الكلاب ومن مات في الحقل تأكله طيور السماء لأن الرب تكلم".. لقد قضى الله على نبيه أولاً، لأن انتظاراته من هذا النبي كانت أكثر وأعظم، ولأنه بدأ حسناً، وانتهى سيئاً، أو لأنه -في عرف تفسير آخر- كان في انحداره النفسي يخشى أن تكون حياته لو عاش أسوأ بما لا يقاس منه عند مماته،.. ووجد من قال آخر الأمر: إن أحكام الموت في حد ذاتها تعلو على كل فهم بشري، وتنتظر يوماً لم يأت بعد عندما يقف الجميع أمام العرش العظيم الأبيض: "ثم رأيت عرشاً عظيماً أبيض والجالس عليه الذي من وجهه هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع ورأيت الأموات صغاراً وكباراً واقفين أمام الله وانفتحت أسفار وانفتح سفر آخر هو سفر الحياة ودين الأموات كما هو مكتوب في الأسفار بحسب أعمالهم".. ولعله من الواجب أن نتريث فلا نتعجل الحكم قبل هذا اليوم الرهيب العظيم!!... على أن بعض المفسرين -مع تسليمهم بهذا كله- رأوا النبي في موته رمزاً لإسرائيل بأكملها، لقد قتله الأسد، ولم يفترس الحمار، لأنه وصل إلى مركز أسوأ من الحمار نفسه، لأن الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف وشعبي لا يفهم، والذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر، وعندما سقطت المملكة وتبادعت عن الله، أرسل إليها السباع لتفتك بالناس، وكانت جثة النبي وقد قتلها الأسد رمزاً لجثة إسرائيل بأكملها، بعد أن قضى عليها الله قضاءه العظيم العادل!!... مهما تكن الصورة،.. فإن قصة الرجل ظلت محفوظة عند الناس حتى جاء يوشيا الملك بعد ثلاثمائة عام ليراها معروفة للجميع، وغير مجهولة من أحد!!... وعلى أي حال فإن مصرع النبي سواء في المفهوم الشخصي أو الرمزي كان عميق الدلالة، ممتد المغزى بعيد الأثر!!... النبي والصورة مات النبي ودفن في بيت إيل، ودفن الشيخ إلى جواره، وكانت تعلو المقبرة صوة عالية مميزة رآها يوشيا الملك، ولفتت نظره، ولم تلفت نظره وحده، بل إنها لفتت أنظار التاريخ إلى أن تنتهي الأرض وما عليها،... والصوة تؤكد صدق الله الساهر على كلمته ليجريها، والذي يحكم التاريخ إلى ألف جيل، ولا يمكن أن يسقط حرف واحد من كلمته الصادقة الصالحة الكاملة الأبدية!!... وإذا كان يوشيا قد أخرج عظام الكهنة الأشرار والناس، وأحرقها ليطهر الأرض منها. فإنه أبقى على عظام النبي دون أن تمس، وهي التفرقة التي لابد أن تكون عندما يفرق الله في الأبدية، بين الأبرار والأشرار: "فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي والأبرار إلى حياة أبدية" وإذا كانت القبور تختلط في القصة الأرضية، ولا تستطيع أن تفرق أو تفصل بينها بعضها والبعض، أو بين من فيها، فسيأتي ذلك اليوم الذي تصنع فيه التفرقة الحاسمة الأبدية!!... وإذا كانت القرون تمضي قبل أن يحدث مثل هذا الفصل الذي صنعه يوشيا بعد ثلاثة قرون ليتمم مشيئة الله، فإن ثلاثمائة عام أو آلاف الآلاف من الأعوام، لا يمكن أن تسقط حرفاً واحداً من صدق الله حتى يفصل إلى الأبد بين الأشرار والأبرار!!... وثمة كلمة أخيرة نذكرها ههنا، فإذا كان القبر الواحد قد جمع بين النبييين، فهل هذا يعني أنهما قد ذهبا إلى مكان واحد أبدي؟! وهل كانت عقوبة النبي الشاب تأديباً له، ليخلص كما بنار؟؟ وهل كان موته عظة للشيخ الآخر، ليتعلم من حياة الشاب وموته، ما كان ينقصه من تعليم وتذكير، وهو يعيش في بيت إيل على مقربة من يربعام الذي أخطأ وجعل إسرائيل يخطيء؟!!... لندع كليهما في الحياة أو الموت، حتى يظهر أمام عرش المسيح، وليكن لهما من الجزاء أو المكافأة أو المكان لا بحسب ما يفكر الناس أو يتصورون أو يتخيلون، بل بترتيب الله الحكيم الذي بيده وحده الحياة والموت والجزاء والمكافأة والدينونة ولنقف في كل الأحوال أمام جلاله السرمدي الأبدي صائحين بتضرع واحد "في الغضب أذكر الرحمة".. آمين فآمين فآمين..
المزيد
06 فبراير 2021

المقالة الرابعة والعشرون في من يخطئون متواتراً ويتوبون مراراً قليلة

حتى متى أيها الخليل تحتمل العدو وتكمل كل حين ما يسره ويؤثره، حتى متى أيها الصديق تخدم الجسديات الحاملة الموت وتتعبد لها، تمسك بمشورتي فتحييك وتطهر نفسك مع جسدك، تقدم إلي المخلص كافة الذين يجثون لدية بتوبة حارة، قد استيقظت فلا تغرق بالسكر وتخطئ كل يوم وتبني وتنقض مضاهياً للصبيان الذين يبنون بيوتاً وينقضونها، حد عن العقرب الذي عرفت قرصته، أهرب بحرص من الحية التي اختبرت سمها لأن من يصدم الحجر نفسه دفعتين أعمى وأحمق لا يبصر ما يجب أن يهرب منه، إذا كان لك مثل هذا الحرص فتزداد في التوبة، وإذا حويت مثل هذا العزم فأسترحم الخالق وأستعطفه متواضعاً ومكتئباً مطرقاً ومبتهلاً متوجعاً علي ما لحقك متوقعاً الأواخر هكذا خلص زكا العشار، هكذا ظهر متى عبداً للمسيح، كذلك المرأة الزانية الفاسقة الفاجرة المتنعمة المستكلبة التي كانت عثرة من يعاينها لما مسحت رجلي المخلص بشعرها أنتشلت من جباب المآثم العميقة هكذا واضع أنت حاجبيك فتظهر مرحوماً وتخلص ذاتك لأن اللـه يقوم الذين يحتقرون ذاتهم والمتواضعين ويقتلع ويرذل الذين يعلون ذاتهم، أبصر مدينة أهل سدوم وعمورة الجنس الجافي القاسي الجنس الجسور والدنس المختبط في الهواجس كل وقت السقيم بهيام الفجور والمجامعات المنافية للشريعة، فأمطر عليهم الكبريت والنار وأباد الجنس كله، أبصر أيضاً نينوى البهية والجميلة المزهرة بالخطايا النابعة الرذائل فتوعد أن يقبلها وأمر بسرعة بدمارها وسقوطها، فلما عاين المتنعمين لابسين مسوحاً وفي الرماد والجوع والصوم والنوح والبكاء والدموع متقشفين مصفرين مرعوبين مرتعدين متغيرين متساوين الأحرار والعبيد، التجار والفقراء، الرؤساء والمرؤسين، المقتدرين والمطيعين، الذكور والإناث، الشيوخ والأطفال منذ اللبن، وكلهم أعفاء ترأف رحم خلص شفق تعطف، وحل بصلاحه النقمة التي تواعدهم بها، وأحتمل أن يكون نادماً أفضل من أن يظهر قاسياً هكذا يعذب الخطاة الذين لا ينعطفون إلى التندم، ولا يسمح أن يهلك السريع إذعانهم بل يشفق عليهم، فلهذا أسرعوا تضرعوا أخلصوا تحفظوا، فالرب مستعد بالإحسان وبالشفاء سريع إلي الإغاثة، نشيط إلي الأقتداء، فياض علي المستمعين، فاتح للقارعين، واهب للطالبين، مفضل علي المحتاجين، لا يحسد الذين يطلبون، ولا يدفع الواقعين بل يعطيهم يده، يفتح إذا طلبوا حلاً، يتوعد الذين لا يخضعوا لسيادته، إن كنت غلطت فُقْ، أو سقطت أرجع أبتهل تضرع أسجد أسأل أطلب خد ايقن انك تعطي، أسأل أن تخلص توسل إلي القادر أن يعطي إذا وقعت أنهض، إذا تقومت تقدم، إذا برئت أثبت، إذا عوفيت بالجملة وخلصت فحد عن المرض الذي طرحته، لا تضرم اللهيب الذي طفأته، لا تعبر بالحمأة التي بالجهد غسلت منها لئلا تماثل الخنازير التي تفرح بالحمأة، لا تغاير الكلاب التي تلحس فيها فمن يضع يده علي سيف الفدان مرة ويلتفت إلي الوراء لا يجد الملك، ومن أغتسل دفعة لا يحاضر إلي الوسخ. إن المسيح واحد، الأمانة واحدة، الصليب واحد، الموت واحد، النعمة واحدة، الألم واحد، القيامة واحدة، لا يجب أن يذبح من قد ذبح ولا يدفع ذاته فداء عنك، قد فديت فلا تصر عبداً مختاراً للعبودية، مرتين غسلت أستحميت فلا تتوسخ فإن ليست حمام أخرى منصوبة مستعدة للغسل. صلاة: أشفيني يارب فأبرأ أيها الطبيب الحكيم والمتحنن أتوسل إلي صلاحك أشفِ جراحات نفسي وأضئ عيني ذهني لأتأمل تتابيرك الصائرة إليَّ كل حين فإذ قد تفه قلبي وذهني فلتطيبهما وتملحهما نعمتك بملح الحياة، فماذا أقول لك يا ذا العلم السابق الفاحص القلوب والكلى أنت وحدك قد عرفت أني مثل أرض لا ماء لها قد عطشت إليك نفسي وصبا إليك قلبي لأن من يحبك تشبعه نعمتك كل حين، فكما أستمعتني كل حين لا تعرض الآن عن وسيلتي، فإن ذهني كالمسبي طالباً إياك وحدك، فمنذ الآن أرسل نعمتك سريعاً لتوافي لإغاثتي وتشبع جوعي وتروي عطشي، إليك أشتاق أيها السيد الذي لا يشبع منه لأن من يستطيع أن يشبع منك إذا أحبك بحق وظمأ إلي نورك يا معطي النور أعطيني وسائلي وامنحني طلبتي وأقر في قلبي نقطة واحدة من نعمتك وليتوقد فيه لهيب محبتك كالنار في الغابة وليأكل الشوك والقرطب أي الأفكار الخبيثة أعطيني بسماحة وبلا عدد كما يليق بالإله المعطي الإنسان، وامنحني بما أنك ملك الملوك أكثر منحتك كما يليق بك أيها الإله الصالح، وإن كنت قد غدرت وخالفت وأخالف بما أنني ترابي لكن يا من ملأت الجرار من بركتك أملأ عقلي من نعمتك، يا من أشبعت خمسة آلاف أشبع فقري من خلاصك، أيها المتعطف علي الناس أعطي عبدك الطالب إليك طلبته لأن ها الهواء يتباهم والطيور تبذل نغماتها من قبل مجد حكمتك الجزيلة، والأرض كلها لابسة حلة الأزهار المتلونة التي نسجت بغير أيدي بشرية تبتهج معيدة عيدين العيد الواحد من أجل أبنها البكر آدم لأنه عاش، والآخر من أجل سيدها، والبحر ها هو ينمو ويزداد من نعمتك ويغني من يسيرون فيه، نعمتك منحتني دالة أن أتكلم أمامك والشوق الذي شملني يضطرني أن أتقدم إليك، إن كان الثعبان الذي قتل الإنسان منذ القديم يتقدم في هذا الزمان فيفتح فمه، فكم أولي بعبدك التائق إليك أن يفتح فمه لتشريف ومديح نعمتك، أيها القائل والمادح فلسي تلك الأرملة أقبل طلبة عبدك، وأنمي ابتهالي، وامنحني سؤالي لأصير هيكلاً لنعمتك وتسكن فيَّ لتعلمني كيف أرضيها لكي ما تقرع معزفتي بلحن تخشع وتملأني سروراً أو تجبح ذهني كبحاً كأنه بلجام لئلا يضل فيخطئ إليك وأخرج من ذلك النور. أستمع يارب أستجب يارب طلبتي وامنحني أنا الضائع أن أدعى في ملكك، فقد كنت نجساً فطهرت، وغبياً فتحكمت، وجاهلاً فصرت نجيباً، وأحصيت في رعية منتخبيك. إن جماعة القديسين المبتهجين في الفردوس الذين أرضوك يشفعون فيَّ ويتضرعون إليك فأسمع طلبتهم وخلصني بوسائلهم لكي ما أقرب لك مجداً. أنت يارب قلت بنبيك ” أفتح فمك فأملأه ” فها قد فتح فم عبدك مع قلبه فأوعبه من نعمتك لكي ما أثني عليك بالتبريك كل حين، أيها المسيح الإله مخلصنا، أيها المتعطف الصالح أمطر في قلبي مطر نعمتك، وكما أن الأرض المزروعة لا تستطيع أن تربي من ذاتها الغلات بغير أفتقاد خيريتك، هكذا قلبي لا يستطيع أن ينطق بالمرضيات إلا بنعمتك، أو يثمر ثمر العدل إلا بها، ها أوان الحصاد يربي الغلات والشجر يتكلل بالأزهار الملونة، فليضئ ذهني ندى نعمتك وليوشه بأزهار الخضوع والتواضع والمحبة والصبر، وماذا أقول الآن ها صلاتي ضعيفة ومآثمي قوية وعظيمة وخطاياي تضغطني وأمراضي تتمرض عليَّ. فيا من فتحت عيني الأعمى أفتح عيني ذهني لكي ما أتأمل في كل حين جمالك، يا من فتحت فم الحمار أفتح فمي إلي مديحك وتشريف نعمتك، يامن وضعت لجماً للبحر بكلمة أمرك أضع علي قلبي لجماً بنعمتك لكي لا يجنح يميناً أو يساراً من جمالك، يا من أعطيت ماءً في القفر للشعب الذي لا يذعن المجاوب أعطي نفسي تخشعاً وعيني دموعاً فأبكي بها ليلاً ونهاراً علي أيام حياتي بتواضع عزم ومحبة وقلب نقي، فلتدنِ طلبتي إلي حضرتك يارب وأعطيني من زرع قداستك لكي ما اقدم لك أغماراً مملوءة خشوعاً، وأشكر صارخاً المجد لك أيها المعطي، أسمع يارب صلاة عبدك بشفاعة كافة قديسيك.يا من لم يزل مباركاً إلي الدهور. آمـين مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
04 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس المرأة الشونمية

