المقالات
02 يناير 2021
تأملات روحية «والكلمة صار جسداً»
(يو 1: 14)
خلقة الله للإنسان:-
منـذ الأزل يحيـا الثالـوث القدوس: الآب والابـن والـروح القدس، في شـركة المحبة الإلهية، مكتفياً بهذه الشركـة العميقة بين أقـانيم الثالـوث القدوس في الجوهـر الإلهي الواحـد، كمُحب ومحبوب ومحبة، فجوهـره الإلهي هـو المحبة: «الله محبة» (1يو 4: 8).ولكـن الله مِـن فيـض محبتـه وعِظَـم جُـوده وصلاحه، خَلَـق الخليقة وأوجدها مـن العدم وبدون مادة موجودة سَلَفاً (كما كـان يُروِّج بعض الفلاسفة أنَّ المادة أزلية)، بل بكلمته الحيَّة، كما يقـول بـولس الرسـول: «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ الْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ اللهِ حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُـوَ ظَاهِرٌ» (عب 11: 3). ولأن الله هـو نبع الصلاح والمحبة، فقد خَلَقَ الإنسان واهباً إيَّاه نعمـة الخِلْقة على صورتـه ومثاله، مـانحاً إيَّاه الحيـاة الأبـديـة إن ظـلَّ الله في معرفـة الإنسان، طائعاً لأوامره الإلهية ووصاياه.وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي [الله صالحٌ، بل هـو بالأحرى مصدر الصلاح. والصالح لا يمكن أن يبخل بـأيِّ شيء، وهـو لا يحسد أحداً حتى على الوجود. ولذلك خَلَقَ كلَّ الأشياء مـن العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا. وبنوعٍ خـاص تحنَّن على جنس البشر. ولأنـه رأى عـدم قُدرة الإنسـان أن يبقى دائماً على الحالة التي خُلِقَ عليها، أعطاه نعمةً إضافية، فلم يكتفِ بخَلْق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض؛ بـل خلقهـم على صـورتـه، وأعطاهم شركة في قوة كلمته، حتى يستطيعوا - بطريقةٍ ما، ولهم بعضٌ مـن ظِلِّ الكلمة، وقـد صاروا عُقـلاء - أن يبقـوا في سـعادةٍ ويَحْيَوْا الحيـاة الحقيقيـة، حيـاة القدِّيسين في الفردوس](1).
سقوط الإنسان:-
ولأن الله خَلَق الإنسـان على صورته ومثاله، ومِـن سـمات هـذه الصـورة العقل والحريـة والإرادة، دون سائر المخلوقـات الأرضية؛ أصبح الإنسان حُرّاً في اختياراته. فإن استمرَّ في طاعة الله وحِفْـظ وصايـاه سيَنْعَم بـالشركـة مـع الله، وسيصل حتماً ليكون على مثال الصورة الإلهية التي خُلِقَ عليها؛ ولكن إن خالَفَ وصايـا الله، ولم يكُن الله هـو مركـز حياتـه، بل ذاتـه وأنانيته هما محـور حياتـه، فحينئذ سيسقط مـن النعمة التي وُهِبَت له، وتُنزَع منه هـذه النعمة الإلهية الحافظـة له، ويُهيمن عليه الفساد، ويسود عليه الموت مع أنه خُلِقَ في البداية ليحيا: «إِذْ لَيْسَ الْمَوْتُ مِنْ صُنْعِ اللهِ، وَلاَ هَلاَكُ الأَحْيَاءِ يَسُرُّهُ. لأَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَ الْجَمِيعَ لِلْبَقَاءِ؛ فَمَوَالِيدُ الْعَالَمِ إِنَّمَا كُوِّنَتْ مُعَافَاةً، وَلَيْسَ فِيهَا سُمٌّ مُهْلِكٌ، وَلاَ وِلاَيَـةَ لِلْجَحِيمِ عَلَى الأَرْضِ، لأَنَّ الْبِرَّ خَالـِدٌ. لكِـنَّ الْمُنَافِقِينَ هُـمُ اسْتَدْعَوُا الْمَـوْتَ بـِأَيْدِيهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ» (حكمة 1: 13-16) وفي هذا الصدد يقول القديس أثناسيوس الرسولي[(لقد) خَلَقَ الله الإنسانَ، وكـان قصده أن يبقى في عدم فساد. أمَّا البشر، فإذ احتقروا التفكير في الله ورفضوه، وفكَّـروا في الشـرِّ وابتدعـوه لأنفسهم فقـد حُكِمَ عليهم بحُكْم الموت الذي سبق إنذارهم بـه. ومِن ذلك الحين لم يبقوا بعد كما خُلِقوا، بـل إنَّ أفكارهم قادتهم إلى الفساد، ومَلَكَ عليهـم المـوت؛ لأن تعـدِّي الوصيـة أعـادهم إلى حـالتهم الطبيعية، حتى أنهم كما وُجِـدوا مِـن العـدم، هكـذا أيضاً بالضرورة يلحقهم الفناء بمرور الزمن](2) ولكـن القديس كيرلس الكبير يُصـرِّح أنَّ ما فَقَدَه الإنسان نتيجة لسقوطه، هـو الروح القدس عينه، ذلك الذي نَفَخَه الله في أنف آدم عندما خَلَقَه على صورتـه ومثالـه، وبـالتالي صـار الإنسان مُعرَّضاً لكلِّ عوامل الفساد والموت، فيقول[(لقـد) فـارَقَ الـروح القـدس الطبيعـة البشريـة التي صـارت مريضـة في كـلِّ البشر، ولكي تعـود الطبيعة البشريـة مـن جديـد إلى حالتها الأولى (التي خُلِقَـت عليها)، احتاجت إلى رحمة الله، لكي تُحسَـب بموجـب رحمة الله مُستحقَّة الروح القدس](3).
هل التوبة وحدها تكفي لعودة الإنسان
إلى حالته الأولى؟
إن الفساد الذي حـلَّ بالإنسان نتيجة للسقوط، وسيادة المـوت عليـه، قـد هيمَن على الكيـان البشري ككلٍّ. فقد تشوَّهت صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان - ولم يفقدها - لكنه فَقَـدَ القدرة على مُشابهـة هـذه الصـورة الإلهيـة، وذلك بتَعَـرِّيـه مـن الـروح القـدس. فـأصبحت مجـرَّد التوبة، لا تكفي لعودة الكيان البشري إلى ما كـان عليه قبل السقوط، وبالتالي عـدم قدرة الإنسـان على اقتناء الروح القدس الذي فَقَده.ويُوضِّح القديس أثناسيوس الرسولي هذا الأمر بقوله [لكن التوبة تعجز عن حِفْظ أمانة الله، لأنه لن يكون الله صادقاً إنْ لم يظلَّ الإنسان في قبضة الموت (لأنـه تعدَّى فحُكِمَ عليه بـالموت كقول الله)، ولا تقـدر التوبـة أن تُغـيِّر طبيعـة الإنسان، بل كـل ما تستطيعه هـو أن تمنعهم عن أعمال الخطية.
فلو كان تعدِّي الإنسان مجرَّد عملٍ خاطئ ولم يتبعه فساد، لكانت التوبة كافية. أمَّا الآن بعد أن حـدث التعدِّي، فقد تورَّط البشر في ذلك الفساد الذي كان هـو طبيعتهم، ونُزِعَت منهم نعمة مُمَاثلة صورة الله](4) ولكن، ليست التوبة فقط هي التي لا يمكن أن تُجدِّد كيـان الإنسان الذي تشوَّه بـالتعدِّي، ولكن ”بعـد أن خَلَق الله الإنسـان، وصـار موجـوداً، استدعت الضرورة علاج ما هـو موجود (فعلاً)، وليس مـا هـو غير موجود“. وأيضاً لا يمكن لأيَّة خليقة أخرى أن تكـون لديها القدرة على تجديـد خِلْقة الإنسـان على مثال الصورة التي جُبِلَ عليها. فـالإنسان مخلوقٌ على مثال تلك الصورة الإلهية، وليس هو الصورة عينها؛ كما أنَّ أيَّة خليقـة أخرى ليست هي صورة الله التي على مثالها خُلِقَ الإنسان.
هل يمكن تجديد كيان الإنسان بأَمرٍ إلهي؟
ويستطرد القديس أثناسيوس الرسولي في توضيح هذه النقاط قائلاً[في البدء لم يكـن شيءٌ موجوداً بالمرَّة. فكلُّ مـا كـان مطلوبـاً هـو مجرَّد نُطق مـع إرادة (إلهيـة) لإتمـام الخَلْق. ولكـن بعـد أن خُلِـقَ الإنسـان، واستدعت الضـرورة عـلاج ما هو موجودٌ، وليس مـا هـو غير موجود؛ عندئذٍ كـان مـن الطبيعي أن يَظهر الطـبيب والمُخلِّـص فيمـا هـو موجـودٌ، لكي يشفي الخلائق الموجودة (فعلاً) ثم ينبغي أن يُعرَف هذا أيضاً، أنَّ الفساد الذي جرى (للطبيعة البشرية)، لم يكن خارج الجسد، بل كان مُلتصِقاً بـه. وكـان الأمر يحتـاج إلى أن تلتصـق بـه الحيـاة بـدلاً مـن الفسـاد، حتى كما صـار المـوت في الجسـد، تصـير الحياة في داخـل الجسـد أيضاً](5).
وهل يمكن لأيَّة خليقة أخرى
أن تُجدِّد كيان الإنسان؟
وفي مَثَلٍ واقعي يسرد القديس أثناسيوس الرسولي هذه القصة التي توضِّح مَقْصده [أيُّ مَلِكٍ، وهو مجرَّد إنسان بشري، إذا امتلك لنفسه بـلاداً، (فهل) يترك مواطنيه لآخريـن يستعبدونهم؟ وهـو لا يَدَعهم يلتجئون لغيره؛ لكنه يُنذرهم برسائله، ثم يُرسل إليهم أصدقاءه مـراراً، وإنْ اقتضـى الأَمـر يذهـب إليهم بشخصه، لكي يوبِّخهم بحضوره، كآخر وسيلة يلجأ إليها. وكـلُّ ذلك لكي لا يصيروا خُدَّاماً لغيره فيذهب عمله هباءً أَفـلا يُشفق الله بـالأَوْلَى على خليقته، كي لا تضلَّ عنه وتعبد الأشياء التي لا وجود لها، وبالأكثر عندما يَظهر أنَّ هذه الضلالة هي سبب هلاكهم وخرابهم؟! وليس لائقاً أن يهلك هؤلاء الذين قد كانوا مرَّةً شركاء في صورة الله إذن، فما هـو الذي كـان مُمكناً أن يفعله الله؟ وماذا كـان يمكن أن يتمَّ سوى تجديـد الخليقـة التي وُجِـدَت على صـورة الله مـرَّةً أخرى ولكن كيف كـان مُمكناً لهـذا الأمـر أن يحدث إلاَّ بحضور نفس صورة الله، مُخلِّصنا يسوع المسيح؟ فذلك الأمر كـان مُستحيلاً أن يتمَّ بواسطة البشر، لأنهم هُم أيضاً خُلِقوا على مثال تـلك الصـورة (وليسوا هـم الصورة عينـها)؛ ولا أيضـاً بـواسـطة الملائكـة، لأنهـم ليسـوا صُوَراً (لله). ولهذا أتى كلمة الله بذاتـه، لكـي يستطيع، وهـو صـورة الآب، أن يُجدِّد خِلْقـة الإنسـان، على مثال الصورة (الإلهية)](6) ضرورة تجسُّد كلمة الله ذاته رأينا أنه لا توجد وسيلة واحدة تستطيع أن تُحقِّق خلاص الإنسان، وتُجدِّد صورة الله التي جُبِلَ عليها الإنسان والتي تشوَّهت بفعل التعدِّي والسقوط، كمـا يقول القديس أثناسيوس: ”لـو كانت الخليقة كافية، لما حدثت كـل هـذه الشرور الفظيعة، لأن الخليقة كانت موجودة بالفعل، ومع ذلك كان البشر يسقطون في نفس الضلالة عـن الله“. ويستطرد قائلاً: ”لقد سبق وأن أعطى الله البشر إمكانية أن يعرفوه عن طريق أعمال الخليقة. أمَّـا الآن، وبعد السقوط، فإنَّ هـذه الوسيلة لم تَعُد مضمونة، وبالتأكيد هي غير مضمونـة، لأن البشر أهملوهـا سابقاً؛ بـل إنهم مـا عـادوا يرفعون أعينهم إلى فوق، بـل صاروا يشخصون إلى أسفل“(7).فبسبب عدم نفع كل هـذه الوسائل، وأيضاً بسبب أن تجسُّد كلمة الله كان في فكر الله من قبل تأسيس العالم وخِلْقة الإنسان، لذلك يقول القديس كيرلس الكبير[صار الابـن الوحيد كلمة الله إنسانـاً، وظهر للذين على الأرض بجسدٍ مـن الأرض، ولكنه خـالٍ مـن الخطية، حتى فيـه وحـده تُتـوَّج الطبيعـة البشريـة بمجد عدم الخطية، وتغتني بـالروح القـدس، وتتجـدَّد بـالعودة إلى الله بالقداسة. وكما قلتُ، فـإن الطبيعة البشرية قد مُجِّـدَت فيه، وصارت فيـه مُستحقَّة للحصول على الروح القدس الذي لن يفارقها (فيما بعد) كما حدث في البدء، بـل صارت مسرَّتـه (أي الـروح القدس) أن يسـكن فينا. لـذلك أيضاً كُتِبَ أنَّ الـروح القدس حـلَّ على المسيح واستقرَّ عليه (يو 1: 32). فالمسيح هو كلمة الله الذي لأجلنا صـار مثلنا، وفي صـورة العبد، ومُسِحَ كـإنسانٍ حسـب الجسد، ولكنـه كـإله يَمْسَح بروحه الذين يؤمنون به](8)فلا يمكن أن تتجدَّد صورة الله التي تشوَّهت في الإنسان، إلاَّ بواسطة كلمـة الله نفسـه الذي جَبَل الإنسـان على مثـال هـذه الصورة. ولا يمكن أن يُغلَب الموت الذي تغلغل داخـل الكيان الإنساني إلاَّ بواسطـة مَـن هـو الحيـاة عينها، أي كلمة الله، فتتواجَه الحياة مع الموت السائد على الإنسان داخل الطبيعة البشريـة نفسها، والتي اتَّحد بها كلمة الله وشابهنا في كلِّ شيء ما خلا الخطية وحدها. ولكن كما نقول في مَرَد ثيئوطوكية الخميس من التسبحة اليوميـة: ”لم يَزَل إلهاً، أتى وصار ابن بشر، لكنه هو الإله الحقيقي، أتى وخلَّصنا“ويقول القديس أثناسيوس الرسولي[لقـد تحدَّثنا، إذن، وبـاختصار... عـن سبب ظهوره (أي ظهور كلمة الله) في الجسد، وأنه لم يكُن مُمكناً أن يُحوِّل الفاسد إلى عدم الفساد إلاَّ المُخلِّص نفسه، الذي خَلَقَ منذ البدء كل شيء من العدم. ولم يكُن مُمكناً أن يُعيد خَلْقَ البشر ليكونوا على صورة الله إلاَّ هـو صورة الآب. ولم يكُن مُمكناً أن يجعل الإنسان غير مائتٍ إلاَّ ربنا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها](9).
(1) ”تجسُّد الكلمة“، 3: 3.
(2) ”تجسُّد الكلمة“، 4: 4.
(3) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 1.
(4) ”تجسُّد الكلمة“، 7: 4،3.
(5) ”تجسُّد الكلمة“، 44: 4،2.
(6) ”تجسُّد الكلمة“، 13: 5-7.
(7) ”تجسُّد الكلمة“، 14: 7،5.
(8) ”شرح تجسُّد الابن الوحيد“: 1.
(9) ”تجسُّد الكلمة“، 20: 1.
المزيد
01 يناير 2021
شخصيات من الكتاب المقدس داود النبى
"..وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع كل مشيئتي" أع 13: 22
مقدمة
يقول بروفسور بليكي: الناس دائماً واحد في واحد، وأما داود فمجموعة واحدة، إذ قد جمع في شخصيته العظيمة أشتاتاً متعددة من الشخصيات، فهو كأخنوخ في السير مع الله، وكإبراهيم في إيمانه القوي، وكإسحق في تأمله العميق، وكيعقوب في كفاحه ونضاله، وكموسى في التهاب وطنيته، وكيشوع في خياله وهمته، وكجدعون في شجاعته وقوته، وكصموئيل في عدالته وغيرته، كان نبياً، وكان شاعراً، وكان مرنماً، وكان ملكاً، وكان إنساناً، كان كل هذه على حدة، وكان كل هذه مجتمعة معاً!!.. يقول هيجل الفليسوف: إن الشخصيات العظيمة تلقى علينا المزيد من المتاعب في تحليلها، للصفات المختلفة المتباينة فيها، وقد دعا مكارتني داود: "الرجل المتناقض" الذي جمع ما يشبه المتناقضات في حياته،.. وإذا كان فوسدك قد ذكر أن المسيح هو الإنسان الوحيد الكامل الذي وازن بين الكمالات الإلهية في نفسه، كاللطف والصرامة، والفرح والحزن، والغيرة والمحبة والقداسة، فلا توجد فضيلة فيه على حساب الأخرى، فإن داود ربما كان أقرب الناس إلى ابنه الأعظم، مع فارق التناقض الواسع الذي سببته الخطية في حياة الملك الإسرائيلي القديم، ومع ذلك فإن هذا الرجل هو الذي قال عنه الله: "وجدت داود بن يسى رجلاً حسب قلبي الذي سيصنع مشيئتي!! لم يكن داود معصوماً كالمسيح، ولكنه أدى دوره في الحياة، ويكفيه فخراً أن يكون من أقرب الكواكب اللامعة، إلى شمس البر، إلى ابن الإنسان، إلى ابن الله!!.. وأرجو أن تعلمنا قصته في الصواب والخطأ، كيف نتمسك بالصواب وننتصر على الخطأ، ولذا أرجو أن نراه من النواحي التالية:
داود وشخصيته العظيمة
اسمه داود أو "المحبوب" يعتقد أنه ولد على الأغلب في عام 1085ق.م أو نحو ذلك، وأبوه يسى البيتلحمي، وكان له سبعة من الأخوة وأختان، ومسح على الأغلب في السابعة عشرة من عمره، وصرع جليات وهو في العشرين، وملك على بيت يهوذا في الثلاثين، وعلى كل إسرائيل في السابعة والثلاثين والنصف من العمر، ومات في السبعين أو حوالي 1015ق.م على حساب بعض الشراح،... ومع أنه كان أصغر أولاد يسى، إلا أنه كان أقرب إسرائيلي إلى قلب الله،... ولعلنا ندرك هذه الحقيقة من خلال ما تميز به من صفات.
داود الحلو الجميل الروح
وهذه أول صفة تقابلنا مع هذه الشخصية القديمة: "وكان أشقر مع حلاوة العينين وحسن المنظر"... ومن المؤكد أنه إذا قورن باليآب أو أبيناداب أو شمة أو واحد من إخوته الآخرين، لربما تفوق عليه واحد في الجمال الجسدي، ولكن قياس الله يمتد إلى الداخل، ولا يقف عند منظر العينين أو طول القامة، بل يتغور إلى القلب،.. لم يكن في إسرائيل من هو أطول من شاول،.. لكن قلبه مع ذلك كان أبعد القلوب عن انتظار الله،... لكننا نأتي الآن أمام قلب بشري، كان حلواً وجميل الروح أمام الله،.. إن مأساة الإنسان في العادة أنه يقيس الأشخاص بمقاييس تختلف عن مقياس الله، فقد يقيسهم بالسن، والأكبر هو الأفضل، ولو صح هذا من الوجهة العسكرية أو السياسية، لما سمح اليونانيون للإسكندر الأكبر أن يقود جيوشهم وهو في العشرين من عمره ليغزو العالم وهو في الثلاثين، ولما قادت جان دارك الجيش الفرنسي وهي في الثامنة عشر من عمرها، ولما ظهر وليم بت في انجلترا، وهو من ألمع السياسيين في كل تاريخها الطويل!!... ولو أن القياس بالجمال الجسدي لأخرجنا الكثيرين من عباقرة الدنيا وفلاسفتها العظام، ولما أتيح لسقراط أن يرسخ فلسفة اليونانيين، ولتوماس كارليل أن يبدع بين الانجليز، ولما استطاع ملتون الأعمى أن يرسل إلينا روائع الفردوس المفقود والمردود!!.. ولو حكمنا على الناس بثرواتهم. لأخرجنا من الدائرة الصيادين تلاميذ المسيح، بل أكثر من ذلك لأخرجنا من العالم سيد الكل: "الذي لم يكن له أين يسند رأسه".. إن القياس الأعظم في الإنسان يتمشى على ضربات قلبه ووجيب مشاعره وعمق أسراره،.. مع القلب المجدد النقي الطاهر أمام الله!! متى ولد داود الولادة الجديدة؟ لا نعلم، غير أنه من المؤكد أنه عرف الله وتمتع بالميلاد الثاني قبل مسحه ملكاً،…. وأنه من الصباح الباكر في الحياة عزف بقيثارته أمام الله، أحلى الأغاني وأروع الأناشيد!!… ما أسعد أن يأتي أولادنا في صبح الحياة أمام الله كداود، وما أجمل أن يغنوا له كالعصافير المبكرة في أعشاشها، قبل أن يسمعهم العالم أغانيه ومباذله!… وإذا كانوا قد قالوا إن الرئيس إدوارد تجدد في السابعة من عمره، وأن بوليكاربوس واسحق ووتس عرفا المسيح في التاسعة من العمر، وأن متى هنري وروبرت هول جاءا إلى السيد في الحادية عشرة من العمر. فكم أتمنى أن يأتي أولادنا مع صموئيل وداود، ودانيال وتيموثاوس، ليقولوا لإلههم: “تكلم يا رب فإن عبدك سامع!!..
داود الرقيق القلب
وقد كان داود من أرق القلوب التي ظهرت على هذه الأرض، ويكفي أن أمامك مثلين أو ثلاثة على هذه الرقة الدقيقة العجيبة، فهو في أول شبابه وربما في السادسة عشرة من العمر، إذ ظهر فجأة أمامه دب وأسد، واختطفا شاة صغيرة من بين القطيع، وصرخت الشاة،.. ورأت الصرخة في قلب الفتى البطل، ولم يستطع تحمل صرخة الاستنجاد، ودخل الغلام في معركة الحياة والموت من أجل صرخة حيوان أعجم صغير في الواقع أني لا أعرف في الأرض من هو أرق من هذا الشخص في كل التاريخ إلا واحداً فقط قال: "أنا هو الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف وأما الذي هو أجير وليس راعياً الذي ليست الخراف له فيرى الذئب مقبلاً ويترك الخراف ويهرب فيخطف الذئب الخراف ويبددها، والأجير يهرب لأنه أجير ولا يبالي بالخراف" والفرق بين داود وابن داود في هذا الشأن واضح، لقد عرض داود حياته من أجل شاة،... وعندما عد الشعب وجاء الغضب الإلهي بالوباء ومات من إسرائيل سبعون ألفاً: "فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك عليَّ وعلى بيتي"... وكشف له الله عن الذبيحة والفدية!!... وأما الآخر فقد بكى على أورشليم، ولم يقف عند هذا الحد. بل أخذني وأخذك من أنياب الأسد، ومات على الصليب من أجلي ومن أجلك!!... ورقة القلب أيضاً تراها في معاملته لشاول الذي كان يطارده، ويريد القضاء على حياته، ومع ذلك فعندما وقع شاول في يده، وقطع طرف جبته يقول الكتاب: "وكان بعد ذلك أن قلب داود ضربه على قطعه طرف جبة شاول" وقد تتعجب وتستغرب لهذا، ولكنك لو عرفت المعركة الداخلية في قلب داود، لرأيت مدى الحساسية في قلب الرجل،.. لقد شجعه الذين معه على قتله، ويبدو أن الشيطان قال له: إنه بضربة واحدة ينتهي كل شيء،.. ورفض داود فكر الشيطان،... لكن قلبه ضربه مع ذلك، على مجرد التفكير الداخلي في قتل الرجل!!.. وأية رقة أبلغ من هذه الرقة، إلا في ذاك الذي رفض أن يترك أذن ملخس عبد رئيس الكهنة مقطوعة وهم يهاجمونه يوم الصليب، وأبرأها، ومن فوق الصليب صاح: اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!! وأما الثالثة فكانت يوم أن تأوه داود، وذكر البئر القديمة- بئر بيت لحم- التي كان يشرب منها وهو غلام صغير،... وكان في حرب مع الفلسطينيين، فقال: من يسقيني ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب فشق ثلاثة من الأبطال محلة الفلسطينيين واستقوا ماء من بئر بيت لحم التي عند الباب، وحملوه وأتوا به إلى داود، فلم يشأ داود أن يشربه بل سكبه للرب وقال: حاشا لي من قبل إلهي أن أفعل ذلك!! أأشرب دم هؤلاء الرجال بأنفسهم لأنهم إنما أتوا به بأنفسهم، ولم يشأ أن يشربه"... لم يعد أمامه ماء بل دماً، قدمه الأبطال حباً فيه، مغامرين بحياتهم،.. ونظر إليهم وإلى الماء وقال: هذا شيء رهيب إنه أقدس من أن تلمسه شفتاي،.. وسكبه سكيباً للرب!! كان أحدهم يسير مع تولستوي في الطريق، وإذا به يرى الرجل يسرع إلى جواد مريض ويحتضنه ويقبل رأسه، وقال الرجل: لقد تصورت تولستوي لا يقبل حصاناً، بل كأنما يقبل أخاه ابن أمه وأبيه،... ولكنها هي الرقة التي يرتفع إليها عظماء الناس، وقد تمكنت من داود من هامة الرأس إلى أخمص القدم!!..
داود الصلب الإرادة
إذا أردت أن تعرف تكوين داود النفسي من هذه الناحية يمكنك أن تراه خلال عبارته القائلة في المزمور الثامن عشر: "يعلم يدي القتال فتحنى بذراعي قوس من نحاس".. ومع أن هذه العبارة تكشف في الأصل عن الفتى المفتول العضلات، لكنها تقودك أكثر إلى الإرادة الحديدية المتمكنة من هذا الشاب، ويكفي أن تلقي نظرة على ذلك التمثال المبدع الذي صنعه ميشيل أنجلو لداود، والذي فيه يبدو مفتوح العينين، وقد تصلبت عضلات وجهه وعنقه، ويده المرفوعة إلى عنقه وهي تحمل حجراً يقبض عليه،... إنك يوم تنظر إلى هذا التمثال، ستكتشف أقوى تصميم أو عزم يمكن أن يظهر في حياة الإنسان على الأرض!!.. ولعلنا نذكر هنا كلمات الكسندر هوايت: إن داود لم يعرف حياته قط، أنصاف الحلول أو يرضى بها، وسواء أمسك بالسهم أو الوتر أؤ العود أو المقلاع، فهو الإنسان الذي يشد عزمه وتصميمه إلى النهاية،.. وليست هنا قوة على الأرض تستطيع أن تجعله يتراجع عما يمكن أن يكون قد استقر عليه،... عندما صمم على مواجهة جليات لم يفلح فيه تقريع أخيه وقسوته في التعبير،... لقد عزم على مقاتلة الجبار، ولن يتزحزح قط، حتى ولو اختبأ الإسرائيليون جميعاً في شقوقهم ومغاراتهم،.. وعندما صمم على أن يعود بالتابوت من بيت عوبيد آدوم: "كان داود يرقص بكل قوته أمام الرب" حتى ولو احتقرته ميكال زوجته وهي تنظر إليه راقصاً،.. إن داود راقصاً أو مغنياً أو مقاتلاً، أو خادماً،... كان يفعل هذا بإرادة من حديد، لا تعرف التخاذل أو التراخي دون تفرقة بين أسد يقتله، أو جبار يصرعه، أو بذل يقدمه لله بذات الإحساس والمشاعر والإرادة الصلبة الثابتة!!..
داود القوي الإيمان
تعجب السيد المسيح من إيمان قائد المئة الذي لم ير في إسرائيل إيماناً يماثل إيمانه،.. ولعل شاول وهو يرى داود يواجه الفلسطيني الجبار، تملكه ذات العجب، وهو يراه يعود برأسه أمامه،.. مع أن داود سبق وذهب إلى القصر الملكي لكي يعزف للملك، ويبدو أنه لم يبق هنالك فترة طويلة، فقد كان الجنون يصيب الملك بين الحين والآخر، ويبدو أنه عاد إلى رعاية الأغنام، وانقضت ثلاث سنوات، وأضحى دواد في العشرين من عمره، ونبت شاربه وذقنه، على صورة تغيرت معالمه فيها أمام الملك، وبالإضافة إلى أن العمل الذي عمله كان مذهلاً إلى الدرجة التي لا يمكن أن تربطه بالغلام الذي رآه من ثلاث سنوات وبقى عنده في القصر فترة من الزمن، وعلى أي حال، لقد ظهر الشاب أعجوبة أمام الملك،.. أعجوبة لا نظير لها أو مثيل، ولم يسأل الملك عنه، بل سأل عن أبيه أيضاً، لعل خصائص الوراثة يمكن أن تكون السبب، ولعله ابن أبيه، ومن شابه أباه فما ظلم كما يقولون!!.. غير أن الأمر لا يرتد إلى ميراث يحمل ابن عن أبيه، فقد يحذو الولد حذو أبيه، ويتمثل به، لكن الأمر هنا أبعد عمقاً وأشد أثراً!!... إن رصيد الولد لم يأته قط من أبيه، بل جاءه من مصدر آخر،.. عبر عنه هو أمام الملك،.. لقد كان رصيده محفوظاً في وجدانه عندما التقى بالدب والأسد،..: "قتل عبدك الدب والأسد جميعاً وهذا الفلسطيني الأغلف يكون كواحد منهما لأنه قد عير صفوف الله الحي وقال داود: الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب، ينقذني من يد هذا الفلسطيني، وقال شاول لداود: اذهب، وليكن الرب معك"... ولعله من الواجب أن نقف وقفة تأمل في مفهوم الإيمان بالنسبة لشاول، وبالنسبة لداود،.. فالإيمان عند شاول لا يزيد عن كلمة قالها: "اذهب وليكن الرب معك"وما أكثر الذين يؤمنون بالله إيمان شاول، فهم لا ينكرون وجوده، وهم يؤمنون أنه قوي وقادر على كل شيء، ومع ذلك فإن هذا الإيمان لا يزيد عن مجرد فكرة نظرية غير قابلة للاختبار مثلهم مثل رجل أقام فوق شلالات نياجرا سلكاً عالياً ومشى عليه وهو يحمل آخر، وصاح واحد من المعجبين: يا له من بطل عظيم... وقال البطل للصائح: هل تريد أن تجرب؟ فارتد فزعاً إلى الوراء وقال: كلا!!.. لكن الإيمان عند داود كان أكثر من ذلك، كان حياة!! وقد وصل داود إلى الحقيقة التي لا يعثر عليها سوى الأبطال!! إما أن إيمانه حقيقي وصادق يثق فيه بالله القادر على كل شيء!!.. أو أن الموت أفضل من الإيمان الذي لا يزيد عن فقاعة خيالية من الهواء في الحياة!!.. والفارق –ولا شك- مهول ورهيب،.. أيها الأخ: إنك ستجد على الدوام في قصة الحياة، أسداً أو دباً، أو جليات، أو مشكلة مستعصية بهذه الصورة أو تلك،.. وستبقى مصدر الرعب أو الفزع لك، إذا عشت تواجهها ولا يزيد لديك الله عن كلمة تؤمن بها، تقرؤها في كتاب أو تسمعها في عظة،.. حتى تدخل إلى المشكلة، وترى الله أكثر من كلمة، إذ تراه الله الحي القادر على كل شيء. وطوبى لجميع منتظريه!!..
داود الشجاع الجسور
إن هذه الرؤيا الإلهية أعطت داود أن يكون واحداً من أشجع الناس الذين ظهروا على هذه الأرض،.. والسؤال الذي يبدو مذهلاً: لماذا خاف الإسرائيليون جميعاً ابتداء من شاول إلى أبنير إلى جميع أفراد الجيش؟؟: "ولما سمع شاول وجميع إسرائيل كلام الفلسطين هذا ارتاعوا وخافوا جداً".. ولماذا لم يخف داود؟!!.. وباديء ذي بدء أن داود لم يكن من طينة أخرى تختلف عن إخوته الثلاثة في المعركة ومن الإسرائيليين جميعاً، كما أنه لم يستخف على الإطلاق بالرجل العملاق الذي يواجهه، فهو يعلم أيضاً أنه مخيف ومرعب،.. ومع ذلك فإنك لا ترى ذرة واحدة من الخوف تستولى عليه) بل بالحري إن داود تعجل اللقاء، راكضاً إليه: "وكان لما قام الفلسطيني وذهب وتقدم للقاء داود أن داود أسرع وركض نحو الصف للقاء الفلسطيني".. ولكن الفارق الحاسم أن الفلسطيني لم ير أمامه سوى غلام صغير حقير، ورأى داود الفلسطيني ولكن رأى الله أيضاً، وإذا بالعملاق يصبح قزماً لا يرتفع إلا أقل القليل عن الأرض،... وهذه الرؤيا بعينها هي التي فرقت بين داود وبقية الإسرائيليين،.. إن سره العميق حوله أغنية في المزمور السابع والعشرين، ليتعلم منه من يريد أن يتعلم أعظم دروس الشجاعة في الأرض: "الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن أرتعب عندما اقترب إليَّ الأشرار ليأكلوا لحمي مضايقي وأعدائي عثروا وسقطوا، إن نزل عليَّ جيش لا يخاف قلبي إن قامت عليَّ حرب ففي ذلك أنا مطمئن".. ترى هل عرفت السر؟!!.
داود الغيور الملتهب
كان داود أيضاً الرجل الغيور المتلهب في غيرته، وقد لاحقته هذه الغيرة من الصبا حتى آخر الشيخوخة، إذ كانت في حقيقتها تعبيراً إزاء إحساسه بشخص الله وكرامته ومجده،.. عندما ذهب إلى المعركة، كان كل ما ينتظر منه، أن يكون زائراً أو متفرجاً،.. لكن منظراً ظهر أمامه ألهب النار في قلبه، منظر جليات يجدف على الله الحي،.. وهو لا يستطيع أن يحتمل المنظر أو يسمع الكلمات!!... وقد غامر بحياته لأن الموت عنده أهون من إهانة اسم الله، والتجديف على شخصه الكريم... ولم يكن الأمر مجرد اندفاع الشباب يغلي الدم في عروقه إذا ما رأى مالا يطيق رؤياه، بل هي أكثر من ذلك، الغيرة التي جعلته حتى آخر العمر: "أذكر يا رب داود كل ذله كيف حلف للرب نذر لعزيز يعقوب لا أدخل خيمة بيتي لا أصعد على سرير فراشي لا أعطي وسناً لعيني ولا نوماً لأجفاني أو أجد مقاماً للرب مسكناً لعزيز يعقوب".. لقد كان ذله الكبير أنه: "لما سكن الملك في بيته وأراحه الرب من كل الجهات من جميع أعدائه أن الملك قال لناثان النبي أنظر. إني ساكن في بيت من أرز وتابوت الله ساكن داخل الشقق" وهل يجمل به أن يعيش في بيت يبدو أجمل منظراً، وأعظم بهاء من بيت الله؟؟ وفي الحقيقة أن علاقة الإنسان ببيت الله هي واحد من أهم العلامات أو المؤشرات على حقيقة غيرته، والتهاب روحه كانت صرخة حجي النبي: "هل الوقت لكم أنتم أن تسكنوا في بيوتكم المغشاة وهذا البيت خراب"... عندما دخل المسيح الهيكل. ووجد الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصيارف جلوساً، فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل. الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم، وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا، لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة فتذكر تلاميذه غيرة بيتك أكلتني!!..
داود الواسع الصبر
ومن الغريب أن داود -مع ذلك- كان واسع الصبر، ومن أعظم الناس إتقاناً للتوقيت الإلهي،... فإذا كان آساف هو الكاتب للمزمور الخامس والسبعين، والقائل عن الله: "لأني أعين ميعاداً أنا بالمستقيمات أقضي، ذابت الأرض وكل سكانها أنا وزنت أعمدتها" فإن داود عاش هذه الحقيقة بالتمام، لم يتعجل قط يوماً من أيام الله، مسحه صموئيل للعمل الإلهي،.. غير أنه عاد إلى أغنامه يرعاها حتى يدعوه الله إلى العمل،.. ثم طارده شاول، وعاش سنوات في البرية طريداً مشرداً يقود مئات من البؤساء المطرودين، وجاءه الوقت الذي كان يمكن أن يختزل الميعاد بضربة واحدة، ولكنه رفضها: "وقال داود حي هو الرب أن الرب سوف يضربه أو يأتي يومه فيموت أو ينزل إلى الحرب ويهلك حاشا لي من قبل الرب أن أمد يدي إلى مسيح الرب".. كان فناً من أصعب الفنون فن الانتظار، لرجل خلقه الله بطبع ناري ملتهب، إلا أنه هو القائل: "لأني لك يا رب صبرت أنت تستجيب يا رب إلهي"وقد دخل هذا الصبر يوماً من الأيام في أدق امتحان، عندما خرج عليه شمعي بن جيرا يلعنه وهو هارب من أورشليم أمام ابنه أبشالوم، ولم يطق أبيشاي بن صرويه صبراً على هذا السب، فقال: لماذا يسب هذا الكلب الميت سيدي الملك دعني أعبر فأقطع رأسه فقال الملك مالي ومالكم يا بني صرويه، دعوه يسب لأن الرب قال سب داود ومن يقول لماذا تفعل هكذا. وقال داود لأبيشاي ولجميع عبيده هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري بنياميني، دعوه يسب لأن الرب قال له لعل الرب ينظر إلى مذلتي ويكافئني الرب خيراً عوض مسبته بهذا اليوم"... أجل، وليس هناك ما يكشف في القدرة على الصبر أكثر من التعرض للإيذاء والافتراء والاختلاق مما ليس له أساس من الصحة والحق!!.
داود الوديع المتواضع
وهنا نقف أمام فيضان من العظمة الحقيقية، عندما قتل جليات، وهتفت له الأمة بأكملها وكان في العشرين من عمره، وكان يمكن أن تأخذه نشوة الغرور، ويطالب بوعد الملك في الزواج من ابنته، خاصة وقد أمر شاول عبيده تكلموا مع داود سراً قائلين هوذا قد سر بك الملك وجميع عبيده قد أحبوك فالآن صاهر الملك فتكلم عبيد شاول في أذني داود بهذا الكلام فقال داود هل هو مستخف في أعينكم مصاهرة الملك وأنا رجل مسكين وحقير!!.. وعندما طارده شاول فيما بعد قال له: "وراء من خرج ملك إسرائيل وراء من أنت مطارد، وراء كلب ميت وراء برغوث واحد".. لقد وقفت أمام هذه الوداعة مذهولاً، ولم أعرف بين الناس من تفوق عليها سوى واحد جلس -وهو رب السموات والأرض- متعباً على التراب عند بئر سوخار يتحدث مع امرأة ساقطة، بأرق حديث يمكن أن تسمعه الأذن البشرية، وهو القائل: "تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم.. كان يوحنا فم الذهب يقول: إن أساس الفلسفة الوداعة، وبهذا المعنى كان داود فيلسوفاً كبيراً، أدرك أنه مهما يعظم الإنسان فهو دودة حقيرة، هو تراب، هو لا شيء، أمام الله في الوجود!!... طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض!!..
داود المحب الكبير
ومع أن هذه الصفة كان يمكن أن نضعها أول صفات داود، لكني آثرت أن أضعها الصفة الثامنة، التي نحزم بها صفاته، وهي كما يقول الرسول بولس "رباط الكمال"،.. وفي الحقيقة أن هذه الصفة تقف خلف صفاته جميعاً، وتعطيها الحياة والقوة والغذاء لقد أحب الله، وأحب الآخرين، وأحب الخدمة، وحول هذا الحب مزامير خالدة في مسمع الله والإنسان: "أحبك يا رب قوتي" "أحببت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي" لقد أعطى الله كل حبه، وعندما رقص أمام التابوت بكل قوته، كان يرقص رقصة الحب الكامل لله، وعندما جلس في حضرة الله وهو يصرخ غارقاً في فيضان هذا الحب: "من أنا يا سيدي الرب وما هو بيتي حتى أوصلتني إلى ههنا"... وإذ خاف أن يتراجع إحساسه في يوم ما هتف هتافه العميق: "باركي يا نفسي الرب وكل ما في بطني ليبارك اسمه القدوس باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته"... وعندما أحب الناس، أحب الجميع. كان حبه ظاهراً في نشيده الذي رثى به يوناثان: "قد تضايقت عليك يا أخي يوناثان كنت حلواً لي جداً محبتك لي أعجب من محبة النساء".. لم يكن داود "المحبوب، بل أكثر من ذلك "المحب"، وقد صدق من قال: إن تكن محبوباً ذاك لا شيء أما أن تحب فذاك كل شيء!!.
داود ومدارسه الكبرى
وقف واحد من شعراء الغرب -من ابن يسى الأصغر- يهتف للوجه الوديع، والدهن المهراق ينساب على رأسه وهو يواجه خدمته المليئة بالتعب والمجد، وتابعه في القصر الملكي، وفي ميدان المعركة، وهو يلمع بالرجاء، وهو محاط بالعزلة، والجروح التي أتته من الصديق، والعطايا التي أخذها من الأعداء،.. والحياة الممتلئة بالإيمان، والذنب، والدموع والدماء، والانتصار. ولعلنا مع هذا الشاعر وغيره نسأل: ما هي المدارس التي دخلها داود وصنعت منه الشخص العجيب الذي أشرنا إليه، وعرفه التاريخ؟!!.. لعلها:
مدرسة الآباء والأجداد
كان داود أكثر أولاد يسى التقاطاً لتاريخ آبائه وأجداده، ومع أننا لا نكاد نعرف الكثير عن يسى أبيه سوى أنه ابن عوبيد بن بوعز من راعوث، ومع أننا لا نعرف شيئاً عن أمه،.. إلا أنه يبدو بوضوح أن الصبي كان على أوفى علم بتاريخ آبائه وأجداده وأنه كان غنياً جداً بالذكريات التي جاءته عن هؤلاء الآباء، وعن معجزات الله معهم، وأنه إذا كان جدعون قد تساءل في حزن وألم عن العجائب التي حدثه آباؤه عنها، والتي صنعها معهم الرب،.. فإن داود كان أكثر تفهماً وشوقاً لهذا الإله، وكان ينتظر من بكور الحياة أن تأتي الكثير من صور العجائب والمعجزات على يديه!!.. كانت مدرسة الآباء والأجداد من أخصب مدارس الحياة في الابن الأصغر ليسي البيتلحمي، وعلى وجه الخصوص أنه كان من النوع الذي يحن إلى الذكريات القديمة، وقد حن ذات يوم إلى جرعة من البئر التي كان يشرب منها من أيام الصبا،.. ومن المؤكد أنه كان يشرب جرعات حلوة كثيرة، من بئر الذكريات العظيمة لآبائه وأجداده الأقدمين!!..
مدرسة الطبيعة
وجهت "هيلين كيلر" سؤالاً عجيباً -وهي عمياء وصماء وبكماء- إلى عدد كبير من الأزواج: ما لون عين زوجتك؟!! ومن الغريب أن أكثرهم –وقد فوجيء بالسؤال لم يستطع أن يصف لون عين زوجته!!.. وما أكثر الذين لهم العيون التي تبصر ولا تتأمل، لكن عين داود لم تكن من هذا النوع، وهي تتأمل الطبيعة العظيمة، التي صنعها الله!!.. لقد أمسك الرجل قيثارته وغنى أحلى الأغاني، وهو يرى هذه الطبيعة الفاتنة: “أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض… حيث جعلت جلالك فوق السموات… إذا أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها، فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده” “السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه، يوم إلى يوم يذيع كلاماً وليل إلى ليل يبدي علماً لا قول ولا كلام لا يسمع صوتهم في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم، جعل للشمس مسكناً فيها وهي مثل العروس الخارج من حجلته، يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق، من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيهاولا شيء يختفي من حرها”.. كان “صموئيل كوكس” يضع زهرة بيضاء تذكره بجمال الله ونقاوته وقداسته، وهو يعمل بين العمال الذين امتلأت حياتهم من طين الخطية والدنس، واستنشق داود أجمل الزهور، وعلمه شذاها أن يغني أحلى الأغاني لله!!..
مدرسة الألم
لم تكن الحياة عند داود سهلة هادئة رضية، بل هو الرجل الذي التقى بكافة ألوان الصعاب والمتاعب من مطلع حياته إلى نهايتها وكان أشبه بذلك الإنسان الذي صاح طالب أن يرفع الله عنه الحمل الثقيل، وأجاب الله على صلاته، ولكن بصورة أخرى إذا أعطاه الكتف القوية التي تستطيع حمل الحمل... ونحن نستطيع أن نصور لك الطريق التي سار فيها، والتي التقى فيها من الشباب الباكر بالدب والأسر، وجليات وشاول، وسار ليرى أبشالوم وأخيتوفل وشمعي بن جيرا، ويوآب بن صرويه، وغيرهم ممن حولوا حياته تعباً وألماً وعذاباً متصلاً، فإذا تركنا التي جاءته خطيته البشعة، في قصة بثشبع وأوريا، وإذ تجاوزنا تلك التي جاءته من غفلته وحماقته، يوم ترك صقلغ دون حماية، فأحرقت عن آخرها، فإن السؤال ما يزال باقياً: لماذا يسمح الله بالعذاب من مطاردة شاول له سنوات متعددة، لا يصبح فيها بائساً فحسب، بل -أكثر من ذلك- زعيم البؤساء إذ لحق به كل متعب ومدين ومتضايق وجرب فيها أن يسلك سلوك الأفاقين الجائعين السالبين، حتى شاء الله أن يضع في طريقه أبيجامل لتمنعه من سفك الدماء وانتقام يده لنفسه؟!! إن الجواب على ذلك واضح في أن مدرسة الألم كانت مدرسة التدريب التي يبدو أنها ضرورية في حياة جميع أولاد الله، وهم يسيرون في الطريق الضيق في الأرض، كما أني كشفت في الوقت عينه الإحسان والرحمة والخير والجود التي لا يترك الله أولاده دون أن يرتوا منها، فإذا ظهر في الطريق شاول، فإن هناك يوناثان، وإذ ظهر أخيتوفل، فإن هناك برزلاي الجلعادي، وإذا ظهر نابال، فهناك أبيجايل، وهكذا،… وهي –إلى جانب هذا كله- المدرسة التي تكشف عن انتصار الله الأعظم،… وهي التي علمته أن أشد الظلمة ما كانت خلف الباب، فإذا قيل عنه أنه عندما دخل صقلغ، وكانت المدينة كتلة من الفحم الأسود، وكانت –إذا جاز التعبير “الهباب” الذي وصل إليه، فإنه بعد أيام لا يسترد فقط كل ما أخذ منه بل ينادي به ملكاً على بلاده!!… لقد رأى خلال الألم أغلى الدروس وأعمقها مما سار مطبوعاً في وجدانه مدى الحياة!!..
مدرسة الواجب
وقد تكون هذه المدرسة أعلى مدارس داود وأعظمها، إذ أن الواجب علمه الأمانة إلى الموت وكم وقف هذا الرجل على أبواب الموت وهو يقدس الواجب ولو أنه عاد إلى أبيه يوم هاجمه الدب والأسد، واختطفا الشاة الصغيرة، دون أن ينقذها لما لامه أبوه أو لامه أحد، لكن واجبه المقدس هو الذي دعاه أن يغامر بحياته لإنقاذها،... ومع أنه كان أصغر جداً من أن يواجه جليات، لكن الواجب المقدس عاد مرة أخرى ليرتفع أمام عينيه، وهو يرى أن الحياة لا معنى لها، أمام عملاق يجدف على إلهه ويهين مجده!!..عندما طلب إلى "ليفنجستون" أن يعود إلى انجلترا، وقد داهته الأمراض والمتاعب،.. أجاب الرجل الذي قدس الواجب: أن أعود إلى انجلترا لتكرمني الملكة، هذا شيء عظيم،.. لكني لا أستطيع لأجل رسالتي العظميى التي يطلبها مني يسوع المسيح!!... ولقد أخذ جسده بعد أن مات ليدفن في مقابر العظماء بانجلترا،... لكنه كان جسداً بلا قلب، لأن وصيته أن ينزع قلبه ليدفن في أفريقيا، في البلاد التي أحبها وخدم سيده فيها!!.. لقد عاش ومات وقلبه للمسيح في خدمة أفريقيا!!.. كان الإحساس بالواجب هو رسالة داود العظيمة من مطلع العمر إلى نهاية الحياة!!..
داود وضعفاته المحزنة
لست أدري لم حرص الكتاب المقدس على أن يبرز ضعفات داود، ومنها ما لا يسقط فيه أبسط المؤمنين وأضعفهم؟!! أغلب الظن أن الكتاب أراد أن يحذرنا جميعاً (أقوياء وضعفاء) بأن قتلى الخطية أقوياء، وأنه لم ينتصر عليها في الأرض سوى شخص واحد، قال: “من منكم يبكتني على خطية” وأننا ينبغي أن نجاهد حتى الدم ضد مكرها، وختلها، وكذبها، وغدرها، وسلطانها،.. على أنه في الوقت نفسه أعطانا أنشودة الرجاء، لأنه ليس المهم –كما قال أحدهم- أن يسقط المرء كما سقط داود سقطته الشنيعة، التي لم يعرف شاول بن قيس مثيلاً لها، لكن الأهم أن شاول بن قيس لم يعرف في حياته المزمور الحادي والخمسين مزمور التوبة أمام الله… وعندما نتحدث عن خطايا لنكن مشبعين بالحذر، وبالرجاء أيضاً!!.. ولنعلم أننا ضعفاء مثله، وأقوياء بالرب أيضاً عندما نلوذ برحمته وإحسانه وجوده!!..
ضعف الإيمان
وهل رأيت العملاق، وهو يواجه الدب والأسد، وجليات، والقائل إن نزل على جيش لا أخاف؟؟ هذا العملاق، عندما يطارد شاول ويصيبه الإعياء، يضعف ويصبح واحداً منا، ويقول ليوناثان بن داود "كخطوة بيني وبين الموت"، وعندما يذهب إلى أخيش ملك جت، ويسمع الملك من عبيده: "أليس هذا داود ملك الأرض، أليس لهذا كن يغنين في الرقص قائلاً ضرب شاول ألوفه وداود ربواته، فوضع داود هذا الكلام في قلبه وخاف جداً من أخيش ملك جت فغير عقله في أعنيهم وتظاهر بالجنون بين أيديهم وأخذ يخربش على مصاريع الباب ويسيل ريقه على لحيته فقال لعبيده هوذا ترون الرجل مجنوناً فلماذا تأتون به إلى العلي محتاج إلى مجانين حتى أتيتم بهذا ليتجنن علي، أهذا يدخل بيتي"وأكثر من هذا أن الرجل بعد فترة من الزمن عاد إلى أخيش، وأعطاه أخيش صقلغ، وكاد يحارب مع أخيش ضد شعبه وقومه،.. وهي فترات قاسية مظلمة ليس من السهل تصورها،.. ولكنها الصورة المحزنة عندما يضعف الإيمان في حياة الإنسان حتى ينقذه الله مرات أخرى ليعود إلى إيمانه الأول القديم!!..
ضعف التسامح
ومع أن هذا الرجل كان صارم العدالة مع العماليقي الذي ادعى أنه قتل شاول وحمل إليه سلاحه، ومع الاثنين اللذين قتلا ابن شاول غدرا وغيلة تقرباً منه، إلا أن عواطفه تذبذبت مع ابنه أبشالوم صعوداً ونزولاً، فالولد إذ يقتل أخاه ويهرب، يعاوده الحنين من ناحيته، وإذ يعود بوساطة يوآب يسامحه داود بشرط ألا يرى وجهه، وإذ يثور عليه، ويعلن الفتنة ضده، لا يستطيع تنفيذ العدالة كاملة، كما فعلها يوآب، بل يبكي على ابنه ويتمنى لو ذهب هو مكانه في الموت،.. ومع أنه حلف لشمعي بين جيرة الذي لعنه قاسية ألا يموت، إلا أنه لم ينس إلى الموت هذه اللعنة، وطلب من سليمان أن يتعامل معه بالحكم التي تحدر شيبته إلى الهاوية، ومع أن يوآب خدمه خدمات لا يمكن أن تنسى، إلا أنه لم يستطع نسيان ما عاناه منه، وضم هذا إلى دم أبنير بن نير وعماسا بن يثر، وطلب من ابنه أن يتعامل معه بالصورة التي تحدر شيبته إلى الهاوية أيضاً!!.. ومع أن الكثيرين من الشراح يلفتون أنظارنا إلى أنه من الخطأ أن نحكم على داود وتصرفاته، بما علمنا إياه ابنه العظيم سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول...".. وأن داود في الكثير من هذه الأوضاع كان يتكلم بصفته الحاكم العادل الذي ينبغي أن يقتص عدالة الله من المذنب والمجرم، وأنه وإن كان قد سمح لشمعي بن جير أن يعود إلى بيته بقسم لا يستطيع تجاوزه، لكن شمعي كان ظالماً ينبغي أن ينال عقابه ولو بعد زمن لا لأنه أهان إنساناً، بل لأنه افترى على مسيح الرب بكل افتراء وتضليل، وأنه وإن كان قد أخذته الشفقة على ابنه فإنه كان يمثل صراع العدالة والحب في قلب ملك وأب في نفس الوقت!!.. أياً كان هذا كله، فإن الرجل كان أضعف من أن يصل إلى رحمة ذاك الذي قال عن صالبيه: يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون!!.. وأن المسيحية في شوطها الطويل نحو الغفران، كان لابد أن تصل إلى نور الظهيرة إذا قورنت بالشفق الجميل يظهر ساعة الشروق!!.. وأن داود مهما وصل في سمو نفسه، فهو واحد منا نحن الضعفاء الذين تتذبذب عواطفنا، بين السمو والانحدار،.. وأنه واجبنا الدائم أن ننتصر على الإنسان الضعيف فينا، لئلا نصل في ضعفنا إلى طلب القضاء على خصومنا ونحن على أبواب الموت والنهاية الأرضية..
السقطة الكبرى
على أن هذه كلها، مهما كانت محزنة ومؤلمة، لا شيء على الإطلاق إلى جانب سقطته، بل وصمته الكبرى التي هوى فيها من القمة إلى القاع، في لحظة واحدة، وقد حرص الكتاب على تدوين القصة بكل بشاعتها ولوثتها وخستها، لكي تبقى مدى الأجيال عظة للأقوياء قبل الضعفاء، وللجبابرة قبل العاديين وللذين يأخذون المراكز في الصفوف قبل الذين هم في آخر الصفوف، أنه لا توجد في الإنسان مناعة ضد ميكروب الخطية،.. وأن جراثيمها يمكن أن تتكاثر وتسقط أعظم الأبطال، لولا رحمة الله ونعمته،.. ولقد عرف الشيطان كيف يأتي إلى الرجل، لقد جاءه في وقت الفراغ، وربما إهمال الواجب،.. كانت هناك معركة، ولو قاد داود الجيش، وقاتل في المعركة، لنجا،.. لكنه ترك غيره يؤدي الواجب، وصعد هو إلى أعلى السطح، ليرى امرأة تستحم، ومهما يكن جمال هذه المرأة، فإنها نعجة، لا يمكن أن تكون أجمل وأندر من النعاج الأخرى التي تملأ بيته،.. ولكنها الغريزة القبيحة في الإنسان التي تجعله يرى الممنوع -مرغوباً فيه، منذ ذلك اليوم الذي فيه أكل آدم من الشجرة الوحيدة المحرمة، دون أشجار الجنة العديدة الحلوة الشهية الثمر،... إلى أي حد كان بيت أوريا قريباً من بيت داود، لست أعلم!!؟.. لكنه يبدو أن التجربة كانت أقرب إليه بالكيفية التي خدرته، ولم يستطع معها محاولة الهروب،.. لكن لكن الأمر كان أفظع وأشد أو كما يقول توماس جودين في دراسته العميقة عن "تعدي الخطية": أنه أمر أوريا أكثر من "بثشبع" الذي أوقد غضب الله ضد داود،.. فإذا كانت الخطية قد فاجأته مع بثشبع، وأنه غلب منها بعنصر المباغتة والمفاجأة، فإن الأمر لم يكن هكذا بالنسبة لأوريا، ورفض الذهاب إلى بيته، فإذا لم يفلح التمويه، فلتكن القسوة الشديدة التي تترك البطل في مواجهة الحرب، مع التوصية بالتخلي عنه وتركه ليواجه الموت!!.. إن الخطية، تجر في ذيلها دائماً خطايا كثيرة متعددة، أشنع وأرهب وطريقها دائماً منزلق يسقط القديس الجالس على القمة إلى المنحدر الرهيب،.. والتستر على الخطية، يضيف إليها، خطايا أخرى متعددة، الكذب والغدر والنفاق والقسوة والكبرياء، والرياء،.. وأشر ما في الأمر أن داود استمر على هذا الحال ما يقرب من سنة حتى ولد الولد، وجاءه ناثان النبي،.. هل ذهب إلى بيت الله، هل رنم مع المرنمين؟؟ هل صلى مع المصلين؟؟ إننا نحمد الله كثيراً لأنه لم يترك مزموراً من مزاميره الخالدة في فترة الإثم،.. لقد تحطم تماماً، وعندما غنى مزمور التوبة العظيم كانت طلبته إلى الله "رد لي بهجة خلاصك" لأن الرجل لم تعد تحلو له القيثارة المغنية، ولم يعد له الصوت الطروب، ولم تعد له نقاوة القداسة، لقد أضحى صورة مخدوعة مخادعة للكثيرين والكثيرات!!..
كانت خطيته شنيعة هيهات أن تقتصر عليه، بل تجاوزت الظلام، لأنه ليس خفي لا يعرف ولا مكتوم لا يعلن أو يكشف، وكانت عثرة رهيبة للكثيرين من ذوي الإيمان النقي، وكانت شماتة وسخرية من أعداء الله والحق، وعلى قدر ما يأخذ الإنسان من امتياز ويتحمل من مسئولية على قدر ما تكون خطيته، لقد كانت خطية بيلاطس البنطي عظيمة جداً، لكن المسيح مع ذلك قال له: "لذلك أسلم إليه له خطية أعظم" لأن الذي يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر!!..
لماذا لم ينهض من تلقاء نفسه، ولما انتظر سنة بأكملها حتى جاءه ناثان النبي، أغلب الظن أنه كان أشبه بالوعل في الشبكة، أو العصفور في القفص، أو السمكة في السنارة،.. عندما ثار عليه الضمير، تصوره البعض يحاول مستميتاً أن يثبت أنه لم يفعل شيئاً،.. إنه ملك، وحقه على الرعايا لا ينازع فيه أحد، سواء كانت بثشبع أو أوريا، وله أن يتصرف فيهما كما يشاء أو يريد،.. ثم إنه لم يقتل أوريا، ولم تمتد عليه يد إسرائيل، بل قتل في الحرب، وحتى لو ذهب إلى أقسى مكان، فإن الله لو أراد له أن يحيا لأبقاه، والأرواح كلها بيد الله،.. وعندما مات لم يتنكر لزوجته فقد ضمها إليه، ورفعها إلى مركز الملكات، والوليد الذي جاء منها اعترف به، وأحبه، وتمنى أن يعيش!!... كل هذه وغيرها كانت بعض خياله حتى جاءه الحق أبلج كالنور ليقول: أنت هو الرجل!!..
إن السؤال الآخر الذي يمكن أن تلقيه علينا هذه القصة. كيف تاب داود، وما عناصر توبته الصحيحة؟!!.. من الغريب جداً أن داود يعتبر الشخص الثالث في هذه التوبة، وليس الأول أو الثاني،.. إن الأول هو الله الذي مد يده إلى الأسير في الخطية والله دائماً هو المحرك الأول لكل توبة في حياة الإنسان، ألم يقل إفرايم في لغة إرميا: "توبني فأتوب لأنك أنت الرب إلهي" وألم يقل الرسول بولس: "لأن هذا حسن ومقبول لدى مخلصنا الله الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون".. والله دائماً هو الأعظم ألما، والأكثر رغبة، في أن ننهض من آثامنا، ونقوم من خطايانا،.. وكان الشخص الثاني ناثان النبي، ولم يتحرك ناثان من تلقاء نفسه بل حركة الله: "فأرسل الرب ناثان إلى داود".. وكان ناثان من أبرع الناس وأحكمهم وأشجعهم، والمثل الذي ينبغي أن يحتذى عندما يحمل المرء رسالة الله للناس، أن الشجاعة لابد أن تكون مقرونة بالحكمة والحكمة لابد أن تكون متسمة بالشجاعة، ونحن نعظهم أو نوبخهم، والله لا يطالبنا أن نكون مندفعين بدعوى الشجاعة أو الصراحة، ونحن نكلم الناس عن خطاياهم لأن رابح النفوس،.. وقد قال سقراط في بعض حكمه إذا وجدت ثوراً هائجاً، فليس من الشجاعة أن تقف في طريقه معرضاً صدرك لقرونه، بل إن الشجاعة أن تعرف كيف تقيده بالحرص والحكمة!!.. وكم يخطي بعض الوعاظ أو الخدام، أنه ما دامت هناك خطية ليقذفها الإنسان بكل حجر ممكن،.. لقد قتل داود جليات بحجر أملس، وقد جاءه هنا الحجر الأملس القاتل للخطية، من فم ناثان،.. لقد جهزه بالقصة المثيرة عن العدالة، وإذ رفع فيه روح العدالة، لم يفزع بعد ذلك، حتى ولو وضع رأسه على كفه أن يقول له: أنت هو الرجل!!.. كان دادو محظوظاً بإلهه، وكان داود محظوظاً بالواعظ الشجاع الحكيم الذي أيقظ إحساسه بالتوبة، ليكتب مزموره العظيم المزمور الحادي والخمسين، ولعلنا نلاحظ أن هذا المزمور قد سلم لإمام المغنيين، ليكون اعترافاً علنياً أمام الله والناس بالتوبة الصادقة!!..
ولعله من الغريب أن تلاحظ أن داود قال في المزمور: "إليك وحدك أخطأت" مع أنه أخطأ إلى بثشبع، وإلى أوريا، وإلى الأمة، ولكنه لم ير واحداً منها جميعاً، لأنها ابتلعت جميعها في الخطية أمام الله، وهو لم يعد يرى في الوجود كله، إلا الخطية، والخاطيء، والله، وخطيته أمام الله تجب كما يقولون رجال القانون كل خطية، وتحتويها، وتتضمنها،.. ومن الغريب أن هذا هو إحساس بولس عندما ركز النظر في خطيته بكيفية لم يعد يرى خاطئاً آخر أثقل منه وأرهب، وصاح: "صادقة هي الكلمة ومستحقة كل قبول أن المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلص الخطاة الذين أولهم أنا..".لم يكن داود في مزموره يبالي بما يصنعه الله به، أو أي عقوبة يوقعها عليه، إنما كان يعينه شيء واحد لا غير أن لا يطرح من أمام الله، أو يبعد عن وجهه: "لا تطرحني من قدام وجهك وروحك القدوس لا تنزعه مني"لم تكن الخطية منفردة، بل مست الأمة كلها، وحتى لا يتصور الناس أن الله لا يبالي بالخطية، حفظ الله روحه، وكشف في الوقت نفسه عن عدالته الصحيحة، فإذا كان قد قتل أوريا بسيف بني عمون، فسيلحق السيف بيته إلى الأبد، وإذا كان قد ارتكب الخطية في جنح الظلام، فسيأتي أقرب الناس إليه ليضطجع مع نسائه في وضح النهار، وتحت عين الشمس!!..كان الله صادقاً، وكان عادلاً، وكان محباً،.. ومات الولد، لكن من العجيب، أن أخاه سليمان سيكون هو المختار للملكة من بين أبناء داود، والذي من نسله يأتي المسيح مخلص العالم!!..
داود وخدماته
ولعل آخر ما تنتهي به في قصة داود خدماته: "بعدما خدم جيله بمشورة الله رقد".. ومع أنه ليس من السهل ذكر هذه الخدمات جميعاً، لكن يمكن أن نشير إلى أشهرها..
خدم مؤسساً
وقد أسس هذا الرجل امبراطورية واسعة، ووحد الأمة بأكملها، حتى أنه يعتبر المؤسس الحقيقي للدولة الإسرائيلية، ويعتبر داود بحق من أقدم الملوك الذين يمكن أن يوصفوا بالقول: "بناة الملك" استولى على أورشليم التي كان يقطنها اليبوسيون المنحدرون من نسل كنعان، والتي كان يحكمها ملكي صادق أيام إبراهيم، وهي مدينة حصينة تقع على بعد ثلاثة وثلاثين ميلاً من البحر الأبيض، وأربعة عشر ميلاً من البحر الميت، وعندما أراد داود الاستيلاء عليها سخر منه أهلها، فقالوا هازئين ما معناه، إنهم سيجعلون من العميان والعرج حراساً لها، وعلى داود أن ينجح في مقاتلة هؤلاء إذا أراد أن يدخلها، ومن الجائز أنهم جاءوا بجماعة منهم على أسوار المدينة، وكانت هذه منتهى السخرية بداود وقوته، ومنتهى الاعتداد بقوتهم هم،.. وأخطأ اليبوسيون قوة خصمهم وبسالته وجرأته، وأكثر من ذلك نسوا قوة الله التي معه، وسقطت أورشليم في قبضة داود، وأكثر من ذلك نجح داود في تأسيس الدولة وتقويتها، لكي يقدمها لسليمان عزيزة من كافة الجوانب العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والروحية!!.
خدم معطياً
ولا شبهة في أنه قدم هبات كثيرة مادية للفقراء والمعوزين والمحتاجين، لكن أعظم عطاياه المادية كانت ما جهزه لبناء بيت الله، لقد أراد داود أن يبني بيتاً لله، إذ لم يرق في نظره أن يكون بيته أفضل من بيت الله، ومع أن الله رفض طلبه لأن يده تلوثت وتخضبت بالدماء، والله لا يريد لبيته -الذي يرمز إلى عظمته ومجده ونقاوته وسلطانه- أن تبنيه يد ملوثة بالدماء، ومع أن الله بيَّن أن البيت سيبنيه ابنه، إلا أن ذلك لم يمنع داود من أن يقدم هباته بسخاء إعداداً لهذا البيت، ولعل ما كتبه الكسندر هوايت بهذا الصدد أجمل ما كتب على الإطلاق إذ قال: "إن الله وحده هو السيد الذي يقدر نية عبيده كما يقدر خدمتهم، والله وحده هو الذي يعطي الأمر الكامل على هذه النية، كما يعطي على أفضل خدمة يقوم بها الإنسان، فواحدة من أعظم وأحسن خدمات داود لم تخرج عن حيز النية الطيبة، لكن الله كافأ داود على هذه النية وأجزل له العطاء كما لو أنه عاش ليرى قباب الهيكل تقع تحت ضوء الشمس".. ومع أن حرمان داود من القيام بهذا العمل العظيم كان له ولا شك وقع قاس على نفسه، إلا أنه جلس في حضرة الرب ليشكر إحسانات الله الغامرة التي أحس أنه صغير وقليل إزاءها، الإحسانات التي لم تكتف أن ترفعه هو، وتتمشى معه، وتحسن إلى الشعب الذي يملك عليه، بل أكثر من ذلك منحته عهداً أبدياً مباركاً في نسله الذي يثبت كرسيه إلى الأبد... في المسيح ابن الله المبارك إلى أبد الآبدين...
خدم مرنماً
لقد انتهت خدمات داود المادية، سواء في الامبراطورية التي أسسها أو الهيكل الذي أُعد له، ونقض، وامتدت إليه يد الخراب، ولكن داود مرنم إسرائيل سيبقى ما بقيت الأرض، وما بقيت هناك موسيقى تعزف بين الناس، هل قرأت أو غنيت معه مزاميره الخالدة العظيمة، نحن لا نستطيع أن نتحدث عن القيمة الروحية لهذه المزامير العظيمة، وسنأخذ على سبيل القياس لا الحصر واحداً منها، وهو المزمور الثالث والعشرين مزمور الراعي، هذا المزمور الذي يطلق عليه بلبل المزامير والذي وصفه هنري وردبيتشر بالقول: "إنه هدأ أحزاناً كثيرة أكثر من كل ما صنعته فلسفة هذا العالم، وأعاد إلى السجن أفكاراً رديئة، وشكوكاً سوداء، وأحزاناً مسرنة أكثر من الرمال التي على الشاطيء.. لقد عزى ذلك المجموع النبيل من الفقراء، وأعطى الشجاعة لجيش الفاشلين، وأرسل بلسان وسكينة إلى قلوب المرضى، وأسرى السجون، والأرامل في حزنهن القاسي، والأيتام في عزلتهم الشديدة، كما أن الجنود المتحضرين ماتوا بسكون وهم يستمعون إلى هذا المزمور، بعد، بل سيغني لأولادي وأولادهم كل الأجيال، ولن يضم جناحيه حتى يصبح السائح الأجير آمناً، عندما ينتهي الزمان، وعندما يطهر راجعاً إلى أحضان السماء، وتختلط موسيقاه بألحان وأنغام الفرح السماوي الأبدي"!!
المزيد
26 ديسمبر 2020
المقالة الثالثة والعشرون في البتولية وصفاتها
إن بولس الرسول المشير الفاضل يعلمنا كلنا قدر بتولية النفس وطهارتها، ويحتسب درجة البتولية أفضل وأعلي من العالم لأنه قال: من له امرأة يهتم في كيف يرضي امرأته فأما المستسير بالبتولية فيهتم في أن يرضي الرب. فذاك الاهتمام يؤدي إلي العذاب وهذا يؤدي إلي الحياة الخالدة، فالطوبى للإنسان الذي يهتم في أن يرضي الرب ويحفظ جسده طاهراً ليصير هيكلاً مقدساً طاهراً للمسيح الملك. أيها الإنسان قد صرت باختيارك هيكلاً للـه لا بإلزام وغضب بل بإثرة ونشاط، وقد عرفت أن من يكن إنساناً للإله العلي يسكن روح اللـه فيه فإن كان منظفاً نقياً يقدسه ليكون استعماله مأثوراً لسيده، أسمع يا أخي المخلص ما أقول لك وأكتب ألفاظ حقارتي في قلبك، منطق ذاتك وتضرع بأمانة صافية مهذبة ورجاء ومحبة، أنتصب كالرجل الشهم لتحفظ هيكل اللـه من سائر الأفكار الدنسة والنجسة المزروعة من العدو، صر بجملة نفسك غنياً معايناً بمداومة تجارب العدو لأن تجارب الخبيث تتقاطر دائماً لتجد إنساناً مسترخياً ومتنزهاً لتفسد هيكل جسد ذاك الشقي لئلا يكون مأثوراً لاستعمال سيده، فأحذر علي نفسك لئلا توجد قابلاً بذاتك تجارب العدو، أتجهل أيها الأخ من هم المحاربون الخبثاء والمجلبون الأفكار الدنسة والشهوات الرديئة هم ” الغضب والاضطراب، السخط والمماحكة، وعبودية الآلام ” فهؤلاء هم المجربون الذين لا يخجلون، والأردياء الذين لا يكفون ولا يشبعون من الشر وإذا غلبوا يدارك برازهم دائماً لأن أصل الشهوة وقح لا يخزى، أقتلع أيها الأخ أصل الشهوة من قلبك لئلا ينبت ويينع فلو قطعتها ربوات مرات تنبت بقدر ذلك إن لم تقتلع بالجملة جدرها ، جاهد متواتراً لتكون هيكلاً للـه بلا دنس وبلا عيب، إن هيأت هيكلك للـه فالإله القدوس يعطيك عوضه الفردوس المطرب لنياحتك، صر بانتصارك علي الآلام والأفكار الدنسة حافظاً هيكلك قديساً ليكون بَهياً للـه ومقبولاً، أصغِ إلي ذاتك ألا تُدخل في الهيكل عوض السيد الأقدس الطاهر العدو النجس فيفسد هيكلك لأنه عدو ماقت الخير فإنه وقح فاسد الخلق لا يخجل تنتهره مراراً كثيرة وتخرجه إلي خارج وهو يتواقح فيلاكم ويزاحم ليدخل، أما اللـه الغير محدود الطاهر القدوس فما أبتعد هو بل أنت طردته، إذ أدخلت الدنس وصرفت القدوس، أبغضت الملك وأحببت المارد، أبعدت عين الحياة وتقلبت في الحمأة، عدمت النور وشاركت الظلمة، من أجل رخاوتك أسلمت ذاتك إلي العدو النجس، إن الإله القدوس أثر أن يسكن في هيكلك دائماً أما أنت فأحزنت السيد الصالح الرب الذي لا يشبع منه، التائق أن يعطيك ملكه لأن الصائرين هياكل لا عيب فيها وطاهرة يسكن اللـه فيهم، فإن آثرت أن يسكن اللـه في هيكل جسدك كافة أيامك التي تعيشها علي الأرض فاللـه القدوس يسكنك في فردوسه في النور الذي لا يقاس والحياة التي لا تموت إلي أبد الدهر بفرح عظيم وينجيك هناك، أتراك سمعت هذا أو قرأته أن يوماً واحداً في نور ملك اللـه كألف سنة في هذا الدهر، أفتح قلبك أيها الأخ وأقبل أن تشتاق إلي اللـه كافة أيامك فإن الاشتياق إلي اللـه هو حلاوة واستنارة وسروراً دائماً، إن صبوت إليه دائماً يسكن فيك سرمداً، إن اللـه غيور طاهر وقدوس يسكن في نفس الذين يتقونه ويصنع مراد الذين يحبونه، أتؤثر أن تكون للـه هيكلاً نظيفاً لا عيب فيه، أتخذ أيقونته في قلبك دائماً وأعني بأيقونة اللـه لا المرسومة بألوان الأصباغ علي ألواح خشب أو علي شئ آخر بل تلك الصورة المزخرفة العجيبة في النفس المرسومة فيها بالأعمال الحسنة بالأصوام بالحميات بالمسك بالاعتدال النفيس بالاسهار والصلوات، فألوان صورة السيد السمائي هي اعتدال الفضائل الأفكار النقية التعري من الأرضيات مع الطهارة والوداعة جميعاً، لا يكلل في العالم أحد خلواً من جهاد، وفي سيرة النسك بغير حرص وجهاد لا يمكن أحد أن ينال الإكليل الذي لا يذبل والحياة الخالدة، لأن هذا العالم يضاهي جلبة فالمجاهدون الكاملون بوداعتهم يضعون ذاتهم في المقام بلا خوف، أما المسترخون والخبثاء فيهربون برخاوتهم من الجهاد، فالمجاهدون الكاملون النساك وذوو الحمية والنسك قدام أعينهم الفردوس المطرب منتظرين كل حين أن يتمتعوا بكافة الخيرات في النور المؤبد والحياة الفاقدة الموت، أفتؤثر أن تجاهد وتظهر كاملاً ألبس الفضائل كثوب وإذا لبست فضيلة فجاهد ألا تنزعها، أرهب الخمر لئلا تفضحك وتعريك من الفضائل كما عرت الصديق في القديم، أتعرف قوة الخمر أم لا ؟ أسمع أنا أخبرك: نوح الرجل الصديق والبار البهي في الجيل الفاسد الذي أستحق أن يسمع من اللـه أقوالاً ومدائح لأن اللـه قال له: إياك وحدك شاهدت صديقاً في هذا الجيل الفاسد، هذا الصديق الذي غلب طوفان المياه غُلِبَ من نبيذ قليل ونام، إن المياه التي لا توصف كميتها ما غلبته والخمر اليسيرة كشفت جسد الصديق الصائر رئيس آباء الأمم، وهذا النبيذ أيضاً أسترق لوط البار في نومه لأنه سرق به من أبنتيه وحملتا منه بضد الطبيعة. الصديقون والأبرار ما شفقت عليهم الخمر، فأنت الشاب الحقير كم أولى بِها أن تغلبك، أرهب النبيذ لأنه لا يشفق علي الجسم ألبتة بل يضرم فيه نار الشهوة الرديئة، لا يتراخى جسمك بحرارته لئلا تقتنص من قبل الأفكار الرديئة والدراسة القبيحة فتكون غير فاعل بشركة الجسد وبالعقل تشارك الهذيذ الردئ، إن الخطية نفسها ضلال وصنم فإن تقدمت تمسك منها وتندم كل حين وتعانق كل وقت أصنام الخطيئة المتخائلة لناظر الذهن فتتخيل معاينتها وتكثر مناجاتها، وإذا ذقت حلاوة دراستها ترخي فكرك وتنغلب إنغلاباً لا يبرأ، وتخطئ خطأً لا يستوضح فيصيح الناظرون يشاهدونك واضحاً حاوياً كافة الوداعة وأنت في ضميرك تتعذب باطناً متندماً حزيناً بلا انقطاع لأن للإنسان ضميراً يوبخه وعادة الشهوة الرديئة المألوفة حين تكمل يتبع الحزن أثارها فيرى وجهه بالزي الظاهر وديعاً وهو من داخل لا دالة له بالكلية قدام اللـه، ترى من لا يبكي وينوح ومن لا يحزن إنه في طرفة عين واحدة يتراخى الفكر فتخطئ حينئذ إلي اللـه عمداً وتطرد منه الموهبة السماوية أعني الطهارة والبتولية، لأنه حينما يكون هيكل الجسد قديساً وطاهراً يسكن فيه الإله الأعلى فإن أنفسد الهيكل وتدنس في الحين يتركه السيد، وعوض النور السمائي والأقدس يدخل الدنس ويقطن مستوطناً تدخل لذة الشهوة الرديئة وتدنسه كل وقت، ترى من يخطر هذا في قلبه بغير دموع وهو أن الإله القدوس رفض الهيكل وسكنته الشهوة الرديئة، أتعرف ذلك فأبتعد منه لأنه من أين وإلي أين سقط إن من أصابه ذلك لا يشبع من الدموع والزفرات، من أنغلب برخاوته في الجهاد ورأى آخر غالباً في الجهاد والصراع مشهوراً بالأكلة والرايات وظافراً والجماعة يمدحونه محيطين به، تكتنفه ندامة موجعة ويعذب ذاته الحزن، فيقول في نفسه لِمَ في لحظة واحدة أنغلبت للفكر وهربت من الجهاد، فها الذين أكملوه في مجد عظيم ومدائح جسيمة وأنا أختفي بخجل لأني أنهذمت منه، كذلك يوم المجازاة إذا أبصر المسترخون والخطاة الصديقون والأبرار بسرور عظيم بعضهم في الفردوس وآخرين في الملك، آخرين في السحب يتطايرون في النور، وهم في النار التي لا تطفأ والظلمة القصوى، حينئذ تحدق بِهم ندامة عظيمة مرهوبة، وبكاء لا ينفع. فلذلك أطلب إليك يا أخي المحبوب أن تصير مشابِهاً للآباء الكاملين القديسين الذين لا عيب فيهم، أسلك علي آثار الآباء السائرين بالبتولية الطاهرة، وبالنسك المهذب، والصلاة والصوم حب النسك تُقْ إلي الصلاة مخاطباً السيد لأن كل صلاة نقية مقدسة تخاطب بها السيد، صلاة المشتاقين إلي اللـه ترتقي متواتراً بفرح عظيم إلي السماء والملائكة ورؤساء الملائكة يبتهجون بِها ويقيمونَها أمام عرش السيد الأقدس العالي سيد الكل وحينئذ يكون السرور، حين يقدمون قدام اللـه صلوات الصديقين الوادين للـه.
أحرص إذاً أيها الأخ كي تصير مضاهياً سيرة الآباء القديسين وفضائلهم، أسلك في طريق سيرتهم، إنسك نظيرهم إنسك بالمعقول، إنسك بالروح، إنسك بالجسد، إنسك بالزي، في الطعام، باللسان، بالناظر، بالفكر، بالضحك، لتستبين في كل شئ كمجاهد كامل، أصغِ إلي ذاتك وأحذر أن توجد إذا صليت متنزهاً طموحاً، إذا أنتصبت تصلي إلي اللـه فقف بخشية ورعدة، أطرح من قلبك وما يحوط به الفكر والاهتمام بسائر الأرضيات، صر بكليتك أجمع في ساعة الصلاة ملاكاً سمائياً وجاهد أن تكون صلاتك مقدسة ونقية بلا وسخ ولا عيب حتى إذا بلغت الأبواب السمائية وقرعت للحين تفتح لها، وإذا أبصرها الملائكة ورؤساء الملائكة يستقبلونها كلهم مسرورين ويقدمونها إلي عرش السيد الطاهر الأقدس والشاهق، صر كل وقت في ساعة الصلاة كالشاروبيم والساروفيم ماثلاً أمام اللـه. أيها الأخ أدرس هذه الأقوال وترنم بها بخشية وبهجة فإنها ترزق النفس أغذية روحانية، وتنتزع منها مرارة العالم الباطل وتحليها وتخففها من ثقل المهمات الأرضية والأمور الوقتية، كل ما سمعته أحرص أن تحفظه بعقلك دائماً فيرتاح اللـه فيك وتجد دالة في الساعة المرهوبة المرعبة إذا جاء المسيح ليجازي كل أحد نظير عمله. له المجد دائماً وعلينا رحمته آمـين
مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
24 ديسمبر 2020
شخصيات الكتاب المقدس الفتية الثلاثة
ها أنا ناظر أربعة رجال محلولين يتمشون وما بهم ضرر ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة" دا 3: 25"
مقدمة
لست أعلم لماذا يطلق الناس عليهم على الدوام الثلاثة فتية؟... من الحق أنهم وصلوا إلى بابل، وهم فتيان صغار فى طراوة العمر وربيع الحياة، لكن من المؤكد أنهم تقدموا مع الزمن، وتجاوزوا - على الأغلب - الخامسة والثلاثين، عندما واجهوا امتحانهم الأعظم أمام أتون نبوخذ ناصر، ولقد وصفوا فى القصة سبع مرات بأنهم « رجال »... ومع ذلك فأنت لا تكاد تذكرهم رجالاً أو شيوخاً، بل هم فى ذهنك مع الدوام الفتيان الثلاثة هل توقف الزمن هنا ليمنحهم شباباً خالداً لا يمكن أن ينال منه الضعف أو الوهن أو العجز بأية صورة من الصور!!؟ فى الحقيقة، إن الشباب روح قبل أن يكون جسداً، وما أكثر الذين يعيشون فى جسد الشباب وهم شيوخ، … وما أكثر الشيوخ الذين يحملون روح الشباب مهما امتدت بهم الحياة أو ناء ما تحت الوهن أو الضعف الجسدى!! … والثلاثة الفتية كانت أسماؤهم العبرية مرتبطة باللّه – فحنانيا يعنى « اللّه حنان »، وميشائيل يعنى « من مثل اللّه!!؟.. » وعزريا « اللّه يعين». وحاول السبى أن ينسيهم هذا الارتباط بتغيير أسمائهم، وإضافة آلهة الكلدانيين إلى أسمائهم الجديدة، فأخذ حنانيا اسم « شدوخ » أو « أمر آخ » وآخ كان معبود القمر عند البابليين أو كما ندعوه الآن « سدراك » وميشائيل أضحى « ميشخ » أو تحول: « من مثل اللّه » إلى « من مثل آخ » وهو عندنا الآن ميخائيل، والثالث وكان اسمه « عزريا » وقد أعطى « عبد نغو » وعبد نغو معبود العلم عند البابليين،... على أن هذا التغيير فى الأسماء، لم يغير نبضة واحدة من نبضات قلوبهم التى تنبض باسم إلههم الواحد القديم، وبارتباطهم به فى الحياة أو الموت على حد سواء!!.. ولقد اكتسب هولاء الرجال شبابهم الخالد، فى قصة التاريخ، وها نحن نتابعهم اليوم فيما يلى:
الثلاثة الفتية وسبب ظهورهم
لسنا بحاجة إلى تكرار ما أشرنا إليه فى الحديث عن دانيال - ونحن نتحدث عن شخصيته - إذ أنه الفتى الأول إلى جانب هؤلاء الثلاثة فى المسرحية التى ظهرت على أرض بابل عندما سار هذا الفوج الأول من المسبيين إلى السبى، وعلى الأغلب ما بين عامى 605 و604 ق.م.، وكان الغلمان الأربعة فى سن واحدة قدرها البعض بخمسة عشر عاماً، وقدرها آخرون بسبعة عشر عاماً، فإذا كان الأمر كذلك، وعلى ما تتجه إليه الترجمة السبعينية، أن أتون النار حدث فى العام الثامن عشر من حكم نبوخذ ناصر عندما صنع الملك البابلى تمثال الذهب تخليداً لانتصاراته العظيمة، وتمجيداً لآلهته « بيل »، فإن الفتيان الثلاثة يكونون قد واجهوا التجربة بعد سماعهم بخراب أورشليم ومجئ الفوج الكبير اللاحق لهذا الخراب من المسبيين أى حوالى عام 685 ق.م.، أو بعد الخامسة والثلاثين من أعمارهم، فى سن الرجولة الواعية الكاملة، وقد أخذ إلى السبى الملكان يهوياكين وصدقيا، وكان إرميا فى أورشليم، ودانيال فى بابل، ويبدو أنه كان غائباً فى مهمة ما عن المدينة!!ولعله من اللازم أن نشير إلى أن إرميا كان قد تنبأ بأن مدة السبى ستكون سبعين عاماً، وقد حذر الشعب من الإصغاء إلى الأنبياء العرافين المدعين كذباً الذين دأبوا على خداعهم بأن اللّه سيرجعهم سريعاً إلى بلادهم، وطلب إليهم أن يبنوا بيوتاً ويغرسوا جنات، ويتزوجوا، ويصلوا لأجل البلاد التى هم فيها لأن وقتاً متسعاً لهذه كلها، لابد أن ينقضى قبل رجوعهم.. كان الكثيرون من المسبيين ينظرون إلى السبى كشر مطلق سمح به اللّه الذى تركهم ونسيهم، ولكن الحقيقة كانت على عكس ذلك، إذ أنه سباهم لأنه يفكر فيهم ويحبهم ويقصد لهم آخرة فياضة بالسلام والرجاء: « لأنه هكذا قال الرب. إنى عند تمام سبعين سنة لبابل أتعهدكم وأقيم لكم كلامى الصالح بردكم إلى هذا الموضوع لأنى عرفت الأفكار التى أنا مفتكر بها عنكم يقول الرب، أفكار سلام لا شر لأعطيكم آخرة ورجاء، فتدعوننى وتذهبون وتصلون إليّ فأسمع لكم. وتطلبوننى فتجدوننى إذ تطلبوننى بكل قلبكم، فأوجد لكم يقول الرب وأرد سبيكم وأجمعكم من كل الأمم ومن كل المواضع التى طردتكم إليها يقول الرب، وأردكم إلى الموضع الذى سبيتكم منه » " إر 29: 10 - 14 "على أنه من الواجب مع ذلك، أن نتعرف على حياة المسبيين وشعورهم العميق فى السبى، ولسنا نظن أن هناك مزموراً حزيناً يضارع فى حزنه، المزمور المائة والسابع والثلاثين، ومع أن كاتبه مجهول (ويعتقد البعض أنه من سبط لاوى).. ومع أننا لا نستطيع أن نقبل بحال ما روح العنف والقسوة التى كانت سمة العهد القديم فى الانتقام، والتى جاءت فى ختام المزمور«أذكر يارب لبنى أدوم يوم أورشليم القائلين هدوا هدوا حتى إلى أساسها يابنت بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذى جازيتنا طوبى لمن يمسك أطفالك ويضرب بهم الصخرة »... إلا أننا مع ذلك ندرك إحساس المسبيين، والعواطف الوحشية التى تتملك الأسير وهو يرى رد فعل المعاناة التى عاناها، واشتدت عليه،... غير أن روح االمسيح يمنعنا الآن من مثل هذا الأسلوب، وقد صلى هو لصالبيه من فوق الصليب، مرتفعاً فوق الحقد والضغينة باسمى لغة سمعها الإنسان على الأرض: «إغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون » " لو 23: 34 " وفى الوقت عينه، من اللازم أن نتحسس مشاعر الفتية الثلاثة من هذا المزمور،... لقد كانوا على ولاية بابل، وعندما بلغهم خراب مدينتهم علقوا أعوادهم على الصفصاف، ولم تنقطع الدموع من عيونهم!!... ومع أن بابل كانت أجمل مدينة فى الدنيا فى ذلك التاريخ، كانت مدينة الحدائق المعلقة التى جمعت أبهج ما يمكن أن تمتلئ به العين، وكانت المدينة الممتلئة بالأنهار والغدر ان تتدفق منها الحياة تدفقاً، وأشجار الصفصاف ترتفع عالية شامخة ترسل ظلالها البعيدة هنا وهناك، لكن جمال المدينة نفسه، كان عذاباً لمشاعرهم وعواطفهم، كلما ذكروا بلادهم الخربة التعسة التى أضحت أطلالا وأنقاضاً!!... لقد كانت بابل قفصاً من ذهب، طلب إلى الطائر السجين أن يغرد ويرفع صوته وهو داخله بالأغنية والطرب!!ولم تكن المأساة أن يمتنع الطائر الأسير المهاجر عن الغناء،... بل طلب إليه أن يغنى أغنية لإله غريب، وهنا الطامة الكبرى، بل هنا البلاء الذى لا يعد له بلاء آخر، لقد كان على الثلاثة الفتية، أن يستبدلوا أعوادهم بأعواد أخرى، ومزاميرهم بمزامير أخرى، ويهللوا فى وقت نكبتهم، بالترنيم لإله غريب!!صنع نبوخذ ناصر تمثالا عظيما من ذهب، تصوره البعض ذهباً خالصاً، وتصوره آخرون خشباً مغشى كله بالذهب، وارتفاعه ستون ذراعاً أو ما يقرب من ثلاثين متراً، وعرضه ستة أذرع أو ما يقرب من ثلاثة أمتار، وقد ظن البعض أنه تمثال نبوخذ ناصر نفسه، والأرجح أنه تمثال لآلهته، وقد دعى لتدشين التمثال القادة والرؤساء وحكام الولايات، فاجتمع جمع غفير من كل القبائل والأمم والألسنة، وكان لابد أن يكون الثلاثة الفتية الموكلون على أعمال ولاية بابل، بين الحاضرين!!.. ومن الواضح أن دانيال لم يكن بالمدينة، وإلا لكان القائد أو رجل الطليعة.. وكان على زملائه الآخرين أن يواجهوا الامتحان هذه المرة بمفردهم،... وواجهوه على النحو العظيم الذى أثار التاريخ بأكمله!!.
الثلاثة فتية والشكوى ضدهم
عند سماع الموسيقى لامست جميع الرؤوس الأرض، إلا ثلاثة رؤوس لم تنحن للتمثال لأنها لا يمكن أن تنحنى إلا للّه وحده، وسارع الكلدانيون بالشكوى لنبوخذ ناصر، ولعل هناك أكثر من سبب لهذه الشكوى، بل لعل بعضها يختفى وراء البعض الآخر، ومع أنها قد تكون الأسباب الحقيقية، لكنها مع ذلك تلبس مسوح غيرها من الأسباب،... ولو أننا حاولنا أن نحلل أسباب الشكوى لرأيناها أولا غيظ الرأس المنحنى من الرأس الذى لا يعرف الانحناء لبشر، والناس دائماً يبحثون عن الرؤوس المتساوية ولا يقبلون رأساً يرتفع فوق رؤوسهم ليكشف ضعفهم ونقصهم وهزالهم وهزيمتهم،.. ولو أننا بحثنا الصراعات القاسية فى كل العصور والأجيال، لرأينا الكثير منها لا يزيد عن تناطح الرؤوس، وتصارع الرياسات، وتقاتل المناصب،... وما من شك بأن الحسد لعب دوره العظيم فى هذا المجال، فالثلاثة الفتية ليسوا كلدانيين وأعمال ولاية بابل بين أيديهم، هم غرباء أجانب، لم يكتفوا بأن يزاحموا الوطنيين فى مراكزهم، بل أكثر من ذلك يرأسونهم ويسودون عليهم،... فإذا أضفنا إلى ذلك أنهم عقبة كأداء فى طريق الفساد والرشوة والانتهازية والوصولية التى عاشوا عليها، أو يحلمون باستغلالها، والكسب الحرام من ورائها،... تبين لنا مدى االحنق والغيظ، وانتهاز الفرص للاضرار بهم والإيقاع بأشخاصهم، والأمل فى إسقاطهم من الحياة العالية المرتفعة التى وصلوا إليها!!... ومن المتصور أيضاً أن هذا كله استتر وراء الغيرة على الدين، فمن هم هؤلاء الذين يجرؤون على رفع رؤوسهم تجاه « بيل » معبود نبوخذ ناصر ومعبودهم؟!.. وأنهم ينبغى أن يكونوا أوفياء أمناء تجاه آلهتهم العظيمة التى ينبغى أن ترتفع على كل الآلهة التى يتعبد الناس لها فى الأرض!!.. كانت شكوى الكدانيين على الثلاثة الفتية خليطاً من البواعث الدفينة والظاهرة، التى تمتزج فى حياة الناس، وتكون حقدهم وتعصبهم وضغينتهم وانتقامهم دروا بها أو لم يدروا على حد سواء!!
الثلاثة الفتية وولاؤهم للّه
كان ولاء الثلاثة الفتية للّه نموذجاً من أروع نماذج الولاء فى كل العصور ويخيل إلى أن هناك علاقة بين أسمائهم العبرية، وهذا الولاء، ويمكن أن نأخذ صورة منها، فاسم أحدهم « ميشائيل »... أو « من مثل اللّه!!؟ أو من هو الإله الذى يمكن أن يكون نداً ومثيلا للّه!!؟ لا أحد!!... وهيهات أن يكون له مثيل بين الآلهة أو تماثيلها وأنصابها أيضاً!!.. فليصنع نبوخذ ناصر تمثالا لبيل، وليطلق على ميشائيل اسم ميشخ أو من هو مثل « آخ » معبود القمر،... فهذا أمر لا يقبله ميشائيل، حتى ولو تحول أشلاء تذروها الرياح، فمن مثل اللّه عنده؟!!.. ومن فى السماء أو الأرض يدانى اللّه أو يقاربه؟..!! ألم يغن موسى فى بركته التليدة: « ليس مثل اللّه يايشورون. يركب السماء في معونتك والغمام فى عظمته. الإله القديم ملجأ والأذرع الأبدية من تحت » " تث 33: 26 و27 "... وألم يقل إشعياء: « فبمن تشبهوننى فأساويه يقول القدوس » " إش 40: 25 " بمن تشبهوننى وتسووننى وتمثلوننى لنتشابه " " إش 46: 5 ".. وألم يهتف ميخا: « من هو إله مثلك غافر الإثم، وصافح عن الذنب لبقية ميراثه، » " ميخا 7: 18 "... وقد كان ممتنعاً على الإسرائيلى لهذا السبب أن يحاول تصوير اللّه فى أية صورة أو نصب أو تمثال يتقرب به إليه، ومن ثم جاءت الوصية: لا تصنع لك تمثالا منحوتاً ولا صورة ما مما فى السماء من فوق، وما فى الأرض من تحت، وما فى الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن، لأنى أنا الرب إلهك إله غيور أفتقد ذنوب الآباء فى الأبناء فى الجيل الثالث والرابع من مبغضى » "خر 20: 4 و5 "... والعبرانى بهذا المعنى لا يقبل أن يرى آلهة بجانب اللّّه، أو تمثالا أو صورة يتقرب بها إليه، مهما بلغت ذروة الفن أو الجمال،... لأنها - فى أفضل الحالات - ليست إلا مسخاً لجلاله الفائق الحدود!!... فإذا أضفنا اسم «حنانيا » إلى اسم ميشائيل، نعرف سبباً آخر للولاء للّه، فنحن لا نعظم اللّه لمجرد أن عظمته لا تحاكيها أو تدانيها أية عظمة أخرى، وهو أعلى من السموات التى ليست بطاهرة أمام عينيه وإلى ملائكته ينسب حماقه!!... إن السبب الثانى للولاء هو حنوه ومحبته وجوده وإحسانه، إذ أنه اللّه الحنان المشفق الرحيم الجواد، الذى يمطر علينا بالإحسان والعطف والمحبة والرأفة!!.. لقد أدرك الثلاثة الفتية حنان إلههم فى قلب الأسر والسبى والمتاعب والالام، فهو لم يكتف أن يجنبهم أهوال الاستعباد التى كان يمكن أن تطحنهم طحناً، كعبيد أسروا فى الغزو والحرب، بل رفعهم وعظمهم وجعلهم سادة على مستعبديهم، وقادة فى ولاية بابل،... فإذا جئنا إلى عزريا أو « اللّه يعين » أدركنا أن اللّه لم يتخل عن شعبه فى وقت المأساة والضيق، بل كان على العكس، أقرب ما يكون إليهم، وهم لا يدرون،...: « وقالت صهيون قد تركنى الرب وسيدى نسينى. هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك. هوذا على كفى نقشتك. أسوارك أمامى دائما ».. " إش 49: 14 - 16 "ولست أظن أن الولاء المسيحى للّه يعرف أسباباً أفضل من عظمة اللّه، وحنوه، وعنايته التى ظهرت فى شخص يسوع المسيح مخلصنا، وعندما أوقد الشيطان أتونه العظيم ضد الكنيسة، وأثار عليها أرهب وأشنع صور الاضطهاد عادت مرة أخرى بطولة ميشائيل وحنانيا وعزريا فى آلاف الآلاف الذين غنوا فى قلب الأتون المحمى سبعة أضعاف وصار ناراً مشتعلة بحبهم العظيم للّه فى يسوع المسيح الرب والمخلص!!فإذا تحولنا من سر الولاء إلى مظهره، رأيناه أولا فى الشجاعة الخارقة، وهل يمكن أن يعرف العالم شجاعة أعلى وأسمى من شجاعة الشهيد الذى تبدو الصورة الأولى لشجاعته فى انتصاره على نفسه، قبل أن ينتصر على إنسان أو مخلوق آخر؟!، وعندما ينتصر الإنسان على نفسه فإن ألف نبوخذ ناصر لا يستطيعون أن يفعلوا معه شيئاً. عندما هدد الإمبراطور يوحنا فم الذهب، قائلا إنه يستطيع أن يفعل ضده الكثير، قال له القديس القديم،: إنه أعجز من أن يفعل معه شيئاً، وإذ قال هل: أنفيك... قال الذهبى الفم: إن أى مكان ترسلنى إليه، سأجد هناك صديقى الذى لا تستطيع أن تفصلنى عنه!.. وإذ قال له: آخذ ثروتك أجابه: إنك لا تستطيع، لأن لى كنزاً فى السماء لا تصل إليه يدك!!.. وإذ قال له: أقطع عنقك... كان الجواب: يوم تفعل ذلك فإنما أنت تحرر الطائر السجين من القفص الذى حبس فيه... وأدرك الإمبراطور أن إنساناً كهذا لا يمكن قهره على الإطلاق،.. كان انتصار الفتية الثلاثة، أولا وقبل كل شئ، انتصاراً على النفس، فلم يعد واحد منهم يفكر فى الشباب الذى يترصده الموت على أرهب صورة،... ولم يعد واحد منهم يفزع من أجل المنصب الذى يوشك أن يضيع، ولم تعد الحياة بجملتها، بما فيها من متعة وجلال، ومجد أرضى، تساوى قلامة ظفر، تجاه مجد اللّه وجلاله وعظمته وخدمته!!.. ألم يأت بعدهم بمئات السنين من قال: « والآن ها أنا أذهب إلى أورشليم مقيداً بالروح لا أعلم ماذا يصادفنى هناك، ولكننى لست أحتسب لشئ ولا نفسى ثمينة عندى حتى أتمم بفرح سعيى والخدمة التى أخذتها من الرب يسوع لأشهد ببشارة نعمة اللّه » " أع 20: 22 - 24 "؟!عندما انتصر الفتية الثلاثة على أنفسهم، استطاعوا الانتصار على الامبراطور العظيم الطاغية،... ومن العجيب أن ثلاثة عزل من كل سلاح، يقفون أمام أعظم إمبراطور فى عصره، الامبراطور الذى دانت له الدنيا، وقهر الممالك، وأذل أعناق الرجال،... ولعل هذا الامبراطور فى معركته مع الفتية لم تقع عينه قط على من هو أجرأ أو أشجع منهم على الإطلاق، كيف لا، وهم ينادونه باسمه دون تملق أو زلفى أو خوف أو فزع أو مداهنة أو رياء، ومن غير إضافة أى لقب،... وفى الواقع، لا يمكن أن تعرف الدنيا فى كل الأجيال، جرأة كجرأة الشهيد الذى يخوض معركة الحق من أجل اللّه!!كانت المعركة بين نبوخذ ناصر والفتية، هى ذات المعركة القديمة، بين المنظور وغير المنظور، بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الأمانة والحماقة، ومن المؤكد أنه لم يكن هناك تكافؤ بين الطرفين، فحسب النظرة البشرية كانت الكفة أرجح بما لا يقاس نحو رجل يملك قوة الدنيا بأكملها بين يديه، وبين ثلاثة من الأسرى المنبوذين الذين لا حول لهم ولا قوة وما هم إلا ثلاث من النمل تحت أقدام فيل رهيب ضخم ولكن حسب النظرة الأعمق، هم المسلحون بقوة رب الجنود إله إسرائيل!!فإذا عدنا ننظر إلى القوة التى يمتلكونها نجدها أشبه بدرجات سلم متصاعدة، أما الدرجة الأولى التى تمس الأرض فهى أنهم ثلاثة معاً وليسوا واحداً،... ومع أن كثيرين من أبطال التاريخ ذهبوا إلى معاركهم منفردين وراء ذاك الذى قال « دست المعصرة وحدى » " إش 63: 3 "... لكن المسيح نفسه، وهو القادر على كل شئ وله فى جثسيمانى أن يحس بوجود تلاميذه معه، وقال لبطرس وابنى زبدى،: « أمكثوا هنا واسهروا معى » " مت 26: 38 ".. « أهكذا ما قدرتم أن تسهروا معى ساعة واحدة؟ " مت 26: 40 " كان من أقسى ما عانى فى جثسيمانى وحدته تجاه أكبر معركة مرت فى التاريخ،... وما أجمل أن يجد الإنسان منا فى لحظات المحن والمتاعب والتجارب والآلام، من يؤنسه بكلمة أو يبتسم له أو يشجعه أو يعينه بأية صورة من الصور،... وقد وجد الفتية الثلاثة هذا التشجيع فى الشركة التى تربطهم فى الإيمان والمصير!!.. عندما وقف لاتيمار مع صديقه ردلى وقد حكم عليها بالموت حرقاً... قال لاتيمار لزميله: تشدد فإننا سنضئ اليوم فى انجلترا كمشعل بنعمة اللّه لن ينطفىء أبداً!!وكانت الدرجة الثانية من السلم يقين الفتية بأنهم يدخلون معركة نبيلة شجاعة من أعظم وأروع المعارك على ظهر هذه الأرض، وقد سبق فى دراستنا للشخصيات أن أشرنا إلى ما قاله جورج فرند سبرج وهو قائد من أعظم القواد الألمان لمارتن لوثر، وهو يدخل باب مجمع ورمس لمحاكمته التليدة الرهيبة: « أيها الراهب المسكين... إنك ذاهب إلى معركة أنبل وأعظم من كل المعارك التى خضتها أنا، أو أى واحد من القادة، فإذا كانت قضيتك عادلة فتقدم باسم اللّه »... وكما تقدم الثلاثة الفتية العظام، تقدم مارتن لوثر إلى معركة الإصلاح التى لم تغير تاريخ أوربا فحسب، بل غيرت التاريخ المسيحى كله!!على أن الدرجة العليا فى السلم، كانت يقين الفتية أنهم لا يدخلون المعركة منفردين،... إذ لم يكن هذا هو الاختبار الأول لهم، فقد سبقت لهم النجاة من يد الرجل البطاشة، عندما أعلن اللّه لدانيال على صورة معجزية خارقة للعادة حلم نبوخذ ناصر وتفسيره،... إنهم يؤمنون بإله قوى قادر على كل شئ، وعندما يرون نبوخذ ناصر أمامهم، فى ضوء اللّه، يضحى العاتية الجبار أقل من نملة تدب على الأرض، وهم لذلك يخاطبونه بدون لقبه، قائلين: « يانبوخذ نصر لا يلزمنا أن نجيبك عن هذا الأمر، هوذا يوجد إلهنا الذى نعبده يستطيع أن ينجينا من أتون النار المتقدة وأن ينقذنا من يدك أيها الملك، وإلا فليكن معلوماً لك أيها الملك أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذى نصبته »... " دا 3: 17 و18 " وجند الطاغية كل قواه وسلطته، فالأتون يحمى سبعة أضاف، الفتية يقيدون، وأقوى رجال الحرب يقذفون بهم فى قلب الأتون، والنار الملتهبة فى شدتها وعنفها تقضى على القاذفين!!..
الثلاثة الفتية ونصرهم العظيم
فى معسكرات الاعتقال الشيوعية، قبض على جمع من الشباب، وكانوا عشرين على ما أتذكر، ودخل الضابط الشيوعى، وعدهم قائلا أنتم عشرون وقال شاب: لا، بل نحن واحد وعشرون، وعد الضابط مرة أخرى،... وقال: أنتم عشرون. ورد عليه نفس الشاب: بل واحد وعشرون، وإذ أعاد العد، قال: ومن هو الواحد والعشرون!! فأجاب الشاب: إنه الرب يسوع المسيح!!.. وإذا كان المسيح معنا فى كل وقت، فإنه أدنى إلينا وألصق بنا ونحن فى الأتون،... ومن اللازم أن نشير إلى أن الثلاثة الفتية كانوا يؤمنون بالنصر، سواء عاشوا أو ماتوا!!.. فإذا عاشوا فهم شهود قدرته، وإذا ماتوا فهم أوفياء لمحبته، ومن المثير أن نبوخذ نصر قذف بهم موثقين، فإذ به يراهم محلولين يتمشون فى وسط الزتون، وما بهم ضرر ومعهم رابع شبيه بابن الآلهة،... لقد أخطأ الرجل أعمق الخطأ، سواء فى فهم قيودهم، أو فى فك هذه القيود،... لقد ظن أن يقيدهم بحبال البشر وما درى أن قيدهم الحقيقى هو حب اللّه، الذى يعيشون من أجله، ويموتون فى سبيله،... ولقد ظن أن النار ستأتى عليهم وعلى قيودهم معاً، وما عرف أو أدرك أنهم أحرار، يتمتعون بأكمل صور الحرية رغم قيودهم، أحرار فى ذلك الذى حل قيودهم وفكها، وسار معهم داخل الأتون الملتهب، دون أن ينالهم أدنى ضرر، إذ هو القائل: « فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً » " يو 8: 36 "ولا حاجة إلى القول إن القصة تتكرر فى كل عصور التاريخ بهذه الصورة أو تلك، من أتون التجارب ونيران الاضطهاد والمصاعب، ولكن ابن اللّه يظل هناك على الدوام، لا يتغير ولا يتبدل، مهما كانت النتائج التى تتمخض عنها الأحداث، وقد اشتعلت النيران طوال ثلاثة قرون فى مطلع التاريخ المسيحى، وحمى الأتون سبعة أضعاف،... ولكن المسيحية خرجت من قلبه، وجوليان الإمبراطورى يصيح: لقد غلبت أيها الجليلى!!... إن الدرس العظيم الذى يعطيه الثلاثة الفتية للعالم، إلى جانب الولاء المطلق للسيد، هو اليقين الذى لا يتزعزع فى جوده وحبه،... وفى وجوده على صورة خارقة عجيبة تفوق الإدراك والوصف، وتحير العقول وتذهلها كما تحير نبوخذ نصر وتعجب هو والمرازبة والشحن والولاة ومشيرو الملك وهم يرون « هؤلاء الرجال الذين لم تكن للنار قوة على أجسادهم، وشعرة من روؤسهم لم تحترق وسراويلهم لم تتغير ورائحة النار لم تأت عليهم " دا 3: 27 "!! هل لنا مثل هذا الإيمان، مهما تغيرت أو تلونت ظروف الحياة... ومهما أحاطت بنا الصعاب والمتاعب؟!!.. تحدث هنرى ورد بيتشر عن أبيه، وكان خادماً للّه، وقد مرت به ظروف قاسية صحية ومادية فى كثير من الأوقات، قال الابن: لا أنسى أننا كنا نتناول الشاى فى المطبخ، وإذا بأمى تقول لزوجها، وكانت هادئة وديعة،... لا أعلم كيف نواجه المصروفات والفواتير، وهى تخشى أن تموت فى بيت من بيوت العجزة المسنين،... وأجاب الزوج قائلا: ياعزيزتى: لقد وثقت باللّه طوال أربعين عاماً خلت، ولم يخذلنى قط طوال هذه السنين،... وأنا لست مستعداً بعد أن أبدأ الآن بعدم الثقة فيه!!.. وقال بيتشر الابن: لقد أيقظتنى هذه العبارة، وكانت لى أفضل قانون للإيمان،... لقد اجتزت فى بكور أيامى بين المرض والفقر وألوان المتاعب والضيقات، دون أن تغيب عن ناظرى، أو يتباعد رنينها عن أذنى: « لقد وثقت باللّه أربعين عاماً، ولست مستعداً بعد أن أبدأ الآن بعدم الثقة فيه »!! إنحنى نبوخذ نصر، إنحنى الملك العظيم أمام ملك الملوك ورب الأرباب، وسجل أمام اللّه والتاريخ فى مواجهة الأتون: « تبارك إله شدرخ وميشخ وعبد نغو، الذى أرسل ملاكه وأنقذ عبيده الذين اتكلوا عليه وغيروا كلمة الملك وأسلموا أجسادهم لكيلا يعبدوا أو يسجدوا لإله غير إلههم. فمتى قد صدر أمر بأن كل شعب وأمة ولسان يتكلمون بالسوء على إله شدرخ وميشخ وعبد نغو فإنهم يصيرون إرباً إباًً وتجعل بيوتهم مزبلة إذ ليس إله آخر يستطيع أن ينجى هكذا.. حينئذ قدم الملك شدوخ وميشخ وعبد نغو فى ولاية بابل » " دا 3: 28 - 30 "نعم، وليكن اسمه مباركاً إلى أبد الآبدين آمين فآمين!!...
المزيد
19 ديسمبر 2020
المقالة الثانية والعشرون في الرحيل من هذا العالم
الطوبى لمن أبغض العالم الإنساني وتركه، وصارت تلاوة حياته من اللـه وحده مفرداً.
الطوبى لمن مقت الخطية الرديئة ورفضها، وأحب اللـه وحده الصالح والمتعطف على البشر.
مغبوط من صار على الأرض بمنزلة ملاك سمائي، ومضاهي الشاروبيم، حاوياً أفكاراً بكل وقت طاهرة نقية.
مغبوط من صار طاهراً للـه وقديساً، ونقياً من كافة النجاسات والأفكار والأفعال الخبيثة.
مغبوط من صار بجملته حراً للرب من كل أمور هذا العالم الباطل، مغبوط من تمكن في عقلة ذلك اليوم العتيد الرهيب فحرص أن يداوي بالدموع جراحات نفسه، مغبوط من صار بكليته مثل سحابة تسكب الدموع كل حين وطفأَ اضطرام نار الآلام الخبيثة، مغبوط من يسلك في طريق وصايا الرب صانعاً كل وقت منازل تلمع صفاءً بالأمانة والمحبة، مغبوط من نجح في عادات النسك الصالحة موقناً أنه يأخذ من اللـه ملكاً سمائياً، مغبوط من يتذكر أمر القول المرهوب فأقام فمه حافظاً يرصده آلا يسقط من الوصية، مغبوط من صارت نفسه كالنصبة الجديد نصبها الغضة الحاوية دائماً دموعاً من أجل اللـه مثل ساقية الماء، الطوبى لمن غرس في نفسه نصبات حسنة أي الفضائل وسير القديسين، مغبوط من يسقي غروسه بالدموع إذا صلي لتصير غروسه مرضية للـه ومثمرة، الطوبى لمن أضطرم بمحبة الرب كمحترق بالنار فأحرق كل فكر دنس من نفسه، الطوبى لمن صار باختياره كأرض جيدة صالحة مثمرة زرعاً جيداً مائة وستين وثلاثين، الطوبى لمن وجد في حقل نيته البذار الجيد الذي زرعه السيد في حقله، مغبوط من وجد الدرة الخطيرة السمائية فأباع ما له على الأرض وأبتاعها وحدها، الطوبى لمن وجد الكنز المخبوء في الحقل فرفض كافة الأشياء معاً وأقتناه وحده، الطوبى لمن يتذكر دائماً يوم انصرافه ويحرص أن يوجد في تلك الساعة وافر النشاط وبلا خوف، الطوبى لمن وجد دالة في ساعة الفراق إذا فارقت النفس الجسم بخوف وأوجاع لأن الملائكة يجيئون يأخذون النفس ويفرقونها من جسدها ويقفون بها أمام موقف الختن الذي لا يموت والقاضي المرهوب جداً، خوف عظيم في ساعة الموت إذا فارقت النفس الجسم بخوف ونحيب لأن النفس في ساعة الفراق تقف أمامها أعمالها التي عملتها في النهار والليل الصالحة والطالحة، والملائكة متسارعون أن يخرجوها من الجسد فإذا رأت النفس أعمالها تجزع من الخروج، تفارق نفس الخاطئ بخوف وجزع الجسد وتمضي مرتعدة لتقف في مجلس القضاء الذي لا ينقضي فيقتسرونها أن تخرج من الجسد فإذا أبصرت أعمالها كلها تقول لهم بخوف ” أعطوني مهلة ساعة واحدة حتى أخرج ” فتجيب النفس أعمالها كلها: أنتِ صنعتينا فمعكِ نمضي إلى حضرة القاضي. فلنمقتن يا أخوتي هذا العالم الباطل ولنحب المسيح وحدة القدوس والفادي نفوسنا لأننا لا نعرف في أية ساعة يكون انصرافنا ولا يعلم أحد منا يوم الفراق وساعته لأنه بغتة حين نكون متخطرين ومتنعمين على الأرض بلا اهتمام يدهمنا الأمر المرهوب فتؤخذ النفس من الجسم وتمضي نفس الخاطئ في ساعة ويوم لا تتوقعهما موعوبة خطايا ولا اعتذار لها، فلهذا الحال أطلب إليكم أن نصير أحراراً ولا نتقيد بعبودية هذا العالم الباطل الوقتي الموعوب شكوكاً وفخاخاً ومقانص الموت، فلنجنح نفوسنا ولنطيرها عن الشكوك والفخاخ لأن الخبيث كل يوم يطمر دائماً فخاخه قدام نفوسنا لكي ما إذا أقتنصها بالشكوك والفخاخ يقتنصها إلى العذاب الأبدي، فلنصغِ إلى ذاتنا حذرين أن نسقط في فخاخ الموت، لأن فخاخ العدو موعبة حلاوة فلا تنحل أنفسنا لحلاوة فخاخه التي هي الاهتمام بالأمور الأرضية لأن الأقوال والأفكار والأفعال الخبيثة هي الفخ، فلا تستحل أيها الأخ بحلاوة المرئي، لا تتراخَ وتنحل بدراسة الأفكار الخبيثة فإن الفكر الخبيث إذا وجد مدخلاً للنفس يحلي لها الدراسة الخبيثة ويصير الفكر الخبيث كالفخ في النفس فلا ينطرد بالصلاة والدموع ولا بالحمية والسهر فصر منذ الآن متيقظاً ومعتوقاً من كافة الأشياء الأرضية لتنجى من فخاخ الأفكار ومن الأفعال الخبيثة، لا تتراخَ طرفة واحدة وتتلُ في مناجاة الفكر الخبيث، لا تدع أن يلبث الفكر الخبيث في نفسك، أيها الأخ أهرب دائماً إلى اللـه بالصلاة والصوم والدموع لتنجى من كافة الفخاخ والشكوك والآلام، لا تترجى أيها الأخ أنكَ تعيش على الأرض زماناً طويلاً فتتراخى في دراسة الأفكار الخبيثة والأفعال الرديئة فيوافي بغتة أمر الرب ويصادفك أيها الخاطئ ليس لك وقت توبة واستغفار، فماذا تقول أيها الأخ للموت في ساعة الفراق لأن الأمر يدهم فلا يتركك ساعة على الأرض، وكثير ممن ظنوا أنهم يعيشون زماناً طويلاً على الأرض فجائهم الموت بغتة، إن رجلاً خاطئاً وموسراً حاسباً سنيناً كثيرة على الأرض يعيشها في راحة ونعيم عاقداً باصابعه حساب رأس المال والرباء موزعاً عدد ثروته في سنين زمان طويل فدهمه الموت بغتة ففي طرفة واحدة بطل الحساب والغنى واهتمام العالم الباطل، جاء الموت أيضاً فصادف رجلاً صديقاً متصور الموت دائماً بين عينية غير خائف من وروده ومفارقة الجسد متوقعاً أمله دائماً بين عينيه كما يليق بالفقيه الروحاني منتظر الفراق والمثول في مقام الرب، أستعد في كل حين بمصباحك مثل عاقل ونشيط، تفقد نفسك كل ساعة بالدموع والصلوات ما دمت تجد وقت أمهال، أحرص يا حبيبي فإن زمانك يجئ بجملته موعباً عدم أمانة، رخاوة، ونية، قساوة، فلا يسمح لك أن تفتكر في الرؤيات الفاضلة لأنه يدهشك. يا أحبائي قد عرفتم كيف أن الأشياء الخبيثة كلها تشب وتنشئُ كل يوم الأمور الرديئة، فالخبث يسبق بسعيه فيدل على الاختلاط الآتي والحزن العتيد أن يكون على وجه كافة الأرض هذه تنتج من أجل خطايانا كلها كل يوم ومن أجل رخاوتنا ينبت الخبيث على الأرض فلنصر متيقظين محاربين وادين للـه غالبين كل وقت قتال العدو كاملين، ولنعلم عادات الحرب لأنها لا ترى، وعادات هذا القتال هي التعري من الأرضيات، إن أنتظرت الموت كل يوم لا تخطئ، إن تعريت من الأمور الأرضية فلا تنهزم في الحرب، إن أبغضت الأرضيات وأحتقرت الوقتيات تستطيع مثل محارب ذي شهامة أن تأخذ راية الغلبة فإن الأشياء الأرضية تسحب إلى أسفل، والآلام تظلم عيني القلب في القتال، لهذه الحال يغلبنا الخبيث في موقف القتال لأننا نقتني الأرضيات، وبالاهتمام بالأرضيات نخدم اللذات، كلنا اليوم نحب الأرضيات وعقلنا قد تسمر في الأرض من أجل رخاوتنا، النهار قد مال إلى المساء وقد انتهى منذ الآن زماننا ونحن من أجل عدمنا الأمانة نظن أنه سيمتد ويطول، ها ملكوت السموات على الأبواب ونحن عن هذا الأمر لا نؤثر أن نسمع ذكراً، العلامات والآيات التي قالها الرب صارت ! أي أوبئة ومجاعات وزلازل مفزعة وحروب هذه كلها نعتقد بها كمنام يحدث بها بعضنا بعضاً، فاستماع مسماع هذه المخاوف ومعاينتها لا تذهلنا. فلنهرب يا أحبائي إن الساعة الحادية عشرة هي، ومسافة الطريق طويلة جداً، فلنحرص أن نوجد في الطريق ولنكن متيقظين ولنستفق من النوم غير هاجعين، فإننا لا نعلم متى أو في أية ساعة يجئ سيد كافة الأرض، فلنخفف ذاتنا من ثقل واهتمام الأرضيات فقد قال لنا الرب أن لا نهتم بشئ ألبتة، وأوصانا أن نحب الكل معاً فنحن قد طردنا هذه المحبة فهربت من الأرض فتكاثرت الخطايا وغشا الظلم الكافة معاً كل واحد منا يتمني الأشياء الأرضية ويورثها، ويتهاون بالمناقب السماوية، ويبتغي الوقتيات، ولا يحب الأمور المستأنفة، أتؤسر أن تكون سمائياً أبغض دائماً الأمور والأشياء التي على الأرض وأرفضها وانسك وأشتهي ملكوت السموات، لا تظن أن كثير عمل النسك وتعبة وتقول أني حقير وضعيف ولا أستطيع أنسك، تفهم كلمات مشورة نفيسة وصالحة، تأمل ما لك أيها الأخ المحب للمسيح إن آثرت أن تسافر إلى بلد أو موطن بعيد لا تستطيع أن تسير كافة مسافة الطريق في لحظة واحدة هكذا هو الملك السماوي ونعيم الفردوس بالأصوام بالنسك بالسهر يبلغ إليه كل واحد، فالحمية والدموع والصلاة والسهر والمحبة هي المنازل المؤدية إلى السماء، لا ترهب أن تصنع ابتداءً حسناً للطريقة الجليلة المؤدية إلى الحياة، أرغب أن تسلك في الطرق فإن وجدت ذاتك وافر النشاط فالطريقة نفسها في الحين تتيسر أمام رجليك وتفرح سالكاً فيها وتصنع فيها منازل طرباً مبتهجاً وفي كل منزل تتقوى مسالك نفسك، ولا تجد صعوبة في الطريقة المؤدية إلى السماء لأن الرب السماوي هو بذاته صار طريق حياة للمؤثرين أن يذهبوا بفرح إلى أبي الأنوار، أيها المسيح المخلص صر لي طريق حياة مؤدية إلى الآب هذه وحدها هي السرور ونهايتها المملكة السمائية، لقد صرت لي أيها السيد يسوع الإله طريق حياة واستنارة فأغترفت بذاتي من الينبوع مواهب موعبة شوقاً فصارت نعمتك في قلب عبدك نوراً وفرحاً وحلاوة في فم عبدك أحلي من العسل والشهد وصارت في نفس عبدك كنزاً (أي مسكنة ) وطردت الفقر والأثم، صارت نعمتك لعبدك ملجأً وقوة نصراً وسمواً وفخراً وأغذية كافة الحياة، كيف يصمت عبدك من وفور لذة محبتك أيها السيد، ونعمتك التي فتحت فمي بلا استحقاق، كيف يصمت لساني عما ينفعه من تسبح وتمجيد المعطي الخيرات وكيف أجترئ أن أحبس أمواج النعمة النابعة في قلب الخاطئ الموعبة حلاوة في المواهب الجزيلة إني أرتل تمجيداً لسيد السمائيين المعطي خادمه المواهب السمائية بتعطفة الجزيل على البشر، أُعظم نعمتك أيها المسيح المخلص لأنني إذا عظمتها أعظم بها ولا أكف أن أتلو بلساني تمجيد نعمتك أيها السيد المسيح المخلص، ولا تصمت معزفتي من الترنم بترنيمات روحانية، إن شوقك يجذبني إليك يا فخر حياتي ونعمتك تحلي ذهني لأنجذب وراءك ليصير قلبي لك أرضاً صالحة قابلة بذاراً جيداً تندية نعمتك بنداء الحياة الأبدية لتحصد نعمتك من أرض قلبي كل حين غمراً جيداً تخشعاً سجوداً طهارةً وكافة المرضيات لك، أسترجع نفسي إلى صيرة ( حظيرة ) فردوس النعيم مع الخروف الذي وجد، فلتوجد نفسي في النور، إن ذلك الخروف لما وجدته حملته على منكبيك، فأما نفسي هذه غير المستحقة فأقتدها بيدك وقدمتها كلاهما إلى أبيك الطاهر الذي لا يموت حتى أقول في نعيم الفردوس مع كافة القديسين المجد للآب الذي لا يموت وللابن الذي لا يموت والروح القدس الذي لا يموت والسجود للمعطي الحقير مواهب سمائية ليقرب غمر التمجيد لملك كافة البرايا له المجد إلى الأبد وعلينا رحمته.
آمـين
مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
18 ديسمبر 2020
معلومات لاهوتية عن شهر كيهك
مواضيع عامه
تسبحة كيهك تسمى (سبعة وأربعة) إذ أن ترتيبها الأساسى عبارة عن أربعة هوسات، وسبعة ثيئوطوكيات وكلمة هوس hwc معناها تسبحة. وكلمة ثيئوطوكية مشتقة من كلمة ثيئوطوكوس qe`otokoc ومعناها والدة الإله أى أنها تختص بعقيدة التجسد من والدة الإله العذراء القديسة مريم
وهنا نضع أمامنا أربعـة أسـئلة حول تسبحة شهر كيهك
لماذا فى شهر كيهك ؟؟؟
لماذا للعذراء القديسة مريم ؟؟؟
لماذا سبعة وأربعة ؟؟؟
لماذا أثناء الليل؟؟
أولاً : لماذا شهر كيهك ؟؟
الكنيسة تكثر التسبيح فى شهر كيهك وقبل عيد الميلاد (29 كيهك) استعداداً لاستقبال ميلاد ربنا يسوع المسيح، وكأنها تُعد الأرض كلها بالتسبيح لتصير سماء ثانية يحل فيها الكلمة المتجسد وتُعد قلوبنا أيضاً بالتسبيح لتصير سماء ثانية يسكن فيها المسيح. ولعل فى ذلك إشارة إلى اعتكاف السيدة العذراء من سن 3 سنوات وهى تداوم التسبيح والتمجيد لله حتى استحقت أن تسمع البشارة السماوية من فم رئيس الملائكة غبريال بأن المولود منها يدعى ابن الله وهكذا عندما نعتكف نحن أيضاً فى الكنيسة بالتسبيح والتمجيد خلال هذا الشهر المبارك ننتظر ميلاد ربنا يسـوع المسيح " والكلمة صار جسداً وحل بيننا " ولكى نتأهل أن يحل المسيح بالإيمان فى قلوبنا ولذلك ارتبطت تسابيح شهر كيهك بمعانى كثيرة عن التجسد الإلهى والميلاد العجيب والرموز والنبوات التى أشارت إليها وذلك وبصفة خاصة فى الثيئوطوكيات التى وُضعت أساساً لتأكيد عقيدة التجسد الإلهى من العذراء والدة الإله بعد مجمع أفسس سنة 431م برئاسة القديس العظيم البابا كيرلس الأول عمود الدين، وذلك ضد بدعة نسطور الذى أنكر أن السيدة العذراء والدة الإلـه qe`otokoc وكانت خطورة ذلك أنها لو لم تكن والدة الإله لما كان المسيح هو الله ولذلك جاءت السبع ثيئوطوكيات تتحدث بعبارات لاهوتية منظومة وقوية عن التجسد والميلاد ورموز العذراء مريم فى العهد القديم وارتباطها بالتجسد الإلهى مثل أنها قدس الأقداس، والتابوت المصفح بالذهب، وغطاء التابوت، وقسـط المن، والمنارة الذهب، والمجمرة الذهـب، وعصا هارون، وزهرة البخور، والعليقة، والسلم الذى رآه يعقوب، وجبل سيناء، والجبل الذى رآه دانيال، والباب الذى رآه حزقيال، ومدينة الله، والسحابة، والفردوس العقلى، والسماء الثانية الجديدة، وعجينة البشرية، والمرأة المتسربلة بالشمس، ولوحى العهد وهذه الرموز وردت بصورة مركزة فى الثيئوطوكيات وتحدثت بها وعنها المدائح المنظومة باللغة العربية باستفاضة، وتتكرر أيضاً فى الطروحات التى تُقرأ أثناء تسبحة سبعة وأربعة وتحدثت الثيئوطوكيات عن ارتباط هذه الرموز بالعذراء القديسة مريم بكونها والدة الإله وبالتالى تحدثت عن التجسد الإلهى كعقيدة أساسية فى إيماننا المسيحى عظيم هو سر التقوى الله ظهر فى الجسد وهنا نشير إلى أن الكنيسة بالإشارات الكثيرة عن التجسد والميلاد فى نغم مفرح وجميل تؤهلنا للاستعداد باشتياق لهذا اليوم المفرح يوم عيد الميلاد فندرك عظمة محبة الله وتواضعه إذ أنه " أخلى نفسـه آخذاً صورة عبد صائراً فى (يو1: 14). - (اف 3 : 17). (3)- (1تى3: 16) شبه الناس " فنمجده بقلوب نقية فى هذا العيد المبارك، ولعلنا ندرك أن الاسـتعداد لأى شئ فى حياتنا يجعل لنا فيه فائدة كبيرة فكلما أعددنا نفوسـنا وقلوبنا فى شهر كيهك كلما استفدنا من عيد الميلاد فى حياتنا، وكان له فاعلية روحية عميقة
ثانياً : لماذا العذراء القديسة مريم ؟؟
لعله أصبح واضحاً من حديثنا عن الاستعداد لميلاد ابن الله أن تسابيح شهر كيهك ترتبط بوالدة الإله التى استحقت أن تكون السماء الثانية، وهى أيضاً تدعونا أن نتشبه بها خلال هذا الشهر لتكون قلوبنا سماء ثانية لربنا يسوع المسيح مولود بيت لحم ولذلك – وكما سبق أن قلنا – أن كلمات التسابيح وخصوصاً الثيئوطوكيات تتحدث بإفراط عن التجسد، وعن العذراء القديسة مريم ونمجدها لأنها استحقت هذه النعمة العظيمة وهذا التطويب للعذراء القديسة مريم نطق به الوحى الإلهى على فمها الطاهر عندما قالت " فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبنى أليس تطويبنا للعذراء من يوم أن نطقت بهذه العبارة النبوية إلى هذا الجيل وإلى كل الأجيال ألا يتحقق هذا فى التسابيح الكنسية اليومية (من خلال الثيئوطوكيات اليومية السبعة)، ومن خلال تسابيح شهر كيهك بصورة أعظم وأعمق
ثالثاً : لماذا سبعة وأربعة ؟؟
أساس التسبحة فى الكنيسة أربع هوسات، وسبع ثيئوطوكيات (كتاب التسبحة يسمى الأبصلمودية)
والهوسات الأربعة هى
الهوس الأول : وهو تسبحة موسى النبى بعد عبور البحر الأحمر(3) (فى 2: 7). (2)- (لو1: 48). (3)- (خر15)موسى وعبــور البحر الأحمر
الهوس الثانى : وهو المزمور 135 وهو تسبحة شكر لله " أشكروا الرب لأنه صالح وأن إلى الأبد رحمته "
الهوس الثالث : وهو تسبحة الثلاث فتية القديسين فى آتون النار|
الهوس الرابع : وهو المزامير 148، 149، 150 وهى مزامير تسبيح وشكر لله على فم الخليقة كلها بكل كائناتها الثلاثة فتية القديسين ومعهم رابع شبيه بابن الآلهة
أما السبع ثيئوطوكيات فهى مرتبة لكل يوم من أيام الأسبوع السبعة، وهى كما سبق أن أشرنا أنها مليئة بالعبارات اللاهوتية والرموز النبوية التى تتحدث عن التجسد الإلهى وحلول الله بيننا، وعن العذراء بكونها والدة الإله ولعل رقم (7) يمثل كل أيام الأسبوع (أى كل يوم) ورقم (4) يمثل كل الأرض (الجهات الأربعة) أى كل مكان فكأن التسـبيح بسبعة وأربعة يشـير (وردت فى تتمة سفر دانيال الإصحاح الثالث) إلى التسـبيح كل يـوم فى كل مكان، مثلما نصلى فى تحليـل صـلاة الغروب " وننهض للتسابيح والصلوات كل حين وفى كل مكان نمجد اسمك القدوس " ومعنى عبارة كل حين وفى كل مكان أى تصير الأرض كالسماء لأن التسبيح فى السماء كل حين وفى كل مكان وكأننا بهذه التسابيح فى سبعة وأربعة نتشوق أن تتحول الأرض إلى سماء يسكن فيها العلى فالتسبيح فى شهر كيهك هو إعداد الأرض كلها، وإعداد قلوبنا بصفة خاصة أن تكون كالسماء لكى يسكن فيها الله الكلمة المتجسد وهكذا يرتبط التسبيح دائماً بحلول الله وسكناه ولذلك تلقب الكنيسة العذراء بأنها السماء الثانية التى سكن فيها العلى (ثيئوطوكية السبت). ويضاف إلى الأربعة هوسات والسبع ثيئوطوكيات أجزاء أخرى مثل مجمع القديسين والإبصاليات (إبصالية yalia أى ترتيـلة) وذكصولوجـيات ( ذكصولوجية dozolojia أى تمجيد) ومدائح منظومة باللغة العربية، وطروحات (تفسير) تقال بعد كل هـوس، وكل ثيئوطوكية، وعلى نفـس المعانى الواردة بها لزيادة الشرح والتوضيح لكى يشترك الكل فى الفائدة الروحية
رابعاً : لماذا أثناء الليل (السهر) ؟؟؟
اعتادت الكنيسة أن تسهر فى التسابيح الكيهكية طوال الليل حيث تبدأ السهرة بتسبحة قوموا يا بنى النور `e `p]wi ten ,qhnou وكأنها تدعونا أن تحول ظلام الليل إلى نور كما يقول معلمنا بولس الرسول " جميعكم أبناء نور وأبناء نهار لسنا من ليل ولا ظلمة فلا ننم كالباقين بل لنسهر ونصح"(1)
وفى هذه التسابيح تدريب روحى على السهر فى تسبيح مملوء بالاشتياق والحب وكأنه حوار بين الكنيسة العروس والمسيح عريسها وهو متعة روحية جميلة يستمتع بها السهارى المستعدون كالعذارى الحكيمات وفى نهاية السـهرة طوال الليل نفرح بشـروق شمـس البر فى باكر النهار "ولكم أيها المتقون اسمى تشرق شمس البر" والمتقون الرب هم الذين يسهرون فى الصلاة والتسابيح، فيشرق لهم العريس السماوى شمس البر فى نهاية كل سهرة روحية ونقول فى صلاة باكر " أيها النور الحقيقى الذى يضئ لكل إنسان آت إلى العالم أتيت إلى العالم بمحبتك للبشر " وعبارة " أتيت إلى العالم بمحبتك للبشر" تشير إلى مجئ المسيح شمس البر فى ميلاده الذى نستعد له بهذه التسابيح والسهرات الروحية.إلهنا الصالح محب البشر يعطينا أن نشترك فى هذه الأيام المباركة بالاستعداد والتسابيح ونقاوة القلب حتى ننال بركة عيد ميلاد ربنا يسوع المسيح بفرح روحى ولا يكون هذا الكلام مجرد معلومات طقسية للمعرفة العقلانية فقط ولكن يكون دافعاً للممارسة والتمتع بحياة الكنيسة ونقول مع ربنا يسوع المسيح "إن علمتم هـذا فطوباكم إن عملتموه ".كل عام وأنتم بخير .
المزيد
17 ديسمبر 2020
شخصيات الكتاب المقدس إشعياء
" فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد " إش 6: 1
مقدمة
كان إشعياء واحداً من أعظم عمالقة التاريخ، وسفره هو الأول بين ما يطلق عليها: «أسفار الأنبياء الكبار »، ولا تستطيع أن تقرأ سفره دون أن ترتقى الهضاب العالية، وتمد بصرك إلى الآفاق البعيدة التى تجتاز العصور والأجيال، وتأتى إلى آخر الأيام فى الرؤى المذهلة العجيبة،... أليس هو الرجل الذى بدأ نبوته بذلك المنظر المهيب للسيد وهو جالس على كرسيه العالى والمرتفع، وأذياله تملأ الهيكل؟؟.. ومن ذا الذى يمكن أن يرى السيد فى مجده العظيم، والملائكة واقفون بين يديه، دون أن يحس بحاجته إلى الارتقاء إلى أعلى مقام عن هذه الأرض، ليخشع فى فزع قائلا: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6: 5 ".. وأليس هو الرجل الذى طوى مئات السنين، ونقلنا فى الأصحاح الثالث والخمسين إلى هضبة الجلجثة، لنرى دقائق الصلب وتفاصيله، كمن يراها رؤيا العيان، ويكتب عنها من تحت الصليب،... وأليس هو النبى الذى اخترق حجب المستقبل القريب والبعيد، فأوقفنا على هضاب آيته لاحقة لتاريخه،... فرأينا كورش يجتاح الممالك، ويطويها، ويسقطها تحت قدميه، ويعطيه اللّه اسمه قبل أن يولد بمائة وخمسين عاماً،... ولم يكن كورش إلا رمزاً لذلك الذي خرج غالباً ولكى يغلب، والذى يقود أعظم المعارك فى الأرض، ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم... فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل،... ولا يتعلمون الحرب فيما بعد » "إش 2: 2 - 4 " لأنى هأنذا خالق سموات جديدة وأرضاً جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال » " إش 65: 17 ".ولعلنا نتأمل الآن هذا الرجل العظيم من فوق هذه الربى والهضاب العالية لنراه مع سفره ونبواته وهو يحدثنا فيما يلى:
إشعياء من هو!!؟
الاسم « إشعياء » يعنى « خلاص يهوه » أو « خلاص الرب » وهو ابن « آموص » أو « القوى » وقد أطلق على زوجته « النبية » وربما كان القصد فى ذلك أنها زوجة النبى، وإن كان البعض يظن أنها كانت تملك موهبة النبوة، وقد ولد له ولدان اسم الأول « شآر ياشوب » أو « بقية سترجع » ولعل القصد من ذلك رجوع البقية من السبى، أو رجوع البقية إلى اللّه برسالة إشعياء، والثانى: « مهير شلال حاش بز » ويعنى « سلب يعجل خراب يسرع » والمقصود بذلك أنه على قدر السرعة فى جمع الأسلوب ونهبها، على قدر ما يأتى الخراب المعجل،... وقد أوضح النبى أن نبوته جاءت فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا، ومن المعتقد أنه ولد قبل موت عزيا بعشرين عاماً على الأقل، وإذا صح التقليد القائل بأنه مات منشوراً على يد منسى الملك، فمن المتصور أنه عاش حتى بلغ التسعين من عمره أو ما بين عامى 780، 690 ق.م. ومن الجدير بالذكر أنه فى ذلك التاريخ بنيت مدينة روما، والتى كانوا يطلقون عليها « المدينة الخالدة » وقد عاش إشعياء على مر الأجيال والتاريخ أكثر عظمة وجلالا وخلوداً،... وفى تصور الكثيرين أن إشعياء كان ينتسب إلى البيت الملكى، وأنه على أية حال كانت له المكانة التى تجعله يعطى المشورة للملك آحاز، والذى لاذ به الملك حزقيا أمام غزوة سنحاريب للبلاد، وحصاره لأورشليم، ومن الثابت أنه كان شجاعاً حازماً، لا يعرف المداورة أو المهادنة فى كل ما يتصل بالدين،... يستوى عنده فى ذلك الملك أو غير الملك، ألم يقل للملك آحاز: « اسمعوا يا بيت داود. هل هو قليل عليكم أن تضجروا الناس حتى تضجروا إلهى أيضاً » " إش 7: 13 " وقال للملك حزقيا: اوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش » " إش 38: 1 "، هوذا تأتى أيام يحمل فيها كل ما فى بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل. لا يترك شئ يقول الرب » " إش 39: 6 " وقد صور إسرائيل فى مرتبة أدنى من الحيوان فى مطلع سفره « الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه. أما اسرائيل فلا يعرف شعبى لا يفهم. ويل للأمة الخاطئة الشعب الثقيل الإثم نسل فاعلى الشر أولاد مفسدين ». " إش 1: 3 و4 " « كيف صارت القرية الأمينة زانية » " إش 1: 21 " « لأنه شعب متمرد أولاد كذبة ».. " إش 30: 9 " ومع هذه الشجاعة الحازمة كان رفيق القلب شديد الحدب والعطف، ويكفى أن نراه يقول: « لذلك قلت اقتصروا عنى فأبكى بمرارة. لا تلحوا بتعزيتى عن خراب بنت شعبى » "إش 22: 4 " بل لعله كان يبكى تجاه آلام الآخرين، حتى ولو كانوا من الأمم، وهو القائل عن موآب: « يصرخ قلبى من أجل موآب » " إش 15: 5 "« لذلك أبكى بكاء يعزير على كرمة سمة أوريكما بدموعى ياحشبون وألعالة ». " إش 16: 9 " كان يندد بالخطية أشد تنديد، وفى الوقت نفسه يبكى على الخطاة،... ومن الجانب الآخر كان فرحه عظيماً بالأمم التى تجرى إلى اللّه: « ويكون فى آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتاً فى رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجرى إليه كل الأمم »" إش 2: 2"« ويكون فى ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم ويكون محله مجداً » " إش 11: 10 "« فى ذلك اليوم تكون سكة من مصر إلى آشور فيجئ الأشوريون إلى مصر والمصريون إلى آشور ويعد المصريون مع الأشوريين فى ذلك اليوم يكون إسرائيل ثلثا لمصر ولأشور بركة فى الأرض بها يبارك رب الجنود قائلا مبارك شعبى مصر وعمل يدى آشور وميراثى إسرائيل » "إش 19: 23 - 25 ". لم يكن الرجل ضيق الأفق، محدود النظرة، تمتلكه نعرة الجنس، تحجب رؤياه عن العالم الواسع الذى لا حياة لهن بدون اللّه،... على أن هذا لا يعنى أنه لم يكن غيوراً لوطنه، متحمساً له، يهتم بالدفاع عنه ورعايته، لقد كان وطنياً من طراز ممتاز، وهو القائل لآحاز: احترز واهدأ. لا تخف ولا يضعف قلبك من أجل ذنبى هاتين الشعلتين المدخنتين بحمو غضب رصين وآرام وابن رمليا » " إش 7: 4 ".. كما قال لحزقيا: « هكذا يقول الرب إله إسرائيل الذى صليت إليه من جهة سنحاريب ملك آشور هذا هو الكلام الذى تكلم به الرب عليه: احتقرتك استهزأت بك العذراء ابنة صهيون. نحوك أنغضت ابنة أورشليم رأسها » "إش 37: 21 و22".وكان إشعياء، مع ذلك، رجلا عميق التعبد والاحترام للّه،... ولعل الرؤيا التى رآها فى الهيكل، تركت طابعها العميق فى حياته بجملتها!!.. وهو لا يرى هذا التعبد فى مجرد العبادة الشكلية والطقسية أو الظاهرية، فالذبائح لا قيمة لها: « لماذا كثرة ذبائحكم يقول الرب. اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات وبدم عجول وخرفان وتيوس ما أسر » " إش 1: 11" والاهتمام بأيام معينة فى نظره باطل وكذب: « رأس الشهر والسبت ونداء المحفل لست أطيق الإثم والاعتكاف » " إش 1: 13 " كما أن الهيكل فى حد ذاته لا معنى له: « هكذا قال الرب: السموات كرسى والأرض موطئ قدمى. أين البيت الذى تبنون لى وأين مكان راحتى » " إش 66: 1 " إن العبرة عند اللّه بالحياة الروحية العميقة فى روح الطاعة: « إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض » "إش 1: 19" وحياة البر وخوف اللّه: « وإلى هذا أنظر إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامى » "إش 66: 2 " كان إشعياء يعيش على الدوام أمام اللّه العلى: « لأنه هكذا قال العلى المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه. فى الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح لأحيى روح المتواضعين ولأحيى قلب المنسحقين » "إش 57: 15 " « أدخل إلى الصخرة وأختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته » " إش 2: 10 "... ولا حاجة إلى القول بأن الرجل كان شديد الثقة باللّه، كامل الاعتماد عليه، ومن ثم كان يرفض تماماً التحالف مع آشور أو مصر،... وقد قاوم مثل هذا التحالف ما وسعته المقاومة سواء فى حياة الملك آحاز أو الملك حزقيا،... ومع أن مصر واشور كانتا الدولتين العظميين، قبل أن تظهر بابل فى الأفق،... إلا إنه كان يعتقد بحق، أن الإيمان باللّه وحده، هو الذى يعطى الإنسان اطمئنانه الكامل، وسلامه الدائم،... وأن الدول المتحالفة إذا أعانت بعض الوقت، فسيلحقها العجز بعد ذلك، وتضحى عبئاً، لا عوناً، وأكثر من ذلك إنهاء تحول المتحالف معها إلى فريسة يمكن أن تبتلعها متى أتيحت لها الفرصة، وسنح الوقت!!.. وقد كان الرجل صادق المشورة فى هذا المجال، بل كان واثقاً من النتيجة عندما استمع حزقيا الملك، وقد أدرك هذا الاختبار، فتعاون أولا مع آشور، ثم عاد ليواجهها معتمداً على اللّه،... وسقط عند أبواب عاصمته زهرة الجيش الأشورى مائة وخمسة وثمانون ألفاً من الجنود فى ليلة واحدة!! ومن المسلم به أن إشعياء كان واسع الثقافة، بلغ السمت والقمة بين الأنبياء، فلم يتفوق عليه أحد منهم من الوجهة الإنسانية. فى فخامة اللفظ، وجلال التعبير، ورصانة الأسلوب،... وقد قيل أنه لم يبره أحد قط منهم فى الجمع بين فخامة العبارة، ودسامة التفكير، إذ لم تكن فصاحته على حساب المعنى، أو معناه على حساب التعبير الجزل الجميل!!ولم يكن عند الرجل رتابة فى الأسلوب أو قصور فى المنطق، بل تحس وأنت تقرأ سفره أنك تسير بين أعلى القمم وأعمق الوديان،... ولعل هذا كان الباعث الأكبر عند عدد من النقاد، إلى الزعم بأن هناك أكثر من إشعياء فى كتابة السفر... وقالوا إن هناك إشعياء الأول والثانى وربما الثالث.. لأنهم تصوروا أن شخصاً واحداً لا يستطيع أن يصل إلى ما وصل إليه هذا السفر العظيم فى أصحاحاته الستة والستين!!.. ومع أن التاريخ اليهودى أو الكنسى، كان فيه ما يشبه الإجماع على أن إشعياء وحده هو كاتب السفر، ولم يشذ عن هذا الإجماع، سوى بن عزرا فى القرن الثانى عشر الميلادى، والذى قال إن الأصحاحات من الأربعين إلى الستة والستين ربما لا تكون من عمل إشعياء، ولم يجاره فى الكنيسة المسيحية سوى كاتب ألمانى اسمه كوبى (Koppe) الذى زعم أن هذا الأصحاحات كتبت على الأغلب بعد السبى البابلى، وتمشى فى إثره بعد ذلك، من تمشى من النقاد، وحجتهم فى الغالب أن الإصحاحات الأخيره المشار إليها، كتبت كما لو كان السبى البابلى حقيقة قد وقعت، وأن إشعياء (الثانى كما يزعمون) لم يكن قد ولد عندما جاء كورش، وأن قرابة مائة وخمسين عاماً أو تزيد، كانت لابد أن تمر قبل أن يأتى ذلك الملك العظيم المشار إليه فى إشعياء!! وأن الأسلوب فى الجزئين من السفر شديد التغير، مما يحتمل معه أن شخصاً مجهولا يمكن أن يطلق عليه إشعياء الثانى كتب الأجز اء الأخيرة من السفر بعد السبى، وضمت إلى إشعياء!!. وقد بلغ التصور عند نقاد آخرين إلى أن سبعة من الكتاب اشتركوا فى كتابة هذا السفر، وليس مجرد إشعياء ثان فقط!!... على أن أعظم علماء الكتاب قد قاوموا هذا التصور مقاومة حادة ونادوا بوحدة السفر ونذكر منهم فى ألمانيا... جاهن، وهستنبرج، وكلينرت، وهافرنك، وستاير، وكايل، وديلتش، ورينو شمعان،... وفى إنجلترا، هندرسون، وهاكستبيل، وكاى، ويورك، ودين باين سميث، وبروفسور بركس، وبروفسور ستانلى ليسز... وقد بنى هؤلاء وغيرهم، وحدة السفر على أسس خارجية، وأخرى داخلية،... أما الخارجية فتظهر من أن الترجمة السبعينية وهى الترجمة المعروفة من سنة 250 ق.م. تنسب الكتاب كله لإشعياء بن آموص، وابن سيراخ الذى عاش حوالى سنة 180 ق.م لا يتردد فى نسبة الأجزاء الأخيرة إلى إشعياء،... كما أن مخطوطات وادى قمران، وهى أحدث مخطوطات اكتشفت عام 1947 ق.م. بقرب البحر الميت ويرجع تاريخها إلى ما بين القرنين الأول والثانى قبل الميلاد يظهر فيها سفر إشعياء كاملا منسوباً إلى إشعياء بن اموص!! كما أن اقتباسات العهد الجديد والسيد المسيح والرسول بولس، تظهر دائماً منسوبة إلي إشعياء، فقد جاء فى الأصحاح الثالث من إنجيل متى: « فإن هذا هو الذى قيل عنه بإشعياء النبى القائل صوت صارخ فى البرية »... " مت 3: 3 " وفى إنجيل لوقا الأصحاح الرابع قيل عن السيد المسيح: فدفع إليه سفر إشعياء النبى، ولما فتح السفر وجد الموضع الذى كان مكتوباً فيه روح الرب علىّ لأنه مسحنى لأبشر المساكين.. الخ " لو 4: 17 و18 " وفى إنجيل يوحنا فى الأصحاح الثانى عشر: « ليتم قول إشعياء النبى الذى قاله يارب من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب » " يو 12: 38 "وقول بولس فى الأصحاح العاشر من رسالة رومية: « لأن إشعياء يقول يارب من صدق خبرنا... ثم إشعياء يتجاسر ويقول وجدت من الذين لم يطلبونى.. إلخ » " رو 10: 16 و20 " أما عن تنوع الأسلوب، من الواجهة الداخلية، فما لا شك فيه، أن شاعرية أو عبقرية إشعياء، إذا جاز هذا التعبير، وتمكنها من ناصية المنطق والبلاغة، يمكنها أن تسمو وتبسط، دون أن يكون هناك مساس بالكاتب الواحد، ومن ثم فنحن نرى رغم هذا التنوع، الفكر الواحد المطبوع، فاللّه السيد الذى رآه: « جالسا على كرسى عال ومرتفع وأزياله تملأ الهيكل " إش 6: 1 ".. هو نفسه: « العلى المرتفع ساكن الأبد القدوس اسمه » " إش 57: 15 ".. والشعب الذى وصف بالتمرد والعصيان: « ربيت بنين ونشأتهم وأما هم فعصوا علىّ» " إش 1: 2 ".. « فإنك رفضت شعبك بيت يعقوب لأنهم امتلأوا من المشرق » " إش 2: 6 ".. « ذكرنى فنتحاكم معا، حدث لكى تتبرر، أبوك الأول أخطأ وسطاؤك عصوا علىّ » " إش 43: 26، 27 " كما أن اتساع النظرة وإعطاء الفرصة للأمم، قد جاءت فى أول السفر وآخره، ويكفى أن نشير هنا: « فيسكن الذئب مع الخروف ويربض النمر مع الجدى والعجل والشبل والمسمن معاً وصبى صغير يسوقها. والبقرة والدابة ترعيان. تربض أولادهما معاً والأسد كالبقر يأكل تبناً ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان. لا يسوؤون ولا يفسدون فى كل جبل قدسى لأن الأرض تمتلئ من معرفة الرب كما تغطى المياه البحر» " إش 11: 6 - 9 ".. « الذئب والحمل يرعيان معاً والأسد يأكل التبن كالبقر. أما الحية فالتراب طعامها. لا يؤذون ولا يهلكون فى كل جبل قدسى قال الرب » " إش 65: 25 "فإذا قيل آخر الأمر كيف يمكن أن يكون الحديث عن السبى البابلى كأمر واقع، وإن يذكر اسم كورش الفارسى الذى لم يأت بعد،.. كان الرد ميسوراً: أن نبوات إشعياء ترى النهاية منذ البداءة « لأنه معلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله » " أع 15: 18 ".. وقد تحدثنا عندما تعرضنا لشخصية يربعام كيف أن النبى تنبأ عن يوشيا الملك الذى سيأتى ويذبح كهنة المرتفعات ويحرق عظامهم، قبل ولادته بزمن طويل... وقد امتدت النبوة إلى هضبة الجلجثة لتصفها بدقة، كما لو كان الواصف ينظر إلى الصليب بمرأى عينيه، وقد سار الرجل بنا إلى آخر الأيام، لنرى الصورة اللامعة للأرض بعد أن تتحرر من الخطية والدنس!! والحقيقة أن السهم القاتل لنظرية إشعياء الثانى يكمن فى أن الآخذين بها، حاولوا حل الصعوبة، بصعوبة أفدح وأقسى إذ كيف يمكن التصور منطقياِ، أن هذه الأصحاحات الأخيرة من سفر إشعياء بما فيها من أروع النبوات أو التعاليم، تصدر عن نبى مجهول، جاء بعد السبى، ولا يعرف الناس عنه شيئاً، ويعلن هذه الروائع، ويكتبها، ويغيب فى التاريخ من غير علم أو دراية من أحد!!.. إن الفهم الكتابى الصحيح، واجماع التقليد فى المجمع اليهودى والكنيسة المسيحية يؤكدان أن إشعياء بن آموص هو الكاتب الوحيد لسفره الشامخ العظيم بين أسفار الكتاب االمقدس، دون أدنى شبهة أو تردد!!
إشعياء ورؤياه
وكانت هذه الرؤيا نقطة التحول فى تاريخ الرجل، أو بتعبير أدق، هى دعوة اللّه العليا التى بها ناداه إلى الخدمة العظيمة،... ومن العجيب أن أعظم الرجال على الأرض، هم الذين تغيرت حياتهم، وغيروا حياة الناس، لأن رؤيا اللّه حولت تاريخهم بأكمله،.. ظهر إله المجد لأبينا إبراهيم، فقام برحلته الخالدة،... وظهر لموسى فى العليقة، فقام برسالته العظيمة،... وظهر لجدعون، فحوله من الخائف من ظله إلى بطل من أبطال الأجيال،... ومن المثير أن الجنرال فوشى الذى كسب الحرب العالمية الأولى يقول إنه فى 26 مارس عام 1918 ظهر له اللّه فى رؤيا وأعطاه يقيين النصر!! ولم يكن هذا الجنرل خرافيا، ولكنه آمن باللّه ورؤيته وانتصر!!... وها نحن الآن نتابع رؤيا إشعياء من جوانبها المختلفة:
الرؤيا والسيد
قال إشعياء فى مطلع الأصحاح السادس: « فى سنة وفاة عزيا الملك رأيت السيد جالساً على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل، فإذا قارنا هذا بما جاء فى إنجيل يوحنا الأصحاح الثانى عشر والعدد الحادى والأربعين: « قال إشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه »... أدركنا أن السيد المسيح هو الذى ظهر لإشعياء فى مجده وجلاله وعظمته فى هيكل اللّه فى أورشليم،... وقد حدثنا إشعياء عن وقت الرؤيا، غداة وفاة الملك عزيا، ولعل إشعياء كان ذهنه مشغولاً وممتلئاً بعزيا الملك، وكان عزيا من أعظم الملوك الذين ظهروا فى حياة إسرائيل،... ولكنه فعل فى أخريات حياته شيئاً تعساً محزناً، إذ حاول أن يكول ملكاً وكاهنا معاً، فطرده اللّه لكبرياء قلبه، بعد أن أصيب بالبرص، وبقى فى بيت برصه إلى يوم وفاته،... إنه على أية حال كان يمثل الإنسان البشرى العظيم، ونقطة النقص والضعف اللاحقة بعظمته.. لكن إشعياء تحول من الملك الناقص، إلى الملك القدوس، رب الجنود، الذي له وحده عرش الجلال والكمال،... تحول من المشهد الأرضى إلى اللّه الذى السماء ليست بطاهرة أمام عينيه، وإلى ملائكته ينسب حماقة!!... والمسيح دائماً هو مثال الكمال، عندما ما نفجع فى برص الناس ونقصهم وضعفهم وخيانتهم وقصورهم،... على أن الرؤيا تكشف عن جانب آخر، إذ تكشف عن الملك الدائم، عندما يتحول الملك من إنسان إلى آخر، أو عندما نتطلع فلا نجد أحداً يملأ المكان، ويستولى علينا اليأس والقنوط،... مات عزيا الملك وبقى الملك السرمدى الأبدى الحى الذى لا يموت، وهى الرؤيا التى نحتاج إليها فى أتعس الأوقات وأحلك الليالى، عندما صرخ دوجلاس زعيم العبيد فى الولايات المتحدة، وهو يعدد الظروف التعسة القاتلة التى تواجه العبيد البائسين هناك وهو يقول: كل شئ ضدنا!!.. الظروف ضدنا!!.. الناس ضدنا!!.. صاحت فيه امرأة زنجية: ولكن يا دوجلاس اللّه حى ولم يمت!!.. فثاب الرجل إلى رشده، وأدرك أن العروش على الأرض تهوى، ولكن اللّه يسود فى عرشه ويملك ويحكم!!.. هل نستطيع أن نرى اللّه مستقراً وجالساً على كرسى عال ومرتفع مهما أحاط بنا الظلام والفزع والضيق والحزن والأضطراب؟؟.
الرؤيا والملائكة
لم يكن إشعياء محتاجاً أن يرى اللّه فحسب، بل كان عليه أن يرى كيف يخدم السرافيم اللّه والكلمة « سرافيم » من أصل عبرى معناه « الملتهبين » « الصانع ملائكته رياحاً وخدامه ناراً ملتهبة » " مز 104: 4 " وكان لكل واحد ستة أجنحة، فهناك جناحان للطيران، وبهما يطير ملتهباً فى غيرته لخدمة اللّه!!... والخدمة المسيحية، لابد أن تكون هكذا،... كان واحد من خدام اللّه الصينيين، وكان غيوراً للمسيح، فى الولايات المتحدة، ينتقل فى القطارات وهو يوزع النبذ المسيحية، وذات مرة رأى أمامه سيدة تبدو غنية وأنيقة، وقدم لها نبذة عن الخلاص،... وإذا سألته عما فيها قال: إنها قصة جميلة أرجو أن تقرأيها، فصاحت في ووجهه: لا أريد، وألقتها فى وجهه،.. وقد راعه أكثر أن الكمسارى قال له: إن هذا ممنوع وتألم الرجل، وهو يسأل نفسه كيف يمكن أن يمنع هذا فى بلد خرج منه المرسلون إلى العالم لينادوا ببشرى الخلاص؟... ولكن واحداً من الجالسين تقدم إليه وهز يده قائلا: إنك هززت قلبى من الأعماق، إذ أرى أحدهم يشتغل بعمل سيده!!... كان هذا الخادم يأخذ أجنحة السرافيم وهو يقف فى الطريق يصلى ويرنم بالأغانى المسيحية، وقد هز نفوساً كثيرة بحياته الملتهبة فى خدمة سيده!!... على أن السرافيم يعطوننا صورة أخرى، صورة الإتضاع فى حضرة اللّه، إذ يغطى كل واحد منهم وجهه بجناحين، لأنه لا يجسر أن ينظر إلى وجهه اللّه!!... وفى الحقيقة إن الاتضاع من أهم صفات الخادم المسيحى، وما ير هذا الخادم نفسه على وضعها الحقيقى فى حضرة اللّه، كما كان يرى داود نفسه كبرغوث أو كلب ميت أو لا شئ على الإطلاق،... فإنه لا يستطيع أن يقوم بالخدمة أبداً!!.. تقابل أحد خدام اللّه مع عضو ثرثار، وكان هذا العضو يتحدث كثيراً، ويكرر الكلام، والراعى مستعجل يريد الذهاب إلى مكان ما، وأخيراً قال له: أنا مشغول وينبغى أن أذهب بسرعة!!... ألا تعرف من أنا!!؟... وقال العضو: نعم أعرف، فانت الواعظ!!... ولكن هذه الكلمة رنت فى أذن خادم اللّه وقال: هل ينظر الناس إلى أنا، وهل أوجه الالتفات إلى نفسى أم إلى المسيح!!؟… وذهب إلى بيته، وأغلق على نفسه، وظل هناك حتى صلب الإنسان العتيق … وعاد ليعظ: « ينبغى أن ذلك يزيد وأنى أنا أنقص » " يو 3: 03 ز.. كان هناك واعظ ينقلونه من كنيسة إلى كنيسة، لأنه كان جافاً ويترك الجفاف فى كل مكان ذهب إليه!!.. وقال له الشخص المسئول فى المجمع: أنا لا أستطيع أن أعينك فى كنيسة، إنهم يصفونك بالقصبة العجوز الجافة … وبكى الرجل العجوز وقال: أعطنى هذه الفرصة الأخيرة … فعين فى قرية، وفزعت القرية إذ سمعت بخبر تعيينه.. لكنه دخل إلى مخدعه، وصارع مع اللّه، وعندما خرج، خرج إنساناً آخر، حتى كانوا يصفونه بالقول: إن القصبة العجوز اشتعلت فيها النار بعد الاتضاع والبكاء فى حضرة اللّه!! … وكان الجناحان الأخيران يغطيان القدمين، وهو الأمر الثالث فى الخدمة، ونعنى به الاحترام الكلى لعمل اللّه ورسالته، … تعود أحدهم أن يدخل الكنيسة دون أن يرفع قبعته، وإذ سأله الراعى عن السر فى ذلك … قال: لا تؤاخذنى لعدم رفع القبعة، فقال الراعى: لا مؤاخذه. فهذا ليس بيتى!! … إن من أهم مقومات الخدمة المسيحية الإجلال والاحترام الكامل للّه وبيته وخدمته ورسالته!!
الرؤيا والنفس
بعد أن أبصر إشعياء اللّه، والملائكة، رأى نفسه وحالته فصاح: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين » (إش 6: 5) هذا ما أحس به إشعياء وهو فى بيت اللّه، ونحن فى العادة نرى تصرف الناس فى بيت اللّه يختلف إلى حد كبير عن هذه الرؤيا إذ عندما يحضرون، ما أكثر ما يهنئون الواعظ على العظة البليغة الممتازة الى ألقاها، وينصرفون إلى الراعى دون أن يروا أنفسهم!!... وقال أحدهم: إن الكثيرين يذهبون بعد ذلك إلى بيوتهم يههنئون أنفسهم بالبركة والتعزية التى حصلوا عليها، ثم يأكلون طعامهم ويشربون شرابهم، ويمكن أن يقال لهم: لقد أكلتم، واحتسيتم وامتلأتم من القهوة أو الشاى، لأنكم لم تروا أنفسكم وخطاياكم لكى يصيح الواحد منكم: ويل لى إنى هلكت » جاء فى قصة قديمة أن شاباً غنياً استجاب لرسالة المسيح، وعمده الرسول يوحنا، وعندما علم أبوه بذلك خيره أن يختار فى أربع وعشرين ساعة بين دينه القديم وثروة أبيه، أو المسيح يسوع!!... وقال الشاب: إنى أختار المسيح، وخرج من بيت أبيه وعاش فى أوساط المسيحيين الفقراء مدة عامين،... وفى يوم عيد الميلاد كان يتجول فى غابة، وكانت نفسه فى أقسى حالات التجربة، وتصادف أن تقابل مع كاهن وثنى، وسأله الكاهن: لماذا يتجول بعيداً عن أصحابه وهداياهم!!؟ … ثم ابتدره – على ما تقول القصة – بالسؤال: هل يمكن أن يعطيه – أى للكاهن - اسم المسيح، وفى مقابل ذلك سيعطيه الكاهن ما يشتهى من ثروة وجاه ونفوذ؟!!... وقبل الشاب المبادلة، وسار فى إتجاه بيته القديم، ليجد أباه فى ضجعة الموت، وقال له الأب: إنى آسف يابنى لأنى عاملتك هذه المعاملة القاسية... هل لك أن تعلمنى عن السر المسيحى؟ وارتبك الشاب وهو يقول: « انتظر يا أبى قليلا... حتِى أشرح لك السر!!. وقال له الأب: لا أستطيع الانتظار، ومات بين يديه!!... وصرخ الشاب وهو يدرك أن سر تلعثمه راجع إلى أنه خضع للتجربة، فبكى وهو يقول « ويل لى إنى هلكت » وانحنى أمام اللّه تائباً!!... لقد عرت الرؤيا الإلهية إشعياء وشعبه، فرأي البرص يملأه ويملأ الأمة بأكملها!!... عندما رأى بطرس جلال المسيح صاح: « أخرج من سفينتى يارب لأنى رجل خاطئ» "لو 5: 8 " نرى هل رأيت هذه الصورة أيها القارئ وأنت فى حضرة اللّه؟!!.
الرؤيا والتطهير
ما أن اعترف إشعياء بخطيته حتى أدرك فى الحال ما قاله الرب على لسانه: « هلم نتحاجج يقول الرب إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج إن كانت حمراء كالدودى تصير كالصوف » (إش 1: 18).. ولم يحتج إلى وقت حتى يظهر، إذ طار واحد من السرافيم، وقد أخذ جمرة من على المذبح ومس بها شفتيه، والسؤال: لماذا هى جمرة، ولماذا أخذت من على المذبح!!؟ إنها جمرة لأنها تشير إلى عمل الروح القدس النارى... ومن على المذبح لأنها تشير إلى عمل المسيح الكفارى... واللّه ينتزع خطايا إشعياء وخطاياى وخطاياك بفداء المسيح، وتأثير الروح القدس،... ولعلنا نلاحظ هنا أن السيد لم يوبخ إشعياء على خطاياه، أو ينظر إليه بغضب، أو يذله بها، بل سارع فى الحال إلى تطهيره عندما اعترف بها.جاء فى قصة أن أحد المؤمنين القديسين بعد أن تتجدد عرض للكثير من الضعفات والتجارب التى أسقطته، وحلم ذات يوم أنه ذهب إلى السماء، وإذ رأى المسيح أحنى رأسه خجلا، وقال: يا سيدى إن خطاياى كثيرة... وأنا حزين عليها!!... ولشدة دهشته سمع السيد يقول: « إنى لا أذكر البتة خطية لك، لقد محوتها جميعاً!!..
الرؤيا والرسالة
«من أرسل ومن يذهب من أجلنا؟ ».. " إش 6: 8 " ونحن نلاحظ هنا أن اللّه لم يوجه الدعوة مباشرة إلى إشعياء أو يأمره بها، لقد أعطاه مطلق الحرية للاختيار أو الرفض، … وهو القائل دائما: إن أراد أحد أن يأتى ورائى!!.. " مت 16: 24 “ ومن العجيب أن الدولة لا تترك لأحد أبنائها الحرية ليقبل الواجب أو يرفضه، فالمواطن لا يدفع الضريبة بالاختيار، والجندى لا يذهب إلى الجندية بملء إرادته، لكن اللّه لا يرغم أحداً على الرسالة التى يلزم أن يؤديها!!.. إنه يطلق النداء العام، وعليك أن تقبل أو ترفض،.. وقد أجاب إشعياء على الرسالة بالإيجاب وهو يقول: « ها أنذا أرسلنى » … " إش 6: 8 "… ومع أن الرسالة كانت من أصعب الرسائل وأقساها، إذ تحدث عن خراب بلاده لأنها لا تطيع اللّه، والنفس التى لا تطيع، معرضة للضياع على الدوام!!،كان على الرجل الذى ترك حياة القصور أن يدفع الضريبة، فى سبيل الخدمة، … وقد فعل على أعظم وجه يمكن أن يفعله نبى أو رسول أو خادم للّه فى الأض!!..
إشعياء والفكر اللاهوتى فى سفره
سفر إشعياء غنى بالأفكار اللاهوتية، ومع أنه ليس من السهل حصرها فى صفحات، إلا أنه يهمنا أن نركز النظر على أهم صورها!!.. ويمكن أن نراها بوضوح فى:
سيادة اللّه
ومن الواضح أن إشعياء علم بوضوح وحدانية اللّه فهو، يذكر: « أنا الرب وليس آخر، لا إله سواى... أليس أنا الرب ولا إله آخر غيرى. إله بار ومخلص. ليس سواى » " إش 45: 5، 21 ".. هذا الإله المهيب العظيم المرتفع، الذى يعلو على كل متعظم وعال: « أدخل إلى الصخرة واختبئ فى التراب من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته، توضع عينا تشامخ الإنسان وتخفض رفعة الناس ويسمو الرب وحده فى ذلك اليوم. فإن لرب الجنود يوماً على كل متعظم وعال، وعلى كل مرتفع فيوضع » " إش 2: 10 - 12 "... وستسقط أمام عظمة اللّه كل الآلهة التى هى من صنع الناس: « وامتلأت أرضهم أوثاناً، يسجدون لعمل أيديهم، لما صنعته أصابعهم... وتزول الأوثان بتمامها... فى ذلك اليوم يطرح الإنسان أوثانه الفضية وأوثانه الذهبية التى عملوها له للسجود للجرذان والخفافيش ليدخل فى نقر الصخور، وفى شقوق المعاقل من أمام هيبة الرب ومن بهاء عظمته عند قيامه ليرعب الأرض » " إش 2: 8، 18، 20، 21 " « الذين يصورون صنما كلهم باطل ومشتهياتهم لا تنقطع وشهودهم هى. لا تبصر ولا تعرف حتى تخزى.. من صور إلهاً وسبك صنما لغير نفع » (إش 44: 9، 10).. وأمام سيادة اللّه وعظمته، ما هو الإنسان، مهما علا شأنه وامتدت قوته؟ أنه كما صوره إشعياء: « كفوا عن الإنسان الذى فى أنفه نسمة لأنه ماذا يحسب » " إش 2: 22 ".. « الجالس على كرة الأرض وسكانها الجندب الذى ينشر السموات كسرادق ويبسطها كخيمة للسكن. الذى يجعل الغطاء لا شيئاً ويصير قضاة الأرض كالباطل … فبمن تشبهوننى فأساويه يقول القدوس؟ ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه. من الذى يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء لكثرة القوة، وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد. لماذا تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيل قد اختفت طريقى عن الرب وفات حقى إلهى. أما عرفت أم لم تسمع؟ إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا ويعيا. ليس عن فهمه فحص. يعطى المعيى قدرة ولعديم القوة يكثر شدة الغلمان يعيون ويتعبون والفتيان يتعثرون تعثراً وأما منتظرو الرب فيجددون قوة يرفعون أجنحة كالنسور يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون " إش 40: 22، 23، 25 - 31 ".
قداسة اللّه
وقد سمع إشعياء فى الهيكل هتاف السرافيم: « قدوس قدوس قدوس »، والتعبير فى مفهومه العبرى تعبير عن القداسة الكلية المرتفعة المتعالية، وهى عندنا - كمؤمنين بالثالوث - هى الصفة الإلهية للاب والابن والروح القدس وهى ليست مجرد الانفراد والعزلة عن الخطية، أو الكمال الأدبى المطلق، بل هى - أكثر من ذلك - السمو المرتفع الذى ينفرد به اللّه وحده!!.. وهذه القداسة هى التى لا يمكن أن تتقابل مع الخطية أو تتهاون معها،.. والخطية هى القذارة والاتساخ والبرص، ولهذا صرخ إشعياء فى التو والحال: « ويل لى إنى هلكت لأنى إنسان نجس الشقتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين لأن عينى قد رأتا الملك رب الجنود » " إش 6: 5 "... والخطية هى العصيان: « ربيت بنين ونشأتهم أما هم فعصوا على ّ » " إش 1: 2 " وهى المرض: « من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية. لم تعصر ولم تعصب ولم تلين بالزيت ».. " إش 1: 6 " وإشعياء يؤكد أن عقابها رهيب، وأن يوم اللّه لابد أن يقضى على الخطية والخطاة.
الإيمان باللّه
والإيمان، عند إشعياء، يرتبط بالسكينة والهدوء، والاطمئنان والأمن: « إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا » " إش 7: 9 " « من آمن لا يهرب » " إش 28: 16 " « لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم » " إش 03: 51 ".. وهو الذى يعطى الإنسان السلام العميق فى وسط زوابع الحياة وعواصفها!!..
خلاص اللّه
وقد رأى إشعياء عمانوئيل، والابن العجيب، الإله السرمدى، يتدخل بالخلاص فى حياة الأمة، ويكفى أن نركز أبصارنا آخر الأمر على الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء،.. وقد صاح جيروم عندما بدأ فى ترجمته من العبرانية إلى اللاتينية وهو يقول: « بالتأكيد إن هذا الأصحاح من مبشر فى العهد الجديد أكثر منه من نبى فى العهد القديم!!.. وقال ديلتش العالم الألمانى العظيم فى اللغة العبرانية والمفسر المشهور فى القرن التاسع عشر: « إن الأصحاح الثالث والخمسين من سفر إشعياء، يبدو كما لو أن كاتبه كتبه وهو تحت الصليب فى الجلجثة... إن هذا الأصحاح هو الأصحاح المركزى، إنه أعمق وأسمى أصحاح، فى العهد القديم »، وقد حاول البعض أن يعتبره موجهاً إلى إسرائيل ورمزاً له، لكن هؤلاء لم يستطيعوا أن يفسروا كيف ينطبق هذا على إسرائيل فى الأوضاع المختلفة، وهو يشير إلى فرد بوضوح لا يقبل شكاً، بل إن هذا الأصحاح يتحدث عن شخص سيكون ضحية لأجل آخرين وإسرائيل لم يكن فى يوم من الأيام هذه الضحية،.. إن هذا الأصحاح هو حديث عن المسيح لا سواه!!.. ولعله من الملاحظ أن الجزء الأخير من الأصحاح الثانى والخمسين، وهو مرتبط تماماً بالأصحاح الثالث والخمسين، قد تحدث عن مجد المسيح، قبل أن يتحدث عن اتضاعه، وهو يرينا الحقيقة المؤكدة قى قصد اللّه الأزلى، أن الصليب سينتهى إلى المجد، وهذا المجد ليس أكيداً فحسب، بل هو عظيم ورائع أيضاً!!.. فإن نصرته ستكون حاسمة، وستسكت الملوك والأمراء والأمم والأجيال!! ومن المؤسف أن إسرائيل كثيراً ما رفض أن يصدق ما أعلنه الرب، وأظهر به ذاته وذراعه،... وقد نبتت آلام عبد الرب أو المسيح من مولده فهو العود الرطب الذى نبتت فى الأرض اليابسة، وجاء من أم فقيرة قروية، ولم يكن له أين يسند رأسه، ومع أنه أبرع جمالا من بنى البشر، إلا أن الحياة القاسية التى وجد فيها، لم تجعل الناس يتطلعون إليه ليبصروا جماله أو يشتهوا منظره... إن مأساة البشر أنهم ينظرون إلى الجمال عندما تحف به المظاهر الخداعة، والأوضاع الشكلية،.. وعندما جاء المسيح إلى أرضنا خلواً من هذه المظاهر احتقره الناس، ولم يحتقروه فحسب، بل خذلوه أيضاً، أو فى لغة أخرى، إن الاحتقار لم يكن سلبياً ساكناً فحسب، بل أكثر من ذلك كان متحركاً موجعاً، قد يحتقر إنسان آخر دون أن يتعامل معه، ويظل احتقاره تعبيراً دفيناً فى القلب، ولكن المسيح لم يحتقر فحسب، بل خذل من الناس الذين رفضوا مجيئه ونداءه ورجاءه وشركته. وقد تحول هذا إلى وجع عميق فى قلبه. وإلى حزن عميق فى نفسه، فحوله إلى رجل أوجاع ومختبر الحزن. وما يزال المسيح إلى اليوم يعانى من هذا الوضع من الكثيرين فما يزال الكثيرون يحتقرونه، ويخذلون آماله فيهم، ومايزال يبدو أمامنا، وقد رفضه الناس، رجل الأوجاع والخبير بالألم والحزن العميق. ومن الملاحظ أن النبى كشف عن الألم النيابى للمسيح، إذ أن الذين رأوا الألم فى ظاهره ظنوه ألماً أصيلا أو عقاباً: « ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من اللّه مذلولاً ».. " إش 53: 4 ".. لكن الأمر لم يكن كذلك، بل كان الألم النيابى الذى يحمله إنسان لأجل آخرين، وقد حمل المسيح أحزان الناس وأوجاعهم، إذ رفعها عن كاهلهم، لقد جال هو فى أرض فلسطين، ورأى المرضى والمتألمين والحزانى، فرفع عنهم أحزانهم وأوجاعهم ومراضهم وفى سبيل ذلك تعب هو وتوجع وأن... على أنه فى المعنى الأعمق، حمل عنا أوجاع الخطية وشرها وإثمها على الصليب، ولم تكن الآلام النيابية آلاماً هينة، بل كانت فى منتهى القسوة والعنف، فهو لم يجرح من أجل معاصينا فحسب، بل سحق أيضا بالحزن والعار الذى كسر قلبه...، ولم يؤدب، بل ضرب بالسياط، وقد كان هذا من أجلنا نحن العصاة الأثمة المتمردين، ولم يكن هناك من سبيل إلى الخلاص من عصياننا وشرنا وتمردنا والعودة إلى السلام والصحة، إلا بآلامه من أجلنا، فهذه آلام كفارية تكفر عنا أمام اللّه، وفى الوقت نفسه مطهرة تشفينا، وتعيدنا إلى صوابنا عندما نقف أمام آلامه من أجلنا!!... لقد ضللنا وأثمنا، ولكنه كان هو حمل اللّه الذى يرفع خطية العالم!! على أنه من الواضح أيضاً أن آلام المسيح لم تكن قهراً أو رغماً عنه، قد يؤخذ الجندى ليموت من أجل بلده، ولكنه يؤخذ فى كثير من الأحايين قهراً، أما المسيح فقد كان موته اختيارياً تطوعياً. ظلم فقبل الظلم والمذلة، دون أن يحتج أو يشكو، ولقد كان مثلا عجيباً فى تحمل الضغط والدينونة عندما حكم عليه، وهكذا بدا فى موته عظيماً، لأنه تطوع بهذا الموت لأجل الآخرين!!.. ومن العجيب أن تكون هذه الآلام برضى اللّه وسروره، إذ سر بأن يسحقه بالحزن، وقد سر اللّه بهذه الآلام إعلاناً عن محبته للخطاة، وتأكيداً للنصر الذى سيتأتى عنها، وقد كانت هذه مشورة الرب لخلاص البشر!! كان إشعياء - كما أسلفنا - يعنى « خلاص الرب » وقد أدنانا - فى حديثه عن سيادة الرب، وقداسته، والإيمان به - من الخلاص العجيب الذى أعده لنا اللّه كاملا على هضبة الجلجثة، والذى يدعونا إليه بقوله العظيم الكريم: التفتوا إلى واخلصوا يا جميع أقاصى الأرض لأنى أنا اللّه وليس آخر »..!!.. " إش 45: 22 ".
المزيد
12 ديسمبر 2020
المقالة الحادية والعشرون في ورود ربنا يسوع المسيح الثاني
يا بني النور تقدموا وهلموا، وأسمعوا صوت مخلصنا، الصوت المغبوط المبارك الهاتف إليكم: ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم ملك السماوات “.
فأحذروا يا إخوتي أن يعدم أحدكم هذا الميراث السعيد، فإنه ها هو على الأبواب، إن النور نزل إلينا فأنارنا، وأدنانا إليه، وأصعدنا معه، فإذ نزل إلينا، صار من أجلنا مثلنا ليجعلنا مثله.
من لا يموت نزل إلى المائتين ؛ وحين جعلهم غير مائتين، أرتقى إلى الآب، وسيجيء بمجد أبية المبارك يدين الأحياء والموتى.
صار لنا طريق حياة مملوءة نوراً ومجداً، لنسلك نحن في النور إلى الآب، تعالوا يا أحبائي لنسلك في الطريق التي أوراها لنا الرب، لنصل بسرور إلى مملكته، ولنأخذ زاداً وزيتاً في أوعيتنا، فليست الطريق قصيرة.
فلنشد أحقائنا بالحق، ومثل أناس وعبيد حافظين منتظرين سيدهم، نوقد مصابيحنا، ونستفيق بشهامة، لأننا منتظرون أن نستقبل ربنا من السماوات مقبلاً، فلا نتناعس فيما بعد لئلا تنطفئ مصابيحنا.
ها قد وافى النور، فولى الليل وأتى النهار، يا بني النور بادروا إلى النور أخرجوا بفرح إلى استقبال ربكم.
أروه فضائلكم، أتوا إليه بنسككم، وحميتكم، وسهركم، وأتعابكم، ودموعكم، وهجركم للقنية، لا تضجعوا، لا تعجزوا، لا تنعسوا، لا ترقدوا، ولا ينظر أحد منكم إلى الرذائل التي وراء، بل فليعبد ناظر النفس إلى ذلك الجمال السمائي، ليكن ناظركم فوقاً، متأملاً ذلك الجمال والسرور، يا وارثي الآب ومساهمي ميراث ابن اللـه الحي.
إن هذه النعم قد وهبها اللـه لنا فبماذا نكافئه، هلموا فلنطرح عنا كل اعتناء واهتمام هذا الدهر، ولنخدمه وحده بحرص عظيم ونشاط جزيل، فها يومه بالحقيقة قرب، ووروده بتأكيد حان.
هلموا إذاً يا إخوتي، فلنعد ذاتنا، ونتيقظ منتظرين ربنا الختن السمائي الذي لا يموت، فإنه ها يشرق، ها يبلغ، لأن تلك الصرخة تصير بغتة، ها الختن وارد فأخرجوا إلى استقباله يا معشر الذين أحببتموه وأعددتم ذاتكم لمعاينته في مجده، لأن كافة الذين اشتاقوا إليه يفرحهم في حجلته الأبدية المنيرة البهية التي لا توصف.
فأحذروا يا إخوتي إذا صار ذلك أن يوجد أحدكم ماسكاً مصباحه مظلماً لا زيت فيه، أو لابساً أطماراً بالية متسخة فيدان، ويحكم عليه بالظلمة البرانية، وبذلك العقاب الدهرى الذي لا يفنى، حيث البكاء وتقعقع الأسنان.
فلنحذر ذاتنا يا أحبائي، فإننا لا نعلم متى يجئ ربنا، لأنه كالسارق في الليل، ومثل الفخ يوافي ذلك اليوم، وكبرق حاد هكذا يكون حضور الرب.
لأن البوق يضرب، فتتزعزع الأرض من أساساتِها، وترتعد السماوات مع قواتِها، والموتى يقومون كلهم.
يا أحبائي من لا يلومه قلبه في تلك الساعة، ابسطوا عذر ضعفي فإنني أظن أن كل نسمة ترتعد في تلك الساعة، لكن نعمة اللـه تقوي وتفرح قلوب الصديقين، فيختطفون في السحب إلى استقباله، أما المضجعون والعاجزون الذين يشبهوني فيلبثون على الأرض مرتعدين.
فلنخفف ذاتنا يا إخوتي من الأرض قليلاً، لنرتقي بسهولة إلى السماء، ماذا ينفعنا العالم الذي قيدنا بِهمومه ؟ أم ماذا نربح من تزيين الثياب سوى نار لا تطفأ، أو ماذا تسبب لنا تطييب ألوان الأغذية سوى تعذيب أبدي؟
اعرفوا بتأكيد أننا إن لم نجاهد في هذا الزمان القصير، فإننا نزمع هناك أن نندم إلى أبد الدهر.
يا إخوتي لِمَ نتوانى ولِمَ نضجع، لماذا لا نغذي أنفسنا ؟ لأن يوم الرب أقترب منا، لِمَ لا نطرح عنا كل اهتمام غير نافع ونخفف ذاتنا من ثقل الأمور الأرضية.
أما قد عرفتم أن الباب ضيق وضاغط، ولا يستطيع الجزيل القنية أن يدخل فيه، وهو إنما يحب الذين لا قنية لهم، الذين قد ضيقوا على ذاتِهم باختيارهم بالنسك والتعب، والذين أعدوا ذاتَهم لمعاينة الختن السمائي الباقي في مجده، ويورثهم ملك السماوات. لأن ها يصوت ربنا قائلاً: أسرعوا إحضاركم، وتعالوا إليَّ، وليتكاثر عددكم فيَّ وفي خدر ربكم، ولتتعاظم صفوفكم مع الملائكة والقديسين في الضياء.
فأنتم يا أولادي لا تقتنوا على الأرض شيئاً، ولا تَهتموا بشىء، لأن الختن مستعد للمجيء في سحب السماء بمجد أبيه المبارك، يدعو كل واحد منكم باسمه، ويتكئه في طغمة القديسين المتصرفين في النور الذي لا يوصف في الحياة الأبدية التي لا تبلى ولا تنفذ نظير أعماله وأتعابه.
فلنحرص يا إخوتي، فلنحرص في هذا الزمان اليسير، ولا نضجع هنا لئلا نندب إلى الدهور التي لا نَهاية لها، حيث لا تنفع الدموع والزفرات، حيث لا توبة، إن حرصكم يسر به الملائكة ورؤساء الملائكة، وونيتكم يفرح بِها العدو، احرصوا يا سروري، احرصوا أن أسر أنا بكم، وأنتم بي إلى الدهر.
لك أجثو ساجداً أيها الرب يسوع المسيح ابن اللـه الحي، أعطني ولكافة الذين يحبونك أن نعاينك بمجد في ملكك، ونرثه مع كافة الذين يحبوك وتاقوا إليك.
يا أحبائي إن توانينا وأضجعنا في هذا الزمان اليسير، فلا تكون لنا دالة في ذلك اليوم المخوف، لأننا لا نجد حجة عن خطايانا، لأنه منذ أنحدر إلينا ربنا ومخلصنا أنتزع كل حجة لأنه وهب لنا حين جاء الحياة الأبدية.
كنا أعداء صالحنا، أرضيين فصرنا سماويين، مائتين فدعينا غير مائتين، بني الظلمة فصرنا بني النور، مستأسرين ففدينا، عبيداً للخطية فحررنا، مساكين فأغنينا، ضائعين فوجدنا، ممقوتين فأحببنا.
ظالمين فزكينا، غير مرحومين فرحمنا، خطاة فخلصنا، ترباً ورماداً فصرنا بنيناً للـه، عراة فسترنا، وصرنا وارثين للـه، ونظير ابنه في ميراث هذه النعم، قد وهبها لنا ربنا فبماذا نكافئه ؟
يا أحبائي هلموا فلنطرح عن ذاتنا كل اعتناء واهتمام هذا العالم الباطل، ونخدمه بحرص عظيم ونشاط كبير وحده، فها يومه حان بالحقيقة، ووروده دنا منا بتأكيد.
تعالوا فلنعد ذاتنا ونتيقظ منتظرين ربنا الختن الذي لا يموت كأنه أشرق وتلألأ وأقبل، تناهى الليل والنهار أقبل.
يا بني النور بادروا إلى النور، أخرجوا إلى استقباله بفرح، أروه فضائلكم، قدموا له نسككم ومسككم، سهركم وأتعابكم، دموعكم وزهدكم، لا تضجعوا، لا تعجزوا، لا تنعسوا، لا ترقدوا.
لا ينظر أحدكم إلى الوراء بل ناظر نفسكم فليكن إلى العلا ناظراً، إلى ذلك الجمال السمائي، ليكن ناظرك فوقاً متأملاً ذلك الفرح الذي لا يفنى، الذي لا تشبع منه نفوسكم من معاينة مجده وبَهائه وحسنه.
من يجع فليصبر، لأن ها مائدة الملكوت تنتظره. من يعطش فليثبت، فها نعيم الفردوس أستعد له. من يسهر ويصلي ويرتل ويبكِ فليتأيد، فإن سرور حجلة ربه تعزيه.
فإذ قد عرفنا هذه كلها يا إخوتي فلا نقتني على الأرض شيئاً، لأن كل أحد منكم في ذلك اليوم سيرى أية فضيلة قد أقتناها من هنا أو أي أتعاب أحتملها، أو أي نسك أو أي سهر أظهره.
أترى إذا أشهر الشهداء جراحات العذاب والعقوبات، والنساك الشجعان نسكهم وحميتهم، وما لهم من الصبر والحزن والزهد، فالمضجعون والعاجزون والمتنزهون بماذا يفتخرون ؟ أبرخاوتِهم وونيتهم وهلاكهم، الويل لهم إذا توانوا، يا للأسف إذا أضجعوا.
تعالوا يا أحبتي، تعالوا نحرص، هلموا نسجد له، ولننح ونبكِ أمامه بجراءة ليعطينا استنارة نفس، فنتفطن حيل عدونا ومعاندنا وماقت الخير، الذي يجعل قدامنا مزلقات ومعاثر ومضرات كثرة الاقتناء، وتنزه هذا الدهر، واللذة البشرية.
وانتظار طول زمان هذه الحياة الحاضرة، وجزعاً من النسك، وعجزاً عن الصلوات، ونوماً في الترتيل، وراحة بشرية.
فبمقدار ما يحرص ذلك نضجع ونتوانى، بقدر ما يمكن ذاك نتهاون نحن، فلنعلم موقنين أن أيامنا قصرت، والوقت قد أزف، ورب المجد سيجيء بحسن بَهائه، وبقوات ملائكته المرهبين، فيجازي كل واحد نظير عمله.
فأخشى يا إخوتي أن يتم فينا قول القائل: أنَهم سيجيئون من المشارق والمغارب، والجنوب والشمال، ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملك السماوات، وأنتم تلقون خارجاً.
إليك أتضرع أيها المسيح نور الحق، وابن الآب المبارك، صورته وشعاع أقنومه، أيها الجالس عن يمين عظمته، أيها الابن الذي لا يُدرك، المسيح الذي لا ينتهي أثره، الإله الذي لا يفحص.
يا فخر وسرور الذين يحبونك، أيها المسيح حياتي، خلصني أنا الخاطئ في ملكك، إن الفاعل المتعوب ينتظر أن يأخذ حقوق أجرته، ويلي فإن لساني يتعب في تلاوة التمجيد، لا تجازيني نظير أعمالي بل خلصني بنعمتك، وترأف عليَّ بتحننك فإنك أنت هو المبارك والممجد إلى الدهور. آمين.
مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
10 ديسمبر 2020
شخصيات الكتاب المقدس إسحق
"وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام" تك 26: 31
مقدمة
لست أعلم إن كان كتاباً يعطي أنماطاً لا تنتهي، وصوراً مختلفة للناس، كما يفعل كتاب الله العظيم الكتاب المقدس، إنه أشبه الكل بالبستان الواسع الرحب، الذي تجد فيه الصنوف المتعددة المختلفة من الأزهار والأشجار والأثمار، وهو الساحة الكبرى أن تنتقل فيها، وأنت تعرض لقصص الناس، بين الجبال والوهاد، والسهول والمروج، والصحاري والوديان، والجداول والأنهار، حتى يمكن أن تقع العين على العملاق والقزم، المنتصب والقميء، الجميل والقبيح، الخير والشرير، الأبيض والأسود على حد سواء،.. فإذا كنت تقرأ مثلاً قصة أبي المؤمنين إبراهيم، وترى نفسك إزاء عملاق من عمالقة العصور، وبطل من أبطال الأجيال، ورجل من أعظم رجالات التاريخ، فإنك عندما تتحول فجأة إلى ابنه إسحق، ستجد نفسك إزاء رجل آخر يختلف تمام الاختلاف عن أبيه، فإذا كان أبوه يتسم بالحركة، فإن الابن أدنى إلى السكون، وإذا كان إبراهيم أظهر في الإقدام والجسارة، فإن إسحق أركن إلى الهدوء والدعة،.. وإذا كان أبو المؤمنين نموذجاً غير عادي لمن يطلق عليهم النوادر من بني البشر، فإن إسحق أقرب إلى الإنسان العادي الذي تكاد تلاقيه بين عامة الشعوب، وإذا كانت ميزة إبراهيم الإيجابية المندفعة إلى الأمام، فإن ميزة ابنه السلبية القابعة الساكنة الرابضة في كل هدوء،.. وإذا كان أبو المؤمنين يكشف في مجمل حياته عن "الصداقة الكريمة المتعمقة مع الله" فإن السمة البارزة في حياة إسحق، هي سمة "السلام" فهو الإنسان الهاديء الذي يحب السلام، وينشده من كل وجه، وهو الذي يرغب دائماً في الجلسات الهادئة دون معكر أو منازع،.. وهو ضيق أبلغ الضيق، مرير أبلغ المرارة، إذا شابت سماءه غيوم أو عواصف، وهو لا يسلم من هذه العواصف داخل بيته، أو من الجيران المتربصين الحاقدين الحاسدين خارج هذا البيت،.. ولكنه مع ذلك هو الإنسان الذي يبذل كل جهد أو ثمن في سبيل الحصول على السلام، وهو متعثر في ذلك حيناً، ناجح على الأكثر والأرجح في أغلب الأحيان،.. وهو في كل الحالات النموذج الكتابي العظيم للإنسان الذي يحب السلام، ويسعى إليه، ويطلبه من كل وجه، ولذا يحسن أن نراه في معرض الكتاب في الصور التالية:
إسحق.. من هو؟!!
إن الصورة التي يرسمها لنا الكتاب عن إسحق، تعطينا الانطباع، بأنه الإنسان الضعيف البنية، وربما نشأ هذا في ذهن الكثيرين من الشراح لمجيئه المتأخر من أبوين مسنين، إذ هو ابن الشيخوخة، وليس هو كما وصف يعقوب رأوبين: "أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز".. ولعل الذي زاد هذا التصور عند هؤلاء الشراح، أو رجحه هو القول الذي ورد في رسالة غلاطية عن علاقة إسحق بأخيه: "ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح، هكذا الآن أيضاً" ومن المعلوم أن أخاه كان أوفر قوة، وأصح بدناً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه،.. وهيهات أن يقارن به إسحق من الوجهة البدنية، والذي كان يقع دائماً تحت سطوته ورهبته إلى الدرجة التي أصرت معها سارة على طرد هاجر وابنها، الأمر الذي ساء في عيني إبراهيم، واستجاب له عن ضيق وألم واضطرار،.. وقد يكون هذا الاضطهاد المبكر، من الوجهة البشرية الخالصة، هو الذي أورث إسحق نوعاً من الحياة الانطوائية المنعزلة، فهو ليس الإنسان الذي يتفتح قلبه للجلسات مع المجتمع الصاخب حوله، وهو ليس الإنسان الذي يهرع إلى الناس، يبادلهم الزيارة والحديث والتعامل والضجيج، بل هو على العكس من الصبح الباكر في حياته، إنسان يأنس إلى الوحدة، ويلوذ بها، ويعيش في كنفها، وليس أحب إليه أن يجلس أياماً وليالي، دون أنيس أو صديق،.. فإذا سئل كيف يمكنه أن يعيش هذه الحياة، ويؤثرها، وتحلو له؟!! ربما أجاب إجابة برنارد شو عندما سأله أحدهم: لماذا يحب العزلة؟ فكان جوابه: "لأني أريد أن أجلس مع إنسان ذكي وهو يقصد بذلك نفسه، إذ يجلس إليها مفكراً متأملاً، مع هذا الفارق البعيد أن برنارد شو مهما اتسع في حديثه مع النفس، لم يصل إلى الحياة المتأملة مع الله التي كان يعيشها إسحق طوال حياته على هذه الأرض،.. كان إسحق منعزلاً ولكنه كان ابناً لله، ولقد أطلق عليه أحدهم "ورد ثورت عصره" أي الإنسان الذي كان يتمشى مع الله في سفوح الجبال، وكأنما الطبيعة كلها قد تحولت عنده إلى هيكل أو معبد لله،.. ولعله مما يجدر ذكره أن رفقة رأت إسحق لأول مرة عندما "خرج إسحق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء".. وهكذا كان إسحق على الدوام في الحقل أو الصحراء، في المساء أو الشروق، هو الإنسان المتأمل الذي ينصت في السكينة إلى صوت الله، ويتحدث في عمق وهدوء وتأمل إلى سامع الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر!!.. كان إسحق إذاً ذلك الإنسان الهاديء الساكن المجبول على الوحدة والعزلة، والإنصات والتأمل، وهو أدنى إلى الله منه إلى الناس، وهو أقرب إلى المولى منه إلى البشر، وهو في كل الحالات الإنسان الذي يؤثر الهدوء، ويغري بالسكينة، ويمتليء فرحاً بالنسمة الهادئة، والجدول الرقراق، والعصفور الصغير الذي يزقزق في عشه من غير خوف أو فزع أو اضطراب،.. هل كان عنف أخيه كما ألمعنا هو الذي حبب إليه الحياة الهادئة من مطلع العمر؟ أم أنه ورث الهدوء عن أمه، وكان أقرب في طباعه إلى هذه الأم من أبيه؟؟. أغلب الظن أنه أعجب بالحياة الساكنة الهادئة لأمه، وأن هذه الأم كانت حضنه الهاديء الآمن الذي يلوذ به من عنف أخيه وقسوته وشراسته، وأن هذا الفارق البعيد بين دعة أمه، وعنف أخيه هو الذي جعله يتشبث بالسلام، وينزع إليه، ويحبه، وينشده طالما وجد السبيل إلى ذلك، في رحلته الأرضية التي طالت إلى المائة والثمانين من عمره بين الناس!!على أن هذا كله في عقيدتي كان يبدو ضعيفاً وناقصاً ومبتوراً، ما لم يعثر إسحق على السر الأكبر في حياته في اتجاه السلام مع الناس، ألا وهو السلام مع الله، وذلك لأن السلام مع الله، هو أساس كل سلام، وسر كل سلام في حياة الإنسان على هذه الأرض،.. كان إسحق إنسان الصلاة، أو الإنسان الذي إذا ضاق بالحياة، وضاقت الحياة به، أو إذا عكر صفو سلامه لأي سبب كان يشق طريقه إلى الله ليغلب همه وينتصر على ضيقه بالصلاة،.. وبعد مئات من السنين وقد طافت الهموم بواحد من أبنائه إذ غشيه الاضطراب والضيق، ولعله في تلك اللحظة كان يرى طائراً يرف بجناحيه في أجواز السماء فصاح: "ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير وأستريح هاأنذا كنت أبعد هارباً وأبيت في البرية كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء".. على أنه سرعان ما أدرك غباء فكره، وحماقة تصوره، فاتجه إلى المصدر الوحيد للأمن والهدوء والسلام، وقال: "الق على الرب همك فهو يعولك لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد".. أجل.. وفي يقيني الكامل أن الصلاة عند إسحق كانت العلاج الأعظم لمشاكله المتعددة وهو يمد يده من أجل السلام مع جميع الناس!!..
إسحق وقصة السلام مع الناس
وربما نستطيع أن نفهم قصة إسحق مع السلام في علاقته بأقرب الناس إليه وأبعدهم عنه، إذا سرنا وإياها مع التتابع الزمني:
إسحق وأخوه
كان أخو إسحق الأكبر قبلة النظر ومحط الآمال، عندما جاء مولوداً من هاجر الجارية المصرية، وكان –كما أشرنا- قوي البنية، متين البنيان، ومن غير المتصور أن يقبل التزحزح إلى الظل عند مولد أخيه الأصغر، ومن ثم كان لابد أن يظهر بطبيعته البطاشة وذراعه القوي، تجاه من هو أصغر منه وأضعف،.. ولم تقبل سارة هذا الوضع أو تحتمله على الإطلاق، فأكرهت زوجها إبراهيم على طرد الجارية وابنها،.. وكانت العزلة الواسعة بين الولدين شديدة الوقع على نفس أبي المؤمنين إبراهيم، لكنه يبدو أنه أنصت إلى صوت الله في الأمر، ولعل هذا هو الذي خفف وقعها، وهون أمرها، وسار الولدان كل في طريقه مع الحياة والأيام، ونهج المسلكين المختلفين، والأسلوبين المتباينين، والغايتين المختلفتين، وكانت العزلة –وهما يدريان أو لا يدريان- هي السبيل الأصلح والأنجح لحفظ السلام بينهما،.. فإذا كان المزاح الأول، والاضطهاد الأول، والولدان صبيان، هو الذي شجع في إسحق الرغبة الانطوائية المسالمة التي صاحبته الحياة كلها، فإن الفرقة بين الاثنين كانت ولا شك أصلح الطرق وأفضلها، في القضاء على كل نزاع يمكن أن يثور بين أخوين يجمعهما بيت واحد وأسرة واحدة، ومكان واحد، يسهل أن يتطاير فيه لأتفه الأمور، وأقل الأسباب!!..إن الكثيرين تحت سوق العاطفة أو التهاب المشاعر، لا يستطيعون تطويق النزاع بين أخوين أو قريبين، بمثل هذا الحل من التفريق بينهما، لكن إبراهيم أدركه كالحل الوحيد في المنازعة مع لوط يوم قال له: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان، أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عني إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً وإن يميناً فأنا شمالاً".. وأدركه كالحل الدائم بين ولديه المختلفي المشارب والنزعات، والميول والغايات.. ومن المؤكد أن البتر ليس شيئاً يشتهيه الطبيب الجراح، ولكنه قد يكون العلاج الأوحد لسلامة الجسد، وحفظ الحياة!!..
إسحق وأبوه
كان إسحق من مولده الشمعة المنيرة المضيئة في بيت أبيه، كان هو كما أطلق عليه "ضحك" البيت ومسرته وبهجته، ولا أحسب أنه في يوم من الأيام سبب لأبويه تعباً أو مشقة أو ألماً أو ضيقاً بأية صورة من الصور، كان هو أنشودة السلام في هذا البيت القديم العظيم، على أنك لا تستطيع أن ترى إسحق في أروع مظهر من مظاهر السلام، إذا لم تره أو تعرفه فوق جبل المريا مع إبراهيم، كان إسحق في ذلك التاريخ –كما يعتقد المفسرون- في الخامسة والعشرين من عمره، شاب في ميعة الصبا وأوج الشباب، ولندع "يوسيفوس" يعطينا صورة الحوار بينه وبين أبيه، بعد أن بنى كلاهما المذبح الذي انتوى إبراهيم أن يقدمه عليه، قال إبراهيم لابنه: "أي ولدي: لقد رفعت من أجلك صلوات متعددة حتى جئت ابناً لي، ومنذ ذلك التاريخ كانت مشيئة الله أن أكون أباك، والآن إنها مشيئته أن أقدمك له، .. ولنحمل يا بني هذا التكريس بذهن متفتح، إذ يلزم يا ابني أن تموت، وليس بطريق من طرق الموت العادي، ولكن الله يريدك ذبيحة له، .. أنا أعتقد أنه يراك جديراً بأن تخرج من هذا العالم، لا بالمرض أو الحرب، أو بأي وسيلة أخرى قاسية، بل سيقبلك بالصلاة وعلى مذبح الدين، وسيجعلك قريباً منه.."الخ. وأجاب إسحق في الحال، إنه ليس أهلاً أولاً للحياة لذا خزل إرادة الله وأبيه، ولم يتمم شهوة قلبيهما.. وصعد بنبل في أروع تكريس على المذبح مجهزاً عنقه لطعنة أبيه!!.. ومع أني أتفق مع الرسول بولس أكثر من يوسيفوس، أن إبراهيم قدم ابنه وهو يعلم أنه سيذبحه، وبعد ذلك سيقوم من الأموات، كما جاء في الرسالة إلى أهل رومية،.. لكن هذا الضرب العظيم من الولاء والتكريس ينسي الناس أن فضل إسحق فيه لا يقل عن فضل إبراهيم. ومن الواجب أن نرى هذا الشاب العظيم رمزاً للأعظم الذي سيأتي بعد ألفي عام ليصيح في جسثيماني "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".. وسنرى إسحق فوق المذبح في سلام الشهداء وعظمتهم، وأن السلام العميق الذي يربطه بالله حياً هو هو بعينه الذي يربطه به مذبوحاً وشهيداً،.. وهو ليس في كل الأحوال جهداً بشرياً أو شجاعة إنسانية، بل هو سلام علوي يأتي في أدق الظروف وأرهبها وأتعسها على وجه الإطلاق، ليعلم إسحق أن ينام هادئاً فوق المذبح، كما لو كان فوق فراش من حرير ودمقس، ويعلم الشونمية العظيمة، عندما تفقد ابنها، ويرسل إليشع غلامه يسألها! "أسلام لك: أسلام لزوجك، أسلام للولد؟ فقالت سلام".. حقاً إنه سلام الله الذي يفوق كل عقل عرفه إبراهيم وعرفه ابنه إسحق في أعظم امتحان لبشري أمام الله!!.إن هذا السلام يتحقق في العادة لمن يبلغون نقطة "التسليم التام" لله، التسليم الذي توثق فيه الذبيحة بربط إلى المذبح، التسليم الذي يصعد فيه الإنسان رغم قسوة الامتحان ودقته، بقدميه على المذبح مكتف اليدين والرجلين، مادا عنقه لما يقضي به الله ويأمر به، ولا حاجة إلى القول أنه سيكون على الدوام مصحوباً بالفرح والبهجة، كما يقول يوسيفوس إن إبراهيم بعد أن قدم كبش الفداء، احتضن ابنه، وضمه بقوة إلى صدره، وعاد كلاهما أسعد اثنين على هذه الأرض، يتمتعان ببهجة السلام الذي تموت فيه النفس عن رغبة في الأرض. إلا بأن تعطي أولاً وأخيراً المجد لله!!.. وإن كنت لا أثق في التقليد القديم الذي جاء في ترجوم في أورشليم، والذي فيه يرد عمى إسحق في أخريات حياته، إلى أن أباه وهو يقيده فوق المذبح مد نظره فرأى عرش المجد، ومن تلك اللحظة بدأت عيناه تضعفان عن النظر في الأرض لكني أعلم تماماً أن الحياة التي تعطي الله مجداً على هذه الصورة، لابد أن تصل، وبكل يقين، إلى سلام الله الذي يفوق كل عقل!!..
إسحق وولداه
وهنا نأتي إلى المعاناة والاضطراب والعواصف البيتية التي عكرت الكثير من هذا السلام، ومن المؤسف أن إسحق كان الملوم الأول في هذا الأمر، إذ غلب فهمه البشري على إرادة الله جل جلاله، ومع أنه يعلم وعد الله، عندما ذهبت رفقة وهي حبلى لتسأل الرب: "فقال لها الرب في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير".. وخرج الاثنان إلى العالم، وأحب إسحق عيسو لأن في فمه صيدا، وأما رفقة فكانت تحب يعقوب،.. كان الأبوان يحب كل واحد منهما الشخص الذي يعتبر مكملاً لحياته، فإسحق الهادي الوادع الساكن، كان أميل إلى الابن الأشعر المهيب الطلعة الممتليء الحركة، الذي تخشاه القبائل، وتحسب له ألف حساب وحساب،.. في الوقت الذي كانت رفقة المتحركة المتحفزة تميل إلى الابن المطيع المحب الوادع، .. وأمعن كل من الأبوين في التعبير عن حبه دون مبالاة أو تغطية أو تحفظ، ولم يدريا بذلك أنهما يصنعان الصدع أو الشرخ في البيت، في السلام الذي لا يمكن أن يتحقق على الإطلاق للأسرة المنقسمة على ذاتها، وما يتبع هذا الانقسام من فرقة وتحزب وتحيز.. أجل.. ولعله من الواجب أن ترفع هنا صوت التحذير، لكي يتعلم الأب أو الأم أنه إن عجز بينه وبين نفسه أن يميز ابناً عن آخر، لما قد يكون في هذا الابن من السمات أو الصفات، ما يجعله أقرب أو أدنى إلى عواطفه وحبه ونفسه،.. فإن الخطأ الذي يقترب من الجريمة أن يحس واحد من الأبناء بأن هناك تفرقة أو تمييزاً في المعاملة بين ولد وآخر. كان أحد الآباء يميز ولداً من أولاده على الآخرين، وذات يوم أبصر صغيراً يتحرك من غرفة النوم، ظنه الابن المدلل، فهتف قائلاً: تعال يا حبوب، وجاءه الرد: أنا يوسف فقط ولست الحبوب، وكان هذا ابناً صغيراً آخر من أولاده،.. وكانت هذه العبارة وما فيها من رنة أسى وأسف وحزن، آخر عهد الأب بالتمييز بين أولاده بكافة الصور والألوان،..هل أفسد إسحق عيسو بهذه التربية المتحيزة المتميزة المدللة؟ وهل كان من المتعين أن يكون عيسو إنساناً آخر لو أن أباه اهتم برائحة حياته الروحية، قدر اهتمامه برائحة ثيابه الفاخرة التي تعود أن يشمها كلما جاءه الابن الأكبر بصيد دسم سمين؟.. إننا نظلم إسحق كثيراً إذ اتهمناه بالبطنة التي ضيعت كل شيء في حياة عيسو، على ما يذهب الكسندر هوايت، وهو يصب جام غضبه عليه، عندما يأخذ من يد ابنه بنهم كبير، وشهوة بالغة، مما صاد بسهمه وقوسه، من الصيد أو الطعام الذي كان يحبه ويشتهيه،.. ولكننا في الوقت عينه –وإن أخفى عنا قصد الله السرمدي الذي أحب من البطن يعقوب وأبغض عيسو- لا نملك إلا أن نلوم- إلى درجة السخط- إسحق الذي ترك الحبل على الغارب لابنه، ونسى النبوة الإلهية الخاصة به، حتى وصل عيسو إلى الوصف الرهيب القبيح الذي وصفه به كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لئلا يكون أحد زانياً, أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته، فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع".. وجاء عيسو إلى بيت أبيه بيهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة بنت إيلون الحثي، زوجتيه اللتين أضحتا ينبوعاً من المرارة لرفقة وإسحق والبيت كله!!.. فإذا أضفنا إلى هذا كله قصة الصراع الرهيب المديد الطويل، الخفي حيناً، والظاهر أحياناً، حول البركة، والبكورية، وما لحقهما من تهديد عيسو بقتل أخيه، وغربة هذا الأخير لفترة ظن أول الأمر أنها لشهور قليلة، فإذا بها تطول إلى عشرين من الأعوام، ماتت أثناءها رفقة على الأغلب، وعاد يعقوب إلى أرضه، ولو رحمة من الله وضمانه الأبدي، لهلك في الطريق، وفي الصراع مع الأخ المتحفز المتربص، الذي لم يهدأ الثأر في قلبه طوال هذه السنوات بأكملها.. أجل وإنه لأمر مؤسف حقاً، أن الرجل الذي نجح في السلام مع العالم الخارجي، كان في حاجة إلى الصرخة القائلة: أيها الطبيب اشف نفسك، وحقق السلام قبل وبعد كل شيء بين ولديك التوأمين المتنازعين!!..
إسحق والعالم الخارجي
ومن الغريب أن الرجل الذي تعثر السلام في بيته نجح أكبر النجاح مع العالم الخارجي، المتربص به، والمتحفز له، والذي كان من الوجهة البشرية الخالصة يمكنه أن يقضي عليه، ويأتي على كل ما يمتلك،.. كانت حياة إسحق في مجملها حياة الإنسان الهاديء الطيب، وربما كانت طيبته المتزايدة نوعاً أكثر من مجرد المرونة المحبوبة التي ينبغي أن نتصف بها في معاملة الناس،.. أو إن شئنا الحقيقة كانت في الكثير من المواطن نوعاً من الليونة التي تنتهي في العادة إلى العكس مما يقصد صاحبها، ومن المؤكد أن إسحق كان من الممكن أن يكون أهنأ حالاً وأسعد بيتاً، لو أنه أخذ بيته بنوع من الحزم، لا يشجع استباحة عيسو، أو خداع يعقوب، أو استهانة الزوجة،.. ولكنه وقد جبل على الوداعة والطيبة، شجع هذه الأطراف على أن تتصرف بما لا يليق من أفعال أو تصرفات،.. ومع ذلك فهذا الرجل المسالم أعطى أروع الأمثلة وأعظمها على القدرة التي يستطيع بها المؤمن أن يعيش في وسط الوحوش والأشبال،.. لقد أدرك إسحق أن الهدوء والأمن والسلام تسير أطرادا مع ثقته الموطدة والممكنة في الله، فهو مثلاً على شفا الضياع إذ خاف وفزع وفعل ما فعله أبوه إذ زعم أن رفقة أخته، خوفاً من أن يقتلوه ويأخذوها لأنها كانت جميلة فاتنة حسنة المنظر،.. وهو قوي إذا طرح الخوف، وآمن أن الله أقوى وأقدر من كل القوات التي تتربص به، وتتعرض له أو تحاول أن تنال منه بأية صورة من الصور،.. وقد أكد الله هذا إذ ظهر له وشجعه وأعاد له العهد الذي سبق فأعطاه لإبراهيم أبيه، وإذ أراد الله أن يعطيه البرهان الفائق العظيم، باركه في سنة المجاعة القاسية: "وزرع إسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف" "وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً" فإذا كان إسحق يريد أن يطمئن ويهدأ ويستريح في النهار، وينام قرير العين في الليل، فلن يكون ذلك إلا بشيء واحد ألا وهو التأكد بأن الذي معه أقوى من الذي عليه، وأن العين التي تحرسه لا تنعس أو تنام، في الوقت الذي تغفو أو لا تغفو عيون الناس المتربصة به، الحاسدة له، والراغبة كل الرغبة في الإيقاع به والقضاء عليه،.. إن الولد الصغير الباسم يقف في حديقة الحيوان أمام الأسد المخيف دون أن يفزع أو يضطرب، ليقينه الكامل أن الموازنة بين قوته الواهنة وقوة القضبان الحديدية وقوة الأسد ووحشيته، تقع على الدوام في جانبه وإلى صالحه، ومن ثم فهو يضحك ويطرب ويداعب ويلاعب الأسد نفسه، لأنه مهما كانت قوة ملك الوحوش، فإن الصغير وقد أضاف قوة القضبان إلى قوته هو، يعلم بالتأكيد أنه الأقوى والأعظم.. كان الذين حول إسحق وحوشاً ازدادت قسوتهم ووحشيتهم لأن إسحق، دائماً ينجح وهم فاشلون، وإسحق دائماً يتعاظم وهم متهاونون، وإسحق في وقت الجدب والمجاعة يزرع ويحصد مائة ضعف وهم يزرعون وتجف مزارعهم ويتحول ما يزرعون إلى عصافة تدفعها العواصف وتذروها الرياح، وإسحق يربي الماشية فتتوالد وتتكاثر، وهم يربون ومواشيهم تضمر وتموت، وإسحق يحفر آبار فتنفجر وتروي، وهم يحفرون فلا يجدون إلا رمالاً وجفافاً، وخيبة أمل فيما يحفرون، فإذا ضاقوا بجهدهم وحسدهم، فما أسهل أو أيسر عليهم إلا في المشاكسة والمنازعة والخصومة، فإذا بهم يطمون الآبار التي حفرها أو يغتصبونها، وينازعون في حقه فيها، ويتحرشون به، لعلهم يجرونه إلى المصارعة والمنازلة عليها،.. والرجل مع ذلك هاديء قرير، لم يخرجه الاستفزاز يوماً عن طوره، أو الظلم عن طبع السلامة والمسالمة فيه،.. وهو أشبه الكل بالولد الصغير أمام الأسد المتوحش المحبوس في قفصه لأنه يعلم علم اليقين أنه الأقوى والأعظم بربه وسيده ومخلصه وفاديه،.. فإذا نازعوه في مرعى، فإن الأرض واسعة ومراعي الله الأخرى في كل مكان،.. وإذا طموا له بئراً، فإن الله سيعطيه غيرها آباراً، فليترك البئر "عسق" بئر المنازعة، ويترك البئر "سطنه" بئر المخاصمة لأن الله سيعطيه بئر "رحوبوت" حيث يمكنه أن يقول: "إنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" ثم بئر "شبعة" التي تزيد شبعاً ورياً، حيث يعطيه الله الفيض الذي لا يمكن أن يحجزه الإنسان!!..فإذا كان الإنسان يحقد أو يحسد، فإن إسحق المسالم قد وجد الحل الأعظم والأمثل للحقد أو الحسد، إذ أنه يحول قضيته من الإنسان إلى الله، ومن حقد البشر إلى عدالة الله، ومهما كان الإنسان عنيفاً، فإن الخصومة في العادة تحتاج إلى طرفين، فإذا تعدي أحد الطرفين ورفض الآخر أن يرد العداء أو يقاوم الشر، فإن المعتدي لا يمكن أن يستمر في شره وعدائه، وتخف أو تموت حدة النزاع مهما بدأت عنيفة شرسة مخيفة قوية، بل في أغلب الحالات تنتهي إلى المصالحة والسلام،.. كان إسحق رائداً من أقدم الرواد وأعظمهم في هذا السبيل، وهو الرائد الذي انتصر آخر الأمر عندما سعى إليه أبيمالك وأحزات من أصحابه وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم، فقالوا إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك ونقطع معك عهداً أن لا تصنع بنا شراً كما لم نمسك وكما لم نصنع معك إلا خيراً، وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب فصنع لهم ضيافة فألكوا وشربوا ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام. وحدث في ذلك اليوم أن عبيد إسحق جاءوا وأخبروه عن البئر التي حفروا وقالوا له قد وجدنا ماء فدعاها سبعة لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم.. وفي الحق أن هذه البئر ليست مصادفة أن تفجر ماءها في اليوم الذي يتعاهد فيه إسحق مع أبيمالك على السلام.. إذ هي في الحقيقة مكافأة الله وجزاؤه لصانعي السلام، ومحبيه بين الناس في كل مكان وزمان، على توالي العصور وامتداد الأجيال!!
إن مقاومة الشر بالشر لا تبقى عليه شراً واحداً بل تضاعفه إلى اثنين، كما أن آثار الشر لا يمكن أن تنال طرفاً وتترك الآخر، فهي كالحرب، ويل فيها للغالب والمغلوب على حد سواء، ولقد فطن الحكيم القديم إلى هذه الحقيقة فقال: "إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه ماء فإنك تجمع حجراً على رأسه والرب يجازيك" وسار في أعقابه بولس يوم قال: "لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس، لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. ولعل أمثلة حديثة من هذا القبيل يمكن أن تعطي الصور الناجحة لانتصار الروح المسالمة على العناد والقسوة والخصومة،.. عاش جوزيف برادفورد مساعداً أميناً لجون ويسلي وهو يصاحبه في رحلاته وخدماته التبشيرية سنوات متعددة، وحدث ذات مرة أن اشتد النزاع بين الصديقين إلى الدرجة التي قررا فيها في مساء يوم من الأيام أن يفترق الواحد منهما عن الآخر في اليوم التالي،.. وفي الصباح سأل ويسلي زميله: هل ما يزال مصراً على الرحيل، وجاءه الجواب: نعم.. وقال ويسلي: وهل هذا ضروري ولازم.. وجاء الرد جافاً: "سل نفسك يا سيدي.. وقال ويسلي لبرادفورد: ألا تعتذر؟وقال الآخر: لا يا سيدي؟وعنئذ قال ويسلي برقة ولطف.. إذا أنا أعتذر لك يا برادفورد، ولم يكمل ويسلي العبارة حتى فاضت الدموع من عيني زميله، وقال: أنا أعتذر، وتصالح الأخوان اللذان كانا على أبواب المفارقة والمقاطعة.. آه لو يعلم الناس أن الجواب اللين يصرف الغضب، وأن جلسة هادئة صغيرة، قد تصرف نزاعاً طويلاً مديداً مريراً"..كان أحد المحامين واسمه هاكت وكان من أبرع المحامين وأطيبهم، وكان من مبدئه الدائم أن يدعو الناس إلى فض الكثير من أسباب النزاع دون الالتجاء إلى المحكمة. وقد حدث أنه اشترى قطعة أرض، كان الناس يرفضون شراءها لشراسة وقسوة مالك الأرض المجاورة لها.. غير أن هاكت اشتراها، وعندما ذهب ليستلمها واجهه الجار المتحفز للمخاصمة والصراع، بأكثر عنف وضراوة ، وهو يقصد أن يفهمه أنه لا يبالي على الإطلاق بما يمكن أن يكون لديه من الإلمام بالقانون أو الاتجاه إلى القضاء، غير أن هاكت سأل الجار عن الحد بين الأرضين،.. وقال الجار: إن حقه معتدى عليه، وأن الحد الصحيح يلزم أن يدخل في أرض هاكت قدمين من بدء الحد، وقدماً عند النهاية،.. وقال المحامي: حسناً يا صديقي وإني أرجوك أن ترسم الحد أربعة أقدام عند الابتداء، وقدمين عند النهاية،.. وصاح الجار: ولكن هذا ضعف ما أطلبه؟.. فقال هاكت: قد يكون هذا، ولكني قد جئت مصمماً ألا أجعل من هذه الأرض نقطة مخاصمة أو نزاع بيني وبينك، وأنا أود أن أرضيك تماماً، وأرجو أن تعلم أن هذا يسعدني ويبهجني أكثر من أي مسطح من الأرض يمكن أن نختلف أو نتنازع عليه!!.. وإذ قال هذا رد عليه الرجل: يا صديقي.. إن هذا الحد بيننا لن يتزحزح عما هو عليه الآن بوصة واحدة، لتذهب الأرض كيفما تذهب، فإن الهدوء والسلام والصداقة أولى وأجمل وأسعد وأبقى..لم يكن "غاندي" مسيحياً، ولكنه وعى كلمات المسيح المباركة في الموعظة على الجبل: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وقد قيل أنه في صدر شبابه كان يشرف على مجموعة من الشباب في جنوب أفريقيا، وفي فترة غيابه ظهر بينهم شاب ارتكب أخطاء جسيمة دون أدنى مبالاة،.. وعندما عاد غاندي سمع عما فعله الشاب، فناداه وتحدث إليه عما فعل، وتبين إصرار الشاب على تصرفه دون أدنى إحساس بألم أو ندم أو توبة.. فما كان من غاندي إلا أن قال: إن هناك خطأ قد حدث، ويبدو أني فشلت، ولابد من علاج لهذا الفشل، ولقد قررت أن أعالجه بالصوم عشرين يوماً، ولم يدرك الشاب في أول الأمر قسوة القرار حتى جلس إلى مائدة الطعام، وهنا أردك أنه لا يستطيع أن يأكل، وآخر جائع لا يتذوق طعاماً بسببه،.. ذهب إلى غاندي، وحاول أن يقنعه بتناول الطعام، وغاندي يرفض، وعذب الشاب، وقيل أنه أخذ من هذا الدرس ما لم يأخذه من دروس أخرى،.. لقد كسرت الوداعة الطيبة المسالمة قلبه، وجعلته فيما بعد من أحسن الشباب الذين عمل غاندي في وسطهم!..لم يكن إسحق عملاقاً إذا قسنا حياته في ضوء حياة إبراهيم من قبله أو يعقوب من بعده، لكن هذه الحياة هي الدرس الذي يحتاجه العالم الباحث عن السلام في كل مكان وزمان، وهيهات له الوصول إليه قبل أن يصل إلى المعادلة التي نجح إسحق في حلها، معادلة السلام التي تأخذ سلامها من الله لتقتل به الحقد والنزاع والخصومة والضغينة، بروح من الحب والتسامح والتساهل والوداعة: "وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"..
المزيد