المقالات

04 فبراير 2021

شخصيات الكتاب المقدس المرأة الشونمية

وفي ذات يوم عبر اليشع إلى شونم، وكانت هناك امرأة عظيمة... مقدمة تختلف مقاييس الناس اختلافا بينا كبيراً حول تحديد من هو العظيم في هذه الأرض!! ولاشك أن الكثيرين جداً يحكمون على العظمة بالنظر إلى الظاهر في الإنسان، فالإنسان عظيم على قدر المظهر الذي يعيش به بين الناس، وهذه العظمة، ليست في الواقع إلا عظمة القشور، وقد رفضها المسيح وهو يتحدث عن عظمة المعمدان قائلاً: «لكن ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا إنسانًا لابسًا ثيابًا ناعمة هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في بيوت الملوك.... الحق أقول لكم لم يقم بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان...»، ولو كانت القشور هي العظمة الحقيقية، لخرج لا الرسول بولس أو التلاميذ فحسب، بل لخرج المسيح نفسه الذي لم يكن له أين يسند رأسه.. وقد يقيس آخرون العظمة، على قدر ما يملك الإنسان من نفوذ أو سيطرة أو استبداد أو طغيان، ومن ثم جعلوا في القمة بين العظماء، جبابرة الحروب أمثال الاسكندر وقيصر ونابليون وغيرهم، أو من وصفهم السيد بالقول: «إن الذين يحسبون رؤساء الأمم يسودونهم، وأن عظماءهم يتسلطون عليهم».. وقد يرى آخرون العظمة في المفكرين والفلاسفة ممن يرفعون مصابيح النور ومشاعل المعرفة هداية للحائرين في الطريق الإنساني المظلم، ومن ثم عدوا في مقدمة العظماء سقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة القدامى والمحدثين، ووجد من قاس العظمة عند المخترعين والمكتشفين والعلماء من رواد الطريق إلى الحضارة والمدنية والرفاهية بين الناس، لكنني أعتقد أن العظمة الحقيقية تبدأ من عظمة الإنسان على نفسه، وانتصاره على ما في أغوارها من باطل، والعثور على معنى وجوده ورسالته في الأرض، والخدمة والتضحية والبذل، وقد كانت الشونمية بهذا المعنى واحدة من العظيمات اللواتي سطرت عظمتها في وحي الكتاب بأحرف بارزة جليلة، وقد يكون من الخير والحق أن نتأمل قصتها العظيمة فيما يلي من صور: من هي الشونمية لم يذكر الوحي لنا اسم المرأة، ولا نعلم سوى أنها من قرية شونم، والتي كانت تقع على بعد خمسين ميلا إلى الشمال من أورشليم، وإلى سبعة أميال إلى الجنوب من المدينة التي عرفت فيما بعد بالناصرة والتي عاش فيها المسيح مخلص العالم، ومع أننا لا نعرف الكثير عن حياة هذه المرأة، إلا أننا نعلم أنها كانت من الطبقة المتوسطة الغنية، وأن بيتها كان من البيوت الظاهرة في القرية، بل وربما أغناها وأيسرها، وأن لقمة العيش كانت سهلة وميسورة، وأنها كانت تملك أرضًَا، تدر عليها الوفير من العيش والحياة، وأنها يوم اضطرت إلى الهجرة لمجاعة طارئة رد الملك لها أرضها المغتصبة، والحياة كانت هادئة وطيبة للمرأة، حتى أن أليشع عندما سألها عما اذا كان يعوزها شيء، ردت بأنها ساكنة في وسط شعبها، لا تقلق أحدا، ولا أحد يتعرض لها بالإقلاق أو المضايقات أو الترفع على من حولها من القرويين أو الريفيين كما يفعل بعض الثراة أو الأغنياء من أهل الريف، بل يبدو أنها كانت امرأة وديعة مجبولة على روح الوداعة والتواضع، وكانت المرأة لها أكثر من ذلك الكرم القروي الطبيعي غير المتكلف، فهي لا تعطي فحسب، بل تسر بالعطاء والجود والكرم، وعلى وجه الخصوص الضيوف العابرين في الطريق، والغرباء الذين يحتاجون إلى معونة ومساعدة، على أن المرأة تميزت أيضًا بالتقوى العميقة الصادقة، فكل حركاتها وسكناتها، وكل مشاعرها وعواطفها، وكل ما صدر عنها من أفعال أو انفعالات كانت تكمن وراءه روح امرأة تقية عميقة التقوى، تخاف الله وتحبه، وتقبل منه الآلام والآمال، بوداعة وتسليم ورضا وخشوع وسكينة وحب!! ولعل هذه كلها هي التي أعطتها ذيوعًا وشهرة أكثر من زوجها، الذي أخذ مكانه في الظل إلى جوار شخصيتها القوية العظيمة الواضحة!!.. الشونمية ومظاهر عظمتها وإذا كانت الشونمية، توصف في المعنى العام بالمرأة العظيمة إلا أن مظاهر عظمتها قد ظهرت على وجه الخصوص في بعض المواقف الموثرة البطولية في عرض حياتها وسيرتها، ويمكن أن تراها بوضوح فيما يلي: عظمة التقوى رغم الحرمان من السهل على الإنسان أن يتصور التقوى تسير سيرها المطرد المستمر، مع نجاح الإنسان أو خيره، أو سلامته، أو مدى ما يتمتع به من دسم أو وفرة، ومع أن المرأة الشونمية كان لها الكثير، لتشكر الله عليه، وتغني بالحمد لجلاله، إلا أنها رغم ذلك كانت محرومة من أغلى ما كانت تحن إليه المرأة اليهودية في ذلك الوقت، بل أن هذا الحرمان كان يصور في كثير من الأوضاع والصور، كغضب الله أو قسوته أو شدته، عندما تكون المرأة عاقرًا لا تنجب أو تلد، ولعلنا نذكر المذلة التي كانت تفيض بها مشاعرها من هذا القبيل، ولا يمكن أن ننسى في هذا المجال سارة ورفقة وراحيل وحنة وغيرهن من النساء، ألم تؤثر راحيل الموت على حياة العقم وعدم الإنجاب، وألم تبك حنة في مرارتها القاسية في بيت الله لأنه لم يكن لها ولد!! ولعل الشونمية التي ظلت سنوات كثيرة بلا ابن، قد بكت مرات بلا عدد أو حصر وهي أمام الله في الصلاة، أو في عزلتها من الناس، أو ربما أمامهم، وهي تنشد الولد أو تحن إليه، ولكنها مع هذا كله لم يعرف منها أو عنها قط حياة التذمر أو التمرد أو الشكوى أمام الله والناس، لقد كانت في حرمانها المرأة التقية الزكية الإحساس المفعمة بالتسليم والسكينة والرضا لقضاء الله وأمره، كما كانت بعد مجيئة، ذات المرأة الممتلئة بكل عرفان وشكر وحمد لرحمته وإحسانه وجوده، بل لعلها كانت تقول مع أيوب، عندما تتعرض للإحساس بتجربة لتذمر «هوذا يقتلني. لا أنتظر شيئًا فقط أزكي طريقي قدامه...» أجل كانت المرأة في كل عقهما، وبكل عمقها، مظهرًا عظيمًا لتقوى المحرومين من هذا أو ذاك أمام الله.. عظمة الخدمة دون انتظار الأجر ولعل المظهر الثاني لعظمة هذه المرأة كانت روح الخدمة التي تتملكها، دون أدنى تفكير في رد أو جزاء بشري، لقد خدمت أليشع وتعبت في خدمته، على النحو الذي أثار الرجل وحرك مشاعره، فناداها، يطلب إليها أن يرد بعض المعروف مقابل ما سبب لها من انزعاج واهتمام ومتاعب، ولكن المرأة تجيب بأنها لا حاجة لها إلى شيء وهي ساكنة آمنة في وسط شعبها، لقد أوغلت في خدمتها إلى أليشع حتى أنها بنت له في بيتها علية يأوى إليها كلما جاء أو عبر الطريق، دون أن تنتظر جزاء أو شكراً، سوى احساسها العظيم بلذة الخدمة نفسها اللذة التي لا يستطيع أن يدركها سوى أولئك الذين خرجوا من نفوسهم إلى الآخرين، ومن الأثرة إلى الإيثار، ومن محبة الذات إلى محبة الجميع، كل من يمد يده إلى المتعب والغريب والضائع والمشرد والبائس والباكي وما أكثرهم في كل زمان ومكان على ظهر هذه الأرض!!.. عظمة السلام رغم وقوع الكارثة على أن المرأة تبدو في أروع صور العظمة عندما يموت ولدها الوحيد، قرة عينها، وبهجة قلبها، والذي جاء بعد ما ذكرنا من الحرمان القاسي لسنوات متعددة طويلة، والذي عاش سنوات بلغ فيها مرتبة الصبي، التي تجعله يخرج من البيت ويذهب لأبيه في الحقل، أو يجري هنا وهناك كما يجري سائر الأولاد اللاعبين الضاحكين مثله وفي سنه، وقد جاءت الضربة مفاجئة وغير متوقعة إذ كانت ضربة شمس وهو عند أبيه في الحقل، وكانت مسرعة وقاسية ومذهلة، فما أسرع ما يصل الصبي إلى أمه، حتى يموت قرب الظهيرة في حجرها، وهنا يقف الإنسان أمام مشهد من أدق وأقسى المشاهد التي يمكن أن يراها المرء في حياة الناس، كيف تواجه المرأة الكارثة وتتصرف إزاءها! لقد تحولت في دقائق ولحظات إلى أعظم صورة يمكن أن تتصورها من العظمة في مواجهة الفاجعة والآلام، ومع أن المرأة في العادة لا تنصرف بمفردها في مثل هذه المواقف التي تهزم أصلب الأعواد وأشجع القلوب، إلا أنها مع ذلك حرصت على ألا يعلم زوجها شيئًا عن الأمر، إذ قصدت أن تلوذ برجل الله والذي لم يكن في بيتها بل كان في الكرمل على بعد عشرة أميال على الأقل، وإذ يستفسر الزوج عن سر ذهابها تجيب بكلمة واحدة: سلام... وعندما تقترب من النبي، ويفزع إذ يراها مسرعة إليه فيرسل جيجزي بسؤال واحد: أسلام لك. أسلام لزوجك. أسلام للولد تجيب أيضًا بكلمة واحدة: سلام! وكيف يمكن أن يكون هناك السلام للنفس التعسة الحزينة المرة المفجوعة بل للنفس التي راضت حياتها على الصورة الأولى من غير ولد، وكان يمكن أن تستمر هكذا حتى استيقظ فيها الأمل بمجيء الغلام الذي أضحى هو الحياة بل أهم من الحياة عندها؟ كيف يمكن أن يكون السلام وقد كانت في قصتها الأولى كمن يسير قريبًا من الأرض لا يهتز إذا سقط عليها، ولكنه سرعان ما يصعد إلى أعلى الأدوار ليسقط، ولا يترضض فقط، بل ليتهشم تهشيمًا، ويضحي أشلاء تذروها الرياح، وكيف يمكن للإنسان أن يصل إلى السلام عندما يعصره الألم، وينضح بالتعاسة والدموع! هذا موقف من أندر المواقف وأقساها، ولو أن المرأة واجهته بما لم تواجهه امرأة أخرى إذ تغلق على ولدها ولا تذرف دمعة، ولا يعلو صوتها بتشنج أو نحيب، بل تذهب بصمت مليء بالمرارة إلى رجل الله، لكانت من أعظم النساء اللواتي عرفن في مواجهة الصدمات بشجاعة وصلابة وصبر في هذه الأرض، لكن المرأة ارتفعت فوق المرارة والآلام والتعاسة والأحزان التي لا توصف بشيء أسمى وأعلى وأمجد!!... لقد كانت أشبه بالطائر المرتفع الذي يشق طريقه إلى أعلى السموات مرتفعًا فوق الغيوم والسحب والأمطار ليواجه الشمس المشرقة الرائعة العظيمة، لقد واجهت المرأة المحنة بإيمان عجيب، قل أن يكون له نظير أو مثيل في حياة الناس، لقد آمنت أن الولد الذي جاء بمعجزة، سينهض من الموت ويقوم أيضًا بمعجزة، وقد حول هذا الإيمان نارها الملتهبة سلاماً وعذابها الذي لا يوصف هدوء وسكينة، لايمكن أن تكون من صنع الإنسان أو من قدرة ذاتية عنده، بل من روح الله وشخصه المبارك الذي لا يترك المؤمن، بل يجتاز معه الأتون المحمي سبعة أضعاف ويخرجه منه على نحو خارق من البهاء والجمال والعظمة على مشهد من الجميع ويصورة تذهب مضرب المثل كلما ذكرها الناس كواحدة من أقسى التجارب في حياة البشر على هذه الأرض!! وهل هناك عظمة يمكن أن تداني هذه العظمة في مواجهة المحن والآلام. الشونمية وجزاؤها المبارك كانت الشونمية، وهي تأخذ جزاءها من الله، أشبه بذلك القديس الذي تذكر القصة الخيالية أن الله طلب منه أن يختار أية عطية سيمنحها له المولى مهما كانت غالية وعظيمة وكريمة وأبي القديس وهو يقول الله: لقد أعطيتني ياسيدي فوق ما أطلب أو أحتاج، وأنا أسير إحسانك وجودك، ولا يعوزني قط شيء من الخير، وأجابه الله: ولكني أريد أن أعطيك أكثر فاطلب ما تشاء أو تريد!.. وقال الرجل: إذا كان ولابد يا مولاي!! فاني أرجو أن تعطيني أن أفعل الخير دون أن أحس إني فعلته أو قمت به!! وقال الله له: ليكن لك ذلك!.. وكان الرجل يسير فإذا وقع ظله على مريض شفي وبريء دون أن يشعر!! ولعله من الملاحظ أن المرأة لم تطلب الولد عندما سألها أليشع ولكن الولد جاء نتيجة ملاحظة جيحزي، إن البيت خال من ابن! لقد قدمت المرأة خدمتها وترحيبها وعطاياها تحت إحساسها العميق، بأن هذا ليس من واجبها فحسب بل هو امتيازها الأعظم أيضًا، ورأى الله أن المرأة أقرضته وأعطته وهو لا يقبل أن يكون مديونًا لأحد، وهو إذ يعطي إنما يعطي أضعافاً مضاعفة لا يمكن أن توازن بما يقبل أو يأخذ، ألم يقل السيد: «من يقبل نبيًا باسم نبي فأجر نبي يأخذ ومن يقبل بارا باسم بار فأجر بار يأخذ ومن سقي أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ فالحق أقول لكم إنه لا يضيع أجره».. وهل ضاع أجر المرأة، ألم تأخذ الولد، ولم تأخذه مرة واحدة في الحياة. بل أخذته مرتين؟ وألم تأخذ خيرًا سابقًا ولاحقاً لما قدمت لرجل الله من ضيافة أو كرم، عندما فاض عليها الله بالخيرات الكثيرة في بيتها، وعندما حفظ الله لها أرضها طوال المجاعة التي استمرت سبع سنوات، واغتصب الغاصبون حقلها، فلم يرد لها الملك الحقل عندما صرخت إليه فحسب، بل رد لها أكثر من ذلك غلاته التي أخذت طوال فترة غيابها عن شعبها وبلادها، طوال السبع السنوات من المجاعة القاسية. أيتها الشونمية العظيمة! هل يتعلم الناس، وهم يبحثون عن العظمة كيف تكون أصلا في العادي من الحياة في السماحة والجمال والدعة والخدمة بينهم، قبل أن تكون في طلب الخوارق والعجائب والمعجزات، والله على استعداد أن يعطي هذه وتلك، لمن يعيش ويحيا كما عشت وحييت، وكنت بحق في الحالتين كما ذكر الوحي «وفي ذات يوم عبر أليشع إلى شونم وكانت هناك امرأة عظيمة».
المزيد
20 يناير 2021

الميمر 167 على تلك الآية التي صنعها ربنا في قانا الجليل

ايها الابن الذي كان قد كثّر الخمر الجيد في الوليمة، اعطني لاشرب السيول الحلوة الموجودة في تعليمك، ايها المدعو الذي اثرى من موهبته من دعوه، صبّ هنا ايضا خمر محبتك ليسعدنا، لا تتاخر عن المجيء عند نقصي، ها قد دعوتُكَ ليس الى قانا لكن الى فكري، ربي هلّم وضع فيّ سيول تراتيلك الحلوة، بيعتك هي اعظم من الوليمة التي دعوتُك اليها كثّر عليّ المادة التي تسكرها وتشبعها، هوذا لساني يمزج في عرس البيعة المقدسة، اثلم واجرِ فيّ الشراب الروحي الذي يسعده، ساعدني لاتكلم عن هذه الآية العجيبة لكي اسقي بيعتَك خمر تعليمك الجديد، جعلتني ساقيا في عرس الشريفة، فلا تنقص بسببي اجانة المواضيع من امتلائك. ضرورة حضور المسيح في قانا:- انحدرت ارادته وحثت الذين يدعون ليدعوه ايضا مثل البقية الى الوليمة، نخسهم امرُه وايقظهم لياتوا عنده، وبعدما يدعونه لا يتاخر من الذهاب، كان سيذهب حتى ولو لم يدعوه، لكي يصنع آية ويحس العالم بلاهوته. طريق الزواج طاهرة:- كان يليق ان يبدأ بالقوات في العرس، وفي بيت الزواج يمدّ اليد للقداسة، ركض ووقف على الباب الذي يُدخِل الجنسَ لكي ينشر التعليم لكل من ياتي الى العالم، اتى ليخطب عروس النور بصلبه، فتوجه اولا حيث كانت توجد العروس الزمنية، المسيح ايضا كان ختنا قديم الاجيال، وقد اتى ليخطب بيعة الشعوب بذبيحته، ابان هناك بان طريق الزيجة طاهرة، والزواج مُتقن جيدا من قبل الله. المسيح ليس غريبا عن ابيه الذي اتقن الزواج:- لو كان الزواج ذاته والشركة مدنسَين، لما كان يدخل ويختلط في وليمته، لو لم تكن طريق الختن جميلة، لما كان يحل في مريم بقداسة، لقد اتكأ في الوليمة ليبارك سرير الشركة، راى بان الزواج متقن جيدا بواسطة ابيه، وعقد خدرا للعروس الزمنية بالطهر. وليمة قانا ترمز الى كل البرية:- كل البرية كانت مصوّرة بتلك الوليمة لان خمر كل واحد كان قد نقص من الاتقان، كان الختن يشبه آدم بالعوز، لان خمره نفذ كما كان قد نقص صِدق آدم، تلك العروس كانت تشبه بيعة الشعوب التي نفذ خمرها كما نفذ التعليم قبل المجيء. قالت مريم ليس لهم خمر:- رأت مريم الطوباوية بان الخمر قد نفذ، وكانت قد عرفت بانه صار مجال للتعليم، حينئذ وشوشت النعجة البتول الى شبل الاسد: ربي، لا يوجد الخمر لآل الختن، قالت الذكية فقط: لا يوجد الخمر، غير انه في فكرها كانت تُقال مثل هذه الامور: بيّن قوتَك بالمعجزات لانك ابن الله، هوذا الوقت قد حان ليحسّ العالم بقدرتك العاملة، بيّن قليلا سلطة قدرتك البارية، لماذا تسير بالبساطة وبالسذاجة.؟ جواب يسوع لمريم:- واذ اسرعت على فعل ليس خاصتها، اجاب الحكيم وكأنه تركها ووضعها في البعد، كان يقول لها: ما لي ولكِ يا امرأة، بينما هي امه كما لو قال احد بجسارة: لا تخصكِ القدرة الآمرة، انا مستعد لاصنع العجب هذه المرة حتى وإن سكتتِ، وبدون كلمتكِ هانذا اشرق قوة جوهري، لم تأت الساعة لاصمم تنفيذ الفعل، لما اريد سيصنع الرمز فقط القوات، ارادتي لا تحتاج الى الاستعداد قبل الوقت، بنفخة صغيرة يسهل علي ان افعل بسرعة، ولما يُرسل امري لا يوجد فيه تاخير، طرفة العين ليست سريعة كقدرتي الفاعلة. المسيح يبدل الماء الى الخمر:- اخذ ليبرهن بانه ابن العامل بالحقيقة، لئلا يتشككوا من مجيئه ويقولوا: ليس ربا، اراد ان يعرّف بانه ليس غريبا عن القدرة البارية، فامر الجمعَ ان يسكبوا الماء في الاجاجين، وصنع الخدام كما قال وملأوها، حينئذ انحدرت خفيةً قوة لاهوته، احنى ارادةَ قدرته العاملة على الاجاجين، وسكب فيها المادة السليمة ليس من العنب، الرمز كان قد كمّل المياه التي سقطت هناك وبدّلها الى الخمر الجيد. ابي يعمل وانا ايضا اعمل مثل الآب:- يبدل الآب ايضا المياه، وبمهارته منها وبها يصنع الخمر، يجريها في الجذور حسب معرفته، ويسيّرها في الاغصان حسب ارادته، ويحبسها في حضن الجفنات كما لو كان في القنوات وبواسطة الشمس ينضجها ويسجرها ويسخنها، ويصوغ العنبات ويُخرجها ويعلّقها في الاغصان، ويفرش الاوراق على البهيات ويبرّدها، تجري المياه في احضانها وهي غير مفتوحة، وينزل الفيض الى افواهها وهي غير مثلومة، المياه الممجدة متجمعة وقائمة في الاثمار المختومة، وتسجرها الريح والشمس لتنضجها، الآب يبدّل المياه في الجفنات خلال مدة طويلة، وتبدّلها الى مادة الخمر قدرته العاملة. الابن يعمل دون ان يحتاج الى الوقت:- الابن الحقيقي كمّل ارادتَه برمز صغير، الابن الذي اراد ان يبدلها بدون مدة زمنية، لم يجعلها تحتاج الى نظام الايام والشهور. مناهضة المجادل:- اين الذي ظلم الابنَ (قائلا): ليس الها،؟ ليأتِ ويرَ بان قوته لا تنقص عن والده، يا من يتشكك من الوحيد (ويقول) ليس الها، انظر فان القدرة البارية ظهرت في العرس. مَن هو الذي يصغّر الابنَ عن مرسله ليأتِ ويرَ بان القوة هي واحدة ولا تتجزأ،؟ الى الآن ابي يعمل مثل الباري، وهانذا اعمل كما هو (يعمل) ايضا، قوة واحدة، وامر واحد، وفعل واحد، ورمز واحد، وارادة واحدة، وسلطة واحدة، ذاك الامر الذي صاغ الاثمار في الاشجار كان جالسا في هذه المياه التي صارت خمرا.
المزيد
19 يناير 2021