وفي ذات يوم عبر اليشع إلى شونم، وكانت هناك امرأة عظيمة... مقدمة تختلف مقاييس الناس اختلافا بينا كبيراً حول تحديد من هو العظيم في هذه الأرض!! ولاشك أن الكثيرين جداً يحكمون على العظمة بالنظر إلى الظاهر في الإنسان، فالإنسان عظيم على قدر المظهر الذي يعيش به بين الناس، وهذه العظمة، ليست في الواقع إلا عظمة القشور، وقد رفضها المسيح وهو يتحدث عن عظمة المعمدان قائلاً: «لكن ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك.... الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان...»، ولو كانت القشور هي العظمة الحقيقية، لخرج لا الرسول بولس أو التلاميذ فحسب، بل لخرج المسيح نفسه الذي لم يكن له أين يسند رأسه.. وقد يقيس آخرون العظمة، على قدر ما يملك الإنسان من نفوذ أو سيطرة أو استبداد أو طغيان، ومن ثم جعلوا في القمة بين العظماء، جبابرة الحروب أمثال الاسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم، أو من وصفهم السيد بالقول: «إن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وأن عظماءهم يتسلطون عليهم».. وقد يرى آخرون العظمة في المفكرين والفلاسفة ممن يرفعون مصابيح النور ومشاعل المعرفة هداية للحائرين في الطريق الإنساني المظلم، ومن ثم عدوا في مقدمة العظماء سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة القدامى والمحدثين، ووجد من قاس العظمة عند المخترعين والمكتشفين والعلماء من رواد الطريق إلى الحضارة والمدنية والرفاهية بين الناس، لكنني أعتقد أن العظمة الحقيقية تبدأ من عظمة الإنسان على نفسه، وانتصاره على ما في أغوارها من باطل، والعثور على معنى وجوده ورسالته في الأرض، والخدمة والتضحية والبذل، وقد كانت الشونمية بهذا المعنى واحدة من العظيمات اللواتي سطرت عظمتها في وحي الكتاب بأحرف بارزة جليلة، وقد يكون من الخير والحق أن نتأمل قصتها العظيمة فيما يلي من صور: من هي الشونمية لم يذكر الوحي لنا اسم المرأة، ولا نعلم سوى أنها من قرية شونم، والتي كانت تقع على بعد خمسين ميلا إلى الشمال من أورشليم، وإلى سبعة أميال إلى الجنوب من المدينة التي عرفت فيما بعد بالناصرة والتي عاش فيها المسيح مخلص العالم، ومع أننا لا نعرف الكثير عن حياة هذه المرأة، إلا أننا نعلم أنها كانت من الطبقة المتوسطة الغنية، وأن بيتها كان من البيوت الظاهرة في القرية، بل وربما أغناها وأيسرها، وأن لقمة العيش كانت سهلة وميسورة، وأنها كانت تملك أرضًَا، تدر عليها الوفير من العيش والحياة، وأنها يوم اضطرت إلى الهجرة لمجاعة طارئة رد الملك لها أرضها المغتصبة، والحياة كانت هادئة وطيبة للمرأة، حتى أن أليشع عندما سألها عما اذا كان يعوزها شيء، ردت بأنها ساكنة في وسط شعبها، لا تقلق أحدا، ولا أحد يتعرض لها بالإقلاق أو المضايقات أو الترفع على من حولها من القرويين أو الريفيين كما يفعل بعض الثراة أو الأغنياء من أهل الريف، بل يبدو أنها كانت امرأة وديعة مجبولة على روح الوداعة والتواضع، وكانت المرأة لها أكثر من ذلك الكرم القروي الطبيعي غير المتكلف، فهي لا تعطي فحسب، بل تسر بالعطاء والجود والكرم، وعلى وجه الخصوص الضيوف العابرين في الطريق، والغرباء الذين يحتاجون إلى معونة ومساعدة، على أن المرأة تميزت أيضًا بالتقوى العميقة الصادقة، فكل حركاتها وسكناتها، وكل مشاعرها وعواطفها، وكل ما صدر عنها من أفعال أو انفعالات كانت تكمن وراءه روح امرأة تقية عميقة التقوى، تخاف الله وتحبه، وتقبل منه الآلام والآمال، بوداعة وتسليم ورضا وخشوع وسكينة وحب!! ولعل هذه كلها هي التي أعطتها ذيوعًا وشهرة أكثر من زوجها، الذي أخذ مكانه في الظل إلى جوار شخصيتها القوية العظيمة الواضحة!!.. الشونمية ومظاهر عظمتها وإذا كانت الشونمية، توصف في المعنى العام بالمرأة العظيمة إلا أن مظاهر عظمتها قد ظهرت على وجه الخصوص في بعض المواقف الموثرة البطولية في عرض حياتها وسيرتها، ويمكن أن تراها بوضوح فيما يلي: عظمة التقوى رغم الحرمان من السهل على الإنسان أن يتصور التقوى تسير سيرها المطرد المستمر، مع نجاح الإنسان أو خيره، أو سلامته، أو مدى ما يتمتع به من دسم أو وفرة، ومع أن المرأة الشونمية كان لها الكثير، لتشكر الله عليه، وتغني بالحمد لجلاله، إلا أنها رغم ذلك كانت محرومة من أغلى ما كانت تحن إليه المرأة اليهودية في ذلك الوقت، بل أن هذا الحرمان كان يصور في كثير من الأوضاع والصور، كغضب الله أو قسوته أو شدته، عندما تكون المرأة عاقرًا لا تنجب أو تلد، ولعلنا نذكر المذلة التي كانت تفيض بها مشاعرها من هذا القبيل، ولا يمكن أن ننسى في هذا المجال سارة ورفقة وراحيل وحنة وغيرهن من النساء، ألم تؤثر راحيل الموت على حياة العقم وعدم الإنجاب، وألم تبك حنة في مرارتها القاسية في بيت الله لأنه لم يكن لها ولد!! ولعل الشونمية التي ظلت سنوات كثيرة بلا ابن، قد بكت مرات بلا عدد أو حصر وهي أمام الله في الصلاة، أو في عزلتها من الناس، أو ربما أمامهم، وهي تنشد الولد أو تحن إليه، ولكنها مع هذا كله لم يعرف منها أو عنها قط حياة التذمر أو التمرد أو الشكوى أمام الله والناس، لقد كانت في حرمانها المرأة التقية الزكية الإحساس المفعمة بالتسليم والسكينة والرضا لقضاء الله وأمره، كما كانت بعد مجيئة، ذات المرأة الممتلئة بكل عرفان وشكر وحمد لرحمته وإحسانه وجوده، بل لعلها كانت تقول مع أيوب، عندما تتعرض للإحساس بتجربة لتذمر «هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئًا فقط أزكي طريقي قدامه...» أجل كانت المرأة في كل عقهما، وبكل عمقها، مظهرًا عظيمًا لتقوى المحرومين من هذا أو ذاك أمام الله.. عظمة الخدمة دون انتظار الأجر ولعل المظهر الثاني لعظمة هذه المرأة كانت روح الخدمة التي تتملكها، دون أدنى تفكير في رد أو جزاء بشري، لقد خدمت أليشع وتعبت في خدمته، على النحو الذي أثار الرجل وحرك مشاعره، فناداها، يطلب إليها أن يرد بعض المعروف مقابل ما سبب لها من انزعاج واهتمام ومتاعب، ولكن المرأة تجيب بأنها لا حاجة لها إلى شيء وهي ساكنة آمنة في وسط شعبها، لقد أوغلت في خدمتها إلى أليشع حتى أنها بنت له في بيتها علية يأوى إليها كلما جاء أو عبر الطريق، دون أن تنتظر جزاء أو شكراً، سوى احساسها العظيم بلذة الخدمة نفسها اللذة التي لا يستطيع أن يدركها سوى أولئك الذين خرجوا من نفوسهم إلى الآخرين، ومن الأثرة إلى الإيثار، ومن محبة الذات إلى محبة الجميع، كل من يمد يده إلى المتعب والغريب والضائع والمشرد والبائس والباكي وما أكثرهم في كل زمان ومكان على ظهر هذه الأرض!!.. عظمة السلام رغم وقوع الكارثة على أن المرأة تبدو في أروع صور العظمة عندما يموت ولدها الوحيد، قرة عينها، وبهجة قلبها، والذي جاء بعد ما ذكرنا من الحرمان القاسي لسنوات متعددة طويلة، والذي عاش سنوات بلغ فيها مرتبة الصبي، التي تجعله يخرج من البيت ويذهب لأبيه في الحقل، أو يجري هنا وهناك كما يجري سائر الأولاد اللاعبين الضاحكين مثله وفي سنه، وقد جاءت الضربة مفاجئة وغير متوقعة إذ كانت ضربة شمس وهو عند أبيه في الحقل، وكانت مسرعة وقاسية ومذهلة، فما أسرع ما يصل الصبي إلى أمه، حتى يموت قرب الظهيرة في حجرها، وهنا يقف الإنسان أمام مشهد من أدق وأقسى المشاهد التي يمكن أن يراها المرء في حياة الناس، كيف تواجه المرأة الكارثة وتتصرف إزاءها! لقد تحولت في دقائق ولحظات إلى أعظم صورة يمكن أن تتصورها من العظمة في مواجهة الفاجعة والآلام، ومع أن المرأة في العادة لا تنصرف بمفردها في مثل هذه المواقف التي تهزم أصلب الأعواد وأشجع القلوب، إلا أنها مع ذلك حرصت على ألا يعلم زوجها شيئًا عن الأمر، إذ قصدت أن تلوذ برجل الله والذي لم يكن في بيتها بل كان في الكرمل على بعد عشرة أميال على الأقل، وإذ يستفسر الزوج عن سر ذهابها تجيب بكلمة واحدة: سلام... وعندما تقترب من النبي، ويفزع إذ يراها مسرعة إليه فيرسل جيجزي بسؤال واحد: أسلام لك. أسلام لزوجك. أسلام للولد تجيب أيضًا بكلمة واحدة: سلام! وكيف يمكن أن يكون هناك السلام للنفس التعسة الحزينة المرة المفجوعة بل للنفس التي راضت حياتها على الصورة الأولى من غير ولد، وكان يمكن أن تستمر هكذا حتى استيقظ فيها الأمل بمجيء الغلام الذي أضحى هو الحياة بل أهم من الحياة عندها؟ كيف يمكن أن يكون السلام وقد كانت في قصتها الأولى كمن يسير قريبًا من الأرض لا يهتز إذا سقط عليها، ولكنه سرعان ما يصعد إلى أعلى الأدوار ليسقط، ولا يترضض فقط، بل ليتهشم تهشيمًا، ويضحي أشلاء تذروها الرياح، وكيف يمكن للإنسان أن يصل إلى السلام عندما يعصره الألم، وينضح بالتعاسة والدموع! هذا موقف من أندر المواقف وأقساها، ولو أن المرأة واجهته بما لم تواجهه امرأة أخرى إذ تغلق على ولدها ولا تذرف دمعة، ولا يعلو صوتها بتشنج أو نحيب، بل تذهب بصمت مليء بالمرارة إلى رجل الله، لكانت من أعظم النساء اللواتي عرفن في مواجهة الصدمات بشجاعة وصلابة وصبر في هذه الأرض، لكن المرأة ارتفعت فوق المرارة والآلام والتعاسة والأحزان التي لا توصف بشيء أسمى وأعلى وأمجد!!... لقد كانت أشبه بالطائر المرتفع الذي يشق طريقه إلى أعلى السموات مرتفعًا فوق الغيوم والسحب والأمطار ليواجه الشمس المشرقة الرائعة العظيمة، لقد واجهت المرأة المحنة بإيمان عجيب، قل أن يكون له نظير أو مثيل في حياة الناس، لقد آمنت أن الولد الذي جاء بمعجزة، سينهض من الموت ويقوم أيضًا بمعجزة، وقد حول هذا الإيمان نارها الملتهبة سلاماً وعذابها الذي لا يوصف هدوء وسكينة، لايمكن أن تكون من صنع الإنسان أو من قدرة ذاتية عنده، بل من روح الله وشخصه المبارك الذي لا يترك المؤمن، بل يجتاز معه الأتون المحمي سبعة أضعاف ويخرجه منه على نحو خارق من البهاء والجمال والعظمة على مشهد من الجميع ويصورة تذهب مضرب المثل كلما ذكرها الناس كواحدة من أقسى التجارب في حياة البشر على هذه الأرض!! وهل هناك عظمة يمكن أن تداني هذه العظمة في مواجهة المحن والآلام. الشونمية وجزاؤها المبارك كانت الشونمية، وهي تأخذ جزاءها من الله، أشبه بذلك القديس الذي تذكر القصة الخيالية أن الله طلب منه أن يختار أية عطية سيمنحها له المولى مهما كانت غالية وعظيمة وكريمة وأبي القديس وهو يقول الله: لقد أعطيتني ياسيدي فوق ما أطلب أو أحتاج، وأنا أسير إحسانك وجودك، ولا يعوزني قط شيء من الخير، وأجابه الله: ولكني أريد أن أعطيك أكثر فاطلب ما تشاء أو تريد!.. وقال الرجل: إذا كان ولابد يا مولاي!! فاني أرجو أن تعطيني أن أفعل الخير دون أن أحس إني فعلته أو قمت به!! وقال الله له: ليكن لك ذلك!.. وكان الرجل يسير فإذا وقع ظله على مريض شفي وبريء دون أن يشعر!! ولعله من الملاحظ أن المرأة لم تطلب الولد عندما سألها أليشع ولكن الولد جاء نتيجة ملاحظة جيحزي، إن البيت خال من ابن! لقد قدمت المرأة خدمتها وترحيبها وعطاياها تحت إحساسها العميق، بأن هذا ليس من واجبها فحسب بل هو امتيازها الأعظم أيضًا، ورأى الله أن المرأة أقرضته وأعطته وهو لا يقبل أن يكون مديونًا لأحد، وهو إذ يعطي إنما يعطي أضعافاً مضاعفة لا يمكن أن توازن بما يقبل أو يأخذ، ألم يقل السيد: «من يقبل نبيًا باسم نبي فأجر نبي يأخذ ومن يقبل بارا باسم بار فأجر بار يأخذ ومن سقي أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق أقول لكم إنه لا يضيع أجره».. وهل ضاع أجر المرأة، ألم تأخذ الولد، ولم تأخذه مرة واحدة في الحياة. بل أخذته مرتين؟ وألم تأخذ خيرًا سابقًا ولاحقاً لما قدمت لرجل الله من ضيافة أو كرم، عندما فاض عليها الله بالخيرات الكثيرة في بيتها، وعندما حفظ الله لها أرضها طوال المجاعة التي استمرت سبع سنوات، واغتصب الغاصبون حقلها، فلم يرد لها الملك الحقل عندما صرخت إليه فحسب، بل رد لها أكثر من ذلك غلاته التي أخذت طوال فترة غيابها عن شعبها وبلادها، طوال السبع السنوات من المجاعة القاسية. أيتها الشونمية العظيمة! هل يتعلم الناس، وهم يبحثون عن العظمة كيف تكون أصلا في العادي من الحياة في السماحة والجمال والدعة والخدمة بينهم، قبل أن تكون في طلب الخوارق والعجائب والمعجزات، والله على استعداد أن يعطي هذه وتلك، لمن يعيش ويحيا كما عشت وحييت، وكنت بحق في الحالتين كما ذكر الوحي «وفي ذات يوم عبر أليشع إلى شونم وكانت هناك امرأة عظيمة».
المزيد
20 يناير 2021

الميمر 167 على تلك الآية التي صنعها ربنا في قانا الجليل

ايها الابن الذي كان قد كثّر الخمر الجيد في الوليمة، اعطني لاشرب السيول الحلوة الموجودة في تعليمك، ايها المدعو الذي اثرى من موهبته من دعوه، صبّ هنا ايضا خمر محبتك ليسعدنا، لا تتاخر عن المجيء عند نقصي، ها قد دعوتُكَ ليس الى قانا لكن الى فكري، ربي هلّم وضع فيّ سيول تراتيلك الحلوة، بيعتك هي اعظم من الوليمة التي دعوتُك اليها كثّر عليّ المادة التي تسكرها وتشبعها، هوذا لساني يمزج في عرس البيعة المقدسة، اثلم واجرِ فيّ الشراب الروحي الذي يسعده، ساعدني لاتكلم عن هذه الآية العجيبة لكي اسقي بيعتَك خمر تعليمك الجديد، جعلتني ساقيا في عرس الشريفة، فلا تنقص بسببي اجانة المواضيع من امتلائك. ضرورة حضور المسيح في قانا:- انحدرت ارادته وحثت الذين يدعون ليدعوه ايضا مثل البقية الى الوليمة، نخسهم امرُه وايقظهم لياتوا عنده، وبعدما يدعونه لا يتاخر من الذهاب، كان سيذهب حتى ولو لم يدعوه، لكي يصنع آية ويحس العالم بلاهوته. طريق الزواج طاهرة:- كان يليق ان يبدأ بالقوات في العرس، وفي بيت الزواج يمدّ اليد للقداسة، ركض ووقف على الباب الذي يُدخِل الجنسَ لكي ينشر التعليم لكل من ياتي الى العالم، اتى ليخطب عروس النور بصلبه، فتوجه اولا حيث كانت توجد العروس الزمنية، المسيح ايضا كان ختنا قديم الاجيال، وقد اتى ليخطب بيعة الشعوب بذبيحته، ابان هناك بان طريق الزيجة طاهرة، والزواج مُتقن جيدا من قبل الله. المسيح ليس غريبا عن ابيه الذي اتقن الزواج:- لو كان الزواج ذاته والشركة مدنسَين، لما كان يدخل ويختلط في وليمته، لو لم تكن طريق الختن جميلة، لما كان يحل في مريم بقداسة، لقد اتكأ في الوليمة ليبارك سرير الشركة، راى بان الزواج متقن جيدا بواسطة ابيه، وعقد خدرا للعروس الزمنية بالطهر. وليمة قانا ترمز الى كل البرية:- كل البرية كانت مصوّرة بتلك الوليمة لان خمر كل واحد كان قد نقص من الاتقان، كان الختن يشبه آدم بالعوز، لان خمره نفذ كما كان قد نقص صِدق آدم، تلك العروس كانت تشبه بيعة الشعوب التي نفذ خمرها كما نفذ التعليم قبل المجيء. قالت مريم ليس لهم خمر:- رأت مريم الطوباوية بان الخمر قد نفذ، وكانت قد عرفت بانه صار مجال للتعليم، حينئذ وشوشت النعجة البتول الى شبل الاسد: ربي، لا يوجد الخمر لآل الختن، قالت الذكية فقط: لا يوجد الخمر، غير انه في فكرها كانت تُقال مثل هذه الامور: بيّن قوتَك بالمعجزات لانك ابن الله، هوذا الوقت قد حان ليحسّ العالم بقدرتك العاملة، بيّن قليلا سلطة قدرتك البارية، لماذا تسير بالبساطة وبالسذاجة.؟ جواب يسوع لمريم:- واذ اسرعت على فعل ليس خاصتها، اجاب الحكيم وكأنه تركها ووضعها في البعد، كان يقول لها: ما لي ولكِ يا امرأة، بينما هي امه كما لو قال احد بجسارة: لا تخصكِ القدرة الآمرة، انا مستعد لاصنع العجب هذه المرة حتى وإن سكتتِ، وبدون كلمتكِ هانذا اشرق قوة جوهري، لم تأت الساعة لاصمم تنفيذ الفعل، لما اريد سيصنع الرمز فقط القوات، ارادتي لا تحتاج الى الاستعداد قبل الوقت، بنفخة صغيرة يسهل علي ان افعل بسرعة، ولما يُرسل امري لا يوجد فيه تاخير، طرفة العين ليست سريعة كقدرتي الفاعلة. المسيح يبدل الماء الى الخمر:- اخذ ليبرهن بانه ابن العامل بالحقيقة، لئلا يتشككوا من مجيئه ويقولوا: ليس ربا، اراد ان يعرّف بانه ليس غريبا عن القدرة البارية، فامر الجمعَ ان يسكبوا الماء في الاجاجين، وصنع الخدام كما قال وملأوها، حينئذ انحدرت خفيةً قوة لاهوته، احنى ارادةَ قدرته العاملة على الاجاجين، وسكب فيها المادة السليمة ليس من العنب، الرمز كان قد كمّل المياه التي سقطت هناك وبدّلها الى الخمر الجيد. ابي يعمل وانا ايضا اعمل مثل الآب:- يبدل الآب ايضا المياه، وبمهارته منها وبها يصنع الخمر، يجريها في الجذور حسب معرفته، ويسيّرها في الاغصان حسب ارادته، ويحبسها في حضن الجفنات كما لو كان في القنوات وبواسطة الشمس ينضجها ويسجرها ويسخنها، ويصوغ العنبات ويُخرجها ويعلّقها في الاغصان، ويفرش الاوراق على البهيات ويبرّدها، تجري المياه في احضانها وهي غير مفتوحة، وينزل الفيض الى افواهها وهي غير مثلومة، المياه الممجدة متجمعة وقائمة في الاثمار المختومة، وتسجرها الريح والشمس لتنضجها، الآب يبدّل المياه في الجفنات خلال مدة طويلة، وتبدّلها الى مادة الخمر قدرته العاملة. الابن يعمل دون ان يحتاج الى الوقت:- الابن الحقيقي كمّل ارادتَه برمز صغير، الابن الذي اراد ان يبدلها بدون مدة زمنية، لم يجعلها تحتاج الى نظام الايام والشهور. مناهضة المجادل:- اين الذي ظلم الابنَ (قائلا): ليس الها،؟ ليأتِ ويرَ بان قوته لا تنقص عن والده، يا من يتشكك من الوحيد (ويقول) ليس الها، انظر فان القدرة البارية ظهرت في العرس. مَن هو الذي يصغّر الابنَ عن مرسله ليأتِ ويرَ بان القوة هي واحدة ولا تتجزأ،؟ الى الآن ابي يعمل مثل الباري، وهانذا اعمل كما هو (يعمل) ايضا، قوة واحدة، وامر واحد، وفعل واحد، ورمز واحد، وارادة واحدة، وسلطة واحدة، ذاك الامر الذي صاغ الاثمار في الاشجار كان جالسا في هذه المياه التي صارت خمرا.
المزيد
19 يناير 2021

عيد الظهور الإلهي للقدّيس يوحنا الذهبي الفم

الإنجيل: متى 3: 13 – 17 حينئذ أقبل يسوع من جديد إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه. فكان يوحنا يمانعه قائلا أنا محتاج أن أعتمد منك، أوأنت تأتي إلي! فأجابه يسوع قائلا: دع الآن، فهكذا ينبغي لنا أن نتم كل بر. حينئذ تركه. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وحالا عليه. وإذا صوت من السماء قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت (متى 3: 13 – 17)."حينئذ أقبل يسوع من الجليل إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 13:3). جاء السيد مع العبيد، القاضي مع المحكوم عليهم، لكي يعتمد. مع ذلك، أقول لك لا تضطرب: فيما بين هؤلاء الوضعاء يسطع سموه. اقتبل أن يحبل به في أحشاء العذراء لزمن طويل، وأن يولد منها بجسد طبيعتنا البشرية، وأن يضرب، وأن يصلب، وأن يكابد الآلام كلها. إذا، لماذا تتعجب إذ تراه يقتبل المعمودية ويأتي مع الاخرين متجها نحو عبده؟ المذهل في الأمر هو الآتي: يريد أن يصير إنسانا بينما هو الله. كل شيء آخر يتبع بصورة منطقية. لذلك بالضبط كان يوحنا يقول مسبقا: "إني لست أهلا أن أحل سير حذائه"، وغيرها، مثلا: إنه القاضي وسوف يجازي كل واحد حسب استحقاقه، وسوف يمنح الروح القدس للجميع بغزارة. لذلك، عندما تراه آتيا إلى المعمودية، لا يقربن فكرك شك البساطة. لذلك، عندما اقترب السيد من العبد، مانعه هذا الأخير قائلا:أنا محتاج أن أعتمد منك، أوأنت تأتي إلي!" (مت 14:3).معمودية يوحنا كانت للتوبة، وللحث على الاعتراف بالخطايا. حتى لا يظن الواحد أن السيد يأتي من أجل كل ذلك، يستدرك السابق الأمر ويدعوه أولا "حمل الله" ومخلص العالم من الخطيئة كلها. طبعا الذي بإمكانه أن يرفع خطيئة العالم كلها، ينبغي له أن يكون بلا خطيئة. لم يقل: "هوذا الذي بلا خطيئة"، بل قال بالحري: "هوذا حمل الله الرافع خطيئة العالم" (يو 1: 29). هذا لكي تتقبل كل ما يجري أمامك. وإضافة إلى ذلك، أن تتحقق أنه يأتي إلى المعمودية لكي يتمم تدبيرا آخر وأبعد. لذلك عند اقتراب السيد من يوحنا، قال له هذا الأخير: أوأنت تطلب المعمودية؟ خشي أن يقول له ذلك. ماذا قال؟ "أوأنت تأتي إلي!".ماذا فعل يسوع؟ عمل كما سوف يعمل مع بطرس. كان هذا الأخير يمانعه أن يغسل رجليه، لكن عندما سمع الكلمات التالية: "لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد" (يو 7:13)، وأيضا: "إن كنت لا أغسلك فليس لك نصيب معي" (يو 8:138). عندما سمع بطرس كل ذلك استسلم وبدل موقفه. كذلك يوحنا المعمدان عندما سمع قول السيّد: "دع الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نتمم كل بر" 15:3).عند ذلك أطاع للحال، لأنه مع بطرس لم يكونا معترضين للنهاية، بل أظهرا محبة وطاعة لكل ما كان يصدر عن السيد. لاحظ كيف يتوجه السيد ليوحنا: لم يقل له "هكذا يقتضي العدل أو البر" بل قال: "هكذا يليق بنا". كان يوحنا يعتبر نفسه غير مستحق لمثل هذا العمل، أي لاعتماد السيد من العبد، لذلك توجه إليه الرب، وكأنه يريد أن يقول له: لن تهرب من ذلك ولن تمانع كون الأمر غير لائق. دع الآن الأمور تجري كما أريد، وإضافة إلى ذلك أقول: هكذا يليق بنا أن نفعل.لم يقل "دع الأمر" وحسب، بل أضاف "الآن" لأن الحدث لن يطول. سوف تراني بالشكل الذي تود. لكن الآن تقبل هذا التنازل.وبعد ذلك يشرح لماذا يجرب الأمر كذلك، لكي يتمم الناموس بكامله. يظهر ذلك من خلال عبارته "كل بر". البر هنا تتميم الوصايا. لقد أتم الوصايا الأخرى كلها. وبقيت هذه النقطة الأخيرة. لذلك لابد من تتميمها. لأني جئت لكي أرفع عنكم اللعنة التي تلاحقكم بعد عصيان الناموس. لابد لي أولا من أن أتمم الناموس بكامله، وبعد تحريركم من القضاء، ترتفع عنكم اللعنة المكتوبة عليكم بعد العصيان. ها إني قد أخذت جسدكم وأتيت."حينئذ تركه. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله مثل حمامة وحالا عليه" (مت 16:3).كان كثيرون يعتبرون يوحنا أهم من المسيح، لأنه عاش مدة طويلة في البرية، وكان ابن رئيس كهنة، ويرتدي لباسا تقشفيا خاصا، ويدعو الكل إلى المعمودية، وقد ولد من عاقر. بينما المسيح أتى من فتاة غير معروفة، ولم يكن مولده البتولي معروفا بعد، وقد نشأ في بيت بسيط، وكان يعاشر الجميع، ويلبس اللباس العام، لذلك كان يعتبر أقل من يوحنا. لم يكن الشعب بعد يعرف شيئا عن ميزاته الفائقة الوصف. وجاء اعتماده على يد يوحنا داعما لهذا الاعتقاد غير الصحيح. رأوه واحدا من كثيرين أتوا إلى المعمودية، وهو أكبر من يوحنا بكثير، وأعجب منه بكثير.لذا لكي لا يسود هذا الاعتقاد عند الشعب، انفتحت السموات عند معموديته، ونزل الروح، وسمع الصوت مع نزول الروح."وإذا صوت من السماء قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 17:3) الصوت وحده لم يكن كافيا، إذ كان السامعون يظنون قوله "هذا هو" إشارة إلى المعمد لا المعمد، لذلك نزل الروح بشكل حمامة، فلفت الأنظار إلى يسوع، وبين بوضوح إشارة "هذا هو" إلى يسوع المعتمد، لا إلى يوحنا المعمد. عدم إيمان اليهود:- أيعقل أن كثيرين لم يؤمنوا به بعد ذلك كله؟ نعم، ففي أيام موسى كانت تجري عجائب كثيرة، ولئن اختلفت نوعا عن هذه الأخيرة، ورغم تلك العجائب، تلك الأصوات والأبواق والبروق، جلسوا وذبحوا لبعل فاغور. وهو أنفسهم كانوا حاضرين عند إقامة لعازر من الموت، ورأوا الميت قائما، ومع ذلك لم يؤمنوا به، لا بل كانوا يسعون جاهدين لقتله. لقد رأوا بأم أعينهم أمواتا ينهضون، ومع ذلك لم يؤمنوا وبقوا خبثاء. إذا، لماذا تتعجب الآن من كونهم لم يؤمنوا بالصوت الآتي من السماء؟ عندما تكون النفس ناكرة للنعمة، ملتوية، مأخوذة بمرض الحسد والغيرة، لا ترتدع عن أي عمل شرير، وأيضا عندما تكون النفس شاكرة تقبل كل شيء بإيمان، ولا تحتاج إلى أية أعجوبة. لا تقل: لم لم يؤمنوا، بل أنظر إلى كل ما قيل وعمل لكي يؤمن الجميع. لقد ورد الله الدفاع على لسان النبي. كل ذلك جعل اليهود يهلكون بسبب منهم، ويسلمون أنفسهم إلى العقاب الأخير. لذا أراد الله أن يميز بين تدبيره الحسن وخبثهم، بقوله: "أي شيء يصنع للكرم لم أصنعه لكرمي؟" (إش 5: 4). كذلك، أي شيء يصنع هنا لم يصنعه؟ وإن دخل أحد في مناقشة حول موضوع عناية الله، يمكننا أن نلجأ إلى الطريقة الدفاعية السابقة ضد الذين كانوا يتهمونه ظلما بدافع شرهم. أنظروا إذا إلى العجائب الحاصلة الآن، التي تنذر بالحوادث المستقبلة. لم ينفتح الفردوس، بل انفتحت السموات. لندع هذا الموضوع جانبا، ونتابع شرح النص."فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له" (مت 3: 16). لماذا انفتحت السماوات؟ لكي تعلم أنت أيضا أنه عندما تعتمد أنت يحصل الأمر نفسه: يدعوك الله إلى الوطن السماوي، ويريد أن يقنعك بعدم ارتباطك بأي شيء على الأرض. آمن ولو لم تر. فالظهورات الحسية والعلامات السابقة للحوادث الروحية العجيبة تكون من أجل الضعيفي الإيمان، الذين هم بحاجة إلى مثل هذه الظهورات المحسوسة، الذين لا يعطون أي معنى للطبيعة اللامادية، بل يفتشون دوما عن الأمور المنظورة فقط. لذلك، عليك، ولو لم تر بعد ذلك مثل تلك العلامات، أن تقبل بإيمان كل ما جرى حتى الآن من البداية. لقد جرى مع الرسل صوت ريح عاصفة، وظهرت ألسنة نارية. هذا لم يحصل من أجل الرسل، بل من أجل اليهود الحاضرين. ولكن، حتى وإن لم تجر بعد ذلك مثل هذه العلامات الحسية أمامنا، علينا أن نقبل أنها جرت مرة هكذا بالفعل. لأنه من أجل ذلك أيضا ظهرت الحمامة، ودلت الحاضرين مع يوحنا، كما بإصبع اليد، إلى ابن الله، لكي تعلم أنت أيضا أن الروح القدس ينزل عليك في وقت المعمودية.لسنا بحاجة إلى علامات منظورة، بل يكفي أن يتوفر الإيمان عوضا عنها. العلامات ترد لا من أجل المؤمنين بل من أجل غير المؤمنين.لماذا ظهر الروح القدس بشكل حمامة؟ الحمامة حيوان أليف طاهر. وبما أن الروح القدس هو روح وداعة، لذلك تراءى بشكل حمامة. ومن ناحية أخرى، هذا يذكرنا بقصة تاريخية قديمة، عندما غمر الطوفان كل المسكونة، وكاد الجنس البشري أن يفنى، كانت الحمامة الطائر الذي بين بوضوح نهاية الغضب الإلهي، حاملة في منقارها غصن زيتون، كخبر مفرح يعلن السلام العام. كل ذلك كان رسما لما سيحدث لاحقا. كانت حالة الناس أبشع بكثير من حالتهم الحاضرة، وكانوا يستحقون عقابا أكبر. فلكي لا تيأس أنت الآن، يذكرك هنا بتلك الحادثة القديمة: حين كان الرجاء مفقودا، وجد حل وإصلاح. كان الطوفان في ذلك الوقت تأديبا، وأما الآن فقد جاء الحل عن طريق النعمة والعطية الجزيلة. لذلك ظهرت الحمامة، لا تحمل غصن زيتون، ولكنها تشير إلى الذي سيخلص من كل الشدائد، وتبسط أمامنا رجوات صالحة، لأنها لا تخرج إنسانا من الفلك، بل تقود ظهوره المسكونة كلها إلى السماء. لا تحمل غصن زيتون، بل البنوة للبشر كلهم.الآن، وقد أدركت قيمة العطية، لا تحسب أن قيمة الروح ناقصة، بسبب ظهوره بشكل حمامة. أسمع البعض يقول إنه كما يختلف الإنسان عن الحمامة كذلك يختلف المسيح عن الروح، إذ ظهر المسيح بصورة طبيعتنا الإنسانية، بينما ظهر الروح القدس بصورة حمامة. فبم نجيب عن كل ذلك؟ إن ابن الله اتخذ طبيعة الإنسان، بينما الروح القدس لم يأخذ طبيعة الحمامة. لذلك لم يقل الإنجيلي أن الروح ظهر "بطبيعة حمامة"، بل قال "بشكل حمامة". ولم يظهر الروح بعد ذلك بهذا الشكل، بل هنا فقط. فإن اعتمدت على هذه المقارنة، وحسبت أن كأن الروح قد صغر لهذا السبب، فسوف تجد الشاروبيم أسمى من الروح بكثير، كسمو، النسر على الحمامة، لأن الشاروبيم ظهرت بشكل نسر. كذلك تجد الملائكة أعلى بكثير، لأنهم يظهرون بشكل بشر. لكن، طبعا، كل ذلك غير صحيح. الحقيقة شيء والتدبير شيء. التنازل شيء، والظهور العابر شيء آخر.لا تكن إذن ناكر الجميل نحو المحسن، ولا تنسب عكس ما يجب أن تؤديه إلى الذي وهبك ينبوع الغبطة. حيث تكرم البنوة، يضمحل الشر، وتمنح الصالحات كلها. لذلك بالضبط ينتهي دور المعمودية اليهودية وتبتدىء معموديتنا. ويجري في المعمودية ما يجري في الفصح. ينتهي دور الواحد ويبتدىء دور الآخر. هنا أيضا، بعد إتمام المعمودية اليهودية تنفتح أبواب معمودية الكنيسة. ما يجري على المائدة يجري الآن على النهر. يؤكد على الظل، ولكنه يضيف الحقيقة، لأن نعمة الروح القدس كائنة في معمودية يسوع المسيح فقط، ، بينما معمودية يوحنا لا تتضمن مثل هذه العطية. ولذلك لم يحصل للمعمدين الآخرين ما حصل للرب يسوع المسيح، لأنه هو من سيعطي هذه الموهبة.وإلى جانب كل ما ذكرناه حتى الآن، اعلم ما يلي: ليست طهارة المعمودية هي التي حققت مثل هذه العطية، بل قوة ذاك الذي يعتمد. إذ ذاك فتحت السموات، ونزل الروح عليه. إنه يخرجنا من حياتنا القديمة إلى حياة جديدة، فاتحا من أجلنا أبواب السماء، ومرسلا من هناك الروح الذي يدعونا إلى موطننا هناك. لا يدعونا فقط بل يكرمنا إكراما فائقا. لأنه لم يجعلنا ملائكة ورؤساء ملائكة، بل أظهرنا أبناء الله وأحباءه، وهكذا جذبنا إلى الميراث الذي هناك ... من كتاب أناجيل ورسائل الأعياد
المزيد
17 يناير 2021

المعمودية عبور من الموت إلى الحياة

المعمودية بالتغطيس كاشتراك في موت المسيح ودفنه: التغطيس الكامل حتى الرأس، أو انغمار الجسم كله تحت الماء، كتعبير عن الدفن في الماء، هو بمثابة وقوع الإنسان الإرادي بالموت تحت عقوبة الله برسم الطوفان (1بط 3: 20 - 22)، بسبب الخطايا التي صنعها الإنسان والتي ورث دوافعها وآثارها ونتائجها في طبيعته الترابية. ولكن لأن هذا الدفن هو في اسم المسيح وعلى أساس موته ودفنه وكاشتراك فيه، فالموت يصبح للتبرير عن الخطايا السالفة، وبالتالي يُنشئ شركة في القيامة للحياة بلا خطية؛ أي يُنشئ ميلاداً جديداً للإنسان لخليقة جديدة. ثم بإعطاء الروح القدس (بوضع اليد أو بالميرون) تصير الخليقة الجديدة روحانية ومتحدة بالمسيح. فالمعمودية في اسم المسيح والآب، وبمنحها الروح القدس، تكون هي المعجزة العُظمى للإنسان الممنوحة له من الله رأساً كآية العهد الجديد، التي فيها يرتبط الله بالإنسان لإعادة خلقته بروحه القدوس على صورة مسيحه، ليرفعه من خلقة إلى خلقة، من خلقة أرضية من التراب إلى خلقة سمائية «من الروح»، «من فوق»، «من السماء»، ليتغيَّر الإنسان من شكل آدم إلى شكل المسيح، وليقبل الإنسان عوض بنويَّته التي من آدم بالفساد والخاضعة للزمن والموت، إلى بنويَّة الله والحياة معه بالبر والقداسة والحق للحياة الأبدية. مفاعيل المعمودية: القديس بطرس الرسول يطالب كل مَنْ اعتمد بالهروب من الفساد الذي في العالم بالشهوة، وبممارسة الفضائل باجتهاد، وإلاَّ فإنه يُعتبر أنه «قد نسي تطهير خطاياه السالفة» (2بط 1: 9). وهنا تتضح فعَّالية المعمودية بالتحديد: «تطهير خطاياه السالفة»؛ فالمعمودية إما توضع نُصب أعيننا كمنبع طهارة ومصدر قوَّة للتطهير من جميع الخطايا (السالفة) - سواء التي ورثنا آثارها باللعنة الأُولى أو التي عملناها بإرادتنا - وإما ننساها فنفقد المصدر الذي نستمد منه طهارتنا وقدرتنا على الجهاد لاستمرار التطهير. كما يرى بطرس الرسول في المعمودية أنها «لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله» (1بط 3: 21). أي أن المعمودية تُنشئ فينا إحساس الضمير المطهَّر الذي يجعلنا قادرين أو مستحقين للوقوف أمام الله لنصلِّي ونطلب من الله بلا لوم داخلي. أما القديس بولس الرسول فيضع مفاعيل المعمودية واضحة في قوله: + «لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11) فالمعمودية هي اغتسال من الخطية = تقديس، والوقوف أمام الله بلا لوم = تبرير. فهي تُعتبر الغاية العُظمى للخلاص الذي جاء الرب يسوع لتكميله بالموت على الصليب: + «... أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدِّسها مطهِّراً إياها بغسل الماء بالكلمة (المعمودية) لكي يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضْن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدَّسة وبلا عيب.» (أف 5: 25 - 27) ثم يعود بولس الرسول في رسالته للعبرانيين ليؤكِّد ذلك قائلاً: + «لنتقدَّم بقلب صادق في يقين الإيمان، إذ قد صارت قلوبنا مرشوشة من ضمير شرير (أثر المعمودية بالروح داخل الضمير) وأجسادنا مغتسلة بماء طاهر، متمسِّكين ”باعتراف“ الرجاء بدون تردُّد لأن الذي وعد هو أمين.» (عب 10: 22 و23 ترجمة أكثر وضوحاً) هنا يتضح أثر المعمودية في الضمير، وفي أعضاء الجسد، مشيراً إلى قوة التطهير بالروح في الضمير وبالماء بالنسبة للجسد. وإن أثر المعمودية في النهاية يعطي تقدُّماً إلى الأقداس العليا بقلب صادق ويقين الإيمان، على أن نظل متمسِّكين بالاعتراف الذي نتلوه في المعمودية برجاء لا يتزعزع وبلا تردُّد، اعتماداً على وعد الله وأمانته. الروح القدس يدعو إلى المعمودية: الدعوة إلى المعمودية كانت معروفة ومؤكَّدة منذ أول لحظة حلَّ فيها الروح القدس: + «فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم (فعل الروح القدس المُسْبَق) وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة، فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس (عمل الروح القدس اللاحق).» (أع 2: 37 و38) واضح هنا أن الروح القدس هو الذي يُعد القلب بنخس خفي لقبول الإيمان والمعمودية. واضح أيضاً أن الفعل الأول للروح القدس في المعمودية هو لمغفرة الخطايا، لذلك فإن قبول «عطية» الروح القدس تأتي بعد المعمودية، أي بعد مغفرة الخطايا، وهذا أمر في غاية الأهمية العملية. فالخطية تمنع قبول عطية الروح القدس. ومن المهم أن نلاحظ أن المعمودية مرتبطة أساساً بالمسيح = «على اسم المسيح»، وذلك مبني على فعالية الخلاص والفداء الذي أكمله المسيح عن البشرية لسؤال مغفرة الخطايا، وعلى هذا الأساس يتم الميلاد الجديد بكل متطلباته كخليقة جديدة في المسيح. ولكن، لأن المسيح أكمل الفداء ليس من ذاته بل بمشورة الآب ومسرَّة الروح القدس، لذا أصبح يتحتَّم أن تكون المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس، حيث ينال الإنسان بواسطة المسيح علاقته الجديدة بالآب والروح القدس، وهي حالة التبني بالروح للآب. وينال الإنسان تقديس الحياة الجديدة بواسطة الروح القدس ليليق بحالة التبني لله: «أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12)، باعتبار أن ميلادهم الجديد هو شركة موت وحياة في المسيح ابن الله. وهذا التعليم الإلهي المنسجم لدى كل الرسل واضح جدًّا أنه مسلَّم من واحد هو المسيح: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت 28: 19) ونسمع أيضاً من حنانيا، أحد السبعين رسولاً، وهو يقول لشاول (بولس): «إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته، وتبصر البار، وتسمع صوتاً من فمه، لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت، والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد، واغسل خطاياك داعياً باسم الرب.» (أع 22: 14 - 16) وهنا أيضاً مفاعيل العماد المسبقة والمرافقة والتابعة: انتخبك، لتبصر، لتسمع، لتشهد، ثم الأمر الإلهي «قُمْ»، «اغسل خطاياك». هنا فعل الغسل بالماء يشمل بكل وضوح معنًى روحيًّا عميقاً موازياً لغسل الجسد، ولكن أشد فعلاً وأبقى أثراً، إذ يتغلغل ليشمل كل أعمال الخطية في الماضي بكل آثارها على الروح والنفس والجسد والضمير!!«اغسل خطاياك»، ما أروع وما أسهل وما أعمق هذا التعبير!! وهذا ظل يعلِّم به بولس الرسول نفسه كل أيام حياته، بعد أن ذاقه وعاشه فعلاً. اسمعه يقول: «قداغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11) تعليم الآباء الرسوليين عن المعمودية وقد سلَّم الرسل هذا الإيمان نفسه بتحديده الواضح إلى الآباء الرسوليين، فنسمع الأسقف هرماس (142 - 174م.) يقول: [عندما نزلنا إلى الماء تقبَّلنا غفران خطايانا السالفة.] (Mand. iv. 3.1) وفي رسالة برنابا (80 - 130م.)، يرى أن المعمودية تعطي نفس طفل: [لقد تجدَّدنا بغفران خطايانا وصُنعنا شكلاً آخر حتى يكون لنا نفس طفل، كأنما قد خُلقنا من جديد، كما يقول الكتاب بخصوصنا حيث الآب يخاطب الابن: لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا.] (Quasten, Patrology, vol. I, 87) أي أن الآية: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت 18: 3)، إنما تشير إلى المعمودية. أما يوستين الشهيد (110 - 165م.) فيعتبر أن المعمودية هي تكريس النفس لله، وغفران الخطايا، وميلاد جديد بالاختيار والمعرفة، واستنارة: [وسأقص عليك كيف نكرِّس أنفسنا لله ... ونحضرهم إلى مكان الماء ونعيد ميلادهم بنفس الطريقة التي وُلِدنا نحن بها ثانية، لأن باسم الله الآب سيد الخليقة ومخلِّصنا يسوع المسيح والروح القدس يقبلون اغتسال الماء. وقد تعلَّمنا من الرسل معنى هذا، لأنه بميلادنا الأول وُلِدنا بدون اختيارنا وبدون معرفتنا بواسطة والدينا عندما اجتمعا معاً، ونشأنا بعادات رديئة وخبرات شريرة. فلكي لا نبقى أبناء الضرورة والجهل بل أبناءً بالاختيار والمعرفة، ولكي نحصل في الماء على مغفرة خطايانا التي اقترفناها سابقاً، يُنادى فوق مَنْ اختار أن يولد ثانية، الذي يكون قد تاب عن خطاياه، باسم الله الآب وباسم المسيح يسوع الذي صُلب على عهد بيلاطس البنطي وباسم الروح القدس الذي ينير المُغتَسِل، وهذا الاغتسال يُدعى «استنارة» لأن الذين يعرفون هذه الأمور يستنيرون روحيًّا.] (Apol. 1-16: 10) الدعاء باسم الرب هو ختم المعمودية: والدعاء باسم الرب على المعمَّد أو بفمه هو أثناء النزول في الماء: «قُمْ واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب» (أع 22: 16). هنا قوَّة عمل الدعاء باسم الرب هو مكافئ لعمل حميم المياه، وهذا يعطي المعمَّد «قوَّة الاسم»، أي قوة المسيح التي ظهرت في الموت الكفَّاري والقيامة للحياة: «لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11) واضح هنا أن عمل قوَّة اسم المسيح عنصر هام قائم بذاته لقوَّة عمل الروح القدس في إتمام سر العماد. هذا الدعاء باسم المسيح أثناء العماد هو الختم sfr£gij الإلهي الذي يناله المعمَّد لينطبع على كل كيانه الروحي باعتباره قد صار تابعاً للمسيح ومن خاصته. هذا الختم هو بمثابة شهادة وسلطان من الله أن المعمَّد صار ابناً لله: «كل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12)، وقد عبَّر بولس الرسول عن فاعلية المعمودية بتعابير غاية في العمق: «ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله، الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا» (2كو 1: 21 و22)، «الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس.» (أف 1: 13) والمعمودية كختم، حيث يتركَّز الختم في إجراء الدعاء باسم المسيح، هي تقليد انتقل أيضاً إلى الآباء الرسوليين، فيقول هرماس عن المعمودية إنها ختم الموت والحياة: [قبل أن يحمل الإنسان اسم ابن الله يكون ميتاً، ولكن حينما يقبل الختم فإنه يخلع الموت ويلبس الحياة، والختم هو الماء، فهم ينزلون إلى الماء أمواتاً ويخرجون أحياءً.] (Quasten, Patrology, vol. I, 101) وجاء أيضاً في الرسالة الثانية المنسوبة لكليمندس الروماني (92 - 101م.): [احفظوا الجسد طاهراً واحفظوا الختم (المعمودية) بلا عيب حتى تنالوا الحياة الأبدية.] (Quasten, Patrology vol. I, 56) مسئولية الإنسان المعتمد: نوال هبة المعمودية كميلاد جديد من الله يُنشئ في الحال مسئولية عُظمى على الإنسان المعتمد. فالمعمودية وزنة وهبة عُظمى تحمل صورة الله واسمه وختمه، ولذلك سيعطي الإنسان جواباً عن مدى احترامه وحفظه واستخدامه لها. ولكي نتحقَّق من خطورة التحذير الوارد في رسالة العبرانيين عن الذين سقطوا بعيداً عن المستوى اللائق بالمعمَّدين: «لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة (أي لا يمكن تعميدهم مرَّة أخرى) إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه» (عب 6: 6)، «فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف وغيرة عتيدة أن تأكل المضادين» (عب 10: 26 و27)، نقول إنه إذا أردنا أن ندرك خطورة ذلك علينا أن نعود إلى وضع بني إسرائيل الذين اعتمدوا في البحر الأحمر - بالإيمان بالله - الذي هو مثال المعمودية الحاضرة - كمعجزة عُظمى للخروج من عبودية مصر، إذ عبر بهم الله على يد موسى من الموت المحقَّق إلى الحياة عبر البحر. ولكن، وبالرغم من هذا، تمرَّد الشعب على الله فاعتبر الله تمرُّده أنه إهانة واحتقار لمعجزة إخراجه من مصر وعبوره البحر الأحمر الذي هو مثال المعمودية، فدفع الشعب ثمن هذا العصيان و«عدم الإيمان» وحلَّ عليه غضب الله، فطُرحت جثثهم في القفر وهلك الجيل بأكمله، غير أن الرب أبقى لنفسه شاهدين! كذلك نلاحظ هنا أن معمودية البحر الأحمر لم تسعف فرعون وجنوده بل كانت لهم موتاً وهلاكاً، في الوقت الذي أعطت النجاة والحياة لشعب الله. كذلك فإنها لم تنفع شعب الله الذي لم يقدِّم أثماراً تليق بالتوبة. ويوحنا المعمدان يؤكِّد أن المعمودية بدون أعمال تليق بالتوبة هي معمودية للموت: «والآن قد وُضِعَت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النار» (لو 3: 9)، «يا أولاد الأفاعي (الذين يأتون إلى المعمودية هروباً من غضب الله ولكن لا يعملون أعمال التوبة) من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة» (لو 3: 7 و8). فالمعمودية فعل حياة أبدية مربوط بالإيمان، إذا استهان به الإنسان وسقط عنه - بالارتداد أو جحد الإيمان بالمسيح - لا يعود الروح القدس يعمل فيه كفعل حياة وتجديد بل ويدخل تحت الدينونة. فبعد أن يكون الإنسان شريكاً في موت المسيح على الصليب للقيامة والحياة يصير بجحوده للمعمودية والإيمان صالباً للمسيح!! والقديس بولس الرسول، في رسالته إلى أهل رومية الأصحاح السادس، يعالج الحياة بعد المعمودية ليس على مستوى الارتداد الكامل أو جحد الإيمان، ولكن على أساس مجرَّد الرجوع لحياة الخطية وتمكين الخطية في الأعضاء وفقدان الرجاء بضعف الإيمان، فإن فعل الحياة الذي كان يسري فينا بقوَّة الإيمان بمقتضى سر المعمودية يتوقَّف وتبدأ الخطية تفعل فعل الموت مرَّة أخرى!! «لا تملكنَّ الخطية في جسدكم المائت (بالمعمودية).» (رو 6: 12) وعلى هذا الأساس تتضح لنا الأمور الآتية: 1 - إن فعل الله في العماد يعتمد على إيماننا بقداسة الله وندائنا باسم يسوع المسيح ليعبر بنا من الموت إلى الحياة، وهذا يوضِّحه دخول شعب إسرائيل في البحر وراء موسى بدون خوف. أما حالة الأطفال الذين عبروا مع آبائهم وأمهاتهم، فعبورهم لم يعتمد على إيمانهم بالله وبالعبور، بل على وجودهم وسط شعب الله. فهنا تبعية الطفل للكنيسة العابرة وسط البحر هي التي أعطته فعل العبور والحياة ليستخدمه في كل حياته المستقبلة؛ أي أن إيماني بالمسيح الآن أو عدم إيماني لا يغيِّر من الحقيقة أنني اعتمدت للمسيح ونلت كل حقوق الإنسان الجديد والشركة في ملكوت الله وفي جسد المسيح، أي العضوية في جسده عندما كنت طفلاً، وهذا من واقع الامتياز أنني وُلِدْت من أسرة مسيحية أي داخل الكنيسة. 2 - الفعل الأول للعماد، إذاً، يتم فينا بمجرَّد أن نكون قد اعتمدنا، وهذا يوضِّحه عبور شعب إسرائيل بالفعل معتمدين على قوة الله وإيمانهم باسم الله في عبورهم. هنا مجرَّد عبور الطفل أعطاه كل حقوق الخلاص من عبودية فرعون، وكل قوة وبركة ومعونة الله للسير في البرية أربعين سنة. فهو بعد العبور لا يُطالَب بإيمان ما قبل العبور ولكن يُطالَب بإيمان ما بعد العبور. 3 - الفعل الثاني للعماد له قوَّة وقدرة مستقبلية لحياتنا، يعمل فينا بقدر حفظنا واعتمادنا على الفعل الأول. وهو الذي أخفق فيه شعب إسرائيل فأنكروا قوة الله التي عبرت بهم وجحدوا اسم الله الذي عبروا وراءه وقالوا للعجل: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.» (خر 32: 4) هنا الأطفال الذين عبروا قد نالوا قوَّة الفعل الأول - العبور - ولا يُطالَبون بعد بمستلزماته ولكن يُطالَبون بوصايا المسير، وهذا هو الفعل الثاني للعبور. أو بمعنًى آخر، إن عظمة وقوَّة الفعل الحادث في هذا السر تُظهرها استجابة الإنسان على مدى الأيام بطول حياة الإنسان كلها، في سلوك وأعمال لها قوَّة الاسم الذي اعتمدنا له، وبإيمان يساوي نفس الإيمان الذي اعترفنا به. فالمعمودية فعل حياة جديدة مربوط بالإيمان بقوَّة اسم المسيح يتجدَّد كل صباح، بأعمال وأفعال تزكيها النعمة على نفس مستوى الإيمان بقوَّة اسم المسيح على مدى العمر كله.
المزيد
16 يناير 2021

عيد الغطاس رؤية وشهادة

يوحنا المعمدان لم يكن يعرف المسيح، مع أنه سمع عنه كثيراً، وقد راجع بتؤدة في عزلته الطويلة في البرية كل ما قاله الأنبياء عن المسيَّا، ولكن لم تسعفه تقشفاته الشديدة أو المعرفة الشخصية والقراءة للتعرُّف على ابن الله من بين الناس، ولكنها مهدت لذلك تمهيداً مكيناً! لقد حاول كثيراً وبطرق وجهود ذاتية عديدة أن يختزل الزمن ليتعرَّف على المسيَّا، الذي من أجله وُلِدَ وأخذ رسالة ليعلنه ويعد الطريق أمامه، ولكن كان الصوت يدعوه للتريث حتى يبلغ الزمن ساعة الصفر ليبدأ ملكوت الله. وبينما يوحنا يصلِّي وهو في حيرته كيف يتعرَّف على المسيَّا الذي سيكرز به ويُظهِره لإسرائيل؟ سمع صوت الله يرن في أُذنيه: اذهب إلى بيت عبرة عبر الأردن وهناك اِكرز وعمِّد بالماء للتوبة، لأنه من خلال المعمودية سيظهر المسيح لإسرائيل. فكل مَنْ يأتي إليك عمِّده، ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه في وقت العماد، فهذا هو الذي سيعمِّد بالروح القدس!! + «وأنا لم أكن أعرفه ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء ... وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمِّد بالروح القدس.» (يو 1: 31 - 33) ترك يوحنا عزلته الطويلة في البراري وترك معها كل الوسائل الشخصية التي جاهد أن يكتشف بها المسيَّا، وانطلق يكرز ويعمِّد، بكل غيرة وحماس، مئات وأُلوف؛ وفي قلبه لهفة أشد ما تكون اللهفة أن يرى العلامة، فكان يترقَّب رؤية الروح القدس في كل لحظة، وهو نازل من السماء ليعلن المسيَّا. وكان قلبه يخفق بشدَّة، لعل يكون أيُّ آتٍ إليه هو المسيَّا! سر ظهور المسيح واستعلانه ليوحنا المعمدان: هذه الصورة المبدعة التي يرسمها إنجيل القديس يوحنا لبدء خدمة المعمدان وظهور المسيَّا تحمل في الواقع أسراراً عميقة، فالإنجيل ينبِّه ذهننا بشدَّة: أولاً: أن ظهور المسيح في ذاته واستعلانه عموماً يستحيل أن يتم بالاجتهاد أو الترقُّب، إنما يتم فقط بتدبير الله من خلال معمودية الماء للتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء»، حيث التركيز في معمودية الماء يقع على التوبة «واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.» (مت 3: 6) ثانياً: أن معرفة المسيح شخصيًّا يستحيل أن تتم إلا بواسطة الروح القدس! الروح لم يره أحد وهو نازل من السماء غير يوحنا المعمدان، الرؤية هنا خاصة، انفتاح ذهني لإدراك ما لا يُدرَك واستعلان شخص المخلِّص والفادي «وأنا لم أكن أعرفه ... ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو ...». لأنه إن كنا حقًّا نعيش الغطاس ونعيِّد للغطاس، أي نعيِّد للظهور الإلهي، أي ظهور الابن بالآب والروح القدس معاً، ونعيِّد ليوحنا الرائي والشاهد والمعمِّد، فيتحتَّم أن يكون عندنا يقين هذا الاستعلان، أي المعرفة بابن الله، المعرفة القائمة على يقين الرؤيا والشهادة، أي بالروح القدس والآب! أو كما يقول إشعياء النبي: «عيناً لعين»!! واصفاً ذلك اليوم يوم استعلان المسيح للإنسان إن على الأردن (الغطاس) أو في جرن المعمودية (الإيمان بالمسيح)، هكذا: «صوت مراقبيك، يرفعون صوتهم يترنَّمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون.» (إش 52: 8) «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»: هذه أقوى شهادة سمعتها البشرية من نحو المسيح، لاحظ أن المسيح لم يكن قد بدأ خدمته الجهارية وإجراء آياته ومعجزاته، بل لم يبدأ بعد في الإعلان عن نفسه وعن علاقته بالآب، بل لاحظ أن يوحنا لم يكن يعرف شيئاً عن الصليب والقيامة! فإن كانت شهادة يوحنا بلغت هذا اليقين، وهو لم يتعرَّف بعد على سر الخلاص بذبيحة الصليب وسر التبرير بالقيامة، فكم ينبغي أن يكون يقين شهادتنا نحن وقد أدركنا هذا كله؟ ولكن ما هو إذن سر عجز شهادتنا وضمور معرفتنا للمسيح؟ أليس واضحاً كل الوضوح من حوادث عيد الغطاس، أن ذلك بسبب عدم انتباهنا لدور الروح القدس في فتح الذهن لكشف أسرار الله أمام المعرفة لإدراك حقيقة المسيح لبلوغ يقين الشهادة؟ ولكن لا يزال إنجيل عيد الغطاس يحتجز سرًّا هاماً وخطيراً في هذا الأمر. فالله اشترط على يوحنا المعمدان أن المسيح سيظل مجهولاً عنده، إلى أن يرى الروح نازلاً ومستقرًّا عليه!! هنا دور الروح القدس ليس مجرَّد علامة تشير إلى المسيح؛ بل هو وسيط معرفة، وسيط انفتاح ذهن. الروح القدس أعطى ذهن يوحنا المعمدان قدرة رؤيوية عالية جدًّا، أعلى من درجة النبوَّة التي عاش بها في البراري. لقد سمع المعمدان مراراً كثيرة صوت الله في قلبه من جهة حياته ورسالته التي جاء ليتممها أمام وجه الرب «الذي أرسلني لأعمِّد بالماء، ذاك قال لي». ولكن لم تنفتح عينا ذهنه لمعرفة مَنْ هو المسيح - مع أنه قريبه بالجسد - إلا بنزول الروح القدس! يقين الرؤيا: إن رؤية الأشياء والأشخاص والتعرُّف عليهم عن قرب، يؤدِّي إلى يقينية عقلية، فالعين والأذن مع بقية الحواس توصِّلان إلى المخ صورة متكاملة عن الشيء أو عن الشخص يفهمها العقل، ويختزنها، ويحولها إلى معرفة وإدراك بيقين عقلي هو أشد ما يملكه الإنسان من مفهوم اليقينية! ولكن هناك يقينية أخرى موهوبة للإنسان أعمق جدًّا، وهي أعظم تأثيراً وأكثر شمولاً لمواهب الإنسان وكيانه، ينفتح عليها الإنسان كموهبة إلهامية باطنية في القلب، يدرك بها كل شيء وكل الناس وكل الخليقة، فوق إدراكات العقل والحواس وأعمق بما لا يُقاس، يدرك ما فيها وما لها من حقيقة ومدى ارتباطها السرِّي بالله وبنفسه وكل الكون المنظور وغير المنظور. هذه الموهبة الفائقة على العقل والحواس هي عطية من الله مغروسة في صميم طبيعة الإنسان، وقد يحوزها الحكماء والفلاسفة حتى غير المتدينين وغير المؤمنين بالمسيح. هذه الموهبة أُعطي أن يوجهها الروح القدس ويستخدمها في كشف أسرار الله نفسه والتعرف عليه!! «الروح يفحص كل شيء (في قلب الإنسان ووعيه الروحي) حتى أعماق الله!!» (1كو 2: 10) فإذا حل الروح القدس في إنسان أو انسكب في ذهنه وأناره، كما استنير ذهن يوحنا المعمدان، يعمل في الحال بهذه الموهبة الفائقة التي في طبيعة الإنسان، فينفتح الذهن على أسرار الله، وبالتالي على المسيح بصفته الوسيط الوحيد بين الله والناس، والحامل همَّ البشرية والضامن خلاصها وتجديدها ورفعها إلى حضن الآب. وما قاله يوحنا المعمدان بعد هذه الرؤيا مباشرة عن المسيح مشيراً إليه: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وكأنه يرى مستقبل الخلاص كله والصليب والذبح والموت والقيامة في ومضة خاطفة؛ هذا يوضِّح مدى انفتاح الذهن ساعة حلول الروح القدس، ومدى قدرة الروح القدس في الانطلاق ببصيرة الإنسان لرؤية فائقة شاملة لكل سر الله لمستقبل خلاصنا!! هذه هي يقينية الرؤيا في حضرة الروح القدس وبتوسُّطه، التي لا يقف عند حد حتى أعماق الله، لا يحجزها حاجز لا من الزمان ولا من عجز الإنسان! وبهذا تكون خبرة البشرية بيقينية الرؤيا الممتدة في الله. وكل مستقبل الخلاص، والتي نالتها في يوم عماد المسيح حيث انفتحت البصيرة الإنسانية - ممثَّلة في يوحنا المعمدان - ساعة حلول الروح القدس على المسيح وقت العماد لتكشف أعماق سر الخلاص المكتوم: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وتتقابل وجهاً لوجه، بل «عيناً لعين» - كما يقول إشعياء - مع الله الآتي إلينا في المسيح وتشهد له في جرأة: «هذا هو ابن الله»؛ هذه الخبرة التي نالتها البشرية وهي على عتبة العهد الجديد تُعتبر من أثمن ذخائر الكنيسة التي نالتها بحلول الروح القدس على المسيح، فأعطت سر العماد أهميته الفائقة كباب حي فعَّال دخلت منه البشرية في سر الله، حيث رأت خلاصها رؤيا اليقين والشهادة حتى وقبل أن يبدأ أو يتم! ومن هنا صار عيد الغطاس يحمل لنا أول حركة حيَّة من الروح القدس في صميم جسم الكنيسة، أول رعشة أصابت العظام الميتة أصابت يوحنا المعمدان، فانتقلت كخبرة للكنيسة كلها ولا تزال، حيث انتقلت في الحال من يقينية الرؤيا إلى يقينية الحركة، لأن كل رؤية يقينية بالروح القدس هي معرفة الحق، وأما كل شهادة يقينية فهي حركة بالحق! والاثنان فعلان صميميان من أفعال الروح القدس! «الروح القدس يرشدكم إلى جميع الحق»، «الروح القدس يشهد لي.» (يو 15: 26) أي أن استعلان المسيح العام يتم بالمعمودية، بالاعتراف بالخطايا والتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل لذلك جئت أُعمِّد بالماء». أما استعلان المسيح الخاص، أي معرفته معرفة شخصية، فهذا يتم بالروح القدس. يوحنا لم يعتمد بالروح القدس، ولكنه أخذ من رؤية الروح القدس وهو نازل مستقراً على المسيح، نال تعميداً ذهنيًّا تعرَّف به في الحال على الرب. ومع الرؤية الذهنية كانت الرؤية السمعية، لقد انفتحت أذن يوحنا لسماع صوت الله نفسه يشهد لابنه مُعلناً ليوحنا أعظم سر أدركته البشرية، سر علاقة الآب بالابن وعلاقة الحب بينهما، العلاقة التي كانت مخفية عن إدراك كل بني الإنسان واستُعلِنت أول ما استُعلِنت ليوحنا، لبدء الكرازة. + «وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقَّت والروح مثل حمامة نازلاً عليه، وكان صوت من السموات أنتَ ابني الحبيب الذي به سررت.» (مر 1: 10 و11) هنا يكشف الإنجيل عن كيف تعرَّف المعمدان ليس فقط على المسيَّا، بل على مَنْ هو المسيَّا: أنت ابني الحبيب!! لذلك يعلن يوحنا المعمدان: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.» (يو 1: 34) إعلان يوحنا هذا الذي سلّمه للبشرية بالإنجيل نقله إلينا كشهادة عيان وسلَّمه لنا كمن رأى وسمع، رأى الروح رؤيا العين، وسمع صوت الله سماع الأذن بيقين روحي أعمق ألف مرة من اليقين الحسي، لهذا شهد، وشهد بيقين الرؤيا: «وأنا قد رأيت وشهدت». هذا هو عيد أول رؤيا للروح القدس! وهو عيد أول شهادة إنسان للمسيح تمت بالروح القدس، أنه ابن الله. والروح القدس بنزوله من السماء مهَّد في الحال في قلب يوحنا لسماع صوت الآب بوضوح. شهادة المعمدان للمسيح تمَّت بالروح القدس والآب. عيد الغطاس هو في حقيقته عيد الشهادة للمسيح، بالنسبة للكنيسة وبالنسبة لكل نفس تسعى لإدراك المسيح «أنا لم أكن أعرفه». «أنا لم أكن أعرفه»: هذا هو حال يوحنا المعمدان الذي دُعي نبيًّا للعلي من بطن أمه، وتعيَّن أن يتقدَّم أمام وجه الرب ليُعدَّ طرقه بل ويعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة الخطايا. بينما ظل هو في أشد الشوق لمعرفته، وهذا في الحقيقة هو حالنا نحن، دعينا للخلاص والكرازة بالخلاص بل والشهادة للمسيح ابن الله، ولا نزال في أشد الحاجة إلى معرفته. وإن كنا نشهد فشهادتنا بالكلمة ينقصها يقين المعرفة: «وأنا رأيت وشهدت»!! وكأنما نعيش قبل عيد الغطاس! يقين الشهادة: كانت شهوة المعمدان أن يتعرَّف على المسيح، ولكن بمجرَّد حصوله على ”معرفة المسيح“ انطلق يشهد له في الحال أمام الكهنة واللاويين «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»، «هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدَّامي ... الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه ... الذي يعمد بالروح القدس.» (يو 1: 30 و27 و33) هنا يوحنا يلغي نفسه تماماً، فالذي يحل سيور الحذاء في البيت اليهودي هو العبد المشتَرَى!! ثم إن كان المسيح الذي ينادي به هو الذي سيعمِّد بالروح القدس، فيوحنا بهذه الشهادة يصفِّي عمله ورسالته، بل وينهي على كل خدمته، وهو يؤكِّد ذلك بنفسه: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.» (يو 3: 30) هذا إن كانت المعرفة من الروح القدس حقًّا، لأن عمل الروح الأساسي هو الشهادة للمسيح . لذلك فإن معرفة المسيح إن كانت بالروح القدس فهي طاقة حركة لا يمكن أن تنحبس، بل لابد أن تُستعلن كالنور وتنتقل من إنسان لإنسان: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.» (مر 16: 15) شخص المسيح، عن قرب، جذاب للغاية، معرفته تأسر القلب، وتسبي الروح، وبحلول الروح القدس تصبح حضرة المسيح مالئة لكل كيان الإنسان؛ لأن الروح يأخذ ما للمسيح ويعطينا، فلا يعود الإنسان يشعر بحاجة إلى ذاته أو أن يكون له كيان منفصل أو عمل أو وجود أو أمل ذاتي: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص». هنا تفريغ وملء. معرفة المسيح تفرِّغنا من ذواتنا وتملأنا بالمسيح نفسه بالحق، بالحياة، بالقيامة، بالسلام الفائق للعقل. هذا يضطلع به الروح القدس حتى يمتلئ الإنسان بكل ملء الله، كما يقول الكتاب (أف 3: 19). وفي موضع آخر يقول: «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16)، «وأنتم مملوؤون فيه.» (كو 3: 20) هذا التفريغ من الذات والملء بالمسيح هو الذي يُـخرج الإنسان عن كيانه وعن مكانه، فيطلقه ليبشِّر بلا حدود وبلا قيود، حتى إلى الموت يبشِّر ويشهد بما رأى «وأنا رأيت وشهدت». يستحيل على إنسان تعرَّف على المسيح حقًّا وذاق ونظر طيب الرب، أن يسكت أو أن يستطيع أحد أن يكتم صوته. المسيح عبَّر عنها أنها «مناداة من على السطوح» (مت 10: 27)، والمعمدان عرف ذلك وكان يمارسه «أنا صوتُ صارخٍ في البرية» (مر 1: 3)! لأن التعبير عن مقدار الأثر والتعلُّق الذي يتغلغل كيان الإنسان الذي انفتح ذهنه بالروح القدس على المسيح، لا يمكن أن تشرحه كلمات بسهولة. الكلام مهما كان بليغاً ورصيناً يظل عاجزاً عن تصوير عذوبة ومحبة وعمق شخص ابن الله. تأثير السيرة على الشهادة: ولكن الشهادة للمسيح تبلغ حد يقينيتها الأعلى، عندما تزكيها سيرة الإنسان نفسه. إن شهادة المسيح ليوحنا المعمدان توضِّح سر نجاح المعمدان الفائق الوصف في التعرُّف على المسيح والشهادة له وسط ظلام الأجيال وعمى الرؤساء والحكماء والعلماء: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحرِّكها الريح (ثبات مبادئ يوحنا)؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ إنسان لابساً ثياباً ناعمة؟ هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في قصور الملوك (خشونة حياة يوحنا وتقشُّفه ونسكه في البراري). لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًّا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي! (روح وسيرة يوحنا المعمدان فاقت مستوى جميع الآباء والأنبياء) الحق الحق أقول لكم: إنه لم يقم من بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان (الوحيد الذي امتلأ بالروح القدس وهو في بطن أُمه!)» (مت 11: 7 - 9 و11)، وهذا رد ضمني على الذين يعترضون على قيمة المعمودية في الطفولة. والسؤال هنا هو: هل ألغى العهد الجديد عظمة يوحنا وتكريم المسيح له بهذه الشهادة المفرحة جدًّا لنفوسنا؟؟ في الحقيقة ما كتبه الإنجيليون عن يوحنا يمكن تلخيصه في كلمتين: نصرة بالروح، وقوَّة بالروح، وطاعة بلا لوم، وهذه هي العلامة السريَّة لكل ممتلئ بالروح القدس!! إن حياة يوحنا الداخلية وسيرته طابقت متطلبات الشهادة للمسيح تطابقاً فائق الدقة والوصف، لذلك جاءت شهادته بيقين فائق شهد لها الإنجيل!! «يوحنا شهد له.» (يو 1: 15) إن الشهادة للمسيح، لكي ترتفع إلى درجة اليقينية كيقينية شهادة المعمدان تحتاج إلى متطلبات عميقة داخلية مقدَّسة يستحيل استيفاؤها إلا بالملء من الروح القدس!! هذا هو يوحنا المعمدان والمسيح المنحني تحت يده، وهذا هو عيد الغطاس الأول بأعماقه وجذوره الضاربة في أساس الكنيسة وميراثها من جهة الشهادة للمسيح عن رؤيا واستعلان وامتلاء بالروح: «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله». رؤيتنا وشهادتنا: والآن نقلة ختامية من الأردن ويوحنا والمسيح المنحني تحت يد المعمدان إلى واقعنا الكنسي والفردي: أين عيد الغطاس منا؟ ما هي رؤيتنا؟ وما هي شهادتنا؟ نحن لا نتكلَّم عن الرؤى والأحلام، لأن الحكم فيها وعليها من أصعب الأمور بسبب عوامل التزييف الذي يقوم به اللاشعور في تصوير المناظر والأحلام حسب هوى الذات المريضة، هذا بالإضافة إلى عدم نفعها لا بالكثير ولا بالقليل من حيث تغيير السلوك. ولكننا نتكلَّم من جهة رؤيا القلب في يقين الوعي والإرادة، أي النظر الروحي الواعي والدائم للتعرُّف على شخص المسيح كمخلِّص وكفادٍ، في تأمل، في صلاة، في مناجاة، في حب لا تشوبه المنافع الشخصية، أو التنافس، أو الحسد والغرور، أو طلب المجد والمديح والظهور. ثم هل سماؤنا مفتوحة؟ أو بمعنى آخر هل حصولنا على العون الإلهي من الأعالي هو طلبنا الأول والأخير وهو إلحاحنا الذي ننام فيه ونستيقظ به؟ «رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني، معونتي من عند الرب الذي صنع السماء والأرض.» (مز 120: 1 و2)إن كان هذا رجاؤنا وإلحاحنا وشوقنا وقلقنا، فالروح القدس يسبق ويمهِّد ويُعدُّ القلوب والرؤوس، لأنه لا ينسكب إلا على الرؤوس المنحنية والقلوب التي برَّح بها الحنين، رؤساء ومرؤوسين، فيفك العقول والقلوب من أسر الذات، ويطلق الألسنة من سجن الخطية، يطلقها بالتسبيح والتهليل والشهادة للمسيح بملء الفم والقلب وصحو العقل واليقين وقوة لا تعاند، والعلامة دائماً أبداً أن «المساكين يُبشَّرون.» (لو 7: 22)وإن السماء التي انفتحت لعين المعمدان وقلبه، وسماع صوت الآب، ورؤية الروح القدس نازلاً، بنوع من الاستثناء الذي تجاوز كل خبرات الماضي بكل أمجادها، قد صار هذا لنا حقًّا مشروعاً وميراثاً دائماً، ضمنه المسيح بوعد ثابت لا يمكن الرجوع فيه: «من الآن ترون السماء مفتوحة» (يو 1: 51) وهذا هو تحقيقها: «ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله» (أع 7: 56). ولماذا كان لنا نحن أيضاً هذا الوعد الذي تحقَّق لإستفانوس الشهيد بالعيان، ولماذا هذا الامتياز الفائق بهذه الرؤيا الدائمة: «من الآن»، إلا لكي نرى ما رأى يوحنا فتدخل شهادتنا منطقة اليقين! «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»!
المزيد
09 يناير 2021

تأملات روحية «والكلمة صار جسداً» ج3

يا لعظمة سر التجسُّد وميلاد المُخلِّص: في ذكصـولوجيـة عيـد الميـلاد المجيـد التي تُنشدها الكنيسة بفرحٍ وتهليل، نُرنِّم قائلين: [حينئذ امتلأ فمنـا فرحـاً ولساننـا تهليلاً، لأن ربنا يسوع المسيح وُلِدَ في بيت لحم... السلام لمدينة إلهنا، مدينـة الأحياء، مسكن الصدِّيقين، التي هي أورشليم. السلام لـكِ يـا بيت لحـم مدينـة الأنبياء الذين تنبَّأوا عن ميلاد عمانوئيل. اليوم أشرق لنا نحن أيضاً النور الحقيقي مـن مـريم العذراء، العروس النقيَّة. مريم وَلَـدَت مُخلِّصنا مُحـب البشـر الصالح، في بيت لحم اليهوديـة كـأقوال الأنبيـاء... هـا السموات تفرح، والأرض تتهلَّل لأنها (أي العذراء مريم) وَلَدَت لنا عمانوئيل نحن معشر المسيحيين]. + والقديس غريغوريـوس الناطق بالإلهيات في عظته عن: ”الثيئوفانيا - ميلاد المسيح“ يُردِّد بتهليل قائلاً: [كلمة الله ذاتـه، الأبدي الذي هـو قبل كل الدهور، وهو غير المنظور، غير المفحوص، وغير الجسدي، البدء الذي مـن البدء، النور الذي مـن النور، مصـدر الحياة والخلـود، صـورة الجمال الأصلي الأول، الخَتْم الـذي لا يزول، الصورة التي لا تتغيَّر، كلمة الآب وإعلانه؛ هذا أتى إلى صورتـه، وأَخَذَ جسداً لأجل جسدنـا، ووحَّد ذاته بنفسٍ عاقلة لأجل نفسي لكي يُطهِّر الشَّبَه بواسطه شَبَهه، وصار إنساناً مثلنا في كلِّ شيء مـا عدا الخطية، إذ وُلِدَ من العذراء التي طُهِّرَت أولاً نفساً وجسداً بالروح القدس. وهكذا حتى بعد أن اتَّخذ جسداً ظـلَّ إلهاً، إذ هـو شخصٌ واحد من الاثنين (لاهوت وناسوت). يا له مـن اتِّحادٍ عجيب، الكائن بذاته يأتي إلى الوجـود، غير المخلوق (كـإله) يُخلَق (أي يتَّحد بناسـوت خَلَقَه هـو بـالروح القدس في أحشاء العذراء)، غير المُحوَى يُحوَى بواسطة نفسٍ عـاقلة تتوسَّـط بـين الأُلوهـة والجسد المادي. ذاك الذي يمنح الغِنَى يصير فقيراً، فقد أَخَذَ على نفسه فقر جسدي، لكى آخُذ أنـا غِنَى لاهوته. ذاك الذي هو الملء يُخلي نفسه، لأنه أخلى نفسه من مجده لفترةٍ قصيرة ليكون لي نصيبٌ في مِلْئه. أيُّ صلاحٍ هذا! وأيُّ سرٍّ يُحيط بي! اشتَرَكتُ في الصورة (عندما خلقني على صورته)، ولم أَصُنْها؛ فاشْتَرَكَ (هو) في جسدي لكي يُخلِّص الصورة (التي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط)، ولكي يجعـل الجسد (المائت) عديم الموت... هـذا العمل الأخير (أي تجسُّـد كلمة الله) يليق بـالله أكثر مـن الأول (أي الخلق)، وهو سامٍ جداً في نظر الفاهمين]. «وُلِدَ لكم اليوم... مُخلِّص هو المسيح الرب»: في بشارة مـلاك الرب للـرعاة، يقـول لهم: «لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لو 2: 11،10). وما نُركِّز عليه في هـذه الآيـة هـو قـول الملاك: «... أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ... مُخَلِّصٌ». فقد وُلِدَ لنا المُخلِّص المسيح الرب لكـلِّ واحـدٍٍ منَّا شخصياً. فقد وُلِدَ المُخلِّص لأجل خلاص كلِّ واحدٍ فواحد، لكلِّ مَن يؤمن بـه ويقبله مُخلِّصاً له. هكذا يكون ميلاد المخلِّص، وهكـذا تُردِّد الكنيسة كما ذَكَرنا في ذكصولوجية الميـلاد: ”وَلَدَت (العذراء) لنا عمانوئيل نحن معشر المسيحيين“. وفي نبوَّة إشعياء النبي يقول: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَـدٌ وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُـونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ: عَجِيباً مُشِيراً، إِلهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ» (إش 9: 6). وتُنشد الكنيسة في لحـن ”Xere ne Maria“ قائلة: ”السلام لكِ يا مريم الحمامة الحسنة، التي وَلَدَت لنا الله الكلمة“. وكذلك تقول الكنيسة في لحن التوزيع ”Piwik `nte `pwn'“: ”خبز الحياة الذي نزل لنا من السماء، وَهَبَ الحياةَ للعالم“. + ويقول القديس كيرلس الكبير: [... إنَّ الربَّ - رغم أنه هو الله - ظهر لنا. ورغم أنه في صورة الآب، هو ذو تفوُّق فائق وشامل، فقد أَخَذَ شكل عبد. ولكن، رغم هذا، فإنه هو إلهٌ وربٌّ، فهو لم يَزَل كما كان (إلهاً قبل أن يتجسَّد)](1). كلمة الله وُلِد كإنسانٍ من العذراء مريم: للمسيح ميلادان: فهو لكونه كلمة الله وابن الله الوحيد فله ميلادٌ أزلي قبل كل الدهور من الآب: «فِي الْبَدْءِ (منذ الأزل) كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ» (يو 1: 2،1)؛ ولأنه تنازَل وأتى إلى عالمنا الساقط لكي يُخلِّصه ويَهَبه الحياة الأبدية، فقد وُلِدَ ميلاداً زمنياً مـن العذراء القديسة مريم: «وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ» (غل 4: 5،4) + ويقـول القديس كيرلس الكبير في هـذا الصدد: [الكلمة الذي من الله الآب، دُعِيَ إنساناً رغم كونـه بـالطبيعة الله، لأنـه اشترك في الدم واللحم مثلنا (عب 2: 14). وعندمـا حـدث ذلك (أي تجسَّـد) لم يفقد شيئاً مِمَّا له (أي لاهوته). وإذ أَخَـذَ طبيعة بشريـة مثلنا (أي مُماثلة لنا في كـلِّ شيء مـا خـلا الخطية وحدها) لكنها كاملة؛ (إلاَّ أنـه) ظلَّ أيضاً الله ورب الكل، لأنـه هو هكذا فعلاً، وبطبيعته، وبـالحقِّ، مـولودٌ مـن الآب (قبـل كـل الدهور) رغم تجسُّده... ورغـم أن العـذراء مريم وَلَدَت الهيكل (كلمة شائعة عند الآباء للدلالة على ناسوت المسيح) المُتَّحد بالكلمة، إلاَّ أنَّ عمانوئيل قيل عنه، وهـذا حـقٌّ: «(الربُّ) مـن السماء» (1كو 15: 47)، لأنه من فوق، ومولودٌ من جوهـر الآب. وإن كان قد نزل إلينا عندما صار إنساناً إلاَّ أنـه من فوق... ولذلك نقول إنَّ ابن الإنسان نزل من السماء، وهذا تدبير الاتِّحاد، لأن الكلمة وَهَبَ لجسده كل صفات مجده وكل ما هو فائقٌ وخاصٌ بالله](2). كلمة الله غير مخلوق، ولكن جسده مخلوق: لقـد سـقط الهراطقـة في فكـرٍٍ منحرف، واختلط عليهم الأمـر، ولم يُميِّزوا بين كلمـة الله غير المخلوق؛ وبين ناسوته الذي اتَّحد به بحسب التدبير، وهو ناسوت مخلوق. وهذا الأمر يشرحه القـديـس أثناسيوس الرسـولي في رسـالتـه ضد أبوليناريوس قائلاً: [لقـد علَّم الآباء أنَّ الابـن مساوٍ للآب في الجوهر، وأنـه ”إلهٌ حقٌّ مـن إلهٍ حقٍّ“، أي أنه كامل من كامل، ثم أضافوا مؤكِّدين: ”نزل من السماء لأجل خلاصنا، وتجسَّد وتأنَّس“. وبعد ذلك نعترف بأنه ”تألَّم وقام“. وحتى لا يُخطئ أحد إذا سمع أنَّ الكلمة تألَّم ومات، ويعتقد أن الله الكلمة قـد تغيَّر جوهـره، أكَّـد الآباء بكـلِّ وضوح، أنَّ الابن غير مُتغيِّر ولا متألِّم... أخبرونـا يـا مَـن اخـترعتم إنجيـلاً جديـداً خاصّاً بكم... مِِن أيِّ مصدرٍ أخـذتم البشارة التي تجعلكم تقولون إنَّ الجسد (الذي اتَّحد به كلمة الله) ”غير مخلوق“؟ أَلا يجعلكم هـذا تتخيَّلون أَمْرَيْن لا ثالث لهما: إمَّا أنَّ لاهوت الكلمة قد تحوَّل إلى جسدٍ، وإمَّا أنكم تعتقـدون أن تدبـير الآلام والموت والقيامة خيالٌ لم يحدث. وهـذان التصوُّران، كلاهما خطـأ؛ لأن جوهـر الثالـوث هـو وحـده غير المخلوق، والأبـدي، وغير المتألِّم وغير المُتغيِّر. أمـا المسيح حسب الجسـد (رو 9: 5)، فقد وُلِدَ مـن الناس الذيـن قيـل عنهم: ”إخوتـه“، بـل تغـيَّر (ناسوتـه وتمجَّـد) بقيامتـه فصـار بعـد قيامتـه «بـاكـورة الراقديـن» (كو 1: 18)... فكيف تُسـمُّون الناسـوت الذي تغيَّر مـن الموت إلى الحياة ”غير مخلـوق“؟ وكيف تفترضـون العكس، عندمـا تُسـمُّون غير المخلـوق (كلمة الله) بـالمُتغيِّر؟ لأنكم عندما تُسمُّون جوهر الكلمة غير المخلـوق بالمُتغيِّر، فأنتم تُجدِّفون على أُلوهيـة الكلمـة. وعندمـا تصفون الجسـد المُتغيِّر المُكـوَّن مـن عظامٍ ودمـاءٍ ونفسٍ إنسانية، أي كل مكوِّنـات أجسادنـا، والذي صار ظاهراً ومحسوساً مثل أجسادنا؛ تصفون كل هذا بأنه ”غير مخلوق“، (فإنكم) تسقطون سقوطـاً شنيعاً في خطأيـن: أولهمـا: إنكم تفترضـون أنَّ الآلام التي احتملهـا (المسيح جسديّاً) هي مجـرَّد خيـال، وهـذا تجديف المانويين؛ أو إنكم تعتَبِرون أنَّ اللاهـوت له طبيعة ظاهرة محسوسة، رغم أنه جوهرٌ غير مخلـوق، وبـالتالي فهـو غير ظاهـر ولا محسوس، وهـذا التصوُّر الأخير يضعكم مع الذين يتصوَّرون أنَّ الله كائنٌ في شكلٍ بشريٍّ جسداني (وهي بدعة تقول إنَّ الله في جوهره مثل الإنسان له أعضاء بشريـة)...](3). تجسُّد كلمة الله لم يَحدَّ من وجوده كإله في كلِّ مكان: وكما يقول بولس الرسول: «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا» (كو 2: 9). ولكن بالرغم من تجسُّد كلمة الله، إلاَّ أنه بلاهوته كائنٌ في كلِّ مكان ولا يخلو منه مكان. وهـذا مـا يُوضِّحه القديس أثناسيوس الرسولي: [لأنـه لم يكـن محصوراً (كـإله) في الجسد - كما يتوهَّم البعض - أو أنه بسبب وجوده في الجسد كان كـل مكانٍ آخر خالياً منه، أو أنـه بينما كـان يُحرِّك الجسد كـان العالم محروماً من أفعال قدرتـه وعنايته. غير أنَّ الأمـر العجيب والمُدهش جداً هـو أنـه مع كونه هـو الكلمة الذي لا يحويه شيء، فإنه هـو نفسه يحوي كـل الأشياء. وبينما هـو موجودٌ في كل الخليقة؛ فإنه، بحسب جوهره، هو مُتميِّز عـن كل الخليقة. فهو حاضرٌ في كل الأشياء بقدرتـه فقط، ضابطاً كل الأشياء ومُظهِراً سيادتـه على كـل شيء وعنايتـه بكلِّ شيء، وواهباً الحياة لكلِّ شيء. ومـع إنه يحوي كل الأشياء ولا يحتويه شيء، إلاَّ أنه كائنٌ كلِّيةً في أبيه وحده. وهكذا حتى مـع وجوده في جسدٍ بشري، مُعطياً الحياة له، فقد كـان مـن الطبيعي أن يمنح الحياة للكون كله في نفس الوقت... لم يكُن (كلمة الله) مُقيَّداً بسبب الجسد (الذي اتَّحد به)، بل بالحري كـان يستخدم جسده. ولذلك فهو لم يوجد في الجسد فقط، بل كان موجوداً بـالفعل في كـلِّ شيء... وهـذا هو الأمر العجيب، أنه بينما كان يتصرَّف كإنسانٍ، كان ككلمة الله يُحيي كـل الأشياء، وكابنٍ كـان كائناً في أبيه. ولذلك عندما وَلَدَته العذراء، لم يَعتَرِه أي تغيُّر (من جهة لاهوته)، ولا تدنَّس بحلوله في الجسد؛ بل بالعكس فهو قد قدَّس الجسد أيضاً](4). افتقر وهو الغَنِي، لكي نستغني بفقره: لقـد أوضح القديس بـولس ولخَّص تـدبير التجسُّد في هـذه الكلمات: «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِـنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2كو 8: 9). فكلمة الله هو الغََنِي بلاهوته وقدرته الإلهية، لكنه من أجلنا ومن أجل خلاصنا، سُرَّ أن يفتقر أي يُخلي ذاته من مجد لاهوتـه، ويأخـذ جسـداً وضيعاً يتَّحد بـه ويصـير في شِـبْه النـاس؛ لكي نستغني نحـن الفقراء بـالخيرات العتيدة وبـالشركـة مـع الله وبـالحياة الأبديـة بواسـطة تجسُّـد كلمـة الله. ولذلك يقول القديس يوحنا في إنجيله: «وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَـا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (يـو 1: 16)، ويقول أيضاً القديس بولس: «وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، الَّذِي هُـوَ رَأْسُ كُـلِّ رِيَاسَـةٍ وَسُلْطَانٍ» (كو 2: 10). ويُوضِّح بطرس الرسول الغايـة النهائية مـن تجسُّد ابـن الله، بـأن نصـير: «شُرَكَـاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ» (2بط 1: 4). وفي الختام، نذكُر مرد إنجيل باكر عيد الميلاد، إذ من أجلنا: ”غيرُ المُتجسِّد تجسَّد، والكلمةُ تجسَّم. غيرُ المُبتدئ ابتدأ، غير الزمني صار زمنياً“. (1) ”تفسير إنجيل لوقا“، الأصحاح الثاني، العظة الثانية. (2) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 4. (3) ”ضد أبوليناريوس“: 3. (4) ”تجسُّد الكلمة“، 17: 5،4،1.
المزيد
05 يناير 2021

«والكلمة صار جسداً» (يو 1: 14)

كلمة الله ربنا يسوع المسيح:- نَعْلَم أن الله خَلَقَ الإنسان على صورتـه ومثاله، وأعطاه شـركة في قوة كلمته الحيَّة، ووهبه نعمة الروح القدس عندمـا نفخ في أنفه نسمة الحياة، هذه النعمة التي تُهيِّئ الإنسان للشركة مع الله والتمتُّع بالحياة الأبديـة معه. ولكـن عندما تعدَّى الإنسان وصية الله، سقط مـن النعمة، وتعرَّى من الروح القدس الحافظ له والذي يطبع صورة الله في كيانه البشري؛ وبـالتالي سـاد عليـه الفسـاد والموت، وتشوَّهت صورة الله التي خُلِقَ عليها ولكن الله، مـن قِبَل صلاحـه ومحبته لنا، لم يترك خليقته تهلك هكـذا ويسـود عليها الموت. وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي[من غير اللائق أن تهلك الخليقة وترجع إلى العدم بالفساد، تلك الخليقة (ويقصد ”البشر“) التي خُلِقَت عاقلة، وكان لها شركة في الكلمة. وأيضاً لأنه سيكون مـن غير اللائـق بصلاح الله أن تَفْنَى خليقتـه بسبب غوايـة الشيطان للبشـر. ومـن ناحيةٍ أخرى، كـان سيصبح مـن غير اللائق على الإطلاق أن تتلاشى صنعة الله بيـد البشـر، إمـا بسبب إهمالهم أو بسبب غوايـة الشياطين. فطالما طـال الفسـاد الخليقة العاقلة، وكـانت صنعة الله في طريقها إلى الفناء، فما الـذي كـان يجب على الله الصالح أن يفعله؟ أيـترك الفسـاد يُسيطر على البشر، والمـوت ليسود عليهم؟ وما المنفعة، إذن، من خِلْقتهم منذ البدء؟ لأنـه كـان أفضل، بالحري، ألاَّ يُخلَقوا بـالمرَّة مـن أن يُخلقـوا وبعد ذلـك يُهمَلوا ويَفْنَوا... كان يجب، إذن، أن لا يُترَك البشر لينقادوا للفساد، لأن هـذا يُعتَبَر عملاً غير لائق ويتعارَض مع صلاح الله](1).وبسبب التعدِّي والسقوط تشوَّهت صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان، وانطمست ملامحها في كيانه البشري، دون أن يفقدها؛ ولكنه فَقَد النعمة الإلهية التي تؤهِّله للبلوغ إلى مثـال أو كمـال الصورة الإلهية التي طبعها الروح القدس فيه.ولا يمكـن للإنسان أن يستعيد بنفسـه بهاء الصورة الإلهية التي خُلِقَ عليها، لأنه ليس هـو صورة الله. ولا يمكن لخليقةٍ أخرى أو ملائكة أن تُجدِّد صورة الله التي انطمست في الإنسان، لأنهم ليسوا صُوَراً لله. لذلك، بحسب عِلْم الله السابق ومعرفته الأزلية، جاء كلمة الله نفسه، الذي هو صورة الله الأزلية، والذي بـه خُلِقَت كل الخليقة؛ جـاء ليُجدِّد الصـورة التي جُبِـلَ عليها الإنسان والتي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط. + ويوضِّح هـذا الأمـر القديس أثناسيوس الرسولي بقوله[وكما أنـه لـو كـانت هناك صورة لشخصٍ مرسومة على قماش مُثبَّت على لوحـةٍ خشبية، وتلطَّخت هـذه الصورة مـن الخارج بالأقذار، ما أدَّى إلى اختفاء ملامحها؛ ففي هذه الحالة لابد مـن حضور صاحب الصورة نفسها ثانيةً لكي يمكن إعـادة تجديـد الصورة على نفس قماش اللوحة. فلا يُلقي بالقماش، لأن صورته رُسِمَت عليه، بل يُجدِّد الرسم عليه مرَّةً أخرى.وعلى هذا النحو، فقد أتى إلى عالمنا كُلِّي القداسة ابـن الآب، إذ هو صورة الآب، لكي يُجدِّد الإنسان الذي خُلِقَ مرَّة على صورتـه، ويُخلِّص مَن قد هلك بمغفرة الخطايا...](2). كلمة الله أخلى ذاته من مجد الأُلوهة:- لقد تواضَع كلمة الله ونزل إلى عالمنا الفاسد لكي يُخلِّص جنس البشر، ويُعيد إليهم ما فقدوه من نعمـة إلهية، ويُجـدِّد فيهم الصورة الإلهية التي تشوَّهت. ولكنه لكي يصير إنساناً كان لابد له أن يُخلي نفسه من بهاء ومجد لاهوته، دون أن يُفرغ نفسه مـن لاهوتـه. وكما يقول بولس الرسول: «الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (في 2: 6-8). + وفي هذا الصدد يقول القديس كيرلس الكبير[إنَّ الله الكلمة بطبيعته كامل مـن كل الوجوه، ومِن مِلْئه يُوزِّع عطاياه للخلائق. ونحن نقول عنه إنه ”أفرغ ذاته“ دون أن يمسَّ هذا بطبيعته (الإلهية)، لأنه عندما أفرغ (أخلى) ذاته لم يتغيِّر إلى طبيعةٍ أخرى، ولم يصبح أقل مِمَّا كان عليه، لأنه لم ينقص شيئاً. هـو غير مُتغيِّر مثل الذي ولـده (الآب)، ومثله تمامـاً غير عُرضة للأهواء. ولكن عندمـا صار جسداً أي إنسانـاً، جعل فقـر الطبيعة الإنسانية فقـره، ولذا قال: «سأسكب مـن روحي على كـلِّ جسد» (يوئيل 2: 28)](3). كلمة الله صار جسداً (أي إنساناً) مع بقائه إلهاً كما كان منذ الأزل:- في رسالتـه الأولى ضد الآريـوسيين، أراد القديس أثناسيوس الرسولي أن يوضِّح أن كلمة الله مـن حيث لاهوته هو غير مُتغيِّر، إذ يقول[إن كـان الكلمة مُتغيِّراً وقابلاً للتحوُّل، ففي أيَّة نقطـة، إذن، سيتوقَّف (عـن التغيير)؟ ومـاذا ستكون نهاية عملية تطوُّره هذه؟... لأنه كيف لا يكون كاملاً هذا الذي هو مساوٍ لله؟ أو كيف لا يكون غير مُتغيِّر هـذا الذي هـو واحد مع الآب، وهو نفسه ابنه مـن ذات جوهره؟ ولأن جوهـر الآب غير مُتغيِّر، فبالضرورة يكـون مولوده الذاتي أيضاً غير متغيِّر](4) أمَّـا في تنازُله وتجسُّده، فكلمة الله لم يفقد شيئاً من لاهوته المساوي للآب في الجوهر، ولم يتحوَّل بالتالي لاهوته إلى جسدٍ؛ بل صار كلمة الله جسداً مع بقائه إلهاً بسـرٍّ لا يُنطَق بـه. وهذا ما نُردِّده في التسبحة اليومية، وخـاصةً مـرد ثيئوطـوكية يوم الخميس: ”لم يَزَل إلهاً، أتى وصار ابـن بشر، لكنه هو الإله الحقيقي، أتى وخلَّصنا“.ويشـرح القديس أثناسيوس الرسولي كيف صار الكلمة جسداً، قائلاً[(لقد) صـار الجسد (الذي اتَّحد به كلمة الله) هـو جسد الإله، ليس كمساوٍ له في الجوهر، لأنه ليس أزليّاً مع الكلمة؛ وإنما ”صار“ معه بالطبيعة جسده، دون أن ينفصل عن اللاهوت بسبب قوَّة الاتِّحاد. وظلَّ جسداً من نسل داود وإبراهيم وآدم الذيـن تناسلنا منهم جميعاً. ولـو كـان الجسد مُساويـاً لجوهر الكلمة وأزليّاً معه... لأصبحت كـل الخلائـق السماويـة مساوية في جوهر الله خالق كـل الأشياء... إنَّ المساوي في الجوهـر لـه في الحقيقة ذات صفات الجوهـر، أي أنـه غير مُتغيِّر وغير قابـل للموت. وهنا لا يجوز الكلام عـن الاتِّحاد مـا دام الناسوت مساوياً في الجوهر لأقنوم الكلمـة، بـل لا يبقـى مجـالٌ للاتِّحاد الأقنومي](5). لاهوته لم يُفارق ناسوته:- يشرح القديس كيرلس الكبير اتِّحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح الواحد، قائلاً[عندما نقول إنَا كلمة الله اتَّحد بطبيعتنا، فإنَّ كيفية هـذا الاتحاد هي فـوق فَهم البشر... فهو اتِّحادٌ لا يوصَف وغير معروف لأيٍّ من الناس سوى الله وحده الذي يعرف كل شيء... لكن إذا طُلِبَ منَّا أن نُحدِّد كيفية اتِّحاد اللاهوت بالناسوت، وهـو أمرٌ يفوق كل فَهم بل صعبٌ جداً! نقول: إنه من اللائق أن نعتقد أنَّ اتِّحاد اللاهوت بالناسوت في عمانوئيل، هو مثل اتِّحاد نفس الإنسان بجسده... فإذا ضُرِبَ الجسد أو جُرِحَ بالحديد مثلاً، فإنَّ النفس تحزن مع جسدها، ولكن بطبيعتها لا تتألَّم بالآلام المادية التي تقع على الجسد ويمكننا أن نرى أيضاً الجمرة مثالاً لكلمة الله المُتَّحد بالطبيعة البشرية دون أن يفقد خواصه؛ بل حـوَّل مـا أخذه (أي الطبيعة البشريـة) وجعله متَّحداً به، بـل بمجده وبعمله. لأن النار عندمـا تتصل بالخشب تستحوذ عليه، لكن الخشب يظلُّ خشباً، فقط يتغيَّر إلى شكل النار وقـوَّتها، بـل يصبح له صفات النار وطاقتها، ويُعتَبَر واحـداً معهـا. هكـذا أيضاً يجب أن يكـون اعتقادنـا في المسيح، لأن الله اتَّحـد بـالإنسانية بطريقـةٍ لا يُنطَق بها، ولكنـه أَبقى على خواص الناسوت على النحـو الذي نعرفـه، وهـو نفسـه لم يفقد خواص اللاهوت عندمـا اتَّحد بـه (بالناسوت)، بـل جعلـه واحـداً معـه، وجعـل خـواص (الناسوت) خواصه، بل هو نفسه قام بكل أعمال اللاهوت فيه (أي في الناسوت)](6). كلمة الله صار إنساناً كاملاً:- لقـد سـقط أبوليناريـوس أسقف اللاذقيـة في سوريـا (من 372-392م) هـو نفسه في الهرطقةٍ عندما هاجَمَ هرطقة آريـوس الذي كـان يُشيع أنَّ الرب يسوع هو بِكْر خليقة الله، وبالتالي فهو مجازاً إلهٌ ثانوي، خَلَقه الله لكي يخلق بـه كـل الكائنات؛ ولذلك فإنـه مـن جوهر مختلف عـن جوهر الله، وبالتالي فهـو غير مسـاوٍ للآب في الجوهـر. أمَّا أبوليناريوس فهـو يَعتَبِر أنَّ لاهوت ابن الله حلَّ محل النفس البشريـة في الناسوت الذي اتَّحد بـه، وبالتالي فكلمـة الله اتَّحـد بطبيعـة بشريـة ناقصـة. وقـد نَسِيَ مـا حـدَّده آبـاء الكنيسـة، ومنهـم القديس غريغوريوس اللاهوتي القائل: ”ما لم يتَّحد بـه الرب عندما تجسَّد هـو مـا بَقِيَ بدون شفاء، أمَّا ما اتَّحد بأُلوهيته فقد خَلَص. إذا كان نصف كيان آدم فقط (أي الجسد) قد سقط، فإنَّ ما اتَّحد به الرب هو نصف آدم، وبالتالي خَلَص هذا النصف“(7) فـالخلاص تحقَّق باتِّحاد لاهـوت ربنا يسوع المسيح بكلِّ مُكوِّنات الناسوت، فكلُّ ما اتَّحد به كلمة الله نـال الخلاص، وما لم يتَّحد به كلمة الله لم يَنَل الخلاص، بل يبقى في الموت. ولذلك يُكمِل القديس غريغوريوس اللاهوتي كلامه قائلاً[لقد حُكِمَ على عقلنا، وهذا يعني أنه قد حُكِمَ على جسدنا أيضاً. فإذا كان الرب قـد اتَّحد بما هو وضيع (أي الجسد) لكي يُقدِّسه، فهل لا يتَّحد بما هـو سـامٍ (أي النفس البشرية) لقد سقط آدم بعقله أولاً، ولذلك كـان على المسيح أن يأخذ عقلاً إنسانياً لكي يُقدِّس العقل الإنساني](8) لقد اتَّحد كلمة الله بكلِّ الكيان الإنساني، نفساً وجسداً، وبـذلك نـال الإنسان بجملته الخلاص: نفساً وجسداً. ومعنى هـذا أن كـل ثمار وقـوَّة هـذا الاتِّحاد الأقنومي بين اللاهـوت والناسوت في المسيح يسوع، تُنقَل إلى كل الكيان البشري لقـد سقط الهراطقـة في هـذا الخطأ لأنهـم يعتقدون أنَّ الشرَّ هـو جزءٌ مـن الخليقة، وأنَّ له جوهـراً وكيانـاً صنعه الله. أمَّـا آبـاء الكنيسة، فيؤكِّدون أن الشرَّ بلا جوهر وبلا كيان، بل هو من اختراع العقل البشري، وأنَّ الإنسان بطبيعته ليس شريـراً، وإنمـا يصبح شريراً إذا مارَس الخطية والشـر وحتى الطبيعة البشريـة، بعد السقوط، لم تَصِر طبيعـة شريـرة، إذ لم تُخلَق شريرة، بل هي طبيعة مريضة تحتاج إلى العلاج. ولأن من سِمات الصورة التي جُبِلَ عليها الإنسـان: العقل والإرادة والحريـة؛ فصار، إذن، كلُّ إنسان مسئولاً عـن اختياراتـه، وفي النهايـة سيتحمَّـل نتيجـة هـذه الاختيارات. فـالطبيعة البشريـة لم تتحـوَّل نتيجة السقوط إلى شـرٍّ، بـل أُدخِلَ عليها الشر، وسـاد عليها الفسـاد، وتسلَّط عليها الموت بسبب التعدِّي. ولذلك صارت مُحتاجة إلى الخلاص والحياة الأبدية وفي تفسيره لآيـة سِفْر نشيد الأنشاد: «أنـا نرجس شارون، سوسنة الأودية» (2: 1)، يُشير القديس كيرلس الكبير، في سرٍّ، إلى أنَّ الناسوت الذي اتَّحد به كلمة الله كان ناسوتاً كاملاً، قائلاً [السوسنة واحـدة مـن اثنين (الرائحة وجسم السوسنة). وغيـاب رائحـة السوسنة لا يجعلها سوسنة. وكـذلك غياب جسم السوسنة لا يُفسِّر وجـود رائحة السوسنة، لأن في جسم السوسنة رائحتها... لأنـه عندما أراد (كلمة الله) أن يُعلِن عن ذاته مـن خلال الجسد، جعل فيه (أي في الطبيعة البشرية كلها) كل ما يخص اللاهوت](9). (1) ”تجسُّد الكلمة“، 6: 4-7، 10. (2) ”تجسُّد الكلمة“، 14: 2،1. (3) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 5. (4) ”ضد الآريوسيين“، 10: 35. (5) ”ضد أبوليناريوس“: 13. (6) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 9،8. (7) رسالة 101. (8) رسالة 101؛ ومقالة 22: 13. (9) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 10.
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل