المقالات
05 ديسمبر 2020
المقالة العشرون في أيهما أفضل البكاء أم الضحك
بدء انقلاب نفس العابد الضحك والدالة، فإذا رأيت ذاتك فيهما، فأعرف أنكَ قد انتهيت إلى قعر الشرور، فلا تفتر متضرعاً إلى اللـه أن ينجيك من هذا الموت.
الضحك والدالة يهلكان أثمار العابد، الضحك والدالة يجعلانه يتكردس إلى الآلام القبيحة، الضحك والدالة يحدرانه إلى أسفل، وقد قال أحد القديسين عن الدالة: أن الدالة ريح الشوب تفسد أثمار العابد.
وعن الضحك أسمع الآن، الضحك يطرح النوح خارجاً، وينقض الفضائل المبنية، الضحك يُحزن الروح القدس، ولا ينفع النفس، ويفسد الجسد، يطرد الفضائل، وليس فيه ذكر الموت، ولا دراسة العذاب.
أنزع مني يارب الضحك، وأعطيني النوح والبكاء الذين تطلبهما مني.
بدء النوح أن يعرف الإنسان ذاته، وليكن نوحاً لا من أجل إنسان ولا لنشاهد الناس، لكن من أجل اللـه العارف مكتومات القلب، لكي ما نُطوَّب منه ونغبط.
ولنكن من الآن حسان الوجه، مبتهجون بالروح القدس بمواهب الرب باكين نائحين بمعقولنا، مستعطفين اللـه كي يحفظنا من كل نوع خبيث لئلا نعدم ملك السماوات بالخيرات التي عدها اللـه للذين يرضونه.
النوح يبني ويحفظ، النوح يروض النفس ويرضها نقية طاهرةً، النوح يولد العفة، ويقطع اللذات، ويقوم الفضائل.
وماذا أقول أيضاً: النوح يطوب من اللـه ومن الملائكة، فلذلك واحد من تلاميذ الرب قال: ينبغي أن يعود ضحككم نوحاً وفرحكم اكتئاباً. تواضعوا إذاً تحت يد اللـه العزيزة فيعليكم.
ماذا أصنع أنا الخاطئ، إذ لم أنح ولم أبكي على نفسي بتخشع، لأنني أتكلم ولا أعمل، ويلي كيف أتَهاون وكيف أتوانى في خلاصي ؟ ويلي لأنني بمعرفة أخطئ، أعرف فعل الشر ولا أعطف ذاتي عنه، ويلي فإنني بلا معذرة لأنه بأقوالي يحسبني قوماً أنني من ذوي اليمين، وبأفعالي أقف عن اليسار.
لك يارب، أيها الصالح والفاقد الحقد وحدك، أعترف بخطيئتي، وإن صمت أنا تعرف كل الأشياء وليس شيء مكتوماً من اتجاه عينيك، لكن قد قلت يارب بنبيك: قل خطاياك لكي ما تخلص.
قد أخطأت يارب قد أخطأت، ولست أهلاً أن أتفرس وأبصر علو السماء من قبل وفور آثامي، لأنني من أجل لذة يسيرة تَهاونت بالنار.
ماذا أصنع أنا الأشقى من كل الناس ؟ أبكي على ذاتي ما دام يوجد وقت تقبل فيه الدموع، هب لي أيها الصالح الرحوم وحدك دموع خشوع، لكي ما أتوسل بِها إليك أن تطهر وسخ قلبي.
ويلي ماذا أصنع في جهنم وفي الظلمة القصوى حيث البكاء وصرير الأسنان، ماذا أعمل نحو الزمهرير والعذاب الذي لا ينقضي، والدود النافث السم الذي لا يرقد، وماذا أصنع عند تَهويل الملائكة الموكلين بالعقوبات، لأنَهم مرهبون وغير راحمين.
من يعطي لرأسي ماء وعيني ينبوع دموع فأجلس أبكي ليلاً ونَهاراً لأستعطف الإله الذي أسخطه. يا نفس قد أخطأْت فتوبي، فإن أيامنا تعبر عبور الظل بعد قليل أيضاً وننصرف من هنا، يا نفس أنت عازمة أن تعبري في أماكن مخيفة، فلا تسوفي يوماً فيوماً أن تعودي إلى الرب.
يا نفسي طردتِ بالأفعال الدنسة الملائكة القديسين الذين يحفظونك، فلا تمنحي ذاتك راحة ولا تفتري حدقة عينيك من السجود للإله الصالح المتعطف على البشر ليعطيك معونة من العلي.
يا إخوتي نحن مزمعون ليس بعد حين طويل أن نعبر أماكن مخيفة، وغير ممكن أن لا نعبر تلك الطريق، وليس أحد من هنا يرافقنا للمعونة، لا والدان ولا إخوة ولا أصدقاء ولا جنس ولا غنى ولا شيء من نظائر هذه.
فلا نتوانى في الأعمال الصالحة التي سنجدها في زمان الحاجة، ولنستفق في هذا الدهر لئلا يقبض علينا بعد الفراق رؤساء الظلمة، ومن المُعِين والفادي في تلك الساعة من أيديهم إن صودفنا مجردين من ستر اللـه.
إن رؤساء الظلمة متمردون وغير رحومين، لا يرهبون ملكاً ولا يكرمون أميراً، ولا يبجلون صغيراً ولا كبيراً، سوى العائش بالديانة البهية فقط، صاحب الأعمال الصالحة، من وجه هذا يرهبون ويعتزلون ويخافون ويولولون منهزمين بتسارع كثير.
كما كتب: أن النعمة والرحمة سابغتان على مختاريه وتعهده لأبراره. ويقول أيضاً: إن نفوس الصديقين بيد الرب، ولا يمسهم العذاب، لأن عدلهم يتقدم فيصير قدام وجوههم، ومجد اللـه يجللهم.
حينئذٍ يصرخون، فيستجيب لهم الرب، وفي حين تكلمهم، يقول هاأنذا قد حضرت لأن صادقاً الواعد.
مغبوط من يوجد حراً في ساعة الفراق، لا نتوانى يا إخوتي الأحباء، ولا نجذب إلى ذاتنا الأشياء الأجنبية الضارة البالية، لأن تلك الطريق تحل كل شيء.
إذا حانت ساعة الفراق تذبل اللذات، وتَهلك التنعم والشرف الباطل، فيبيد الغنى وحب الرئاسة إذا حضرة ساعة الفراق، وهذه كلها ونظائرها تنحل وتزول. أيها الرب إذا تذكرت تلك الساعة فأَخر ساجداً لصلاحك ألا تسلمني إلى الذين يظلمونني، لئلا يفتخر أعدائي على عبدك، مصريّ أسنانَهم، ومفزعي نفسي الخاطئة. يقولون: قد حصلت في أيدينا ؛ ودفعت إلينا، فهذا اليوم الذي كنا ننتظره.
يارب لا تنسى رأفاتك، لا تكافئني نظير أثمي، ولا تعرض بوجهك عني، لا تقل لي حقاً أقول لك أنني ليستُ أعرفك، أنت يارب أدبني لكي أبرأ برأفاتك، ولا تشمت بي العدو بل أخمد تَهويله، وبطل كافة حيله، وامنحني الطريق إليك غير مذمومة.
أيها الرب الصالح عزني لا باستقامتى لكن برأفاتك، ومن أجل صلاحك الجزيل خلص من الموت نفساً مغمومة.
اذكر أيها الصالح أنني لما أخطأت وجرحت بكلوم تقارب الموت، ما لجأت إلى طبيب أخر، ولا بسطت يدي إلى إله غريب، بل إلى خيريتك، لأنك أنت إله الكل الماسك كل نسمة.
أنت يارب قلت اسألوا تعطوا، نقني أيها الرب قبل الوفاة من كل خطيئة، ولا ترفض طلبتي أيها الرب الصالح، ها فمي غير مستحق يهتف إليك، وقلبي غير نقي، ونفسي مدنسة بالخطايا. أستجب لي يارب من أجل صلاحك لأنك لا تطرح وسيلة التائبين بالحقيقة.
أما توبتي أنا فغير نقية بل مفسودة، لأني أتوب ساعة وأخطئ وأسخطك ساعتين، وطد قلبي بمخافتك، أقم رجلي على صخرة التوبة، ليغلب صلاحك الرذيلة التي فيَّ.
يا من فتحت عيون العميان، أفتح عيني ذهني المظلمتين، يا من طهرت البرص بكلمة، طهر أدناس نفسي، لتصر يارب نعمتك فيَّ كالنار تحرق الأفكار النجسة التي فيَّ لأنك أنت هو النور الذي يفوق كل سرور، الراحة التي تسموا على كل راحة، الحياة الحقيقية، الخلاص الباقي إلى الأبد.
لك وحدك أجثو ساجداً متضرعاً، أنا المستوجب كل عذاب، أنا المستحق كل عقاب.
إليك أيها الفادي أبتهل متوسلاً ألا يدركني المضاد في الانقضاء، لكن أنت بما أنك صالح وغير حقود ورحوم، انْهض أعضائي التي هشمتها الخطيئة، أضئ قلبي الذي أظلمته الشهوة الخبيثة.
ونجني من كل عمل خبيث، وألمع فيَّ يارب يسوع المسيح مخلص العالم محبتك الكاملة، وأكتب اسم عبدك في سفر الحياة، وأهب لي نِهاية صالحة، لكي ما أرفع راية الظفر، وأسجد بلا خجل أمام عرش ملكك مع كافة القديسين. إنه بك يليق المجد إلى الدهور. آمين.
فأطلب إليكم يا إخوتي الأحباء، المختارين من اللـه، أن تطلبوا من أجلي أنا الخاطئ إلى اللـه، كما طلب الرسل من أجل الكنعانية، لأنكم أنتم المستحقون أن تشفعوا فيَّ أنا الغير مستحق، أيها المكرمون اسألوا فيَّ أنا الحقير لكي ما تدخل طلبتي في جملة طلباتكم المقبولة قدام اللـه.
لأنه يليق بك العز والعظمة والمجد الآن ودائماً
وإلى كافة الدهور. آمين.
مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
03 ديسمبر 2020
شخصيات الكتاب المقدس أستير
«ومن يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك»
مقدمة
هل نحن في عالم يعتني به الله؟ وما مبلغ عنايته؟ وما مدى تدخلها في أحوال الناس وظروفهم وأحداثهم وحوادثهم؟،أي السبل تسلك؟ وما وسائلها التي تتذرع بها لبلوغ مقاصدها البعيدة المتعددة المترامية؟ كل هذه أسئلة تثار، والناس يقفون ازاءها مختلفي الفكر، موزعي الاتجاه، متبايني المنطق، فمنهم من لا يؤمن بالعناية اطلاقاً، لأنه لا يؤمن بوجود إله.. ويتخذ من مظاهر هذا الكون والاضطراب والفوضى التي تتمشى فيه سندًا لحجته وقوة لها... ألم يقل عمر الخيام في فلسفة بائسة يائسة محزونة: «ما هذه القبة الزرقاء فوقنا إلا صحن مقلوب يزحف تحته البشر ويحيون ويموتون، فلا ترفع لهذه القبة يدا في طلب العون فهي صماء بكماء عاجزة مثلي ومثلك». ومنهم من يظن أن الله لا يكاد يبالي بآلام الناس وأحزانهم وتعاساتهم، كلورد بيرون، أو نأي عنهم فنفض يديه منهم كما زعم توماس كارليل، ومنهم من يؤمن بالعناية بكيفية مجملة عامة تسيطر على مصاير الجماعات والشعوب والأمم ولكنه لا يكاد يصدق تدخلها في تلك الأمور الصغيرة الدقيقة العادية التي يألفها الناس في حياتهم من أكل وشرب ولبس ومرح وبكاء ودخول وخروج وما أشبه! غير أن هناك من يؤمن بالعناية في أوسع وأدق ما تشمل من معنى، العناية الجامعة المانعة، العناية التي ترعي الصغير والكبير على حد سواء، فتحصى شعور الرءوس كما تعد الشعوب والممالك، وتهتم بعصفور صغير كما تهتم بأمة بأسرها، العناية الحكيمة الحلوة المحبة المبصرة التي صاح ازاءها كلفن: «اني لا أؤمن بعناية الله كإله فحسب، بل بعنايته كآب محب مشفق»...
إزاء هذه كلها ماذا تحدثنا قصة أستير!؟ وأي ضرب من العناية تكشف لنا؟ وما أثر العناية في توجيه التاريخ والشعوب والأفراد والحوادث؟ ذلك ما أريد أن نتأمله في اتجاهين:
أستير: من هي؟
كانت أستير فتاة يهودية ولدت في السبي في شوشن القصر، ويقول التقليد ان أباها مات وهي جنين في بطن أمها، كما ماتت أمها أثناء ولادتها، فهي فتاة حزينة بائسة، خرجت إلى عالم لم تتذوق فيه حنان الأمومة، وعطف الأبوة، ولم يكن لها من عائل سوى ابن عمها الفقير مردخاي، الذي تكفل بها منذ الصغر، ولعله هو الذي دعاها «هدسة» أي «آس» ذلك النوع من الشجر القصير الصغير الظليل الجميل الدائم الأخضرار العطري الرائحة، والاسم يشير إلى جمال فائق فتان تعلوه مسحة من الكآبة والوحشة والتعاسة التي أورثها الفقر واليتم والسبي، على أنها دعيت فيما بعد أستير، والكلمة سواء كان معناها «نجمة» أو «عشتاروث» آلهة الخصب والشباب والجمال، فإنها تحدثنا عن هذا الجمال حين نضج واكتمل وتألق، وسار في طريقه إلى العظمة والإبهاء والقصور، كما أنها كانت فتاة رضية الخلق، وادعة النفس، متواضعة الروح، تروق لها الدعة والبساطة والهدوء، فهي في تجملها لا تميل إلى الإفراط والإغراق الأمرين اللذين كان يتطلبهما الاستعداد للدخول إلى الملك، وحين بلغت العرش لم يبهرها الصعود السريع المفاجيء، عن الحياة الوديعة القديمة، كنت أظنها ستنسي مردخاي أو تتحاشاه، أو تذكره لماما في شيء من الأنفة والكبرياء.. أليس الفاصل بينهما الآن وسيعًا كبيرًا هائلاً لا يستطاع تخطيه، أليست هي الآن نجمة الإمبراطورية الفارسية العظيمة، وهو مجرد واحد من الرعايا اليهود الأصاغر، لكن الملكة القديمة لم تفعل، ومن العجيب أنها ظلت على روح كاملة من الولاء والطاعة له، كما كانت عنده في بيته الفقير: «وكانت أستير تعمل حسب قول مردخاي كما كانت في تربيتها عنده» أنها في الواقع صورة النفس العظيمة التي لا يلوثها الغرور أو تفتنها الكبرياء، فتشيح بذكراها عن الأيام البسيطة الصغيرة الساذجة الأولى... رفع أحشويرش إلى المجد شخصين، فقتل المجد أحدهما، وأزكى الثاني، قتل خلق هامان، وأزكى عظمة أستير!..
ولعل أستير كامرأة وملكة قديمة، تعطي صورة من أقدم وأدق الصور للشخصية اليهودية في مختلف العصور، ومن العجيب أننا يمكن أن نرى فيها الكثير من الصور التي نراها في اليهودي في القرن العشرين كما كانت في القرون السابقة على الميلاد، سواء بسواء، فهي أولا صورة اليهودي المنعزل الذي لا يمكن أن يختلط بغيره، والذي حقت عليه نبوة بلعام القديمة: «هو ذا شعب يسكن وحده، وبين الشعوب لا يحسب».. كان اتصالها الدائم بمردخاي وشعبها، ولم تستطع حياة الترف والبذخ والمجد العالمي أن تفصلها عنهم أو تجعلها قريبة التنكر أو التجاهل لهم!!.. ومن الواضح أن الكثير من الجنسيات والشعوب، قد ذابت على مر الأجيال في الأماكن التي انتهت إليها، إلا اليهود أنفسهم الذين مهما اختلطوا أو ارتبطوا بغيرهم من الأمم أو الحضارات إلا أنهم إلى اليوم في أمريكا أو أوروبا أو أي مكان آخر من العالم، لا يمكن إلا أن يعيشوا في وحدة داخلية متعصبة كاملة!!..
وهي أيضًا تمثل اليهودي في سريتها، إذ لم تخبر أحدًا بحقيقة مولدها وجنسها وشعبها كما أوصاها مردخاي، والتقليد يقول إن احشويرش لما بهره جمالها يوم دخلت إليه، وأراد تمليكها، حاول أن يتعرف على شيء من أصلها وأهلها وعشيرتها وجنسها، ولكنها استطاعت أن تصرفه بمهارة ولباقة عن السؤال بكثرة ما شغلته ووجهت إليه من أسئلة عن الملكة السابقة وشتي، وفي الواقع ليس هناك أستاذ في الدنيا، كاليهودي في فن التخفي، والحياة السرية العميقة الغامضة، ويرد رجال النفس هذا للحياة المشردة التي يعيشها في كل التاريخ، على أنها إلى جانب هذا كله، يضع لنا كتاب الله قصة حياتها، كفتاة يهودية مؤمنة، في عصر الوثنية والظلام وقد عاشت في شوشن تحيط بها الوثنية من كل جانب، لكنها لم تستطع قط أن تؤثر فيها أو تنتصر عليها، أو تنسيها الحياة العظيمة القديمة التي كانت لأجدادها إبراهيم واسحق ويعقوب، كانت تؤمن بالله في أرض الوثنية، وتعيش متطلعة إليه بالحق في عالم الضلال. وعندما واجهها الخطر، وواجه قومها، كانت أنبل صورة يقدمها الإنسان من أجل شعبه، وعقيدته، ودينه، وسعت إلى الخطر بقدميها، وهي تصوم وتصلي هي وجواريها قائلة قولها العظيم الرائع «إذا هلكت هلكت» ان صورة أستير يمكن أن تكون عظة لجميع المؤمنين في كافة الأوطان والشعوب والأمم والممالك، إذ أن المؤمن الصحيح ينبغي أن يكون وطنياً متفوقًا في وطنيته، على استعداد أن يبذل كل شيء من أجل الآخرين من إخوته وأحبائه ومواطنية، وعليه أن ينسى نفسه، ويدفع الضريبة ما بلغت لمجد الله أولاً، وخير إخوته وأحبائه وشعبه ومواطنيه بعد ذلك، ولا شبهة على الإطلاق، في حياتنا كمسيحيين بعد خمسة وعشرين قرنًا من الزمان من هذه الفتاة القديمة، أن نشير إلى أن الإيمان الصحيح والوطنية الصحيحة يسيران على الدوام في خطين كاملي الاستقامة والامتداد والتوازي، وإن كنا نتحفظ في الأسلوب الذي اتبعته هذه الملكة القديمة، إذ كانت ضاربة قاسية في الانتقام لشعبها، الأمر الذي أثار حفيظة مارتن لوثر عليها، وجعله شديد التبرم منها ومن قسوتها، ومع أن الكثيرين حاولوا أن يدافعوا عنها، من هذا القبيل، إذ ذكروا أنها فيما فعلت، لم تكن في موقع الهجوم أو الاستعداء على الساكن الآمن الهادي، بل كانت تدفع ظلمًا صارخًا قاسيًا مروعًا، وكانت في موقع الدفاع والحماية لنفسها وشعبها! على أنه مهما تكن حجتها في ذلك، فمن الواضح أن روح العهد الجديد في المسيح يسوع لا يمكن أن تقبل هذا الأسلوب على الإطلاق، ولا يجوز الالتجاء إليه بتاتًا الآن، وقد رفضه المسيح بوضوح، عندما طلب ابنا زبدي نارا من السماء تحرق قرية سامرية، لم تعط السيد مكانًا وضيافة وترحابا، وقال لهما في زجر قاس: «من أي روح أنتما» وكأنما يريد أن ينبهما، أن روح إيليا النبي الملتهب الغيور، لا يجوز في العهد الجديد أن تأخذ صورة القسوة والانتقام والثأر، على أي حال لقد كانت هذه المرأة تعمل في عصرها القديم بروح العصر وأسلوب ونظامه وإيمانه، وهي فيما خلا ذلك تعطي صورة رائعة لانتصار عناية الله أزاء ظلم لم يكن له على الإطلاق، ما يبرره، من هامان المدمر الرهيب القاسي..
أستير والعناية
قد يكون من الغريب في سفر أستير أن لفظ «الله» جل جلاله لم يرد في السفر، لكن عناية الله ظهرت في كل سطر فيه ونحن يمكن أن نراها فيما يلي:
أستير وامتياز العناية
ليس في قصص التاريخ أمثلة كثيرة لشخصيات ترتفع من الحضيض إلى المجد بهذه الصورة، فتاة فقيرة يتيمة من شعب مرذول تدبر لها العناية أن ترقي عرش امبراطورية فارس، ومن أجل هذا التدبير وفي أعقابه يرتفع أناس ويسقط آخرون، وتتلفت الفتاة الفقيرة لتجد نفسها في هذا الجو الملكي العظيم، سيدة سيدات فارس، والملكة المدللة المحبوبة، لم هذا! ألكي تلهو وتسر؟ ألكي تتمتع بأطايب الملك وخمر مشروبه؟ ألكي تغرق في الحياة البازخة الناعمة؟ ألكي تأمر وتتسلط وتستبد؟ كلا، بل أن للعناية قصدًا ثابتًا علويًا كريمًا، بدأ في أول الأمر عند مردخاي ظنًا: «من يعلم إن كنت لوقت مثل هذا وصلت إلى الملك» ثم تحول هذا الظن يقينا بعد أن جاء الفرج، وتحققت النجاة على يديها، إنه الامتياز يتحول إلى مسئولية لازمة، والتملك يضحي وديعة مؤكدة، والسيطرة تمسى أمانة واجبة!!.
هذه قصة ما نعطي دائمًا، دعاها الله وزنات، ومن الناس من يأخذ خمسًا وآخر وزنتين، وآخر وزنة، أيا كان عددها، فهي على كل ودائع وامتيازات لم يحرم منها واحد قط في هذه الحياة! فما هي وزنتك أو وزناتك وماذا عملت بها وكيف تصرفت فيها! هل أنت ممن يضيفون إلى ما في حوزتهم «ياء النسب» جسدي، عقلي، ثروتي، ملكي، مجهودي، كدي، نشاطي؟ أم أنت ممن يعتقدون أن هذه من الله وينبغي أن ترد لمجده! إن الإجابة على هذين السؤالين، هي التي تضع الفرق بين إنسان العالم وإنسان الله، بين الإنسان الخارج عن وضعه، والإنسان حيث وضعته إراده الله.. من الأقوال المأثورة عن لوثر: «أني أؤمن أن الله خلقني وخلق كل الموجودات، وأنه أعطاني وما يزال يصون لي جسدي ونفسي، بكل ما أملك من أعضاء، وحواس، وعقل، وروح، وجهز لي ثوبي وطعامي وعائلتي وبيتي، ومنحني الكل دون استحقاق، لأرد له الجميع حمدا وشكرًا وطاعة وخدمة» على أنه يوجد من الناس من نسمعه يقول: إني على استعداد أن أخدم وأبذل وأجود بكل مالدي لو أن ظروفي أوفق وأحسن وأيسر، لو أن الله ينقلني بين طرفه عين وانتباهتها، من خمول الذكر والضعة والفقر، الى الرفعة والسؤدد والمجد، كما نقل أستير! مثل هذا أريد أن أذكره بقصة شابين وشابة، كان ثلاثتهم برمين بالحياة وظروفهم، وبسوء تصرف الناس فيما يملكون ويعلمون! كان الأول يقول آه لو أنني غنى لنثرت الذهب على الفقراء، وأشبعت الجياع، وكسوت العرايا، ولأنشأت الملاجيء والمستشفيات ودور العجزة، يا للأسف أني لا أملك مالا، لكن هذا الشاب على الأقل كان يمكنه أن يقتسم - ولو لمرة واحدة - مع جار له جائع لقمة خبز أو بعض آدام، وأبدا ما فكر أو حاول أو فعل!... وأما الثاني فكان ينعي على الخدام إهمالهم وقصورهم في التبشير كان يقول لو أنني خادم لهززت المنبر، ووبخت الشرير، وأرعدت الخاطيء، وقويت البائس، وأعنت المسكين،... غير أنه ما فكر مرة وهو يذهب صباح كل أحد إلى الكنيسة بالسيارة، أن يحدث سائقها عن الدين أو يدعوه إلى الدخول إلى بيت الله بدلا من الانتظار في الخارج ساعة العبادة،... أما الثالثة وكانت عانسًا لم تتزوج فقد كانت تشكو البيوت وسوء التربية وفساد الأخلاق، وتتمنى لو وهبها الله زوجًا وبيتًا وولدا إذن لأحسنت قيادتهم ورعايتهم والسهر عليهم وجعلتهم جميعًا في شركة سامية صالحة مع الله، ومن الغريب أنها نسيت أن عندها خادمة لم تر منها سوى القسوة والاستبداد والإهمال وسوء المعاملة.
أيها الصديق تمسك بما عندك، وأحسن العمل به، مهما يبدو صغيرًا حقيرًا تافهًا، ولا تنس أن أرملة فقيرة ألقت في غفلة من الناس ووعي البشر فلسين حقيرين في خزانة بيت الله، ولكن رقيب الناس رآها وامتدحها ومجدها مجدًا لم يعرفه الأغنياء والأثرياء وأرباب الكنوز، ولا تنس أن ولدا صغير أنقذ نلسن في معركة من معاركه الأولى فكسب لانجلترا النيل وكوبنهاجن والطرف الأغر،.. ليتك تسمع أخيرًا عند ختام الحياة هذه العبارة الإلهية الكريمة: «نعما أيها العبد الصالح والأمين كنت أمينًا في القليل فأقيمك على الكثير أدخل إلى فرح سيدك!..».
أستير ووقت العناية
لعلة من المثير هنا أن ندرك أن عناية الله لا تقع من حيث الزمان على الإطلاق أمام عنصر المفاجأة، وما نتصوره نحن صدفة أو عارضًا أو مفاجأة، لا يمكن أن يكون كذلك أمام الله الذي يجمع الزمان كله بين يديه، ويرتبه ترتيبًا زمنيًا دون أن يترك دقيقة أو ثانية واحدة من غير حساب، وكان في قصة أستير، لابد أن يرتب للحوادث ويعدها، كما يلحقها دون أن تفلت نأمة أو حركة من بين يديه، فأعد أستير للملك، بعد خلع الملكة وشتي، بما يقرب من عشر سنوات على الأقل، فأضحت المملكة المحظوظة والمحبوبة، قبل ظهور المؤامرة بوقت طويل، كما أنقذ الملك أحشويرش من مؤامرة خصييه، وأجل مكافأة مردخاي للوقت المناسب، وجعل القرعة تقع في آخر شهر من شهور السنة حتى يمكن الوصول إلى أرجاء الإمبراطورية كلها، دون أن تسقط نقطة واحدة من دم الضحايا، وعند التنفيذ من ذلك، يأتي في اللحظة الأخيرة، في الهزيع الرابع، فلا ينقذ مردخاي إلا في صباح اليوم الذي كان سيصلب فيه. كما أن الشعب نفسه ينجو، عندما اقترب الأجل المحدد للخلاص منهم، والقضاء عليهم!
لقد تعلمت من ذلك أن الله يمسك في العادة بأطراف التاريخ، وقبل أن يدبر الشر يحتاط هو للأمر ويعد العدة، كما أنه يبصر الخفيات العميقة التي ربما لا يستطيع أصحابها اكتشافها بعد تحت أضالعهم وبين جوانبهم، ويعد المنقذ قبل الاضطهاد، ويوجد المصلح قبل تغلغل الفساد، لا تخف إذن ولا ترتع، وتقول... لقد ضعنا، وقد انهد الأمل وانطوى الرجاء، وضاعت الفرصة، ألا فاعلم أن الزمن لا يسبقه أو يتأخر عنه واذكره يقول: «من اغتصاب المساكين من صرخة البائسين الآن أقوم يقول الرب اجعل في وسع الذي ينفث فيه».. «اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكي يركض قارئها لأن الرؤيا بعد إلى الميعاد، وفي النهاية تتكلم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها ستأتي إتيانًا ولا تتأخر».. تستطع أن تترنم أومن بك يا صخر الدهور ومنية الآكام الدهرية!..
أستير وسعة العناية
في أي مكان تعمل العناية، وعند أي حدود تنتهي، قديمًا كان الوثنيون يعتقدون أن لكل آلهة مكانًا خاصًا لا تبرحه، بل تسيطر عليه وتعمل فيه، وكانوا يظنون أن آلهة الجبال لا تصلح للوديان، وآلهة البحر لا تصلح للبر، كان لكل آلهة منطقة خاصة لا تتجاوزها أو تتعداها، وكان اليهودي يحتاج إلى زمن طويل حتى يفهم سعة العناية بالمعنى الذي عرفه فيما بعد، ألم يقل يعقوب بعد أن بارح بيت أبيه، وصادف في البرية مكانًا رأى فيه الله: «حقاً إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم» لكن قصة أستير تعلمنا جميعًا أن العناية في كل مكان، في شوشن، كما في الهند، وكوش، في كل أرض أحشويرش، بل في كل مكان على هذه الأرض!!.
أيها الصديق ألا تستطيع أن تغني مع داود في مزموره العجيب عن العناية: «من خلف ومن قدام حاصرتني وجعلت علي يدك. عجيب هذه المعرفة فوقي ارتفعت لا أستطيعها، أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب إن صعدت إلى السموات فأنت هناك وإن فرشت في الهاوية فها أنت إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر فهناك أيضًا تهديني يدك وتمسكني يمينك، فقلت إنما الظلمة تغشاني فالليل يضيء حولي. الظلمة أيضًا لا تظلم لديك والليل مثل النهار يضيء كالظلمة هكذا النهار»؟... ومع ماري سليسر التي صاحت «ما كنت أجرؤ أن أفعل شيئًا أو أجزم أمرًا إلا ليقيني أنني أراه دائمًا في الطريق أمامي»... لقد أبصرته هاجر في الصحراء حيث ظنت نفسها وحيدة، ورأه يونان في بطن الحوت حين التف عشب البحر برأسه، واختبره الثلاثة فتية في أتون النار، وعرفه دانيال في جب الأسود، وجاء إلى يوحنا في بطمس.. ليس هناك مكان يختفي عنه عينيه.أيتها الأم التي لها ابن ناء عنها في أقصى الأرض اذكري الله وصلي لأجل ولدك فإن الرب إلى جواره، أيها الأب الذي لا تعلم ماذا ما يجري في بيتك فكر في الله لأنك لا تستطيع أن تصون دارك دون عنايته، ذكرنا يارب أن نعلم أنك كما أنك بعيد عنا فأنت إلى جوارنا أيضًا جداً قريب.
أستير وقوة العناية
وما أقواها من عناية تلك التي تسخر خليطًا عجيبًا من الناس، فيهم الملك وفيهم الصعلوك، فيهم السيد وفيهم العبد، فيهم الطيب، وفيهم الماكر، فيهم البسيط وفيهم الشرير، فيهم المتكبر وفيهم الوديع، فيهم المؤدب وفيهم فظ الأخلاق، هذا والملك أحشويرش يضع لنا التاريخ صورة مرعبة لحياته تماثل ما نقرأ في سفر أستير، أنه لم يكن ملكًا بل كان وحشًا همجيًا شهوانيًا مستبدًا متغطرسًا في ثياب ملك، جرد أكبر جيش عرفه التاريخ القديم لمحاربة اليونان، وعمل جسرًا من السفن على بوغاز الدردنيل، ولما هاجت الزوبعة وكسرت سفنه أمر بجلد البحر وقطع روؤس المهندسين الذي شادوا الجسر، كان لا يعرف الرحمة أو تتطرق الرقة إلى قلبه، مع الأصدقاء أو الأعداء على حد سواء، توسل إليه صديق اسمه بسياس أن يعفي ولده الأكبر من الذهاب إلى الحرب وكان قد قدم أولاده الخمسة الباقين، فما كان منه إلا أن شطر الولد شطرين، وأمر الجيش أن يمر بينهما ليعرف الجميع كم هو حازم صارم، ما أقوى العناية التي تستغل مثل هذا، وهامان بكبريائه وعجرفته، وأنانيته، ودهائه،... ووشتي بوداعتها وفضيلتها،.. وأستير بجمالها وحيويتها، ومردخاي بتعصبه وغيرته، وغيرهم من المعلومين لنا أو المجهولين لدينا، كل هؤلاء تستغلهم العناية أبرع استغلال وأوفاه، بعواطفهم وميولهم، ونزعاتهم ومواقفهم، أشرارًا وأخيراً معاً، سواء كانوا في القصر أم على الطريق، داخل الحجاب أم في الخارج، ممن يصعب الوصول إليهم أو من يبلغهم الجميع...
تأمل كذلك أيضًا كيف تشق العناية سبيلها في المستحيل، فهذه شريعة مادي وفارس لا يمكن أن تتغير، وما تصدره من أحكام لا يستطيع تفاديه، وقرار الإمبراطورية، لا يستطيع الإمبراطور نفسه أن يعدل عنه بعد ما أصدره، فما فائدة الصلاة أو الصوم، لقرار أضحى واجب التنفيذ، ولا توجد قوة على الأرض يمكن أن تلغيه، لكن هل يعجز الله على الانتصار على أي قرار بشري. إن الإيمان يؤكد أنه حتى ولو لم تتدخل أستير، وسكتت عاجزة عن أن تفعل شيئًا، فإن النجاة ستأتي بأي سبيل آخر، وتتخطى كل النظم والنواميس والقوانين، حتى ولو كانت أقسى نواميس الطبيعة أو شريعة مادي وفارس التي لا تتغير، لم يستطع الإمبراطور أن يعدل عن قراره، ولكنه أصدر الأمر للشعب المجني عليه بأن يستعد للدفاع عن نفسه، وأن يجد كل معاونة في الإمبراطورية للقضاء على خصومه، أنه يشبه في ذلك ما فعله سلطان قديم قيل إنه أصدر قرارا بأن يجلد كل من يرى وهو يشرب خمرا ثمانين جلدة، وكان لهذا السلطان صديق شاعر يدمن الخمر وأراد السلطان تكريمه، فطلب منه أن يتمنى عليه بأي طلب، فأجابه الشاعر لا رغبة لي ولا أمنية الا أن أشرب خمرًا وأعفى من العقوبة فقال له السلطان: ولكن هذا محال لأني كيف أنقض حكمًا عاماً أذعته، ورجاه أن يطلب شيئًا آخر، غير أن الشاعر لم يكن عنده غير هذا الطلب، ففكر السلطان وفكر بدافع إعزازه للرجل كيف يخلصه من العقوبة، واخيرًا اهتدى إلى حل.. أن يضرب الشاعر ثمانين جلدة إذا أبصر يشرب خمرًا، على أن يضرب من يشهد عليه مائة جلدة، فكان الناس إزاء هذا الحكم يضحكون ويتندرون قائلين: من يدفع ثمانين جلدة للشاعر ليأخذ بدلاً منه مائة.. وهذا ما فعله أحشويرش تمامًا ليخرج من مأزق القرار الأول الذي أصدره، وبذلك استطاع المظلوم لا أن يدفع عن نفسه الظلم فحسب، بل أن يتخلص من ظالمه أيضًا.
على أي حال أنها العناية الإلهية العجيبة، التي تمسك بالشر لتحول منه إلى الخير، أو كما ذكر يوسف الصديق لإخوته، «أنتم قصدتم لي شرًا أما الله فقصد به خيرًا لكي يفعل كما اليوم» أو كما قال شمشون: «من الآكل خرج آكل ومن الجافي خرجت حلاوة» أو كما هتف أساف قائلاً: «لأن غضب الإنسان يحمدك، بقية الغضب تتنطق بها» وما أكثر اختبارات القديسين التي لا تنتهي في كل التاريخ من هذا القبيل.
وهي العناية التي تأتي للضعيف العاجز ليأخذ قوته وأمنه وهدوءه وسلامه، كذلك الطائر الذي صوره وردثورث وقد دفعته الرياح العاتية في بلاد النرويج، وهو مقرور يكاد يموت من البرد، وحاول أن يقاوم بجناحيه الواهنتين الضعيفتين، ولكن الريح دفعته دفعًا نحو المحيط فأغمض عينيه واستسلم، ولكنه لم يسقط في المحيط، بل طرحته العاصفة في بقعة مشرقة هادئة في شمال انجلترا.. أليست هذه هي صورة حياتنا جميعًا حين نرفرف في مواجهة المتاعب بأجنحة ضعيفة مرتعشة لا تلبث أن تخور، وتكف عن كل محاولة ومجهود، ولكن عناية الله تظهر عندئذ.لقد علم عصفور صغير قذفت به الزوبعة إلى غرفة تشارلس ويسلي، حيث وجد من المرنم الموهب حنانا وعطفا عبرا به أرض الخوف والموت والهلاك، علمه هذا العصفور أن يرنم ترنيمته الحلوة التي مطلعها:
من يسوع المعتمد لاجئا أرجو النجاة
بينما الأرياح قد غمرتني بالمياه
أعطني الستر الحصين ريثما يأتي الحمام
وأهدني المينا الأمين خاتمًا لي بالسلام
ألا يجمل أن نقول بعد هذا كله: «منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي» «هل تسلب من الجبار غنيمة وهل يفلت سبي المنصور فإنه هكذا قال الرب حتى سبي الجبار يسلب وغنيمة العاتي تفلت وأنا أخاصم مخاصمك وأخلص أولادك وأطعم ظالميك لحم أنفسهم ويسكرون بدمهم كما من سلاف....».... طوبى لجميع المتكلين عليه!!...
المزيد
28 نوفمبر 2020
المقالة التاسعة عشرة في معرفة الجهاد وهي رسالة بعث بها إلى أولوجيوس العابد
أيها الأخ لما نظرت ثمر الطاعة، بادرت أن أكتب إليك عن الأشياء التي أمرتني بتلخيصها.
تقوى الرب ابتداء صالح.
الشيخوخة الحسنة مكرمة في النفس المحبة المسيح.
من يصغِ إلى ذاته في كل مكان يسلم.من يحب أحاديث العالم، ما بغض العالم.الحطب يشعل النار ويزيد التهابِها، والأحاديث العالمية تنهض الآلام في قلب العابد.أيها الأخ إن كنت تؤثر أن تنفع القاصدين إليك، فلا تضر ذاتك.من يحب محادثة النساء، يستنهض على ذاته شيطان الزنا.إذا سمع والداك عنك سمعاً صالحاً، يسران أكثر من سرور النبيذ وطرب الخمر.
من يحب السكر ؛ يخسر فوائد كثيرة، وقد قيل أنه يعمل أشياء ما لا يجب افتعالها، ويبدد ثروته، ويُدفع إلى الأعداء مثل غريب لأن السكر أعمى ذهنه.
أيها الأخ صر ورعاً، فإن الورع يولد سجية سلامية، والسجية السلامية تنتج عدم التألم، وليكن ورعك مقترناً بالتواضع، حتى تصير عابداً محقاً، وترث المحبة والعفة.
أيها الأخ إن كثرة الكلام تسود الذهن وتظلمه، وإذا أظلم الذهن أنقاد إلى عدم الحياء، وعدم الحياء هو أم الزنا.من يحب السكوت يلبث بلا قلق، ولا يغيظ قريبه، أما الضحك والدالة يضران المبتدئ كمضرة السم القاتل، ولا يوافقانه أصلاً، لأن الرب إنما طوب الذين يبكون وينوحون.إن انغلاب العابد أن يسمع دفعتين على المائدة: أسكت.
حب الصمت يا أخي ؛ ليثبت الورع عندك.
أحفظ التورع ؛ ليصونك من الزنا.
من يجاوب الرئيس ولا يخضع له، فلا يبطئ أن يتكردس في المساوئ.
من يطع وعظ من هو أكبر منه، يسر مع الصديقين.
من يفتخر بقوته، يبعد عن ذاته معونة اللـه. أما المفتخر فليفتخر بالرب.
من يحب الشغب الذي يشغل الذهن، ويبغض السكوت، يحزن حزناً كثيراً. ومن يسكت بتواضع، يسر الرب.
من لا يقدم اختبار الوقوف في الصلاة الجامعة بثبات، يخسر فوائد كثيرة، ومن يقف بتورع وصبر، يستجاب له.
من يتكلم كلاماً باطلاً في أوان الصلاة الجامعة يحصل له لوم مضاعف، لأنه يبطل من الصلاة والترتيل بالكلام.
من يفاوض، يسبب لذاته خسارة.
من يحب النسك، سيكون متوافر القوة. ومن يحب السكر، يثبت في لا شيء.
من يبغض العمل، فذاك فضولي هو، لأن البطالة تسبب شهوات كثيرة، ومن يحب العمل، يبقى بلا حزن.
من يفتخر بجسامة شأن والديه، فذاك غير مختبر، لأنَهما في مصاف القتال لا ينفعانه.
أكرم أيها الأخ الصغار والكبار ليعليك الرب، لأن من يواضع ذاته يُرفع. ذلل رأسك للرئيس وللمتقدمين في رفقة الإخوة، أخضع بالرب فإن ثمر الخضوع مخافة اللـه، والتواضع لا يظهر بأن تتواضع لمن هو أعظم منك شأناً بل بمنح الإكرام للصغار الأدنياء جداً.
فقد كتب: ” أنا أشرف الذين يشرفونني، ومن يستحقرني يهان “.
فنحن فلنشرف اللـه لكي ما يشرفنا مع جماعة قديسيه، وبماذا نشرفه؟ بحفظ قول وصاياه، لأنه قد كتب: “ليس ملكوت اللـه بكلام بل بقوة” وأيضاً: ” ليس كل من يقول يارب يارب يدخل ملكوت السماوات بل الذي يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات “.
فقبل كل شيء أيها الأخ أتقِ اللـه بالحقيقة فإن تقواه يضئ عيني ذهنك، حب التواضع فإن التواضع الذي من أجل اللـه هو سور لا ينقب قدام وجه العدو، وصخرة مصادمة تكسر حيل الشيطان ونشاب الخبيث المحمي.
إن وضعت في فكرك أن تصبر من أجل الرب على السب والخسارة والازدراء ستكون كمحارب بطل مشتمل بالسلاح دائماً على المقاومين، وإذا رآك حينئذ أعداؤك متخذاً مثل هذا الحرص يتساقطون من قدام وجهك.
إن شئت أن تحاضر بلا تعب، فأحفظ طهارة جسدك مع المحبة، لأن المحبة هي أم الفضائل، والطهارة مصباح وعضد لها، إن السكوت نور الفضائل، وسورها مخافة اللـه.
فلنحفظ الآن أيها الأخ طهارة جسدنا بمخافة اللـه ليحصينا الرب مع ملائكته القديسين، لأن من يحب الطهارة، يسر به الروح القدس، ويعطيه الصبر.
فالطهارة إذاً تقوم بالحمية والوداعة والسكوت بمحبة.
فلذلك نحتاج أن نبتعد عن كل أخ يسلك سيرة غير مرتبة، لئلا نمنح الذين يبصروننا وهماً، لأن الرسول يقول: ” نتقدم فنفطن برؤيات حسنة أمام الرب والناس، فإن كان أحد يحب السجس فنحن ليس لنا مثل هذه العادة ولا لكنائس اللـه “.
فلهذا يجب اضطراراً أن نقبل عظات الناس المتقين الرب، ولا نرضي ذاتنا كما يعلمنا القائل: ” كل واحد منكم فليرضي قريبه في الخير لإبتناء منفعته “. وأيضاً حتى يخجل المنتصب بإذائنا، ولا يكون له أمر طالح يقوله عنا لأن رب المجد قد قال: ” فليشرق نوركم هكذا أمام الناس ليعاينوا أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم الذي في السماوات “.
ولا نضيع القداسة بحجة المواساة، فإن للعدو عادة مثل هذه أن يبدل بالخير الشر، لأن من يخطئ ويفتكر أن يكتم ذلك يطغي ذاته، لأن ليس شئ خفياً لا يشتهر.
إن أخطر لك العدو شهوة بشرية فقل له: حاشا لي أن أُحزن الروح القدس الذي خُتمت به يوم الافتداء. فإنه قد كُتب: ” كل خطية يصنعها الإنسان هي خارج جسده، أما من يزني فإلى جسده يخطئ “.
أما القتال الصائر بالذهن، فقد عرفته بعض المعرفة، لأن أخاً قال له أخ: أن الأفكار الدنسة تقلقني.
فأجابه: أن الشيوخ القديسين قد أمروا قوماً أن يتركوا الأفكار كي تدخل إلى داخل وحينئذ يقاتلونَها، أما الضعفاء كثيراً فأوصوهم أن لا يناجوها ألبته، لكي لا بدوام الفكر يصعب ألم شفائه.
فقال حينئذ الأخ: وما معنى أن تترك الأفكار تدخل إلى داخل، وحينئذٍ تقاتل ؟ فقال له: أسمع متى أحضر العدو لأحد فكراً قبيحاً أو فكراً دنساً، في الحين تقيم له في الذهن امرأة جميل وجهها، أو أحد الأشياء التي تفضي إلى الفساد، فإذا رأى المحارب ذلك بالذهن، لا ينزعج من مثل هذه الأفكار بل ينتصب مقابلها، ويحارب بشهامة وبسرعة.
ثم يفتح لها ويغلق عليها، فإذا صارت داخل مع الصورة التي حاربته بِها، يقول للأعداء: أنه بِهذه الواقفة معكم آذيتموني كل يوم، وخبلتم ذهني الآن أشاء أن أعرف بالدقة ما الحاجة إليها.فيأمر أن يحضر له سكيناً بذهنه، فإذا أخذها يفتح بِها بطنها قائلاً: أشاء أن أعرف أجمالاً أو نتناً وقيحاً، فإذا فتح جوفها يجد داخله الأشياء التي نعرفها كلنا، فتظهر بعض قباحة الشهوة.فإذا شاهد المضادون انكسارها، يحدثون شغباً مريدين أن يستحقروا فكر الأخ، حتى إذا كدروا ذهنه بأفكار أُخر، يبطلون الجهاد المنصوب، خوفاً من أن يظهر خزيهم بالكمال.
فيقول المحارب المنتصب بإذائهم: لِمَ ترومون أن توردوا أشياء أخر عوض تلك، فإنني لا أترككم أن تخرجوا إلى أن أفحص جملة الأمر بالتأكيد، إن كان بالحقيقة أهلاً أن يُحب ما تمدحونه.فحينئذ يحبس الأخ الجثة في الخزانة الباطنة ثلاثة أو أربعة أيام، وبعدها يفتحها مريداً أن يعاين الجثة، فقبل أن يدخل إلى داخل، تلتقيه النتانة التي لا تُحتمل، فيسد بيده فمه ومنخريه، ويشير للأفكار المضادة ومؤازري الخطيئة نِهاية الأمر. ثم يقول لهم: ماذا تجاوبون عن هذه ؟
فيخزون حينئذ، وينحلون كدخان في الهواء، ويصبح الأخ أعلى من الآلام، مؤازراً من قبل النعمة، فيعترف للرب ويقول: أشكرك أيها الرب إلهي فإنك لم تسلمني إلى أيدي أعدائي بل خلصتني من شرك القانصين، وأنارتني نعمتك لأتفطن بِهذه الرؤيات، وأخلص بِها من شركهم.فلنتخذ يا إخوتي مخافة اللـه نصب أعيننا كل حين لكي ما يسترنا، لأنه خلواً من ستر اللـه لا يحسب الإنسان شيئاً ؛ فإن رداءة صناعة أعدائنا كثيرة، لكن معونة اللـه المحيطة بالإنسان أكثر منها، ولا سمح لنا أن نبصرها بأعيننا.فلنحب إذاً الإله الذي يعيننا ويخلصنا حباً بكل قلوبنا كما نحب أنفسنا، وليكن في عقلك أيها الأخ الحبيب كل يوم وفاتك، أي فزع يشتمل النفس في ذلك اليوم.يا أخي الحبيب إن كنت قد عملت شيئاً صالحاً في هذا العالم الذي سكنته، إن كنت قد احتملت الحزن والتعيير من أجل الرب، وصنعت الفضائل التي ترضيه، تصعدها الملائكة مرفوقة بفرح عظيم إلى السماوات.لأنَها مثل فاعل نشيط حريص، عمل في كافة النهار، ينتظر الساعة الثانية عشرة لكي ما يقبل بعد العمل أجرته ويستريح. هكذا نفوس الصديقين تنتظر ذلك اليوم، أما نفوس الخطاة فيشتملها في تلك الساعة خوف وجزع بمنزلة مجرم قد قبض عليه الأعوان يقتادونه إلى مجلس القضاء.لذلك ترتعد نفوس الظالمين في تلك الساعة لمعاينة عذاب الظُلمة البرانية الدهرية التي لا نَهاية لها.وإن قال أحد: اطلقوني أمضي إلى ذلك العالم لأتوب، فيسمع، حيث كان لك زمان ولم تتب، فالآن لم تتب، حين فتح المقام للكافة لم تجاهد، أفتروم الآن أن تجاهد، فقد غُلقت سائر الأبواب، وعبر زمان الجهاد، أما قد سمعت القائل: ” تيقظوا فإنكم لا تعرفون الساعة “. فإذ قد تقدمنا وعرفنا هذا يا أخي الحبيب، ما دام لنا زمان فلنتب لكي ينقذنا اللـه من الرجز الذي يحل بأبناء المعصية، ويؤهلنا لحظ القديسين.
صلِ من أجلي أنا الخاطئ، فإني أقول ولا أعمل، فإنه قد كتب: ليعترف بعضكم لبعض بالخطايا، وليصلِّ بعضكم على بعض لتشفوا، لأنه يليق باللـه المجد إلى الدهور. آمين
مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
26 نوفمبر 2020
شخصيات الكتاب المقدس آساف
"لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار" مز 73: 3
مقدمة
ربما لا يجد المرء في كل ما خطه القلم البشري، وصفا أروع وأبلغ من وصف المؤمن عندما يسقط فريسة الشك، مما كتبه يوحنا بنيان في كتاب: "سياحة المسيحي"، إذ صور هناك السائح المسيحي ومن معه يسيرون، ليجدوا أنفسهم وهم لا يدرون في أرض غريبة، وإذ ينامون ليلتهم يستيقظون في الصباح ليجدوا أنفسهم في قبضة جبار عات اسمه "جبار اليأس".. وقد أمسك بهم ليطوحهم في عنف وقسوة، في جب مظلم رهيب اسمه "قلعة الشك" ولعل بنيان وهو يصور هذه الحقيقة، كان يكشف عن خبيئة نفسه، عندما أحاط به الشك العاصف، بعد أن دخل السجن في 12 نوفمبر عام 1660م بعد أن اقتحم رجال الشرطة الكنيسة الصغيرة التي كان يعظ فيها وكانت عظته في ذلك اليوم مما جاء في إنجيل يوحنا: "فسمع يسوع أنهم أخرجوه خارجاً فوجده وقال له أتؤمن بابن الله" يو 9: 35.. وكان بينان يقول للحاضرين مخاطباً كل فرد فيهم. "أتؤمن بابن الله"؟ فأخذته الشرطة وقدمته للمحاكمة إذ كان شارل الثاني ملك انجلترا يحارب ويضطهد المؤمنين الأحرار الذين لا يريدون أن يخضعوا أنفسهم سوى لصوت الله والكتاب المقدس والضمير، وقد طلب القضاة من بنيان أن يمتنع عن الوعظ التبشيري مقابل أن يتمتع بالحرية والأمن، ولكنه رفض ليبقى في السجن اثنى عشر عاماً ذاق خلالها كل أنواع التجارب والآلام والأهوال، كانت زوجته وأولاده يزورونه في السجن، وكان أشد ما يؤلمه رؤية ولده الصغير الأعمى ولقد صاح مرة: “يا طفلي المسكين.. ما أكثر ما ترى في حياتك من مأساة، وإن كنت لا أستطيع أن أتحمل مر النسيم عليك”!. وخاض بنيان معركة الشك، وانتصر فيها الانتصار الحاسم، وكتب كتاب “سياحة المسيحي” و“الحرب المقدسة” من زنزانة السجن ودون أن تناله الهزيمة بأية صورة من الصور،.. وقبل بنيان بما يقرب من ستة وعشرين قرناً، دخل آساف ذات المعركة، وهو يرى مظاهر الصراع القاسي بين الخير والشر، وخرج إلى العالم بمزاميره المنتصرة. ولعل قصته يمكن أن تعطينا لذلك أغلى الدروس:
آساف وتجربته
ليس هناك من شك أن المزمور الثالث والسبعين قد كتبه آساف النبي المرنم في إسرائيل، وأن عشرة مزامير أخرى تحمل اسم آساف، وقد يختلف الشراح في نسبة بعضها إليه،.. ولكن الطابع العام المتقارب في هذه المزامير يكشف عنه المزمور الثالث والسبعون، وهو التجربة التي أحس بها آساف تجاه مشكلة الشر في الأرض، وقد أثرت ظاهرة الشر في أفكار الرجل، وعواطفه، وكانت على وشك أن تغير مساره وتاريخه بالتمام، كيف يمكن تفسير ظاهرة الشر مع وجود الله الكلي الحكمة، والقدرة، والمحبة؟ وكيف تبدو هذه الظاهرة فيما تترك من طابعها المدمر الرهيب الملحوظ بين الناس!!.. لقد بدت عند آساف أولاً: في ثروة الأشرار المتزايدة: "هوذا هؤلاء هم الأشرار ومستريحين إلى الدهر يكثرون ثروة".. وبدت عند أيوب من قبل يوم قال: "عندما أتذكر أرتاع وأخذت بشرى رعدة لماذا تحيا الأشرار ويشيخون نعم ويتجبرون قوة، نسلهم قائم أمامهم معهم وذريتهم في أعينهم بيوتهم آمنة من الخوف وليس عليهم عصا الله ثورهم يلقح ولا يخطيء، بقرهم تنتج ولا تسقط يسرحون مثل الغنم رضعهم وأطفالهم ترقص".. وبدت في لغة المسيح سيدنا في صورة مؤلمة قاسية مثيرة: "كان إنسان غني وكان يلبس الأرجوان والبز ويتنعم كل يوم مترفهاً وكان مسكين اسمه لعازر الذي طرح عند بابه مضروباً بالقروح ويشتهي أن يشبع من الفتات الساقط من مائدة الغني بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه".. ولست أعلم لماذا يضع الله الرجلين جنباً إلى جنب وفي مكان واحد، وعلى هذه الصورة الرهيبة من التباين والتباعد! وهل قصد المسيح أن يصور حال الدنيا على هذا الوضع الغريب الذي يتقابل فيه فقر المؤمنين مع غنى الأشرار، ولئن كان لعازر لم يتحدث إلينا عن الآلام النفسية العميقة التي كانت تملأ قلبه، وهو يقارن بين حاله وحال الغني الذي يتنعم كل يوم وهو على قيد خطى قليلة منه،.. غير أن آساف تحدث عن عمق ألمه وتجربته، وهو لا يرى مجرد الأغنياء فحسب، بل تزايد ثرواتهم على نحو رهيب، وكلنا مرات كثيرة "آساف" في الحياة المعاصرة، ويكفي أن تقرأ الصحف أو الكتب أو المجلات، لكي نرى مدى الصعود الغريب السريع لأشر الناس في الأرض، وهم يتحولون من أصحاب الآلاف إلى عشرات الألوف إلى مئات الألوف إلى أصحاب الملايين، والبلايين والمليارات،.. وهل نقرأ عن الأموال التي لا تعد ولا تحصى، ويحصل عليها الناس بأشر الأساليب، وأفحش الوسائل، وأقسى السبل، وليذهب الحق والخير والفضل والهدوء والراحة والسلام، إلى الجحيم ما داموا يصلون إلى معبودهم الذي رفعوه إلى مستوى الله، وعبدوه بكيفية يمكن أن يقال معها بكل يقين ما قاله السيد: "لا تقدروا أن تخدموا سيدين الله والمال"؟!. إن المال عند الأشرار وخلفه الحروب والمفاسد والشرور التي قلبت كل الأوضاع في الأرض، فأعطت من لا ينبغي أن يأخذ، وأخذت ممن ينبغي أن يساعد وبنت قلاعاً للشيطان ينبغي أن تهدم،.. وهدمت قلاعاً لله ينبغي أن تقوم وترتفع!!.. كل هذا يمكن أن يقترب بالمؤمن من خطوة الانزلاق ليقول. "أما أنا فكادت تزل قدماي لولا قليل لزلقت خطواتي" "هوذا هؤلاء هم.. الأشرار يكثرون ثروة".. وكانت التجربة الثانية أمام آساف: راحة الأشرار: ".. ومستريحين إلى الدهر".. وقد بدت هذه الراحة أمامه: "إذ رأيت سلامة الأشرار لأنه ليست في موتهم شدائد وجسمهم سمين ليسوا في تعب الناس ومع البشر لا يصابون".. فإذا ترجمنا هذا الكلام، فإننا نجد عاموس واحداً من أبرع المترجمين القدامى إذ يقول: "ويل للمستريحين في صهيون والمطمئنين في جبل السامرة.. أنتم الذين تبعدون يوم البلية وتقربون مقعد الظلم المضطجعون على أسرة من العاج، والممتدون على فراشهم، والآكلون خرافاً من الغنم، وعجولاً من وسط الصيرة الهاذرون مع صوت الرباب، المخترعون لأنفسهم آلات الغناء كداود، الشاربون من كؤوس الخمر، والذين يدهنون بأفضل الأدهان ولا يغتمون على انسحاق يوسف"... وإذا حولناه إلى لغة العصر الحديث، فإنه يعطي صورة للإنسان الذي اخترع المخترعات الحديثة، الإنسان الذي يطلق عليه "إنسان الأزرار، فهو يمد إصبعه ليضغط على الزر، وهو متمدد في مكانه، أو جالس على نغم الموسيقى، في أمكنة التكييف، وقد طوع لنفسه كل شيء في السفر، والسكن، والملبس والمشرب، ولا يكلفه هذا كله، سوى أن يضغط بطرف إصبعه على الزر، والدنيا كلها عند قدميه، وهو يرى نفسه في راحة ما بعدها راحة وفي عز ما بعدها عز،.. هذا في وقت قد يشقى فيه المؤمن، وهو يجد لقمته بصعوبة بالغة في أرض العرق والدموع!!.. وهو قد يعاني من هذا أو ذلك، فيجف نهره في أرض المجاعة، وهو يتنقل في حاجته بين عطايا الغربان أو مساندة أرملة فقيرة تقش عيدانها، باحثة عن لقمة عيش ستأكلها هي وابنها الصغير، ثم يموتان جوعاً بعد ذلك،.. كلنا آساف في بعض المواطن ونحن نرى هذا الوضع المقلوب في الأرض!!.. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن آساف رأى شيئاً، إذ رأى الكبرياء المذهلة التي تتملك الأشرار: "تقلدوا الكبرياء.. جعلوا أفواههم في السماء وألسنتهم تتمشى في الأرض".. أي أنهم لبسوا الكبرياء كالقلادة في العنق، إذ يبدو عنقهم ملتوياً، وأفواههم شامخة إذ يتكلمون بكبرياء المرتفعين في لغة نبوخذنصر القائل: "أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت الملك بقوة اقتداري ولجلال مجدي؟"، دون أن يعلموا أن العلي متسلط في مملكة الناس،.. أو في لغة آدوم الذي قيل عنه: "تكبر قلبك قد خدعك أيها الساكن في محاجي الصخر رفعة مقعده القائل في قلبه من يحدرني إلى الأرض".. والكبرياء دائماً ساخرة مستهزئة، تتعالى على الله والناس، وهي أشبه بقبضة الغلام الصغير الذي رفع عينيه نحو السماء، ولوح بقبضته مهدداً القدير،.. ومن المتصور أن يحتمل كل هذا كما يحتمل عبث الأطفال. ولكن المشكلة عند آساف أن هذا قد انصرف إلى الظلم البين الرهيب الذي وقع المؤمنون ضحيته، إذ: "لبسوا كثوب ظلمهم،.. ويتكلمون بالشر ظلماً من العلاء يتكلمون".. أو في لغة حبقوق: "حتى متى يا رب ادعو وأنت لا تسمع أصرخ إليك من الظلم وأنت لا تخلص لم تريني اثما وتبصر جورا وقدامى اغتصاب وظلم ويحدث خصام وترفع المخاصمة نفسها لذلك جمدت الشريعة ولا يخرج الحكم بتة لأن الشرير يحيط بالصديق فلذلك يخرج الحكم معوجاً":.. ألم يدفع هذا سليمان إلى القول: "ثم رجعت ورأيت كل المظالم التي تجري تحت الشمس فهوذا دموع المظلومين ولا معز لهم ومن يد ظالميهم قهر أماهم فلا معز لهم فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد. وخير من كليهما الذي لم يولد الذي لم ير العمل الرديء الذي عمل تحت الشمس".. وقد فاضت الكأس آخر الأمر عند آساف بأن الأشرار في كل هذا قد طرحوا الله وراء ظهورهم، فهم لا يكادون يرونه أو يبالون به: "وقالوا كيف يعمل الله وهل عند العلي معرفة".. إنهم يعيشون ويفعلون دون أن يقيموا للقدير حساباً، أو يروا فيه رقيب الناس المطلع على الظاهر والخفي في الحياة!!..
آساف المصاب
هذه المظاهر الشريرة انتهت بآساف إلى الحالة الشقية التعسة التي وصل إليها في القول: "وكنت مصاباً اليوم كله وتأدبت كل صباح".. لقد أدرك آساف بأن هذه المظاهر الشريرة لابد أن تصيب أحداً، إذ هي غير طبيعية، وغير متفقة مع ناموس العدالة الإلهية، فإذا كان الأشرار: "ومع البشر لا يصابون".. فإن الإصابة بدورها تتحول إلى المؤمنين، وهي إصابة دائمة ومتكررة، إذ أنها اليوم كله وتتجدد كل صباح، أو في لغة أخرى: إنها كالمرض المزمن العميق الذي تظهر له مضاعفات متعددة على الدوام،.. مرض المؤمن برؤية الشرير في الأرض،.. عاد هنري دراموند ذات يوم إلى بيته، ووجهه ناطق بالأسى والألم العميق، وإذا سأله أحدهم: هل أنت مريض؟.. أجاب: نعم أنا مريض بالناس وبشرهم وخبثهم وحقدهم وقساوة قلوبهم ووحشيتهم التي لا تنتهي!!.. فما هو نوع المصاب الذي وصل إليه آساف؟ لقد أصيب أولاً بالحسد: "غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار"... ولقد صور واحد من المؤمنين هذه الغيرة في القول: إنه كان شريكاً مع آخر في شركة تجمعهما معاً،... وذات مرة دعاه شريكه إلى عمل آخر، غير أنه رفض إذ أن هذا العمل لا يمكن أن يتم إنجازه مع الاحتفاظ بالمباديء الصحيحة السليمة، وبعد فترة وكان الآخر قد ذهب إلى العمل، وأصاب نجاحاً مادياً كبيراً- فرق بينه وبين شريكه من الوجهة المادية إلى حد بعيد،.. أرسل المؤمن إلى أحد الرعاة يقول له: ها أنا قد تمسكت بالمباديء المسيحية العلمية!!.. ولكن ماذا كانت النتيجة!!؟.. أليست هذه صرخة الكثيرين من أبناء الله، الذين يصابون بالألم العميق، عندما يؤخذ حقهم ليعطي لمن لا يستحق؟، والذين كلما تمسكوا بالحق والشرف والأمانة والصدق، كلما واجهوا السجن والآلام، والتشريد، والمتاعب، وما أشبه؟!كتب أحدهم مقالاً عن ابراهام لنكولن تحت عنوان "الفاشل العظيم" وهو يروي قصة المتاعب التي لاقاها الرجل حتى مصرعه الأخير، نتيجة تمسكه بالمبدأ، ورغبته في عدم التخلي عنه مهما كان الثمن... عندما سقطت الظلمة على عيني ملتون قال له الأطباء: ينبغي أن تكف عن العمل إذا رمت أن تبقى على بصرك، أما هو فأجاب: كلا أن أكون أعمى وأتمم عمل الله وإرادته، خير عندي من أن أبصر بعيداً عن هذا العمل والإرادة،.. قد يفقد الشاب شيئاً ما، كان يمكن أن يحصل عليه، لو سلك السبيل العالمي، وقد يأتيه الشيطان ليهمس في أذنه، والآن ماذا أخذت؟!! وقد يصل إلى النقطة التي وصل إليها آساف: "غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار" وثمة أمر آخر ضاعف الألم والصعوبة عند الرجل القديم، هو أنه المصاب الذي لم يحصد نتيجة سريعة يمكن أن تعطيه تعويضاً عما ضاع منه أو فاته إلى الدرجة التي اهتزت معها الأسس الدينية عنده: "حقاً قد زكيت قلبي باطلاً وغسلت بالنقاوة يدي"... وإنها مصيبة، وأية مصيبة أن يتقوض في أعماق الإنسان الإحساس الداخلي بقيمة الدين أو فائدته!!... إن مثوبة الحق الأولى والأهم، ليس في أنه يمكن أن يعطي مغنماً مادياً أو أدبياً، بل لأنه أولاً وقبل كل شيء هو الحق، ونقاوة القلب في حد ذاتها هي أهم مكافأة للإنسان حتى ولو عذب أو مات شهيداً،.. لكن المؤمن مع ذلك يعيش منتظراً نتيجة محسوسة لحياته الدينية في مواجهة المتطلبات والمشاكل التي تربطه بالعالم!!.. فإذا أضيف إلى ذلك أن المصاب كان قاسياً وشديداً، لأنه كان مكبوتاً: "لو قلت أحدث هكذا لغدرت بجيل بنيك".. وقد يهون المصاب إذا وجد المتألم أذنا تسمعه أو تعطف عليه،.. لكن آساف تحول إلى مرجل مكبوت شديد الغليان، ولعل مشاعره كانت ذات المشاعر التي أصابت إرميا عندما تحدث إلى الله قائلاً: "قد أقنعتني يا رب فاقتنعت وألححت علي فغلبت. صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بي لأني كلما تكلمت صرخت ناديت ظلم واغتصاب لأن كلمة الرب صارت للعار وللسخرية كل النهار فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه فكان في قلبي كنار محرقة محصورة في عظامي فمللت من الإمساك ولم أستطع" لم ينجح إرميا في الاحتفاظ بالصمت، والامتناع عن ذكر اسم الله، إذ ملأت النيران قلبه، وحاصرت عظامه، حتى تكلم ونطق،.. وكانت المشكلة بالنسبة لآساف تختلف إلى حد ما، فهو لا يريد أن يتكلم، وعلى وجه الخصوص أمام الشباب، لأنه لو تحدث إليهم عن الشكوك التي تملأ نفسه وصدره، لأجهز على إيمانهم الغض الحديث بالله،.. وقد انتهى الموقف بالنسبة للمصاب أنه أضحى واقفاً على حد الضياع والكارثة، وقد أضحت الطريق أمامه رخوة زلقة، كادت تزل معها قدماه، ولولا قليل لزلقت خطواته،.. لقد أضحى آساف أشبه بالمريض الذي يقف على الخط الفاصل بين الحياة والموت!!.. كان مرضه عميقاً، وكان مرضه خطيراً!!..
آساف والعلاج
كيف أمكن أن يجد آساف علاجاً لهذا الضياع الذي أوشك أن يلم به؟؟ لقد وجد العلاج في تأدية الواجب رغم الشكوك العميقة التي كانت تملأ صدره، لقد كان آساف نبياً، ورائياً، وموسيقياً،.. وربما استمر سنوات متعددة يحيط الضباب برؤياه، وتحيط الأحزان بصنوجه وموسيقاه،.. لكنه لم يكف عن الخدمة، أو يتقاعس عن الرسالة أو يطوح بآلاته الموسيقية حتى يعود مرة أخرى إيمانه بالله،.. كانت المعركة الداخلية بينه وبين نفسه أمام الله،.. وكان أشبه بالواعظ الإنجليزي العظيم فردرك روبرتسن، الذي كانوا -لفرط بلاغته وإبداعه- يطلقون عليه "واعظ الوعاظ"، إذ كانت عظاته نموذجاً رائعاً يمكن أن يتعلم منه الوعاظ كيف يتكلمون ويعظون!!.. هذا الرجل خاض في حياته معركة من أقسى معارك الشك، حتى انتصر دون أن يتراجع أو يتقهقر عن الرسالة والخدمة،.. إن أعظم علاج للشك، هو الاستغراق في الخدمة، وبذل الجهد المتواصل فيها، إذ أن التجربة تفرخ دائماً في أحضان الفراغ والبطالة، والجندي الذي يشغل نفسه بالصراع في المعركة، ليس عنده من الوقت أو المجال ما يجعله ينساق هنا أو هناك وراء أحابيل الخطية أو شراكها المخادعة!!.. على أن آساف -مع ذلك- وجد المكان العظيم للانتصار على الوساوس والشكوك "مقادس العلي" حيث دخل هناك إلى الشركة العميقة مع الله،.. لقد عزل نفسه عن العالم، إذ أنه لا يستطيع أن يرى الرؤية الصحيحة، وزيف العالم أمام عينيه، ولا يستطيع أن يسمع صوت الله، وضجيج العالم يملأ أذنيه،.. ومن ثم فهو في حاجة إلى المكان الهاديء العميق في بيت الله، إلى الخلوة الصحيحة مع سيده وإلهه دون مقلق أو مزعج،.. ولعله السيد المسيح كان يقصد هذا المعنى عندما قال: "ادخل إلى مخدعك واغلق بابك"... فليس يكفي أن ندخل المخدع، بل نغلق الباب على كل ما يصل بيننا وبين العالم الخارجي بغروره وشروره وأوهامه وخياله، وهناك نتحدث إلى الله، وهناك نسمع صوته،.. هل نستطيع في الكنيسة والمخدع والعزلة مع الله، أن نواجه كافة المتاعب والمخاوف، والشكوك والصراع، ونجد الحل الذي نفتقر إليه ولا نجده في أي مكان آخر؟.. وقد وجد المصاب علاجه في صفاء الرؤية: “حتى دخلت مقادس العلي وانتبهت”.. لقد سقطت القشور عن عينيه، وانتبه، وماذا رأى؟.. لم يعد يرى المظاهر المخادعة، بل أضحى يبصر الرؤيا الحقيقية، ولم يعد الأشرار أمامه بالصورة القديمة، رآهم في سقوطهم الكامل العظيم،.. رأى مزالق الضياع، رأى البوار بل رأى الخراب المباغت، رأى الاضمحلال، رأى الدواهي المضنية، رآهم كالحلم العابر الذي ذهب كالخيال عند التيقظ،.. ولقد ملأت هذه الرؤية قلبه ونفسه، حتى أدرك أنه كان بليداً ولا يعرف وكان أشبه بالبهيم فيما تصور،.. لقد عرف كل ذلك عندما أدرك فكر الله ورأيه وهدايته في قلب المخاوف والوساوس،.. في الكلمة "انتبهت" الفرق الحاسم بين البصر والبصيرة، وبين ظاهر المنظر وعمق الحقيقة، ولعل هذا هو الذي دعا المرنم أن يقول: "اكشف عن عيني فأرى عجائب من شريعتك".. إذ لا يمكن أن يعثر الإنسان على الحقيقة من تلقاء نفسه دون مساعدة أو مساندة الله، في مقادس العلي!!.. عش حياة التأمل والصلاة، وادخل إلى عمق الشركة، وهناك تعثر على الحقيقة التي لا شك فيها!!...
آساف والأغنية
انجابت الزوبعة عن قلب الرجل، وصفا الجو من الغيوم الكثيفة التي حجبت الشمس، ورفع الرجل صوته مغنياً للرب الصالح، واستهل مزموره بالقول: "إنما صالح الله"، أو يمكن أن تكون العبارة: "بالتأكيد صالح الله".. أو أنه ليس هناك شك أو ريب في الله الصالح، أليس هذا عين ما قاله إرميا في مراثيه: "طيب هو الرب للذين يترجونه للنفس التي تطلبه" وقاله حبقوق بعد العاصفة النفسية التي اجتاحته: "فمع أنه لا يزهر التين ولا يكون حمل في الكروم يكذب عمل الزيتونة والحقول لا تصنع طعاماً ينقطع الغنم من الحظيرة ولا بقر في المذاود فإني أبتهج بالرب وأفرح بإله خلاصي الرب السيد قوتي ويجعل قدمي كالأيائل ويمشيني على مرتفعاتي".. من عهد غير بعيد حدث زلزال مروع في الجزء الغربي من الولايات المتحدة، وقد دمر هذا الزلزال كثيراً من المباني والممتلكات، غير أنه عوض أصحابها تعويضاً لم يكن في الحسبان إذ كشف في قلب الأرض التي مزقها عن مناجم غنية بالذهب،.. وكم تأتي التجارب القاسية بغنى الاختبارات، التي تؤكد أن الرب طيب وصالح وإلى الأبد رحمته!!... لقد تحدثنا في مطلع الأمر عن يوحنا بنيان، وما من شك أن دخوله إلى السجن كان بمثابة الكارثة المروعة له،.. لقد أراد أن يبشر جيله، في الكنيسة الصغيرة التي كان يعظ فيها، وشاء له الله أن يمنع من ذلك، ليتكلم إلى عالم أوسع وأعظم، وأكثر امتداداً فيما كتب عن الرحلة الخالدة، من مدينة الهلاك إلى جبل صهيون وقاد أجيالاً وراء أجيال في سياحته العظيمة إلى المدينة الخالدة التي صانعها وبارئها الله!!... كان الرب صالحاً وهو يخرج من الآكل أكلاً ومن الجافي حلاوة!!كشف آساف في الدراما الخالدة التي كتبها لا عن الفصل الأول فقط في حياة الأشرار بل عن الفصل الأخير أيضاً، وقد تأكد الرجل أن الشر قد يكسب معركة، ولكنه لابد أن يخسر الحرب، وقد كان دقيقاً في التصوير إذ ربط بين يد الله الخفية، وبين المظهر الفجائي، ففي الوقت الذي نرى فيه يد الله في القول: "حقاً في مزالق جعلتهم أسقطتهم إلى البوار".. نجد الحوادث الظاهرة، أو أسباب الثانوية المباشرة: "كيف صاروا للخراب بغتة اضمحلوا فنوا من الدواهي".. وقد يتعجب الناس للسقوط المفاجيء، الذي قد يأتي في أوج المجد والقوة، حسب المظهر الخارجي،.. ولكن الشر أشبه بالنمل الأبيض، الذي يدخل في جسم الخشب ليأكل لبه، وعندما يستعمل الخشب في بناء المنازل أو الكباري، لا تلبث أن تنهار، وبهذا المعنى ينخر الشر والفساد والخطية في حياة أي فرد أو أمة، وتقوضها فجأة أبشع تقويض!!.. وقد رأى آساف كل هذا، وأمكنه أن يرى الله خلف كل هذه النهاية الرهيبة الداوية في حياة الأشرار،... وإذا قرأنا المزامير الأخرى خلاف المزمور الثالث والسبعين -والتي يعتقد أن آساف كاتبها- نجد الله لا يبدو في صورة الساكن الذي لا يتحرك أمام آثام الأشرار أو خطاياهم، بل نراه شديد القوة والبطش: "الله معروف في يهوذا اسمه عظيم في إسرائيل كانت في ساليم مظلته ومسكنه في صهيون هناك سحق القسى البارقة المجن والسيف والقتال".. "اللهم في القدس طريقك أي إله عظيم مثل الله أنت الإله الصانع العجائب عرفت بين الشعوب قوتك فككت بذراعك شعبك بني يعقوب ويوسف أبصرتك المياه يا الله أبصرتك المياه ففزعت ارتعدت أيضاً اللجج سكبت الغيوم مياها أيضاً سهامك طارت صوت رعدك في الزوبعة أضاءت المسكونة ارتعدت ورجفت الأرض في البحر طريقك وسبلك في المياه الكثيرة وآثارك لم تعرف هديت شعبك كالغنم بيد موسى وهرون" وغنى آساف آخر الأمر بالمكان الذي اختاره في هذه الدراما العظيمة، إذ أخذ مكانه إلى جانب الله: "ولكني دائماً معك أمسكت بيدي اليمنى برأيك تهديني وبعد إلى مجدك تأخذني" لم يعد يرى في السماء أو الأرض إلا شخص الله: "ونصيبي الله إلى الدهر" "أما أنا فالاقتراب إلى الله حسن لي، جعلت بالسيد الرب ملجأي لأخبر بكل صنائعك".. أين هذا من المكان الآخر مكان الأشرار، ممن ابتعدوا عن الله، وكانوا بهذا كمن يرتكب الفسق والزنا "لأنه هوذا البعداء عنك يبيدون تهلك كل من يزني عنك".. "لأن خارجاً الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان وكل من يحب ويصنع كذباً"... هل تعرف أيها القاريء الصديق: أين مكانك في مسرحية الحياة؟؟. كان هناك مبشر في نيويورك تعود أن يطرق نوافذ البارات، وعندما يطل السكارى والمعربدون يسمعونه يقول لهم: "لأن أجرة الخطية هي موت"... وهي الكلمة التي يستطيع آساف أن يقولها لكل البعداء عن الله،.. وفي الوقت عينه يستطيع أن ينادي المؤمنين، ولو في قلب المتاعب والآلام والتجارب... "وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا!!"...
المزيد
21 نوفمبر 2020
المقالة الثامنة عشرة في استعداد العابد للأجل وملازمته القراءة والسكوت
إن سيرة الصديقين لبهية ؛ وكيف صارت بَهية جميلة إلا بالصبر، فحب الصبر أيها العابد بما أنه أم الشجاعة، أما المترنم داود فطوب قائلاً: ” أصطبر للرب وأحفظ طريقه “. وأما بولس فيعلم كيف تقتنى هذه الفضيلة بقوله: ” إن الحزن يصنع صبراً “.فإذا تصرفت في هذه الفضيلة تجد الرجاء ينبوع الصالحات، والرجاء لن يخزى، فأخضع الآن للرب، وتضرع إليه، فتصادف من هذه ما يتلوه فيعطيك كافة مسائلات قلبك.فماذا يكون أسعد غبطة من هذا، أن تقتني سمعاً من الملك هكذا صارخاً بوداعة، من ذا لا يؤثر أن تكون مسامع القاضي مفتوحة وسامعة له، أنت أيها الأخ فاعل الفضيلة أستأجرك المسيح لكرمه فما دام لك وقت أعمل الصلاح.أسمع بولس الرسول قائلاً: ” مهما زرعه الإنسان إياه يحصد “. أزرع في الروح فتحصد حياة أبدية، لأنه زعم من يزرع في جسده من جسده يحصد بلاء.أسمع الواعظ النصوح قائلاً: ” ازرعوا في ذاتكم العدل فتقطفون ثمر الحياة “.لا تسأم من العمل إذ تشاهد قدامك الرجاء، لأنه حيث الجهادات فهناك رايات الغلبة، وأين ما تكون الحروب فهناك الكرامات، وحيث ما يكون الصراع فهناك الأكاليل، فإذ تشاهد هذه الفوائد فروض نفسك بالصبر.أصرخ مع ذاتك كل حين مع القديسين قائلاً: تشجع وليتأيد قلبك وأصطبر للرب. هيئ للانصراف أعمالك وأستعد في الحقل، فالحقل هو هذا العالم، خذ مثالاً نافعاً العهد العتيق والعهد الجديد.سيج حول قطعانك بالأشواك، متكاتفاً بالصوم والصلاة بالتعليم إن كان لك مثل هذا السياج، فلا يدخل الوحش أعني المحال.فلح نفسك مثل كرم جيد، وكما أن محافظي الكروم يصفقون بأيديهم ويزعقون بصوتِهم ويُعرِّفون بذلك الذين يغتالونَهم، كذلك أهتف أنت بالصلاة، وكبر بالترنيم، فتطرد الثعلب الوحش الخبيث الذي هو المحال، الذي عنه يقول الكتاب: ” اقتنصوا بذاتكم ثعالباً صغاراً…. الخ “.صد العدو كل حين، إن رشق قلبك بشهوة قبيحة، إن رمى بمقلاع نفسك، وزج فيها أفكاراً دنسة، فأنصب نحوه ترس الأمانة، وألبس خوذة الرجاء، وأستل سيف الروح الذي هو قول اللـه، وإذا تسلحت مقابل العدو فأصبر ولا تسأم في الحرب.فُقْ في كل شيء، وقل: أنا لا تخفى عني معقولاته، أفرح في كل حين كما كتب قائلاً: فليعرف كافة الناس دعتكم، وليبرق تقوى اللـه في قلبك. لا تكن جندياً طارحاً سلاحه، ولا فاعلاً جباناً وعاجزاً. لا تَهرب من الأكاليل، فالعمر قصير والدينونة طويلة، تبصر في هذه أيها العابد.أصرخ بقلبك وقل مع القديسين: “تشجع وليتأيد قلبك وأصبر للرب”.شابه داود برميه حجر واحد مع المحارب، فالملائكة وقوف يبصرون سيرتك. لأننا قد صرنا مشهداً للعالم والملائكة والناس، فإن رأوك تقوِّم الفضيلة ظافراً يُسرون، وإن رأوك مغلوباً ينصرفون مقطبين، لأنَهم لا يحتملون أن يشاهدوا الشياطين يقهقهون عليك.
أخرط عوض السيف مخافة اللـه، لأن خشية اللـه هي كسيف ذي حدين يقطع كل شهوة خبيثة.فأتخذ في عقلك كل وقت خشية اللـه، متذكراً في عقلك اليوم الأخير المخوف، حين تضطرم السماوات وتنحل، وتحترق الأرض وكافة الأعمال التي فيها، حين تنتشر النجوم كالورق، والشمس والقمر يظلمان، ولا يمنحان ضوءهما.حين يظهر ابن اللـه وينحدر من السماوات إلى الأرض، وقوات السماوات تضطرب حين يتسارع إحضار الملائكة، وتتواتر أصوات الأصوار، وقدامة نار محرقة جارية عدواً تنظف المسكونة، وحوله زوبعة شديدة حين تصير زلازل مرهبة، وبروق لم تصر أبداً ولن تصير إلا في ذلك اليوم، حتى قوات السماوات يشملهم الرعب والرعدة.فكيف مزمع أن نكون يا إخوتي ؟ أية خشية أو أي رعب يشملنا ؟ تأمل يا أخي بني إسرائيل في البرية، أنَهم ما استطاعوا أن يحتملوا الضباب والظلام وخوار الأصوار، وصوت المتكلم في وسط النار، بل أبو أن يزيدهم كلمة.
لأنَهم بالحقيقة ما احتملوا ما كان بازائهم، ومع هذا أنه لم ينحدر بغضب، ولا خاطبهم بسخط بل بتسلية محققاً عندهم أن الذي معهم هو الإله.أسمع إذا يا أخي إن لم يستطيعوا احتمال وروده الذي كان بتسلية حين لم تلتهب السماوات وتنحل ؛ وما الأرض وما فيها احترقت ؛ ولا ضربت الأصوار شديداً كما يزمع هو أن يتوق ذلك الصور فينبه الراقدين منذ الدهر، ولا ظهرت نار تغسل كافة المسكونة، ولا صار شيء من الخوف العتيد أن يصير، ومع ذلك لم يستطيعوا أن يحتملوا.فماذا نصنع إذاً، إذا أنحدر بغضب وغيظ لا يقاسان، وجلس على عرش مجده، وأستدعى الأرض من مشارق الشمس إلى مغاربِها، وكافة الأقطار إلى محاكمة شعبه، ليجازي كل أحد نظير أعماله.الويل لنا، كيف سبيلنا أن نكون حين نمثل عراة بادية أعناقنا ؛ مزمعين أن ندخل إلى الموقف المرهوب، أفِّ أين حينئذ شجاعة البشرة ؟ أين الجمال المزور الغير نافع ؟ أين التذاذ الناس بالآلام ؟
أين حينئذ الدالة الموقحة الفاقدة الحياء ؟ أين حينئذ زينة الثياب ؟ أين وقتئذٍ لذة الخطيئة النجسة ؟ أين حينئذ المحتسبون أن الزنا بالذكور لذة ؟ أين حينئذٍ الذين كانوا يشربون الخمر على الطبول والأغاني الموسيقية، ولا يعاينون أعمال الرب ؟ أين حينئذ العائشون بالنفاق والتواني ؟ أين حينئذٍ التنعم والبطر ؟. كل تلك عبرت وزالت وانحلت بمنزلة الرياح.
أين محبة الفضة وحب الاقتناء ؟ أين الكبرياء النافرة الإنسانية الرافضة الكل، المحتسبة ذاتِها وحدها أنَها شيء ؟ أين وقتئذٍ الشرف الفارغ الباطل والمجد الإنساني ؟ أين التمرد ؟ أين الملك ؟ أين الرئيس ؟ أين المدبر ؟ أين السلطان ؟ أين المتبدخون بكثرة الغنى ؟ والمتهاونون باللـه ؟.
هناك إذا أبصروا يتعجبون هكذا، ويقلقون ويتزلزلون، ويشملهم الرعب والمخاض كالتي تلد، ويسحقون بريح عاصف.
أين حينئذٍ حكمة الحكماء ؟ أين مكرهم الباطل ؟ اضطربوا وناموا كالسكارى وابتلعت كافة حكمتهم، أين حينئذٍ الحكيم ؟ أين الكاتب ؟ أين الملتمس هذا الدهر الباطل ؟
يا أخي ردد الفكر كيف سبيلنا أن نكون إذا طولبنا أن نؤدي جواباً عن الأعمال التي عملناها ؛ إن كانت صغاراً أم كباراً، لأنه على كلمة بطالة سنعطي القاضي العادل جواباً. كيف يجب أن نكون لنجد في تلك الساعة نعمة أمامه ؟ وأي فرح يستقبلنا إذا عُزلنا عن يمين الملك.
كيف نزمع أن نكون إذا سلم علينا الصديقون وصافحونا ؟ هناك يقبلك إبراهيم واسحق ويعقوب، وموسى وداود وباقي الأنبياء، والرسل والشهداء وجماعة القديسين الذين أرضوا اللـه في حياة أجسادهم، وجماعة الذين سمعت هنا سيرتِهم وتعجبت منها وكنت تريد أن تعاينهم، هم يجيئون إليك هناك فيقبلونك ويسلمون عليك مبتهجين بخلاصك.
كيف تكون حينئذٍ ؟ وكيف هو ذاك الفرح الذي لا ينعته وصف، إذا قال الملك للواقفين عن يمينه ببشاشة: ” تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم “.
فحينئذٍ يا أخي تأخذ ملك حسن البهاء ؛ وتاج الجمال من يد الرب، وتملك مع المسيح، وترث الخيرات التي أعدها اللـه للذين يحبونه، وتكون بلا هم ؛ ولا يذهلك حزن.
تفكر يا أخي ما هو التملك في السماوات، والملك مع المسيح الذي هو معاينة وجهه الأقدس كل حين، وأنه هو يكون لك نجماً، لأنه في ذلك الحين تعطيك الشمس لا أنواراً للنهار كما قال إشعياء، ولا القمر يضئ لك بالليل، لكن الرب يكون لك نوراً أبدياً، والإله مجدك.
أنظر يا أخي أي شرف ومجد قد أعد للذين يتقونه وللحافظين وصاياه ؛ وأفتكر في هلاك الخطاة إذا دخلوا إلى المجلس الرهيب، أي خزي يشملهم أمام القاضي العادل حين لا يكون لهم جواب اعتذار.
أي خجل يكتنفهم إذا افرزوا إلى يسار الملك، أي ظلمة تسقط عليهم إذا كلمهم بسخطه، وأقلقهم بغضبه قائلاً: ” انصرفوا عني أيها الملاعين إلى النار الأبدية المعدة للمحال ورسله “.
بأي ندب يولولون منتحبين نائحين ؛ مساقين ليعذبوا إلى الدهور التي لا أخر لها، كيف مكان البكاء وصرير الأسنان الذي يفرق منه الشيطان نفسه ؟ كيف جهنم النار ؟ كيف الدود الذي لا يرقد ونفثات السم ؟
ما أصعب تلك الظلمة البرانية، كيف الملائكة الموكلون بعذاب الغير رحومين يعيرون ويقرعون بجفاوة، يزعق المعذبون بدوام وليس من يخلصهم، والرب لا يستجيب لهم.
وحينئذٍ يعرفون أن كل أمور العالم باطلة، والأشياء التي ظنوها هنا مستلذة وجدوها أمر من المر والصدى.
أين حينئذ لذة الخطيئة المسماة لذة كاذبة ؛ لأن ليست لذة إلا مخافة الرب ومحبته، وبالحقيقة هذه اللذة تملأ النفس وتشبعها شحم وسمن.
حينئذ يعرفون ذاتِهم، والأفعال التي فعلوها، ويعترفون أن حكومة اللـه مقسطة قائلين: أننا سمعنا بِهذا، ولم نشاء أن نرجع عن أعمالنا الخبيثة. فلا ينتفعون من هذه إذا قالوها.
ويلي ويلي أنا المقتنص بخطايا لا تقاس، لأنني أخطأت أكثر من عدد رمل البحر، وقد انحنيت تحتها كما من حمل حديد، وليس لي دالة أتفرس وأبصر علو السماء.
إلى من ألتجئ إلا إليك أيها المحب للإنسان، إلا إليك أيها المحتمل السوء، ألهم ارحمني كرحمتك العظمى، وككثرة رأفاتك أمح أثمي، أغسلني كثيراً من ذنوبي، وطهرني من خطيئتي.
فأنني عارف أثمي، وخطيئتي أمامي كل حين، إليك وحدك أخطأت، وقدامك صنعت الإثم، فإذ صنعته ألتجئ إليك بما أنك عديم الحقد، إياك خالفت، وإليك لجأت من أجل كثرة خيريتك وتعطفك.
وأتوسل هاتفاً أعرض بوجهك عن خطاياي، وأمح كافة آثامي من أجل اسمك، لأن ليس لي شيئاً أقربه إليك، لا عملاً صالحاً، ولا قلباً نقياً، لكنني أثق برأفاتك، وأطرح ذاتي أمامك، لكي ما تجدد فيَّ قلباً نقياً، وتوطدني بروح رئاسي حتى لا أتكردس بسهولة في الخطية بل أعبدك منذ الآن ببر وعدل كافة أيامي، لأنه إياك تسبح كافة قوات السماوات، ولك المجد والعز إلى الدهور.
فأطلب إليكم إذاً يا إخوتي، بما أن هذه الأشياء تنتظر، فلنسارع لنكون عنده بسلامة غير مدنسين ولا عيب فينا.
إذا وافتك شهوة خبيثة أو فكر ردىء، فأستل هذا السيف الذي هو التفكر في مخافة اللـه، فيقطع كل قوة العدو.
عوض البوق لك الكتب الإلهية، لأنه كما أن البوق إذا ضُرب يجمع الجند، هكذا الكتب الإلهية إذا هتفت إلينا تجمع أفكارنا إلى مخافة اللـه، لأن أفكارنا مثل الجند الذين يحاربون أعداء الملك.
وأيضاً كما أن البوق إذا ضُرب في وقت القتال يُنهض نشاط المجاهدين الشجعان على الذين يقاتلونَهم، هكذا الكتب الإلهية تستنهض نشاطك إلى الخير، وتشجعك على الآلام.
فلذلك يا أخي كلف ذاتك بكل طاقتك أن تقرأها بمداومة، لتقرع أفكارك التي شتتها العدو برداوة صناعته وسوء حيلة، لأنه ينشئ نتائج خبيثة، وربما يجلب أحزاناً أو رفاهية وسعة كثيرة، لأنه يصنع هذه بمكره وخبثه حتى يغرب الإنسان من اللـه.
لأنه إذا صارع إنساناً بالأفكار، ولا يستطيع أن يقهره ويحطمه، فحينئذٍ يجلب غموماً لكي ما يسود ذهنه ويظلمه، فيجد فسحة أن تزرع المقاصد التي يؤثرها، ويبدي أن يخطر للإنسان فيقول بأقسام: أنني منذ صرت أعمل الخير رأيت أياماً رديئة، فأعمل إذاً المساوئ لكي ما تجئ الخيرات. فحينئذٍ إن لم يكن الإنسان مستفيقاً يبتلعه كالهاوية حياً.
فإن لم يمكنه بِهذه أن يقتسره، يجلب له حينئذٍ السعة، ويعليه ويطغيه بالسعة التي هي أصعب وأشر كافة الآلام، لأنَها تجعل الإنسان متكبراً لا يتقي اللـه، تجذب العقل وتسحبه إلى قعر اللذات. وتصيره أن يجعل في السماء فم التجديف، لأنه قد كتب ” جعلوا أفواههم في السماء “.
هذه تجعل الإنسان لا يعرف اللـه، ولا يعرف ضعف طبيعته، ولا يوم الوفاة، هذا طريق كافة الشرور، من يحب أن يمشي في هذا الطريق يصل إلى أبواب الموت، هذه هي الطريق التي قال عنها الرب أنَها عريضة واسعة مؤدية إلى الهلاك.
فها قد سمعت يا أخي أن العدو يجلب وقتاً سعة ووقتاً غموماً وضيقة، فالشىء الذي يختبر به نية الإنسان ويراها جانحة إليه يحاربه بِها.
فلذلك تيقظ يا أخي بتحرز وحرص دائماً أن تلاصق قراءة الكتب الإلهية، ولا تفصل ذاتك منها، لتتعلم كيف يجب أن تَهرب من فخاخ العدو، وتستدرك الحياة الأبدية.
لأن قراءة الكتب الإلهية تسلي القلب الحقيقي، فلذلك لا تتوانى في نفسك بل ثابر على القراءة والصلوات، وأشتغل بَها ليستضئ ذهنك وتصير تاماً كاملاً لا ناقصاً.
آخرون يتفاخرون بمخاطبة الرؤساء المعظمين والملوك، فأفتخر أنت أمام الملائكة بأنك تخاطب اللـه بالروح القدس بالكتب الإلهية، لأن الروح القدس هو المتكلم بِها.
فأحرص إذاً أن تفاوض الكتب الإلهية، وواظب على الصلوات، لأنه بمقدار ما تخاطب اللـه بِها يتقدس جسمك ونفسك وروحك.
فأعرف هذا أنك تتقدس بمقدار قراءتك واستماعك، وأحرص أن تفاوضها بمداومة، وإن كانت يداك مشغولتين فصلي بذهنك، فإن حنه المغبوطة صلت، فشفتاها كانتا تتحركان فقط، وأما صلاتِها فدخلت في مسامع الرب الصباؤوت، لأنه أعطاها سؤالها.
فلهذا إن كانت يداك مشغولتين، فأتلُ بذهنك، فإن اللـه يستمع من الساكتين.
وإن كنت لا تعرف أن تقرأ، فأذهب إلى حيث تسمع وتنتفع دائماً، فأنه قد كتب: إذا رأيت إنساناً فقيهاً فادلج ( أسرع ) إليه، ولتسحق قدماك درج ( سُلَم ) أبواب منزله.
وهذا يا أخي يفهمه لا الذين يعرفون أن يقرءوا فقط بل والذين لا يعرفون معاني الأقوال التي يقرءونَها.
أحذر أيها العابد أن تتوانى في الموهبة التي مُنحتها من المسيح، لكن أحرص وأطلب كيف ترضيه، وتنال تطويب القديسين، فقد كتب: مغبوطون الذين يفحصون شواهده ويتبعونه بكل قلوبِهم.
وأحذر أن يقطعك العدو إذا عزمت أن تقرأ، إذ يجلب عليك الضجر ويلقيك في تغلبات يسحب بِها ذهنك إلى كل جهة ويقول لك: أعمل هذا الأمر ما دام عمله يسيراً ثم أقرأ بلا اهتمام.
فيبتدئ يخطر لك هذه، ويمنحك نشاطاً في عمل اليد ليشغلك بِها، ويعوقك عن أن تقرأ وتنتفع، لأنه إذا رأى أخاً يداوم القراءة وينتفع بِهذه الحجج وأكثر منها يجتهد أن يعيقه، فلا تذعن له، وصر كالآيل الذي يعطش ويشتاق أن يجئ إلى عيون المياه أي الكتب الإلهية لتشرب منها وتبرد عطشك الملتهب فيك بالآلام.
ولاتركنَّ أن أصف لك المنفعة الصائرة من القراءة، فكما قلت: إذا منحك اللـه أن تعرف منها كلمة لا تُهملها تعبر عنك، بل أتلوها درساً، وأكتبها في قلبك، وأحفظها في حاسة ذكرك غير ممحوة.
فقد كتب: ” أني أتلو حقوقك “. وأيضاً: ” خبأت في قلبي أقوالك لكي لا أخطئ إليك “. وأيضاً: “بماذا يقوم الشاب سبله؟ بحفظه أقوالك”.
أرأيت أيها الأخ أنه بتكرار أقوال الرب يقوَّم طريق الإنسان، لأن من ذا يتذكر أقوال الرب فلا يتقوم، اللهم إلا إن كان غير مختبر وشقي، فمثل هذا لا يذكر بالجملة بل والذى يشعر أنه يذكره ينساه.
ولمثل هذا يقول اللـه: ” لم تُحدث بحقوقي وتأخذ بفمك ميثاقي “. ويأمر أن ينزع منه الشىء الذي يظنه له، فماذا يظن في ماله ؟ يظن أن له أمانة لأنه يدعى مسيحياً، وبأفعاله يجحد ذلك، فهو أشر من الكافر.
فلذلك يأمر أن ينتزع ما له من الروح القدس، الذي أخذه في يوم الافتداء، فيصير ذلك الإنسان بمنزلة جرة نبيذ، ترشح رشحاً كثيراً، وبرشحها تضيع النبيذ.
فكافة الذين يبصرونَها ولا يعرفون الأمر الصائر، يظنون أنَها مملوءة، فإذا فتشت حينئذ يظهر للجماعة أنَها موضوعة فارغة.
هكذا ذلك الإنسان إذا أختبر في يوم الدينونة المهول، وصودف مصفراً حينئذٍ تصير أموره ظاهرة للكل، ونظيره الذين في ذلك اليوم يقولون للملك: أيها الرب أليس باسمك تنبأنا وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فيجيب الملك ويقول لهم: حقاً أقول لكم لست أعرفكم.
أرأيت أيها الأخ أن مثل هذا ليس بالجملة شيئاً، فتذكر أنت إذاً الأقوال التي سمعتها وقوم طريقك، أحذر أن تدع النسيان أن ينحدر فيخطفها من قلبك، أحذر أن تترك الطير الخبيث ينزل فيأكل زرع ابن اللـه، فإنه هو قال: أن البذار هو القول الذي سمعتموه.
أخفِ البذار في بطون الأرض لكي ما يثمر، أي أخفِ قول التعليم في صميم قلبك ليثمر للـه بالتقوى، فإذا قرأت أقرأ باهتمام وتعب، وأعبر في الفصل بثبات كثير، ولا تسر في تقليب الورق فقط، فإن كانت الحاجة ماسة فلا تعجز أن تكرر الفصل مرتين وثلاثة ومراراً كثيرة لتفهم قوته.
وإذا عزمت أن تجلس لتقرأ، فأطلب أولاً إلى اللـه قائلاً: يا ربي يسوع المسيح أفتح مسامع قلبي وناظري لأسمع أقوالك وأفهمها، فأصنع مشيئتك، فأنني ساكن في الأرض، فلا تكتم عني وصاياك. أكشف حجاب عيني، فأتأمل عجائبك من شريعتك، لأنني عليك أتوكل يا إلهي أن تضئ قلبي. نعم يا أخي أطلب إليك أن تبتهل إلى اللـه كل حين هكذا، لكي ما يضئ عقلك، ويوضح لك قوة أقواله.
فإن كثيرين ضلوا إذ وثقوا بذهنهم، وزعموا أنَهم حكماء فحمقوا، وإذ لم يتفطنوا ويفهموا المكتوبات تكردسوا في التجديف وهلكوا.
وإن وجدت في كل قراءتك كلمة مستعجم فهمها، فأحذر أن يعلمك الخبيث أن تقول في ذاتك ليس هكذا المعني كما يذكر هذا القول، لأنه كيف يمكن أن يكون هكذا أو نظيره.
لكن إن كنت تؤمن باللـه فصدق أقواله، وقل للخبيث: أنصرف ورائي يا شيطان فإنني اعرف أن كلمات اللـه كلمات طاهرة فضة محماة مصفاة سبعة أضعاف، وليس فيها شئ صعب ولا معوج، لكنها كلها ظاهرة للذين يفقهون، ومستقيمة لذوي العلم.
وأنا إذ لا فهم لي لست اعرفها، أنا اعرف أنَها مكتوبة بمعنى روحاني لأن الرسول يقول: إن الناموس روحاني.
ثم بعد هذا ارفع طرفك إلى السماء وقل: يارب أنا أصدق أقوالك ولا أقاومها بل أني أرتضي بأقوال روحك القدوس، أنت يارب خلصني لأجد نعمة أمامك، أنا لست ألتمس شيئاً آخر إلا أن أخلص فقط وأنال رحمتك أيها المتحنن. لأن لك الملك والمجد والعز والاقتدار إلى الدهور. آمين.
أقتنِ السكوت أيها الأخ بما أنه سور حصين، لأنه يجعلك أعلى من الآلام. فأنت تقصد في الاستعلاء، والآلام تروم إحدارك إلى أسفل، فأقتنِ السكوت بمخافة اللـه، فلا تصل إليك كافة نبل العدو ولا تضرك.الصمت المقترن بمشيئة اللـه هو مركبة نارية من أقتناها يصعد إلى السماء، ويقنعك بذلك إيليا النبي كيف أحب السكوت وتقوى اللـه فصعد إلى السماء. يا للسكوت نجاح العُبَّاد، يا للسكوت السُلَّم السماوي، السكوت طريق ملك السماء، السكوت أم التخشع، السكوت مسبب التوبة، السكوت مرآة ترى الخطايا، موضح للإنسان ذنوبه، سبيل الدموع، والد الوداعة، مسكن للتواضع.يجيب الإنسان إلى الترتيب السلامي، مقترن بمخافة اللـه، منير الذهن، جاسوس الأفكار، ومحتسب الإفراز، والد كل خير، توطيد الصوم، ومعوق هيام البطن، مسبب المثابرة على الصلاة والقراءة، سكون الأفكار، وميناء صاحي، جاعل النفس بلا اهتمام.نير صالح ووقر خفيف ينيح ويحمل من يحمله، سرور النفس والقلب، لجام العينين والسمع واللسان.يا لك من سكون مبغض العربدة وعدو الوقاحة، أم الوداعة سجن الآلام، مؤازر كل فضيلة، مسبب هجر الاقتناء، حقل المسيح المثمر الأثمار الصالحة، مقترن بخشية اللـه، سور وحصن للمريدين أن يجاهدوا من أجل ملك السماوات.نعم أقتنِ يا أخي هذا الحظ النفيس كما اقتنته مريم ولن ينتزع منها.أرأيت أيها الأخ ما قدر السكوت، وكيف الرب يمدح من أقتناه، أقتنيه فتتنعم بربك جالساً عند رجليه ملتصقاً به وحده وقل بدالة: لصقت نفسي وراءك وإياي عضدت يمينك، من أجل هذا تمتلئ نفسي كأنَها ممتلئة من شحم ودسم.أقتنِ هذا السكوت فإنه أحلى من العسل، لأن خبزاً وملحاً في سكوت أفضل من تنضديد ألوان الأغذية الفاخرة بِهم وحزن.أسمع القائل: تعالوا إليَّ يا معشر المتعوبين وثقيلي الأحمال وأنا أريحكم.فالرب يشاء أن يريحكم من الهموم والغضب والأتعاب، وغموم هذا الدهر، يشاء أن تكون بلا هم من عمل لبن مصر، يريد أن يدخلك البرية أي السكوت، ليضئ سبلك بعمود السحاب لكي يطعمك المن أي خبز السكوت وعدم الهم، ويورثك الأرض الصالحة أعني أورشليم التي في العلا.نعم يا حبيبي حب السكوت وإياه أقتنِ لتتنعم بطرق شواهد اللـه كمن يتنعم بكافة الغنى، أقتنيه بمخافة اللـه فيكون إله السلامة معك.لأن به يليق المجد والعز الآن وإلى آباد الدهور. آمين.
أطلب إليكم أيها الإخوة المحبوبون من اللـه، أن تحرصوا كل يوم، وتتذكروا هذه التعاليم، متذكري الأمانة الرجاء المحبة التواضع.اختموا كل حين الصلوات وتلاوة الكتب الإلهية بالسكوت، لأن هذه الفضائل إذا كانت حاضرة عندكم وذائدة فيكم فلا تكونوا في معرفة ربنا يسوع المسيح بطالين ولا غير مثمرين.والعابد الذي لم يقتني هذه بل يتوانى في خلاصه هو أعمى شحاذ قد أشتمله نسيان خطاياه القديمة، وصح علية المثل أنه كالكلب الراجع إلى قيئه، كالخنزير الذي يستحم ويتمرغ في حمأته.فإن الذين هربوا من أدناس العالم بمعرفة ربنا يسوع المسيح ويلتفون بِها ويلتفتون ثانياً وينغلبون فقد صارت أواخرهم أشر من أوائلهم، ولقد كان أفضل لهم ألا يعرفوا طريق الحق، أوفق لهم من أنَهم بعد ما عرفوا عادوا إلى ورائهم.فمنذ الآن يا أحباء المسيح وجنده المصطفين ؛ لنتناول الأسلحة من التعاليم المقدم ذكرها، ونحفظها في قلبنا، لنستطيع أن نجاهد الجهاد النفيس، ونطأ كافة قوة العدو، وننجى من السخط الموافي الذي يحل بأبناء المعصية، ونجد رحمة ونعمة في ذلك اليوم المرهوب أمام القاضي العادل المجازي كل أحد نظير أعماله.الذي به وحده يليق المجد إلى آباد الدهور. آمين.
مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
19 نوفمبر 2020
شخصيات الكتاب المقدس آسا
"أيها الرب ليس فرقاً عندك أن تساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة" 2أي 14: 11
مقدمة
تذكرني قصة آسا بقصة ذلك الجندي الذي يقولون إن الأطباء حكموا بأن مرضه غير قابل للشفاء، وأنه لابد سيموت، وإذ سمع الجندي هذا القرار، سأل نفسه إذا كان لابد من الموت، فلماذا لا يموت نبيلاً شريفاً في المعركة؟!! ولماذا يبقى في انتظار موت قد يقصر أو يطول أمده، مع بقية من حياة ممتلئة بالعذاب والمعاناة؟!!… وتحول الجندي إلى أسطورة في المعركة،… فإذا تراجع الجنود، كان هو الوحيد المتقدم؟!! وإذا هاجم كان هجومه ليس هجوم فرد واحد بل كأنه هجوم ألف من الرجال،.. وحول الجندي الهزيمة إلى نصر، والتقهقر إلى اكتساح عجيب!!... وعجب القائد من أمر هذا الجندي الغريب، وإذ سأل عن سره، أدرك قصته، وقال له: لا ينبغي أن تموت.. وجمع له عدداً من أعظم الأطباء الذين نجحوا في القضاء على علته، والانتصار على مرضه!!. وهنا حدث الشيء الغريب، إن الجندي وقد أيقن من نجاته استمرأ الراحة، وفقد روح البطولة، وأصبح واحداً عادياً من الجنود، عاد يخشى الموت، ويمسك بأسباب الحياة، ولم يعدله ذلك القول العظيم "إذا لم يكن من الموت بد، فمن العجز أن تموت جباناً!!".. وهكذا... كان آسا الملك في قلب المخاوف والمتاعب والصعاب. والموت ارتقى إلى أعظم ذري الشجاعة والقوة والبطولة، وعندما سارت الحياة هادئة ولينة ووادعة، طافت غلالة من الضعف والهوان حول شمسه البارعة،.. ومع ذلك فإنه سيبقى دون أدنى شك واحداً من أعظم الأبطال في ملوك يهوذا الذين ارتفعوا إلى آفاق من الإيمان قل أن يرتفع إليها الكثيرون، وكان مصلحاً من المصلحين الذين قاموا بالإصلاح بشجاعة قل أن توجد عند العديد من أبطال الإصلاح أنفسهم، وها نحن نتابع قصته فيما يلي:
آسا والظروف السيئة التي أحاطت به
لا نستطيع أن نقدر مدى ما في حياة الإنسان من قوة أو ضعف، من شجاعة أو جبن، من بطولة أو إسفاف، قبل أن ندرك الظروف المحيطة به، ومدى ما معه أو عليه من رصيد أو إفلاس،.. ولا حاجة إلى القول بأن آسا الملك قد تفتحت عيناه على ظروف من أسوأ ما يمكن أن تكون الظروف، فأبوه أبيام وجده رحبعام كانا ملكين آثمين شريرين، أوغلا في الشر والخطية، وطبعا المملكة بأشر طابع، وجدته -وهي بهذا المعنى سميت أمه- معكة ابنة أبشالوم، وهي التي جاء وصفها في سفر أخبار الأيام الثاني: "وأحب رحبعام معكة بنت أبشالوم أكثر من جميع نسائه وسراريه، لأنه اتخذ ثماني عشرة امرأة وستين سرية"... وقد كانت بهذا المعنى المرأة القوية الأثر الطاغية النفوذ، الوثنية الحياة، والتي عملت تمثالاً لسارية، لتتعبد أمامه،.. كانت المرتفعات والسواري الوثنية قد ملأت كل مكان!! وإذا دخلت العبادة الوثنية، فلابد أن يلحق بها كل أنواع الفساد والشرور، وقد انتشرت الدعارة، وبلغت الأمة أحط الدركات: "لذلك أسلمهم الله إلى أهواء الهوان، لأن إناثهم استبدلن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة وكذلك الذكور أيضاً تاركين استعمال الأنثى الطبيعي، اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض فاعلين الفحشاء ذكوراً بذكور، ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق"... ولا ينبغي أن ننسى أن هذا النوع من الفساد يطلق عليه "السدومية" لما هو معروف بأن الخطية التي اشتهرت في سدوم، قبل أن يحرقها الله،... وتفتحت عيناً آسا ليرى بلده وقد أصبح سدوم وعمورة من هذا القبيل.ولم يكن آسا غبياً عن أن يدرك أن الخراب الذي وصلت إليه البلاد، قد جاء نتيجة الشر الذي انغمست فيه، ولعله دخل الهيكل مرات متعددة، ليمتلئ أسى وألما، وهو يرى كيف تبدلت الأواني والأتراس الذهبية بأوان وأتراس نحاسية، لأن رحبعام عملها بعد أن أستولى شيشيق على أورشليم، وأخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك، ولم يترك شيئاً ثميناً لم يأخذه!!.. لقد ولد آسا على كوم من الرماد والخراب الذي شمل كل شيء في أرض يهوذا!!... وما أكثر الذين يولدون كآسا في أتعس الظروف وأشدها، وهم غير مسئولين عنها، ولكنهم مع ذلك، فإن واجبهم الحتمي لا أن يتجاهلوها أو يهربوا منها،... بل لأبد أن يروا فيه النقطة التي منها يبدءون ويعملون!!...
آسا والقدوة الصالحة التي اقتداها
لعل "آسا" الشاب، وهو يواجه الظروف السيئة التي واجهها، كان أدنى إلى ذلك الشاعر الغربي الذي قال: في ضغط الحوادث لم أدمدم أو أصرخ عالياً، تحت ضغط الظروف جرحت هامتي، ولكنها لم تنحن،.. بل لعل الظروف نفسها أنشأت عنده رد فعل عظيم،.. وكما أبصر برناردشو -وهو طفل صغير - أباه يدخل البيت وهو مترنح من المسكر، فعاش يكره الخمر طوال حياته، هكذا أبصر "آسا" أباه وجده، وما خلفا وراءهما من آثار بشعة،... وتحول من دخان خرابهما إلى الصورة اللامعة، صورة جده العظيم داود،... وكانت هذه الصورة أشبه بالمصباح الهادي الذي يحمله الإنسان في الليلة الداجية،.. وإذا كانوا قد قالوا: أن الجنود في معركة قاسية قد اجتمعوا حول مائدة، وهم يفكرون في الاستسلام للعدو، وبينما هم يهمون بفعل ذلك، رفع أحدهم بصره فرأى صورة القيصر معلقة على حائط، فما كان منه إلا أن أدارها إلى الحائط، لأنهم لا يستطيعون أن يسلموا، وعين القيصر تنظر إليهم!!... لقد كافح الركابيون على مختلف الأجيال والعصور في مواجهة الصعاب والمشكلات والمتاعب: "لأن يوناداب بن ركاب أبانا أوصانا"... وسعيد ذلك الإنسان الذي يستطيع في تاريخ أجداده وآبائه أن يجد يوناداب بن ركاب أو بالأحرى داود بن يسى،.. ولكل إنسان على أي حال القدوة التي تتغلغل في كيانه، وتسري في دمه، وتصبح له المثل الأعلى الذي يروم تقليده، وإذا كان نابليون قد تعود أن يضع في غرفته وهو شاب أعظم أبطال الحروب، أمثال الإسكندر، وقيصر، وهانيبال، وغيرهم ممن كانوا في نظره سادة الناس وأبطال الحروب، وتشبع بهم إلى درجة المحاكاة التي ملأت أوربا بالدم خمسة عشر عاماً،.. فإن آسا ويهوشافاط وعزيا وحزقيا ويوشيا كانوا يضعون على الدوام أباهم المثل والقدوة الصالحة التي يقتدون بها،.. وكان الواحد منهم يوصف بالقول: "عمل... كداود أبيه"... وعلى العكس من ذلك، كان النسل الشرير مثل أبيام الذي وصف بالقول: "ولم يكن قلبه كاملاً مع الرب إلهه كقلب داود أبيه".. كان داود هو المقياس الذي تمتحن به قلوب أولاده، ومع أن هذا المقياس كان به الضعفات البشرية التي تحيط بنا جميعاً، لكنه -على أي حال- كان مقاساً مقارناً لأجيال تأتي بعده،.. وقد شجع هذا بولس على أن يقول للفلبيين: "أخيراً أيها الإخوة كل ما هو حق كل ما هو جليل كل ما هو عادل كل ما هو طاهر كل ما هو مسر كل ما صيته حسن إن كانت فضيلة وإن كان مدح ففي هذه افتكروا وما تعلمتموه وتسلمتموه وسمعتموه ورأيتموه في فهذا افعلوا وإله السلام يكون معكم"... ويقول للتسالونيكيين: "إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يتمثل بنا... لكي نعطيكم أنفسنا قدوة حتى تتمثلوا بنا".. ترى هل نستطيع أن نكون لأولادنا ولأجيال آتية بعد، مثل هذه القدوة الصحيحة السليمة الكاملة؟!!
آسا والسلوك القويم أمام الله
كان آسا واحداً من أعظم الملوك الذين وصفوا بالقول: "وعمل آسا ما هو مستقيم في عيني الرب كداود أبيه"... ولسنا نظن أن هناك صفة مجيدة يمكن أن يوصف بها إنسان كمثل القول أنه يعمل المستقيم في عيني الرب، وهو بذلك يصل إلى أعلى مدارج السمو الخلقي بين الناس... قد يبدو المسيحي مستقيماً في عيني العالم، عندما يرى الناس سمو حياته اللامعة التي تبدو كالمنار العالي المرتفع على قمة جبل، وقد يكون من ذلك النوع العظيم الذي وصفه الرسول بولس في قوله: "لكي تكونوا بلا لوم وبسطاء أولاداً لله بلا عيب في وسط جيل معوج وملتو تضيئون بينهم كأنوار في العالم" أو ما ذكره الرسول بطرس "وأن تكون سيرتكم بين الأمم حسنة لكي يكونوا في ما يفترون عليكم كفاعلي شر يمجدون الله في يوم الافتقاد من أجل أعمالكم الحسنة التي يلاحظونها".. وقد يبدو المسيحي أكثر من ذلك مستقيماً في عيون الأتقياء والقديسين، وهذا أعظم وأمجد،.. وذلك لأن قياس المؤمنين أعلى وأكمل وأنقى وأقدس، وهم مرات كثيرة ما يرفضون أشياء كثيرة متعددة، يرى العالم أنه لا غبار منها على الإطلاق، وهي في نظر المؤمنين كلها غبار وعفار،.. وأنه حسن أن يبدو المسيحي مستقيماً في عيني العالم، وأحسن منه أن يبدو كذلك في عيني المؤمنين، على أن الأحق والأمجد أن يكون مستقيماً في عيني الله، الذي يعرف السرائر، ويكشف الخبايا والظلمة هكذا كالنور أمام عينيه،... فإذا كان أحدهم قد قال: إن النظافة في مفهوم الناس تختلف، إذ يمكن أن نصف الشارع بالنظافة، ولكن نظافة الشارع شيء يختلف تماماً عن نظافة البلاط في المنزل،.. والبلاط النظيف يختلف بالكلية عن نظافة الأطباق وأواني الطعام، وهذه لا يمكن أن تقارن، بنظافة الأدوات الطبية المعقمة،.. فإذا ظهر الإنسان مستقيماً أمام عيني الله، فإن هذا أعلى ضرب من النظافة والحياة الخلقية السامية التي تبدو كالآنية المعقمة، بالمقارنة مع الحياة العالمية الشديدة الاتساخ،.. ومن المجيد حقاً أن توصف الحياة أمام عيني الله بحياة الاستقامة، أو حياة الخط المستقيم، أو حياة الطريق المستقيم، والطريق المستقيم هو أقصر الطرق، وأيسر الطرق، وآمن الطرق، وأمجد الطرق، فإذا كانت الدول الراقية والمتحضرة، توصف طرقها بمثل هذه الأوصاف، فإن أرقى إنسان على الأرض، وأصدق إنسان، وأعظم إنسان، وآمن إنسان هو ذلك الإنسان الذي يسلك طريق الحياة دون أن ينحرف إلى هذا الجانب أو ذلك،.. وهو الذي يسير هادئاً آمناً مبتهجاً سعيداً، في طريق الله المستقيم بين الناس!!...
آسا المصلح الثائر
وكم أود أن يتعلم الكثيرون من آسا كيف يكون الإصلاح، وكيف يضرب في العمق، وكيف يسير بلا هوادة أو تريث، وقد يصاحبنا الحياة كلها!!.وجمال الإصلاح أنه أولاً وقبل كل شيء، الإصلاح الصادر من شاب، إذ بدأ به منذ الدقيقة الأولى لتوليه العرش، ويبدو أن الشاب- لو كان على الأغلب في العشرين من العمر- عندما أصبح ملكاً، أشبه الأشياء ببرميل من بارود، لم يكن اعتلاؤه العرش، إلا بمثابة الشرارة التي تفجرت لتكتسح أمامها كل شيء، ولقد ظل مدة العشر سنوات الأولى يعمل بهمة لا تعرف الكلل، في إصلاح كل شيء تصل إليه يده،.. كان شاباً في طراوة الحياة ومطلع الأيام، وقد أعطى المثل بحياته، قبل أن يعطيه بكفاحه وجهاده، إذ كان أشبه بالزنبقة التي احتفظت بنقاوتها في أرض الأوحال، والزهرة التي عاشت بجمالها في وسط القاذورات،.. ولعل أروع ما في الشاب، أنه استدار إلى بيته، يطهره من المفاسد والأوشاب،.. أغلب الظن أن أمه ماتت وهو صغير وحلت ملكة بنت أبشالوم عابدة البعل والوثنية، محل أمه، وأضحت كل شيء بسلطانها القوي المفسد في البيت والأمة جميعاً، فإذا به يقوم عليها، ويحطم ساريتها، ويهدم نفوذها، ويستأصل شرها، ويعلن للجميع مدى عزمه وصدقه وقوته في القضاء على الوثنية والشر، ابتداء من أقرب الناس وألصقهم به،.. لقد أعلن آسا أنه وقف إلى جانب الحق، وهو إذا كان يحب أمه ويكرمها، لكنه لا يستطيع أن يحب أمه على حساب الحق الإلهي، ومجد الله، وهنا يجوز له أن ينقلب عليها ويقف ضدها، وهو لا يفعل هذا في الخفاء، بل يفعله على مر أى من الأمة كلها، بل ومن التاريخ بأكمله!!... وإذا كان أرسطو في واحد من أقواله المشهورة قال: "أنا أحب أفلاطون، ولكني أحب الحق أكثر من أفلاطون"، فإن كل ابن من أبناء الله جدير به أن يصل إلى شيء أبعد من ذلك: "إن كان أحد يأتي إلى ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته حتى نفسه أيضاً فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً.
ثم كان الإصلاح ثانياً: الإصلاح الروحي، وهو لب الإصلاح وجوهره إذ لا إصلاح البتة، قبل إصلاح العلاقة مع الله، والجانب السلبي لهذا الإصلاح هو هدم المرتفعات الوثنية، التي أقامها الناس تعبداً للبعل وعشتاروث والآلهة الوثنية، بما يرتبط بها من عبادة شهوانية حسية، والجانب الإيجابي هو الاهتمام ببيت الله: "وأدخل أقداس أبيه وأقداسه إلى بيت الله من الفضة والذهب والآنية"... ولست أظن أن هناك إصلاحاً في الأرض يمكن أن يحدث بعيداً عن بيت الله، والارتباط به،.. ولا يمكن لأحد أن يقنعني بأي إصلاح اجتماعي أو علمي أو اقتصادي أو أدبي، يمكن أن يحل بديلاً للإصلاح الروحي،... إن قلب الإصلاح، هو إصلاح القلب البشري، ولن تقنعني أعظم درجات الحضارة الغربية التي تعطي ظهرها لله، ولبيت الله، وللشركة مع الله،.. قال بلي جراهام ذات مرة: "إن مشكلة العالم ليست القنبلة الهيدروچينية أو حتى الشيوعية، إن المشكلة الحقيقية هي في فساد الطبيعة البشرية، فليس هناك من فرق بين الإنسان المتوحش الذي يعيش في الأدغال، حاملاً السهم في يده، وأمريكي متعلم مثقف يطير بقاذفلة قنابل محملة".. أجل وهذا حقيقي تماماً... ولعله يذكرنا بما حدث ذات مرة في انجلترا، إذ كان على أحد الشواطئ الإنجليزية كنيسة قديمة بنيت على أكمة، وكان للكنيسة برج عال يكاد يبلغ السحاب، وقد دمرت إحدى الطائرات هذا البرج، وأصابت الكنيسة في أكثر من موضع بتلف بالغ، وانقضت شهور دون أن يفكر أحد في إصلاح التلف، وفي يوم من الأيام جاء أحد قواد الأسطول البريطاني إلى راعي الكنيسة وسأله: لماذا لم يعيدوا بناء الكنيسة؟ وإذ أخبره الراعي بأن الأعضاء فقراء وعاجزون عن بنائها مرة أخرى، أجاب: إذاً فالبحرية الإنجليزية ستتولى العمل لأن البرج المرتفع كان من سنوات متعددة هو المرشد الوحيد للسفن المقتربة للشاطئ، وقد أضحت السفن في خطر بالغ لسقوطه"... أجل... وكل سفن حياتنا ستضحى في خطر، ما لم نسترشد في كل شيء بالله والدين وكنيسة الله!!...
ثم كان الإصلاح ثالثاً: هو الإصلاح الأدبي، وقد قلنا هذا الكلام تجوزاً لأننا لا نفرق بين الإصلاح الروحي والأدبي، لأن الأدبي في حقيقته ليس إلا روحياً، في الشكل أو المضمون،... ولكننا اثرنا أن نذكر هذا لأن آسا قاوم ما يمكن أن نطلق عليه الشذوذ الجنسي: "وأزال المأبونين من الأرض".. ومع أن الإنسان يقشعر من هذا الانحدار الخلقي الذي سجله الكتاب عن سدوم وعمورة، وندد به بولس في الأصحاح الأول من رومية، واعتبره قاع السقوط في المستنقع الذي سقط فيه الإنسان البعيد عن الله،.. لكننا نتعجب غاية العجب، أن الدول التي يقال عنها أرقى دول العالم، لا تستنكر هذا الشذوذ، بل يزعم الكثيرون فيها أنه مظهر لحرية الإنسان التي لا ينبغي الاعتراض عليها، بل بالحري يكسبونها الشرعية فيما وصلوا إليه من إمكانية الزواج بين رجل ورجل،.. وأليس من الحق أن نقول بعد هذا القول المشهور: إيه أيتها الحرية كم من الآثام ترتكب باسمك الجميل!!... إن الغرب في حاجة إلى الملك القديم آسا لإزالة جميع المأبونين في الأرض!!...
ثم كان الإصلاح هو الإصلاح المصحوب بالوعظ وكلمة الله،... ونحن نشك في أي إصلاح يبقى أو يستمر إن لم تصحبه الكلمة الإلهية، وقد وعظ عزريا بن عوبيد الشعب، وذكرهم بالقانون الخالد الذي ينص على أن الرب مع من يريده ويطلبه، كما أنه يترك من يريد تركه، ولم يذكر الواعظ القاعدة اعبتاطاً، بل عاد وإياهم إلى تاريخهم واختباراتهم، وكيف أن الله تركهم مرات متعددة أيام القضاة: "ولإسرائيل أيام كثيرة بلا إله حق، وبلا كاهن معلم، وبلا شريعة، ولكن لما رجعوا عندما تضايقوا إلى الرب إله إسرائيل وطلبوه وجد لهم وفي تلك الأزمان لم يكن أمان للخارج والداخل لأن اضطربات كثيرة كانت على سكن الأراضي".. إن تاريخ الكنيسة الطويل يشهد أن النهضات تقوم أو تنعدم على قدر ما يرتفع النبر المسيحي وينادي بكلمة الله أو يخيب عنها ويهجرها!!.. وقد توج الإصلاح بالعهد المقطوع أمام الله أخيراً،.. والعهد شيء جوهري يؤمن به وليم چيمس عالم النفس الأمريكي الكبير، إذ يترك في الذاكرة أثراً عميقاً، ليس من السهل أن يتجاوز الإنسان أو يتخطاه، ولعل هذا هو السبب الذي جعل المرنم يقول: "أوفي بنذوري قدام خائفيه.. حتى يجد نفسه مقيداً بهذه النذور أمام الله والمؤمنين!!... كان آسا نموذجاً رائعاً في ثورته الإصلاحية، كل من يريد أن يتعلم ويحاكي إصلاحه!!...
آسا المحارب
واجه الملك آسا حربين مختلفتين، كانت الأولى في صدر الشباب، وعلى الأغلب في السنة العاشرة من حكمه، وكانت الثانية في السنة السادسة والثلاثين من الحكم،.. وكانت الأولى أرهب وأقسى من الأخيرة، إذ زحف زارح الكوشي عليه بجيش من أكبر الجيوش القديمة، وقوامه مليون من الجنود، وقد كان من المتصور أنه مهما تكن قوة آسا واستعداده العسكري، فإنه لا قبل له أو طاقه للوقوف أمام هذا الجيش العظيم الرهيب،.. ولكن آسا لجأ إلى حليفه الأعظم القادر على كل شيء، وواجه آسا معركة من أكبر المعارك القديمة بصلاته العظيمة: "ودعا آسا الرب إلهة وقال: أيها الرب ليس فرقاً عندك أن تساعد الكثيرين ومن ليس لهم قوة فساعدنا أيها الرب إلهنا لأننا عليك اتكلنا، وباسمك قدمنا على هذا الجيش فساعدنا أيها الرب أنت إلهنا. لا يقو عليك إنسان"... فضرب الرب الكوشيين أمام آسا وأمام يهوذا، أي أنه كان واضحاً أن النصر بيد إلهية،.. وكان حريَّاً بآسا وقد حفرت هذه المعركة في أعماق ذاكرته، أن يستند إليها في مواجهة المتاعب والمصاعب والحروب التي قد تواجهه فيما بعد!!.. لكن آسا في معركته مع بعشا ملك إسرائيل فعل شيئاً مخالفاً لتصرفه الأول،.. لم يذهب إلى بيت الله ليصلي هناك، بل ليخرج من هذا البيت ومن بيته خزائن فضة وذهب ليقدمها الملك آرام لمعاونته في الحرب ضد ملك إسرائيل، واستجاب له الملك، وأعانه في الحرب، ونحن نعجب للملك الذي يترك الحليف الأقوى الذي لا يقوى عليه إنسان، إلى الحليف الأضعف الذي مهما كانت قوته، فهو لا شيء بالنسبة لقوة الله، ونحن أكثر عجباً لمن هو على استعداد أن يعطينا المعونة والخلاص، دون فضة أو ذهب أو مقابل، ومع ذلك لا نذهب إليه ونتركه لنذهب إلى من يكلفنا الغالي والثمن، وأكثر من ذلك سيتحول ضدنا يوماً من الأيام. وقال حناني الرائي هذا الكلام وغيره للملك آسا الذي كان عليه أن يعلم أن العدو الحقيقي المقبل هو الجيش الأرامي: "لذلك قد نجا جيش ملك آرام من يدك".. هل تسخط على الملك، وتنظر إليه كالأرعن الأحمق!! قبل أن تفعل هذا تذكر المعارك المختلفة في حياتك، وتذكر كيف واجهت أضخم المعارك بالإيمان العظيم، إن الله لا يقوى عليه إنسان، وتذكر أنك خرجت مترنماً صداحاً، تشهد بعظمة الله وقدرته العجيبة!!.. ثم سارت بك الأيام ودارت بك الحياة، لتلتقي بمعارك أصغر وأضأل وأقل، ولكنك واجهتها بروح أخرى أضعف وأيأس،.. لماذا حدث هذا؟!!.. هل أصابك ملل الحياة؟ هل دخلت في دور من الشيخوخة الروحية، والإعياء النفسي؟!! أم أنت بطرس يسير فوق الماء مثبتاً نظره نحو السيد، ولكنه إذ يحول النظر عنه يهوى في الحال، ولولا رحمة من المسيح وعون منه، لما طفا على الشاطئ، ولابتلعته الأعماق!!.. إيه أيتها النفس! أهكذا تتلونين وتتغيرين مع الزمن في اليوم الواحد!!... أجل، ولعل الصرخة الدائمة في -حياتنا وعلى لساننا: أؤمن فأعن عدم إيماني!!.. تذكر يا صديقي من يواجهك في المعركة وبأي روح تقاتل؟!! وهل تقاتل زارح الكوشي أو بعشا ملك إسرائيل!!..
آسا المريض
ومرض آسا يعطينا تحذيراً بالغاً قوياً، إذ يرينا الرجل وهو يركض في قصة الحياة، حتى صاح عندما لم يعد قادراً على الركض ليسقط متداعياً وهو يمسك برجليه، وهو يقول آه يا رجلي؟!!.. وقال الأطباء: إن الرجل مريض بقدميه، وقد اشتد مرضه، أما نحن فقد رأينا أن قدميه الروحيتين لم تعودا قادرتين على السير، لقد أصيب الرجل بمرض الحماقة التي جعلته يغتاظ من الناصح، ويزج به في السجن،.. وكما امتلأ بالحماقة أمام بعشا فلجأ إلى المعونة البشرية، امتلأ هنا أيضاً، فلم يطلب الرب، وآمن بالأطباء البشريين، فانتهى إلى الأردأ نفساً وجسداً،.. ونحن نسأل: هل كان من الضروري أن يحدثنا الكتاب عن هذه الغيمة، التي شابت شمس الرجل وقت الغروب؟ ولماذا لم يعطنا صورة لامعة مغطاة يمكن أن تخفي الأخطاء والهنات الضعفات... إن كتاب الله لا يمكن أن يكون ككتب البشر، إذ: "كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر. لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهباً لكل عمل صالح"... إن السؤال الذي يلقيه علينا آسا الملك العظيم، ليس مجرد البدء أو الشوط الطويل الناجح في قصة الحياة!!.. بل أكثر من ذلك، وماذا عن النهاية وهل هي أقوى أو أضعف؟!!... عاد الشاب بعد خمسة وعشرين عاماً من تخرجه في الجامعة، وكان عند التخرج في القمة في كل شيء، وكانوا قد اختاروه الشاب المثالي،.. عاد في زيارة للجامعة، وقد بدا عليه الجلال والبهاء، وإذا بأحدهم يسأله: إنك تبدو جليلاً، ويظهر أنك وفقت في حياتك العملية كثيراً... وأجاب الشاب: جل.. وقال السائل: يبدو أنك أصبحت غنياً!!... فأجاب: نعم.. أصبحت غنياً ولم أخطئ.. فقال له: يبدو أن عندك ثروة كبيرة من الذهب.. فقال: كلا. بل الله ثروتي!!.. كم أصلي أن تكون حياتنا إلى النهاية أقرب إلى هذا الشاب، دون أن نصاب في أرجلنا أو حياتنا بمرض آسا القديم، بل نملك كل أمانة وشجاعة أن نقول: "جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي الرب الديان العادل، وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً"!!..
المزيد
14 نوفمبر 2020
المقالة السابعة عشرة في عناية اللـه ومحبته للبشرواستعداد النفس للدينونة
هلموا يا إخوتي فأسمعوا مشورة إفرآم الخاطئ الفاقد الأدب ؛ فها قد بلغ إلينا يا أحبتي ذلك اليوم المخوف المرعب ؛ ونحن بما أننا متوانون نتنزه غير مؤثرين أن نتفطن في عبور هذا الزمان اليسير ؛ ونحرص أن نستغفر اللـه ؛ لأن الأيام والشهور تعبر كمنام، ومثل ظلال مسائي ليوافي بإسراع ورود المسيح المرهوب العظيم ؛ لأن ذلك اليوم بالحقيقة مرهوب للذين لم يؤثروا أن يعملوا مشيئة اللـه ويخلصوا.
فأتضرع إليكم يا إخوتي هلموا فلنطرح هنا الاهتمام بالأمور الأرضية ؛ لأن كافة الأشياء تزول كلها وتبيد، لا ينفعنا في تلك الساعة سوى الأعمال الصالحة التي اكتسبناها من هنا، لأن كل واحد مزمع أن يحمل أقواله وأعماله قدام مجلس قضاء الحاكم المقسط.
فالقلب يرتعد والكليتين تتغيران إذا صار هناك إشهار الأعمال وتحقيق الفحص عن الأفكار والأقوال ؛ خوف عظيم يا إخوتي ؛ رعدة عظيمة
يا خلاني، من ترى لا يرتعد من لا يبكي من لا ينتحب، لأن هناك تُشهر الأفعال التي عملها كل واحد في السر والظلمة.
أفهموا يا إخوتي هذا المعنى الذي أقوله لكم ؛ إذ أمنح مودتكم إقناعاً حقيقياً.
الأشجار المثمرة من باطنها تبرز الثمر مع الورق في أوان الإثمار، ولا تكتسي الشجر من خارجها جمالها حسن بَهائها لكن من باطنها بأمر اللـه تينع الثمر، كل واحدة منها بطباعها.
هكذا في ذلك اليوم المرهوب تبرز كافة أجسام الناس، وتينع كل الأشياء التي عملتها إن كانت صالحة أو خبيثة، ويحمل كل واحد قدام مجلس قضاء الحاكم المهول عمله كثمر، وكلامه كورق.
فالصديقون يحملون ثمراً جيداً ومطرباً، القديسون يحملون الثمر العطر نضارته، الشهداء يحملون فخر اصطبارهم على العذابات والعقوبات، النساك يحملون النسك والحمية والسهر والصلاة.
والناس الخطاة المدنسون المنافقون يحملون هناك ثمراً قبيحاً متهرياً ؛ ويكونون مملوءين نحيباً وحزناً وعبرات حيث دود لا يرقد ونار لا تخمد.
مهول يا إخوتي مجلس القضاء لأن كافة الأشياء تظهر بغير شهود، الأفعال، الكلام، الأفكار، النتائج، وبمحضر الماثلين ربوات ربوات، وألوف ألوف، ملائكة ورؤساء ملائكة، الشاروبيم والساروفيم، الصديقون والقديسون، الأنبياء والرسل، الجماهير التي لا تحصى.
فلِمَ نتوانى يا إخوتي الأحباء فإن الأوان قد حان، واليوم قد بلغ. حين يبدي الحاكم المرهوب مكتوماتنا إلى النور.
فلو عرفنا يا إخوتي ما أستعد لنا لبكينا كل حين في النهار والليل متضرعين إلى اللـه أن ينجينا من ذلك الخزي والظلمة المدلهمة، لأن فم الخاطئ ينسد أمام الموقف، والبرية كلها ترتعد، ومواكب الملائكة القديسين ترهب من ذلك المجد مجد وروده.
ماذا نقول له يا إخوتي في يوم الدينونة إن توانينا في هذا الوقت ؟
لأنه هو تمهل وجذبنا كلنا إلى ملكه، وسيطالبنا بجواب عن التواني في هذا الزمان اليسير.
فيقول لنا بذاته: من أجلكم تجسدت، من أجلكم مشيت على الأرض ظاهراً جهاراً، من أجلكم جُلدت، من أجلكم بُصق عليَّ، من أجلكم لُطمت، من أجلكم صُلبت مرفوعاً على خشبة، من أجلكم أنتم الأرضيين سُقيت خلاً لكي أجعلكم قديسين سمائيين.
وَهَبت لكم الملك الذي لي، أعطيتكم الفردوس، سميتكم إخوة لي، قربتكم إلى الآب، أرسلت إليكم الروح القدس، فأية أشياء أكثر من هذه لم أصنعها لتخلصوا أنتم، سوى أني لست أشاء أن أقتسر النية لكي لا يكون لكم الخلاص بشدة وإلزام.
قولوا لي أيها الخطاة والمائتون بالطبع، ماذا أصابكم من أجلي أنا السيد المتألم من أجلكم.
فها الآن قد أستعد المُلك والجائزة والنياحة والفرح، العذاب الخالد في ظلمة قصوى، فأين ما شاء كل واحد يسلك في ذات سلطانه.
هلموا فلنسجد له باتفاق، ولنبكِ كلنا أمام الرب الذي خلقنا قائلين: يا سيدنا هذه كلها إنما صبرت عليها من أجلنا بما أنك إله، ونحن بما أننا خطاة نجحد كل وقت إحساناتك، وأنت بما أنك لم تذل إلهاً لابدَّ لك بالطبيعة غير مدرك بلا لوم غير محتاج.
أثرت بألم صليبك أن تخلص مجاناً الخطاة الذين لم يعرفوك، وأعطيتهم نور المعرفة بك، فبماذا نجازيك نحن جنس الخطاة ؟ وبماذا نكافئ الإله الذي لا يدرك الصالح المتحنن ؟ نحن الذين صرنا بالنية منافقين لا بالطبيعة، لأنه من قبل أن نخلص كان جنسنا منافقاً.
ونحن الآن بعد هذه الإحسانات كلها خطاة بالنية، أنت أيها السيد كل حين صالح ومتحنن ومرهوب وممجد ؛ خالق الدهور محتمل منذ القديم صعوبة أمرنا برأفاتك الجزيلة التي أوضحتها فينا نحن البشر، فغلبت من محبتك ورأفاتك وعانقت الصليب من أجل خلاص المسكونة كلها.
فهذا لائق أن يقال من قبل نعمتك أمام مجدك، لأنه لو لم تغلب أيها المسيح من قبل تحنناتك، لما كنت بذلت ذاتك ذبيحة وقرباناً عن الخطاة.
قد شبع عقل عبدك أيها السيد، وامتلأ من حلاوة نعمتك البهية ؛ ومحبتك النفيسة، فلذلك أيها المحب للناس فيما هو يزداد حلاوة، ويستنير متواتراً، ويتأيد دائماً، يخالف كل حين ويعود وينتقل إلى مرارته غير مؤثر أن تكون له حلاوة سيده دائماً.
أيها الابن الوحيد الجنس، يا شعاع الآب الساكن في الضياء الذي لا يدنى منه، النور الذي لا يدرك، المنير كافة المسكونة، أضئ الناظر المظلم الذي فيَّ، لأنه قد خفي فيَّ ناظر مظلم فائضة بنعمتك ورأفاتك لئلا يدلهم العدو الغاش، لأن عقلنا المريض يضاهي النصبة الجديد نصبها التي تحتاج إلى سقي الماء دائماً.
هكذا ذهننا هو ضعيف مريض محتاج بلا انقطاع إلى الاستنارة من نعمتك، قولك يارب فتح عين المكفوف منذ مولده، عجب عظيم صار أيها السيد بسلوام، إذ الضرير حين أبصر بعينيه الجسدانيتين، أضاء ناظر ذهنه للحين ليبشر بلا خوف بخبره إنه إله الكل.
أضئ أيها السيد أعين قلبنا لنحبك، ونكمل بشوق مشيئتك دائماً، وإذ عين سلوام نائية عنا بعيداً، فها كأس دمك الرهيبة موعوبة نوراً وحياة فهبها لنا للفقه وللاستنارة.
فلنتقدم إليها بأمانة وشوق وقداسة، لتصير لنا تمحيصاً للخطايا لا للدينونة، لأن من يتقدم للأسرار الإلهية بنفس غير مستحقة يشجب ذاته، إذ لم ينظفها ليقبل الملك في حجلته.
فنفسنا هي عروس مقدسة للختن الذي لا يموت، والعرس هو الأسرار الإلهية، مأكولة بتقوى ومشروبه بجزع في النفس المقدسة.
فأصغِ إلى ذاتك حافظاً حجلتك بلا دنس، وكن مشتاقاً أن تقبل الختن السمائي المسيح الملك، لكي في يوم وروده يصنع فيك منزلاً مع أبيه، فيكون مديحاً كبيراً قدام الملائكة ورؤساء الملائكة القديسين، وتدخل إلى الفردوس فرح عظيم.
أيها الأخ ماذا يلتمس اللـه منك سوى خلاصك، فإن توانيت ولم تؤثر أن تخلص، ولم تسلك في طريق اللـه الممهدة، ولم تشاء أن تكمل وصاياه، فإنك تقتل نفسك، وتُخرج ذاتك من الخدر السمائي.
فإن الإله القدوس والغير خاطئ وحده لم يشفق من أجلك على ابنه الوحيد، وأنت يا شقي لا ترحم ذاتك.
فُقْ من نومك قليلاً يا مسكين، أفتح فمك مستغيثاً به، أطرح عنك ثقل الخطايا، ارحم نفسك، تضرع دائماً، أبكِ متواتراً، أهرب من الاسترخاء، أمقت الخبث، أرفض الرذيلة، حب الوداعة، تُقْ إلى الحمية، أدرس الترنم.
أحرص أيها الأخ ما دام يوجد وقت، حب اللـه من كل نفسك كما أحبك هو، صر هيكلاً للـه فيسكن فيك الإله العلي، فإن النفس الحاوية اللـه في ذاتِها هي هيكل للـه مقدس ونقي، تخدم فيها الأسرار العالية الإلهية أي مجد اللاهوت ويتبادر إلى افتقادها موكب الذين لا أجسام لهم.
فمنذ يسكن الرب في النفس، فالملائكة السمائيون يبتهجون بِها، ويحرصون أن يوقروها لأنَها هي هيكل سيدهم.
مغبوط الإنسان الذي أحبك من كل قلبه، ومقت العالم والأشياء التي فيه كلها ليقتنيك وحدك أيها الإله الكلي الطهارة، الدرة النفيسة، كنز الحياة.
فمن أحب اللـه هكذا حباً صافياً، وذهنه ليس على الأرض بل في العلا أبداً، حيث أحب واشتهى أن ينال، من هناك يتحلى، من هناك يستضىء، ومن هناك يشبع من محبة اللـه، بالحقيقة هي مملوءة سروراً وحلاوة، ومغبوط من ذاقها.
فمن يستطيع أن يصف حلاوة محبة اللـه وصفاً كما يجب، فإن بولس الرسول الذي ذاقها وشبع منها يهتف قائلاً: لا العلو بما معناه الذي فوق، ولا العمق الذي أسفل، ولا هذه الحياة نفسها، ولا الموت المنتظر، ولا جماعة الملائكة الرؤساء والسلاطين، ولا خليقة أخرى، فهذه كلها لا تستطيع أن تفصل من محبة اللـه النفس التي ذاقت حلاوته.
نار لا تموت، محبة اللـه في النفس المشتاقة إليه، فإنَها تجعل حواسها متلألئة الضياء، فترفعها من الأرض لتبغض الأرضيات وتعاين الإله الذي أحبته.
والشهداء والقديسون يعلموننا الذين ذاقوها وتملوا منها، أن محبة اللـه قيد لين ناعم، ولا يمكن السيف ذو الحدين أن يقطعها، فالأمراء قطعوا أعضاء القديسين، فأما محبتهم فما استطاعوا أن يقطعوها.
يا لقيد محبة اللـه الناعم الذي لا يمكن أن يفك، إن المحبة لا يقطعها سيف، ولا تطفئها نار.
قطعوا الأعضاء والمحبة ما صرموها، حرقوا الأعضاء وقيود المحبة لم يفكوها، حرقوا أجساد القديسين أيضاً ومحبتهم لم يحرقوها، قيدوا أعضاء الأبرار ولم يقيدوا محبتهم.
من ماذا ترى لا يتعجب من قيد المحبة اللين الترف الذي لا ينقطع قط ولا ينفك أبداً، من أحب اللـه حباً صافياً فقد أقتنى مثل هذه المحبة، لأن هذه المحبة أعطاها المسيح لكنيسته أن تتزين دائماً بِهذه المحبة، لأن هذه المحبة عربون اللـه للنفس.
المحبة قاعدة راسية في النفس القديسة، هذه المحبة أنزلت الابن الوحيد إلينا، بِهذه المحبة تأنس الإله، بِهذه المحبة شوهد من لا يرى، بِهذه المحبة فُتح الفردوس، بِهذه المحبة قُيد القوي، بِهذه المحبة صارت النفس عروساً للختن الذي لا يموت، لكي ترتأي حسن نَهاية في ذاتِها دائماً.
من أجل هذه المحبة تألم الختن الطاهر الذي لا يتألم، لأن النفس إن كانت مصفرة من المحبة لا يرضى بِها السيد السماوي، ولا يشاء أن يظهر بالكلية اختيار نيتها.
فلذلك خولها سلطاناً دفعة أن تسير دائماً كما تشاء وترتأي، أفترى من يستطيع ومن يكون كفواً أن يمجد ويسبح الإله المخلص عن الموهبة التي أخذناها كلنا بنعمة اللـه. المجد والسجود لمسرته.
فإذ قد سمعتم يا إخوتي مشورة حقارتي النافعة، فلنحرص دائماً ما دام لنا زمان أن نسير بطهارة، وبما هو أهل للـه ليسكن فينا الروح القدس، وتتكاثر محبة اللـه فينا، مكملين مسرته كل حين.
لا نقتني يا إخوتي سوى هذا الاهتمام، وهو أن نجد نفوسنا في النور، وأن لا نطفأها بأحد الأمور الأرضية، والهموم العالمية، والقنية والأموال.
ولنزينها بالصلوات والأصوام والأسهار والدموع، حتى تجد النفس دالة يسيرة أمام منبر المسيح المرهوب، حيث تقف النفوس كلها بخوف، حيث يصير تمييز المختارين من الخطاة، ويقف الخراف عن اليمين، والجداء عن اليسار.
فأيقنوا يا أولادي أن ورود المسيح قريب ليعطي كل واحد نظير عملة، ويسكن مختاريه في الضياء والسرور الخالد، والخطاة الذين أغاظوه يقطنهم في الظلمة.
فمغبوط الإنسان الذي يجد في تلك الساعة دالة ويسمع ذلك الصوت السعيد القائل: تعالوا يا مباركي أبى، ويا جماعة مختاري رثوا مملكتي.
حينئذ يشاهد كل واحد ذاته في النور، ويتأمل بذاته مجداً لا يقاس قدره، فيتعجب متفكراً في ذاته قائلاً: أترى أنا هو، فكيف وجدت هكذا أنا الحقير مستحقاً.
وحينئذ تتقدم الملائكة بسرور يشرفون القديسين ويمجدونَهم ويشرحون ويصفون لهم سيرتِهم، وهي النسك، الحمية، السهر، الصلاة، الفقر الاختيارى، هجر القنية الكامل، الصبر في العطش، الثبات في الجوع، الدوام في الصلاة، الفرح في العري من أجل المحبة التامة التي للمسيح.
تقول هذه الملائكة للصديقين بفرح، فيجيبهم الصديقون قائلين: يوماً واحداً من أيامنا على الأرض لم نصنع فيه تقويماً حسناً.
فتذكرهم الملائكة أيضاً بالموضع والوقت، فإذا تعجبوا في ذاتِهم يمجدون اللـه ناظرين أجسام القديسين ألمع من النور، لأنَهم حزنوا على الأرض باختيارهم، وبصبرهم خبئوا فيهم الدرة النفيسة، وصنعوا لهم حلة لا دنس فيها للعرس.
وجدوا في الحقل كنزاً، فباعوا كل الموجودات التي لهم على الأرض، واقتنوا ذلك الكنز.
تعب النسك قليل يا إخوتي، والراحة عظيمة، تعب النسك زمان قصير، وراحته في جنة النعيم إلى أبد الدهر.
فمن عرف ذاته أنه أخطأ إلى اللـه، وتراخى بنيته، وأخطأ عمداً، فما دام يجد زماناً؛ فليبكِ باشتياق، ولينتحب بلا انقطاع، ليجذب الدموع إلى قلبه سروراً، وليقتنِ تخشعاً، ويحمِ جسمه بالدموع والزفرات.
هل اختبرتم يا إخوتي الدموع ؟ هل استضاء أحدكم بنعمة الدموع من أجل اللـه ؟
فأيقنوا يا إخوتي أن ليس على الأرض ألذ حلاوة من الفرح والتخشع في تلك الساعة.
إذا صلي الإنسان ورأى الإله جالساً في قلبه دائماً، من منكم أختبر هذا، أو أستطعم الدموع حين صلى بارتياح وشوق، وأرتفع من الأرض وصار بجملته خارج الجسم، أليس يصير خارج هذا الدهر كله، ولا يكون على الأرض، لأنه يناجي الإله نفسه، ويستضئ بالمسيح، ويتقدس بالروح القدس.
يا إخوتي عجب عظيم أن يخاطب إنسان ترابي في صلاته الإله الذي لا يُرى، مغبوط الرجل الذي له كل وقت تخشع من أجل اللـه.
التخشع يا إخوتي هو شفاء النفس، الخشوع هو استنارة النفس، التخشع يفيد دائماً غفران الخطايا، التخشع يجذب إليه الروح القدس، الخشوع يُسكن فينا الابن الوحيد إذا صبونا إليه، وإني لخائف أن أصف لكم اقتدار الدموع.
حنة بالدموع أخذت من اللـه صموئيل النبي بسمو وفخر لقلبها، المرأة الخاطئة في منزل سمعان أخذت من المسيح غفران خطاياها حين بكت وبلت رجليه المقدستين.
عظيمة قوة الدموع وتقتدر كثيراً، الدموع التي من أجل اللـه تُجلى دائماً النفس من الخطايا، وتنظفها من الأثام، العبرات تمنح دالة لدى اللـه القدوس، والأفكار الدنسة لا تقدر قط أن تقارب النفس الحاوية التخشع.
فماذا ترى يكون أعلى سمواً من هذه الحلاوة ؟ وأي شيء يكون مأثوراً أكثر من تطويبها إذا ما حوت الإله الذي تصلي وتبتهل إليه ؟
أيها الإخوة إذا صبت النفس إلى اللـه تبصره دائماً في صلاتِها وتدرس في الليل والنهار، التخشع هو كنز لا يُسلب، النفس الحاوية التخشع تفرح فرحاً لا ينطق به، وقلت التخشع لا يوماً واحداً فقط بل إنما أعني التخشع الصائر دائماً باطناً في النفس ليلاً ونَهاراً.
التخشع في النفس هو كعين صافية، تسقي أغصانِها المثمرة فيها، وقلت أغصانَها المثمرة، أعني بذلك الفضائل التي تسقى دائماً بالدموع والزفرات، فتثمر ثمراً رائقاً نضارته في نفسك نافعاً أبداً.
فلتكونن غروسك مختارة وبَهية، أسقِ أيها الأخ غروسك بلا انقطاع مبتهلاً بدموع حتى إذا سقيت تنمو وتثمر يوماً فيوماً، لا تصر متشبهاً بي أنا المسترخي الخاطئ الذي أقول كل يوم ولا أعمل ألبته.
لا تصر هكذا متوانياً بنيتك مسترخياً باختيارك، فإنه لا يكون لك خشوع ولا صلاة نقية، فأنني أعرف نفسي كل حين خاطئاً، وأنا متخوف دائماً من الدينونة المنتظرة، وليس لي اعتذار عن جرائمي.
فأطلب إليكم يا إخوتي القديسين الخائفين من اللـه، والعاملين دائماً الأفعال التي ترضيه، أن تشفعوا إليه عني أنا الحقير لتوافي إليَّ نعمة بصلاتكم، وتخلص نفسى في تلك الساعة المخيفة المرعبة إذا جاء المسيح ليكافئ كل واحد نظير أعماله.
المجد للإله وحده القدوس الذي لا يموت، الصالح المرهوب الطاهر المتحنن، الجاعل لساننا الحقير بنعمته مترنماً بألفاظ العدل والمحبة والتخشع لإبتناء النفس، وإنارة القلب، ومنفعة الذهن، حتى تتحلى النفس بتلاوة هذه الأقوال، وتجتذب إلى الحياة الأبدية بربنا يسوع المسيح.الذي له المجد والعز والقدرة الآن ودائماً وإلى آباد الدهور آمين
مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد
12 نوفمبر 2020
شخصيات الكتاب المقدس إرميا
" ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فابكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى "" إر 9: 1 "
مقدمة
لعلك تستطيع أن تفهم إرميا قليلا أو كثيراً، إذا ذكرت كيف بكى ونستون تشرشل، فى مطلع الحرب العالمية الثانية، وهو يقول للشعب الإنجليزى: « ليس عندى ما أقدمه لكم سوى العرق والدم والدموع»، ولعلك تستطيع أن تفهمه أيضاً، إذ تصورت قرب نهاية الحرب، يابانياً محباً لبلاده وشعبه، يتجول بين خرائب هيروشيما ونجازاكى بعد أن دمرتها القنبلة الذرية، على أفظع صورة وصل إليها الإنسان فى قوة التدمير فى القرن العشرين!!.. ومع ذلك فإنك لا تستطيع أن تفهمه البتة، قبل أن تقرأ قصته فى ضوء ذاك الذى قيل عنه: « وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلا: إنك لو علمت أنت أيضاً حتى فى يومك هذا ما هو لسلامك. ولكن الآن قد أخفى عن عينيك. فإنه ستأتى أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسة ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر لأنك لم تعرفى زمان افتقادك ».. " لو 19: 41 - 44 "كان إرميا نبى الدموع، شبيهاً بالمسيح، ومن أقسى ما عاناه أنه رأى بعينيه مدينته التعسة، والبابليون ينقضون عليها كالوحوش، ويسوونها وهيكلها ومجدها بالتراب، ورأى إرميا قتلى بنت شعبه، فصرخ: « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى »،... هل رأيت مدينة تتحول بأكملها إلى كتلة من نار، يجرى فى طرقاتها إنسان دون أن يعرف إلى أين يتجه، سوى أن يطلق لنفسه العنان فى البكاء والنحيب والمراثى؟! هكذا كان إرمياء وكانت مراثيه، وكان حزنه الذى لا يوصف، الحزن الذى أمسك بحياته من مطلعها وهو يجرى بين أورشليم وعناثوث، حتى مات فى مصر، ويقال إنه مات رجماً من مواطنيه، وهكذا عاش الرجل ومات، وقد تحول رأسه إلى ماء، وعيناه إلى ينبوع دموع، وصرخاته ما تزال تتردد عبر القرون والأجيال!!.. لم أعطي هذا الحظ، ولم سار فى الطريق المنكوب!!؟ هذا ما سنحاول التأمل فيه، ونحن ندرس قصته الحزينة فيما يلى:
إرميا ومن هو!!؟
وقد تباينت أفكار الشراح حول معنى الاسم، فبينما يراه جيروم « مرفوع الرب » وجسينيس « معين الرب » يعتقد جنجستنبرج أن الاسم يعنى « اللّه يرمى »، أو الذى أخرجه إلى الممالك والشعوب، وقذف به ليقلع ويهدم ويهلك وينقض ويبنى ويغرس، ويوجد من اعتقد أن المعنى « اللّه يؤسس ».. وعلى أية حال، فإن هذا الأفكار جميعاً تحدثنا عن ذلك الإنسان الذى صوره اللّه من بطن أمه، وأخرجه من الرحم، وأقامه: « مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض، لملوك يهوذا ولرؤسائها ولكهنتها ولشعب الأرض. فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنى أنا معك يقول الرب لأنقذك » " إر 1: 17 - 19 " أو كما وصفه ماكرتنى: « إن الأمم تنجب أبطالها فى بداءة أو نهاية تاريخها، أى فى مخاض الولادة أو غصص الموت، وكان إرميا هو نبى إسرائيل، لما دنت شمس أورشليم للغروب. فنراه واقفاً كعمود من فولاذ، فى وسط الدخان والظلام، والحريق والدمار الذى ألم بها »... وكان إرميا بن حلقيا الكاهن، والذى يعتقد كثيرون أنه كان الكاهن العظيم فى أيام يوشيا الملك، والذى وجد سفر الشريعة فى بيت الرب، وإن كان آخرون يعتقدون بأن حلقيا أبا إرميا لم يكن رئيس الكهنة، بل كان واحداً منهم فقط، وأنه غير حلقيا رئيس الكهنة العظيم،... وعلى أية حال، فإن إرميا كان من الكهنة الذين ولدوا فى عناثوث الواقعة فى سبط بنيامين، والتى كانت تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من أورشليم!!.. وكان يتنقل بين المدينتين، وإن كان قد قضى الشطر الأكبر من حياته فى أورشليم!!ولعلنا لا نستطيع أن نفهم الرجل حق الفهم، قبل أن نعرف العصر الذى عاش فيه... كان عصره من أقسى العصور، وأكثرها ازدحاماً بالصراع، إذ كانت هناك ثلاث ممالك تتنازع السلطة العالمية، ونعنى بها آشور، ومصر، وبابل. وقد ظلت لآشور السيادة قرابة قرنين من الزمان وكان لها القدح المعلى فى أيام إشعياء فى القرن الثامن قبل الميلاد، وكان آشور بنيبال بن أسرحدون وحفيد سنحاريب آخر الملوك العظماء فى تلك الدولة القديمة، وقد حكم أسرحدون - خلال حكم منسى - اثنى عشر عاماً بيد قوية، وقد غزا مصر فيها مرتين، كما استطاع أن يقضى على المقاومة الآتية من الشعوب الغربية، ولكنه عجز عن السيطرة على صخرة صيداء، وقد كانت حياة ابنه آشور بنيبال حافلة بالحروب، وهو الذى أخذ منسى إلى بابل وأطلق سراحه بعد ذلك،.. على أن مصر وبابل أخذتا بععد ذلك فى النهوض، وابتدأ الضعف يخيم على آشور، والأرجح أن أرميا أضحى نبياً للّه فى سنة وفاة آشور بنيبال، الذى أعقبه ملك ضعيف غير معروف، ومن ثم أخذت بابل الدولة الفتية طريقها لا إلى التخلص من آشور فحسب، بل إلى السيطرة والقوة،.. وقد تحالفت مصر مع آشور ضد بابل حتى سقطت نينوى فى عام 612 ق. م، وانتهت الدولة الأشورية تماماً فى عام 506 ق.م. بظهور نبوخذ ناصر فى الميدان، وقد أخطأ يوشيا كما علمنا فى تصديه لفرعون نخو ملك مصر عندما ذهب للحرب فى مجدو، وسقط يوشيا قتيلا فى المعركة، وتولى ابنه يهوحاز الملك، ولكن فرعون أسره وأخذه إلى مصر وملك أخاه يهوياقيم أحد عشر عاماً اتسمت بالأنانية والظلم والقسوة، وكانت النتيجة أن نبوخذ ناصر ملك بابل جاء واستعبد الشعب استعباداً مريراً، ودمر أورشليم والهيكل تدميراً رهيباً!!ومن المعتقد أن إرميا صار نبياً، وهو ما يزال غضاً صغيراً، وفى الغالب، فى العشرين من عمره وكان ذلك فى السنة الثالثة عشرة من حكم يوشيا أو عام 626 ق.م.، أو ما يقرب من خمس سنوات، قبل اكتشاف سفر الشريعة وقيام يوشيا بإصلاحه العظيم، وقد استمرت نبوته أكثر من أربعين عاماً، وشاهد بعينيه تحقيق الكثير من نبواته، إذ رأى خراب أورشليم، وقد كان بداخلها وهى محاصرة، وعندما دمرت عام 586 ق.م.، وكانت معاملة نبوخذ ناصر لأرميا طيبة، إذ سمح له بالبقاء فى المدينة المخربة، مع المندوب الملكى جدليا المعين من قبل بابل. لكن الأحداث تتابعت بعد ذلك إذ قتل جدليا،... ومن الغريب أن الهاربين من المدينة إلى مصر، رغم ارتدادهم عن اللّه، كانوا فى حاجة إلى من يرشدهم إلى الحقيقة والمصير، ولذا أمسكوا بإرميا وأجبروه على الذهاب معهم إلى مصر رغم عدم رغبته، وفى مصر كانت آخر نبواته فى تحفنحيس، ويقول التقليد إن اليهود هناك أيضاً لم يطيعوا صوت اللّه فيه، ورجموه، فمات فى مصر!! عاش إرميا طوال حياته، وهو أشبه الكل بالجندى الذى يعيش فى أتون المعركة وقعقعة السلاح فيها،... والجندى فى العادة ليست له الفرصة الهادئة المريحة، التى يسكن فيها إلى بيت وولد، ثم أمر الرب إرميا أن يعيش أعزب دون زوج أو ولد: « ثم صار إلى كلام الرب قائلا: لا تتخذ لنفسك امرأة ولا يكن لك بنون ولا بنات فى هذا الموضع، لأنه هكذا قال الرب عن البنين وعن البنات المولودين فى هذا الموضع وعن أمهاتهم اللواتى ولدنهم وعن آبائهم الذين ولدوهم فى هذه الأرض، ميتات أمراض يموتون. لا يندبون ولا يدفنون بل يكونون دمنة على وجه الأرض وبالسيف والجوع يفنون وتكون جثثهم أكلا لطيور السماء ولوحوش الأرض. لأنه هكذا قال الرب: لا تدخل بيت النوح ولا تمضى للندب ولا تعزهم لأنى نزعت سلامى من هذا الشعب يقول الرب الإحسان والمراحم. فيموت الكبار والصغار فى هذه الأرض. لا يدفنون ولا يندبونهم ولا يخمشون أنفسهم ولا يجعلون قرعة من أجلهم... ها أنذا مبطل من هذا الموضع أمام أعينكم وفى أيامكم صوت الطرب وصوت الفرح، صوت العريس وصوت العروس » " إر 16: 1 - 9 "... وكان إرميا هنا أشبه بالرسول بولس الذى عاش حياته أعزب، ولم يكن له متسع، فى زمن الضيق والتعب والاضطهاد أن يتزوج.... بل إن الرسول أوصى: « فأظن أن هذا حسن لسبب الضيق الحاضر، أنه حسن للإنسان أن يكون هكذا، أنت مرتبط بامرأة فلا تطلب الانفصال. أنت منفصل عن امرأة فلا تطلب امرأة » "1 كو 7: 27: 28 " كان إرميا - فى حد ذاته - رمزاً ومثالا الكلام الذي ينادى به، وكان من أكثر الأنبياء الذين صوروا الحياة فى صور عملية رمزية، فالعلاقة بين اللّه وإسرائيل أشبه بالمنطقة التى يتمنطق بها الرجل، وستبقى المنطقة سليمة وجميلة، طالما هى على الحقوين،.. لكن يطلب إليه أن يذهب بهذه المنطقة إلى نهر الفرات ويطمرها هناك ثم يرجع ليأخذها. وإذا بها قد فسدت لا تصلح لشئ،... ولعلنا نلاحظ أن هذه المنطقة كما صورها فى الأصحاح الثالث عشر، كانت جديدة ولكنها لم تغسل،.. وكانت بهذا المعنى كإسرائيل الذى تميز على الشوب بالعلاقة التى تربطه باللّه،... ولكنه رفض أن يغتسل وفى عقاب اللّه له على خطاياه، لم يرعو أو يتعظ من هذا العقاب، ففسد، ولم تكن النتائج التى جاءت من السبى - وكان يمكن أن تقوده إلى حياة أفضل - إلا مخيبة للأمل،... وعلى الإنسان دائماً أن يلتصق بالرب ويبقى نظيفاً،... وقد أعطى إرميا صورة أخرى عندما ذهب إلى الفخارى فى الأصحاح الثامن عشر ليتخذ عظته مما يفعله الرجل وهو على الدولاب، فإذا فسد الطين، فإنه يمكن تشكيل الوعاء من جديد،... ولكن لا يمكن إصلاح الوعاء، إذا اجتاز فى النار، فإن الإبريق من الفخار لا مجال لإصلاحه إذا تحطم، بل لا مكان له إلا الطرح فى وادى ابن هنوم، أمام شيوخ الشعب، وشيوخ الكهنة، الأمر الذي يرمز إلى أمة إسرائيل، وقد ضاع الرجاء فيها، ولا يمكن إلا أن تكون بقايا من الخزف فى وادى ابن هنوم، والذى أضحى رمزاً لجهنم، مكان العذاب الأبدى، حيث كان ترمى النفايات جميعها خارج مدينة أورشليم، وكان مباءة للديان والجراثيم، يجمع بين الظلمة الدائمة، والنار التى لا تطفأ، ومن ثم قيل: « حيث دودهم لا يموت والنار لا تطفأ » " مر 9: 44 ". ولا يمكن أن ننسى الخمر التى قدمها إرميا فى بيت الرب للركابيين، الذين رفضوا شربها بناء على وصية قديمة من أبيهم يوناداب بن ركاب، وجعلهم اللّه مثلا أمام الشعب، مما عرضنا له بافاضه عندما تحدثنا عن شخصية يازنيا بن إرميا كبير بيت الركابيين أيام إرميا... وما أكثر ما رؤى إرميا يتجول فى شوارع أورشليم يحمل نيراً على كتفه، نير الثور، الذى سيصل إليه إسرائيل فى بعده عن اللّه،... وفى مصر، فى أخريات حياته، أخذ حجارة كبيرة وطمرها فى الملاط فى الملبن الذى فى تحفنحيس رمزاً لاختفاء مصر فى مواجهة بابل القوة الصاعدة، والتى لا جدوى من مقاومتها ولا أمل فى الانتصار عليها!! ولعل العصر الذى عاش فيه، والظروف التى أحاطت به، يمكن أن تعطينا الصورة الصحيحة للرجل، الذي صوره كثيرون بأنه نبى الدموع، وآخرون نبى الفشل، وغيرهم نبى الأحزان،.. أو نبى التناقض، أو فى الصورة الأدق والأصح « النبى الممزق » إذ أن الصراع الذى أحاط به، وبعصره، إنعكس فى أعماق نفسه صرعاً رهيباً مهولا!!.. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإنسان كلما ازداد عظمة، ازداد اتساعاً، ويعتقد هيجل الفيلسوف الألمانى أن حياة العظماء تمتلئ فى العادة بالتناقضات، وقد كان إرميا من هذا النوع، فقد جمع، على أعظم صورة، بين:
الرقة البالغة، والصلاة الفولاذية
وإنت لا يمكن أن تراه فى استجابته لدعوة اللّه العليا، إلا بهذه الصورة العجيبة، لقد أصابه الهول والفزع والوجل عندما ناداه اللّه للخدمة وصاح: « آه ياسيد الرب إنى لا أعرف أن أتكلم لأنى ولد » " إر 1: 6 " كان - على الأغلب - فى العشرين من عمره، وهو بطبعه حيى خجول متضع، يتلعثم أمام المشاكل والأحداث والحوادث، وهو الرقيق إلى حد الدموع، فكيف يمكن لهذه الطبيعة أن تواجه الدعوة بما تشتمل عليه من صعاب تبدو كالجبال الرواسى، والأمة تندفع بجنون نحو غروبها الرهيب، ومن الملاحظ أنه يمثل ذلك النوع من الخدام الذين يترددون قبل قبول الخدمة، أو يحاوولون الهروب منها ما وسعتهم المحاولة،... وهو يقف مع موسى الذى رفض، فى مطلع الأمر، الدعوة، وهو يقول للّه: « أرسل بيد من ترسل » " خر 4: 13 " وطبيعته أقرب إلى طبيعة يونان الذى كان أشبه بالحمامة الوادعة، وإذ يدعوه اللّه للذهاب إلى نينوى القاسية، يهرب إلى ترشيش، وعلى العكس تماماً من خطة اللّه لدعوته،... إن هذا النوع من الخدام، لا يستجيب لنداء الدعوة فى الحال كما استمع إليها إشعياء ليقول: « ها أنذا أرسلنى " إش 6: 8 " أو كما قال بولس » « يارب ماذا تريد أن أفعل، » " أع 9: 6 ".. ولكنه مع ذلك، عندما يقبل الدعوة إذا به « مدينة حصينة وعمود حديد وسور نحاس على كل الأرض ».. " إر 1: 18 " أو كما وصفه أحد الشراح بأنه أصح وأقوى وأشجع أنبياء العهد القديم!!... نحن لا نعلم كيف دعاه اللّه، وهل تكلم إليه بصوت مسموع، أو جاءه فى رؤيا أو ظهر له بصورة ما، إلا أن الشئ المؤكد عند إرميا أنه أيقن من هذه الدعوة، وصدورها من اللّه بكيفية لا تقبل إبهاماً أو تردداً أو شكاً على الإطلاق!!.. وملأه اللّه بروحه فتحولت الحمامة إلى أسد،... وأحس الرجل فى أعماقه بأن قوة خارقة سيطرت عليه، لم يكن يعرفها من قبل، هى قوة روح اللّه فيه، ولمس اللّه شفتيه، وجعل كلامه فى فمه!!.. فإذا قيل، وكيف يمكن أن يكون هذا وكيف نستطيع تصوره، أجبنا أنه عين ما حدث مع بطرس، قبل وبعد، يوم الخمسين - وكيف أن الجبان أمام امرأة، هو الشجاع أمام رؤساء الكهنة والكتبة، أو كما صوره أحدهم: نراه قبل يوم الخمسين أمام التجربة، كمن يهرب من أسد يطارده، وبعد يوم الخمسين نراه يركب الأسد ويسيطر عليه، ولعلك لو سألت الكثيرين من أعظم أبطال التاريخ، كيف يمكن أن يحدث هذا اللغز لأجابوك: إنهم أكثر الناس دهشة وتعجباً إذ أنهم عندما يخلون إلى نفوسهم، وإلى العواطف التى تملكهم، لأدركوا أنهم أرق وأضأل من أن يقفوا أبسط المواقف التى وقفوها، ولكنهم أمام الأحداث والحوادث، هم أقوى وأعظم من الأسود الكواسر!! وقد بدت هذه الظاهرة بوجهها الواضح فى حياة إرميا خلال السنوات الطويلة من حياته الحافلة بالتجربة، والضيق، والأضطهاد، ويكفى أن نراها عندما يخلو إلى نفسه، ويسرد اعترافاته، التى يشبه فيها بولس وأوغسطينوس، وقد حدثنا فى الأصحاح العشرين عن أعماقه عندما فكر أن يهجر الخدمة ومركزه النبوى: « قد اقنعتنى يارب فاقتنعت وألححت على فغلبت. صرت للضحك كل النهار كل واحد استهزأ بى... لأن كلمة الرب صارت لى للعار وللسخرة كل النهار. فقلت لا أذكره ولا أنطق بعد باسمه. فكان فى قلبى كنار محرقة محصورة فى عظامى فملك من المساك ولم أستطع » " إر 20: 7 - 9 "... « ملعون اليوم الذى ولدت فيه. اليوم الذى ولدتنى فيه أمى لا يكن مباركاً. ملعون الإنسان الذى بشر أبى قائلا: قد ولد لك ابن مفرحاً إياه فرحاً. وليكن ذلك الإنسان كالمدن التى قلبها الرب ولم يندم فيسمع صياحاً فى الصباح وجلبة فى وقت الظهيرة لأنه لم يقتلنى من الرحم فكانت لى أمى قبرى ورحمها حبلى إلى الأبد. لماذا خرجت من الرحم لأرى تعباً وحزناً فتغنى بالخزى أيامى » " إر 20: 14 - 18 ".. ومن العجيب أن هذا الرقيق البالغ الرقة، والذى تنقل من اضطهاد إلى اضطهاد، ومن سجن إلى سجن، وغاص فى حمأة الجب، لم تزده هذه جميعاً إلا صلابة وجرأة وقوة شكيمة لا تقهر!!... إن الذين عاشروا مارتن لوثر كانوا يتعجبون أشد العجب، لأن هذا الرجل كان شاعراً رقيقاً، يطرب للنغم الموسيقى أشد الطرب، ويتألم أشد الألم للعصفور الصغير المهيض الجناح، ويبكى أمام آلام الآخرين بكاء الأطفال،... ولكن هذا الرجل هو الذي هز أوربا، وأرعد بصوته فزلزل الجبابرة والعتاة!!... لأن رب الجنود سيطر عليه وغير به وجه التاريخ!!...
الحنان الذى لا يوصف، والقسوة الشديدة
كانت عاطفة إرميا تجل عن الوصف، عندما جلس ذات مرة أمام نفسه، والمدينة على وشك الهلاك والضياع صرخ: « أحشائى أحشائى. توجعنى جدران قلبى... لا أستطيع السكوت. لأنك سمعت يانفسى صوت البوق وهتاف الحرب » " إر 4: 19 "... وعندما ضاق بالحياة وضاقت الحياة به إذ به يصيح « ياليت رأسى ماء وعينى ينبوع دموع فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى. ياليت لى فى البرية مبيت مسافرين فأترك شعبى وأنطلق من عندهم لأنهم جميعاً زناة جماعة خائنين » " إر 9: 1 و2 " فإذا تحولنا إلى مراثيه، وقفنا أمام حنان ربما لم يعرفه أحد سوى ذاك الذى أطل على المدينة من جبل الزيتون وبكى عليها، أو بولس عندما صاح: « أقول الصدق فى المسيح. لا أكذب وضميرى شاهد لى بالروح القدس، إن لى حزناً عظيما ووجعاً فى قلبى لا ينقطع، فإنى كنت أود لو أكون أنا نفسى محروما من المسيح لأجل إخواتى أنسبائى حسب الجسد » "رو 9: 1 - 3".. لقد أحب إرميا أورشليم وأحب بلاده وأحب عناثوث مدينة ومسقط رأسه، لكنه كان فى وسطهم: « وأنا كخروف داجن يساق إلى الذبح ولم اعلم أنهم فكروا على أفكارا قائلين لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء فلايذكر بعد اسمه. فيارب الجنود القاضى العادل فاحص الكلى والقلب، دعنى أرى انتقامك منهم لأنى لك كشفت دعواى. لذلك هكذا قال الرب عن أهل عناثوث الذين يطلبون نفسك قائلين لا تتنبأ باسم الرب فلا تموت بيدنا. لذلك هكذا قال رب الجنود: ها أنذا أعاقبهم، يموت الشبان بالسيف ويموت بنوهم وبناتهم بالجوع، ولا تكون لهم بقية لانى أجلب شراً على أهل عناثوث سنة عقابهم » " إر 11: 19 - 23 ".. كان إرميا هنا أقرب ما يكون من إيليا وروحه، ولم يكن بعد قد تعلم روح المسيح الغافر، والذى طلب إلى تلاميذه أن تبدأ كرازتهم من مدينة أورشليم التى حاربته وصلبته على هضبة الجلجثة!على أن أقسى موقف يمكن أن يتعرض له الإنسان فى الأرض، هو الموقف بين الوطنية والدين،... كان إرميا واحداً من أعظم المحبين لبلاده وشعبه، وكانت غيرته على المدينة التى أحبها أشد من غيرة أعظم الوطنيين فى الأرض،... لكنه مع ذلك وقف موقفاً شبيهاً بموقف أبيه إبراهيم فوق جبل المريا، وهو يمد يده ليذبح ابنه إسحق،.. مع هذا الفارق أن إسحق كان مطيعاً لأبيه، ولا عيب فيه البتة، لكن أورشليم كانت المدينة الخاطئة التى تنتحر انتحاراً أمامه،... وقد كان من المؤلم والعجيب أن ينادى بعدم مقاومة الغزاة، والاستسلام لنبوخذ ناصر،... ومن لى، فى تلك الساعة، ليرى نزيف قلبه وهو ينادى بهذه الأقوال!!.. كان يتمزق بين الحنان المرهف، والقسوة الشديدة على المدينة التى ينادى عليها بالخراب،... إن السؤال الذى طرحه إرميا هو: هل نضحى بالدين فى سبيل الوطن،... أم نضحى بالوطن فى سبيل الدين!!؟.. إنه السؤال الذي يعتبر من أقسى الأسئلة التى يمتحن بها الإنسان على هذه الأرض!!... ونحن نصلى لأنفسنا ولجميع الناس ألا يقعوا فى هذه التجربة التى وقع فيها إرميا يوماً من الأيام!!.. ولعل مما تحسن الإشارة إليه هنا هو الخلاف الفكرى العميق بين اثنين من الأمريكيين أما أولهما فكان اسمه ستيفون ديكاتور وهو ضابط من أقدر ضباط البحرية الأمريكية والذي كان شعاره: أنا مع وطنى فى الحق أو الباطل على حد سواء!!.. وقد رفض أمريكى آخر اسمه صموئيل بولند هذا الشعار وقال: أنا مع وطنى فى الحق،... وفى الباطل أصحح وطنى ليصل إلى الحق!!. ولعل هذا هو الوضع الصحيح لكل مؤمن مسيحى أن يحب إلهه ووطنه!!.. ولم يشذ إرميا عن هذه الحقيقة فى أعماقه وقرارة نفسه، إذ لم يقبل الذهاب إلى بابل، حيث أعلى له الحق فى ذلك،... وتنبأ فى الوقت نفسه عن بابل أقسى النبوات!!... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها!!... والحقيقة أن الرجل كان من طراز وطنى ممتاز، ولكنه فى الوقت عينه كان أميناً فى إعلان الحق الإلهى لأمته، حتى ولو اشتد وقسا عليها!!... وها نحن نرى اليوم الكثيرين من أمثال الواعظ المشهور بللى جراهام، وهم يشبهون أمريكا، فى الضياع الخلقى والاستباحة والشر والمجون التى استولت عليها، بسدوم وعمورة،... ويصرحون، وهم وطنيون مخلصون، بأنها على شفا الهلاك، ما لم ترجع إلى المسيح والإيمان المسيحى الذي قامت عليه كأعظم دولة فى الأرض!!..
إرميا ونموذج الخادم العظيم
أما وقدأطلنا الحديث عن شخصية إرميا ومقوماته كإنسان متسع، يبدو ممزقاً أو موزعاً بين عواطفه الذاتية، والنداء الإلهى الموجه إليه، فإنه يجمل بنا أن نراه كخادم أمين للّه، وهو فى هذا المجال، من أروع خدام اللّه العظام فى كل التاريخ، وربما نستطيع التركيز فى الأصحاح الثانى والعشرين من سفره، عندما كلفه اللّه بأن يذهب إلى الملك ورجاله فى القصر الملكى ليتحدث إليهم برسالة الرب، وهنا نرى الخادم فى أجل أوصافه:
الخادم والرسالة العلوية
قال الرب لإرميا: « انزل إلى بيت ملك يهوذا » " إر 22: 1 " ويبدو إن إرميا كان فى الهيكل، والهيكل كان فى أعلى بقعة، فمن يترك الهيكل لابد سينزل نزولا جغرافياً، لكن المعنى أشمل وأعمق من مجرد النزول الجغرافى، إذ أن من يحمل رسالة اللّه عليه أن يدرك بأنه يحمل رسالة تعلو فى مركزها وسلطانها وأمرها على كل عظماء الأرض وسادتها، وملوكها،... ويبدو أن النبى قد أمر بالذهاب إلى العائلة المالكة لأنه يعلم مدى نفوذها فى الخير أو الشر على حد سواء، والناس على دين ملوكهم، وينسجون دائماً على منوالهم، إذ يرغبون فى تتبع اثارهم ومحاكاتهم وتقليدهم فى كافة الظروف والأوضاع، وليس أدل على ذلك من أنه فى أيام الرئيس ترومان رئيس الولايات المتحدة، بدأ هذا الرجل يلبس القمصان المشجرة، فإذا بها تنتشر فى كل الولايات المتحدة، بل فى العالم بأجمعه،... وإذا أدركنا ذلك كم يبدو لنا كقادة أو آباء أو أمهات، عمق تأثيرنا فيمن يتطلعون إلينا، ويسيرون فى أثرنا ويحاكوننا، عن دراية أو عن غير دراية!!ومن اللازم أن نلاحظ ههنا شجاعة النبى وبراعته وحكمته... فالشجاعة أن تذكر القادة بأن عليهم أن يتقبلوا كلمة اللّه وأمره لا تفضلا أو تجملا بل امتثالا وخضوعاً وانتظاراً، وعلى الخادم أن يتحرك فيذهب حاملا الرسالة، دون أن ينتظر أن يأتى إليه السامع، أو كما قال أحدهم، إن من واجب الخادم ألا ينتظر من سامعيه أن يجروا وراءه، بل من واجبه أن يخلق الاجتماع، وعليه أن يجعل رسالته رسالة علانية واضحة، لا أن يخفيها فى حيز ضيق صغير، وعليه ألا يخدم فقط بين جدران الكنيسة، حيث من السهل أن يتقبل السامعون الرسالة، بل عليه أن يخرج إلى الخارج ليتحدث بها بين أناس قد يعادونه ويؤذونه بسببها!!... إن الدين ليس لمن يقبلونه فقط، بل هو أيضاً للعشارين والخطاة، ومن يظنهم الناس أنهم أبعد الجميع منه!!..
الخادم والرسالة المشجعة
ذهب إرميا إلى الملك والقادة يحمل رسالة إيجابية مشجعة: « أجروا حقاً وأنقذوا المغصوب من يد الظالم والغريب واليتيم والأرملة لا تضطهدوا ولا تظلموا ولا تسفكوا دماً زكياً فى هذا الموضع » " إر 22: 3 " وهذا وعظ إيجابى عملى واضح، لم يحلق فيه الواعظ نحو النجوم، أو يتحدث بلغة الفلسفة، ولم يلجأ إلى المنحنيات والدروب فى التعبير، بل هو كلام مستقيم لا التواء فيه، كما أنه وعظ يبدأ بالتشجيع والترغيب قبل التوبيخ والانتهار، وهذا يعلمنا أن نضع الشجاعة فى موضعها، وأن نمتنع عن كل تهور واندفاع فى غير موضعهما، بل هذا فى الواقع حسن الاستهلال الذى ينبغى أن يبدأ به الواعظ رسالته، ليكتسب الأذان ويجتذب المشاعر، ولم يكتف النبى بهذا التشجيع بل لوح بالوعود المباركة إذ قال: « إن فعلتم هذا الأمر يدخل فى أبواب هذا البيت ملوك جالسون لداود على كرسيه راكبين فى مركبات وعلى خيل » (عدد 4) وكم كان من الواجب أ ن يشرح هذا قلب الملك لأنه سيجد حماية وحراسة رب الجنود ملك إسرائيل، فى الوقت الذى فيه تتهدده الجيوش الأجنبية، بل إن فى القول: « ملوك جالسون لداود على كرسيه »... إعلان عن إمكانية عودة المملكة إلى مجدها القديم أيام داود، وامتداد رفاهيتها وسلطانها أجيالا طويلة!!..
الخدام والرسالة المحذرة
ومن الواضح أن إرميا، عندما اتجه إلى أعلى الطبقات فى البلاد وأكثرها سطوة وجاهاً ونفوذاً، لم يجعل من صفاتهم أو مناصبهم معطلاً له عن إتمام الرسالة على أكمل وجه، وقد كان عليه أن يوجهها إليهم كما توجه إلى أضعف الناس أو أقلهم نفوذاً... ومن الوعاظ من يتحدث بالسهل اللين اليسير من الكلام، دون التحذير الواضح، لكن إرميا لم يفعل هكذا،... لقد تحدث إلى الملك والقادة بأن سر عظمة المملكة يرجع أولاً وأخيراً، إلى ما عندها من أخلاق أكثر مما عندها من مادة، إذ لم يقل للملك أن سر النجاح والنجاة للملكة يرجع إلى ما عندها من جيوش، وما تملك من قوات، أو تنال يدها من ذهب،..إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا هذه هى الحقيقة الدائمة فى كل العصور، وقد كان على الملك أن يجرى أولا، الحق والعدل،... والحق أوسع وأشمل من العدل، إذ أن الحق يشمل كل ما هو ضد الباطل والكذب والاستبداد والاستعباد سواء فى علاقة الناس بعضهم ببعض أو فى تصرفاتهم الفردية، بينما يتحدث العدل عن موازنة الحقوق بين الأطراف المتنازعة ويبدو هنا أن الملك يهوياقيم كان قد داس الحق والعدل معاً، فى أعماله، إذ سخر الشعب فى بناء قصره، دون أجر أو رحمة،... وكان الأمر الثانى معونة الضعيف، ويبدو هذا فى الوقوف إلى جانب المغصوب ضد الظالم، وعدم اضطهاد اليتيم والأرملة والغريب، ويجمل بنا هنا أن نذكر أن مساعدة هؤلاء ليست مجرد عمل اجتماعى تمليه الديموقراطية أو الاشتراكية الحقة، بل هو العمل الذى يسر به قلب اللّه!! » وجدير بالذكر أن التحذير كان واضح التعبير، ظاهر الدلالة، وعدم الانتباه له، سيجلب نتيجته المؤكدة، النتيجة التى أقسم الرب بها فى خراب المملكة، والبيت المالك معاً،... وكانت المأساة الكبرى أيام إرميا هى التعلق بالشكليات، فمدينة أورشليم فى تصور شعبها مدينة محبوبة من اللّه، ومادام الهيكل موجوداً بها، فلا يمكن أن تمسها قوة فى الأرض،......... وكان حديثهم: « هيكل الرب هيكل الرب هو » " إر 7: 4 ".. وكأنما اللّه يسكت على الشر والفساد مادام الظاهر من الدين موجوداً،.. وإذا باللّه يقول: "حى أنا يقول الرب ولو كان كنياهو بن يهوياقيم ملك يهوذا خاتماً على يدى اليمنى فإنى من هناك أنزعك، وأسلمك ليد طالبى نفسك وليد الذين تخاف منهم وليد نبوخذ ناصر ملك بابل وليد الكلدانيين »... " إر 22: 24 و25 ". أجل إنه من الحماقة أن يظن إنسان أو شعب أنه لمجرد أن اسم اللّه قد وضع عليه، فإنه آمن من كل خطر أو ضرر أو شر، مهما يرتكب من إثم أو خطية أما عن يهوياقيم نفسه، الذى قسى قلبه وأحرق الدرج، وفعل الظلم والشر والفساد، فقد بين له الفرق بينه وبين أبيه يوشيا: « هل تملك لأنك أنت تحاذى الأرز أما أكل أبوك وشرب وأجرى حقاً وعدلا؟ حينئذ كان له خير. قضى قضاء الفقير والمسكين. حينئذ كان له خير. أليس ذلك معرفتى يقول الرب؟ لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الزكي لتسفكه وعلى الاغتصاب والظلم لتعملهما. لذلك هكذا قال الرب عن يهوياقيم بن يوشيا ملك يهوذا: لا يندبونه قائلين آه يا أخى أو آه يا أخت، لا يندبونه قائلين آه يا سيد أو آه ياجلالة، يدفن دفن حمار مسحوباً ومطروحاً بعيداً عن أبواب أورشليم!! " إر 22: 15 - 19 ".
إرميا والفكر اللاهوتى فى سفره
سنلم ببعض الأفكار اللاهوتية التى جاءت فى سفر إرميا ولعل أهمها:
كلمة اللّه
وكلمة اللّه عند إرميا تبلغ مركزها الأعلى، إذ هى الكلمة التى ينبغى عليه أن يعلنها، وقد جاءته هو واضحة فى الدعوة إلى النبوة، وقد وضعت هذه الكلمة باللمسة الإلهية على شفتيه، لينادى بنتائجها البالغة للأمم والممالك، وكلمة اللّه ليست مجرد ألفاظ ينطق بها، بل هى الكلمة التى تحمل قصد اللّه وإرادته، والمصحوبة بفاعليته وسلطانه، وفى صراعه مع الأنبياء الذين إدعوا النبوة فى عصره، كشف إرميا لهم عن إعلانات اللّه له، وبين الفارق بينه وبينهم، إذ أن اللّه أعلن أنه لم يرسل هؤلاء الأنبياء قط: « لم أرسل الأنبياء بل هم جروا. لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا " إر 23: 21 ".. ولا يستطيع الإنسان أن يتكلم باسم اللّه، إلا بعد أن يجلس فى حضرة اللّه، وينصت بعمق وتأمل إلى اللّه: « لأنه من وقف فى مجلس الرب ورأى وسمع كلمته؟ من أصغى لكلمته وسمع؟... ولا وقفوا فى مجلسى لأخبروا شعبى بكلامى وردوهم عن طريقهم الردئ وعن شر أعمالهم » " إر 23: 18، 22 "... إن الأنبياء المضلين يحلمون أحلاماً من ذواتهم: « قد سمعت ما قالته الأنبياء الذين تنبأوا باسمى بالكذب قائلين حلمت حلمت. حتى متى يوجد فى قلب الأنبياء المتنبئين بالكذب بل هم أنبياء خداع قلبهم، الذين يفكرون أن ينسوا شعبى اسمى بأحلامهم التى يقصونها الرجل على صاحبه كما نسى آباؤهم اسمى لأجل البعل. النبى الذى معه حلم فليقص حلماً والذى معه كلمتى فليتكلم بكلمتى بالحق ما للتبن مع الحنطة يقول الرب » " إر 23: 25 - 28 ".. « فقال الرب لى: بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمى. لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم. برؤيا كاذبة وعرافة وباطل ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم لذلك هكذا قال الرب عن الأنبياء الذين يتنبأون باسمى وأنا لم أرسلهم وهم يقولون لا يكون سيف ولا جوع فى هذه الأرض، بالسيف والجوع يفنى أولئك الأنبياء » " إر 14: 14، 15 " والسمة البارزة فى كلام هؤلاء الأنبياء هى تملق السامعين، والمناداة لهم بما يطيب لهم أن يسمعوه،... على العكس من كلمة اللّه التى تظهر كالحنطة، إذ قورنت بالتبن الذى تذروه الرياح،... وهى المطرقة التى تحطم قساوة القلوب الصلدة، والنار التى تلهب حياة الناس ومشاعرهم وتسيطر على إرادتهم!!.. وذلك لأنها مصحوبة بفاعلية روح اللّه!!..
معرفة اللّه
والحقيقة الثانية التى تبدت أمام إرميا: المعرفة المتبادلة مع اللّه، معرفة اللّه له، ومعرفته هو للّه » وهو يصف اللّه بالقول: « وأنا العارف والشاهد يقول الرب»..... وقد عرف اللّه إرميا: « قبلما صورتك فى البطن عرفتك " إر 1: 5 " وحياته من البدء مكشوفة أمام اللّه، وهى مكشوفة فى الأزمات: « وأنت يارب عرفتنى » " إر 12: 3 "، « والرب عرفنى فعرفت. حينئذ أريتنى أفعالهم » " إر 11: 18 "، « أنت يارب عرفت. أذكرنى وتعهدنى وانتقم لى من مضطهدى. بطول أناتك لا تأخذنى. أعرف احتمالى العار لأجلك » " إر 15: 15 " « أما أنا فلم أعتزل عن أن أكون راعياً وراءك ولا اشتهيت يوم البلية. أنت عرفت. ما خرج من شفتى كان مقابل وجهك » " إر 17: 16).. « وأنت يارب عرفت كل مشورتهم على للموت » " إر 18: 23 " كان إرميا يدرك أن اللّه يعرف حياته جملة وتفصيلاً، بل يعرف من قبل أن يولد إرميا هذه الحياة فى كافة أو ضاعها، وعلى وجه الخصوص، فى الضيقات والأزمات... ومن الجانب الآخر، كان إرميا يعرف اللّه، وهو يختلف هنا عن غيره من الكهنة: « الكهنة لم يقولوا أين هو الرب، وأهل الشريعة لم يعرفونى، والرعاة عصوا على، والأنبياء تنبأوا ببعل وذهبوا وراء ما لا ينفع » " إر 2: 8 ".. « أما أنا فقلت إنهم مساكين. قد جهلوا لأنهم لم يعرفوا طريق الرب قضاء إلههم » " إر 5: 4 ".. « لأن شعبى أحمق، إياى لم يعرفوا، هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين. هم حكماء فى عمل الشر ولعمل الصالح ما يفهمون » " إر 4: 22 ".. « وتسيرون وراء آلهة أخرى لم تعرفوها » " إر 7: 9 ".. « بل اللقلق فى السموات يعرف ميعاده واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئها، أما شعبى فلم يعرف قضاء الرب » " إر 8: 7 "... لكن إرميا كان يؤمن باليوم الآتى الذى سيقطع اللّه فيه عهداً جديداً مع شعبه: « ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً ليس كالعهد الذى قطعه مع ابائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب. بل هذا هو العهد الذى اقطعه مع بيت إسرائيل، بعد تلك الأيام يقول الرب: أجعل شريعتى فى داخلهم، واكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً، ولا يعلمون بعد كل واحد صاحبه وكل واحد أخاه قائلين أعرفوا الرب لأنهم كلهم سيعرفوننى من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب، لأنى أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد » " إر 31: 31 - 34 "... وقد تحقق هذا فى قول المسيح المبار ك: « وأعرف خاصتى وخاصتى تعرفنى » " يو 10: 14 ".
نشاط اللّه فى حياة البشر
لم تكن عقيدة إرميا أن اللّه خلق الناس ليتركهم دون أن يبالى بهم كما كان يتصور توماس كارليل، أو ليقف متفرجاً على آلامهم وأحلامهم وتعاساتهم كما كان يزعم لورد بيرون، بل أن نشاط اللّه له الدور الكامل فى حياة الناس، على أن هذا النشاط يختلف ولا شك عند إرميا بالنسبة للمؤمنين، ولشعب اللّه، وللأمم، وللوجود كله،... ففى حياة النبى مثلا، يدرك إرميا مدى تدخل اللّه فى حياته، من مجرد دعوته التى أشار إليها فى الأصحاح الأول من سفره، أو كما قال أحدهم: تكفى الإشارة إلى الأفعال الواردة من " عدد 5: 10 " " صورتك " " عرفتك " "قدستك " " جعلتك " " أرسلك " " آمرك " " لأنقذك " " جعلت كلامى فى فمك " " وكلتك "... وهذه الأفعال تغطى حياة النبى جملة وتفصيلا، مما لا يترك واردة أو شاردة، دون تدخل اللّه، ومن ثم نراه يقول: «عرفت يارب أنه ليس للإنسان طريقة، ليس لإنسان يمشى أن يهدى خطواته» " إر 10: 23 ".. وفى حياة الشعب، مهما تلونت ظروفه، وتغيرت، وسواء وقع تحت التأديب أو الحض أو الوعد، فهو الشعب المختار من اللّه: « إسرائيل قدس للرب أوائل غلته. كل آكليه يأثمون. شر يأتى عليهم يقول الرب » " إر 2: 3 ".. « وأنا قد غرستك كرمة سورق زرع حق كلها. فكيف تحولت لى سروغ جفنة غريبة » " إر 2: 21 ".. وهو المحبوب: "ما لحبيبتى فى بيتى. قد عملت فظائع كثيرة " " إر 11: 15 " « قد تركت بيتى رفضت ميراثى دفعت حبيبة نفسى ليد أعدائها ». " إر 12: 7 ".. وهو الميراث: « رعاة كثيرون أفسدوا كرمى، داسوا نصيبى، جعلوا نصيبى المشتهى برية خربة » " إر 21: 01 " وهو قطيع الرب: « وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسى تبكى فى أماكن مسترة من أجل الكبرياء، وتبكى عينى بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبى قطيع الرب » " إر 13: 17 " وهو البكر: « لأنى صرت لإسرائيل أباً وأفرايم هو بكرى » " إر 31: 9 ".. وهو المرتبط بالعهد مع اللّه: « لا ترفض لأجل اسمك، لاتهن كرسى مجدك. اذكر ألا تنقض عهدك معناً » "إر 14: 21 "... « ها أيام تأتى يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً. ليس كالعهد الذى قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر حين نقضوا عهدى فرفضتهم يقول الرب » " إر 31: 31، 32 "... ومن المعلوم أن إرميا جاء بعد هوشع بزمن،... وقد اتفق الإثنان على تصوير العلاقة بين اللّه وشعبه فى صورة الزوجة والبنين،... يقول إرميا: « قد ذكرت لك غيرة صباك محبة خطبتك ذهابك ورائى فى البرية فى أرض غير مزروعة » " إر 2: 2 " « ألست من الآن تدعيننى يا أبى أليف صباى أنت » " إر 3: 4 "... « وأنا قلت كيف أضعك بين البنين وأعطيك أرضاً شهية ميراث مجد أمجاد الأمم. وقلت تدعيننى ياأبى ومن ورائى لا ترجعين » " إر 3: 19".. « إرجعوا أيها البنون العصاة فأشفى عصيانكم » " إر 3: 22 "... هذه هى العلاقة الخاصة بين اللّه وشعبه، مع تفوق العهد الجديد الذى يعلن لنا اللّه فيه بالروح القدس تلك الرابطة التى لا يمكن أن تنفصم أو تنقطع بين المسيح وكنيسته إلى أن يأتى فى مجيئه الثانى العتيد!!..ومن الواضح أن تاريخ الأمم خاضع لسيطرة اللّه وسلطانه: « والآن قد دفعت كل هذه الأراضى ليد نبوخذ ناصر ملك بابل عبدى وأعطيته أيضاً حيوان الحقل ليخدمه. فتخدمه كل الشعوب، وابنه وابن ابنه حتى يأتى وقت أرضه فتستخدمه شعوب كثيرة وملوك عظام » " إر 27: 6، 7 "... بل إن الوجود كله يخضع للسلطان الإلهى: « أنى أنا صنعت الأرض والإنسان والحيوان الذى على وجه الأرض بقوتى العظيمة وبذراعى الممدودة وأعطيتها لمن حسن فى عينى » " إر 27: 5 ".. وهو الذى يعطى المطر: « ولم يقولوا بقلوبهم لنخف الرب إلهنا الذى يعطى المطر المبكر والمتأخر فى وقته يحفظ لنا أسابيع الحصاد المفروضة » " إر 5: 24 ".. « هل يوجد فى أباطيل الأمم من يمطر، أو هل تعطى السموات وابلا، أما أنت هو الرب إلهنا فنرجوك لأنك أنت صنعت كل هذه » " إر 8: 7 ".. كان إرميا يؤمن بالتدخل والنشاط الإلهى، فى كل شئ، فى حياة الجميع بصورة كاملة دائمة كل يوم!!.
الخطية والدينونة والتوبة والخلاص
أعلن اللّه لشعبه إرادته المقدسة، وقد أعلنها فى التوراة وعن طريق الكهنة والأنبياء، وكان المطلوب من إسرائيل أن يخضع لهذه الإرادة الإلهية ويتمسك بها: «هكذا قال الرب: لا يفتخرن الحكيم بحكمته، ولا يفتخر الجبار.. بجبروته، ولا يفتخر الغنى بغناه، بل بهذا ليفتخرن المفتخر: بأنه يفهم ويعرفنى أنى أنا الرب الصانع رحمة وقضاء وعدلا ً فى الأرض لأنى بهذه أسر يقول الرب » " إر 9: 23، 24 " وقد سبقت الإشارة إلى أن هذه ليست مجرد قواعد أدبية أو خلقية، بل هى أوامر إلهية أعطاها اللّه إفصاحاً عن طبيعته وكمالاته الإلهية، وهو لهذا يسر بها، فخروج شعبه عنها، أو خروج الإنسان عنها، هو الضياع بعينه: « هل بدلت أمة آلهة وهى ليست آلهة. أما شعبى فقد بدل مجده بما لا ينفع » " إر 2: 11 "..، وهو السير وراء الباطل: « هكذا قال الرب ماذا وجد فى اباؤكم من جور حتى ابتعدوا عنى وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً " إر 2: 5 "، وهو الشرود والنسيان: « لماذا قال شعبى قد شردنا لانجئ إليك بعد. هل تنسى عذراء زينتها أو عروس مناطقها. أما شعبى فقد نسينى أياماً بلا عدد » " إر 2: 31، 32 " وهو الأعوجاج: « لأنهم عوجوا طريقهم» " إر 3: 21 ".. وهو الزنا: « لأنك على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء أنت اضطجعت زانية » " إر 2: 20 ".. « حقاً أنه كما تخون الامرأة قرينها هكذا خنتمونى يا بيت إسرائيل يقول الرب » " إر 3: 20 "، وهو المرض: « ارجعوا أيها البنون العصاة فأشفى عصيانكم » "إر 3: 22 "، والدينونة الواقعة على الشعب، والعقوبة القاسية، لأن الخطية تمكنت منهم وتغلغلت فى حياتهم، وأصبحوا كأتان الفرا التى فى شهوتها تستنشق الريح " إر 2: 24 ".. أو فى الصورة الأخرى: « هل يغير الكوشى جلده أو النمر رقطه؟ فأنتم أيضاً تقدرون أن تصنعوا خيراً أيها المتعلمون الشر » " إر 13: 13 ". « سمعاً سمعت أفرايم ينتحب. أدبتنى فتأدبت كعجل غير مروض. توبنى فأتوب لأنك أنت الرب إلهى. لأنى بعد رجوعى ندمت، وبعد تعلمى صفقت على فخذى. خزيت وخجلت لأنى حملت عار صباى. هل إفرايم ابن عزيز لدى أو ولد مسر، لأنى كلما تكلمت به أذكره بعد ذكراً، من أجل ذلك حنت أحشائى إليه. رحمة أرحمه يقول الرب » " إر 31: 18 - 20 " كان إرميا نبى الدموع، ولن يعرف العالم مرة أخرى شيئاً أعظم أو أروع أو أنبل من مراثيه، ومع أن العالم عرف كثيراً من الأحزان والمآسى فى كل العصور،... لكنه لم يعرف واعظاً، وكاتباً، وراثيا مرة أخرى كإرميا، وإذا كانت القديسة تريزا قد قالت: إن الدموع تكسب كل شئ،... فإن دموع إرميا التى بدت كما لو أنها ضاعت على أطلال أورشليم الخربة، إلا أنها، - ويا للعجب - لم تنفد إلى الآن، فقد تحول رأسه فعلاً إلى ماء لا يكف عن العطاء، وعيناه إلى دموع، ما يزال ينهل الوعاظ منها عبرة ومثالا وهم يبكون على قتلى الخطية نهاراً وليلاً فى الطريق المنحدر إلى الضياع الأبدى، والعذاب والتعاسة، فى جهنم التى كتب على بابها دانتى فى الكوميديا الإلهية: « أيها الداخل إلى هذا المكان ودع الرجاء إلى الأبد!!.. »
المزيد
07 نوفمبر 2020
المقالة السادسة عشرة في كيف تبتهل النفس إذا جربها العدو
أيها السيد القدوس ؛ قد تقدمت إليك نفس حزينة متضرعة إليك بعبرات لتنقذها من العدو المفسد ؛ ساجدة لك بتواضع ؛ مستغيثة بك من المعاند الذي يحزنَها.فإذ قد دنت إليك بوقاحة أستجب لها سريعاً، وإذ قد لجأت إليك بشوق فتعاهدها باهتمام، فإنك إن أعرضت عنها هلكت حزينة، وإن أبطأت عن استجابتها فنيت بالحضرة، فإن تفقدتَها من أجل رأفاتك فقد ظفرت ؛ وإن أقبلت بناظرك إليها خلصت، إن استجبت لها تأيدت.أيقظ الغيرة من أجلها لأنَها خطيبتك، لأن الذي خطبها لك هو بولس الرسول، لا تعرض عنها لئلا يتخذها العدو.
أيها السيد أدبني برأفاتك ؛ ولا تسلمني إلى أيدى المفسد ؛ فإننى هاأنذا قد جمعت أفكاري من كل جهة، فلم أجد شيئاً صالحاً أذكره قدامك سوى هذا فقد، أنني لست أعرف آخر سواك.
إن نعمة أشفيتك هي لا يقدر عرضها ولا يحصى ؛ وتمنح الشفاء لكافة المتقدمين إليك، لأن جراحاتي برأفاتك تشفى ثم يعاودها الوجع من أجل ونيتي، في حال صحتي أنسى الطبيب فينساني في مرضي لأن خطاياي تتعبك.وأنا أعلمك إذا رحمتني أغيظك ؛ ولا أنسى أنك تتحملني من أجل تحننك، لأن الأم المتحننة إذا خالفها طفلها لا تحتمل أن تعرض عنه لأنَها تُغلب من تحننها، فإن كانت كذلك فكم أولى بتحننك.وها يا سيدي تحننات الطائر مسكوبة على فراخه ؛ وفي كل ساعة يفتقدها ويقدم لها طعاماً ؛ ويغذيها بتعب لأنه يغلب من تحنناته، فإن كانت المخلوقات العديمة النظر لها مثل هذا التحنن ؛ فكم بالحري نعمتك أن تغلب ربوات أضعاف من قبل تحنناتِها ؛ فترحم المقبلين إليها والطالبين إياها بالحقيقة.
وها أيضاً عين الماء مملوءة مياهاً تنبع بلا انقطاع ؛ وتمنح المقبلين إليها ماءها بلا حسد ؛ وهي غير محتاجة إلى المدائح البشرية لأنَها ليس لها أن تمدح على ذلك بل الذين ينالون منها يمدحونك بِها، لأنه من البين أن من أجل إحسان نعمتك تمنح تلك العين مشروبَها.
فها قد شاع ذكر عين لجة رأفاتك التي لا يمكن اختبارها ؛ أنَها بلا حسد تروي القوات السمائية والبرايا التي على الأرض ؛ مدبراً كل نسمة وأنت غير محتاج إلى مديح وتمجيد سائر المخلوقات، لأنك لم تزل ممجداً بجوهر عظمتك وعظم جلالك.إن محبتك تائقة لخلاصنا، فأمر بِها إلينا لكي ما إذا مجدناها نتعظم وننال مجداً، لأنني موقن أن محبة نعمتك تعتنق وتقبل المقبلين إليها.وبما أنك لم تزل عالماً بعلم سابق ؛ فتتقدم وتعرف قلب المقبل إليك إن كان خلع العالم بالكلية ؛ فقبل أن يصل إلى الباب تفتح له، وقبل أن يجثو ساجداً تناوله يداً، قبل أن يفيض دموعاً تقطر عليه رأفاتك، وقبل أن يعترف بجرائمه تعطيه الغفران.
ولا تقول له كيف أجزت زمانك ؟ أين أفنيت وقتك ؟ ولا تطلب كتاب خطاياه، ولا تتذكر إغاظة توانيه، ولا تعير إنكاره إحساناتك.لكنك تتقدم فتبصر التواضع والبكاء وسجية القلب ؛ وتَهتف أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه إياها، اذبحوا العجل المسمن للفرح والسرور ؛ ليحضر الملائكة ويفرحوا معنا بوجود الابن الضال ؛ وعودة الوارث الضائع ؛ وبمنزلة تاجر عائد من سفره بغنى جزيل.هكذا نعمتك تقبل المقبل إليها من كل نفسه، لأنَها تتوق أن تبصر الدموع ؛ وتعطش إلى معاينة التوبة ؛ وتسر بحرص الحريصين أن يتوبوا.
فأوضح إذاً فيَّ تحننك الجزيل ؛ وأرثِ لي ؛ وارحمني من محاضرة المفسد فإنه بعد أن جرحني وقف يستهزئ بي.فكما تقدم التلاميذ في البحر وأيقظوك ؛ وبصوت فمك المبارك انقطعت زوبعة الريح ؛ وسكن اهتياج البحر، هكذا أستجب لعبراتي فإنَها نَهاراً وليلاً تيقظك.
إن الأطباء تعبوا أثنتا عشر سنة ؛ ولم يستطيعوا أن يشفوا نزف المرأة السقيمة ؛ بل سببوا لها وجعاً زائداً ؛ وكل ما لم يكن لأولئك منحته لها ؛ وبمقدار ما شهروها إنَها لم تبرأ صحتها ؛ منحتها شفاء بلا وجع.لأنَها رجت أن تكتم أمرها عنك ؛ فتقدمت سراً ودنت على هدب ثيابك، تقدمت لا لتلتمس جسدك الأقدس بل لتلمس لباسك وحده ؛ فمنحتها البرء وأرحتها من الخجل من أطباء كثيرين.فأرح نفسي الحزينة من تعير محزني العدو، أيها الطبيب المتحنن أظهر في أعضائي حكمتك الجزيلة ؛ وأجعل جراحاتي غير مدنسة ؛ وألمع فيها نور جمال الفضيلة، ولتكرز نعمتك إنَها هي نجتني.أيها الخروف غير الخاطئ الذي ذُبحت عن خلاص المسكونة، وصنعت الصلح بين السماء والأرض ؛ لا تطرحني فإنني بوقاحة أقبلت إليك، ولا تحاكمني بما احتملته من أجلي في ذلك اليوم المرهوب المرعب.فإنك ستقول بلا محالة لنا نحن الخطاة: أما قد عرفتم ما صبرت عليه من أجلكم ؛ كنت غير مرئي فشوهدت منكم، كنت غير مائت فحوكمت من أجلكم، كنت بلا تبعة فلطمت من أجلكم، وكمال ذلك أنني صلبت فما سخطت، وأستهزئ بي فما لعنت.فأنا السيد لم أزل أعلى من كل الخطايا والزلات احتملت كل هذه ؛ وأنتم المجرمون ماذا احتملتم من أجلي ؟.فمن أجل هذا ليس لأحد منا اعتذار، أذكر يا سيدي أن هذه كلها من أجل تحننك وصلاحك وعدلك اصطبرت عليها من أجل تقويماتنا، فكما سُلمت من أجلنا وأنت الصالح القدوس الغير خاطئ، وأنت الآن أيضاً هو لأنه لم ينتقل تحنن لاهوتك الطبيعي ولم يتغير.أما نحن فكنا منافقين وأشراراً ؛ والآن خطاة وضعفاء ؛ فالموهبة التي وهبتها لنا بتحننك لا تنتزعها منا ؛ لأنك لو كنت افتديتنا من أجل برنا لكنت الآن إذ أخطأنا تسخط وتنتزع نعمتك، فكنا نقول بواجب إنك افتديتنا من أجل برنا.
والآن إذ أخطأنا ابتعدت منا والحال إننا كنا منافقين والآن خطاة، فالموهبة التي حبوتنا بِها من أجل تعطفك على البشر ثبتها لنا إلى النهاية.أما أنا يا سيدي فبنفس مغمومة أصرخ إليك ؛ وأتضرع إليك من أجل عدوي فإنه قد آذاني، انظر يا سيدي وصر لي رجاء، وأخزِ المجربين فإنَهم في كل ساعة يذهلونني.يسرقوني ولا أعلم ؛ ينزهوني ويعيقوني لئلا أتخشع من الاستغاثة بك ؛ لأنَهم قد عرفوا أنني إن هتفت إليك بدموع لا تبعدني.ويلي أي مصارع لي في المقام، والغبطة لي أي منقذ لي ومعطي جائزة في الجهاد.أما ملك الحيات والوحوش الردىء فهو مهلك ردىء في كل حركاته بنظره وبمروره، وهذا الثعبان في الأمرين كلاهما أخبث منه كثيراً في مصارعته وفي وقاحته.فبالقوة الإلهية التي قلبت العصى إلى ثعابين أزجر هذا الثعبان ؛ فإنه بوقاحة يجىء إليَّ، فاحتمال وقاحة صراعه تذخر للصابرين كنزاً نفيساً، والحزن الذي يحتملونه من تَهويلاته يجعل لهم تطويباً محيياً ؛ لأن فرح هذا الدهر موعوب حزناً. فأما الحزن والتنهد يسببان سروراً وحياة خالدة.أيها السيد أنا كل حين أسقط وأمرض ؛ لكن نعمتك كل حين تفتقدني وتشفيني، ولئن كل ساعة أنكر صلة أشفيتها، إذ أشفية نعمتك لا ثمن لها ولا قيمة، تمنحها مجاناً.وإذ كنت بالدموع تَهبها، فهب لي بعبراتي أشفية نفسي ؛ لأن أمراً بيناً واضحاً عند الكل، إن الدهر يضاهي موقف الجهاد، والثعبان القوي يجتهد أن يغلب الكل، فيغلب من قوم ويداس، ويغلب قوماً ويطأهم.وأناس في مصارعتهم ينغلبون وقوم بالصراع يكللون، وأناس بمرارته ينالون حلاوة الحياة الدائمة، وقوم بحلاوته ورخاوتَهم يكتسبون مرارة العذاب الأبدي.قوم بتناهيهم في عدم القنية يقهرونه بسهولة، وقوم من أجل اشتمالهم بالأمور الأرضية والتفافهم بِها يقهرون.فالذين يحبون اللـه من كل نفوسهم ؛ محاربته ليست عندهم شيئاً، أما الذين يحبون العالم فمحاربته عندهم مستصعبة وغير محتملة، فمغبوطون الذين يحبون اللـه ؛ وبمحبته يحتقرون كل الأشياء.
مغبوطون الذين يبكون نَهاراً وليلاً لينجو من الرجز المستأنف، الطوبى للذين يواضعون ذاتَهم باختيارهم فإنَهم هناك يُرفعون.
الطوبى للمساكين وذوي الحمية فإن فردوس النعيم ينتظرهم، الطوبى للذين صاروا طوعاً هيكلاً للروح القدس فإنَهم عن الميامن يقفون.
الطوبى للذين صلبوا ذاتَهم ؛ فإن دراستهم قد صارت في ذكر اللـه نَهاراً وليلاً، الطوبى للذين منطقوا أحقائهم بالحق ؛ ومصابيحهم معدة ؛ ويتوقعون ختنهم متى يأتي العرس.
مغبوط المقتني أعيناً عقلية لمعاينة الخيرات العتيدة والعذاب المؤبد ؛ وحرص أن يتعب لينال الخيرات الخالدة، الطوبى لمن نصب أمام عينيه تلك الساعة المرهوبة دائماً وحرص أن يرضي اللـه ما دام توجد ساعة.
الطوبى لمن صار على الأرض بلا ألم مثل ملاك ليمكنه أن يبصر مع الملائكة المطربات التي في العلا ؛ ويتفطن الأسرار التي فوق ؛ ويتذكر الأمور التي في العلا ؛ وينطق بالأمور التي فوق.ويعمل الأعمال التي في العلا، ويتجر ويستفاد الفوائد التي فوق، ويتلو الخيرات التي في العلا.ولا يميل إلى الأمور التي أسفل حيث لذات وشهوات هذا الدهر الباطل الحامل الموت، وأمر حسن أن يبصر بناظر القلب لئلا يسقط شيء في حدقة العين، إما فكر خبيث أو شيء آخر من الأشياء التي لا ترضي الإله السيد وتظلم العقل.لكن أسمع معي أيها القارئ ما أقول: ماذا لنا نتفكر فيه دائماً ؟ لنا الملائكة، لنا رؤساء الملائكة، لنا القوات، لنا الأمجاد التي للربوات، لنا الشاروبيم، لنا السارافيم، لنا ذاتنا، لنا الإله سيد الكل الاسم الفائق الجود الأقدس.لنا الأنبياء، لنا الرسل، لنا الأناجيل المقدسة أقوال الرب، لنا الشهداء القديسون المعترفون الآباء القديسين البطاركة، الرعاة الكهنة، السماوات وكل البرايا التي فيها.
أفتكر في هذا وتفطن فيها ؛ فتصير ابن السيد الإله. بنعمة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الذي له المجد. آمـين
مقالات مار إفرآم السريانى
المزيد