عيد الظهور الإلهي للقدّيس يوحنا الذهبي الفم

الإنجيل: متى 3: 13 – 17 حينئذ أقبل يسوع من جديد إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه. فكان يوحنا يمانعه قائلا أنا محتاج أن أعتمد منك، أوأنت تأتي إلي! فأجابه يسوع قائلا: دع الآن، فهكذا ينبغي لنا أن نتم كل بر. حينئذ تركه. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلا مثل حمامة وحالا عليه. وإذا صوت من السماء قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت (متى 3: 13 – 17)."حينئذ أقبل يسوع من الجليل إلى الأردن، إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 13:3). جاء السيد مع العبيد، القاضي مع المحكوم عليهم، لكي يعتمد. مع ذلك، أقول لك لا تضطرب: فيما بين هؤلاء الوضعاء يسطع سموه. اقتبل أن يحبل به في أحشاء العذراء لزمن طويل، وأن يولد منها بجسد طبيعتنا البشرية، وأن يضرب، وأن يصلب، وأن يكابد الآلام كلها. إذا، لماذا تتعجب إذ تراه يقتبل المعمودية ويأتي مع الاخرين متجها نحو عبده؟ المذهل في الأمر هو الآتي: يريد أن يصير إنسانا بينما هو الله. كل شيء آخر يتبع بصورة منطقية. لذلك بالضبط كان يوحنا يقول مسبقا: "إني لست أهلا أن أحل سير حذائه"، وغيرها، مثلا: إنه القاضي وسوف يجازي كل واحد حسب استحقاقه، وسوف يمنح الروح القدس للجميع بغزارة. لذلك، عندما تراه آتيا إلى المعمودية، لا يقربن فكرك شك البساطة. لذلك، عندما اقترب السيد من العبد، مانعه هذا الأخير قائلا:أنا محتاج أن أعتمد منك، أوأنت تأتي إلي!" (مت 14:3).معمودية يوحنا كانت للتوبة، وللحث على الاعتراف بالخطايا. حتى لا يظن الواحد أن السيد يأتي من أجل كل ذلك، يستدرك السابق الأمر ويدعوه أولا "حمل الله" ومخلص العالم من الخطيئة كلها. طبعا الذي بإمكانه أن يرفع خطيئة العالم كلها، ينبغي له أن يكون بلا خطيئة. لم يقل: "هوذا الذي بلا خطيئة"، بل قال بالحري: "هوذا حمل الله الرافع خطيئة العالم" (يو 1: 29). هذا لكي تتقبل كل ما يجري أمامك. وإضافة إلى ذلك، أن تتحقق أنه يأتي إلى المعمودية لكي يتمم تدبيرا آخر وأبعد. لذلك عند اقتراب السيد من يوحنا، قال له هذا الأخير: أوأنت تطلب المعمودية؟ خشي أن يقول له ذلك. ماذا قال؟ "أوأنت تأتي إلي!".ماذا فعل يسوع؟ عمل كما سوف يعمل مع بطرس. كان هذا الأخير يمانعه أن يغسل رجليه، لكن عندما سمع الكلمات التالية: "لست تعلم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد" (يو 7:13)، وأيضا: "إن كنت لا أغسلك فليس لك نصيب معي" (يو 8:138). عندما سمع بطرس كل ذلك استسلم وبدل موقفه. كذلك يوحنا المعمدان عندما سمع قول السيّد: "دع الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نتمم كل بر" 15:3).عند ذلك أطاع للحال، لأنه مع بطرس لم يكونا معترضين للنهاية، بل أظهرا محبة وطاعة لكل ما كان يصدر عن السيد. لاحظ كيف يتوجه السيد ليوحنا: لم يقل له "هكذا يقتضي العدل أو البر" بل قال: "هكذا يليق بنا". كان يوحنا يعتبر نفسه غير مستحق لمثل هذا العمل، أي لاعتماد السيد من العبد، لذلك توجه إليه الرب، وكأنه يريد أن يقول له: لن تهرب من ذلك ولن تمانع كون الأمر غير لائق. دع الآن الأمور تجري كما أريد، وإضافة إلى ذلك أقول: هكذا يليق بنا أن نفعل.لم يقل "دع الأمر" وحسب، بل أضاف "الآن" لأن الحدث لن يطول. سوف تراني بالشكل الذي تود. لكن الآن تقبل هذا التنازل.وبعد ذلك يشرح لماذا يجرب الأمر كذلك، لكي يتمم الناموس بكامله. يظهر ذلك من خلال عبارته "كل بر". البر هنا تتميم الوصايا. لقد أتم الوصايا الأخرى كلها. وبقيت هذه النقطة الأخيرة. لذلك لابد من تتميمها. لأني جئت لكي أرفع عنكم اللعنة التي تلاحقكم بعد عصيان الناموس. لابد لي أولا من أن أتمم الناموس بكامله، وبعد تحريركم من القضاء، ترتفع عنكم اللعنة المكتوبة عليكم بعد العصيان. ها إني قد أخذت جسدكم وأتيت."حينئذ تركه. فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله مثل حمامة وحالا عليه" (مت 16:3).كان كثيرون يعتبرون يوحنا أهم من المسيح، لأنه عاش مدة طويلة في البرية، وكان ابن رئيس كهنة، ويرتدي لباسا تقشفيا خاصا، ويدعو الكل إلى المعمودية، وقد ولد من عاقر. بينما المسيح أتى من فتاة غير معروفة، ولم يكن مولده البتولي معروفا بعد، وقد نشأ في بيت بسيط، وكان يعاشر الجميع، ويلبس اللباس العام، لذلك كان يعتبر أقل من يوحنا. لم يكن الشعب بعد يعرف شيئا عن ميزاته الفائقة الوصف. وجاء اعتماده على يد يوحنا داعما لهذا الاعتقاد غير الصحيح. رأوه واحدا من كثيرين أتوا إلى المعمودية، وهو أكبر من يوحنا بكثير، وأعجب منه بكثير.لذا لكي لا يسود هذا الاعتقاد عند الشعب، انفتحت السموات عند معموديته، ونزل الروح، وسمع الصوت مع نزول الروح."وإذا صوت من السماء قائلا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت" (مت 17:3) الصوت وحده لم يكن كافيا، إذ كان السامعون يظنون قوله "هذا هو" إشارة إلى المعمد لا المعمد، لذلك نزل الروح بشكل حمامة، فلفت الأنظار إلى يسوع، وبين بوضوح إشارة "هذا هو" إلى يسوع المعتمد، لا إلى يوحنا المعمد. عدم إيمان اليهود:- أيعقل أن كثيرين لم يؤمنوا به بعد ذلك كله؟ نعم، ففي أيام موسى كانت تجري عجائب كثيرة، ولئن اختلفت نوعا عن هذه الأخيرة، ورغم تلك العجائب، تلك الأصوات والأبواق والبروق، جلسوا وذبحوا لبعل فاغور. وهو أنفسهم كانوا حاضرين عند إقامة لعازر من الموت، ورأوا الميت قائما، ومع ذلك لم يؤمنوا به، لا بل كانوا يسعون جاهدين لقتله. لقد رأوا بأم أعينهم أمواتا ينهضون، ومع ذلك لم يؤمنوا وبقوا خبثاء. إذا، لماذا تتعجب الآن من كونهم لم يؤمنوا بالصوت الآتي من السماء؟ عندما تكون النفس ناكرة للنعمة، ملتوية، مأخوذة بمرض الحسد والغيرة، لا ترتدع عن أي عمل شرير، وأيضا عندما تكون النفس شاكرة تقبل كل شيء بإيمان، ولا تحتاج إلى أية أعجوبة. لا تقل: لم لم يؤمنوا، بل أنظر إلى كل ما قيل وعمل لكي يؤمن الجميع. لقد ورد الله الدفاع على لسان النبي. كل ذلك جعل اليهود يهلكون بسبب منهم، ويسلمون أنفسهم إلى العقاب الأخير. لذا أراد الله أن يميز بين تدبيره الحسن وخبثهم، بقوله: "أي شيء يصنع للكرم لم أصنعه لكرمي؟" (إش 5: 4). كذلك، أي شيء يصنع هنا لم يصنعه؟ وإن دخل أحد في مناقشة حول موضوع عناية الله، يمكننا أن نلجأ إلى الطريقة الدفاعية السابقة ضد الذين كانوا يتهمونه ظلما بدافع شرهم. أنظروا إذا إلى العجائب الحاصلة الآن، التي تنذر بالحوادث المستقبلة. لم ينفتح الفردوس، بل انفتحت السموات. لندع هذا الموضوع جانبا، ونتابع شرح النص."فلما اعتمد يسوع صعد للوقت من الماء، وإذا السماوات قد انفتحت له" (مت 3: 16). لماذا انفتحت السماوات؟ لكي تعلم أنت أيضا أنه عندما تعتمد أنت يحصل الأمر نفسه: يدعوك الله إلى الوطن السماوي، ويريد أن يقنعك بعدم ارتباطك بأي شيء على الأرض. آمن ولو لم تر. فالظهورات الحسية والعلامات السابقة للحوادث الروحية العجيبة تكون من أجل الضعيفي الإيمان، الذين هم بحاجة إلى مثل هذه الظهورات المحسوسة، الذين لا يعطون أي معنى للطبيعة اللامادية، بل يفتشون دوما عن الأمور المنظورة فقط. لذلك، عليك، ولو لم تر بعد ذلك مثل تلك العلامات، أن تقبل بإيمان كل ما جرى حتى الآن من البداية. لقد جرى مع الرسل صوت ريح عاصفة، وظهرت ألسنة نارية. هذا لم يحصل من أجل الرسل، بل من أجل اليهود الحاضرين. ولكن، حتى وإن لم تجر بعد ذلك مثل هذه العلامات الحسية أمامنا، علينا أن نقبل أنها جرت مرة هكذا بالفعل. لأنه من أجل ذلك أيضا ظهرت الحمامة، ودلت الحاضرين مع يوحنا، كما بإصبع اليد، إلى ابن الله، لكي تعلم أنت أيضا أن الروح القدس ينزل عليك في وقت المعمودية.لسنا بحاجة إلى علامات منظورة، بل يكفي أن يتوفر الإيمان عوضا عنها. العلامات ترد لا من أجل المؤمنين بل من أجل غير المؤمنين.لماذا ظهر الروح القدس بشكل حمامة؟ الحمامة حيوان أليف طاهر. وبما أن الروح القدس هو روح وداعة، لذلك تراءى بشكل حمامة. ومن ناحية أخرى، هذا يذكرنا بقصة تاريخية قديمة، عندما غمر الطوفان كل المسكونة، وكاد الجنس البشري أن يفنى، كانت الحمامة الطائر الذي بين بوضوح نهاية الغضب الإلهي، حاملة في منقارها غصن زيتون، كخبر مفرح يعلن السلام العام. كل ذلك كان رسما لما سيحدث لاحقا. كانت حالة الناس أبشع بكثير من حالتهم الحاضرة، وكانوا يستحقون عقابا أكبر. فلكي لا تيأس أنت الآن، يذكرك هنا بتلك الحادثة القديمة: حين كان الرجاء مفقودا، وجد حل وإصلاح. كان الطوفان في ذلك الوقت تأديبا، وأما الآن فقد جاء الحل عن طريق النعمة والعطية الجزيلة. لذلك ظهرت الحمامة، لا تحمل غصن زيتون، ولكنها تشير إلى الذي سيخلص من كل الشدائد، وتبسط أمامنا رجوات صالحة، لأنها لا تخرج إنسانا من الفلك، بل تقود ظهوره المسكونة كلها إلى السماء. لا تحمل غصن زيتون، بل البنوة للبشر كلهم.الآن، وقد أدركت قيمة العطية، لا تحسب أن قيمة الروح ناقصة، بسبب ظهوره بشكل حمامة. أسمع البعض يقول إنه كما يختلف الإنسان عن الحمامة كذلك يختلف المسيح عن الروح، إذ ظهر المسيح بصورة طبيعتنا الإنسانية، بينما ظهر الروح القدس بصورة حمامة. فبم نجيب عن كل ذلك؟ إن ابن الله اتخذ طبيعة الإنسان، بينما الروح القدس لم يأخذ طبيعة الحمامة. لذلك لم يقل الإنجيلي أن الروح ظهر "بطبيعة حمامة"، بل قال "بشكل حمامة". ولم يظهر الروح بعد ذلك بهذا الشكل، بل هنا فقط. فإن اعتمدت على هذه المقارنة، وحسبت أن كأن الروح قد صغر لهذا السبب، فسوف تجد الشاروبيم أسمى من الروح بكثير، كسمو، النسر على الحمامة، لأن الشاروبيم ظهرت بشكل نسر. كذلك تجد الملائكة أعلى بكثير، لأنهم يظهرون بشكل بشر. لكن، طبعا، كل ذلك غير صحيح. الحقيقة شيء والتدبير شيء. التنازل شيء، والظهور العابر شيء آخر.لا تكن إذن ناكر الجميل نحو المحسن، ولا تنسب عكس ما يجب أن تؤديه إلى الذي وهبك ينبوع الغبطة. حيث تكرم البنوة، يضمحل الشر، وتمنح الصالحات كلها. لذلك بالضبط ينتهي دور المعمودية اليهودية وتبتدىء معموديتنا. ويجري في المعمودية ما يجري في الفصح. ينتهي دور الواحد ويبتدىء دور الآخر. هنا أيضا، بعد إتمام المعمودية اليهودية تنفتح أبواب معمودية الكنيسة. ما يجري على المائدة يجري الآن على النهر. يؤكد على الظل، ولكنه يضيف الحقيقة، لأن نعمة الروح القدس كائنة في معمودية يسوع المسيح فقط، ، بينما معمودية يوحنا لا تتضمن مثل هذه العطية. ولذلك لم يحصل للمعمدين الآخرين ما حصل للرب يسوع المسيح، لأنه هو من سيعطي هذه الموهبة.وإلى جانب كل ما ذكرناه حتى الآن، اعلم ما يلي: ليست طهارة المعمودية هي التي حققت مثل هذه العطية، بل قوة ذاك الذي يعتمد. إذ ذاك فتحت السموات، ونزل الروح عليه. إنه يخرجنا من حياتنا القديمة إلى حياة جديدة، فاتحا من أجلنا أبواب السماء، ومرسلا من هناك الروح الذي يدعونا إلى موطننا هناك. لا يدعونا فقط بل يكرمنا إكراما فائقا. لأنه لم يجعلنا ملائكة ورؤساء ملائكة، بل أظهرنا أبناء الله وأحباءه، وهكذا جذبنا إلى الميراث الذي هناك ... من كتاب أناجيل ورسائل الأعياد
المزيد
17 يناير 2021

المعمودية عبور من الموت إلى الحياة

المعمودية بالتغطيس كاشتراك في موت المسيح ودفنه: التغطيس الكامل حتى الرأس، أو انغمار الجسم كله تحت الماء، كتعبير عن الدفن في الماء، هو بمثابة وقوع الإنسان الإرادي بالموت تحت عقوبة الله برسم الطوفان (1بط 3: 20 - 22)، بسبب الخطايا التي صنعها الإنسان والتي ورث دوافعها وآثارها ونتائجها في طبيعته الترابية. ولكن لأن هذا الدفن هو في اسم المسيح وعلى أساس موته ودفنه وكاشتراك فيه، فالموت يصبح للتبرير عن الخطايا السالفة، وبالتالي يُنشئ شركة في القيامة للحياة بلا خطية؛ أي يُنشئ ميلاداً جديداً للإنسان لخليقة جديدة. ثم بإعطاء الروح القدس (بوضع اليد أو بالميرون) تصير الخليقة الجديدة روحانية ومتحدة بالمسيح. فالمعمودية في اسم المسيح والآب، وبمنحها الروح القدس، تكون هي المعجزة العُظمى للإنسان الممنوحة له من الله رأساً كآية العهد الجديد، التي فيها يرتبط الله بالإنسان لإعادة خلقته بروحه القدوس على صورة مسيحه، ليرفعه من خلقة إلى خلقة، من خلقة أرضية من التراب إلى خلقة سمائية «من الروح»، «من فوق»، «من السماء»، ليتغيَّر الإنسان من شكل آدم إلى شكل المسيح، وليقبل الإنسان عوض بنويَّته التي من آدم بالفساد والخاضعة للزمن والموت، إلى بنويَّة الله والحياة معه بالبر والقداسة والحق للحياة الأبدية. مفاعيل المعمودية: القديس بطرس الرسول يطالب كل مَنْ اعتمد بالهروب من الفساد الذي في العالم بالشهوة، وبممارسة الفضائل باجتهاد، وإلاَّ فإنه يُعتبر أنه «قد نسي تطهير خطاياه السالفة» (2بط 1: 9). وهنا تتضح فعَّالية المعمودية بالتحديد: «تطهير خطاياه السالفة»؛ فالمعمودية إما توضع نُصب أعيننا كمنبع طهارة ومصدر قوَّة للتطهير من جميع الخطايا (السالفة) - سواء التي ورثنا آثارها باللعنة الأُولى أو التي عملناها بإرادتنا - وإما ننساها فنفقد المصدر الذي نستمد منه طهارتنا وقدرتنا على الجهاد لاستمرار التطهير. كما يرى بطرس الرسول في المعمودية أنها «لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله» (1بط 3: 21). أي أن المعمودية تُنشئ فينا إحساس الضمير المطهَّر الذي يجعلنا قادرين أو مستحقين للوقوف أمام الله لنصلِّي ونطلب من الله بلا لوم داخلي. أما القديس بولس الرسول فيضع مفاعيل المعمودية واضحة في قوله: + «لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11) فالمعمودية هي اغتسال من الخطية = تقديس، والوقوف أمام الله بلا لوم = تبرير. فهي تُعتبر الغاية العُظمى للخلاص الذي جاء الرب يسوع لتكميله بالموت على الصليب: + «... أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدِّسها مطهِّراً إياها بغسل الماء بالكلمة (المعمودية) لكي يُحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضْن أو شيء من مثل ذلك، بل تكون مقدَّسة وبلا عيب.» (أف 5: 25 - 27) ثم يعود بولس الرسول في رسالته للعبرانيين ليؤكِّد ذلك قائلاً: + «لنتقدَّم بقلب صادق في يقين الإيمان، إذ قد صارت قلوبنا مرشوشة من ضمير شرير (أثر المعمودية بالروح داخل الضمير) وأجسادنا مغتسلة بماء طاهر، متمسِّكين ”باعتراف“ الرجاء بدون تردُّد لأن الذي وعد هو أمين.» (عب 10: 22 و23 ترجمة أكثر وضوحاً) هنا يتضح أثر المعمودية في الضمير، وفي أعضاء الجسد، مشيراً إلى قوة التطهير بالروح في الضمير وبالماء بالنسبة للجسد. وإن أثر المعمودية في النهاية يعطي تقدُّماً إلى الأقداس العليا بقلب صادق ويقين الإيمان، على أن نظل متمسِّكين بالاعتراف الذي نتلوه في المعمودية برجاء لا يتزعزع وبلا تردُّد، اعتماداً على وعد الله وأمانته. الروح القدس يدعو إلى المعمودية: الدعوة إلى المعمودية كانت معروفة ومؤكَّدة منذ أول لحظة حلَّ فيها الروح القدس: + «فلما سمعوا نُخسوا في قلوبهم (فعل الروح القدس المُسْبَق) وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة، فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس (عمل الروح القدس اللاحق).» (أع 2: 37 و38) واضح هنا أن الروح القدس هو الذي يُعد القلب بنخس خفي لقبول الإيمان والمعمودية. واضح أيضاً أن الفعل الأول للروح القدس في المعمودية هو لمغفرة الخطايا، لذلك فإن قبول «عطية» الروح القدس تأتي بعد المعمودية، أي بعد مغفرة الخطايا، وهذا أمر في غاية الأهمية العملية. فالخطية تمنع قبول عطية الروح القدس. ومن المهم أن نلاحظ أن المعمودية مرتبطة أساساً بالمسيح = «على اسم المسيح»، وذلك مبني على فعالية الخلاص والفداء الذي أكمله المسيح عن البشرية لسؤال مغفرة الخطايا، وعلى هذا الأساس يتم الميلاد الجديد بكل متطلباته كخليقة جديدة في المسيح. ولكن، لأن المسيح أكمل الفداء ليس من ذاته بل بمشورة الآب ومسرَّة الروح القدس، لذا أصبح يتحتَّم أن تكون المعمودية باسم الآب والابن والروح القدس، حيث ينال الإنسان بواسطة المسيح علاقته الجديدة بالآب والروح القدس، وهي حالة التبني بالروح للآب. وينال الإنسان تقديس الحياة الجديدة بواسطة الروح القدس ليليق بحالة التبني لله: «أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12)، باعتبار أن ميلادهم الجديد هو شركة موت وحياة في المسيح ابن الله. وهذا التعليم الإلهي المنسجم لدى كل الرسل واضح جدًّا أنه مسلَّم من واحد هو المسيح: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس.» (مت 28: 19) ونسمع أيضاً من حنانيا، أحد السبعين رسولاً، وهو يقول لشاول (بولس): «إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته، وتبصر البار، وتسمع صوتاً من فمه، لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت، والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد، واغسل خطاياك داعياً باسم الرب.» (أع 22: 14 - 16) وهنا أيضاً مفاعيل العماد المسبقة والمرافقة والتابعة: انتخبك، لتبصر، لتسمع، لتشهد، ثم الأمر الإلهي «قُمْ»، «اغسل خطاياك». هنا فعل الغسل بالماء يشمل بكل وضوح معنًى روحيًّا عميقاً موازياً لغسل الجسد، ولكن أشد فعلاً وأبقى أثراً، إذ يتغلغل ليشمل كل أعمال الخطية في الماضي بكل آثارها على الروح والنفس والجسد والضمير!!«اغسل خطاياك»، ما أروع وما أسهل وما أعمق هذا التعبير!! وهذا ظل يعلِّم به بولس الرسول نفسه كل أيام حياته، بعد أن ذاقه وعاشه فعلاً. اسمعه يقول: «قداغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11) تعليم الآباء الرسوليين عن المعمودية وقد سلَّم الرسل هذا الإيمان نفسه بتحديده الواضح إلى الآباء الرسوليين، فنسمع الأسقف هرماس (142 - 174م.) يقول: [عندما نزلنا إلى الماء تقبَّلنا غفران خطايانا السالفة.] (Mand. iv. 3.1) وفي رسالة برنابا (80 - 130م.)، يرى أن المعمودية تعطي نفس طفل: [لقد تجدَّدنا بغفران خطايانا وصُنعنا شكلاً آخر حتى يكون لنا نفس طفل، كأنما قد خُلقنا من جديد، كما يقول الكتاب بخصوصنا حيث الآب يخاطب الابن: لنصنع الإنسان على صورتنا كشبهنا.] (Quasten, Patrology, vol. I, 87) أي أن الآية: «إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات» (مت 18: 3)، إنما تشير إلى المعمودية. أما يوستين الشهيد (110 - 165م.) فيعتبر أن المعمودية هي تكريس النفس لله، وغفران الخطايا، وميلاد جديد بالاختيار والمعرفة، واستنارة: [وسأقص عليك كيف نكرِّس أنفسنا لله ... ونحضرهم إلى مكان الماء ونعيد ميلادهم بنفس الطريقة التي وُلِدنا نحن بها ثانية، لأن باسم الله الآب سيد الخليقة ومخلِّصنا يسوع المسيح والروح القدس يقبلون اغتسال الماء. وقد تعلَّمنا من الرسل معنى هذا، لأنه بميلادنا الأول وُلِدنا بدون اختيارنا وبدون معرفتنا بواسطة والدينا عندما اجتمعا معاً، ونشأنا بعادات رديئة وخبرات شريرة. فلكي لا نبقى أبناء الضرورة والجهل بل أبناءً بالاختيار والمعرفة، ولكي نحصل في الماء على مغفرة خطايانا التي اقترفناها سابقاً، يُنادى فوق مَنْ اختار أن يولد ثانية، الذي يكون قد تاب عن خطاياه، باسم الله الآب وباسم المسيح يسوع الذي صُلب على عهد بيلاطس البنطي وباسم الروح القدس الذي ينير المُغتَسِل، وهذا الاغتسال يُدعى «استنارة» لأن الذين يعرفون هذه الأمور يستنيرون روحيًّا.] (Apol. 1-16: 10) الدعاء باسم الرب هو ختم المعمودية: والدعاء باسم الرب على المعمَّد أو بفمه هو أثناء النزول في الماء: «قُمْ واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب» (أع 22: 16). هنا قوَّة عمل الدعاء باسم الرب هو مكافئ لعمل حميم المياه، وهذا يعطي المعمَّد «قوَّة الاسم»، أي قوة المسيح التي ظهرت في الموت الكفَّاري والقيامة للحياة: «لكن اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا.» (1كو 6: 11) واضح هنا أن عمل قوَّة اسم المسيح عنصر هام قائم بذاته لقوَّة عمل الروح القدس في إتمام سر العماد. هذا الدعاء باسم المسيح أثناء العماد هو الختم sfr£gij الإلهي الذي يناله المعمَّد لينطبع على كل كيانه الروحي باعتباره قد صار تابعاً للمسيح ومن خاصته. هذا الختم هو بمثابة شهادة وسلطان من الله أن المعمَّد صار ابناً لله: «كل الذين قبلوه أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله» (يو 1: 12)، وقد عبَّر بولس الرسول عن فاعلية المعمودية بتعابير غاية في العمق: «ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله، الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا» (2كو 1: 21 و22)، «الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس.» (أف 1: 13) والمعمودية كختم، حيث يتركَّز الختم في إجراء الدعاء باسم المسيح، هي تقليد انتقل أيضاً إلى الآباء الرسوليين، فيقول هرماس عن المعمودية إنها ختم الموت والحياة: [قبل أن يحمل الإنسان اسم ابن الله يكون ميتاً، ولكن حينما يقبل الختم فإنه يخلع الموت ويلبس الحياة، والختم هو الماء، فهم ينزلون إلى الماء أمواتاً ويخرجون أحياءً.] (Quasten, Patrology, vol. I, 101) وجاء أيضاً في الرسالة الثانية المنسوبة لكليمندس الروماني (92 - 101م.): [احفظوا الجسد طاهراً واحفظوا الختم (المعمودية) بلا عيب حتى تنالوا الحياة الأبدية.] (Quasten, Patrology vol. I, 56) مسئولية الإنسان المعتمد: نوال هبة المعمودية كميلاد جديد من الله يُنشئ في الحال مسئولية عُظمى على الإنسان المعتمد. فالمعمودية وزنة وهبة عُظمى تحمل صورة الله واسمه وختمه، ولذلك سيعطي الإنسان جواباً عن مدى احترامه وحفظه واستخدامه لها. ولكي نتحقَّق من خطورة التحذير الوارد في رسالة العبرانيين عن الذين سقطوا بعيداً عن المستوى اللائق بالمعمَّدين: «لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة (أي لا يمكن تعميدهم مرَّة أخرى) إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه» (عب 6: 6)، «فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف وغيرة عتيدة أن تأكل المضادين» (عب 10: 26 و27)، نقول إنه إذا أردنا أن ندرك خطورة ذلك علينا أن نعود إلى وضع بني إسرائيل الذين اعتمدوا في البحر الأحمر - بالإيمان بالله - الذي هو مثال المعمودية الحاضرة - كمعجزة عُظمى للخروج من عبودية مصر، إذ عبر بهم الله على يد موسى من الموت المحقَّق إلى الحياة عبر البحر. ولكن، وبالرغم من هذا، تمرَّد الشعب على الله فاعتبر الله تمرُّده أنه إهانة واحتقار لمعجزة إخراجه من مصر وعبوره البحر الأحمر الذي هو مثال المعمودية، فدفع الشعب ثمن هذا العصيان و«عدم الإيمان» وحلَّ عليه غضب الله، فطُرحت جثثهم في القفر وهلك الجيل بأكمله، غير أن الرب أبقى لنفسه شاهدين! كذلك نلاحظ هنا أن معمودية البحر الأحمر لم تسعف فرعون وجنوده بل كانت لهم موتاً وهلاكاً، في الوقت الذي أعطت النجاة والحياة لشعب الله. كذلك فإنها لم تنفع شعب الله الذي لم يقدِّم أثماراً تليق بالتوبة. ويوحنا المعمدان يؤكِّد أن المعمودية بدون أعمال تليق بالتوبة هي معمودية للموت: «والآن قد وُضِعَت الفأس على أصل الشجر، فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النار» (لو 3: 9)، «يا أولاد الأفاعي (الذين يأتون إلى المعمودية هروباً من غضب الله ولكن لا يعملون أعمال التوبة) من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة» (لو 3: 7 و8). فالمعمودية فعل حياة أبدية مربوط بالإيمان، إذا استهان به الإنسان وسقط عنه - بالارتداد أو جحد الإيمان بالمسيح - لا يعود الروح القدس يعمل فيه كفعل حياة وتجديد بل ويدخل تحت الدينونة. فبعد أن يكون الإنسان شريكاً في موت المسيح على الصليب للقيامة والحياة يصير بجحوده للمعمودية والإيمان صالباً للمسيح!! والقديس بولس الرسول، في رسالته إلى أهل رومية الأصحاح السادس، يعالج الحياة بعد المعمودية ليس على مستوى الارتداد الكامل أو جحد الإيمان، ولكن على أساس مجرَّد الرجوع لحياة الخطية وتمكين الخطية في الأعضاء وفقدان الرجاء بضعف الإيمان، فإن فعل الحياة الذي كان يسري فينا بقوَّة الإيمان بمقتضى سر المعمودية يتوقَّف وتبدأ الخطية تفعل فعل الموت مرَّة أخرى!! «لا تملكنَّ الخطية في جسدكم المائت (بالمعمودية).» (رو 6: 12) وعلى هذا الأساس تتضح لنا الأمور الآتية: 1 - إن فعل الله في العماد يعتمد على إيماننا بقداسة الله وندائنا باسم يسوع المسيح ليعبر بنا من الموت إلى الحياة، وهذا يوضِّحه دخول شعب إسرائيل في البحر وراء موسى بدون خوف. أما حالة الأطفال الذين عبروا مع آبائهم وأمهاتهم، فعبورهم لم يعتمد على إيمانهم بالله وبالعبور، بل على وجودهم وسط شعب الله. فهنا تبعية الطفل للكنيسة العابرة وسط البحر هي التي أعطته فعل العبور والحياة ليستخدمه في كل حياته المستقبلة؛ أي أن إيماني بالمسيح الآن أو عدم إيماني لا يغيِّر من الحقيقة أنني اعتمدت للمسيح ونلت كل حقوق الإنسان الجديد والشركة في ملكوت الله وفي جسد المسيح، أي العضوية في جسده عندما كنت طفلاً، وهذا من واقع الامتياز أنني وُلِدْت من أسرة مسيحية أي داخل الكنيسة. 2 - الفعل الأول للعماد، إذاً، يتم فينا بمجرَّد أن نكون قد اعتمدنا، وهذا يوضِّحه عبور شعب إسرائيل بالفعل معتمدين على قوة الله وإيمانهم باسم الله في عبورهم. هنا مجرَّد عبور الطفل أعطاه كل حقوق الخلاص من عبودية فرعون، وكل قوة وبركة ومعونة الله للسير في البرية أربعين سنة. فهو بعد العبور لا يُطالَب بإيمان ما قبل العبور ولكن يُطالَب بإيمان ما بعد العبور. 3 - الفعل الثاني للعماد له قوَّة وقدرة مستقبلية لحياتنا، يعمل فينا بقدر حفظنا واعتمادنا على الفعل الأول. وهو الذي أخفق فيه شعب إسرائيل فأنكروا قوة الله التي عبرت بهم وجحدوا اسم الله الذي عبروا وراءه وقالوا للعجل: «هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.» (خر 32: 4) هنا الأطفال الذين عبروا قد نالوا قوَّة الفعل الأول - العبور - ولا يُطالَبون بعد بمستلزماته ولكن يُطالَبون بوصايا المسير، وهذا هو الفعل الثاني للعبور. أو بمعنًى آخر، إن عظمة وقوَّة الفعل الحادث في هذا السر تُظهرها استجابة الإنسان على مدى الأيام بطول حياة الإنسان كلها، في سلوك وأعمال لها قوَّة الاسم الذي اعتمدنا له، وبإيمان يساوي نفس الإيمان الذي اعترفنا به. فالمعمودية فعل حياة جديدة مربوط بالإيمان بقوَّة اسم المسيح يتجدَّد كل صباح، بأعمال وأفعال تزكيها النعمة على نفس مستوى الإيمان بقوَّة اسم المسيح على مدى العمر كله.
المزيد
16 يناير 2021

عيد الغطاس رؤية وشهادة

يوحنا المعمدان لم يكن يعرف المسيح، مع أنه سمع عنه كثيراً، وقد راجع بتؤدة في عزلته الطويلة في البرية كل ما قاله الأنبياء عن المسيَّا، ولكن لم تسعفه تقشفاته الشديدة أو المعرفة الشخصية والقراءة للتعرُّف على ابن الله من بين الناس، ولكنها مهدت لذلك تمهيداً مكيناً! لقد حاول كثيراً وبطرق وجهود ذاتية عديدة أن يختزل الزمن ليتعرَّف على المسيَّا، الذي من أجله وُلِدَ وأخذ رسالة ليعلنه ويعد الطريق أمامه، ولكن كان الصوت يدعوه للتريث حتى يبلغ الزمن ساعة الصفر ليبدأ ملكوت الله. وبينما يوحنا يصلِّي وهو في حيرته كيف يتعرَّف على المسيَّا الذي سيكرز به ويُظهِره لإسرائيل؟ سمع صوت الله يرن في أُذنيه: اذهب إلى بيت عبرة عبر الأردن وهناك اِكرز وعمِّد بالماء للتوبة، لأنه من خلال المعمودية سيظهر المسيح لإسرائيل. فكل مَنْ يأتي إليك عمِّده، ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه في وقت العماد، فهذا هو الذي سيعمِّد بالروح القدس!! + «وأنا لم أكن أعرفه ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء ... وأنا لم أكن أعرفه، لكن الذي أرسلني لأُعمِّد بالماء قال لي الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو الذي يعمِّد بالروح القدس.» (يو 1: 31 - 33) ترك يوحنا عزلته الطويلة في البراري وترك معها كل الوسائل الشخصية التي جاهد أن يكتشف بها المسيَّا، وانطلق يكرز ويعمِّد، بكل غيرة وحماس، مئات وأُلوف؛ وفي قلبه لهفة أشد ما تكون اللهفة أن يرى العلامة، فكان يترقَّب رؤية الروح القدس في كل لحظة، وهو نازل من السماء ليعلن المسيَّا. وكان قلبه يخفق بشدَّة، لعل يكون أيُّ آتٍ إليه هو المسيَّا! سر ظهور المسيح واستعلانه ليوحنا المعمدان: هذه الصورة المبدعة التي يرسمها إنجيل القديس يوحنا لبدء خدمة المعمدان وظهور المسيَّا تحمل في الواقع أسراراً عميقة، فالإنجيل ينبِّه ذهننا بشدَّة: أولاً: أن ظهور المسيح في ذاته واستعلانه عموماً يستحيل أن يتم بالاجتهاد أو الترقُّب، إنما يتم فقط بتدبير الله من خلال معمودية الماء للتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل، لذلك جئت أُعمِّد بالماء»، حيث التركيز في معمودية الماء يقع على التوبة «واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم.» (مت 3: 6) ثانياً: أن معرفة المسيح شخصيًّا يستحيل أن تتم إلا بواسطة الروح القدس! الروح لم يره أحد وهو نازل من السماء غير يوحنا المعمدان، الرؤية هنا خاصة، انفتاح ذهني لإدراك ما لا يُدرَك واستعلان شخص المخلِّص والفادي «وأنا لم أكن أعرفه ... ولكن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه، فهذا هو ...». لأنه إن كنا حقًّا نعيش الغطاس ونعيِّد للغطاس، أي نعيِّد للظهور الإلهي، أي ظهور الابن بالآب والروح القدس معاً، ونعيِّد ليوحنا الرائي والشاهد والمعمِّد، فيتحتَّم أن يكون عندنا يقين هذا الاستعلان، أي المعرفة بابن الله، المعرفة القائمة على يقين الرؤيا والشهادة، أي بالروح القدس والآب! أو كما يقول إشعياء النبي: «عيناً لعين»!! واصفاً ذلك اليوم يوم استعلان المسيح للإنسان إن على الأردن (الغطاس) أو في جرن المعمودية (الإيمان بالمسيح)، هكذا: «صوت مراقبيك، يرفعون صوتهم يترنَّمون معاً لأنهم يبصرون عيناً لعين عند رجوع الرب إلى صهيون.» (إش 52: 8) «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»: هذه أقوى شهادة سمعتها البشرية من نحو المسيح، لاحظ أن المسيح لم يكن قد بدأ خدمته الجهارية وإجراء آياته ومعجزاته، بل لم يبدأ بعد في الإعلان عن نفسه وعن علاقته بالآب، بل لاحظ أن يوحنا لم يكن يعرف شيئاً عن الصليب والقيامة! فإن كانت شهادة يوحنا بلغت هذا اليقين، وهو لم يتعرَّف بعد على سر الخلاص بذبيحة الصليب وسر التبرير بالقيامة، فكم ينبغي أن يكون يقين شهادتنا نحن وقد أدركنا هذا كله؟ ولكن ما هو إذن سر عجز شهادتنا وضمور معرفتنا للمسيح؟ أليس واضحاً كل الوضوح من حوادث عيد الغطاس، أن ذلك بسبب عدم انتباهنا لدور الروح القدس في فتح الذهن لكشف أسرار الله أمام المعرفة لإدراك حقيقة المسيح لبلوغ يقين الشهادة؟ ولكن لا يزال إنجيل عيد الغطاس يحتجز سرًّا هاماً وخطيراً في هذا الأمر. فالله اشترط على يوحنا المعمدان أن المسيح سيظل مجهولاً عنده، إلى أن يرى الروح نازلاً ومستقرًّا عليه!! هنا دور الروح القدس ليس مجرَّد علامة تشير إلى المسيح؛ بل هو وسيط معرفة، وسيط انفتاح ذهن. الروح القدس أعطى ذهن يوحنا المعمدان قدرة رؤيوية عالية جدًّا، أعلى من درجة النبوَّة التي عاش بها في البراري. لقد سمع المعمدان مراراً كثيرة صوت الله في قلبه من جهة حياته ورسالته التي جاء ليتممها أمام وجه الرب «الذي أرسلني لأعمِّد بالماء، ذاك قال لي». ولكن لم تنفتح عينا ذهنه لمعرفة مَنْ هو المسيح - مع أنه قريبه بالجسد - إلا بنزول الروح القدس! يقين الرؤيا: إن رؤية الأشياء والأشخاص والتعرُّف عليهم عن قرب، يؤدِّي إلى يقينية عقلية، فالعين والأذن مع بقية الحواس توصِّلان إلى المخ صورة متكاملة عن الشيء أو عن الشخص يفهمها العقل، ويختزنها، ويحولها إلى معرفة وإدراك بيقين عقلي هو أشد ما يملكه الإنسان من مفهوم اليقينية! ولكن هناك يقينية أخرى موهوبة للإنسان أعمق جدًّا، وهي أعظم تأثيراً وأكثر شمولاً لمواهب الإنسان وكيانه، ينفتح عليها الإنسان كموهبة إلهامية باطنية في القلب، يدرك بها كل شيء وكل الناس وكل الخليقة، فوق إدراكات العقل والحواس وأعمق بما لا يُقاس، يدرك ما فيها وما لها من حقيقة ومدى ارتباطها السرِّي بالله وبنفسه وكل الكون المنظور وغير المنظور. هذه الموهبة الفائقة على العقل والحواس هي عطية من الله مغروسة في صميم طبيعة الإنسان، وقد يحوزها الحكماء والفلاسفة حتى غير المتدينين وغير المؤمنين بالمسيح. هذه الموهبة أُعطي أن يوجهها الروح القدس ويستخدمها في كشف أسرار الله نفسه والتعرف عليه!! «الروح يفحص كل شيء (في قلب الإنسان ووعيه الروحي) حتى أعماق الله!!» (1كو 2: 10) فإذا حل الروح القدس في إنسان أو انسكب في ذهنه وأناره، كما استنير ذهن يوحنا المعمدان، يعمل في الحال بهذه الموهبة الفائقة التي في طبيعة الإنسان، فينفتح الذهن على أسرار الله، وبالتالي على المسيح بصفته الوسيط الوحيد بين الله والناس، والحامل همَّ البشرية والضامن خلاصها وتجديدها ورفعها إلى حضن الآب. وما قاله يوحنا المعمدان بعد هذه الرؤيا مباشرة عن المسيح مشيراً إليه: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وكأنه يرى مستقبل الخلاص كله والصليب والذبح والموت والقيامة في ومضة خاطفة؛ هذا يوضِّح مدى انفتاح الذهن ساعة حلول الروح القدس، ومدى قدرة الروح القدس في الانطلاق ببصيرة الإنسان لرؤية فائقة شاملة لكل سر الله لمستقبل خلاصنا!! هذه هي يقينية الرؤيا في حضرة الروح القدس وبتوسُّطه، التي لا يقف عند حد حتى أعماق الله، لا يحجزها حاجز لا من الزمان ولا من عجز الإنسان! وبهذا تكون خبرة البشرية بيقينية الرؤيا الممتدة في الله. وكل مستقبل الخلاص، والتي نالتها في يوم عماد المسيح حيث انفتحت البصيرة الإنسانية - ممثَّلة في يوحنا المعمدان - ساعة حلول الروح القدس على المسيح وقت العماد لتكشف أعماق سر الخلاص المكتوم: «هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم» (يو 1: 29)، وتتقابل وجهاً لوجه، بل «عيناً لعين» - كما يقول إشعياء - مع الله الآتي إلينا في المسيح وتشهد له في جرأة: «هذا هو ابن الله»؛ هذه الخبرة التي نالتها البشرية وهي على عتبة العهد الجديد تُعتبر من أثمن ذخائر الكنيسة التي نالتها بحلول الروح القدس على المسيح، فأعطت سر العماد أهميته الفائقة كباب حي فعَّال دخلت منه البشرية في سر الله، حيث رأت خلاصها رؤيا اليقين والشهادة حتى وقبل أن يبدأ أو يتم! ومن هنا صار عيد الغطاس يحمل لنا أول حركة حيَّة من الروح القدس في صميم جسم الكنيسة، أول رعشة أصابت العظام الميتة أصابت يوحنا المعمدان، فانتقلت كخبرة للكنيسة كلها ولا تزال، حيث انتقلت في الحال من يقينية الرؤيا إلى يقينية الحركة، لأن كل رؤية يقينية بالروح القدس هي معرفة الحق، وأما كل شهادة يقينية فهي حركة بالحق! والاثنان فعلان صميميان من أفعال الروح القدس! «الروح القدس يرشدكم إلى جميع الحق»، «الروح القدس يشهد لي.» (يو 15: 26) أي أن استعلان المسيح العام يتم بالمعمودية، بالاعتراف بالخطايا والتوبة «ولكن ليُظهَر لإسرائيل لذلك جئت أُعمِّد بالماء». أما استعلان المسيح الخاص، أي معرفته معرفة شخصية، فهذا يتم بالروح القدس. يوحنا لم يعتمد بالروح القدس، ولكنه أخذ من رؤية الروح القدس وهو نازل مستقراً على المسيح، نال تعميداً ذهنيًّا تعرَّف به في الحال على الرب. ومع الرؤية الذهنية كانت الرؤية السمعية، لقد انفتحت أذن يوحنا لسماع صوت الله نفسه يشهد لابنه مُعلناً ليوحنا أعظم سر أدركته البشرية، سر علاقة الآب بالابن وعلاقة الحب بينهما، العلاقة التي كانت مخفية عن إدراك كل بني الإنسان واستُعلِنت أول ما استُعلِنت ليوحنا، لبدء الكرازة. + «وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقَّت والروح مثل حمامة نازلاً عليه، وكان صوت من السموات أنتَ ابني الحبيب الذي به سررت.» (مر 1: 10 و11) هنا يكشف الإنجيل عن كيف تعرَّف المعمدان ليس فقط على المسيَّا، بل على مَنْ هو المسيَّا: أنت ابني الحبيب!! لذلك يعلن يوحنا المعمدان: «وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله.» (يو 1: 34) إعلان يوحنا هذا الذي سلّمه للبشرية بالإنجيل نقله إلينا كشهادة عيان وسلَّمه لنا كمن رأى وسمع، رأى الروح رؤيا العين، وسمع صوت الله سماع الأذن بيقين روحي أعمق ألف مرة من اليقين الحسي، لهذا شهد، وشهد بيقين الرؤيا: «وأنا قد رأيت وشهدت». هذا هو عيد أول رؤيا للروح القدس! وهو عيد أول شهادة إنسان للمسيح تمت بالروح القدس، أنه ابن الله. والروح القدس بنزوله من السماء مهَّد في الحال في قلب يوحنا لسماع صوت الآب بوضوح. شهادة المعمدان للمسيح تمَّت بالروح القدس والآب. عيد الغطاس هو في حقيقته عيد الشهادة للمسيح، بالنسبة للكنيسة وبالنسبة لكل نفس تسعى لإدراك المسيح «أنا لم أكن أعرفه». «أنا لم أكن أعرفه»: هذا هو حال يوحنا المعمدان الذي دُعي نبيًّا للعلي من بطن أمه، وتعيَّن أن يتقدَّم أمام وجه الرب ليُعدَّ طرقه بل ويعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة الخطايا. بينما ظل هو في أشد الشوق لمعرفته، وهذا في الحقيقة هو حالنا نحن، دعينا للخلاص والكرازة بالخلاص بل والشهادة للمسيح ابن الله، ولا نزال في أشد الحاجة إلى معرفته. وإن كنا نشهد فشهادتنا بالكلمة ينقصها يقين المعرفة: «وأنا رأيت وشهدت»!! وكأنما نعيش قبل عيد الغطاس! يقين الشهادة: كانت شهوة المعمدان أن يتعرَّف على المسيح، ولكن بمجرَّد حصوله على ”معرفة المسيح“ انطلق يشهد له في الحال أمام الكهنة واللاويين «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»، «هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي رجل صار قدَّامي ... الذي لست بمستحق أن أحل سيور حذائه ... الذي يعمد بالروح القدس.» (يو 1: 30 و27 و33) هنا يوحنا يلغي نفسه تماماً، فالذي يحل سيور الحذاء في البيت اليهودي هو العبد المشتَرَى!! ثم إن كان المسيح الذي ينادي به هو الذي سيعمِّد بالروح القدس، فيوحنا بهذه الشهادة يصفِّي عمله ورسالته، بل وينهي على كل خدمته، وهو يؤكِّد ذلك بنفسه: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص.» (يو 3: 30) هذا إن كانت المعرفة من الروح القدس حقًّا، لأن عمل الروح الأساسي هو الشهادة للمسيح . لذلك فإن معرفة المسيح إن كانت بالروح القدس فهي طاقة حركة لا يمكن أن تنحبس، بل لابد أن تُستعلن كالنور وتنتقل من إنسان لإنسان: «اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.» (مر 16: 15) شخص المسيح، عن قرب، جذاب للغاية، معرفته تأسر القلب، وتسبي الروح، وبحلول الروح القدس تصبح حضرة المسيح مالئة لكل كيان الإنسان؛ لأن الروح يأخذ ما للمسيح ويعطينا، فلا يعود الإنسان يشعر بحاجة إلى ذاته أو أن يكون له كيان منفصل أو عمل أو وجود أو أمل ذاتي: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص». هنا تفريغ وملء. معرفة المسيح تفرِّغنا من ذواتنا وتملأنا بالمسيح نفسه بالحق، بالحياة، بالقيامة، بالسلام الفائق للعقل. هذا يضطلع به الروح القدس حتى يمتلئ الإنسان بكل ملء الله، كما يقول الكتاب (أف 3: 19). وفي موضع آخر يقول: «ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة» (يو 1: 16)، «وأنتم مملوؤون فيه.» (كو 3: 20) هذا التفريغ من الذات والملء بالمسيح هو الذي يُـخرج الإنسان عن كيانه وعن مكانه، فيطلقه ليبشِّر بلا حدود وبلا قيود، حتى إلى الموت يبشِّر ويشهد بما رأى «وأنا رأيت وشهدت». يستحيل على إنسان تعرَّف على المسيح حقًّا وذاق ونظر طيب الرب، أن يسكت أو أن يستطيع أحد أن يكتم صوته. المسيح عبَّر عنها أنها «مناداة من على السطوح» (مت 10: 27)، والمعمدان عرف ذلك وكان يمارسه «أنا صوتُ صارخٍ في البرية» (مر 1: 3)! لأن التعبير عن مقدار الأثر والتعلُّق الذي يتغلغل كيان الإنسان الذي انفتح ذهنه بالروح القدس على المسيح، لا يمكن أن تشرحه كلمات بسهولة. الكلام مهما كان بليغاً ورصيناً يظل عاجزاً عن تصوير عذوبة ومحبة وعمق شخص ابن الله. تأثير السيرة على الشهادة: ولكن الشهادة للمسيح تبلغ حد يقينيتها الأعلى، عندما تزكيها سيرة الإنسان نفسه. إن شهادة المسيح ليوحنا المعمدان توضِّح سر نجاح المعمدان الفائق الوصف في التعرُّف على المسيح والشهادة له وسط ظلام الأجيال وعمى الرؤساء والحكماء والعلماء: «ماذا خرجتم إلى البرية لتنظروا؟ أقصبة تحرِّكها الريح (ثبات مبادئ يوحنا)؟ لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ إنسان لابساً ثياباً ناعمة؟ هوذا الذين يلبسون الثياب الناعمة هم في قصور الملوك (خشونة حياة يوحنا وتقشُّفه ونسكه في البراري). لكن ماذا خرجتم لتنظروا؟ أنبيًّا؟ نعم أقول لكم وأفضل من نبي! (روح وسيرة يوحنا المعمدان فاقت مستوى جميع الآباء والأنبياء) الحق الحق أقول لكم: إنه لم يقم من بين المولودين من النساء أعظم من يوحنا المعمدان (الوحيد الذي امتلأ بالروح القدس وهو في بطن أُمه!)» (مت 11: 7 - 9 و11)، وهذا رد ضمني على الذين يعترضون على قيمة المعمودية في الطفولة. والسؤال هنا هو: هل ألغى العهد الجديد عظمة يوحنا وتكريم المسيح له بهذه الشهادة المفرحة جدًّا لنفوسنا؟؟ في الحقيقة ما كتبه الإنجيليون عن يوحنا يمكن تلخيصه في كلمتين: نصرة بالروح، وقوَّة بالروح، وطاعة بلا لوم، وهذه هي العلامة السريَّة لكل ممتلئ بالروح القدس!! إن حياة يوحنا الداخلية وسيرته طابقت متطلبات الشهادة للمسيح تطابقاً فائق الدقة والوصف، لذلك جاءت شهادته بيقين فائق شهد لها الإنجيل!! «يوحنا شهد له.» (يو 1: 15) إن الشهادة للمسيح، لكي ترتفع إلى درجة اليقينية كيقينية شهادة المعمدان تحتاج إلى متطلبات عميقة داخلية مقدَّسة يستحيل استيفاؤها إلا بالملء من الروح القدس!! هذا هو يوحنا المعمدان والمسيح المنحني تحت يده، وهذا هو عيد الغطاس الأول بأعماقه وجذوره الضاربة في أساس الكنيسة وميراثها من جهة الشهادة للمسيح عن رؤيا واستعلان وامتلاء بالروح: «وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله». رؤيتنا وشهادتنا: والآن نقلة ختامية من الأردن ويوحنا والمسيح المنحني تحت يد المعمدان إلى واقعنا الكنسي والفردي: أين عيد الغطاس منا؟ ما هي رؤيتنا؟ وما هي شهادتنا؟ نحن لا نتكلَّم عن الرؤى والأحلام، لأن الحكم فيها وعليها من أصعب الأمور بسبب عوامل التزييف الذي يقوم به اللاشعور في تصوير المناظر والأحلام حسب هوى الذات المريضة، هذا بالإضافة إلى عدم نفعها لا بالكثير ولا بالقليل من حيث تغيير السلوك. ولكننا نتكلَّم من جهة رؤيا القلب في يقين الوعي والإرادة، أي النظر الروحي الواعي والدائم للتعرُّف على شخص المسيح كمخلِّص وكفادٍ، في تأمل، في صلاة، في مناجاة، في حب لا تشوبه المنافع الشخصية، أو التنافس، أو الحسد والغرور، أو طلب المجد والمديح والظهور. ثم هل سماؤنا مفتوحة؟ أو بمعنى آخر هل حصولنا على العون الإلهي من الأعالي هو طلبنا الأول والأخير وهو إلحاحنا الذي ننام فيه ونستيقظ به؟ «رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني، معونتي من عند الرب الذي صنع السماء والأرض.» (مز 120: 1 و2)إن كان هذا رجاؤنا وإلحاحنا وشوقنا وقلقنا، فالروح القدس يسبق ويمهِّد ويُعدُّ القلوب والرؤوس، لأنه لا ينسكب إلا على الرؤوس المنحنية والقلوب التي برَّح بها الحنين، رؤساء ومرؤوسين، فيفك العقول والقلوب من أسر الذات، ويطلق الألسنة من سجن الخطية، يطلقها بالتسبيح والتهليل والشهادة للمسيح بملء الفم والقلب وصحو العقل واليقين وقوة لا تعاند، والعلامة دائماً أبداً أن «المساكين يُبشَّرون.» (لو 7: 22)وإن السماء التي انفتحت لعين المعمدان وقلبه، وسماع صوت الآب، ورؤية الروح القدس نازلاً، بنوع من الاستثناء الذي تجاوز كل خبرات الماضي بكل أمجادها، قد صار هذا لنا حقًّا مشروعاً وميراثاً دائماً، ضمنه المسيح بوعد ثابت لا يمكن الرجوع فيه: «من الآن ترون السماء مفتوحة» (يو 1: 51) وهذا هو تحقيقها: «ها أنا أنظر السموات مفتوحة وابن الإنسان قائماً عن يمين الله» (أع 7: 56). ولماذا كان لنا نحن أيضاً هذا الوعد الذي تحقَّق لإستفانوس الشهيد بالعيان، ولماذا هذا الامتياز الفائق بهذه الرؤيا الدائمة: «من الآن»، إلا لكي نرى ما رأى يوحنا فتدخل شهادتنا منطقة اليقين! «أنا رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله»!
المزيد
09 يناير 2021

تأملات روحية «والكلمة صار جسداً» ج3

يا لعظمة سر التجسُّد وميلاد المُخلِّص: في ذكصـولوجيـة عيـد الميـلاد المجيـد التي تُنشدها الكنيسة بفرحٍ وتهليل، نُرنِّم قائلين: [حينئذ امتلأ فمنـا فرحـاً ولساننـا تهليلاً، لأن ربنا يسوع المسيح وُلِدَ في بيت لحم... السلام لمدينة إلهنا، مدينـة الأحياء، مسكن الصدِّيقين، التي هي أورشليم. السلام لـكِ يـا بيت لحـم مدينـة الأنبياء الذين تنبَّأوا عن ميلاد عمانوئيل. اليوم أشرق لنا نحن أيضاً النور الحقيقي مـن مـريم العذراء، العروس النقيَّة. مريم وَلَـدَت مُخلِّصنا مُحـب البشـر الصالح، في بيت لحم اليهوديـة كـأقوال الأنبيـاء... هـا السموات تفرح، والأرض تتهلَّل لأنها (أي العذراء مريم) وَلَدَت لنا عمانوئيل نحن معشر المسيحيين]. + والقديس غريغوريـوس الناطق بالإلهيات في عظته عن: ”الثيئوفانيا - ميلاد المسيح“ يُردِّد بتهليل قائلاً: [كلمة الله ذاتـه، الأبدي الذي هـو قبل كل الدهور، وهو غير المنظور، غير المفحوص، وغير الجسدي، البدء الذي مـن البدء، النور الذي مـن النور، مصـدر الحياة والخلـود، صـورة الجمال الأصلي الأول، الخَتْم الـذي لا يزول، الصورة التي لا تتغيَّر، كلمة الآب وإعلانه؛ هذا أتى إلى صورتـه، وأَخَذَ جسداً لأجل جسدنـا، ووحَّد ذاته بنفسٍ عاقلة لأجل نفسي لكي يُطهِّر الشَّبَه بواسطه شَبَهه، وصار إنساناً مثلنا في كلِّ شيء مـا عدا الخطية، إذ وُلِدَ من العذراء التي طُهِّرَت أولاً نفساً وجسداً بالروح القدس. وهكذا حتى بعد أن اتَّخذ جسداً ظـلَّ إلهاً، إذ هـو شخصٌ واحد من الاثنين (لاهوت وناسوت). يا له مـن اتِّحادٍ عجيب، الكائن بذاته يأتي إلى الوجـود، غير المخلوق (كـإله) يُخلَق (أي يتَّحد بناسـوت خَلَقَه هـو بـالروح القدس في أحشاء العذراء)، غير المُحوَى يُحوَى بواسطة نفسٍ عـاقلة تتوسَّـط بـين الأُلوهـة والجسد المادي. ذاك الذي يمنح الغِنَى يصير فقيراً، فقد أَخَذَ على نفسه فقر جسدي، لكى آخُذ أنـا غِنَى لاهوته. ذاك الذي هو الملء يُخلي نفسه، لأنه أخلى نفسه من مجده لفترةٍ قصيرة ليكون لي نصيبٌ في مِلْئه. أيُّ صلاحٍ هذا! وأيُّ سرٍّ يُحيط بي! اشتَرَكتُ في الصورة (عندما خلقني على صورته)، ولم أَصُنْها؛ فاشْتَرَكَ (هو) في جسدي لكي يُخلِّص الصورة (التي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط)، ولكي يجعـل الجسد (المائت) عديم الموت... هـذا العمل الأخير (أي تجسُّـد كلمة الله) يليق بـالله أكثر مـن الأول (أي الخلق)، وهو سامٍ جداً في نظر الفاهمين]. «وُلِدَ لكم اليوم... مُخلِّص هو المسيح الرب»: في بشارة مـلاك الرب للـرعاة، يقـول لهم: «لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ» (لو 2: 11،10). وما نُركِّز عليه في هـذه الآيـة هـو قـول الملاك: «... أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَومَ... مُخَلِّصٌ». فقد وُلِدَ لنا المُخلِّص المسيح الرب لكـلِّ واحـدٍٍ منَّا شخصياً. فقد وُلِدَ المُخلِّص لأجل خلاص كلِّ واحدٍ فواحد، لكلِّ مَن يؤمن بـه ويقبله مُخلِّصاً له. هكذا يكون ميلاد المخلِّص، وهكـذا تُردِّد الكنيسة كما ذَكَرنا في ذكصولوجية الميـلاد: ”وَلَدَت (العذراء) لنا عمانوئيل نحن معشر المسيحيين“. وفي نبوَّة إشعياء النبي يقول: «لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَـدٌ وَنُعْطَى ابْناً، وَتَكُـونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ: عَجِيباً مُشِيراً، إِلهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلاَمِ» (إش 9: 6). وتُنشد الكنيسة في لحـن ”Xere ne Maria“ قائلة: ”السلام لكِ يا مريم الحمامة الحسنة، التي وَلَدَت لنا الله الكلمة“. وكذلك تقول الكنيسة في لحن التوزيع ”Piwik `nte `pwn'“: ”خبز الحياة الذي نزل لنا من السماء، وَهَبَ الحياةَ للعالم“. + ويقول القديس كيرلس الكبير: [... إنَّ الربَّ - رغم أنه هو الله - ظهر لنا. ورغم أنه في صورة الآب، هو ذو تفوُّق فائق وشامل، فقد أَخَذَ شكل عبد. ولكن، رغم هذا، فإنه هو إلهٌ وربٌّ، فهو لم يَزَل كما كان (إلهاً قبل أن يتجسَّد)](1). كلمة الله وُلِد كإنسانٍ من العذراء مريم: للمسيح ميلادان: فهو لكونه كلمة الله وابن الله الوحيد فله ميلادٌ أزلي قبل كل الدهور من الآب: «فِي الْبَدْءِ (منذ الأزل) كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ» (يو 1: 2،1)؛ ولأنه تنازَل وأتى إلى عالمنا الساقط لكي يُخلِّصه ويَهَبه الحياة الأبدية، فقد وُلِدَ ميلاداً زمنياً مـن العذراء القديسة مريم: «وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ» (غل 4: 5،4) + ويقـول القديس كيرلس الكبير في هـذا الصدد: [الكلمة الذي من الله الآب، دُعِيَ إنساناً رغم كونـه بـالطبيعة الله، لأنـه اشترك في الدم واللحم مثلنا (عب 2: 14). وعندمـا حـدث ذلك (أي تجسَّـد) لم يفقد شيئاً مِمَّا له (أي لاهوته). وإذ أَخَـذَ طبيعة بشريـة مثلنا (أي مُماثلة لنا في كـلِّ شيء مـا خـلا الخطية وحدها) لكنها كاملة؛ (إلاَّ أنـه) ظلَّ أيضاً الله ورب الكل، لأنـه هو هكذا فعلاً، وبطبيعته، وبـالحقِّ، مـولودٌ مـن الآب (قبـل كـل الدهور) رغم تجسُّده... ورغـم أن العـذراء مريم وَلَدَت الهيكل (كلمة شائعة عند الآباء للدلالة على ناسوت المسيح) المُتَّحد بالكلمة، إلاَّ أنَّ عمانوئيل قيل عنه، وهـذا حـقٌّ: «(الربُّ) مـن السماء» (1كو 15: 47)، لأنه من فوق، ومولودٌ من جوهـر الآب. وإن كان قد نزل إلينا عندما صار إنساناً إلاَّ أنـه من فوق... ولذلك نقول إنَّ ابن الإنسان نزل من السماء، وهذا تدبير الاتِّحاد، لأن الكلمة وَهَبَ لجسده كل صفات مجده وكل ما هو فائقٌ وخاصٌ بالله](2). كلمة الله غير مخلوق، ولكن جسده مخلوق: لقـد سـقط الهراطقـة في فكـرٍٍ منحرف، واختلط عليهم الأمـر، ولم يُميِّزوا بين كلمـة الله غير المخلوق؛ وبين ناسوته الذي اتَّحد به بحسب التدبير، وهو ناسوت مخلوق. وهذا الأمر يشرحه القـديـس أثناسيوس الرسـولي في رسـالتـه ضد أبوليناريوس قائلاً: [لقـد علَّم الآباء أنَّ الابـن مساوٍ للآب في الجوهر، وأنـه ”إلهٌ حقٌّ مـن إلهٍ حقٍّ“، أي أنه كامل من كامل، ثم أضافوا مؤكِّدين: ”نزل من السماء لأجل خلاصنا، وتجسَّد وتأنَّس“. وبعد ذلك نعترف بأنه ”تألَّم وقام“. وحتى لا يُخطئ أحد إذا سمع أنَّ الكلمة تألَّم ومات، ويعتقد أن الله الكلمة قـد تغيَّر جوهـره، أكَّـد الآباء بكـلِّ وضوح، أنَّ الابن غير مُتغيِّر ولا متألِّم... أخبرونـا يـا مَـن اخـترعتم إنجيـلاً جديـداً خاصّاً بكم... مِِن أيِّ مصدرٍ أخـذتم البشارة التي تجعلكم تقولون إنَّ الجسد (الذي اتَّحد به كلمة الله) ”غير مخلوق“؟ أَلا يجعلكم هـذا تتخيَّلون أَمْرَيْن لا ثالث لهما: إمَّا أنَّ لاهوت الكلمة قد تحوَّل إلى جسدٍ، وإمَّا أنكم تعتقـدون أن تدبـير الآلام والموت والقيامة خيالٌ لم يحدث. وهـذان التصوُّران، كلاهما خطـأ؛ لأن جوهـر الثالـوث هـو وحـده غير المخلوق، والأبـدي، وغير المتألِّم وغير المُتغيِّر. أمـا المسيح حسب الجسـد (رو 9: 5)، فقد وُلِدَ مـن الناس الذيـن قيـل عنهم: ”إخوتـه“، بـل تغـيَّر (ناسوتـه وتمجَّـد) بقيامتـه فصـار بعـد قيامتـه «بـاكـورة الراقديـن» (كو 1: 18)... فكيف تُسـمُّون الناسـوت الذي تغيَّر مـن الموت إلى الحياة ”غير مخلـوق“؟ وكيف تفترضـون العكس، عندمـا تُسـمُّون غير المخلـوق (كلمة الله) بـالمُتغيِّر؟ لأنكم عندما تُسمُّون جوهر الكلمة غير المخلـوق بالمُتغيِّر، فأنتم تُجدِّفون على أُلوهيـة الكلمـة. وعندمـا تصفون الجسـد المُتغيِّر المُكـوَّن مـن عظامٍ ودمـاءٍ ونفسٍ إنسانية، أي كل مكوِّنـات أجسادنـا، والذي صار ظاهراً ومحسوساً مثل أجسادنا؛ تصفون كل هذا بأنه ”غير مخلوق“، (فإنكم) تسقطون سقوطـاً شنيعاً في خطأيـن: أولهمـا: إنكم تفترضـون أنَّ الآلام التي احتملهـا (المسيح جسديّاً) هي مجـرَّد خيـال، وهـذا تجديف المانويين؛ أو إنكم تعتَبِرون أنَّ اللاهـوت له طبيعة ظاهرة محسوسة، رغم أنه جوهرٌ غير مخلـوق، وبـالتالي فهـو غير ظاهـر ولا محسوس، وهـذا التصوُّر الأخير يضعكم مع الذين يتصوَّرون أنَّ الله كائنٌ في شكلٍ بشريٍّ جسداني (وهي بدعة تقول إنَّ الله في جوهره مثل الإنسان له أعضاء بشريـة)...](3). تجسُّد كلمة الله لم يَحدَّ من وجوده كإله في كلِّ مكان: وكما يقول بولس الرسول: «فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللاَّهُوتِ جَسَدِيًّا» (كو 2: 9). ولكن بالرغم من تجسُّد كلمة الله، إلاَّ أنه بلاهوته كائنٌ في كلِّ مكان ولا يخلو منه مكان. وهـذا مـا يُوضِّحه القديس أثناسيوس الرسولي: [لأنـه لم يكـن محصوراً (كـإله) في الجسد - كما يتوهَّم البعض - أو أنه بسبب وجوده في الجسد كان كـل مكانٍ آخر خالياً منه، أو أنـه بينما كـان يُحرِّك الجسد كـان العالم محروماً من أفعال قدرتـه وعنايته. غير أنَّ الأمـر العجيب والمُدهش جداً هـو أنـه مع كونه هـو الكلمة الذي لا يحويه شيء، فإنه هـو نفسه يحوي كـل الأشياء. وبينما هـو موجودٌ في كل الخليقة؛ فإنه، بحسب جوهره، هو مُتميِّز عـن كل الخليقة. فهو حاضرٌ في كل الأشياء بقدرتـه فقط، ضابطاً كل الأشياء ومُظهِراً سيادتـه على كـل شيء وعنايتـه بكلِّ شيء، وواهباً الحياة لكلِّ شيء. ومـع إنه يحوي كل الأشياء ولا يحتويه شيء، إلاَّ أنه كائنٌ كلِّيةً في أبيه وحده. وهكذا حتى مـع وجوده في جسدٍ بشري، مُعطياً الحياة له، فقد كـان مـن الطبيعي أن يمنح الحياة للكون كله في نفس الوقت... لم يكُن (كلمة الله) مُقيَّداً بسبب الجسد (الذي اتَّحد به)، بل بالحري كـان يستخدم جسده. ولذلك فهو لم يوجد في الجسد فقط، بل كان موجوداً بـالفعل في كـلِّ شيء... وهـذا هو الأمر العجيب، أنه بينما كان يتصرَّف كإنسانٍ، كان ككلمة الله يُحيي كـل الأشياء، وكابنٍ كـان كائناً في أبيه. ولذلك عندما وَلَدَته العذراء، لم يَعتَرِه أي تغيُّر (من جهة لاهوته)، ولا تدنَّس بحلوله في الجسد؛ بل بالعكس فهو قد قدَّس الجسد أيضاً](4). افتقر وهو الغَنِي، لكي نستغني بفقره: لقـد أوضح القديس بـولس ولخَّص تـدبير التجسُّد في هـذه الكلمات: «فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنَّهُ مِـنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ، لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ» (2كو 8: 9). فكلمة الله هو الغََنِي بلاهوته وقدرته الإلهية، لكنه من أجلنا ومن أجل خلاصنا، سُرَّ أن يفتقر أي يُخلي ذاته من مجد لاهوتـه، ويأخـذ جسـداً وضيعاً يتَّحد بـه ويصـير في شِـبْه النـاس؛ لكي نستغني نحـن الفقراء بـالخيرات العتيدة وبـالشركـة مـع الله وبـالحياة الأبديـة بواسـطة تجسُّـد كلمـة الله. ولذلك يقول القديس يوحنا في إنجيله: «وَمِنْ مِلْئِهِ نَحْنُ جَمِيعاً أَخَذْنَـا، وَنِعْمَةً فَوْقَ نِعْمَةٍ» (يـو 1: 16)، ويقول أيضاً القديس بولس: «وَأَنْتُمْ مَمْلُوؤُونَ فِيهِ، الَّذِي هُـوَ رَأْسُ كُـلِّ رِيَاسَـةٍ وَسُلْطَانٍ» (كو 2: 10). ويُوضِّح بطرس الرسول الغايـة النهائية مـن تجسُّد ابـن الله، بـأن نصـير: «شُرَكَـاءَ الطَّبِيعَةِ الإِلهِيَّةِ» (2بط 1: 4). وفي الختام، نذكُر مرد إنجيل باكر عيد الميلاد، إذ من أجلنا: ”غيرُ المُتجسِّد تجسَّد، والكلمةُ تجسَّم. غيرُ المُبتدئ ابتدأ، غير الزمني صار زمنياً“. (1) ”تفسير إنجيل لوقا“، الأصحاح الثاني، العظة الثانية. (2) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 4. (3) ”ضد أبوليناريوس“: 3. (4) ”تجسُّد الكلمة“، 17: 5،4،1.
المزيد
05 يناير 2021

«والكلمة صار جسداً» (يو 1: 14)

كلمة الله ربنا يسوع المسيح:- نَعْلَم أن الله خَلَقَ الإنسان على صورتـه ومثاله، وأعطاه شـركة في قوة كلمته الحيَّة، ووهبه نعمة الروح القدس عندمـا نفخ في أنفه نسمة الحياة، هذه النعمة التي تُهيِّئ الإنسان للشركة مع الله والتمتُّع بالحياة الأبديـة معه. ولكـن عندما تعدَّى الإنسان وصية الله، سقط مـن النعمة، وتعرَّى من الروح القدس الحافظ له والذي يطبع صورة الله في كيانه البشري؛ وبـالتالي سـاد عليـه الفسـاد والموت، وتشوَّهت صورة الله التي خُلِقَ عليها ولكن الله، مـن قِبَل صلاحـه ومحبته لنا، لم يترك خليقته تهلك هكـذا ويسـود عليها الموت. وكما يقول القديس أثناسيوس الرسولي[من غير اللائق أن تهلك الخليقة وترجع إلى العدم بالفساد، تلك الخليقة (ويقصد ”البشر“) التي خُلِقَت عاقلة، وكان لها شركة في الكلمة. وأيضاً لأنه سيكون مـن غير اللائـق بصلاح الله أن تَفْنَى خليقتـه بسبب غوايـة الشيطان للبشـر. ومـن ناحيةٍ أخرى، كـان سيصبح مـن غير اللائق على الإطلاق أن تتلاشى صنعة الله بيـد البشـر، إمـا بسبب إهمالهم أو بسبب غوايـة الشياطين. فطالما طـال الفسـاد الخليقة العاقلة، وكـانت صنعة الله في طريقها إلى الفناء، فما الـذي كـان يجب على الله الصالح أن يفعله؟ أيـترك الفسـاد يُسيطر على البشر، والمـوت ليسود عليهم؟ وما المنفعة، إذن، من خِلْقتهم منذ البدء؟ لأنـه كـان أفضل، بالحري، ألاَّ يُخلَقوا بـالمرَّة مـن أن يُخلقـوا وبعد ذلـك يُهمَلوا ويَفْنَوا... كان يجب، إذن، أن لا يُترَك البشر لينقادوا للفساد، لأن هـذا يُعتَبَر عملاً غير لائق ويتعارَض مع صلاح الله](1).وبسبب التعدِّي والسقوط تشوَّهت صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان، وانطمست ملامحها في كيانه البشري، دون أن يفقدها؛ ولكنه فَقَد النعمة الإلهية التي تؤهِّله للبلوغ إلى مثـال أو كمـال الصورة الإلهية التي طبعها الروح القدس فيه.ولا يمكـن للإنسان أن يستعيد بنفسـه بهاء الصورة الإلهية التي خُلِقَ عليها، لأنه ليس هـو صورة الله. ولا يمكن لخليقةٍ أخرى أو ملائكة أن تُجدِّد صورة الله التي انطمست في الإنسان، لأنهم ليسوا صُوَراً لله. لذلك، بحسب عِلْم الله السابق ومعرفته الأزلية، جاء كلمة الله نفسه، الذي هو صورة الله الأزلية، والذي بـه خُلِقَت كل الخليقة؛ جـاء ليُجدِّد الصـورة التي جُبِـلَ عليها الإنسان والتي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط. + ويوضِّح هـذا الأمـر القديس أثناسيوس الرسولي بقوله[وكما أنـه لـو كـانت هناك صورة لشخصٍ مرسومة على قماش مُثبَّت على لوحـةٍ خشبية، وتلطَّخت هـذه الصورة مـن الخارج بالأقذار، ما أدَّى إلى اختفاء ملامحها؛ ففي هذه الحالة لابد مـن حضور صاحب الصورة نفسها ثانيةً لكي يمكن إعـادة تجديـد الصورة على نفس قماش اللوحة. فلا يُلقي بالقماش، لأن صورته رُسِمَت عليه، بل يُجدِّد الرسم عليه مرَّةً أخرى.وعلى هذا النحو، فقد أتى إلى عالمنا كُلِّي القداسة ابـن الآب، إذ هو صورة الآب، لكي يُجدِّد الإنسان الذي خُلِقَ مرَّة على صورتـه، ويُخلِّص مَن قد هلك بمغفرة الخطايا...](2). كلمة الله أخلى ذاته من مجد الأُلوهة:- لقد تواضَع كلمة الله ونزل إلى عالمنا الفاسد لكي يُخلِّص جنس البشر، ويُعيد إليهم ما فقدوه من نعمـة إلهية، ويُجـدِّد فيهم الصورة الإلهية التي تشوَّهت. ولكنه لكي يصير إنساناً كان لابد له أن يُخلي نفسه من بهاء ومجد لاهوته، دون أن يُفرغ نفسه مـن لاهوتـه. وكما يقول بولس الرسول: «الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً للهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (في 2: 6-8). + وفي هذا الصدد يقول القديس كيرلس الكبير[إنَّ الله الكلمة بطبيعته كامل مـن كل الوجوه، ومِن مِلْئه يُوزِّع عطاياه للخلائق. ونحن نقول عنه إنه ”أفرغ ذاته“ دون أن يمسَّ هذا بطبيعته (الإلهية)، لأنه عندما أفرغ (أخلى) ذاته لم يتغيِّر إلى طبيعةٍ أخرى، ولم يصبح أقل مِمَّا كان عليه، لأنه لم ينقص شيئاً. هـو غير مُتغيِّر مثل الذي ولـده (الآب)، ومثله تمامـاً غير عُرضة للأهواء. ولكن عندمـا صار جسداً أي إنسانـاً، جعل فقـر الطبيعة الإنسانية فقـره، ولذا قال: «سأسكب مـن روحي على كـلِّ جسد» (يوئيل 2: 28)](3). كلمة الله صار جسداً (أي إنساناً) مع بقائه إلهاً كما كان منذ الأزل:- في رسالتـه الأولى ضد الآريـوسيين، أراد القديس أثناسيوس الرسولي أن يوضِّح أن كلمة الله مـن حيث لاهوته هو غير مُتغيِّر، إذ يقول[إن كـان الكلمة مُتغيِّراً وقابلاً للتحوُّل، ففي أيَّة نقطـة، إذن، سيتوقَّف (عـن التغيير)؟ ومـاذا ستكون نهاية عملية تطوُّره هذه؟... لأنه كيف لا يكون كاملاً هذا الذي هو مساوٍ لله؟ أو كيف لا يكون غير مُتغيِّر هـذا الذي هـو واحد مع الآب، وهو نفسه ابنه مـن ذات جوهره؟ ولأن جوهـر الآب غير مُتغيِّر، فبالضرورة يكـون مولوده الذاتي أيضاً غير متغيِّر](4) أمَّـا في تنازُله وتجسُّده، فكلمة الله لم يفقد شيئاً من لاهوته المساوي للآب في الجوهر، ولم يتحوَّل بالتالي لاهوته إلى جسدٍ؛ بل صار كلمة الله جسداً مع بقائه إلهاً بسـرٍّ لا يُنطَق بـه. وهذا ما نُردِّده في التسبحة اليومية، وخـاصةً مـرد ثيئوطـوكية يوم الخميس: ”لم يَزَل إلهاً، أتى وصار ابـن بشر، لكنه هو الإله الحقيقي، أتى وخلَّصنا“.ويشـرح القديس أثناسيوس الرسولي كيف صار الكلمة جسداً، قائلاً[(لقد) صـار الجسد (الذي اتَّحد به كلمة الله) هـو جسد الإله، ليس كمساوٍ له في الجوهر، لأنه ليس أزليّاً مع الكلمة؛ وإنما ”صار“ معه بالطبيعة جسده، دون أن ينفصل عن اللاهوت بسبب قوَّة الاتِّحاد. وظلَّ جسداً من نسل داود وإبراهيم وآدم الذيـن تناسلنا منهم جميعاً. ولـو كـان الجسد مُساويـاً لجوهر الكلمة وأزليّاً معه... لأصبحت كـل الخلائـق السماويـة مساوية في جوهر الله خالق كـل الأشياء... إنَّ المساوي في الجوهـر لـه في الحقيقة ذات صفات الجوهـر، أي أنـه غير مُتغيِّر وغير قابـل للموت. وهنا لا يجوز الكلام عـن الاتِّحاد مـا دام الناسوت مساوياً في الجوهر لأقنوم الكلمـة، بـل لا يبقـى مجـالٌ للاتِّحاد الأقنومي](5). لاهوته لم يُفارق ناسوته:- يشرح القديس كيرلس الكبير اتِّحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح الواحد، قائلاً[عندما نقول إنَا كلمة الله اتَّحد بطبيعتنا، فإنَّ كيفية هـذا الاتحاد هي فـوق فَهم البشر... فهو اتِّحادٌ لا يوصَف وغير معروف لأيٍّ من الناس سوى الله وحده الذي يعرف كل شيء... لكن إذا طُلِبَ منَّا أن نُحدِّد كيفية اتِّحاد اللاهوت بالناسوت، وهـو أمرٌ يفوق كل فَهم بل صعبٌ جداً! نقول: إنه من اللائق أن نعتقد أنَّ اتِّحاد اللاهوت بالناسوت في عمانوئيل، هو مثل اتِّحاد نفس الإنسان بجسده... فإذا ضُرِبَ الجسد أو جُرِحَ بالحديد مثلاً، فإنَّ النفس تحزن مع جسدها، ولكن بطبيعتها لا تتألَّم بالآلام المادية التي تقع على الجسد ويمكننا أن نرى أيضاً الجمرة مثالاً لكلمة الله المُتَّحد بالطبيعة البشرية دون أن يفقد خواصه؛ بل حـوَّل مـا أخذه (أي الطبيعة البشريـة) وجعله متَّحداً به، بـل بمجده وبعمله. لأن النار عندمـا تتصل بالخشب تستحوذ عليه، لكن الخشب يظلُّ خشباً، فقط يتغيَّر إلى شكل النار وقـوَّتها، بـل يصبح له صفات النار وطاقتها، ويُعتَبَر واحـداً معهـا. هكـذا أيضاً يجب أن يكـون اعتقادنـا في المسيح، لأن الله اتَّحـد بـالإنسانية بطريقـةٍ لا يُنطَق بها، ولكنـه أَبقى على خواص الناسوت على النحـو الذي نعرفـه، وهـو نفسـه لم يفقد خواص اللاهوت عندمـا اتَّحد بـه (بالناسوت)، بـل جعلـه واحـداً معـه، وجعـل خـواص (الناسوت) خواصه، بل هو نفسه قام بكل أعمال اللاهوت فيه (أي في الناسوت)](6). كلمة الله صار إنساناً كاملاً:- لقـد سـقط أبوليناريـوس أسقف اللاذقيـة في سوريـا (من 372-392م) هـو نفسه في الهرطقةٍ عندما هاجَمَ هرطقة آريـوس الذي كـان يُشيع أنَّ الرب يسوع هو بِكْر خليقة الله، وبالتالي فهو مجازاً إلهٌ ثانوي، خَلَقه الله لكي يخلق بـه كـل الكائنات؛ ولذلك فإنـه مـن جوهر مختلف عـن جوهر الله، وبالتالي فهـو غير مسـاوٍ للآب في الجوهـر. أمَّا أبوليناريوس فهـو يَعتَبِر أنَّ لاهوت ابن الله حلَّ محل النفس البشريـة في الناسوت الذي اتَّحد بـه، وبالتالي فكلمـة الله اتَّحـد بطبيعـة بشريـة ناقصـة. وقـد نَسِيَ مـا حـدَّده آبـاء الكنيسـة، ومنهـم القديس غريغوريوس اللاهوتي القائل: ”ما لم يتَّحد بـه الرب عندما تجسَّد هـو مـا بَقِيَ بدون شفاء، أمَّا ما اتَّحد بأُلوهيته فقد خَلَص. إذا كان نصف كيان آدم فقط (أي الجسد) قد سقط، فإنَّ ما اتَّحد به الرب هو نصف آدم، وبالتالي خَلَص هذا النصف“(7) فـالخلاص تحقَّق باتِّحاد لاهـوت ربنا يسوع المسيح بكلِّ مُكوِّنات الناسوت، فكلُّ ما اتَّحد به كلمة الله نـال الخلاص، وما لم يتَّحد به كلمة الله لم يَنَل الخلاص، بل يبقى في الموت. ولذلك يُكمِل القديس غريغوريوس اللاهوتي كلامه قائلاً[لقد حُكِمَ على عقلنا، وهذا يعني أنه قد حُكِمَ على جسدنا أيضاً. فإذا كان الرب قـد اتَّحد بما هو وضيع (أي الجسد) لكي يُقدِّسه، فهل لا يتَّحد بما هـو سـامٍ (أي النفس البشرية) لقد سقط آدم بعقله أولاً، ولذلك كـان على المسيح أن يأخذ عقلاً إنسانياً لكي يُقدِّس العقل الإنساني](8) لقد اتَّحد كلمة الله بكلِّ الكيان الإنساني، نفساً وجسداً، وبـذلك نـال الإنسان بجملته الخلاص: نفساً وجسداً. ومعنى هـذا أن كـل ثمار وقـوَّة هـذا الاتِّحاد الأقنومي بين اللاهـوت والناسوت في المسيح يسوع، تُنقَل إلى كل الكيان البشري لقـد سقط الهراطقـة في هـذا الخطأ لأنهـم يعتقدون أنَّ الشرَّ هـو جزءٌ مـن الخليقة، وأنَّ له جوهـراً وكيانـاً صنعه الله. أمَّـا آبـاء الكنيسة، فيؤكِّدون أن الشرَّ بلا جوهر وبلا كيان، بل هو من اختراع العقل البشري، وأنَّ الإنسان بطبيعته ليس شريـراً، وإنمـا يصبح شريراً إذا مارَس الخطية والشـر وحتى الطبيعة البشريـة، بعد السقوط، لم تَصِر طبيعـة شريـرة، إذ لم تُخلَق شريرة، بل هي طبيعة مريضة تحتاج إلى العلاج. ولأن من سِمات الصورة التي جُبِلَ عليها الإنسـان: العقل والإرادة والحريـة؛ فصار، إذن، كلُّ إنسان مسئولاً عـن اختياراتـه، وفي النهايـة سيتحمَّـل نتيجـة هـذه الاختيارات. فـالطبيعة البشريـة لم تتحـوَّل نتيجة السقوط إلى شـرٍّ، بـل أُدخِلَ عليها الشر، وسـاد عليها الفسـاد، وتسلَّط عليها الموت بسبب التعدِّي. ولذلك صارت مُحتاجة إلى الخلاص والحياة الأبدية وفي تفسيره لآيـة سِفْر نشيد الأنشاد: «أنـا نرجس شارون، سوسنة الأودية» (2: 1)، يُشير القديس كيرلس الكبير، في سرٍّ، إلى أنَّ الناسوت الذي اتَّحد به كلمة الله كان ناسوتاً كاملاً، قائلاً [السوسنة واحـدة مـن اثنين (الرائحة وجسم السوسنة). وغيـاب رائحـة السوسنة لا يجعلها سوسنة. وكـذلك غياب جسم السوسنة لا يُفسِّر وجـود رائحة السوسنة، لأن في جسم السوسنة رائحتها... لأنـه عندما أراد (كلمة الله) أن يُعلِن عن ذاته مـن خلال الجسد، جعل فيه (أي في الطبيعة البشرية كلها) كل ما يخص اللاهوت](9). (1) ”تجسُّد الكلمة“، 6: 4-7، 10. (2) ”تجسُّد الكلمة“، 14: 2،1. (3) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 5. (4) ”ضد الآريوسيين“، 10: 35. (5) ”ضد أبوليناريوس“: 13. (6) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 9،8. (7) رسالة 101. (8) رسالة 101؛ ومقالة 22: 13. (9) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 10.
المزيد
02 يناير 2021

تأملات روحية «والكلمة صار جسداً»

(يو 1: 14) خلقة الله للإنسان:- منـذ الأزل يحيـا الثالـوث القدوس: الآب والابـن والـروح القدس، في شـركة المحبة الإلهية، مكتفياً بهذه الشركـة العميقة بين أقـانيم الثالـوث القدوس في الجوهـر الإلهي الواحـد، كمُحب ومحبوب ومحبة، فجوهـره الإلهي هـو المحبة: «الله محبة» (1يو 4: 8).ولكـن الله مِـن فيـض محبتـه وعِظَـم جُـوده وصلاحه، خَلَـق الخليقة وأوجدها مـن العدم وبدون مادة موجودة سَلَفاً (كما كـان يُروِّج بعض الفلاسفة أنَّ المادة أزلية)، بل بكلمته الحيَّة، كما يقـول بـولس الرسـول: «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُـوَ ظَاهِرٌ» (عب 11: 3). ولأن الله هـو نبع الصلاح والمحبة، فقد خَلَقَ الإنسان واهباً إيَّاه نعمـة الخِلْقة على صورتـه ومثاله، مـانحاً إيَّاه الحيـاة الأبـديـة إن ظـلَّ الله في معرفـة الإنسان، طائعاً لأوامره الإلهية ووصاياه.وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي [الله صالحٌ، بل هـو بالأحرى مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بـأيِّ شيء، وهـو لا يحسد أحداً حتى على الوجود. ولذلك خَلَقَ كلَّ الأشياء مـن العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا. وبنوعٍ خـاص تحنَّن على جنس البشر. ولأنـه رأى عـدم قُدرة الإنسـان أن يبقى دائماً على الحالة التي خُلِقَ عليها، أعطاه نعمةً إضافية، فلم يكتفِ بخَلْق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض؛ بـل خلقهـم على صـورتـه، وأعطاهم شركة في قوة كلمته، حتى يستطيعوا - بطريقةٍ ما، ولهم بعضٌ مـن ظِلِّ الكلمة، وقـد صاروا عُقـلاء - أن يبقـوا في سـعادةٍ ويَحْيَوْا الحيـاة الحقيقيـة، حيـاة القدِّيسين في الفردوس](1). سقوط الإنسان:- ولأن الله خَلَق الإنسـان على صورته ومثاله، ومِـن سـمات هـذه الصـورة العقل والحريـة والإرادة، دون سائر المخلوقـات الأرضية؛ أصبح الإنسان حُرّاً في اختياراته. فإن استمرَّ في طاعة الله وحِفْـظ وصايـاه سيَنْعَم بـالشركـة مـع الله، وسيصل حتماً ليكون على مثال الصورة الإلهية التي خُلِقَ عليها؛ ولكن إن خالَفَ وصايـا الله، ولم يكُن الله هـو مركـز حياتـه، بل ذاتـه وأنانيته هما محـور حياتـه، فحينئذ سيسقط مـن النعمة التي وُهِبَت له، وتُنزَع منه هـذه النعمة الإلهية الحافظـة له، ويُهيمن عليه الفساد، ويسود عليه الموت مع أنه خُلِقَ في البداية ليحيا: «إِذْ لَيْسَ الْمَوْتُ مِنْ صُنْعِ اللهِ، وَلاَ هَلاَكُ الأَحْيَاءِ يَسُرُّهُ. لأَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْجَمِيعَ لِلْبَقَاءِ؛ فَمَوَالِيدُ الْعَالَمِ إِنَّمَا كُوِّنَتْ مُعَافَاةً، وَلَيْسَ فِيهَا سُمٌّ مُهْلِكٌ، وَلاَ وِلاَيَـةَ لِلْجَحِيمِ عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ الْبِرَّ خَالـِدٌ. لكِـنَّ الْمُنَافِقِينَ هُـمُ اسْتَدْعَوُا الْمَـوْتَ بـِأَيْدِيهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ» (حكمة 1: 13-16) وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي[(لقد) خَلَقَ الله الإنسانَ، وكـان قصده أن يبقى في عدم فساد. أمَّا البشر، فإذ احتقروا التفكير في الله ورفضوه، وفكَّـروا في الشـرِّ وابتدعـوه لأنفسهم فقـد حُكِمَ عليهم بحُكْم الموت الذي سبق إنذارهم بـه. ومِن ذلك الحين لم يبقوا بعد كما خُلِقوا، بـل إنَّ أفكارهم قادتهم إلى الفساد، ومَلَكَ عليهـم المـوت؛ لأن تعـدِّي الوصيـة أعـادهم إلى حـالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما وُجِـدوا مِـن العـدم، هكـذا أيضاً بالضرورة يلحقهم الفناء بمرور الزمن](2) ولكـن القديس كيرلس الكبير يُصـرِّح أنَّ ما فَقَدَه الإنسان نتيجة لسقوطه، هـو الروح القدس عينه، ذلك الذي نَفَخَه الله في أنف آدم عندما خَلَقَه على صورتـه ومثالـه، وبـالتالي صـار الإنسان مُعرَّضاً لكلِّ عوامل الفساد والموت، فيقول[(لقـد) فـارَقَ الـروح القـدس الطبيعـة البشريـة التي صـارت مريضـة في كـلِّ البشر، ولكي تعـود الطبيعة البشريـة مـن جديـد إلى حالتها الأولى (التي خُلِقَـت عليها)، احتاجت إلى رحمة الله، لكي تُحسَـب بموجـب رحمة الله مُستحقَّة الروح القدس](3). هل التوبة وحدها تكفي لعودة الإنسان إلى حالته الأولى؟ إن الفساد الذي حـلَّ بالإنسان نتيجة للسقوط، وسيادة المـوت عليـه، قـد هيمَن على الكيـان البشري ككلٍّ. فقد تشوَّهت صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان - ولم يفقدها - لكنه فَقَـدَ القدرة على مُشابهـة هـذه الصـورة الإلهيـة، وذلك بتَعَـرِّيـه مـن الـروح القـدس. فـأصبحت مجـرَّد التوبة، لا تكفي لعودة الكيان البشري إلى ما كـان عليه قبل السقوط، وبالتالي عـدم قدرة الإنسـان على اقتناء الروح القدس الذي فَقَده.ويُوضِّح القديس أثناسيوس الرسولي هذا الأمر بقوله [لكن التوبة تعجز عن حِفْظ أمانة الله، لأنه لن يكون الله صادقاً إنْ لم يظلَّ الإنسان في قبضة الموت (لأنـه تعدَّى فحُكِمَ عليه بـالموت كقول الله)، ولا تقـدر التوبـة أن تُغـيِّر طبيعـة الإنسان، بل كـل ما تستطيعه هـو أن تمنعهم عن أعمال الخطية. فلو كان تعدِّي الإنسان مجرَّد عملٍ خاطئ ولم يتبعه فساد، لكانت التوبة كافية. أمَّا الآن بعد أن حـدث التعدِّي، فقد تورَّط البشر في ذلك الفساد الذي كان هـو طبيعتهم، ونُزِعَت منهم نعمة مُمَاثلة صورة الله](4) ولكن، ليست التوبة فقط هي التي لا يمكن أن تُجدِّد كيـان الإنسان الذي تشوَّه بـالتعدِّي، ولكن ”بعـد أن خَلَق الله الإنسـان، وصـار موجـوداً، استدعت الضرورة علاج ما هـو موجود (فعلاً)، وليس مـا هـو غير موجود“. وأيضاً لا يمكن لأيَّة خليقة أخرى أن تكـون لديها القدرة على تجديـد خِلْقة الإنسـان على مثال الصورة التي جُبِلَ عليها. فـالإنسان مخلوقٌ على مثال تلك الصورة الإلهية، وليس هو الصورة عينها؛ كما أنَّ أيَّة خليقـة أخرى ليست هي صورة الله التي على مثالها خُلِقَ الإنسان. هل يمكن تجديد كيان الإنسان بأَمرٍ إلهي؟ ويستطرد القديس أثناسيوس الرسولي في توضيح هذه النقاط قائلاً[في البدء لم يكـن شيءٌ موجوداً بالمرَّة. فكلُّ مـا كـان مطلوبـاً هـو مجرَّد نُطق مـع إرادة (إلهيـة) لإتمـام الخَلْق. ولكـن بعـد أن خُلِـقَ الإنسـان، واستدعت الضـرورة عـلاج ما هو موجودٌ، وليس مـا هـو غير موجود؛ عندئذٍ كـان مـن الطبيعي أن يَظهر الطـبيب والمُخلِّـص فيمـا هـو موجـودٌ، لكي يشفي الخلائق الموجودة (فعلاً) ثم ينبغي أن يُعرَف هذا أيضاً، أنَّ الفساد الذي جرى (للطبيعة البشرية)، لم يكن خارج الجسد، بل كان مُلتصِقاً بـه. وكـان الأمر يحتـاج إلى أن تلتصـق بـه الحيـاة بـدلاً مـن الفسـاد، حتى كما صـار المـوت في الجسـد، تصـير الحياة في داخـل الجسـد أيضاً](5). وهل يمكن لأيَّة خليقة أخرى أن تُجدِّد كيان الإنسان؟ وفي مَثَلٍ واقعي يسرد القديس أثناسيوس الرسولي هذه القصة التي توضِّح مَقْصده [أيُّ مَلِكٍ، وهو مجرَّد إنسان بشري، إذا امتلك لنفسه بـلاداً، (فهل) يترك مواطنيه لآخريـن يستعبدونهم؟ وهـو لا يَدَعهم يلتجئون لغيره؛ لكنه يُنذرهم برسائله، ثم يُرسل إليهم أصدقاءه مـراراً، وإنْ اقتضـى الأَمـر يذهـب إليهم بشخصه، لكي يوبِّخهم بحضوره، كآخر وسيلة يلجأ إليها. وكـلُّ ذلك لكي لا يصيروا خُدَّاماً لغيره فيذهب عمله هباءً أَفـلا يُشفق الله بـالأَوْلَى على خليقته، كي لا تضلَّ عنه وتعبد الأشياء التي لا وجود لها، وبالأكثر عندما يَظهر أنَّ هذه الضلالة هي سبب هلاكهم وخرابهم؟! وليس لائقاً أن يهلك هؤلاء الذين قد كانوا مرَّةً شركاء في صورة الله إذن، فما هـو الذي كـان مُمكناً أن يفعله الله؟ وماذا كـان يمكن أن يتمَّ سوى تجديـد الخليقـة التي وُجِـدَت على صـورة الله مـرَّةً أخرى ولكن كيف كـان مُمكناً لهـذا الأمـر أن يحدث إلاَّ بحضور نفس صورة الله، مُخلِّصنا يسوع المسيح؟ فذلك الأمر كـان مُستحيلاً أن يتمَّ بواسطة البشر، لأنهم هُم أيضاً خُلِقوا على مثال تـلك الصـورة (وليسوا هـم الصورة عينـها)؛ ولا أيضـاً بـواسـطة الملائكـة، لأنهـم ليسـوا صُوَراً (لله). ولهذا أتى كلمة الله بذاتـه، لكـي يستطيع، وهـو صـورة الآب، أن يُجدِّد خِلْقـة الإنسـان، على مثال الصورة (الإلهية)](6) ضرورة تجسُّد كلمة الله ذاته رأينا أنه لا توجد وسيلة واحدة تستطيع أن تُحقِّق خلاص الإنسان، وتُجدِّد صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان والتي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط، كمـا يقول القديس أثناسيوس: ”لـو كانت الخليقة كافية، لما حدثت كـل هـذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل، ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلالة عـن الله“. ويستطرد قائلاً: ”لقد سبق وأن أعطى الله البشر إمكانية أن يعرفوه عن طريق أعمال الخليقة. أمَّـا الآن، وبعد السقوط، فإنَّ هـذه الوسيلة لم تَعُد مضمونة، وبالتأكيد هي غير مضمونـة، لأن البشر أهملوهـا سابقاً؛ بـل إنهم مـا عـادوا يرفعون أعينهم إلى فوق، بـل صاروا يشخصون إلى أسفل“(7).فبسبب عدم نفع كل هـذه الوسائل، وأيضاً بسبب أن تجسُّد كلمة الله كان في فكر الله من قبل تأسيس العالم وخِلْقة الإنسان، لذلك يقول القديس كيرلس الكبير[صار الابـن الوحيد كلمة الله إنسانـاً، وظهر للذين على الأرض بجسدٍ مـن الأرض، ولكنه خـالٍ مـن الخطية، حتى فيـه وحـده تُتـوَّج الطبيعـة البشريـة بمجد عدم الخطية، وتغتني بـالروح القـدس، وتتجـدَّد بـالعودة إلى الله بالقداسة. وكما قلتُ، فـإن الطبيعة البشرية قد مُجِّـدَت فيه، وصارت فيـه مُستحقَّة للحصول على الروح القدس الذي لن يفارقها (فيما بعد) كما حدث في البدء، بـل صارت مسرَّتـه (أي الـروح القدس) أن يسـكن فينا. لـذلك أيضاً كُتِبَ أنَّ الـروح القدس حـلَّ على المسيح واستقرَّ عليه (يو 1: 32). فالمسيح هو كلمة الله الذي لأجلنا صـار مثلنا، وفي صـورة العبد، ومُسِحَ كـإنسانٍ حسـب الجسد، ولكنـه كـإله يَمْسَح بروحه الذين يؤمنون به](8)فلا يمكن أن تتجدَّد صورة الله التي تشوَّهت في الإنسان، إلاَّ بواسطة كلمـة الله نفسـه الذي جَبَل الإنسـان على مثـال هـذه الصورة. ولا يمكن أن يُغلَب الموت الذي تغلغل داخـل الكيان الإنساني إلاَّ بواسطـة مَـن هـو الحيـاة عينها، أي كلمة الله، فتتواجَه الحياة مع الموت السائد على الإنسان داخل الطبيعة البشريـة نفسها، والتي اتَّحد بها كلمة الله وشابهنا في كلِّ شيء ما خلا الخطية وحدها. ولكن كما نقول في مَرَد ثيئوطوكية الخميس من التسبحة اليوميـة: ”لم يَزَل إلهاً، أتى وصار ابن بشر، لكنه هو الإله الحقيقي، أتى وخلَّصنا“ويقول القديس أثناسيوس الرسولي[لقـد تحدَّثنا، إذن، وبـاختصار... عـن سبب ظهوره (أي ظهور كلمة الله) في الجسد، وأنه لم يكُن مُمكناً أن يُحوِّل الفاسد إلى عدم الفساد إلاَّ المُخلِّص نفسه، الذي خَلَقَ منذ البدء كل شيء من العدم. ولم يكُن مُمكناً أن يُعيد خَلْقَ البشر ليكونوا على صورة الله إلاَّ هـو صورة الآب. ولم يكُن مُمكناً أن يجعل الإنسان غير مائتٍ إلاَّ ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها](9). (1) ”تجسُّد الكلمة“، 3: 3. (2) ”تجسُّد الكلمة“، 4: 4. (3) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 1. (4) ”تجسُّد الكلمة“، 7: 4،3. (5) ”تجسُّد الكلمة“، 44: 4،2. (6) ”تجسُّد الكلمة“، 13: 5-7. (7) ”تجسُّد الكلمة“، 14: 7،5. (8) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 1. (9) ”تجسُّد الكلمة“، 20: 1.
المزيد
01 يناير 2021

شخصيات من الكتاب المقدس داود النبى

"..وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي" أع 13: 22 مقدمة يقول بروفسور بليكي: الناس دائماً واحد في واحد، وأما داود فمجموعة واحدة، إذ قد جمع في شخصيته العظيمة أشتاتاً متعددة من الشخصيات، فهو كأخنوخ في السير مع الله، وكإبراهيم في إيمانه القوي، وكإسحق في تأمله العميق، وكيعقوب في كفاحه ونضاله، وكموسى في التهاب وطنيته، وكيشوع في خياله وهمته، وكجدعون في شجاعته وقوته، وكصموئيل في عدالته وغيرته، كان نبياً، وكان شاعراً، وكان مرنماً، وكان ملكاً، وكان إنساناً، كان كل هذه على حدة، وكان كل هذه مجتمعة معاً!!.. يقول هيجل الفليسوف: إن الشخصيات العظيمة تلقى علينا المزيد من المتاعب في تحليلها، للصفات المختلفة المتباينة فيها، وقد دعا مكارتني داود: "الرجل المتناقض" الذي جمع ما يشبه المتناقضات في حياته،.. وإذا كان فوسدك قد ذكر أن المسيح هو الإنسان الوحيد الكامل الذي وازن بين الكمالات الإلهية في نفسه، كاللطف والصرامة، والفرح والحزن، والغيرة والمحبة والقداسة، فلا توجد فضيلة فيه على حساب الأخرى، فإن داود ربما كان أقرب الناس إلى ابنه الأعظم، مع فارق التناقض الواسع الذي سببته الخطية في حياة الملك الإسرائيلي القديم، ومع ذلك فإن هذا الرجل هو الذي قال عنه الله: "وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع مشيئتي!! لم يكن داود معصوماً كالمسيح، ولكنه أدى دوره في الحياة، ويكفيه فخراً أن يكون من أقرب الكواكب اللامعة، إلى شمس البر، إلى ابن الإنسان، إلى ابن الله!!.. وأرجو أن تعلمنا قصته في الصواب والخطأ، كيف نتمسك بالصواب وننتصر على الخطأ، ولذا أرجو أن نراه من النواحي التالية: داود وشخصيته العظيمة اسمه داود أو "المحبوب" يعتقد أنه ولد على الأغلب في عام 1085ق.م أو نحو ذلك، وأبوه يسى البيتلحمي، وكان له سبعة من الأخوة وأختان، ومسح على الأغلب في السابعة عشرة من عمره، وصرع جليات وهو في العشرين، وملك على بيت يهوذا في الثلاثين، وعلى كل إسرائيل في السابعة والثلاثين والنصف من العمر، ومات في السبعين أو حوالي 1015ق.م على حساب بعض الشراح،... ومع أنه كان أصغر أولاد يسى، إلا أنه كان أقرب إسرائيلي إلى قلب الله،... ولعلنا ندرك هذه الحقيقة من خلال ما تميز به من صفات. داود الحلو الجميل الروح وهذه أول صفة تقابلنا مع هذه الشخصية القديمة: "وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر"... ومن المؤكد أنه إذا قورن باليآب أو أبيناداب أو شمة أو واحد من إخوته الآخرين، لربما تفوق عليه واحد في الجمال الجسدي، ولكن قياس الله يمتد إلى الداخل، ولا يقف عند منظر العينين أو طول القامة، بل يتغور إلى القلب،.. لم يكن في إسرائيل من هو أطول من شاول،.. لكن قلبه مع ذلك كان أبعد القلوب عن انتظار الله،... لكننا نأتي الآن أمام قلب بشري، كان حلواً وجميل الروح أمام الله،.. إن مأساة الإنسان في العادة أنه يقيس الأشخاص بمقاييس تختلف عن مقياس الله، فقد يقيسهم بالسن، والأكبر هو الأفضل، ولو صح هذا من الوجهة العسكرية أو السياسية، لما سمح اليونانيون للإسكندر الأكبر أن يقود جيوشهم وهو في العشرين من عمره ليغزو العالم وهو في الثلاثين، ولما قادت جان دارك الجيش الفرنسي وهي في الثامنة عشر من عمرها، ولما ظهر وليم بت في انجلترا، وهو من ألمع السياسيين في كل تاريخها الطويل!!... ولو أن القياس بالجمال الجسدي لأخرجنا الكثيرين من عباقرة الدنيا وفلاسفتها العظام، ولما أتيح لسقراط أن يرسخ فلسفة اليونانيين، ولتوماس كارليل أن يبدع بين الانجليز، ولما استطاع ملتون الأعمى أن يرسل إلينا روائع الفردوس المفقود والمردود!!.. ولو حكمنا على الناس بثرواتهم. لأخرجنا من الدائرة الصيادين تلاميذ المسيح، بل أكثر من ذلك لأخرجنا من العالم سيد الكل: "الذي لم يكن له أين يسند رأسه".. إن القياس الأعظم في الإنسان يتمشى على ضربات قلبه ووجيب مشاعره وعمق أسراره،.. مع القلب المجدد النقي الطاهر أمام الله!! متى ولد داود الولادة الجديدة؟ لا نعلم، غير أنه من المؤكد أنه عرف الله وتمتع بالميلاد الثاني قبل مسحه ملكاً،…. وأنه من الصباح الباكر في الحياة عزف بقيثارته أمام الله، أحلى الأغاني وأروع الأناشيد!!… ما أسعد أن يأتي أولادنا في صبح الحياة أمام الله كداود، وما أجمل أن يغنوا له كالعصافير المبكرة في أعشاشها، قبل أن يسمعهم العالم أغانيه ومباذله!… وإذا كانوا قد قالوا إن الرئيس إدوارد تجدد في السابعة من عمره، وأن بوليكاربوس واسحق ووتس عرفا المسيح في التاسعة من العمر، وأن متى هنري وروبرت هول جاءا إلى السيد في الحادية عشرة من العمر. فكم أتمنى أن يأتي أولادنا مع صموئيل وداود، ودانيال وتيموثاوس، ليقولوا لإلههم: “تكلم يا رب فإن عبدك سامع!!.. داود الرقيق القلب وقد كان داود من أرق القلوب التي ظهرت على هذه الأرض، ويكفي أن أمامك مثلين أو ثلاثة على هذه الرقة الدقيقة العجيبة، فهو في أول شبابه وربما في السادسة عشرة من العمر، إذ ظهر فجأة أمامه دب وأسد، واختطفا شاة صغيرة من بين القطيع، وصرخت الشاة،.. ورأت الصرخة في قلب الفتى البطل، ولم يستطع تحمل صرخة الاستنجاد، ودخل الغلام في معركة الحياة والموت من أجل صرخة حيوان أعجم صغير في الواقع أني لا أعرف في الأرض من هو أرق من هذا الشخص في كل التاريخ إلا واحداً فقط قال: "أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف وأما الذي هو أجير وليس راعياً الذي ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف ويبددها، والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالي بالخراف" والفرق بين داود وابن داود في هذا الشأن واضح، لقد عرض داود حياته من أجل شاة،... وعندما عد الشعب وجاء الغضب الإلهي بالوباء ومات من إسرائيل سبعون ألفاً: "فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك عليَّ وعلى بيتي"... وكشف له الله عن الذبيحة والفدية!!... وأما الآخر فقد بكى على أورشليم، ولم يقف عند هذا الحد. بل أخذني وأخذك من أنياب الأسد، ومات على الصليب من أجلي ومن أجلك!!... ورقة القلب أيضاً تراها في معاملته لشاول الذي كان يطارده، ويريد القضاء على حياته، ومع ذلك فعندما وقع شاول في يده، وقطع طرف جبته يقول الكتاب: "وكان بعد ذلك أن قلب داود ضربه على قطعه طرف جبة شاول" وقد تتعجب وتستغرب لهذا، ولكنك لو عرفت المعركة الداخلية في قلب داود، لرأيت مدى الحساسية في قلب الرجل،.. لقد شجعه الذين معه على قتله، ويبدو أن الشيطان قال له: إنه بضربة واحدة ينتهي كل شيء،.. ورفض داود فكر الشيطان،... لكن قلبه ضربه مع ذلك، على مجرد التفكير الداخلي في قتل الرجل!!.. وأية رقة أبلغ من هذه الرقة، إلا في ذاك الذي رفض أن يترك أذن ملخس عبد رئيس الكهنة مقطوعة وهم يهاجمونه يوم الصليب، وأبرأها، ومن فوق الصليب صاح: اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!! وأما الثالثة فكانت يوم أن تأوه داود، وذكر البئر القديمة- بئر بيت لحم- التي كان يشرب منها وهو غلام صغير،... وكان في حرب مع الفلسطينيين، فقال: من يسقيني ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب فشق ثلاثة من الأبطال محلة الفلسطينيين واستقوا ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب، وحملوه وأتوا به إلى داود، فلم يشأ داود أن يشربه بل سكبه للرب وقال: حاشا لي من قبل إلهي أن أفعل ذلك!! أأشرب دم هؤلاء الرجال بأنفسهم لأنهم إنما أتوا به بأنفسهم، ولم يشأ أن يشربه"... لم يعد أمامه ماء بل دماً، قدمه الأبطال حباً فيه، مغامرين بحياتهم،.. ونظر إليهم وإلى الماء وقال: هذا شيء رهيب إنه أقدس من أن تلمسه شفتاي،.. وسكبه سكيباً للرب!! كان أحدهم يسير مع تولستوي في الطريق، وإذا به يرى الرجل يسرع إلى جواد مريض ويحتضنه ويقبل رأسه، وقال الرجل: لقد تصورت تولستوي لا يقبل حصاناً، بل كأنما يقبل أخاه ابن أمه وأبيه،... ولكنها هي الرقة التي يرتفع إليها عظماء الناس، وقد تمكنت من داود من هامة الرأس إلى أخمص القدم!!.. داود الصلب الإرادة إذا أردت أن تعرف تكوين داود النفسي من هذه الناحية يمكنك أن تراه خلال عبارته القائلة في المزمور الثامن عشر: "يعلم يدي القتال فتحنى بذراعي قوس من نحاس".. ومع أن هذه العبارة تكشف في الأصل عن الفتى المفتول العضلات، لكنها تقودك أكثر إلى الإرادة الحديدية المتمكنة من هذا الشاب، ويكفي أن تلقي نظرة على ذلك التمثال المبدع الذي صنعه ميشيل أنجلو لداود، والذي فيه يبدو مفتوح العينين، وقد تصلبت عضلات وجهه وعنقه، ويده المرفوعة إلى عنقه وهي تحمل حجراً يقبض عليه،... إنك يوم تنظر إلى هذا التمثال، ستكتشف أقوى تصميم أو عزم يمكن أن يظهر في حياة الإنسان على الأرض!!.. ولعلنا نذكر هنا كلمات الكسندر هوايت: إن داود لم يعرف حياته قط، أنصاف الحلول أو يرضى بها، وسواء أمسك بالسهم أو الوتر أؤ العود أو المقلاع، فهو الإنسان الذي يشد عزمه وتصميمه إلى النهاية،.. وليست هنا قوة على الأرض تستطيع أن تجعله يتراجع عما يمكن أن يكون قد استقر عليه،... عندما صمم على مواجهة جليات لم يفلح فيه تقريع أخيه وقسوته في التعبير،... لقد عزم على مقاتلة الجبار، ولن يتزحزح قط، حتى ولو اختبأ الإسرائيليون جميعاً في شقوقهم ومغاراتهم،.. وعندما صمم على أن يعود بالتابوت من بيت عوبيد آدوم: "كان داود يرقص بكل قوته أمام الرب" حتى ولو احتقرته ميكال زوجته وهي تنظر إليه راقصاً،.. إن داود راقصاً أو مغنياً أو مقاتلاً، أو خادماً،... كان يفعل هذا بإرادة من حديد، لا تعرف التخاذل أو التراخي دون تفرقة بين أسد يقتله، أو جبار يصرعه، أو بذل يقدمه لله بذات الإحساس والمشاعر والإرادة الصلبة الثابتة!!.. داود القوي الإيمان تعجب السيد المسيح من إيمان قائد المئة الذي لم ير في إسرائيل إيماناً يماثل إيمانه،.. ولعل شاول وهو يرى داود يواجه الفلسطيني الجبار، تملكه ذات العجب، وهو يراه يعود برأسه أمامه،.. مع أن داود سبق وذهب إلى القصر الملكي لكي يعزف للملك، ويبدو أنه لم يبق هنالك فترة طويلة، فقد كان الجنون يصيب الملك بين الحين والآخر، ويبدو أنه عاد إلى رعاية الأغنام، وانقضت ثلاث سنوات، وأضحى دواد في العشرين من عمره، ونبت شاربه وذقنه، على صورة تغيرت معالمه فيها أمام الملك، وبالإضافة إلى أن العمل الذي عمله كان مذهلاً إلى الدرجة التي لا يمكن أن تربطه بالغلام الذي رآه من ثلاث سنوات وبقى عنده في القصر فترة من الزمن، وعلى أي حال، لقد ظهر الشاب أعجوبة أمام الملك،.. أعجوبة لا نظير لها أو مثيل، ولم يسأل الملك عنه، بل سأل عن أبيه أيضاً، لعل خصائص الوراثة يمكن أن تكون السبب، ولعله ابن أبيه، ومن شابه أباه فما ظلم كما يقولون!!.. غير أن الأمر لا يرتد إلى ميراث يحمل ابن عن أبيه، فقد يحذو الولد حذو أبيه، ويتمثل به، لكن الأمر هنا أبعد عمقاً وأشد أثراً!!... إن رصيد الولد لم يأته قط من أبيه، بل جاءه من مصدر آخر،.. عبر عنه هو أمام الملك،.. لقد كان رصيده محفوظاً في وجدانه عندما التقى بالدب والأسد،..: "قتل عبدك الدب والأسد جميعاً وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عير صفوف الله الحي وقال داود: الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب، ينقذني من يد هذا الفلسطيني، وقال شاول لداود: اذهب، وليكن الرب معك"... ولعله من الواجب أن نقف وقفة تأمل في مفهوم الإيمان بالنسبة لشاول، وبالنسبة لداود،.. فالإيمان عند شاول لا يزيد عن كلمة قالها: "اذهب وليكن الرب معك"وما أكثر الذين يؤمنون بالله إيمان شاول، فهم لا ينكرون وجوده، وهم يؤمنون أنه قوي وقادر على كل شيء، ومع ذلك فإن هذا الإيمان لا يزيد عن مجرد فكرة نظرية غير قابلة للاختبار مثلهم مثل رجل أقام فوق شلالات نياجرا سلكاً عالياً ومشى عليه وهو يحمل آخر، وصاح واحد من المعجبين: يا له من بطل عظيم... وقال البطل للصائح: هل تريد أن تجرب؟ فارتد فزعاً إلى الوراء وقال: كلا!!.. لكن الإيمان عند داود كان أكثر من ذلك، كان حياة!! وقد وصل داود إلى الحقيقة التي لا يعثر عليها سوى الأبطال!! إما أن إيمانه حقيقي وصادق يثق فيه بالله القادر على كل شيء!!.. أو أن الموت أفضل من الإيمان الذي لا يزيد عن فقاعة خيالية من الهواء في الحياة!!.. والفارق –ولا شك- مهول ورهيب،.. أيها الأخ: إنك ستجد على الدوام في قصة الحياة، أسداً أو دباً، أو جليات، أو مشكلة مستعصية بهذه الصورة أو تلك،.. وستبقى مصدر الرعب أو الفزع لك، إذا عشت تواجهها ولا يزيد لديك الله عن كلمة تؤمن بها، تقرؤها في كتاب أو تسمعها في عظة،.. حتى تدخل إلى المشكلة، وترى الله أكثر من كلمة، إذ تراه الله الحي القادر على كل شيء. وطوبى لجميع منتظريه!!.. داود الشجاع الجسور إن هذه الرؤيا الإلهية أعطت داود أن يكون واحداً من أشجع الناس الذين ظهروا على هذه الأرض،.. والسؤال الذي يبدو مذهلاً: لماذا خاف الإسرائيليون جميعاً ابتداء من شاول إلى أبنير إلى جميع أفراد الجيش؟؟: "ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطين هذا ارتاعوا وخافوا جداً".. ولماذا لم يخف داود؟!!.. وباديء ذي بدء أن داود لم يكن من طينة أخرى تختلف عن إخوته الثلاثة في المعركة ومن الإسرائيليين جميعاً، كما أنه لم يستخف على الإطلاق بالرجل العملاق الذي يواجهه، فهو يعلم أيضاً أنه مخيف ومرعب،.. ومع ذلك فإنك لا ترى ذرة واحدة من الخوف تستولى عليه) بل بالحري إن داود تعجل اللقاء، راكضاً إليه: "وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني".. ولكن الفارق الحاسم أن الفلسطيني لم ير أمامه سوى غلام صغير حقير، ورأى داود الفلسطيني ولكن رأى الله أيضاً، وإذا بالعملاق يصبح قزماً لا يرتفع إلا أقل القليل عن الأرض،... وهذه الرؤيا بعينها هي التي فرقت بين داود وبقية الإسرائيليين،.. إن سره العميق حوله أغنية في المزمور السابع والعشرين، ليتعلم منه من يريد أن يتعلم أعظم دروس الشجاعة في الأرض: "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أرتعب عندما اقترب إليَّ الأشرار ليأكلوا لحمي مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا، إن نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي إن قامت عليَّ حرب ففي ذلك أنا مطمئن".. ترى هل عرفت السر؟!!. داود الغيور الملتهب كان داود أيضاً الرجل الغيور المتلهب في غيرته، وقد لاحقته هذه الغيرة من الصبا حتى آخر الشيخوخة، إذ كانت في حقيقتها تعبيراً إزاء إحساسه بشخص الله وكرامته ومجده،.. عندما ذهب إلى المعركة، كان كل ما ينتظر منه، أن يكون زائراً أو متفرجاً،.. لكن منظراً ظهر أمامه ألهب النار في قلبه، منظر جليات يجدف على الله الحي،.. وهو لا يستطيع أن يحتمل المنظر أو يسمع الكلمات!!... وقد غامر بحياته لأن الموت عنده أهون من إهانة اسم الله، والتجديف على شخصه الكريم... ولم يكن الأمر مجرد اندفاع الشباب يغلي الدم في عروقه إذا ما رأى مالا يطيق رؤياه، بل هي أكثر من ذلك، الغيرة التي جعلته حتى آخر العمر: "أذكر يا رب داود كل ذله كيف حلف للرب نذر لعزيز يعقوب لا أدخل خيمة بيتي لا أصعد على سرير فراشي لا أعطي وسناً لعيني ولا نوماً لأجفاني أو أجد مقاماً للرب مسكناً لعزيز يعقوب".. لقد كان ذله الكبير أنه: "لما سكن الملك في بيته وأراحه الرب من كل الجهات من جميع أعدائه أن الملك قال لناثان النبي أنظر. إني ساكن في بيت من أرز وتابوت الله ساكن داخل الشقق" وهل يجمل به أن يعيش في بيت يبدو أجمل منظراً، وأعظم بهاء من بيت الله؟؟ وفي الحقيقة أن علاقة الإنسان ببيت الله هي واحد من أهم العلامات أو المؤشرات على حقيقة غيرته، والتهاب روحه كانت صرخة حجي النبي: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب"... عندما دخل المسيح الهيكل. ووجد الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصيارف جلوساً، فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل. الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم، وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة فتذكر تلاميذه غيرة بيتك أكلتني!!.. داود الواسع الصبر ومن الغريب أن داود -مع ذلك- كان واسع الصبر، ومن أعظم الناس إتقاناً للتوقيت الإلهي،... فإذا كان آساف هو الكاتب للمزمور الخامس والسبعين، والقائل عن الله: "لأني أعين ميعاداً أنا بالمستقيمات أقضي، ذابت الأرض وكل سكانها أنا وزنت أعمدتها" فإن داود عاش هذه الحقيقة بالتمام، لم يتعجل قط يوماً من أيام الله، مسحه صموئيل للعمل الإلهي،.. غير أنه عاد إلى أغنامه يرعاها حتى يدعوه الله إلى العمل،.. ثم طارده شاول، وعاش سنوات في البرية طريداً مشرداً يقود مئات من البؤساء المطرودين، وجاءه الوقت الذي كان يمكن أن يختزل الميعاد بضربة واحدة، ولكنه رفضها: "وقال داود حي هو الرب أن الرب سوف يضربه أو يأتي يومه فيموت أو ينزل إلى الحرب ويهلك حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب".. كان فناً من أصعب الفنون فن الانتظار، لرجل خلقه الله بطبع ناري ملتهب، إلا أنه هو القائل: "لأني لك يا رب صبرت أنت تستجيب يا رب إلهي"وقد دخل هذا الصبر يوماً من الأيام في أدق امتحان، عندما خرج عليه شمعي بن جيرا يلعنه وهو هارب من أورشليم أمام ابنه أبشالوم، ولم يطق أبيشاي بن صرويه صبراً على هذا السب، فقال: لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك دعني أعبر فأقطع رأسه فقال الملك مالي ومالكم يا بني صرويه، دعوه يسب لأن الرب قال سب داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لأبيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري بنياميني، دعوه يسب لأن الرب قال له لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيراً عوض مسبته بهذا اليوم"... أجل، وليس هناك ما يكشف في القدرة على الصبر أكثر من التعرض للإيذاء والافتراء والاختلاق مما ليس له أساس من الصحة والحق!!. داود الوديع المتواضع وهنا نقف أمام فيضان من العظمة الحقيقية، عندما قتل جليات، وهتفت له الأمة بأكملها وكان في العشرين من عمره، وكان يمكن أن تأخذه نشوة الغرور، ويطالب بوعد الملك في الزواج من ابنته، خاصة وقد أمر شاول عبيده تكلموا مع داود سراً قائلين هوذا قد سر بك الملك وجميع عبيده قد أحبوك فالآن صاهر الملك فتكلم عبيد شاول في أذني داود بهذا الكلام فقال داود هل هو مستخف في أعينكم مصاهرة الملك وأنا رجل مسكين وحقير!!.. وعندما طارده شاول فيما بعد قال له: "وراء من خرج ملك إسرائيل وراء من أنت مطارد، وراء كلب ميت وراء برغوث واحد".. لقد وقفت أمام هذه الوداعة مذهولاً، ولم أعرف بين الناس من تفوق عليها سوى واحد جلس -وهو رب السموات والأرض- متعباً على التراب عند بئر سوخار يتحدث مع امرأة ساقطة، بأرق حديث يمكن أن تسمعه الأذن البشرية، وهو القائل: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.. كان يوحنا فم الذهب يقول: إن أساس الفلسفة الوداعة، وبهذا المعنى كان داود فيلسوفاً كبيراً، أدرك أنه مهما يعظم الإنسان فهو دودة حقيرة، هو تراب، هو لا شيء، أمام الله في الوجود!!... طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض!!.. داود المحب الكبير ومع أن هذه الصفة كان يمكن أن نضعها أول صفات داود، لكني آثرت أن أضعها الصفة الثامنة، التي نحزم بها صفاته، وهي كما يقول الرسول بولس "رباط الكمال"،.. وفي الحقيقة أن هذه الصفة تقف خلف صفاته جميعاً، وتعطيها الحياة والقوة والغذاء لقد أحب الله، وأحب الآخرين، وأحب الخدمة، وحول هذا الحب مزامير خالدة في مسمع الله والإنسان: "أحبك يا رب قوتي" "أحببت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي" لقد أعطى الله كل حبه، وعندما رقص أمام التابوت بكل قوته، كان يرقص رقصة الحب الكامل لله، وعندما جلس في حضرة الله وهو يصرخ غارقاً في فيضان هذا الحب: "من أنا يا سيدي الرب وما هو بيتي حتى أوصلتني إلى ههنا"... وإذ خاف أن يتراجع إحساسه في يوم ما هتف هتافه العميق: "باركي يا نفسي الرب وكل ما في بطني ليبارك اسمه القدوس باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته"... وعندما أحب الناس، أحب الجميع. كان حبه ظاهراً في نشيده الذي رثى به يوناثان: "قد تضايقت عليك يا أخي يوناثان كنت حلواً لي جداً محبتك لي أعجب من محبة النساء".. لم يكن داود "المحبوب، بل أكثر من ذلك "المحب"، وقد صدق من قال: إن تكن محبوباً ذاك لا شيء أما أن تحب فذاك كل شيء!!. داود ومدارسه الكبرى وقف واحد من شعراء الغرب -من ابن يسى الأصغر- يهتف للوجه الوديع، والدهن المهراق ينساب على رأسه وهو يواجه خدمته المليئة بالتعب والمجد، وتابعه في القصر الملكي، وفي ميدان المعركة، وهو يلمع بالرجاء، وهو محاط بالعزلة، والجروح التي أتته من الصديق، والعطايا التي أخذها من الأعداء،.. والحياة الممتلئة بالإيمان، والذنب، والدموع والدماء، والانتصار. ولعلنا مع هذا الشاعر وغيره نسأل: ما هي المدارس التي دخلها داود وصنعت منه الشخص العجيب الذي أشرنا إليه، وعرفه التاريخ؟!!.. لعلها: مدرسة الآباء والأجداد كان داود أكثر أولاد يسى التقاطاً لتاريخ آبائه وأجداده، ومع أننا لا نكاد نعرف الكثير عن يسى أبيه سوى أنه ابن عوبيد بن بوعز من راعوث، ومع أننا لا نعرف شيئاً عن أمه،.. إلا أنه يبدو بوضوح أن الصبي كان على أوفى علم بتاريخ آبائه وأجداده وأنه كان غنياً جداً بالذكريات التي جاءته عن هؤلاء الآباء، وعن معجزات الله معهم، وأنه إذا كان جدعون قد تساءل في حزن وألم عن العجائب التي حدثه آباؤه عنها، والتي صنعها معهم الرب،.. فإن داود كان أكثر تفهماً وشوقاً لهذا الإله، وكان ينتظر من بكور الحياة أن تأتي الكثير من صور العجائب والمعجزات على يديه!!.. كانت مدرسة الآباء والأجداد من أخصب مدارس الحياة في الابن الأصغر ليسي البيتلحمي، وعلى وجه الخصوص أنه كان من النوع الذي يحن إلى الذكريات القديمة، وقد حن ذات يوم إلى جرعة من البئر التي كان يشرب منها من أيام الصبا،.. ومن المؤكد أنه كان يشرب جرعات حلوة كثيرة، من بئر الذكريات العظيمة لآبائه وأجداده الأقدمين!!.. مدرسة الطبيعة وجهت "هيلين كيلر" سؤالاً عجيباً -وهي عمياء وصماء وبكماء- إلى عدد كبير من الأزواج: ما لون عين زوجتك؟!! ومن الغريب أن أكثرهم –وقد فوجيء بالسؤال لم يستطع أن يصف لون عين زوجته!!.. وما أكثر الذين لهم العيون التي تبصر ولا تتأمل، لكن عين داود لم تكن من هذا النوع، وهي تتأمل الطبيعة العظيمة، التي صنعها الله!!.. لقد أمسك الرجل قيثارته وغنى أحلى الأغاني، وهو يرى هذه الطبيعة الفاتنة: “أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض… حيث جعلت جلالك فوق السموات… إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده” “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، يوم إلى يوم يذيع كلاماً وليل إلى ليل يبدي علماً لا قول ولا كلام لا يسمع صوتهم في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم، جعل للشمس مسكناً فيها وهي مثل العروس الخارج من حجلته، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق، من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيهاولا شيء يختفي من حرها”.. كان “صموئيل كوكس” يضع زهرة بيضاء تذكره بجمال الله ونقاوته وقداسته، وهو يعمل بين العمال الذين امتلأت حياتهم من طين الخطية والدنس، واستنشق داود أجمل الزهور، وعلمه شذاها أن يغني أحلى الأغاني لله!!.. مدرسة الألم لم تكن الحياة عند داود سهلة هادئة رضية، بل هو الرجل الذي التقى بكافة ألوان الصعاب والمتاعب من مطلع حياته إلى نهايتها وكان أشبه بذلك الإنسان الذي صاح طالب أن يرفع الله عنه الحمل الثقيل، وأجاب الله على صلاته، ولكن بصورة أخرى إذا أعطاه الكتف القوية التي تستطيع حمل الحمل... ونحن نستطيع أن نصور لك الطريق التي سار فيها، والتي التقى فيها من الشباب الباكر بالدب والأسر، وجليات وشاول، وسار ليرى أبشالوم وأخيتوفل وشمعي بن جيرا، ويوآب بن صرويه، وغيرهم ممن حولوا حياته تعباً وألماً وعذاباً متصلاً، فإذا تركنا التي جاءته خطيته البشعة، في قصة بثشبع وأوريا، وإذ تجاوزنا تلك التي جاءته من غفلته وحماقته، يوم ترك صقلغ دون حماية، فأحرقت عن آخرها، فإن السؤال ما يزال باقياً: لماذا يسمح الله بالعذاب من مطاردة شاول له سنوات متعددة، لا يصبح فيها بائساً فحسب، بل -أكثر من ذلك- زعيم البؤساء إذ لحق به كل متعب ومدين ومتضايق وجرب فيها أن يسلك سلوك الأفاقين الجائعين السالبين، حتى شاء الله أن يضع في طريقه أبيجامل لتمنعه من سفك الدماء وانتقام يده لنفسه؟!! إن الجواب على ذلك واضح في أن مدرسة الألم كانت مدرسة التدريب التي يبدو أنها ضرورية في حياة جميع أولاد الله، وهم يسيرون في الطريق الضيق في الأرض، كما أني كشفت في الوقت عينه الإحسان والرحمة والخير والجود التي لا يترك الله أولاده دون أن يرتوا منها، فإذا ظهر في الطريق شاول، فإن هناك يوناثان، وإذ ظهر أخيتوفل، فإن هناك برزلاي الجلعادي، وإذا ظهر نابال، فهناك أبيجايل، وهكذا،… وهي –إلى جانب هذا كله- المدرسة التي تكشف عن انتصار الله الأعظم،… وهي التي علمته أن أشد الظلمة ما كانت خلف الباب، فإذا قيل عنه أنه عندما دخل صقلغ، وكانت المدينة كتلة من الفحم الأسود، وكانت –إذا جاز التعبير “الهباب” الذي وصل إليه، فإنه بعد أيام لا يسترد فقط كل ما أخذ منه بل ينادي به ملكاً على بلاده!!… لقد رأى خلال الألم أغلى الدروس وأعمقها مما سار مطبوعاً في وجدانه مدى الحياة!!.. مدرسة الواجب وقد تكون هذه المدرسة أعلى مدارس داود وأعظمها، إذ أن الواجب علمه الأمانة إلى الموت وكم وقف هذا الرجل على أبواب الموت وهو يقدس الواجب ولو أنه عاد إلى أبيه يوم هاجمه الدب والأسد، واختطفا الشاة الصغيرة، دون أن ينقذها لما لامه أبوه أو لامه أحد، لكن واجبه المقدس هو الذي دعاه أن يغامر بحياته لإنقاذها،... ومع أنه كان أصغر جداً من أن يواجه جليات، لكن الواجب المقدس عاد مرة أخرى ليرتفع أمام عينيه، وهو يرى أن الحياة لا معنى لها، أمام عملاق يجدف على إلهه ويهين مجده!!..عندما طلب إلى "ليفنجستون" أن يعود إلى انجلترا، وقد داهته الأمراض والمتاعب،.. أجاب الرجل الذي قدس الواجب: أن أعود إلى انجلترا لتكرمني الملكة، هذا شيء عظيم،.. لكني لا أستطيع لأجل رسالتي العظميى التي يطلبها مني يسوع المسيح!!... ولقد أخذ جسده بعد أن مات ليدفن في مقابر العظماء بانجلترا،... لكنه كان جسداً بلا قلب، لأن وصيته أن ينزع قلبه ليدفن في أفريقيا، في البلاد التي أحبها وخدم سيده فيها!!.. لقد عاش ومات وقلبه للمسيح في خدمة أفريقيا!!.. كان الإحساس بالواجب هو رسالة داود العظيمة من مطلع العمر إلى نهاية الحياة!!.. داود وضعفاته المحزنة لست أدري لم حرص الكتاب المقدس على أن يبرز ضعفات داود، ومنها ما لا يسقط فيه أبسط المؤمنين وأضعفهم؟!! أغلب الظن أن الكتاب أراد أن يحذرنا جميعاً (أقوياء وضعفاء) بأن قتلى الخطية أقوياء، وأنه لم ينتصر عليها في الأرض سوى شخص واحد، قال: “من منكم يبكتني على خطية” وأننا ينبغي أن نجاهد حتى الدم ضد مكرها، وختلها، وكذبها، وغدرها، وسلطانها،.. على أنه في الوقت نفسه أعطانا أنشودة الرجاء، لأنه ليس المهم –كما قال أحدهم- أن يسقط المرء كما سقط داود سقطته الشنيعة، التي لم يعرف شاول بن قيس مثيلاً لها، لكن الأهم أن شاول بن قيس لم يعرف في حياته المزمور الحادي والخمسين مزمور التوبة أمام الله… وعندما نتحدث عن خطايا لنكن مشبعين بالحذر، وبالرجاء أيضاً!!.. ولنعلم أننا ضعفاء مثله، وأقوياء بالرب أيضاً عندما نلوذ برحمته وإحسانه وجوده!!.. ضعف الإيمان وهل رأيت العملاق، وهو يواجه الدب والأسد، وجليات، والقائل إن نزل على جيش لا أخاف؟؟ هذا العملاق، عندما يطارد شاول ويصيبه الإعياء، يضعف ويصبح واحداً منا، ويقول ليوناثان بن داود "كخطوة بيني وبين الموت"، وعندما يذهب إلى أخيش ملك جت، ويسمع الملك من عبيده: "أليس هذا داود ملك الأرض، أليس لهذا كن يغنين في الرقص قائلاً ضرب شاول ألوفه وداود ربواته، فوضع داود هذا الكلام في قلبه وخاف جداً من أخيش ملك جت فغير عقله في أعنيهم وتظاهر بالجنون بين أيديهم وأخذ يخربش على مصاريع الباب ويسيل ريقه على لحيته فقال لعبيده هوذا ترون الرجل مجنوناً فلماذا تأتون به إلى العلي محتاج إلى مجانين حتى أتيتم بهذا ليتجنن علي، أهذا يدخل بيتي"وأكثر من هذا أن الرجل بعد فترة من الزمن عاد إلى أخيش، وأعطاه أخيش صقلغ، وكاد يحارب مع أخيش ضد شعبه وقومه،.. وهي فترات قاسية مظلمة ليس من السهل تصورها،.. ولكنها الصورة المحزنة عندما يضعف الإيمان في حياة الإنسان حتى ينقذه الله مرات أخرى ليعود إلى إيمانه الأول القديم!!.. ضعف التسامح ومع أن هذا الرجل كان صارم العدالة مع العماليقي الذي ادعى أنه قتل شاول وحمل إليه سلاحه، ومع الاثنين اللذين قتلا ابن شاول غدرا وغيلة تقرباً منه، إلا أن عواطفه تذبذبت مع ابنه أبشالوم صعوداً ونزولاً، فالولد إذ يقتل أخاه ويهرب، يعاوده الحنين من ناحيته، وإذ يعود بوساطة يوآب يسامحه داود بشرط ألا يرى وجهه، وإذ يثور عليه، ويعلن الفتنة ضده، لا يستطيع تنفيذ العدالة كاملة، كما فعلها يوآب، بل يبكي على ابنه ويتمنى لو ذهب هو مكانه في الموت،.. ومع أنه حلف لشمعي بين جيرة الذي لعنه قاسية ألا يموت، إلا أنه لم ينس إلى الموت هذه اللعنة، وطلب من سليمان أن يتعامل معه بالحكم التي تحدر شيبته إلى الهاوية، ومع أن يوآب خدمه خدمات لا يمكن أن تنسى، إلا أنه لم يستطع نسيان ما عاناه منه، وضم هذا إلى دم أبنير بن نير وعماسا بن يثر، وطلب من ابنه أن يتعامل معه بالصورة التي تحدر شيبته إلى الهاوية أيضاً!!.. ومع أن الكثيرين من الشراح يلفتون أنظارنا إلى أنه من الخطأ أن نحكم على داود وتصرفاته، بما علمنا إياه ابنه العظيم سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول...".. وأن داود في الكثير من هذه الأوضاع كان يتكلم بصفته الحاكم العادل الذي ينبغي أن يقتص عدالة الله من المذنب والمجرم، وأنه وإن كان قد سمح لشمعي بن جير أن يعود إلى بيته بقسم لا يستطيع تجاوزه، لكن شمعي كان ظالماً ينبغي أن ينال عقابه ولو بعد زمن لا لأنه أهان إنساناً، بل لأنه افترى على مسيح الرب بكل افتراء وتضليل، وأنه وإن كان قد أخذته الشفقة على ابنه فإنه كان يمثل صراع العدالة والحب في قلب ملك وأب في نفس الوقت!!.. أياً كان هذا كله، فإن الرجل كان أضعف من أن يصل إلى رحمة ذاك الذي قال عن صالبيه: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!!.. وأن المسيحية في شوطها الطويل نحو الغفران، كان لابد أن تصل إلى نور الظهيرة إذا قورنت بالشفق الجميل يظهر ساعة الشروق!!.. وأن داود مهما وصل في سمو نفسه، فهو واحد منا نحن الضعفاء الذين تتذبذب عواطفنا، بين السمو والانحدار،.. وأنه واجبنا الدائم أن ننتصر على الإنسان الضعيف فينا، لئلا نصل في ضعفنا إلى طلب القضاء على خصومنا ونحن على أبواب الموت والنهاية الأرضية.. السقطة الكبرى على أن هذه كلها، مهما كانت محزنة ومؤلمة، لا شيء على الإطلاق إلى جانب سقطته، بل وصمته الكبرى التي هوى فيها من القمة إلى القاع، في لحظة واحدة، وقد حرص الكتاب على تدوين القصة بكل بشاعتها ولوثتها وخستها، لكي تبقى مدى الأجيال عظة للأقوياء قبل الضعفاء، وللجبابرة قبل العاديين وللذين يأخذون المراكز في الصفوف قبل الذين هم في آخر الصفوف، أنه لا توجد في الإنسان مناعة ضد ميكروب الخطية،.. وأن جراثيمها يمكن أن تتكاثر وتسقط أعظم الأبطال، لولا رحمة الله ونعمته،.. ولقد عرف الشيطان كيف يأتي إلى الرجل، لقد جاءه في وقت الفراغ، وربما إهمال الواجب،.. كانت هناك معركة، ولو قاد داود الجيش، وقاتل في المعركة، لنجا،.. لكنه ترك غيره يؤدي الواجب، وصعد هو إلى أعلى السطح، ليرى امرأة تستحم، ومهما يكن جمال هذه المرأة، فإنها نعجة، لا يمكن أن تكون أجمل وأندر من النعاج الأخرى التي تملأ بيته،.. ولكنها الغريزة القبيحة في الإنسان التي تجعله يرى الممنوع -مرغوباً فيه، منذ ذلك اليوم الذي فيه أكل آدم من الشجرة الوحيدة المحرمة، دون أشجار الجنة العديدة الحلوة الشهية الثمر،... إلى أي حد كان بيت أوريا قريباً من بيت داود، لست أعلم!!؟.. لكنه يبدو أن التجربة كانت أقرب إليه بالكيفية التي خدرته، ولم يستطع معها محاولة الهروب،.. لكن لكن الأمر كان أفظع وأشد أو كما يقول توماس جودين في دراسته العميقة عن "تعدي الخطية": أنه أمر أوريا أكثر من "بثشبع" الذي أوقد غضب الله ضد داود،.. فإذا كانت الخطية قد فاجأته مع بثشبع، وأنه غلب منها بعنصر المباغتة والمفاجأة، فإن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة لأوريا، ورفض الذهاب إلى بيته، فإذا لم يفلح التمويه، فلتكن القسوة الشديدة التي تترك البطل في مواجهة الحرب، مع التوصية بالتخلي عنه وتركه ليواجه الموت!!.. إن الخطية، تجر في ذيلها دائماً خطايا كثيرة متعددة، أشنع وأرهب وطريقها دائماً منزلق يسقط القديس الجالس على القمة إلى المنحدر الرهيب،.. والتستر على الخطية، يضيف إليها، خطايا أخرى متعددة، الكذب والغدر والنفاق والقسوة والكبرياء، والرياء،.. وأشر ما في الأمر أن داود استمر على هذا الحال ما يقرب من سنة حتى ولد الولد، وجاءه ناثان النبي،.. هل ذهب إلى بيت الله، هل رنم مع المرنمين؟؟ هل صلى مع المصلين؟؟ إننا نحمد الله كثيراً لأنه لم يترك مزموراً من مزاميره الخالدة في فترة الإثم،.. لقد تحطم تماماً، وعندما غنى مزمور التوبة العظيم كانت طلبته إلى الله "رد لي بهجة خلاصك" لأن الرجل لم تعد تحلو له القيثارة المغنية، ولم يعد له الصوت الطروب، ولم تعد له نقاوة القداسة، لقد أضحى صورة مخدوعة مخادعة للكثيرين والكثيرات!!.. كانت خطيته شنيعة هيهات أن تقتصر عليه، بل تجاوزت الظلام، لأنه ليس خفي لا يعرف ولا مكتوم لا يعلن أو يكشف، وكانت عثرة رهيبة للكثيرين من ذوي الإيمان النقي، وكانت شماتة وسخرية من أعداء الله والحق، وعلى قدر ما يأخذ الإنسان من امتياز ويتحمل من مسئولية على قدر ما تكون خطيته، لقد كانت خطية بيلاطس البنطي عظيمة جداً، لكن المسيح مع ذلك قال له: "لذلك أسلم إليه له خطية أعظم" لأن الذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر!!.. لماذا لم ينهض من تلقاء نفسه، ولما انتظر سنة بأكملها حتى جاءه ناثان النبي، أغلب الظن أنه كان أشبه بالوعل في الشبكة، أو العصفور في القفص، أو السمكة في السنارة،.. عندما ثار عليه الضمير، تصوره البعض يحاول مستميتاً أن يثبت أنه لم يفعل شيئاً،.. إنه ملك، وحقه على الرعايا لا ينازع فيه أحد، سواء كانت بثشبع أو أوريا، وله أن يتصرف فيهما كما يشاء أو يريد،.. ثم إنه لم يقتل أوريا، ولم تمتد عليه يد إسرائيل، بل قتل في الحرب، وحتى لو ذهب إلى أقسى مكان، فإن الله لو أراد له أن يحيا لأبقاه، والأرواح كلها بيد الله،.. وعندما مات لم يتنكر لزوجته فقد ضمها إليه، ورفعها إلى مركز الملكات، والوليد الذي جاء منها اعترف به، وأحبه، وتمنى أن يعيش!!... كل هذه وغيرها كانت بعض خياله حتى جاءه الحق أبلج كالنور ليقول: أنت هو الرجل!!.. إن السؤال الآخر الذي يمكن أن تلقيه علينا هذه القصة. كيف تاب داود، وما عناصر توبته الصحيحة؟!!.. من الغريب جداً أن داود يعتبر الشخص الثالث في هذه التوبة، وليس الأول أو الثاني،.. إن الأول هو الله الذي مد يده إلى الأسير في الخطية والله دائماً هو المحرك الأول لكل توبة في حياة الإنسان، ألم يقل إفرايم في لغة إرميا: "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" وألم يقل الرسول بولس: "لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون".. والله دائماً هو الأعظم ألما، والأكثر رغبة، في أن ننهض من آثامنا، ونقوم من خطايانا،.. وكان الشخص الثاني ناثان النبي، ولم يتحرك ناثان من تلقاء نفسه بل حركة الله: "فأرسل الرب ناثان إلى داود".. وكان ناثان من أبرع الناس وأحكمهم وأشجعهم، والمثل الذي ينبغي أن يحتذى عندما يحمل المرء رسالة الله للناس، أن الشجاعة لابد أن تكون مقرونة بالحكمة والحكمة لابد أن تكون متسمة بالشجاعة، ونحن نعظهم أو نوبخهم، والله لا يطالبنا أن نكون مندفعين بدعوى الشجاعة أو الصراحة، ونحن نكلم الناس عن خطاياهم لأن رابح النفوس،.. وقد قال سقراط في بعض حكمه إذا وجدت ثوراً هائجاً، فليس من الشجاعة أن تقف في طريقه معرضاً صدرك لقرونه، بل إن الشجاعة أن تعرف كيف تقيده بالحرص والحكمة!!.. وكم يخطي بعض الوعاظ أو الخدام، أنه ما دامت هناك خطية ليقذفها الإنسان بكل حجر ممكن،.. لقد قتل داود جليات بحجر أملس، وقد جاءه هنا الحجر الأملس القاتل للخطية، من فم ناثان،.. لقد جهزه بالقصة المثيرة عن العدالة، وإذ رفع فيه روح العدالة، لم يفزع بعد ذلك، حتى ولو وضع رأسه على كفه أن يقول له: أنت هو الرجل!!.. كان دادو محظوظاً بإلهه، وكان داود محظوظاً بالواعظ الشجاع الحكيم الذي أيقظ إحساسه بالتوبة، ليكتب مزموره العظيم المزمور الحادي والخمسين، ولعلنا نلاحظ أن هذا المزمور قد سلم لإمام المغنيين، ليكون اعترافاً علنياً أمام الله والناس بالتوبة الصادقة!!.. ولعله من الغريب أن تلاحظ أن داود قال في المزمور: "إليك وحدك أخطأت" مع أنه أخطأ إلى بثشبع، وإلى أوريا، وإلى الأمة، ولكنه لم ير واحداً منها جميعاً، لأنها ابتلعت جميعها في الخطية أمام الله، وهو لم يعد يرى في الوجود كله، إلا الخطية، والخاطيء، والله، وخطيته أمام الله تجب كما يقولون رجال القانون كل خطية، وتحتويها، وتتضمنها،.. ومن الغريب أن هذا هو إحساس بولس عندما ركز النظر في خطيته بكيفية لم يعد يرى خاطئاً آخر أثقل منه وأرهب، وصاح: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا..".لم يكن داود في مزموره يبالي بما يصنعه الله به، أو أي عقوبة يوقعها عليه، إنما كان يعينه شيء واحد لا غير أن لا يطرح من أمام الله، أو يبعد عن وجهه: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني"لم تكن الخطية منفردة، بل مست الأمة كلها، وحتى لا يتصور الناس أن الله لا يبالي بالخطية، حفظ الله روحه، وكشف في الوقت نفسه عن عدالته الصحيحة، فإذا كان قد قتل أوريا بسيف بني عمون، فسيلحق السيف بيته إلى الأبد، وإذا كان قد ارتكب الخطية في جنح الظلام، فسيأتي أقرب الناس إليه ليضطجع مع نسائه في وضح النهار، وتحت عين الشمس!!..كان الله صادقاً، وكان عادلاً، وكان محباً،.. ومات الولد، لكن من العجيب، أن أخاه سليمان سيكون هو المختار للملكة من بين أبناء داود، والذي من نسله يأتي المسيح مخلص العالم!!.. داود وخدماته ولعل آخر ما تنتهي به في قصة داود خدماته: "بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد".. ومع أنه ليس من السهل ذكر هذه الخدمات جميعاً، لكن يمكن أن نشير إلى أشهرها.. خدم مؤسساً وقد أسس هذا الرجل امبراطورية واسعة، ووحد الأمة بأكملها، حتى أنه يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة الإسرائيلية، ويعتبر داود بحق من أقدم الملوك الذين يمكن أن يوصفوا بالقول: "بناة الملك" استولى على أورشليم التي كان يقطنها اليبوسيون المنحدرون من نسل كنعان، والتي كان يحكمها ملكي صادق أيام إبراهيم، وهي مدينة حصينة تقع على بعد ثلاثة وثلاثين ميلاً من البحر الأبيض، وأربعة عشر ميلاً من البحر الميت، وعندما أراد داود الاستيلاء عليها سخر منه أهلها، فقالوا هازئين ما معناه، إنهم سيجعلون من العميان والعرج حراساً لها، وعلى داود أن ينجح في مقاتلة هؤلاء إذا أراد أن يدخلها، ومن الجائز أنهم جاءوا بجماعة منهم على أسوار المدينة، وكانت هذه منتهى السخرية بداود وقوته، ومنتهى الاعتداد بقوتهم هم،.. وأخطأ اليبوسيون قوة خصمهم وبسالته وجرأته، وأكثر من ذلك نسوا قوة الله التي معه، وسقطت أورشليم في قبضة داود، وأكثر من ذلك نجح داود في تأسيس الدولة وتقويتها، لكي يقدمها لسليمان عزيزة من كافة الجوانب العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والروحية!!. خدم معطياً ولا شبهة في أنه قدم هبات كثيرة مادية للفقراء والمعوزين والمحتاجين، لكن أعظم عطاياه المادية كانت ما جهزه لبناء بيت الله، لقد أراد داود أن يبني بيتاً لله، إذ لم يرق في نظره أن يكون بيته أفضل من بيت الله، ومع أن الله رفض طلبه لأن يده تلوثت وتخضبت بالدماء، والله لا يريد لبيته -الذي يرمز إلى عظمته ومجده ونقاوته وسلطانه- أن تبنيه يد ملوثة بالدماء، ومع أن الله بيَّن أن البيت سيبنيه ابنه، إلا أن ذلك لم يمنع داود من أن يقدم هباته بسخاء إعداداً لهذا البيت، ولعل ما كتبه الكسندر هوايت بهذا الصدد أجمل ما كتب على الإطلاق إذ قال: "إن الله وحده هو السيد الذي يقدر نية عبيده كما يقدر خدمتهم، والله وحده هو الذي يعطي الأمر الكامل على هذه النية، كما يعطي على أفضل خدمة يقوم بها الإنسان، فواحدة من أعظم وأحسن خدمات داود لم تخرج عن حيز النية الطيبة، لكن الله كافأ داود على هذه النية وأجزل له العطاء كما لو أنه عاش ليرى قباب الهيكل تقع تحت ضوء الشمس".. ومع أن حرمان داود من القيام بهذا العمل العظيم كان له ولا شك وقع قاس على نفسه، إلا أنه جلس في حضرة الرب ليشكر إحسانات الله الغامرة التي أحس أنه صغير وقليل إزاءها، الإحسانات التي لم تكتف أن ترفعه هو، وتتمشى معه، وتحسن إلى الشعب الذي يملك عليه، بل أكثر من ذلك منحته عهداً أبدياً مباركاً في نسله الذي يثبت كرسيه إلى الأبد... في المسيح ابن الله المبارك إلى أبد الآبدين... خدم مرنماً لقد انتهت خدمات داود المادية، سواء في الامبراطورية التي أسسها أو الهيكل الذي أُعد له، ونقض، وامتدت إليه يد الخراب، ولكن داود مرنم إسرائيل سيبقى ما بقيت الأرض، وما بقيت هناك موسيقى تعزف بين الناس، هل قرأت أو غنيت معه مزاميره الخالدة العظيمة، نحن لا نستطيع أن نتحدث عن القيمة الروحية لهذه المزامير العظيمة، وسنأخذ على سبيل القياس لا الحصر واحداً منها، وهو المزمور الثالث والعشرين مزمور الراعي، هذا المزمور الذي يطلق عليه بلبل المزامير والذي وصفه هنري وردبيتشر بالقول: "إنه هدأ أحزاناً كثيرة أكثر من كل ما صنعته فلسفة هذا العالم، وأعاد إلى السجن أفكاراً رديئة، وشكوكاً سوداء، وأحزاناً مسرنة أكثر من الرمال التي على الشاطيء.. لقد عزى ذلك المجموع النبيل من الفقراء، وأعطى الشجاعة لجيش الفاشلين، وأرسل بلسان وسكينة إلى قلوب المرضى، وأسرى السجون، والأرامل في حزنهن القاسي، والأيتام في عزلتهم الشديدة، كما أن الجنود المتحضرين ماتوا بسكون وهم يستمعون إلى هذا المزمور، بعد، بل سيغني لأولادي وأولادهم كل الأجيال، ولن يضم جناحيه حتى يصبح السائح الأجير آمناً، عندما ينتهي الزمان، وعندما يطهر راجعاً إلى أحضان السماء، وتختلط موسيقاه بألحان وأنغام الفرح السماوي الأبدي"!!
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل