المقالات

02 ديسمبر 2019

صــوم الميــلاد

هو الصوم الذي يسبق الاحتفال بعيد ميلاد ربنا يسوع المسيح . ولم يبدأ الاحتفال بعيد الميلاد كعيد مستقل إلا في القرن الرابع الميلادي لم تذكر القوانين القديمة شيئا عن هذا الصوم ، ولكنها ذكرت فقط الاحتفال بعيد الميلاد ، فتقول الدسقولية : "يا أخوتنا تحفظوا في أيام الأعياد التي هي ميلاد الرب وكملوه في خمس وعشرين من الشهر التاسع الذي للعبرانيين وهو التاسع والعشرون من الشهر الرابع الذي للمصريين ومن بعد هذا فليكن جليلا عندكم عيد الأبيفانيا (أي عيد الظهور) ، وتعملوه في اليوم السادس من الشهر العاشر الذي للعبرانيين الذي هو الحادي عشر من الشهر الخامس الذي للمصريين". 1 – نشأة صوم الميلاد وتطوره أ – صوم الميلاد في الغرب انتشر ما بين القرن الرابع والقرن السادس الميلادي , الحديث عن صوم يسبق الاحتفال بعيد الميلاد ، مدته أربعون يوما ، ويسمى "أربعينية الميلاد" ويكون الصوم فيه ثلاثة أيام في الأسبوع ، غالبا أيام الاثنين والأربعاء والجمعة . ويقول القس كيرلس كيرلس : "في الحقيقة لا توجد مصادر أخرى تشير إلى ممارسة الصوم ستة أسابيع قبل عيد الميلاد، إلا عند غريغوريوس أسقف "تورس . "Tours وكان الصوم فيها أيام الاثنين والأربعاء والجمعة فقط . كما كانت فرنسا هي بداية وأصل هذه الأسابيع الستة التي تصام قبل عيد الميلاد والتي رتبت في القرن السادس لتتشابه مع الصوم الكبير" . ب - صوم الميلاد في الشرق أول من فرض صوم الميلاد بصفة رسمية في الشرق هو البابا خريستوذولس البطريرك السادس والستون من بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية (1046- 1077) ، في قوانينه التي حدد بها الأصوام المفروضة . قال : "كذلك صوم الميلاد المقدس من عيد مار مينا في خمسة عشر يوما من هاتور إلى تسعة وعشرين يوما من كيهك ، وإن وافق عيد الميلاد الشريف يوم الأربعاء أو يوم الجمعة ، فيفطروا فيه ولا يصوموا بالجملة ، وكذلك عيد الغطاس المقدس في الحادي عشر من طوبة ، وإن اتفق يوم أربعاء أو يوم جمعة فيفطروا فيه أيضا ولا يصوموا، وإن وافق العاشر من طوبة الذي فيه صوم الغطاس أن يكون يوم سبت أو يوم أحد فلا يصام بالجملة بل يصوموا الجمعة الذي قبل ذلك عوض ليلة الغطاس" . ويذكر ابن العسال صوم الميلاد قائلا : "ومنها ما هو دون ذلك وأُجري مجرى الأربعاء والجمعة ، وهو الصوم المتقدم للميلاد ، وأوله أول النصف الثاني من هاتور وفصحه يوم الميلاد". ويكتفي ابن كبر (+1324) بالإشارة إليه قائلا : "وكذلك صوم الميلاد الذي أوله 16من هاتور وقيل الحادي والعشرين لتمام أربعين يوما" . أما ابن السباع فيذكره ويعلل سببه قائلا : "صوم الميلاد المجيد سببه هو أن السيدة الطاهرة أم النور مريم البتول كانت في الشهر السابع ونصف من حملها الطاهر بالبشارة المملؤة خلاصا للعالم ، قد كثرت تعييراتها من يوسف النجار وغيره بكونها كانت تدعي البكورية وقد وجدت حبلى ، فكانت تتفكر دائما في التعيير ، ولذا صامت شهرأ ونصفأ باكية حزينة على ما تسمعه من التعيير لأنها أيضا لم تعلم ما ستلده . فنحن بما أنه ليس لنا في مذهبنا واعتقادنا وكنيستنا سوى هذه الأصول وهذه الأعمدة الثلاثة التي هي السيد له المجد والسيدة الطاهرة مريم والآباء الرسل . فصام السيد فقد صمنا امتثالا لتعاليمه لنا صامت السيدة شهر ونصف (في كيهك) صمنا مثلها" . أمر البابا غبريال الثامن (1587- 1603) البطريرك السابع والتسعون من بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في قراراته التي سنها بخصوص تعديل الأصوام والتي صدرت في سنة 1602 "أن يُبتدئ صوم الميلاد من أول شهر كيهك ويكون فصحه عيد الميلاد" . أي تكون مدته 28يومأ فقط . ويقول القمص يوحنا سلامه : "قد ذهب البعض إلى القول إن هذا الصوم كان خاصا في مبدئه بالطغمة الإكليريكية ، ولاشتهاره واستعمال أغلب المسيحيين القدماء إياه ، ورغبة في اكتساب فوائد الصوم رتبه بصفة رسمية الأنبا خرستوذولس "66في عداد البطاركة" وجعله فرضا عاما على جميع أفراد الكنيسة" . ويذكره القمص صموئيل تاوضروس السرياني (+ 1983) ويذكر نوع الطعام الذي يؤكل فيه قائلا : "عرف المسيحيون هذا الصوم منذ القرون الأولى ، وقد زاوله النصارى في كل الأرض وربما رجال الدين أولا استعدادا للاحتفال بعيد الميلاد المجيد ، واتفقوا على تحديد مدته بأربعين يوما . . . ويلوح لنا من خلال الكتب الطقسية والتاريخية أن المؤمنين في مصر كانوا يمارسون هذا الصوم اختياريا وليس كفرض كنسي . وأول من أوجبه عليهم وأعطاه صفة رسمية ، هو البابا خرستوذولس - الذي أحزن نفسه والكنيسة بمختلف البلاد وهو يجمع المال بجشع زائد ويركض وراء السيمونية البغيضة - ويؤكل في هذا الصوم السمك مع القطاني وكل أصناف الحلوى" . ويقول القس كيرلس كيرلس : "صوم الميلاد بوضعه الحالي أدخلــه خرستوذولـس البطريـــــرك الـــ "66" في القرن الحادي عشر عن الغرب حتى يتشابه في عدد أيامه مع الصوم الكبير . أضيف إليه ثلاثة أيام الصوم لنقل جبل المقطم وأصبح "43" يوما . ولكن خرستوذولس لم يذكرها في قوانينه . ولم يصم أهل الصعيد للميلاد إلا من أول كيهك (28يومأ ) ، وثبته البابا غبريال الثامن على هذا الوضع . 2 – مدة صوم الميلاد منذ أن عُرف هذا الصوم ، واستقر الرأي على أن تكون عدد أيامه أربعين يوما حتى يماثل في عدده الأربعين المقدسة ، أضافت إليها الكنيسة القبطية الثلاثة أيام التي صامها الأنبا ابرآم بن زرعه السريانــــــي (975-978) - البطريرك "62" من بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية - والشعب القبطي معه قبل معجزة نقل جبل المقطم ، فصار صوم الميلاد في الكنيسة القبطية 43يومأ ، عدله البابا غبريال الثامن كما رأينا وجعله 28يومأ فقط . إلا أن الكنيسة عادت بعد وفاته إلى المدة المحددة سابقا 43 يوما ، بينما ظل في باقي الكنائس أربعين يوما فقط . 3 – الغرض من صوم الميلاد تمارس الكنيسة صوم الميلاد تذكارا لمراحم الله بالجنس البشري ، ولذكرى الأيام الشقية التي سبقت مجيء المخلص ، وتذكارا للخطيئة التي كنا مستعبدين لها وقد عتقنا منها يسوع المسيح ربنا ، وإعرابا عن حبنا وطاعتنا للمولود من العذراء ، ومماثلة بموسى الذي لما صام قًبل كلمة الله ، ونحن بصومنا نقبل كلمة الله متجسدا ، ولتهيئة النفس لاستقبال عيد الميلاد . 4- صوم الميلاد في الكنيسة القبطية الكاثوليكية عبر العصور ظلت الكنيسة القبطية الكاثوليكية تشترك مع نظيرتها الأرثوذكسية في الطقوس والممارسات الكنسية ونظم الصوم وعدد أيامه ونوع الطعام المسموح به إلي أن عقد مجمع القاهرة سنه 1898 م , دُعي "السينودس الإسكندري للأقباط " وحدد معني الصوم والانقطاع وما هي الأصوام المقررة في الكنيسة وحدد الأتي يمتنع الصائم لمده معينه من الزمن عن الأكل والشرب , وعندما يحل صومه يمتنع عن نوع معين من المأكولات والمشروبات مثل اللحم والبيض والألبان والخمر وسائر المشروبات المسكرة . وهدف هذا الصوم أن يقدم الشعب المسيحي بواسطة إماتة الجسد تكفيراً عن خطاياه ويحضر نفسه للاحتفالات المهمة والأعياد. وحدد صوم اميلاد كالتالي: - انقطاع ميلاد الرب . كانت مدته 40 يوماً من يوم 16 هاتور إلي يوم29 كيهك . الأفضل أن يتبع الفرد هذا النظام , إلا أنه خُفض فصار 15 يوماً من يوم 13 كيهك إلي يوم 29 منه عيد الميلاد المجيد في سينودس 1987 م وأخر ما طرأ على نظام الصوم في الكنيسة القبطية الكاثوليكية من تعديل قرره السينودس المقدس للكنيسة القبطية الكاثوليكية برئاسة غبطة البطريرك إسطفانوس الثاني في فبراير 1987 والذي نص على الآتي : + صوم الميلاد ومدته خمسة عشر يوم . خلاصــة - صوم الميلاد هو الصوم الذي يسبق الاحتفال بعيد الميلاد المجيد . - لم يبدأ الاحتفال بعيد الميلاد كعيد مستقل إلا في القرن الرابع الميلادي . - لم تذكر القوانين القديمة شيئا عن صوم الميلاد ، ولكنها ذكرت فقط الاحتفال بعيد الميلاد . - انتشر في الغرب ما بين القرن الرابع والقرن السادس الميلادي الحديث عن صوم يستمر أربعين يوما يسبق عيد الميلاد . يكون الصوم فيها فقط أيام الاثنين والأربعاء والجمعة من كل أسبوع . - صوم الميلاد بوضعه الحالي أدخله البابا خرستوذولس في الكنيسة القبطية في القرن الحادي عشر . - عدد أيامه أربعون يوما ، زيدت عليه بعد ذلك ثلاثة أيام لنقل جبل المقطم . - كان أهل الصعيد يصومون للميلاد من أول كيهك 28يومأ فقط . -أمر البابا غبريال الثامن في سنة 1602أن يبدأ صوم الميلاد من أول شهر كيهك وفصحه عيد الميلاد - أي أن يكون لمدة 28 يوما فقط . ولكن بعد وفاته بفترة قصيرة عادت الكنيسة القبطية إلى صومه 43 يوما من جديد واستمر على هذا الوضع إلي اليوم . حدده السينودس المقدس للكنيسة القبطية الكاثوليكية برئاسة غبطة البطريرك إسطفانوس الثاني في فبراير 1987 كالتالي : + صوم الميلاد ومدته خمسة عشر يوم . الأب / يوحنا زكريا نصرالله راعي كنيسة السيدة العذراء جزيرة الخزندارية – طهطا - سوهاج
المزيد
30 نوفمبر 2019

شخصية اتاي

إنه حيثما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك أيضاً" (2صم 15: 21) مقدمة قصة اتاي من أروع القصص الكتابية التي تحدثنا عن الغريب الذي يتبادل الموقع، لم يكن أتاي إسرائيلياً، بل فلسطينياً من جت بلد جليات الفلسطيني،.. وعندما التقى بداود لم يكن اللقاء بينهما لقاء جليات بداود، أو لقاء عدوين متقاتلين، أو خصمين يطلب أحدهما حياة الآخر، أو رجلين يتعبد كل منهما لإله يختلف عن الآخر،.. لقد التقيا على العكس من ذلك، لقاء صديقين محبين مسالمين، إذ جاء أتاي غريباً منفياً من وطنه، ومن المؤكد أنه آمن بإله إسرائيل، ولفظ عبادة داجون، واستظل بجناحي الإله الوحيد الحي الذي يتعبد له داود، وقد جاء إلى داود مع ستمائة من الفلسطينيين، لعلهم أهله وعشيرته وبيته، وكان قائداً عليهم!!.. ومن العجيب أن هذا الرجل الغريب تبادل الموقع، ففي الوقت الذي خرج فيه أبشالوم وأخيتوفل وشمعي على الملك،.. جاء هذا الرجل ليأخذ المكان الخالي، وليدافع عن الملك دفاع الحياة أو الموت،.. من حق هذا الرجل أن ننظر إليه وهو يقود ثلث الجيش المدافع عن داود مع يوآب وأبيشاي اللذين قادا الثلثين الآخرين، نفس النظرة التي نظر بها المسيح إلى قائد المئة: "فلما سمع يسوع تعجب وقال للذين يتبعون الحق أقول لكم لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا وأقول لكم إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية هناك يكون البكاء وصرير الأسنان"... ومن حقنا نحن الذين كنا أصلاً بدون مسيح، أجنبيين عن رعوية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لنا، وبلا إله في اعالم، أن نفخر بالرجل القديم الغريب الذي أخذ المكان المتقدم الذي ضاع من ابن البيت وصاحبه!!.. دعونا إذا نرى الرجل في الصورة التالية: أتاي المنفي ليس من السهل أن تعرف لماذا نفى أتاي من بلده ووطنه،.. وهل يرجع الأمر كما يتصور البعض إلى الطغيان في الحكم هناك، مما دعاه إلى الهروب والالتجاء إلى إسرائيل، كما فعل داود في صدر شبابه، وهو هارب من مطاردة شاول الملك؟.. أو أن الأمر يرجع إلى تصرف ما، لم يرق في عيني القادة الحاكمين، مما اضطره أن يلجأ لداود بحثاً عن أمنه وسلامته؟.. أياً كان السبب فإنه من الواضح أن الرجل دخل إسرائيل منفياً متعباً، هو والذين تبعوه، وأنه لجأ إلى داود وإسرائيل بحثاً عن الهدوء والأمن والسلامة ومن الواضح أن النفي كان جزءاً من عناية الله وهو يدري أو لا يدري -للإيمان بإله إسرائيل، والتعرف عليه والاستظلال بجناحيه، وأنه على اختلاف الزمان والمكان أشبه براعوث الموآبية التي حياها بوعز بقوله: "قد أخبرت بكل ما فعلت بحماتك بعد موت رجلك حتى تركت أباك وأمك وأرض مولدك وسرت إلى شعب لم تعرفيه من قبل من قبل ليكافيء الرب عملك وليكن أجرك كاملاً من عند الرب إله إسرائيل الذي جئت لكي تحتمي تحت جناحيه".. ومن الواضح على أي حال أن قصته تطالعنا بملامح رجل ألف حياة الجندية، وارتسمت على قسمات وجهه غضون الآلام والمتاعب والكفاح، ومثل هذه الحياة، يمكن أن تكون التربة الخصبة الصالحة لعمل نعمة الله، وكسبه إلى الحياة الأبدية!!.. ومن المعتقد لذلك أن النفي كان وسيلة الله للبعد عن داجون والاقتراب إلى تابوت العهد في إسرائيل!!... إن المنفى بالنسبة لأي إنسان هو الكارثة بعينها، التي لا يرحب بها، ولكنها مرات كثيرة تكون طريق الله العظمى لكل ما يتمتع به من خير أو بركة،.. وقد لا يكون المنفى بالضرورة البعد عن الوطن أو الحرمان منه، ولكنه على أي حال هو ذلك الإحساس بالأسر المادي أو المعنوي، الذي يجرح الجسد أو النفس، ويترك بصماته العميقة على الروح في الإنسان الباطن،.. في قصة لشاب أمريكي أنه في ثورة من ثورات غضبه لعن بلده أمريكا، وإذ قيل له أنه ليس من الكريم واللائق أن يلعن الإنسان وطنه، وإذ به يجيب ممعناً في التمرد، أنه لا يعتبر أمريكا وطناً له،... وكان جزاؤه القاسي الذي حكم عليه به حرمانه من أن تطأ قدمه أرض أمريكا طوال حياته،.. وضعوه في سفينة تجوب به البحار، دون أن يسمح له أن تطأ قدماه الأرض الأمريكية عندما ترسو في أي ميناء، وحن الشاب إلى أن تطأ قدماه الأرض الأمريكية عندما ترسو في أي ميناء، وحن الشاب إلى بلده، وكان الحنين يمزق قلبه، وهو يرى من على بعد الأرض والمدن والبلاد التي لا يجوز له أن يدخلها، وضاق الطريد بالمنفى، ولما لم يجد رجاء في الأرض، اتجه إلى الله في السماء، وكان الإنجيل صديقه وملاذه في الكربة والضيق، وعندما مات كان هو الشيء الوحيد القريب منه، وتحت وسادته، وكأنما يريد أن يذكر قومه، أنه وإن حرم من وطنه الأرضي، فإنه لا يمكن أن يحرمه أحد من الوطن السماوي، الذي يتجه إليه كل مؤمن غريب نفته الأرض بالموت ليستوطن عند الله،.. قد يكون المنفى بعداً عن وطنه، أو قد يكون أسراً صحياً لجسد فقد البصر، أو أقعدته العلة عن الحركة والنشاط، أو ربما يبدو خسارة في مال، أو هزيمة لمركز، وضياعاً لحب أو ألفة أو صداقة،.. وقد عرفه الشاب الاسكتلندي العظيم چورچ ماتيسون عندما كان في آخر مرحلة في دراسته الجامعية، وكان قد خطب لنفسه فتاة، وأصيب بمرض في عينيه، قرر الأطباء معه أنه لابد أن يفقد البصر، وإذ تركته خطيبته لعلمها بذلك، جرح في الأعماق، وفي منفى النفس، والقلب المكسور، عرف المسيح، وأصبح خادماً من أشهر الخدام الاسكتلنديين، وهو مكفوف، وخلد ما حدث معه بترنيمته العظيمة التي مطلعها: أيتها المحبة التي لا تدعني أذهب!!، لقد أوشك في منفى النفس أن يهيم على وجهه، ويضرب على غير هدى، ولكنه وقد فقد البصر، ضاءت بصيرته، وعرف الحياة الجديدة مع المسيح،.. لم يأت أتاي الجتي إلى المنفى في إسرائيل، بل جاء قبل وبعد كل شيء إلى الله، إله إسرائيل هنا!!... أتاي الغريب كان أتاي الجتي واحداً من أشهر الغرباء الذين سجل الوحي قصة حياتهم العظيمة ين الناس، وهو واحد من ذلك الموكب الجليل النبيل الحافل بأعاظم الرجال أو النساء على حد سواء، موكب ملكي صادق، وأيوب، وراحاب، وراعوث، وأوريا الحثي، وملكة سبأ، ونعمان السرياني، وقائد المئة الذي لم يجد المسيح في كل إسرائيل كإيمانه، وغيرهم من الغرباء الذين بزوا الجميع وتقدموا الصفوف، وصاروا نجوماً لامعة عجيبة في كل التاريخ، وأتاي الجتي بهذا المعنى ليس إلا الصورة أو الرمز لكل أعمى غريب أفقدته النعمة، وجاءت به من المنفى، أو الكورة البعيدة، التي وصل إليها،.. وفي الحقيقة إنها ظاهرة عجيبة تستدعي الدرس والتفكير والتأمل، كيف يمكن أن يأخذ "الأعمى" مكان "الإسرائيلي" و"الغريب" مكان ابن "البيت" على هذا النحو العظيم العجيب،.. وهي ظاهرة يمكن أن نأخذها بصورة أخرى، عندما نرى عمل النعمة الإلهية، في الكثيرين من الأشرار الذين أوغلوا في الخطية والفساد، وهم "غريبون" عن كل كنيسة، أو أكثر من ذلك من مضطهدي الكنائس، والذين لا شيء أبهج على قلوبهم ونفوسهم، من مقاومة العمل الإلهي في كل مجال ومكان،.. في مدينة روزرهام بانجلترا هناك كنيسة أسسها رجل اسمه "يوحنا ثورب"،.. وقصة هذا الرجل عجيبة،.. إذ أن يوحنا ويسلي ذهب إلى المدينة ليعظ فيها، وينادي برسالة الخلاص التي جاء بها المسيح إلى العالم،.. وتصدى يوحنا ثورب ليوحنا ويسلي، وهو يقود جماعة آلت على نفسها أن تفسد كل أثر لرسالة الواعظ الإنجليزي العظيم،.. وابتكر ثورب كل وسيلة شيطانية لإفساد الرسالة الإلهية، فلم يضطهد رجل الله فحسب، بل أراد أن يجعله سخرية للمدينة كلها،.. وذات مرة وهو يقلد ساخراً الواعظ الكبير أمام جمع من المعربدين والسكيرين في أحد البارات، وبينما هو يفعل ذلك، إذ بروح الله يسيطر عليه، وهو في ذات الفعل يسخر ويجدف،.. وإذا بالساخر، لا يتحول قديساً فحسب، بل يصبح أكثر من ذلك واحداً من أعظم مساعدي يوحنا ويسلي في خدمة الله،... وما تزال الكنيسة التي أسسها يوحنا ثورب قائمة إلى اليوم في مدينة روزرهام لتشهد بعمل نعمة الله في المجدف والسكير والشرير والأحمق، والذي تحول ليبشر بالإنجيل الذي كان يتلفه من قبل!!.. أتاي المحب ولا يمكن أن نقرأ قصة هذا الرجل العظيم والجندي الشجاع، دون أن نتبين عاطفة المحبة القوية التي ربطت بينه وبين داود، ومن المعتقد أن كليهما كان صاحب الفضل في أن تصبح واحدة من أندر صور المحبة بين الناس، ولعل السر في ذلك يرجع إلى طبيعة الرجلين واستعدادهما الكامل للتقابل والتجاوب، فداود أصلاً من الشخصيات التي تثير التقدير والإعجاب والحب،.. ولعله وهو الملك النبيل الشجاع، ورجل الله العظيم المقدام، وقد لاذ به أتاي، قد أفسح له المكان، ومن معه، وأعطاه ما لم يكن يحلم به من مساعدة ومعاونة، بل قربه إليه ليجعله من خاصته الملكية، وقائداً لمجموعة الفلسطينيين الذين جعلهم كحرس ملكي له،... وما من شك بأن أتاي وقد خرج من الجو الوثني إلى الجو الفياض بمعرفة الله والإشراق الإلهي، رأى النور مكان الظلمة، ورأى الحق مكان الباطل، ورأى الله مكان داجون،.. وكان لابد أن يؤخذ بهذا كله، ليحوله عصارة حب لله، وللرجل الذي جعله الله على رأس الأمة ملكاً وقائداً لها،.. وما من شك بأن داود رأي في أتاي الرجل الصريح الشجاع الأمين، الجدير بكل تقدير وإكرام ومحبة،... ووقع كلاهما من الآخر الموقع النفسي الحسن،.. على أن الأمر -فيما أعتقد- كان أكثر من ذلك، إذ أن داود التقى بأتاي وهو منكوب عاثر، والنفس العاثرة شديدة الانفعال والإحساس، وهي تذوب حباً فيمن يقف منها موقف الحنان والرفق والعطف والمساعدة والإحسان، والأمر عينه، عندما تعثر داود، ووقف موقف الشريد الطريد، وفاض قلب أتاي، بأعمق المشاعر، ولعله تذكر في ذلك الوقت ما فعل معه داود عندما جاءه هارباً منفياً مطروداً مشرداً،... على أي حال لقد كانت محبة الرجلين بعضهما للبعض مزيجاً من الإعجاب والآلام، والآمال والتعاسات،.. وكانت أصدق صورة للمحبة في صحو النهار أو حلوكة الليل، في رقة النسيم أو أمام الزوبعة القاسية والعاصفة الهوجاء!!... أتاي الوفى كان أتاي الجتي صورة من أروع صور الوفاء التي كتبت في حياة الناس على هذه الأرض،.. وقد كان وفاؤه أولاً وقبل كل شيء لله، أو في لغة أخرى، إن وفاءه لداود كان نابعاً في الأصل من الوفاء لله،.. كان هذا الرجل كما عرفنا رجلاً جندياً بطبعه وحياته، وكان لهذا السبب صادق النظر، مستقيم المبدأ، لا يعرف الازدواج أو الرياء أو التصنع أو الانحراف، وهو يعرف عندما يدخل المعركة، لماذا دخلها، وما واجبه في أوراها واشتداداها،.. ولا شك أنه سأل نفسه هذا السؤال الواحد: ها هي الثورة تقوم، وها هو الابن ينقلب على أبيه، فأيهما على حق وأيهما على ضلال؟!! وكان الجواب على السؤال هو الذي يحدد موقفه القاطع الحاسم النهائي، وقد أدركه بدون أدنى ريب أو تردد، إذ لم يكن هناك شك في أن الموقف الحق الصحيح إلى جانب داود، وضد ابنه المتمرد الثائر الآثم الشرير!!... ومهما تكن النتيجة فإن واجبه يقتضيه أن يقف في موقع الله، حيث الحق والصدق، والشرف والأمانة،... ومن الملاحظ أن أتاي لم يسأل الأسئلة التي قد تراود الذهن البشري قبل أن يقرر مكانه وموقعه، كمثل من يا ترى سيفوز في الثورة، ومن سينهزم؟!! من سيحيا ومن سيموت؟!! من سينجح ومن يصاب بالهزيمة؟!!.. كل هذه أسئلة لا مكان لها عنده، إذ أن مكانه الوحيد: "حي هو الرب وحي سيدي الملك إنه حينما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك أيضاً"... أليس هذا عين ما قالته راعوث لنعمى من قبل: "فقالت راعوث لا تلحي علي أن أتركك وأرجع عنك لأنه حيثما ذهبت أذهب وحيثما بت أبيت شعبك شعبي وإلهك إلهي، حيثما مت أموت وهناك أندفن. هكذا يفعل الرب بي وهكذا يزيد إنما الموت يفصل بيني وبينك"... (را 1: 16 و17). فإذا أضفنا إلى ذلك أن جمال التصميم عند راعوث من قبل، أو عند أتاي فيما بعد، نشأ بعد العرض السخي الكريم من نعمى أو داود أن يعود المصاحب إلى موقعه ومكانه، دون أن يجهد نفسه أو يكلفها بما لا قبل لها من تعب ومشقة وجهد ومعاناة،... وكما رفضت راعوث من قبل، رفض أتاي من بعد في تصميم من وضع يده على المحراث دون أن يفكر لثانية واحدة في النظر إلى الوراء،.. لقد جاء هذا التصميم من نبع الاختيار الحر المطلق الكريم!!.. على أن الجمال الأعظم في هذا الولاء أو الوفاء، أنه جاء في وقت المحنة، والمستقبل الغامض المجهول،... وإذا كانت المحنة قد كشفت الأعماق عند شمعي وأخيتوفل وأبشالوم، وسائر الشعب الذي سار وراءهم، فإنها هي التي أعطت المثل الأعلى في ذلك الذي سار وراء داود وهو مغطى الرأس حافي القدم أعزل من القوة والرجاء بحسب المفهوم البشري ونظرة الناس،.. ومن الغريب أو العجيب أن كلا منا يلزم أن يكون بمعنى ما "أتاي" في التبعية، لابن داود، ابن الله في الأرض،... إذ لا يمكن أن نرى مجده، قبل أن نخرج إليه خارج المحلة حاملين عاره،... وكما وقف أتاي الجتي مع داود ضد من يحاول أن يغتصب عرشه، فإن واجبنا أن نقف مع ابن داود ابن الله، ضد كل المحاولات التي تحاول أن تغتصب مجده وعرشه وجلاله، وتجرده من سلطانه العظيم كملك الملوك ورب الأرباب، ومهما يكن نصيبنا من الاضطهاد والمحن والتشريد والآلام، إلا أن موقعنا الصحيح من المعركة معروف دون أدنى تردد أو تراجع أو إبهام... مع المسيح في الحياة أو الموت على حد سواء!!.. عندما وقف مارتن لوثر في مجمع ورمس، أما تشارلس الخامس الامبراطور، ووجه إليه السؤال: "هل تتراجع أو لا تتراجع عن معتقداتك"؟.. جاء الجواب: "إذا كان "جلالتك" يطلب مني جواباً واضحاً، وبسيطاً، ومضبوطاً، فسأعطي هذا الجواب، وهو أني لا أستطيع أن أخضع إيماني للبابا أو للمجامع، لأنه واضح وضوح النهار أنها تتعرض للخطأ والتناقض بعضها مع بعض، وما لم أقنع بشهادة الكتاب المقدس، وبالمنطق الواضح، ما لم أقتنع بما ذكرت من أجزاء كتابية، وما لم يربط ضميري بكلمة الله، فإني لا أقدر أن أتراجع، ولا يمكن أن أتراجع، إذ أنه ضار بأي مسيحي أن يتكلم ضد ضميره".. وحتم دفاعه بالعبارة التي دوت في كل الأجيال: "هنا أقف ولا أفعل غير ذلك، وليعني الله"... ليس من حق المسيحي أن يسأل أين توجد الأغلبية، أو من يتصور أن يعيش أو يفوز في المعركة إذ أن مكانه دائماً إلى جانب "الملك" في الحياة أو الموت على حد سواء، لأنه إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت، لأنه إن عشنا وإن متنا فللرب نحن،... وإذا كان الاسبرطيون القدامى في معركة ترمبولي قد كتب على نصبهم: "أيها المسافرون اذهبوا وقولوا لاسبرطة إننا متنا هنا طوعاً لقوانينها المقدسة"... وإذا كانت آخر كلمات الشاب الفرنسي بايارد، وهو يصعد إلى المقصلة قائلاً لجلاديه: "أيها السادة لست أنا ممن يرثى له، فأنا أموت إتماماً لواجبي، إنما أنتم أولى بالرثاء، يا من رفعتم سلاحكم ضد مليككم وبلادكم وعهودكم"... لقد تصرف أتاي الجتي بالروح التي يلزم أن يتصرف بها المسيحي إزاء سيده وملكه وفاديه ومخلصه،.. وإذا كان داود قد أحس في هذا الولاء روح الحب العميق، الذي على استعداد أن يبذل الحياة نفسها دون تحفظ، فإن ابن داود، أو بالحري ابن الله يستحق أضعافاً مضاعفة كل ولاء ووفاء، مهما تعرض هذا الولاء أو الوفاء للامتحان القاسي أو المحنة الجارفة!!... أتاي المنتصر لقد أعطى هذا الغريب شرف القيادة في المعركة، إذ قسم الجيش إلى فرق ثلاث واحدة بيد يوآب، والأخرى بيد أبيشاي، والثالثة بيد أتاي الجتي، ولعل هذا كان فخر الرجل ومجده، وهو فخر كل من يدعي للقتال في معركة المسيح، وهو الفخر الذي طالب بولس ابنه تيموثاوس بأن لا ينساه أويتخلى عنه عندما قال له: "فاشترك أنت في احتمال المشقات كجندي صالح ليسوع المسيح"... وإذا كان أيوب يذكرنا بالحقيقة التي تتابع كل إنسان على الأرض: "أليس جهاد للإنسان على الأرض وكأيام الأجير أيامه؟!!" فإن السؤال لم يعد بعد: هل نجاهد أم لا؟!!. إذ لابد أن هناك جهاداً محتوماً يواجهنا لكن السؤال: ما هو نوع هذا الجهاد؟!!.. هناك معركة طرفاها داود وأبشالوم، المسيح والشيطان، الخير والشر!! فأي جانب تأخذ في المعركة؟ وأي مصير نرتبط به في قصة جهادنا الأرضي؟!! هل نأخذ المكان إلى جانب أبشالوم، نجاهد الجهاد الآثم الشرير المحرم، الذي لابد أن يلحقه الضياع والموت والهلاك الأبدي؟.. أم نأخذ جانب داود؟ أو بتعبير أصح، جانب ابن داود لنغني في النهاية مع من قال: "جاهدت الجهاد الحسن أكملت السعي حفظت الإيمان، وأخيراً قد وضع لي إكليل البر الذي يهبه لي في ذلك اليوم الرب الديان العادل وليس لي فقط بل لجميع الذين يحبون ظهوره أيضاً!!".. كان البادي حسب الظاهر أن الغلبة ستكون إلى جانب أبشالوم، إذ أن الذين مع داود لا يزيدون عن حفنة لا يمكن أن تقارن بالسيل المخيف من المتمردين الثائرين، ومع هذا، فإن أتاي واجه المستقبل المجهول بالنفس المطمئنة الراضية في الموت أو الحياة، وهذا في حد ذاته هو النصر الذي ما بعده نصر فالمؤمن -شاهداً أو شهيداً- منتصر في كل الحالات مع المسيح، لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح!!.. إن الهزيمة في حياة المؤمن، لا ترتبط إلا بشيء واحد، هو وقوعه في السقوط والخطية،.. أما ما عدا ذلك، فهو النصر، بل هو أكثر من النصر إذ: "يعظم انتصارنا بالذي أحبنا"... طلب داود أن يدخل في المعركة، فرفض أتباعه، وطلبوا أن يبقى في المدينة ليكون نجدة لهم إذا ما حزب الأمر واشتد القتال،.. على أننا وإن كنا نقاتل في معركة المسيح، وإن هذا هو حظنا وقدرنا، فإن المسيح لا يبقى كداود بعيداً عنا، بل سيرقبنا لينجدنا، حتى يستطيع الواحد منا أن يقول بكل فخر ويقين: "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" وسنجد أنه مهما كانت المقتلة العظيمة بين القلة مع داود، والكثرة مع أبشالوم، فإن المعركة ستنتهي على نحو مثير مفاجيء، بسقوط العدو وسحقه، مما سيفعله السيد في المعركة الأقسى والأعظم: "وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً!!".. عاد أتاي الجتي مع داود إلى أورشليم في موكب المنتصرين، ولا أعلم ماذا كان إحساسه في ذلك، أو ماذا كان مذاق النصر عنده، وقد سقط التمرد والبغي، والشر والفساد أمام الصدق والحق، والأمانة والرحمة،.. لكني أعتقد أن أتاي عاش طوال عمره يذكر تلك اللحظة الحاسمة من حياته! حيث واجه الاختيار الأقسى والأصعب والأشد،.. ولعله علم أولاده وأحفاده -في الصراع بين الحق والباطل- أن يقولوا كما قال هو ذلك اليوم القديم: "حي هو الرب وحي سيدي الملك إنه حيثما كان سيدي الملك إن كان للموت أو للحياة فهناك يكون عبدك أيضاً"...
المزيد
23 نوفمبر 2019

أبيجايل

واسم الرجل نابال واسم امرأته أبيجايل مقدمة لا أستطيع أن أفكر في المرأة القديمة أبيجايل، دون أن يخطر ببالي على الفور منظر طائر من أجمل الطيور، وأرخمها صوتًا، في قفص من ذهب، والسامع يكاد يلحظ في أغانيه نوعًا من الحزن، والأسى، والبكاء، يختفي وراء جهد من صبر وقناعة وأمل وتسليم، إن الكتاب لا يتحدث كيف زفت هذه المرأة جيدة الفهم وجميلة الصورة، إلى رجل أحمق رديء القول والتصرف والعمل، ولكنها أغلب الظن هي واحدة من ذلك الصف الطويل من الضحايا اللواتي يذهبن ضحية خداع المادة والثروة الطائلة، ولئن كان زواج ميكال نوعًا من الزواج السياسي أو المصلحي الذي تمليه غاية بعيدة تماماً عن الأصل في كل زواج، فإن زواج أبيجايل، هو ذلك النوع من الزواج المادي، الذي تباع فيه المرأة وتشترى كأية صفقة مادية من عقار أو منقول، وتحسب في أفضل الحالات، واحدة من الأثاث، وتحفة من التحف يتلهى بها الناظر دون أن يدرك أنها من قلب ولحم، وأن قناطير الذهب ليست بذات أهمية إلى نفسها ومشاعرها، كنغمة حب، ومناجاة وجدان، وتعانق مشاعر، وتكاتف شركة، هي المعاني الأولى والأخيرة لفكرة الزواج كما شرعه الله وأبدعه في حياة الناس في أي مكان يعيشون فيه على ظهر هذه الأرض!! على أن المرأة وقد وقعت الواقعة لم يكن لها خلاص، سوى أن تصبر على مأساتها، وتتطلع إلى الله، الذي له وحده على الدوام مخارج في الموت، وقد مد الله اليد على نحو قضائي يفعله، عندما تقفل كل السبل، وتعجز جميع المحاكم الأرضية أن توجد حلا مرضيًا عادلاً نهائياً... والآن لنتأمل المرأة وقصتها وما فعلت وما وصلت إليه، وكيف فتح الله الباب الموصد على نحو فجائي مثير: أبيجايل الزوجة الجميلة إن معنى الكلمة «أبيجايل» بهجة أبيها، ويبدو أنه من اللحظة التي ولدت فيها كانت أشبه الكل بالقمر الجميل الذي رآه الأعرابي ذات ليلة وهو يسير في قلب الصحراء وقد استوى بدرا، وقد ألقى نوره الفضي في كل مكان، فأخذ الأعرابي بسحر جماله، وهتف، وهو يتطلع إليه قائلاً: ماذا أقول لك؟ هل أقول لك رفعك الله؟ وها أنت مرتفع!! جملك الله؟ وها أنت جميل وما بعدك من جمال! إذا فكل ما أقول أبقاك الله على ما أنت عليه من رفعة وجمال! وربما قال أبو الصغيرة أبيجايل وهو يتطلع إليها بهذا الإحساس المفرط من البهجة والمسرة، وقد أشرقت العناية على نفسه، وعلى بيته بهذه الجميلة الرائعة البهية، إن جمال هذه المرأة كان على الأغلب من ذلك النوع النادر من الجمال الذي يقع أشد الوقع في نفوس جميع الذين يرونها من أول لحظة، ولهذا خلبت لب نابال عندما رآها، وعزم على أن يقتنيها، مهما بذل من مال أو تكلف من ثمن، ولعل هذا الجمال بعينه هو النسمة النقية الهادئة التي هبت على وجه داود، وهو بركان ثائر في طريقه إلى الانتقام المروع من زوجها الأحمق نابال، هذه النسمة الندية التي أوقفته بغته ليعود إلى وعيه ويستيقظ ويستمع إلى صوتها الساحر وندائها الرقيق، ليفيق ويتراجع عما هو مقدم عليه، مما كان من المتوقع أن يندم عليه طوال عمره لو أنه لم يتوقف عنه في اللحظة الأخيرة. على أنه من الواضح أن المرأة كانت متفوقة في شيء آخر، في ذكائها اللامع وذهنها المتوقد، وان الكتاب في عرض شخصيتها، وضع فهمها قبل جمالها أمام الأنظار، وذلك لأن هذا الفهم كان في الواقع بمثابة الهالة الرائعة العظيمة لجمالها النادر، فإذا كنت مثلاً توخذ بجمالها قبل أن تتكلم، فإنك ستذهل بما تنطق من در الحديث وجوهر الكلام، ويكفي أن نرى نموذجًا لهذا، في ذلك الحديث البليغ الساحر الذي تكلمت به إلى داود، وضربت على أدق وأرق الأوتار في قلبه، فلم تعترف بالذنب فحسب، بل ذكرته برسالته العظيمة التي وضعها الله على كتفيه، وأنه مهما يصبه من نفي وتشريد وآلام، فانه عزيز على قلب الله، وأنه محفوظ في حزمة الحياة مع الرب، وأما أعداؤه فسيرمون من كفة المقلاع، وكأنما كانت تذكره بقصته مع جليات، وكيف حفظه برعايته، وأسقط الجبار العملاق بضربة واحدة قاضية برمية حجر!! كما أنها بذلك رفعت قلبه ونفسه عن طلب الانتقام، وهي تؤكد له أن النصر قريب، إلى ذلك الحد الذي ترجو فيه معه ألا ينساها عند ما يبلغ مجده وملكه حسب وعد الله الأكيد الصادق، وهل ينسى الله من يخدمه بالأمانة، ويحارب حروبه ولم يوجد فيه شر قط كل الأيام!!. هذا الحديث أو بالحرى الدفاع لا يمكن أن يصدر إلا عن محام من أبرع وأقدر المحامين ممن يدركون نقط القوة والضعف في القضية التي يمسكون بها، ويعلمون كيف يبدأون، ويسيرون، وينتهون في خط الدفاع الذي رسموه من أول الأمر، ومثل هذه المرأة تصلح في أيامنا هذه أن تقف في أعظم المحافل الدولية وأعلى محاكم الدنيا ليجلجل صوتها بسحر وبلاغة تذهب مذهب المثل والفصاحة والحجة في كل مكان!! على أن حكمة المرأة وبلاغتها لا تقف عند الحدود النظرية أو فلسفة الكلام، لقد كانت كما هو ظاهر من لغة الكتاب سريعة التصرف أذ أدركت الأثر الوشيك الحدوث لتصرف زوجها الأحمق، ولو أنها لم تسرع وتبادر إلى إنقاذ الموقف، وتوانت ولو إلى ساعات قلائل، لقضى الأمر، وجاء عملها بعد فوات الأوان، أنها من ذلك النوع الذكي الذي ينتهز الفرصة ويحسن التوقيت، ويتصرف بعمق وتأمل ودون جلبة، دون أن تخبر زوجها، الذي لم يكن في وعيه، إذ كان مخمورًا مع صحبه في حفل ماجن كبير، وكان من العسير أن تخبره بشيء حتى يفيق من سكره ويثوب إلى رشده! ألا ما أجمل أن تتصرف المرأة في بيتها في وقت الكارثة أو الأزمة الطارئة في حنكة وصمت وهدوء، بتوازن مطلوب، وبديهة مجهزة، وعلى وجه الخصوص إذا جاء الأمر نتيجة حماقة زوج، أو شطط أو خطأ من واحد من أهل بيتها لا يحتمل معه تواكل أو جمود أو سكوت!. ولا يغرب عن البال أن هذه المرأة إلى جانب هذا كله كانت امرأة وديعة، لم يخرجها الجمال أو الفهم أو الثروة إلى نوع من الكبرياء أو الشموخ أو التعظم انظر إليها وهي تقترب من داود، إذ تنزل عن الحمار وتسقط على وجهها، وتسجد، وترى في نفسها أمة، وجارية مذنبة، تحتاج إلى صفح وغفران من سيد تجثو عند قدميه، وليس هذا لمجرد أن تدفع عن نفسها وبيتها شرا يوشك أن يحدث، بل لأنها كما وصفت فيما بعد نفسها لداود: «هوذا أمتك جارية لغسل أرجل عبيد سيدي».. فإذا أضفنا إلى ذلك كرمها الذي ظهر فيما قدمته لداود، ولا يظهر هذا الكرم في تعداد الخبز والخمر والخراف والفريك والزبيب والتين، الذي قدمته بكثرة ووفرة، بل في ذلك الاستحياء الذي قدمته به، إذ هو لا يصلح قط لداود، فإنه أعلى وأسمى من هذا كله بل هو: «للغلمان السائرين وراء سيدي». وأجمل من كل هذه الصفات إن المرأة كانت تقية، فبينما يقامر زوجها على الفرس الخاسر، إذ يقف إلى جانب شاول المرفوض والمطرود من الله، تقف هي إلى جانب داود المختار من الله، أو في لغة أخرى إنها كامرأة مؤمنة تقف إلى جانب الحق الإلهي، في الجانب الأضعف ظاهريًا، والذي يعاني الكثير من الاضطهاد والآلام والضيقات والمتاعب والتشريد. أبيجايل والصفقة الخاسرة وما من شك في أن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن بعد أن عرفنا أبيجايل على هذه الصورة الرائعة الجميلة، كيف أمكن لهذه المرأة الفاضلة أن تتزوج هذا الجهول الأحمق، هنا نقف أمام صفقة قاسية خاسرة، تعد من أشر وأقسى الصفقات التي ما تزال إلى اليوم تتكرر عندما تتدخل المادة لتربط بين اثنين يختلفان في كل شيء، وقل أن يتفقا أو يلتقيا حتى حول المادة التي ظن كلاهما أو ظن أحدهما أو الآخرون أنها يمكن مع الأيام أن تجمع بين المتناقضين عقلاً وخلقًا وثقافة وروحًا!!.. أما نابال فأغلب الظن أن لبه طار، وهو يرى هذه المرأة الجميلة الصورة، ففعل ما يفعل الكثيرون من الأثرياء وهواة المتاحف، عندما يرون صورة جميلة لمصور مشهور، فيسرعون إلى اقتنائها، ولو كلفتهم عشرات الألوف من الجنيهات، ويعلقونها في مكان الصدارة من بيوتهم، مع هذا الفارق، أنه قد يكون لهم من الفهم والتذوق ما يجعلهم يدركون موضع العظمة والجمال والجلال والفن في كل بوصة مربعة فيها، وتكون لهم مصدر ثراء ذهني واسع كلما نظروا إليها أو أحدقوا فيها!! على العكس من ذلك الأحمق نابال الذي كان يواجهة الجمال الحسي الرائق في كل لحظة في البيت، وهو غافل عنه وأعمى في كأسه وطاسه التي يعب منها، ولا يكاد يفيق، ومع أنه اشترى المرأة بما دفع من مهر، فانه وقد أمتلكها، أضحت كأي ملك مخزون لا ينتبه إليه صاحبه أو به يستفيد!!.. أما من جانب أبيجايل أو أبيها فان الأمر محير، يظن البعض أن الفتاة لم تستشر في الأمر، وأن الثروة الهائلة التي كانت لنابال غطت حاله أو واقعه، فلم يفطن أبوها، أو ربما لم تفطن هي حتى وقعت الكارثة، ولم يعد هناك مكان لرجعة أو ندم، ويعتقد أيضًا أنه ربما كان انتساب الرجل إلى عائلة مشهورة، وإلى اسم قديم، مما شجع على التصور أن الخلف يمكن أن يكون مثل السلف، وأن نابال يمكن أن يأخذ شيئاً من جده الكبير العظيم كالب بن يفنة، والذي كان واحدًا من ألمع الأسماء أيام موسى، وكان قرينا صادقًا وعظيمًا ليشوع بن نون الذي جاء بعد موسى وكان تاليًا له، ولكن ما أكثر ما تخلف النار تراباً ورماداً، وما أكثر ما يأتي الأبناء على صورة لا تكاد تعرف شيئًا عن تاريخ الآباء أو تقاليدهم أو ما توارثوه من قيم ومثل ومباديء! أجل أنه حسن أن يفكر الراغبون في الزواج في الأسرة التي ينحدر منها من يرغبون في الارتباط بهم، غير أن هذا إذا حدث لا يمكن أن يكون قبل البحث عن الشخصية ذاتها، ومدى ما تملك من مقومات أو صلاحيات للزواج، فلا يكفي أن تتزوج الفتاة أحمق أو جاهلاً أو عليلا أو متخلف العقل، أو فاسد الأخلاق، لمجرد أنه ينتمي إلى أسرة شهيرة أو معروفة بين الناس،.. كانت العلاقة بين أبيجايل ونابال علاقة زوجين يختلفان في كل شيء، فهي دمثة الأخلاق وهو فظ كما يقول واحد من الغلمان لا يمكن الكلام معه، وهي كريمة وهو أناني لا يعطي من وليمته لآخر، إلا إذا رام منفعة أو بحث عن مقابل، وهو نزق، وهي ودودة، وهو جحود وهي متدينة، وهل يمكن لعلاقة كهذه أن تستقر وتهدأ، والزوج كما يصفه الوحي رجل قاس؟ وكل خيالي يتجه إلى المرأة وهي تبكي ليالي متواصلة على قساوته مع الإنسان أو الحيوان على حد سواء، ومع التصرفات القبيحة الرديئة التي تصدر منة في كل يوم، وكل خيالي يتجه إلى ما لا ينتهي من صور مماثلة، صور أولئك الذين لا يعرفون عن الزواج، سوى صفقة، أو صيد يعتقد شوبنهرر عدو المرأة أن الفريسة فيه على الدوام هي الرجل، ومع أننا لا نتفق مع أمام المتشائمين على ذلك، إلا أننا ننتهي ولاشك، أن كل زواج ينبني على المادة لابد أن يكون فيه ضحية، سواء كانت هذه الضحية هي الرجل أم المرأة مادام قد خرج عن الأساس الروحي الذي قصده الله من الزواج بين الناس في الأرض. أبيجايل والنجاة المفاجئة وهذا يأتي بنا إلى ختام قصة هذه المرأة مع زوجها نابال على نحو مثير فجائي لم تكن متوقعة بمثل هذه السرعة الإلهية المباغتة، لقد وقفت في طريق العاصفة الهوجاء التي كان من المستحيل أن تفرق بينها وبين زوجها وبيتها، يوم هبت عليها من داود الثائر الغاضب، ورجعت إلى بيتها وقد واتاها النجاح على نحو كامل، لتجد زوجها غارقًا في سكره حتى الطامة، ولم تستطع أن تخبره بشيء كبير أو صغير إلى ضوء الصباح حتى يفيق، واذا أخبرته، كما يقول الكتاب، مات قلبه فيه وصار كحجر، أو مات كما يفسره هوايت: بحجر في قلبه، لقد مات نابال من الكبرياء والغضب، مات من مرض غريب، وأعني به مديونيته لزوجته، وقد كان يؤثر أن يموت بسيف داود على أن ينجو بوساطة زوجته وشفاعتها وتوسلها، وهو لا يرضى أن يصور بأنه أحمق فيما فعله في ذلك اليوم مما جلب عليه كل ما حدث، ولو أن نابال فعل شيئًا آخر، لو أنه اعترف بما فعلته زوجته، وقبل يديها، وقدميها، لربما كان له تاريخ آخر، ومصير آخر، ولربما بقي، وعاش معها، حتى أصبح مسنًا، ينعاه شعبه وجماعته، ويموت كرفع الكدس في أوانه، ولكن نابال مات لما ضربه الرب، لشره، وجبنه، وحماقته، وكبريائه، وقسوته، وغيرته،... أما المرأة التي كانت شريكه له، والتي رجت له ولنفسها الحياة من سيف داود. ما كانت تتوقع وقد أوصد عليها باب الحياة الزوجية، أن يفتح سجنها، أو تخرج من باب القفص الذهبي بين عشية وضحاها، بعد مرور عشرة أيام فقط من تلك الواقعة،.. وهكذا مات نابال، لتعود المرأة بحياة الترمل الى استرداد ما كاد يضيع من طعم الحياة ومعناها، لو أنها بقيت في أسره وقصره،.. بل لتعود من جديد قبل أن يذهب الشباب وتدور الأيام زوجة لداود، تلد له، وتعيش معه، على معنى أصح وأقدس وأجمل وأكمل، من معاني الحياة المقدسة أمام الله والناس، وهكذا تذهب المرأة مثلاً لمن يستسلم ويسلم أمره لقضاء الله وعدله، وقد يأتيه القضاء على نحو أسرع مما كان يظن، وعلى وجه أفضل مما كان يتصور، وعلى وضع أحسم مما كان يتخيل أو يحلم كما فعل الله مع المرأة القديمة العظيمة أبيجايل زوجة نابال الكرملي!!..
المزيد
16 نوفمبر 2019

إبنة يفتاح

«فقالت له يا أبي هل فتحت فاك إلى الرب فافعل بي كما خرج من فيك» مقدمة يقول وليم جيمس الفيلسوف الأمريكي وعالم النفس الكبير إن العهود شيء هام ولازم للنفس البشرية لأن الإنسان بطبعه ملول كسول في حاجة إلى ما يحفزه وينهضه ويمنعه من التقهقر والتراجع والنكوص ونحن لا نعرف عظيمًا من عظماء التاريخ أو بطلا من أبطال الإنسانية إلا وارتبط بعهد ما أيا كان هذا العهد ونوعه... والعهود تهدف إلى غايات ثلاث: فأولها وأبسطها العهد الذي يقيمه الإنسان بينه وبين نفسه ليعلو بهذه النفس وينشط بها في أية صورة يتصور هذا العلو والنشاط كالعهد الذي فاه به بتهوفن في صباه أن يكون آية الموسيقى في الدنيا، والعهد الذي نظمه شللي ولما يزل صبيًا يافعاً ألا يخضع للظلم والقيود وأن يعيش حرًا في أوسع ما تشمل كلمة الحرية من معنى. على أن هناك ضربًا من العهود أعلى وأنبل يتقيد به الإنسان لا من أجل نفسه بل من أجل الآخرين كذلك العهد الذي قطعه هانيبال قديمًا من أجل قرطاجنة بأن يعيش لها ويكافح روما ويمقتها إلى الأبد وذلك العهد الذي أخذه أبراهام لنكولن على نفسه من أجل تحرير العبيد حين رأى مرة في سوق النخاسة فتاة صغيرة تعرض للبيع وتركل كما تركل الكلاب فرأى فيها الإنسانية كلها تباع وتشتري فتألم وثار وآلى على نفسه أنه إن واتته الفرصة لابد يحرر بلاده من هذه الوصمة البشعة المهينة وذلك العهد الذي تقيد به كليمنصو بطل فرنسا في الحرب العالمية الأولى حين قال لأبيه الذي عانى ظلمًا واضطهاداً شديدين «سأثار لك يا أبت» فأجابه الأب: «اذا أردت أن تثأر لي فاعمل لأجل فرنسا».. في نطاق هذه العهود تدخل كل العهود الأدبية والاجتماعية والخلقية وما أشبه. على أن أعلى العهود وأسماها وأقواها وأرهبها هو ذلك العهد الذي يتوجه به الإنسان إلى ربه فيربط نفسه بالرب بهذا العهد ولئن جاز للإنسان أن يتحرر من عهود إزاء نفسه أو إزاء الآخرين رغم ما في هذا من الضعة والنقص والفشل، فالعهد الذي لا يفصم والذي لا يستطيع أن يتحايل عليه أو يتخلص منه أو يكسره دون أن يتحايل على نفسه أو يتخلص منها أو يكسرها.. هو العهد الذي يقطعه الإنسان لمجد الله. في الكتاب عهود كثيرة من هذا القبيل حدثت بين الإنسان وربه في ظروف متفاوتة ولأسباب متعددة كمثل عهد يعقوب الذي قطعه في بيت إيل وهو يضرب في الأرض وحيداً طريدًا غريبًا أفاقاً في طريقه إلى حاران وعهد موسى في حوريب بعد أن تسلم بنو إسرائيل الناموس وقدم فتيانهم ذبائحهم للرب ورش كتاب العهد بالدم وعهد يشوع حين جاءه الجبعونيون يطلبون استئمانهم وتحالفهم مع شعب الله وعهد عزرا في أورشليم يوم قضى بفرز النساء الغريبات اللواتي اختلطن بالزرع المقدس.. هذه وأمثالها عهود قوية بينها جميعًا سيبقى مدى التاريخ صورة حية مرهبة مروعة لقوة العهد وسطوته وسلطانه كذلك العهد الذي قطعه يفتاح الجلعادي والذي كان ثمنه المفزع المخيف ابنته الوحيدة... ولقد آثرت أن أتحدث اليكم الآن عن هذه الابنة وأن أضعها أمامكم في وضعين يشملانهما في الحياة والموت لأريكم كيف كانت هذه الفتاة عظيمة في حياتها وعظيمة في موتها أو أن شئتم فقولوا معى في تعبير أدق أنها كانت عظيمة في موتها لأنها كانت عظيمة في حياتها.. في ساعة النهاية والموت قال أوغسطس قيصر للمحيطين به: «ايتوني بمرآة». فلما أتوه بها نظر إلى وجهه بنشوة وجذل وابتهاج وصفف شعره ثم صاح «أيها السادة لقد عملت حسنًا فصفقوا لي».. وصفق السادة للرجل العظيم والإمبراطور الأول للإمبراطورية الرومانية القديمة ولكن حياة أوغسطس قيصر امتلأت بالمخازي التي روعته هو وأثارت ضميره وجعلته مراراً كثيرة يجلس على قارعة الطريق في ثياب ممزقة يستعطي لعله يخفف شيئًا من عذابات نفسه وذكرياته الأليمة الصارخة، مثل هذه المخازي تجعلنا نتردد كثيرًا في مشاركة السادة تصفيقهم وتهليلهم للإمبراطور الوثني القديم ولكن من منا يتردد أن يحني رأسه ويصفق مع التاريخ أعجابًا بابنه يفتاح التي كانت في الحياة والموت على السواء آية في النبل والعظمة والجلال؟ إذن نتأمل هذه الفتاة في كلمتين: الفتاة وحياتها العظيمة: الفتاة وموتها العظيم. الفتاة وحياتها العظيمة ما اسم هذه الفتاة؟ لا نعلم وكل ما نعرفه أنها كانت تكني بابنه الرجل العظيم يفتاح، ما اسم أمها؟ لا ندري! وكم كنا نود أن نعرف شيئًا عن هذه الأم التي يؤكد الكسندر هوايت أنها ولابد أم عظيمة فمثل هذه الفتاة الرائعة لا يمكن إلا أن تكون وليدة أم ممتازة واذا كان مندل في قانونه عن الوراثة يؤكد لنا بتجاربه العديدة الخاصة أن الصفة التي يشترك فيها الأب والأم تترك أثرها العميق في النسل، أفيكون غريبًا أذن أن نرى هذه الفتاة تتشابه أباها في كثير من الصفات بل ربما تسمو عليه وترقى وخاصة في استمساكها بوعده الرهيب الذي فاه به أمام الرب. كانت هذه الفتاة وحيدة أبويها ويخيل إلى أن العناية أثرتها بأفضل ما في الأبوين وركزته فيها تركيزًا رتيبًا بديعًا قويًا... دقق النظر فيها خلال السطور القليلة التي وضعها الوحي عنها ألست ترى نفسك أزاء فتاة دفاقة الحيوية ملتهبة الاحساس؟ تخرج بالدفوف والرقص لتلقى بأبيها يوم النصرة وتبكي مع أترابها من الفتيات والعذاري يوم النهاية والموت ومثل هذا لا ينبعث إلا عن ربات العواطف المتوقدة والأحاسيس المشتعلة.. وهي تعد طرازًا ساميًا للشعور الوطني العميق، ألم تكن أولى الساعيات وقائدتهن في استقبال أبيها يوم رجوعه من كسرة الأعداء والانتقام للوطن؟ على أن هذا لا ينبغي أن يجعلنا نغفل إلى أي حد كانت تجل هذه الفتاة أباها وتعتز به.. في الحقيقة أنها تصلح نموذجًا بديعًا يجدر بكل فتاة أن تحتذيه في الخضوع للأباء والولاء لهم. لقد رافقت أباها في كل ظروفه، وتمشت معه في كل ظروفه، وتمشت معه في كل عواطفه، وكان كلاهما مثلين حيين للوفاء الأبوي البنوي.. لقد ساءلت نفسي مرارًا: لم لم يتزوج يفتاح كأغلب القضاة بنساء عديدات فينجب بنين وبنات كثيرين، ويحيي لنفسه ذكرًا ممتدًا طويلاً، في وقت كان يعتقد فيه الرجل أن أقسى ما يصاب به ألا ينجب نسلاً من الأولاد يحفظون اسمه من التلاشي والانقراض؟ أغلب الظن أن يفتاح قصر حبه على زوجة واحدة، وابنه واحدة، وأن هذه الفتاة، كأمها بادلته حبًا بحب وإعجابًا بإعجاب، أيها الآباء، والأمهات!! إلى أي حد تمتد الصلة بينكم وبين أبنائكم وبناتكم فيرون فيكم ما يسترعي الإعجاب والولاء والتقدير!؟.. بعد أن نفى نابليون في جزيرة سانت هيلانة ذهب ولده الصغير إلى النمسا مع أمه، وكان اهتمام النمساويين الأكبر أن ينسوا الولد كل صلة بأبيه.. وحدث مرة أن اجتمع أكابر القواد النسماويين مع الولد حول مائدة، وابتدأوا يتسامرون ويتجادلون حول أفضل قائد في أوروبا، فذكر هذا ذاك وآخر غيره، وانتظر الولد أن يفوه أحدهم باسم أبيه فلم يسمع!! وأخيرًا ضرب بقبضته الصغيرة المائدة وقال: أيها السادة! أظن فاتكم جميعًا سيدهم!؟ فسألوه: من هو؟ فأجاب أنه أبي!!.. وقف الشاب العربي بين ضيوف أبيه حائرًا، وهو يوزع أنصبه الطعام، بأيهم يبدأ وكلهم شيخ جليل وقور مهيب؟ ولاحظت الجماعة حيرته فقالت له: وهبناك الحرية فاختر من تظنه الأفضل وابدأ به، فما كان منه إلا أن توجه بين تهليل القوم وإعجابهم نحو أبيه وبدأ به. عندما نذكر الوصية المقترنة بوعد «أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك» وعندما تتأمل اسحق في استسلامه الوديع لأبيه فوق جبل المريا، وابنه يفتاح في ولائها الرائع لأبيها، والركابيين في حفظهم العجيب لوصية يوناداب بن ركاب أبيهم. بل عندما نتأمل أول الكل وقبل الكل ذلك الذي وهو السيد والحر والملك قيل عنه أنه عاش في الناصرة خاضعًا لأبويه، سنجد أسبابًا عديدة صالحة للولاء للأبوين والخضوع لهما، حتى ولو أدى الأمر بنا نحن البنين إلى الاحتراق. كانت ابنه يفتاح أيضًا فتاة شجاعة، فذة في شجاعتها، قابلت مصيرها بحزم وصبر وبسالة، كان يمكن للضعف النسوي أن يتسرب إليها فيسوقها إلى التردد والتهرب والنكوص، خاصة وهي في قوة الشباب ووفرة الحيوية وميعة الصبا، ولكنها لم تفعل، بل ما أسرع ماردت على أبيها الباكي بإجابتها المنتصرة القوية.. هل كانت الوراثة فقط سر الجمال في حياة ابنة يفتاح وعظمتها!؟ كلا بل هناك أمر آخر لعله كان أقوى أثرا وأبلغ نتيجة وأعنف توجيهًا. أتدري ما هو!؟ الحزن! الألم! الحياة المعذبة التي عاشتها هذه الفتاة طوال حياتها!! إن ابنة يفتاح تعد من أتعس من عرفت هذه الأرض، لقد كانت حياتها بؤسا وشقاء وعذاباً متصلاً، ولما جاءها اليوم الذي خيل إليها أنه يومها السعيد جاءها يحمل في طياته كلمة الفزع والموت والنهاية الرهيبة. كانت هذه الفتاة تحمل بين جنبيها ذلة الماضي البعيد، لم يكن أبوها ابنًا شرعيًا لأبيه، أخطأ جدها فجاء أبوها نسيجًا ذليلاً مهينًا للخطيئة القاسية الكبيرة، ونظر المجتمع نظراته المفزعة الرهيبة إلى الوليد، ولم يقل إنه لا ذنب له فيما جناه أبوه، بل عاقبه كمتهم ولم يبصره كضحية، وحين أرادت ابنته أن ترفع رأسها وتسير، رأت هذا الماضي التعس يترقبها، فسارت على الأرض خفيضة الرأس كسيرة الطرف معذبة الذكرى، وطرد يفتاح من بيته ووطنه وسار يضرب في المنفى على غير هدى، وولدت ابنته في أرض طوب بعيدة عن بلادها، وعن الحياة الهادئة المستقرة المريحة.. ويوم جاءها الهدوء والأمن والاستقرار، ويوم قدر لها أن تعود إلى أرض بلادها، وقدر لأبيها أن يرد إليه مجده واعتباره ويوم أمسكت بكأس فجأة، واستبدلت بأخرى قاسية شديدة مريرة، ما أشقاها من فتاة، وأتعسها من حياة! هكذا نقول وهكذا نردد! ولكن كلا! بل ما أجمله من حزن! وأبدعها من مأساة! تلك التي تسلمتها يد الله، فصاغت منها الفتاة العظيمة الخالدة.. عرف أبوها الحياة المعذبة فعرف البطولة والكفاح والجهاد والثقة بالله والانتصار به، وسارت هي وراء أبيها في أرض الدموع والآلام لتشتعل وتتوهج وتضيء ببريق سني عظيم، ترى لو عاشت ابنه يفتاح في بيت وادع هادي آمن مستريح!؟ ترى لو عاشت ومعلقة الذهب في فمها، ولم تعرف من الحياة سوى السعة والتدليل والترويح والترضية! ترى لو عاشت وفي متناول يدها كل ما تشتهي وترغب وتطلب!؟ أكان يمكن أن تكون على ما رأينا من السمووالنبل والعظمة والتكريس ومعرفة الله!؟ أغلب الظن أن هذا كان يكون بعيدًا بل محالاً وألف محال.... وكم من القديسين - كما يقول وليم لاو - لولا الحياة المعذبة لما عرفوا طريقهم إلى السماء، فما أكثر من هوت بهم الرفاهية إلى العذاب الأبدي، وما أكثر من صعد بهم الشقاء إلى معرفة الله والشركة معه، قد نحسد فتاة على جمالها، ولكن هذا الجمال قد يكون مفتاح بؤسها وشقائها، ونأسف لدمامة أخرى، ولكن هذه الدمامة قد تكون طريقها إلى المسيح» أيها الإنسان الذي لا يعرف في حياته سوى العذاب المتواصل اذكر كلمة فرانسس بيكون: إنه إذا كانت الرفاهية بركة العهد القديم فالألم بركة العهد الجديد، وقل مع بولس: «لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيومًا»... «أسر بالضعفات والشتائم والضرورات والاضهطادات والضيقات لأجل المسيح لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي». الفتاة وعظمة موتها كان نذر يفتاح «إن دفعت بني عمون ليدي فالخارج الذي يخرج من بيتي للقائي عند رجوعي بالسلامة من عند بني عمون يكون للرب وأصعده محرقة» ورجع القائد وقد انتصر انتصارًا عظيمًا، وكانت ابنته أول من استقبله من بيته، فمزق ثيابه وصرخ: «آه يا بنتي قد أحزنتني وصرت بين مكدري لأنني قد فتحت فمي إلى الرب ولا يمكنني الرجوع» فهل تفهم من هذا أنه تمم نذره حرفيًا فيها بأن قدمها محرقة!؟ يعتقد كثير من المفسرين أنه تمم نذره، ولكن بصورة غير حرفية، بأنه عزل ابنته، وقدسها للرب، فظلت عذراء طوال حياتها لم تتزوج، ولما كانت الحياة العذراوية عارًا وقتئذ، فان الفتاة سعت إلى الجبال لتبكي عذراويتها، وحجة الآخذين بهذا الفكر، أن الذبيحة البشرية أمر وثني حرمه الله على إسرائيل تحريمًا باتا، وأن يفتاح رجل حل عليه روح الرب، وعده الوحي من أبطال الإيمان الذين ذكروا في الرسالة إلى العبرانيين، فمن المحال أن يصنع هذا، كما أنهم قالوا أن العبارة: «فالخارج الذي يخرج» يحتمل في الأصل أن تكون ذبيحة غير بشرية، ولكن هذا رغم صحته ومعقوليته وجوازه مردود ومنقوض، وأنا من أشد الناس اعتقادًا بأن يفتاح أتم نذره حرفيًا، قد يكون هذا خطأ منه، وقد يكون في هذا شيء من الوثنية التي تسربت إليه لطول بعده عن شعب الله والتصاقه بالوثنيين وقد يكون فاته أيضًا أن الذبيحة البشرية يمكن أن تفتدي كما فعل إسرائيل فيما بعد حين أنقذ يوناثان من يد أبيه، ولكنه مع ذلك أقدم على عمله بكل إخلاص وحمية وروية وتدبر، لأنه من غير المعقول أن الرجل كان يقصد في نذره إلى مجرد ذبيحة حيوانية كشاة أو ثور أو ما أشبه، لأن هذه الذبيحة من الضآلة بكيفية لا تتفق مع من يريد أن يعبر عن شكره العميق لله، واعترافه بإحسان الله الذي رد سبيه ليقوده في طريق النصرة والمجد، كان يفتاح في المصفاة إنسانًا مأخوذ الشعور متوقد العاطفة سليب الإحساس، سكب نفسه أمام الرب سكيبًا، ولأجل هذا كان يمضي علي ورقة بيضاء ليملأها صاحبها كما يود أو يرغب أو يشتهي، إنه بدون تحفظ أو توقف أو تمهل يريد أن يقول للرب: لست أملك يارب شيئًا يمكن أن يكون ثمينًا عليك، فاختر من عندي أعز ما أملك «الذي يخرج من بيتي للقائي.. وهذه الروح هي التي تستولى عادة على أصحاب النذور والعهود، إنهم عادة يتعهدون بشعورهم، أكثر مما يتعهدون بأفكارهم، ويتقيدون بعواطفهم أكثر مما يتقيدون بتأملاتهم، وذلك لأنهم على الأغلب يكونون في تلك اللحظة في أوقات حرجة دقيقة بائسة تقتضيهم الارتماء عند قدمي الله واستدرار حبه وعطفه وحنانه ورحمته.. وليس المهم في نظر الله أأخطأ الإنسان أم أصاب، بقدر الروح التي أملت هذا الصواب أو الخطأ، فمن صواب الإنسان ما قد يكون خطأ، ومن خطأ- إذا جاز هذا التعبير - ما قد يكون صواباً.. ألم يقل الرسول بولس مثلاً في سياق حديثه عن الطعام: «إني عالم ومتيقن في الرب يسوع أن ليس شيء نجسًا بذاته إلا من يحسب شيئًا نجسًا فله هو نجس... كل الأشياء طاهرة لكنه شر للذي يأكل بعثرة». قد تفعل شيئًا وتحس - بحسب ما لديك من النور والمعرفة والضمير - أنه سليم مستقيم أمام الله وهو في الواقع - أمام نور أكمل ومعرفة أوفر وضمير أكثر قوة وتدربًا - غير ذلك، ولكن الله سيحاسبك على قدر ما لك وما أخذت، وسيطالبك قبل كل شيء بالنية العميقة المستترة وراء عملك، ولذا فالعهود المتعجلة ينظر الله فيها إلى النية أكثر مما ينظر إلى العهد في حد ذاته، وليس أدل على ذلك من أن الوحي أظهر ارتياحًا على عمل يفتاح أكثر منه إلى الاستياء بذكره العذاري اللاتي كنا يذهبن كل سنة في شيء من الوفاء والتقدير والذكرى للبكاء على الفتاة العظيمة، هناك عهد شبيه في الكتاب المقدس حدث في شيء من العجلة والخطأ، ولكن الرب اعتبره وأقامه وعاقب على كسره... جاء الجبعونيون وهم سلالة من بقايا الأموريين إلى يشوع وبني إسرائيل، وهم داخلون إلى أرض كنعان، وخدعوهم بتظاهرهم أنهم جاءوا من مكان بعيد، حالة كونهم من إحدى المدن التي أمر الرب بالقضاء عليها، وطلبوا منهم عهدًا بمسألمتهم واستحيائهم وأخطأ الشعب فلم يسألوا الرب عن هؤلاء وقطعوا معهم عهدًا، ولما اكتشفوا بعدها أنهم قريبون إليهم وفي وسطهم ثار الشعب وأراد أن يقضي عليهم، ولكن العهد وقف حائلاً ضدهم، وبعد أكثر من أربعمائه وخمسين عاماً كسر شاول هذا العهد في غيرة عمياء، فعاقب الله إسرائيل حتى كفر داود عن خطية الكسر بصلب سبعة من أبناء شاول، وفي شريعة النذور والعهود نرى الله لا يعفي صاحب النذر والعهد من وفاء نذره وعهده، وهب أن فتاة في بيت أبيها أو زوجة في بيت زوجها تعجلت وذكرت عهدا أمام الرب دون تقدير أو مسئولية، ففي اليوم الذي يسمع الآب أو الزوج هذا العهد يمكن أن يبطله أو يثبته، فان انتهرها ونهاها في الحال يبطل العهد، وإلا فقد ثبت والتزم به، وصار وصيًا على اقامته وتنفيذه. نفذ يفتاح نذره حرفياً، وإلا فما الداعي لأن تذهب ابنته على الجبال لتبكي عذراويتها شهرين؟ وإذا كان الأمر قد اقتصر على تكريس حياتها للرب فلم البكاء، وكان أولى بها أن تغني وتفرح؟ وإذا كان بكاؤها يرجع لأنها ستحرم من الحياة الزوجية التي كانت تعد نعمة كبيرة للفتاة وقتئذ، فلماذا تبكي شهرين ولا تبكي أكثر؟ وما معنى القول إنها عند نهاية الشهرين رجعت إلى أبيها ففعل بها نذره الذي نذر؟ وكيف يمكن تفسير العادة الرتيبة المنظمة التي ألفتها بنات إسرائيل أن يذهبن من سنة إلى سنة لينحن عليها أربعة أيام في السنة؟ ولو سلمنا جدلاً مع ذلك أن أباها أبقاها عذراء طوال حياتها مقدسة للرب! فهل يكون نذره بأكمله قد تم... كلا إنه يكون فقط قد تمم الشطر الأول فيه «فالخارج الذي يخرج من بيتي... يكون للرب..» أما الشطر الثاني «وأقدمه محرقة» فلا يستقيم مع بقائها على قيد الحياة... إن كل المفسرين اليهود والمسيحيين حتى القرن العاشر الميلادي بما فيهم أوريجانوس والذهبي الفم وثيودور وجيروم وأغسطينوس أجمعوا على أن يفتاح نفذ نذره في ابنته تنفيذًا حرفيًا، والقرون الطويلة لم تعرف شيئًا عن التفسير الثاني حتى جاء الربي كيمتشي في القرن الحادي عشر وابتدعه، وسار في أعقابه من المفسرين من هالتهم هذه التقدمة البشرية المرهبة، ولكننا فيما أعتقد نتفق مع لوثر حين قال: «يؤكد بعضهم أن هذه التقدمة لم تتم، ولكني أظن أن بالنص الكتابي من الوضوح مالا نحتاج معه إلى تساؤل أو جدال أو تفسير». أجل ماتت ابنه يفتاح!! ورأى الله لها مالم يره لاسحق يوم المريا، أو للثلاثة فتية في أتون النار، لكنه على أي حال، رأى لها شيئًا عظيمًا مجيدًا هائلاً، لقد أضحت الشهيدة الأولى التي احترقت من أجله وفي سبيل مجده، فإن ابنة يفتاح ستبقى مدى الأجيال جذوة هائلة مشتعلة هيهات أن تضعف أو تخمد أو تطفيء.. أن السؤال الذي ما تزال تلقيه علينا هذه الفتاة العظيمة من وراء القرون هو: لمن أنا! ولمن حياتي ونفسي وذاتي؟ وهل أنا لشخصي أم لأبي وأهلي وبلدي ووطني وعشيرتي أو ما أشبه؟ كلا.. أنا لم أعد لواحد من هؤلاء جميعًا! لقد أضحيت له وحده، ذاك الذي مات من أجلي وقام، وقد اشتراني بدمه، وعلمني أن أغني وأرنم: فأنا لست لذاتي ليس لي شيء هنا كل ما عندي لفادي ال خلق وهاب المنى إذ فداني ذاك بالدم الكريم إنني أقضي زماني خادم الفادي الأمين باذلا جسمي وروحي وقوي عقلي الثمين إذ فداني ذاك بالدم الكريم ماتت ابنه يفتاح!! ونظرت إلى جمالها الرائع الحزين يدلف نحو الغروب، وقد انعكست عليه شعاعات سرمدية خالدة من النور، فرفعت يدي محييا، وصحت في لغة الحب والحزن والوفاء والإعجاب: وداعا أيتها الفتاة العظيمة!! وداعا أيتها النفس الحرة المنطوية على ذاتها في مطلع الحياة وبكور الأيام!! وداعا إلى حيث نلتقي! لاهنا في هذا الوادي التعس الخفيض، حيث ألفنا افتراش الثرى وتوسد الرغام، بل هناك فوق قمم الجبال العاليا حيث ارتقيت تأهبا للموت من أجل الله. ليتنا مثلك لا يتحدث سفرنا الحديث العظيم الخالد الا عن عظمة في الحياة، وعظمة في الموت.. «لأن ليس أحد منا يعيش لذاته ولا أحد يموت لذاته، لأننا أن عشنا فللرب نعيش، وأن متنا فللرب نموت، فان عشنا وأن متنا فللرب نحن، لأنه لهذا مات المسيح وقام وعاش لكي يسود على الأحياء والأموات»
المزيد
09 نوفمبر 2019

ابشالوم ابن داود الملك

"يا ليتني مت عوضاً عنك يا أبشالوم ابني يا ابني" 2صم 18: 33 مقدمة لست أعلم ما هو هذا النصب الذي أقامه أبشالوم في وادي الملك تذكاراً لحياته وقصته بين الناس؟!! أهو مسلة من المسلات كما يتصور البعض... أو هو هرم صغير من الأهرام كما يفكر آخرون؟!! أ هو بناء بني على صورة ما يحمل اسمه؟!! لقد أنجب أبشالوم ثلاثة أولاد وبنتاً حلوة جميلة كأخته ثامار، ومن ثم أطلق عليها اسم أخته!! ومات الأولاد الثلاثة صغاراً على الأرجح، ولم يكن له ولد يحمل اسمه، فصنع النصب المذكور وهو حي وأطلق عليه "يد أبشالوم" لكن أبشالوم في عقيدتي لم يكن في حاجة إلى هذا النصب على الإطلاق،... لأنه استطاع أن يصنع نصباً أعظم وأرهب وأكبر، في كل أجيال التاريخ، نصبه لا في وادي الملك القريبة من أورشليم، بل في وادي التاريخ كله،.. ولا يستطيع أبرع المصورين أو المثالين أن يصنع مثله على الإطلاق،... ولقد كتب الروائيون الكثير من القصص الرهيبة، لكنني لا أعتقد أن واحدا منهم، وهو يتحدث عن الجريمة والثورة والعقاب، أبدع قصة أعظم من قصة أبشالوم. في واحدة من الصور العظيمة لإشعياء، جاءت عبارة قائلة: "فقسوا بيض أفعى"... ومن المؤسف أن بيت الرجل العظيم داود امتلأ بفقس الأفعى!!.. مسكين أيها الملك القديم! لأن الحية القديمة أفرخت في بيتك بهذا الفقس القاتل، وكان الموت والعار والخطية والشر ما عنيت وعانى بيتك التعس، "ويد أبشالوم" ستبقى مرفوعة دائماً في كل التاريخ لكي تؤكد أن أجرة الخطية هي موت،.. والخطية حقاً خاطئة جداً!!.. وها نحن نواجه هذه المأساة ونحن نقرأ قصة أبشالوم المحزنة!!.. أبشالوم والجريمة عندما نقرأ قصة أبشالوم، يبدو على التو أمامنا أمران هامان: أولهما صدق الرواية الكتابية، والتي تشهد بالوحي الإلهي، فنحن لو ترك إلينا أن نكتب عن داود، الرجل الذي يأخذ لبناً بمزاميره الخالدة، وبطولته العظيمة، وغيرته على مجد الله، وخدمته الأمينة للسيد، لترددنا كثيراً أن نكتب عن مخازي بيته الفاضحة، حتى لا نصدم أفكار الناس أو مشاعرهم أو خيالهم، وهم يقرأون سيرته العظيمة الخالدة،... أو على الأقل كان من الممكن أن نترفق فيما نكتب أو ندثر أو نغطي، ما لا ينبغي حسب تصورنا، أن يعري على الصورة القاسية، التي نقرؤها علىها في الوحي الإلهي!!... لكن كلمة الله على العكس تعطي الصورة الواضحة المجلوة دون أدنى تردد أو إبهام أو غموض، مهما يصدم الناس في عواطفهم، لأن الأمر الآخر أن الكلمة تهتم بإبراز الخطية في بشاعتها وشناعتها وقسوتها وخبثها وامتدادها، وشرها المستطير،.. بل إنها تتغور إلى الأعماق لنرى سر الجريمة العميق البعيد الخفي المختفي... ولعلنا لو حللنا الجريمة التي كان أبشالوم واحداً من أبطالها وممثليها العظام لرأيناها ترجع إلى: البيت المزواج قد لا يستطيع الإنسان أن يصف مدى المرارة التي امتلأت بها حياة داود من أنه حول بيته إلى "وكر" للأشرار بتلك الحياة الغريبة التي ساعدت عصره، والعصور الأخرى، بتعدد الزواج، وهي اللعنة التي اكتسحت العصور القديمة، حتى جاء المسيح ورد البشرية إلى الأصل في الزواج امرأة واحدة لرجل واحد مدى الحياة،.. ولم يجز موسى الطلاق ألا وهو يربطه بقساوة القلب البشري،... إن امرأة شريرة واحدة في بيت رجل صالح كفيلة أن تحوله إلى الجحيم، فكيف بك الأمر لو أن هناك مجموعة متنافرة من مختلف الأنماط والألوان، ويكفي أن ترى بيت داود على هذه الحال، ونساؤه إلى جانب ميكال التي لم تنجب له أولاداً، كان هناك كما جاء في سفر أخبار الأيام: "وهؤلاء بنو داود الذين ولدوا له في حبرون أمنون من أخينوعم اليزرعيلية الثاني دانيئيل من أبيجايل الكرملية الثالث أبشالوم ابن معكة بنت تلماي ملك جشور الرابع أدونيا ابن حجيث الخامس شنطيا من أبيطال. السادس يثرعام من عجلة امرأته.. وهؤلاء ولدوا له في أورشليم شمعي وشوباب وناثان وسليمان من أربعة من بثشوع بنت عميئيل ويبحاز وأليشامع وأليفاظ ونوجة، ونافج ويافيع وأليشمع والياداع واليغلط، تسعة الكل بنو داود، ما عدا بني السراري وثامار هي أختهم".. وإذا كانت الأختان -ليئة وراحيل- لم تستطيعا العيش معاً في بيت واحد بسلام: "ورأى الرب أن ليئة مكروهة ففتح رحمها".. "كلما رأت راحيل أنها لم تلد ليعقوب غارت راحيل من أختها".. "فقالت راحيل مصارعات الله قد صارعت أختي".. وإذا كانت حنة قد رأت الويل من ضرتها فننة: "وكانت ضرتها تغيظها أيضاً غيظاً لأجل المراغمة"... فهل يمكن أن نتصور بيت داود وقد جمع ميكال العاقر المتعجرفة بنت شاول، ومعكة الوثنية أم أبشالوم بنت تلماي ملك جشور، وبثشبع أم سليمان، وأبيجايل المؤمنة الطيبة، وسائر النساء المختلفات، وغيرهن من السراري- هل يمكن لمثل هذا البيت إلا أن يكون بيتاً ممتلئاً بالانقسام والغيرة والتحزب، والحسد والعداوة، والمعارك الظاهرة والخفية؟؟.. وهل يمكن أن نرى الأولاد إلا في الصورة المنعكسة التعسة المحزنة لكل هذه؟!!.. لقد فقست الأُفعى بيضها في بيت مزواج!!... التربية الدينية ولا حاجة إلى القول أن التربية الدينية، في مثل هذا البيت كانت ضعيفة أو معدومة الأثر، وأغلب الظن أن داود لم يكن عنده من الوقت ما يعطيه لأولاده، ولعل بعض هؤلاء، وهم ينظرون أباهم، وهو شديد الاهتمام ببيت الله، وبالعبادة كانوا يحتقرونه كما احتقرته ميكال وهو يرقص أمام التابوت، ولعل سليمان كان أكثر الأبناء حظاً، لأنه كان في يد ناثان النبي الذي علمه منذ نعومة أظفاره،... كانت مزامير داود ترن في قلوب الكثيرين، ولكن موسيقاها البعيدة العميقة لم تصل إلى قلوب أولاده،.. فإذا أضيف إلى ذلك أن أغلب زوجات داود، كن بدورهن مفتقرات إلى الحياة الدينية المتعمقة، ولم يكن بينهم من تحرص على تربية أولادها كما فعلت يواكبد أم موسى وهرون ومريم، وكما فعلت حنة أم صموئيل،.. ومن ثم افتقر البيت العظيم إلى العمق الديني المنشور، ... وإذا كان في التقاليد اليهودية، أن يبدأ الولد في قراءة التوراة وهو في الخامسة من عمره، وأن يتقيد بالناموس في الثانية عشرة، وأن يدرس التلمود في الخامسة عشرة، وكان على الآباء اليهود -كما يذكر فيدخلون اليهودي السكندري- أن يعلموا أولادهم ويربوهم ليروا الله الآب وخالق العالم، قبل أن يتعلموا الناموس والشرائع المقدس، والتقاليد أو التعاليم غير المكتوبة، منذ الخطوات الأولى في حياتهم على هذه الأرض!!.. عندما كان داود فقيراً وبسيطاً وراعياً للأغنام، وعندما كان يغني فوق بطاح بيت لحم بأحلى الترانيم، شرب من كأس الشركة العميقة المروية مع الله،.. لكن أولاده وقد تربوا في القصور، وعاشوا حياة التنعم والترفه والغنى، لم تكن لهم هذه الفرصة الجليلة العميقة المباركة، ولسنا نظن أن واحداً منهم صاحب أباه ليغني له في أعماق الليل أو في وضح النهار، المزمور الثامن، أو التاسع عشر، أو الثالث والعشرين من روائع مزامير داود الخالدة!!.. من أجمل ما كتب لايل توماس الذي صاحب اللورد اللنبي ولورانس في الحرب العالمية الأولى، وهو يصف حياته وتربيته المنزلية: "كان أبي يصحبني مرات كثيرة في منتصف الليل ليريني الجبال الحمراء الغارقة في ضوء القمر، وكان يعود بهذا المنظر الجميل الفاتن إلى يد الله التي صنعت كل هذا ولقد زرع في أعماق نفسي الشعور الروحي الذي صاحبني وأنا أتجول في الأرض في كل ما يتصل بالكون، وكم كان يقضي أوقاتاً طويلة في فترات متعددة، ليقرأ لي ما كان يؤمن به أنه أعظم كتاب في العالم، الكتاب المقدس، وكان يقرأ الكتاب لا كما يقرأ أثناء الصلاة العائلية، بل كما يقرأه العالم المتفقه، ولقد جعل القصص الكتابية تسري في دمي وشراييني، وتضحى خلف جميع الاختبارات التي عرفتها في حياتي.. أما الكنيسة فكانت جزءاً حيوياً في حياتي، مثلها تماماً مثل المدرسة في حياتي، ومثل الطعام اليومي، ومثل أسلوب المعيشة، وكما أنك لا تفكر أو تناقش هذه كلها أو تحللها تماماً، كما لا تفكر في تحليل زوجتك إذ هي جزء من كل شيء فكذلك الكنيسة عندي جزء من كل شيء وأنا لم أفكر أبداً في الكنيسة من ناحية تحليلها أو المناقشة في ضرورتها، إذ هي جزء طبيعي عادي من اختباري اليومي، وأنا شديد الحماس في تشجيع الناس للذهاب إلى الكنيسة".. التأديب لعل من أعجب الأمور في داود ضعفه البالغ تجاه أولاده، إذ يبدو أن التأديب كان غريباً عن حياتهم، فإذا وصل بأمنون الشر إلى الدرجة الرهيبة التي فيها أذل أخته: "ولما سمع الملك داود بجميع هذه الأمور اغتاظ جداً" ولم يفعل أكثر من هذا الغيظ الذي أكل فيه نفسه، دون أن يلتهب أو يأكل ابنه وبقى أمنون حراً طليقاً إلى الدرجة التي شجعت أبشالوم على أن يقتص لنفسه ولأخته على النحو المرهف الذي حدث فيما بعد بعد أن بيت له: "ولم يكلم أبشالوم أمنون بشر ولا بخير لأن أبشالوم أبغض أمنون من أجل أنه أذل ثامار أخته"... والأمر عينه واضح في معاملته لابنه أدونيا الذي قيل فيه: "ولم يغضبه أبوه قط قائلاً لماذا فعلت هكذا".. ترى هل كان هذا كله واضحاً في ذهن سليمان وهو يتحدث عن التأديب قائلاً: "من يمنع عصاه يمقت ابنه ومن أحبه يطلب له التأديب" "رب الولد في طريقه فمتى شاخ لا يحيد عنها" "الجهالة مرتبطة بقلب الولد عصا التأديب تبعدها عنه" "لا تمنع التأديب عن الولد لأنك إن ضربته بعصا لا يموت تضربه أنت بعصا فتنقذ نفسه من الهاوية" "العصا والتوبيخ يعطيان حكمة والصبي المطلق إلى هواه يخجل أمه"... ومن المؤسف أن داود أطلق أولاده جميعاً إلى هواهم، ولو أنه بكر بتأديبهم لما احتاج إلى البكاء والدموع التي جاءت متأخرة دون أن تتمكن من إصلاحهم أو إنقاذهم،... أو دون ترك العار يلطخ حياتهم وسيرتهم بين الناس، وأي سيرة هذه التي بلغوا فيها المستنقع حتى يتآمر أكبر أولاده مع صديقه على تلويث شرف أخته، دون أن يعف عن الوصول إلى ما تفعله أحط الحيوانات، وعندما يجتمعون إلى حفل أخيهم أبشالوم تدور الخمر بينهم إلى درجة السكر البين، وإذ جميعهم يجرعون الكؤوس ويسكرون، وإذ العلاقة بينهم جميعاً أبعد عن أن تكون علاقة المحبة والرقة والحنان والجود!!.. لو أن داود ربي أولاده أو أدبهم لما فقست الأفعى بيضها بينهم!!.. المثال على أن أسوأ ما في الأمر كله، كان المثال، وكيف يتكلم داود إليهم، وقد أعطاهم أسوأ مثال في فعلته الشنيعة التي جلبت الغضب الإلهي عليه، وسخرية الساخرين من الرجل الذي يقف على رأس أمته ليسبح ويغني لله، فإذا كان أمنون يفعل بأخته ما فعل هو ببثشبع. وإذا كان أبشالوم يفعل ذات الشيء بسراري أبيه، فهل يملك الرجل أن يرفع صوته مشتكياً أو محتجاً أو مؤدباً؟!.. دخل الرجل بيته، وإذا بالبيت كله يضج بالضحك لأن الولد الصغير لبس بدلة أبيه، يجرجر فيها، وكان منظره مثيراً مضحكاً، إلا الأب الذي فزع لأنه رأى المعنى البعيد الحقيقي، إن الولد يقلده، وويل له إذا أعطى الولد مثالاً تعساً من أي تصرف أو عمل، .. لقد فقست الأفعى بيضها في بيت داود لأنه البيت المزواج الذي ضاعت فيه التربية الدينية والتأديب والمثال الحسن. أبشالوم والثورة ولعله من اللازم، ونحن نتناول هذه الثورة بالتحليل، والتمحيص، والتعقب أن نلاحظ ما يأتي: ثورة الابن ضد أبيه وهل لك أن تغوص معي إلى الجرح العميق البعيد، الذي ينزف من الدم نزيفاً لا ينقطع في قلب داود، وهو يرى الثورة آتية ضده من ابنه، وابنه الحلو الجميل الممدوح في جماله من هامة الرأس إلى أخمص القدم،.. الابن الذي مع فعلته الشنعاء حن إليه قلب أبيه وهو في المنفى، ولم يعد يذكر يديه المخضبتين بدم أخيه الأكبر أمنون،.. ربما السهل أن يدخل داود في معركة مع عدو سافر كجليات، رغم فزع الجميع من المغامرة في مثل هذه المعركة، وربما من السهل أن يتحمل طعنة رجل مثل شمعي بني جيرا رغم ما فيه من افتراء وغدر وكذب، إذ هو بنياميني من سبط آخر، سب مركزه الملكي ليأخذه سبط يهوذا، ويستقر في بيت داود،... وربما من السهل أن يفقد صديقاً مثل أخيتوفل الذي كانت تحلو العشرة معه، لأن أخيتوفل جد بثشبع، وقد تركت فعلة داود جرحاً عميقاً في قلبه ليس من السهل أن يندمل،.. لكن أصعب من الجميع بما لا يقاس أن تأتي الثورة من الابن الحلو الجميل المحبوب من، أبشالوم أو كما قال هو لأبيشاي ولجميع عبيده: "هوذا ابني الذي خرج من أحشائي يطلب نفسي فكم بالحري بنياميني، دعوه يسب لأن الرب قال له..." وقد ازداد الجرح عمقاً وبعداً، لأن السيف الذي خرج علي داود لم يكن سيف جليات، أو شمعي أو أخيتوفل أو أبشالوم، لقد كان سيف الله نفسه: "والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد لأنك احتقرتني وأخذت امرأة أوريا الحثي لتكون لك امرأة هكذا قال الرب ها أنذا أقيم عليك الشر من بيتك وآخذ نساءك أمام عينيك وأعطيهم لقريبك فيضطجع مع نساءك في عين هذه الشمس لأنك أنت فعلت بالسر وأنا أفعل هذا الأمر قدام جميع إسرائيل وقدام الشمس".. ومهما تكن الأسباب الظاهرة أو البشرية، فما هي إلا أسباب ثانوية أدرك داود اليد الحقيقية خلفها جميعاً يد الله!!.. عجز الموازنة بين العدل والرحمة كان داود أباً وملكاً في الوقت نفسه، وجاءت ثورة أبشالوم بسبب إفلاسه التام في الموازنة بين مركزه كأب ومركزه كملك فإذا نظر إلى الأمر من وجهة نظر كونه أباً، فقد ضاع منه مركز الملك الذي ينبغي أن يحكم بناموس العدالة، الذي لا يتوقف عند مجرد الناموس الموسوي، بل يرجع إلى ما هو أسبق، إلى أمر الله مع نوح عندما قال: "وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقط من يد كل حيوان أطلبه ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان من يد الإنسان أخيه سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأن الله على صورته عمل الإنسان"... وإذا عالج الأمر كملك، فإن صرخات قلبه الأبوي لا تطاوعه،.. ومن الملاحظ أن الإنسان قد أدرك هذه الحقيقة، واستقرت في أعماقه ووجدانه، وهو بصدد قضية أعظم وأكبر وأرهب، قضية الجنس البشري كله، وموقف الإنسان المدان أمام الله الذي هو الملك الحاكم العادل والديان، وفي الوقت نفسه هو الأب المحب المشفق العطوف،.. ومحاولات الإنسان المتعددة في شتى الديانات للتوفيق بين الأمرين أضحت عاجزة بالغة العجز، مهما بذل الإنسان من جهد أو معاناة أو تضحية، حتى ولو تقدم بمحرقات بعجول أبناء سنة أو بألوف الكباش أو ربوات أنهار زيت حتى ولو أعطى بكره عن معصيته ثمرة جسده عن خطية نفسه، وإذا كان قلب الأب في الله يصرخ لإنقاذ الجنس البشري، فإن الله القاضي العادل، لا يمكن أن يتمم هذا الإنقاذ بمجرد التغاضي أو إغفاء البصر، أو الغفران الناقص، كما فعل داود الذي يترك ابنه في المنفى أو يسمح بالمجيء بشرط ألا يرى وجهه أو يمثل في حضرته،... إن الأمر أبعد من ذلك وأعمق إذ أن المصالحة الكاملة لا يمكن أن تتم من غير صليب تلتقي فيه الخطية بالعدالة والمحبة معاً، أو كما يقول الرسول بولس: "ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المصلاحة أي أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه بيسوع المسيح غير حاسب لهم خطاياهم وواضعاً فينا كلمة المصالحة"... كان داود يعلم هذه الحقيقة بدون أدنى شك، وهو يعجز كملك، ويحار أبلغ الحيرة، ويخشى إذا تغاضى كلية عن خطية ابنه، أن يغضب الله، قبل أن يتهم بالتحيز من ناحية الناس، وإن كنا لا نعلم متى كتب المزمور المائة والواحد، إلا أنه يبدو أنه كتبه تحت إحساس المعركة بين العدالة والرحمة في حياته، أو ربما كتبه وهو يواجه الصراع النفسي القاسي تجاه ابنه أبشالوم "رحمة وحكماً أغنى. لك يا رب أرنم. أتعقل في طريق كامل. متى تأتي إليَّ. أسلك في كمال قلبي في وسط بيتي. لا أضع قدام عيني أمراً رديئاً عمل الزيغان أبغضت لا يلصق بي. قلب معوج يبعد عني الشرير لا أعرفه الذي يغتاب صاحبه سراً هذا أقطعه مستكبر العين ومنتفخ القلب لا أحتمله عيناي على أمناء الأرض لكي أجلسهم معي السالك طريقاً كاملاً هو يخدمني لا يسكن وسط بيتي عامل غش المتكلم بالكذب لا يثبت أمام عيني باكراً أبيد جميع أشرار الأرض لأقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم"... وقد قتل داود العماليقي الذي ادعى أنه قتل شاول بناء على طلبه لمجرد أن يده امتدت إلى مسيح الرب، وقتل ركاب وبعثة الأخوين إيشبوشث وهو نائم نومة الظهيرة،.. وكان السؤال القائم أمام ضميره: أليس من واجبه أن يطبق هذا على أبشالوم دون أدنى استثناء وهذا ظاهر من محاولة المرأة التقوعية التي جاءت بقصة، كقصة ناثان، مع الفارق أن ناثان كان يريد إيقاظ ضميره، أما هي فقد أرادت على العكس أن تعطيه راحة للضمير مبينة أن الموت كالماء المهراق، الذي إذا سكب لا يمكن أن يجمع مرة أخرى من الأرض، والله لا يرضى أن منفيه يطرد عن الحياة بعيداً عنه، وأنه يستحيل تصور موت أخوين معاً> قتل أحدهما الآخر، وذهب الآخر عقاباً على موت القتيل أخيه،.. ومهما يكن من هذا الدفاع الحكيم، فهو أن أثار الرحمة العميقة، فإنه أعجز عن مواجهة العدالة التي ذكرها داود في المزمور المائة والواحد!!... وقد بذر داود بذور الثورة اللاحقة لإفلاسه في التوفيق بين العدل والرحمة!!... الغفران الناقص والسلبية ليسا علاجاً ظن داود أنه يستطيع أن يعالج ابنه بالغفران الناقص، الذي يسمح له بالعودة من المنفى بشرط أن ينصرف إلى بيته ولا يرى وجهه، وعالج داود المشكلة السلبية المطلقة، أو في لغة أخرى، لقد أعاده من منفى المكان في جشور حيث كان هناك مع أقارب أمه، ليبقيه في منفى أسوأ أو أشد، منفى النفس، مع أن المشكلة الحقيقية أنه الآن أحوج ما يكون إلى حب أبيه أو نصحه، أو إرشاده، أو تهذيبه، أو تعليمه، أو توجيه نظره إلى الله،.. وإذا لم يستطع داود أن يملأه بكل هذه، فلابد أن يملأ الفراغ بصورة أخرى، إذ تصور الفتى قسوة أبيه وعنفه وشدته، وفقست الأفعى في أعماقه فقس الحقد والتمرد والغدر والخيانة،... لقد ارتكب أبشالوم جريمته، والمجرم متعد، لكنه أكثر من ذلك إنسان مريض وقد نظر المسيح إلى الخاطيء بهذا المعنى وهو يقول: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى".. والعالم اليوم ينظر إلى المجرم هذه النظرة، ويحاول لا مجرد استئصال المجرمين، بل التغور وراء نزعتهم الإجرامة، لمعرفة الدوافع الكامنة الخفية وراء ما ارتكبوا من آثام وجرائم،.. ولو أن الآباء نظروا إلى أولادهم بهذا المنظار، وهو يرتكبون الشرور والمفاسد والآثام، ولو أدركوا أن هذا الوقت بالذات، هو وقت المعالجة الجادة الصبورة الحكيمة، لتركوا كل شيء، ليهتموا بتقويم الإعوجاج وإصلاح المفاسد، والعودة بأبنائهم، لا من مجرد الكورة البعيدة التي ذهبوا إليها، بل إلى الحنان والحب والإحسان والجود في بيت الآب،. أو -لغة أخرى-ليس من مجرد منفى المكان بل قبل وبعد كل شيء من منفى النفس الموحشة المعذبة القلقة التعسة، وبغير هذا سيتحول من إجرام إلى إجرام أقسى، كما تحول أبشالوم من القضاء على أمنون، للمحاولة الأكبر للقضاء على أبيه وتقويض ملكه ومجده وعرشه وخدمته!!... الثورة والخداع البالغ لسنا نظن أن هناك قبلة تتفوق على قبلة أبشالوم، غير قبلة يهوذا الاسخريوطي، كان أبشالوم من حيث الشكل قطعة من الجمال، ومنظره يصلح منظر ملك عظيم، وقد خدع الشعب فيه، كما خدعوا في قامة شاول الذي كان فارع الطول جميل المنظر، مهيب الطلعة، والمظهر دائماً خداع لمن يقف عند حدوده، أو لا يتعدى شواطئه، وكم من فتى أو فتاة خدع بجمال المنظر وفتن به، وتعلق بصاحبه، ليذهب في طريق الموت،... على أن الأمر عند أبشالوم تجاوز ذلك، إذ صاحبه خداع الذهن، إذ أن أبشالوم، على ما صور للناس، ليس لهم من يقضي لظلمهم وينصفهم إذ ليس للملك أو في بيته متسع من الوقت أو الذهن أو الصبر لشكواهم وآلامهم وتعاستهم وقضاياهم،.. وأضاف أبشالوم إلى هذا كله: الديمقراطية المصطنعة، والقبلة المخادعة: "فاسترق أبشالوم قلوب رجال إسرائيل".. وأشعل الثورة بقبلته التاريخية المخادعة الغاشة،.. وحقاً لقد تحول أبشالوم إلى سارق وقاطع طريق، وليس السارق من ينهب أموالك، أو يعتدي على ممتلكاتك فحسب، بل هو ذاك الذي يسرق معنوياتك، ليتركك أمام أكبر شرك أو خداع تكتشفه نفسك، وربما يحدث هذا بعد فوات الأوان، حين تعجز أمام الثورة عن رأب الصدع، أو إصلاح الحال، أو العودة إلى النقطة السابقة للمأساة التي تمت وكملت!!.. أبشالوم والعقاب إن الجريمة لا يمكن أن تفيد بأي حال من الأحوال، وأجرة الخطية هي موت بدون أدنى ريب أو شك، والتاريخ في كل زمان ومكان يشهد على هذه الحقيقة، فإذا ذهبنا إلى محنايم، فلن نرى أبشالوم هناك كجده الكبير يعقوب، محاط بجيش الله في مواجهة عيسو أخيه، بل سنرى الشاب في خاتمة المطاف، وقد تهاوت ثورته، وانتهى تمرده، بعد أن استقرت في قلبه السهام الثلاثة التي أنشبها يوآب، وهو معلق بين السماء والأرض، ومن الغريب أن الشاب لم يمت في صحبة واحد من جنوده أو مريديه أو معاونيه. وانتهى حلم السيادة والمملكة والعظمة والسلطان، على هذا النحو البشع المريع، حيث سقط جثمانه الجميل تحت رجمة كبيرة من الأحجار التي انهالت عليه من كل جانب، وهكذا يأتي العقاب مؤكداً أن الأشرار كالعصافة التي تذرها الريح لأن الرب يعلم طريق الأبرار أما طريق الأشرار فتهلك. كان من الممكن أن لا يصل أبشالوم إلى هذا العقاب الرهيب القاسي البشع، لو أن أباه بكر بالتأديب، وبالعقاب الأبسط والأخف، وهو بعد صبي أو غض صغير،.. ولكن العقاب في العادة يتصاعد كلما أجله الآباء أو الأمهات، حتى تأتي اللحظة التي يقال معها أن العقاب قد خرج من أيديهم لتتولاه الأيام والليالي، أو بتعبير أدق أو أصح ليتولاه الله في عدالته الأكيدة في العالم الحاضر أو العتيد أيضاً!!.. والسؤال الذي يفرض نفسه ههنا: لماذا صرخ داود عندما سمع بمصرع ابنه إلى الحد الذي قال فيه: "يا ابني أبشالوم يا ابني يا ابني أبشالوم يا ليتني مت عوضاً عنك يا أبشالوم ابني يا ابني"..؟!! هل يرجع هذا إلى الفارق بين إحساس الجريمة عند الأب وعند الابن وأنه مهما كانت الجريمة التي يرتكبها الابن ضد أبيه فإن حنان الأب أعلى وأسمى؟!! لست أعلم، وإن كنت أعلم عن يقين بأن الأمر أمام خطيتنا الكبرى في هذه الأرض، قد تجاوز الحنان والرغبة والتمني، ليصبح أعلى حقيقة عرفها البشر عند هضبة الجلجثة: "لأن الله بين محبته لنا لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا!!".. أم يرجع الأمر عند داود إلى شعور بالندم، لأنه قصر أبلغ التقصير في تربية أولاده، وها هو يرى أمنون يموت، وأبشالوم يلحق به، وثامار تعيش بعارها ووحشتها بين الناس؟!! قد يكون.. ولعله دموعه هذه كانت إحساساً عميقاً بالتقصير، الأمر الذي يحسه كثيرون من الآباء، ولكن للأسف بعد فوات الوقت، إذ أهملوا أبناءهم أحياء ليتسلموهم أمواتاً، وليس لهم ما يتبقى سوى النحيب أو البكاء على جثمانهم المسجي أمامهم، أو المغيب تحت رجمة قاسية أشبه برجمة أبشالوم في أرض محنايم!!.. أم هل الأمر أعمق من هذا كله إذ هو شعور الذنب القاسي، ولذعة الضمير، إذ لم تكن القصة من أولها إلى آخرها إلا امتداد للأصبع القائلة: "أنت هو الرجل"... وها هو يرى النبوة وقد اكتملت وتأكد صدق الله، فإذا كان هناك من سبب بعيد عميق لكل ما جرى فإنه هو وليس غيره هذا السبب؟!! ولعله لهذا كره نفسه في تلك اللحظة ومقتها، إلى الدرجة التي تمنى أن يكون هو، وليس ابنه أو أحد غيره من الناس، هو الضحية المعاقبة!!.. ألم يستول عليه ذات الإحساس عندما أمر بعد الشعب فجعل الرب وباء في إسرائيل، ومات في يوم واحد سبعون ألف رجل وبسط الملاك يده ليهلك أورشليم حتى قال له الرب عند بيدر أرونه اليبوسي رد يدك؟... "فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال ها أنا أخطأت وأنا أذنبت وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا فلتكن يدك علي وعلى بيت أبي"... قد تكون دموع داود بسبب واحد من هذه الأسباب أو بسببها جميعاً، أو بغيرها، لكنها تعطينا على أي حال أن نقف لنرى ماذا تفعل الخطية عندما تسيطر على حياة الناس؟!!.. عندما أطلق داود على ابنه الحلو الجميل الاسم أبشالوم "أب السلام"، كان يتمنى أن يكون أبو السلام هذا متمتعاً بكل سلام، ومعطياً السلام لكل من يتصل به أو يرتبط بحياته، ولم يدر قط أنه سيتحول مجرماً ثائراً، يدفن جثمانه تحت رجمة كبيرة تحولت نصباً خالداً في التاريخ لرجل فقد السلام، وذهب في الحرب، وامتدت يده "يد أبشالوم" لتقول للجميع في كل عصور التاريخ: ويل للخاطيء: "لأن أجرة الخطية هي موت وأما هبة الله فهي حياة أبدية في المسيح يسوع ربنا!!
المزيد
02 نوفمبر 2019

إسحق

"وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام" تك 26: 31 مقدمة لست أعلم إن كان كتاباً يعطي أنماطاً لا تنتهي، وصوراً مختلفة للناس، كما يفعل كتاب الله العظيم الكتاب المقدس، إنه أشبه الكل بالبستان الواسع الرحب، الذي تجد فيه الصنوف المتعددة المختلفة من الأزهار والأشجار والأثمار، وهو الساحة الكبرى أن تنتقل فيها، وأنت تعرض لقصص الناس، بين الجبال والوهاد، والسهول والمروج، والصحاري والوديان، والجداول والأنهار، حتى يمكن أن تقع العين على العملاق والقزم، المنتصب والقميء، الجميل والقبيح، الخير والشرير، الأبيض والأسود على حد سواء،.. فإذا كنت تقرأ مثلاً قصة أبي المؤمنين إبراهيم، وترى نفسك إزاء عملاق من عمالقة العصور، وبطل من أبطال الأجيال، ورجل من أعظم رجالات التاريخ، فإنك عندما تتحول فجأة إلى ابنه إسحق، ستجد نفسك إزاء رجل آخر يختلف تمام الاختلاف عن أبيه، فإذا كان أبوه يتسم بالحركة، فإن الابن أدنى إلى السكون، وإذا كان إبراهيم أظهر في الإقدام والجسارة، فإن إسحق أركن إلى الهدوء والدعة،.. وإذا كان أبو المؤمنين نموذجاً غير عادي لمن يطلق عليهم النوادر من بني البشر، فإن إسحق أقرب إلى الإنسان العادي الذي تكاد تلاقيه بين عامة الشعوب، وإذا كانت ميزة إبراهيم الإيجابية المندفعة إلى الأمام، فإن ميزة ابنه السلبية القابعة الساكنة الرابضة في كل هدوء،.. وإذا كان أبو المؤمنين يكشف في مجمل حياته عن "الصداقة الكريمة المتعمقة مع الله" فإن السمة البارزة في حياة إسحق، هي سمة "السلام" فهو الإنسان الهاديء الذي يحب السلام، وينشده من كل وجه، وهو الذي يرغب دائماً في الجلسات الهادئة دون معكر أو منازع،.. وهو ضيق أبلغ الضيق، مرير أبلغ المرارة، إذا شابت سماءه غيوم أو عواصف، وهو لا يسلم من هذه العواصف داخل بيته، أو من الجيران المتربصين الحاقدين الحاسدين خارج هذا البيت،.. ولكنه مع ذلك هو الإنسان الذي يبذل كل جهد أو ثمن في سبيل الحصول على السلام، وهو متعثر في ذلك حيناً، ناجح على الأكثر والأرجح في أغلب الأحيان،.. وهو في كل الحالات النموذج الكتابي العظيم للإنسان الذي يحب السلام، ويسعى إليه، ويطلبه من كل وجه، ولذا يحسن أن نراه في معرض الكتاب في الصور التالية: إسحق.. من هو؟!! إن الصورة التي يرسمها لنا الكتاب عن إسحق، تعطينا الانطباع، بأنه الإنسان الضعيف البنية، وربما نشأ هذا في ذهن الكثيرين من الشراح لمجيئه المتأخر من أبوين مسنين، إذ هو ابن الشيخوخة، وليس هو كما وصف يعقوب رأوبين: "أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز".. ولعل الذي زاد هذا التصور عند هؤلاء الشراح، أو رجحه هو القول الذي ورد في رسالة غلاطية عن علاقة إسحق بأخيه: "ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح، هكذا الآن أيضاً" ومن المعلوم أن أخاه كان أوفر قوة، وأصح بدناً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه،.. وهيهات أن يقارن به إسحق من الوجهة البدنية، والذي كان يقع دائماً تحت سطوته ورهبته إلى الدرجة التي أصرت معها سارة على طرد هاجر وابنها، الأمر الذي ساء في عيني إبراهيم، واستجاب له عن ضيق وألم واضطرار،.. وقد يكون هذا الاضطهاد المبكر، من الوجهة البشرية الخالصة، هو الذي أورث إسحق نوعاً من الحياة الانطوائية المنعزلة، فهو ليس الإنسان الذي يتفتح قلبه للجلسات مع المجتمع الصاخب حوله، وهو ليس الإنسان الذي يهرع إلى الناس، يبادلهم الزيارة والحديث والتعامل والضجيج، بل هو على العكس من الصبح الباكر في حياته، إنسان يأنس إلى الوحدة، ويلوذ بها، ويعيش في كنفها، وليس أحب إليه أن يجلس أياماً وليالي، دون أنيس أو صديق،.. فإذا سئل كيف يمكنه أن يعيش هذه الحياة، ويؤثرها، وتحلو له؟!! ربما أجاب إجابة برنارد شو عندما سأله أحدهم: لماذا يحب العزلة؟ فكان جوابه: "لأني أريد أن أجلس مع إنسان ذكي وهو يقصد بذلك نفسه، إذ يجلس إليها مفكراً متأملاً، مع هذا الفارق البعيد أن برنارد شو مهما اتسع في حديثه مع النفس، لم يصل إلى الحياة المتأملة مع الله التي كان يعيشها إسحق طوال حياته على هذه الأرض،.. كان إسحق منعزلاً ولكنه كان ابناً لله، ولقد أطلق عليه أحدهم "ورد ثورت عصره" أي الإنسان الذي كان يتمشى مع الله في سفوح الجبال، وكأنما الطبيعة كلها قد تحولت عنده إلى هيكل أو معبد لله،.. ولعله مما يجدر ذكره أن رفقة رأت إسحق لأول مرة عندما "خرج إسحق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء".. وهكذا كان إسحق على الدوام في الحقل أو الصحراء، في المساء أو الشروق، هو الإنسان المتأمل الذي ينصت في السكينة إلى صوت الله، ويتحدث في عمق وهدوء وتأمل إلى سامع الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر!!.. كان إسحق إذاً ذلك الإنسان الهاديء الساكن المجبول على الوحدة والعزلة، والإنصات والتأمل، وهو أدنى إلى الله منه إلى الناس، وهو أقرب إلى المولى منه إلى البشر، وهو في كل الحالات الإنسان الذي يؤثر الهدوء، ويغري بالسكينة، ويمتليء فرحاً بالنسمة الهادئة، والجدول الرقراق، والعصفور الصغير الذي يزقزق في عشه من غير خوف أو فزع أو اضطراب،.. هل كان عنف أخيه كما ألمعنا هو الذي حبب إليه الحياة الهادئة من مطلع العمر؟ أم أنه ورث الهدوء عن أمه، وكان أقرب في طباعه إلى هذه الأم من أبيه؟؟. أغلب الظن أنه أعجب بالحياة الساكنة الهادئة لأمه، وأن هذه الأم كانت حضنه الهاديء الآمن الذي يلوذ به من عنف أخيه وقسوته وشراسته، وأن هذا الفارق البعيد بين دعة أمه، وعنف أخيه هو الذي جعله يتشبث بالسلام، وينزع إليه، ويحبه، وينشده طالما وجد السبيل إلى ذلك، في رحلته الأرضية التي طالت إلى المائة والثمانين من عمره بين الناس!! على أن هذا كله في عقيدتي كان يبدو ضعيفاً وناقصاً ومبتوراً، ما لم يعثر إسحق على السر الأكبر في حياته في اتجاه السلام مع الناس، ألا وهو السلام مع الله، وذلك لأن السلام مع الله، هو أساس كل سلام، وسر كل سلام في حياة الإنسان على هذه الأرض،.. كان إسحق إنسان الصلاة، أو الإنسان الذي إذا ضاق بالحياة، وضاقت الحياة به، أو إذا عكر صفو سلامه لأي سبب كان يشق طريقه إلى الله ليغلب همه وينتصر على ضيقه بالصلاة،.. وبعد مئات من السنين وقد طافت الهموم بواحد من أبنائه إذ غشيه الاضطراب والضيق، ولعله في تلك اللحظة كان يرى طائراً يرف بجناحيه في أجواز السماء فصاح: "ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير وأستريح هاأنذا كنت أبعد هارباً وأبيت في البرية كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء".. على أنه سرعان ما أدرك غباء فكره، وحماقة تصوره، فاتجه إلى المصدر الوحيد للأمن والهدوء والسلام، وقال: "الق على الرب همك فهو يعولك لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد".. أجل.. وفي يقيني الكامل أن الصلاة عند إسحق كانت العلاج الأعظم لمشاكله المتعددة وهو يمد يده من أجل السلام مع جميع الناس!!.. إسحق وقصة السلام مع الناس وربما نستطيع أن نفهم قصة إسحق مع السلام في علاقته بأقرب الناس إليه وأبعدهم عنه، إذا سرنا وإياها مع التتابع الزمني: إسحق وأخوه كان أخو إسحق الأكبر قبلة النظر ومحط الآمال، عندما جاء مولوداً من هاجر الجارية المصرية، وكان –كما أشرنا- قوي البنية، متين البنيان، ومن غير المتصور أن يقبل التزحزح إلى الظل عند مولد أخيه الأصغر، ومن ثم كان لابد أن يظهر بطبيعته البطاشة وذراعه القوي، تجاه من هو أصغر منه وأضعف،.. ولم تقبل سارة هذا الوضع أو تحتمله على الإطلاق، فأكرهت زوجها إبراهيم على طرد الجارية وابنها،.. وكانت العزلة الواسعة بين الولدين شديدة الوقع على نفس أبي المؤمنين إبراهيم، لكنه يبدو أنه أنصت إلى صوت الله في الأمر، ولعل هذا هو الذي خفف وقعها، وهون أمرها، وسار الولدان كل في طريقه مع الحياة والأيام، ونهج المسلكين المختلفين، والأسلوبين المتباينين، والغايتين المختلفتين، وكانت العزلة –وهما يدريان أو لا يدريان- هي السبيل الأصلح والأنجح لحفظ السلام بينهما،.. فإذا كان المزاح الأول، والاضطهاد الأول، والولدان صبيان، هو الذي شجع في إسحق الرغبة الانطوائية المسالمة التي صاحبته الحياة كلها، فإن الفرقة بين الاثنين كانت ولا شك أصلح الطرق وأفضلها، في القضاء على كل نزاع يمكن أن يثور بين أخوين يجمعهما بيت واحد وأسرة واحدة، ومكان واحد، يسهل أن يتطاير فيه لأتفه الأمور، وأقل الأسباب!!.. إن الكثيرين تحت سوق العاطفة أو التهاب المشاعر، لا يستطيعون تطويق النزاع بين أخوين أو قريبين، بمثل هذا الحل من التفريق بينهما، لكن إبراهيم أدركه كالحل الوحيد في المنازعة مع لوط يوم قال له: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان، أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عني إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً وإن يميناً فأنا شمالاً".. وأدركه كالحل الدائم بين ولديه المختلفي المشارب والنزعات، والميول والغايات.. ومن المؤكد أن البتر ليس شيئاً يشتهيه الطبيب الجراح، ولكنه قد يكون العلاج الأوحد لسلامة الجسد، وحفظ الحياة!!.. إسحق وأبوه كان إسحق من مولده الشمعة المنيرة المضيئة في بيت أبيه، كان هو كما أطلق عليه "ضحك" البيت ومسرته وبهجته، ولا أحسب أنه في يوم من الأيام سبب لأبويه تعباً أو مشقة أو ألماً أو ضيقاً بأية صورة من الصور، كان هو أنشودة السلام في هذا البيت القديم العظيم، على أنك لا تستطيع أن ترى إسحق في أروع مظهر من مظاهر السلام، إذا لم تره أو تعرفه فوق جبل المريا مع إبراهيم، كان إسحق في ذلك التاريخ –كما يعتقد المفسرون- في الخامسة والعشرين من عمره، شاب في ميعة الصبا وأوج الشباب، ولندع "يوسيفوس" يعطينا صورة الحوار بينه وبين أبيه، بعد أن بنى كلاهما المذبح الذي انتوى إبراهيم أن يقدمه عليه، قال إبراهيم لابنه: "أي ولدي: لقد رفعت من أجلك صلوات متعددة حتى جئت ابناً لي، ومنذ ذلك التاريخ كانت مشيئة الله أن أكون أباك، والآن إنها مشيئته أن أقدمك له، ‎.. ولنحمل يا بني هذا التكريس بذهن متفتح، إذ يلزم يا ابني أن تموت، وليس بطريق من طرق الموت العادي، ولكن الله يريدك ذبيحة له، ‎.. أنا أعتقد أنه يراك جديراً بأن تخرج من هذا العالم، لا بالمرض أو الحرب، أو بأي وسيلة أخرى قاسية، بل سيقبلك بالصلاة وعلى مذبح الدين، وسيجعلك قريباً منه.."الخ. وأجاب إسحق في الحال، إنه ليس أهلاً أولاً للحياة لذا خزل إرادة الله وأبيه، ولم يتمم شهوة قلبيهما.. وصعد بنبل في أروع تكريس على المذبح مجهزاً عنقه لطعنة أبيه!!.. ومع أني أتفق مع الرسول بولس أكثر من يوسيفوس، أن إبراهيم قدم ابنه وهو يعلم أنه سيذبحه، وبعد ذلك سيقوم من الأموات، كما جاء في الرسالة إلى أهل رومية،.. لكن هذا الضرب العظيم من الولاء والتكريس ينسي الناس أن فضل إسحق فيه لا يقل عن فضل إبراهيم. ومن الواجب أن نرى هذا الشاب العظيم رمزاً للأعظم الذي سيأتي بعد ألفي عام ليصيح في جسثيماني "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".. وسنرى إسحق فوق المذبح في سلام الشهداء وعظمتهم، وأن السلام العميق الذي يربطه بالله حياً هو هو بعينه الذي يربطه به مذبوحاً وشهيداً،.. وهو ليس في كل الأحوال جهداً بشرياً أو شجاعة إنسانية، بل هو سلام علوي يأتي في أدق الظروف وأرهبها وأتعسها على وجه الإطلاق، ليعلم إسحق أن ينام هادئاً فوق المذبح، كما لو كان فوق فراش من حرير ودمقس، ويعلم الشونمية العظيمة، عندما تفقد ابنها، ويرسل إليشع غلامه يسألها! "أسلام لك: أسلام لزوجك، أسلام للولد؟ فقالت سلام".. حقاً إنه سلام الله الذي يفوق كل عقل عرفه إبراهيم وعرفه ابنه إسحق في أعظم امتحان لبشري أمام الله!!.. إن هذا السلام يتحقق في العادة لمن يبلغون نقطة "التسليم التام" لله، التسليم الذي توثق فيه الذبيحة بربط إلى المذبح، التسليم الذي يصعد فيه الإنسان رغم قسوة الامتحان ودقته، بقدميه على المذبح مكتف اليدين والرجلين، مادا عنقه لما يقضي به الله ويأمر به، ولا حاجة إلى القول أنه سيكون على الدوام مصحوباً بالفرح والبهجة، كما يقول يوسيفوس إن إبراهيم بعد أن قدم كبش الفداء، احتضن ابنه، وضمه بقوة إلى صدره، وعاد كلاهما أسعد اثنين على هذه الأرض، يتمتعان ببهجة السلام الذي تموت فيه النفس عن رغبة في الأرض. إلا بأن تعطي أولاً وأخيراً المجد لله!!.. وإن كنت لا أثق في التقليد القديم الذي جاء في ترجوم في أورشليم، والذي فيه يرد عمى إسحق في أخريات حياته، إلى أن أباه وهو يقيده فوق المذبح مد نظره فرأى عرش المجد، ومن تلك اللحظة بدأت عيناه تضعفان عن النظر في الأرض لكني أعلم تماماً أن الحياة التي تعطي الله مجداً على هذه الصورة، لابد أن تصل، وبكل يقين، إلى سلام الله الذي يفوق كل عقل!!.. إسحق وولداه وهنا نأتي إلى المعاناة والاضطراب والعواصف البيتية التي عكرت الكثير من هذا السلام، ومن المؤسف أن إسحق كان الملوم الأول في هذا الأمر، إذ غلب فهمه البشري على إرادة الله جل جلاله، ومع أنه يعلم وعد الله، عندما ذهبت رفقة وهي حبلى لتسأل الرب: "فقال لها الرب في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير".. وخرج الاثنان إلى العالم، وأحب إسحق عيسو لأن في فمه صيدا، وأما رفقة فكانت تحب يعقوب،.. كان الأبوان يحب كل واحد منهما الشخص الذي يعتبر مكملاً لحياته، فإسحق الهادي الوادع الساكن، كان أميل إلى الابن الأشعر المهيب الطلعة الممتليء الحركة، الذي تخشاه القبائل، وتحسب له ألف حساب وحساب،.. في الوقت الذي كانت رفقة المتحركة المتحفزة تميل إلى الابن المطيع المحب الوادع، ‎.. وأمعن كل من الأبوين في التعبير عن حبه دون مبالاة أو تغطية أو تحفظ، ولم يدريا بذلك أنهما يصنعان الصدع أو الشرخ في البيت، في السلام الذي لا يمكن أن يتحقق على الإطلاق للأسرة المنقسمة على ذاتها، وما يتبع هذا الانقسام من فرقة وتحزب وتحيز.. أجل.. ولعله من الواجب أن ترفع هنا صوت التحذير، لكي يتعلم الأب أو الأم أنه إن عجز بينه وبين نفسه أن يميز ابناً عن آخر، لما قد يكون في هذا الابن من السمات أو الصفات، ما يجعله أقرب أو أدنى إلى عواطفه وحبه ونفسه،.. فإن الخطأ الذي يقترب من الجريمة أن يحس واحد من الأبناء بأن هناك تفرقة أو تمييزاً في المعاملة بين ولد وآخر. كان أحد الآباء يميز ولداً من أولاده على الآخرين، وذات يوم أبصر صغيراً يتحرك من غرفة النوم، ظنه الابن المدلل، فهتف قائلاً: تعال يا حبوب، وجاءه الرد: أنا يوسف فقط ولست الحبوب، وكان هذا ابناً صغيراً آخر من أولاده،.. وكانت هذه العبارة وما فيها من رنة أسى وأسف وحزن، آخر عهد الأب بالتمييز بين أولاده بكافة الصور والألوان،.. هل أفسد إسحق عيسو بهذه التربية المتحيزة المتميزة المدللة؟ وهل كان من المتعين أن يكون عيسو إنساناً آخر لو أن أباه اهتم برائحة حياته الروحية، قدر اهتمامه برائحة ثيابه الفاخرة التي تعود أن يشمها كلما جاءه الابن الأكبر بصيد دسم سمين؟.. إننا نظلم إسحق كثيراً إذ اتهمناه بالبطنة التي ضيعت كل شيء في حياة عيسو، على ما يذهب الكسندر هوايت، وهو يصب جام غضبه عليه، عندما يأخذ من يد ابنه بنهم كبير، وشهوة بالغة، مما صاد بسهمه وقوسه، من الصيد أو الطعام الذي كان يحبه ويشتهيه،.. ولكننا في الوقت عينه –وإن أخفى عنا قصد الله السرمدي الذي أحب من البطن يعقوب وأبغض عيسو- لا نملك إلا أن نلوم- إلى درجة السخط- إسحق الذي ترك الحبل على الغارب لابنه، ونسى النبوة الإلهية الخاصة به، حتى وصل عيسو إلى الوصف الرهيب القبيح الذي وصفه به كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لئلا يكون أحد زانياً, أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته، فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع".. وجاء عيسو إلى بيت أبيه بيهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة بنت إيلون الحثي، زوجتيه اللتين أضحتا ينبوعاً من المرارة لرفقة وإسحق والبيت كله!!.. فإذا أضفنا إلى هذا كله قصة الصراع الرهيب المديد الطويل، الخفي حيناً، والظاهر أحياناً، حول البركة، والبكورية، وما لحقهما من تهديد عيسو بقتل أخيه، وغربة هذا الأخير لفترة ظن أول الأمر أنها لشهور قليلة، فإذا بها تطول إلى عشرين من الأعوام، ماتت أثناءها رفقة على الأغلب، وعاد يعقوب إلى أرضه، ولو رحمة من الله وضمانه الأبدي، لهلك في الطريق، وفي الصراع مع الأخ المتحفز المتربص، الذي لم يهدأ الثأر في قلبه طوال هذه السنوات بأكملها.. أجل وإنه لأمر مؤسف حقاً، أن الرجل الذي نجح في السلام مع العالم الخارجي، كان في حاجة إلى الصرخة القائلة: أيها الطبيب اشف نفسك، وحقق السلام قبل وبعد كل شيء بين ولديك التوأمين المتنازعين!!.. إسحق والعالم الخارجي ومن الغريب أن الرجل الذي تعثر السلام في بيته نجح أكبر النجاح مع العالم الخارجي، المتربص به، والمتحفز له، والذي كان من الوجهة البشرية الخالصة يمكنه أن يقضي عليه، ويأتي على كل ما يمتلك،.. كانت حياة إسحق في مجملها حياة الإنسان الهاديء الطيب، وربما كانت طيبته المتزايدة نوعاً أكثر من مجرد المرونة المحبوبة التي ينبغي أن نتصف بها في معاملة الناس،.. أو إن شئنا الحقيقة كانت في الكثير من المواطن نوعاً من الليونة التي تنتهي في العادة إلى العكس مما يقصد صاحبها، ومن المؤكد أن إسحق كان من الممكن أن يكون أهنأ حالاً وأسعد بيتاً، لو أنه أخذ بيته بنوع من الحزم، لا يشجع استباحة عيسو، أو خداع يعقوب، أو استهانة الزوجة،.. ولكنه وقد جبل على الوداعة والطيبة، شجع هذه الأطراف على أن تتصرف بما لا يليق من أفعال أو تصرفات،.. ومع ذلك فهذا الرجل المسالم أعطى أروع الأمثلة وأعظمها على القدرة التي يستطيع بها المؤمن أن يعيش في وسط الوحوش والأشبال،.. لقد أدرك إسحق أن الهدوء والأمن والسلام تسير أطرادا مع ثقته الموطدة والممكنة في الله، فهو مثلاً على شفا الضياع إذ خاف وفزع وفعل ما فعله أبوه إذ زعم أن رفقة أخته، خوفاً من أن يقتلوه ويأخذوها لأنها كانت جميلة فاتنة حسنة المنظر،.. وهو قوي إذا طرح الخوف، وآمن أن الله أقوى وأقدر من كل القوات التي تتربص به، وتتعرض له أو تحاول أن تنال منه بأية صورة من الصور،.. وقد أكد الله هذا إذ ظهر له وشجعه وأعاد له العهد الذي سبق فأعطاه لإبراهيم أبيه، وإذ أراد الله أن يعطيه البرهان الفائق العظيم، باركه في سنة المجاعة القاسية: "وزرع إسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف" "وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً" فإذا كان إسحق يريد أن يطمئن ويهدأ ويستريح في النهار، وينام قرير العين في الليل، فلن يكون ذلك إلا بشيء واحد ألا وهو التأكد بأن الذي معه أقوى من الذي عليه، وأن العين التي تحرسه لا تنعس أو تنام، في الوقت الذي تغفو أو لا تغفو عيون الناس المتربصة به، الحاسدة له، والراغبة كل الرغبة في الإيقاع به والقضاء عليه،.. إن الولد الصغير الباسم يقف في حديقة الحيوان أمام الأسد المخيف دون أن يفزع أو يضطرب، ليقينه الكامل أن الموازنة بين قوته الواهنة وقوة القضبان الحديدية وقوة الأسد ووحشيته، تقع على الدوام في جانبه وإلى صالحه، ومن ثم فهو يضحك ويطرب ويداعب ويلاعب الأسد نفسه، لأنه مهما كانت قوة ملك الوحوش، فإن الصغير وقد أضاف قوة القضبان إلى قوته هو، يعلم بالتأكيد أنه الأقوى والأعظم.. كان الذين حول إسحق وحوشاً ازدادت قسوتهم ووحشيتهم لأن إسحق، دائماً ينجح وهم فاشلون، وإسحق دائماً يتعاظم وهم متهاونون، وإسحق في وقت الجدب والمجاعة يزرع ويحصد مائة ضعف وهم يزرعون وتجف مزارعهم ويتحول ما يزرعون إلى عصافة تدفعها العواصف وتذروها الرياح، وإسحق يربي الماشية فتتوالد وتتكاثر، وهم يربون ومواشيهم تضمر وتموت، وإسحق يحفر آبار فتنفجر وتروي، وهم يحفرون فلا يجدون إلا رمالاً وجفافاً، وخيبة أمل فيما يحفرون، فإذا ضاقوا بجهدهم وحسدهم، فما أسهل أو أيسر عليهم إلا في المشاكسة والمنازعة والخصومة، فإذا بهم يطمون الآبار التي حفرها أو يغتصبونها، وينازعون في حقه فيها، ويتحرشون به، لعلهم يجرونه إلى المصارعة والمنازلة عليها،.. والرجل مع ذلك هاديء قرير، لم يخرجه الاستفزاز يوماً عن طوره، أو الظلم عن طبع السلامة والمسالمة فيه،.. وهو أشبه الكل بالولد الصغير أمام الأسد المتوحش المحبوس في قفصه لأنه يعلم علم اليقين أنه الأقوى والأعظم بربه وسيده ومخلصه وفاديه،.. فإذا نازعوه في مرعى، فإن ‎الأرض واسعة ومراعي الله الأخرى في كل مكان،.. وإذا طموا له بئراً، فإن الله سيعطيه غيرها آباراً، فليترك البئر "عسق" بئر المنازعة، ويترك البئر "سطنه" بئر المخاصمة لأن الله سيعطيه بئر "رحوبوت" حيث يمكنه أن يقول: "إنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" ثم بئر "شبعة" التي تزيد شبعاً ورياً، حيث يعطيه الله الفيض الذي لا يمكن أن يحجزه الإنسان!!.. فإذا كان الإنسان يحقد أو يحسد، فإن إسحق المسالم قد وجد الحل الأعظم والأمثل للحقد أو الحسد، إذ أنه يحول قضيته من الإنسان إلى الله، ومن حقد البشر إلى عدالة الله، ومهما كان الإنسان عنيفاً، فإن الخصومة في العادة تحتاج إلى طرفين، فإذا تعدي أحد الطرفين ورفض الآخر أن يرد العداء أو يقاوم الشر، فإن المعتدي لا يمكن أن يستمر في شره وعدائه، وتخف أو تموت حدة النزاع مهما بدأت عنيفة شرسة مخيفة قوية، بل في أغلب الحالات تنتهي إلى المصالحة والسلام،.. كان إسحق رائداً من أقدم الرواد وأعظمهم في هذا السبيل، وهو الرائد الذي انتصر آخر الأمر عندما سعى إليه أبيمالك وأحزات من أصحابه وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم، فقالوا إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك ونقطع معك عهداً أن لا تصنع بنا شراً كما لم نمسك وكما لم نصنع معك إلا خيراً، وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب فصنع لهم ضيافة فألكوا وشربوا ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام. وحدث في ذلك اليوم أن عبيد إسحق جاءوا وأخبروه عن البئر التي حفروا وقالوا له قد وجدنا ماء فدعاها سبعة لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم.. وفي الحق أن هذه البئر ليست مصادفة أن تفجر ماءها في اليوم الذي يتعاهد فيه إسحق مع أبيمالك على السلام.. إذ هي في الحقيقة مكافأة الله وجزاؤه لصانعي السلام، ومحبيه بين الناس في كل مكان وزمان، على توالي العصور وامتداد الأجيال!! إن مقاومة الشر بالشر لا تبقى عليه شراً واحداً بل تضاعفه إلى اثنين، كما أن آثار الشر لا يمكن أن تنال طرفاً وتترك الآخر، فهي كالحرب، ويل فيها للغالب والمغلوب على حد سواء، ولقد فطن الحكيم القديم إلى هذه الحقيقة فقال: "إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه ماء فإنك تجمع حجراً على رأسه والرب يجازيك" وسار في أعقابه بولس يوم قال: "لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس، لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. ولعل أمثلة حديثة من هذا القبيل يمكن أن تعطي الصور الناجحة لانتصار الروح المسالمة على العناد والقسوة والخصومة،.. عاش جوزيف برادفورد مساعداً أميناً لجون ويسلي وهو يصاحبه في رحلاته وخدماته التبشيرية سنوات متعددة، وحدث ذات مرة أن اشتد النزاع بين الصديقين إلى الدرجة التي قررا فيها في مساء يوم من الأيام أن يفترق الواحد منهما عن الآخر في اليوم التالي،.. وفي الصباح سأل ويسلي زميله: هل ما يزال مصراً على الرحيل، وجاءه الجواب: نعم.. وقال ويسلي: وهل هذا ضروري ولازم.. وجاء الرد جافاً: "سل نفسك يا سيدي.. وقال ويسلي لبرادفورد: ألا تعتذر؟وقال الآخر: لا يا سيدي؟وعنئذ قال ويسلي برقة ولطف.. إذا أنا أعتذر لك يا برادفورد، ولم يكمل ويسلي العبارة حتى فاضت الدموع من عيني زميله، وقال: أنا أعتذر، وتصالح الأخوان اللذان كانا على أبواب المفارقة والمقاطعة.. آه لو يعلم الناس أن الجواب اللين يصرف الغضب، وأن جلسة هادئة صغيرة، قد تصرف نزاعاً طويلاً مديداً مريراً".. كان أحد المحامين واسمه هاكت وكان من أبرع المحامين وأطيبهم، وكان من مبدئه الدائم أن يدعو الناس إلى فض الكثير من أسباب النزاع دون الالتجاء إلى المحكمة. وقد حدث أنه اشترى قطعة أرض، كان الناس يرفضون شراءها لشراسة وقسوة مالك الأرض المجاورة لها.. غير أن هاكت اشتراها، وعندما ذهب ليستلمها واجهه الجار المتحفز للمخاصمة والصراع، بأكثر عنف وضراوة ‎، وهو يقصد أن يفهمه أنه لا يبالي على الإطلاق بما يمكن أن يكون لديه من الإلمام بالقانون أو الاتجاه إلى القضاء، غير أن هاكت سأل الجار عن الحد بين الأرضين،.. وقال الجار: إن حقه معتدى عليه، وأن الحد الصحيح يلزم أن يدخل في أرض هاكت قدمين من بدء الحد، وقدماً عند النهاية،.. وقال المحامي: حسناً يا صديقي وإني أرجوك أن ترسم الحد أربعة أقدام عند الابتداء، وقدمين عند النهاية،.. وصاح الجار: ولكن هذا ضعف ما أطلبه؟.. فقال هاكت: قد يكون هذا، ولكني قد جئت مصمماً ألا أجعل من هذه الأرض نقطة مخاصمة أو نزاع بيني وبينك، وأنا أود أن أرضيك تماماً، وأرجو أن تعلم أن هذا يسعدني ويبهجني أكثر من أي مسطح من الأرض يمكن أن نختلف أو نتنازع عليه!!.. وإذ قال هذا رد عليه الرجل: يا صديقي.. إن هذا الحد بيننا لن يتزحزح عما هو عليه الآن بوصة واحدة، لتذهب الأرض كيفما تذهب، فإن الهدوء والسلام والصداقة أولى وأجمل وأسعد وأبقى.. لم يكن "غاندي" مسيحياً، ولكنه وعى كلمات المسيح المباركة في الموعظة على الجبل: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وقد قيل أنه في صدر شبابه كان يشرف على مجموعة من الشباب في جنوب أفريقيا، وفي فترة غيابه ظهر بينهم شاب ارتكب أخطاء جسيمة دون أدنى مبالاة،.. وعندما عاد غاندي سمع عما فعله الشاب، فناداه وتحدث إليه عما فعل، وتبين إصرار الشاب على تصرفه دون أدنى إحساس بألم أو ندم أو توبة.. فما كان من غاندي إلا أن قال: إن هناك خطأ قد حدث، ويبدو أني فشلت، ولابد من علاج لهذا الفشل، ولقد قررت أن أعالجه بالصوم عشرين يوماً، ولم يدرك الشاب في أول الأمر قسوة القرار حتى جلس إلى مائدة الطعام، وهنا أردك أنه لا يستطيع أن يأكل، وآخر جائع لا يتذوق طعاماً بسببه،.. ذهب إلى غاندي، وحاول أن يقنعه بتناول الطعام، وغاندي يرفض، وعذب الشاب، وقيل أنه أخذ من هذا الدرس ما لم يأخذه من دروس أخرى،.. لقد كسرت الوداعة الطيبة المسالمة قلبه، وجعلته فيما بعد من أحسن الشباب الذين عمل غاندي في وسطهم!.. لم يكن إسحق عملاقاً إذا قسنا حياته في ضوء حياة إبراهيم من قبله أو يعقوب من بعده، لكن هذه الحياة هي الدرس الذي يحتاجه العالم الباحث عن السلام في كل مكان وزمان، وهيهات له الوصول إليه قبل أن يصل إلى المعادلة التي نجح إسحق في حلها، معادلة السلام التي تأخذ سلامها من الله لتقتل به الحقد والنزاع والخصومة والضغينة، بروح من الحب والتسامح والتساهل والوداعة: "وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"..
المزيد
28 سبتمبر 2019

تذكار الإحتفال بالصليب المجيد بكنيسة القيامة سنة 43 ش في عهد الملك قسطنطين البار

نعيد في هذا اليوم بتذكار ظهور الصليب المجيد الذي لمخلصنا يسوع المسيح . هذا الذي أظهرته الملكة المحبة للمسيح القديسة هيلانة أم قسطنطين من تحت كوم الجلجثة الذي أمرت بإزالته ، أما سبب وجود هذا الكوم فهو أنه لما رأى رؤساء اليهود كثرة العجائب التي تظهر من قبر المخلص من إقامة الموتى وإبراء المقعدين ، غضبوا ونادوا في جميع اليهودية وأورشليم " كل من كنس داره أو كان عنده تراب ، فلا يلقيه إلا على مقبرة يسوع الناصري" ، واستمر الحال على ذلك أكثر من مائتي سنة حتى صار كوما عظيما . ولما حضرت القديسة هيلانة وسألت اليهود عن موضع الصليب لم يفيدوها . وأخيرا أرشدها بعضهم عن رجل يهودي مسن يسمى يهوذا يعرف مكانه ، فاستدعته فأنكر أولا ، ولما شددت عليه اعلمها مكان الكوم . فأزالته وأخرجت منه الصليب المقدس وبنت كنيسة وكرست عيد له في السابع عشر من شهر توت . وصارت الشعوب المسيحية تحج إليها مثل عيد القيامة . واتفق ان كان إنسان مسافرا هو وجماعته مع الشعب إلى أورشليم يدعى إسحق السامري ، هذا كان يبكت الناس على تكبدهم المتاعب في الذهاب إلى أورشليم .ليسجدوا لخشبه . وكان مع الشعب قسا يسمى أوخيدس ، وفيما هم سائرون في الطريق عطشوا ، ولم يجدوا ماء فأتوا إلى بئر فوجدوا ماءها نتنا مرا ، فضاق صدر الشعب جدا . وابتدأ إسحق السامري يهزأ بهم ويقول ان أنا شاهدت قوة باسم الصليب! آمنت بالمسيح . فغار القس أوخيدس غيرة إلهية وصلى على الماء النتن ورشمه بعلامة الصليب فصار حلوا . وشرب منه كل الشعب ودوابهم . أما إسحق فانه لما تناول وعاءه ليشرب وجده نتنا مدودا . فندم وبكى وأتى إلى القديس القس أوخيدس وخر عند قدميه أمن بالسيد المسيح . وشرب من الماء فوجده حلوا . وصار في ماء هذه البئر قوة ان يكون حلوا للمؤمنين ، ومرا لغيرهم . كما ظهر فيه صليب من نور . وبنوا هناك كنيسة . ولما وصل إسحق السامري إلى مدينة القدس ذهب إلى أسقفها واعتمد منه هو وأهل بيته . أما ظهور الصليب المجيد على يد الملكة هيلانة فكان في اليوم ا العاشر من برمهات . ولأنه دائمًا يكون في الصوم الكبير فقد استبدله الآباء بيوم 17 توت الذي هو تكريس كنيسته . والمجد والسجود لربنا يسوع المسيح إلى أبد الآبدين . آمين . ملاحظة طقسية : + طقس عيد الصليب شعانيني 3 أيام + تقرأ فصول عيد الصليب في الثلاثة أيام العيد حتى أيام الآحاد + يقال تى شورى والهيتنيات وفاى إيتاف إنف الخاصة بعيد الصليب كما تقال القسمة السريانية + يعامل عيد الصليب معاملة الأعياد السيدية .
المزيد
17 سبتمبر 2019

الصليب معنى ومفهوم - بمناسبة عيد الصليب

صليب ترد كلمة صليب 28 مرة في العهد الجديد بينما ترد الفعل منها 46 مرة. ولم يكن الصليب وسيلة للإعدام في العهد القديم (وكلمة "يصلب" ومشتقاتها في سفر أستير 5: 14، 7: 9و 10 معناها "يشنق" أو "يعلق") إذكانت وسيلة الإعدام هي الرجم. ولكن كان يمكن أن تعلق الجثث (بعد الإعدام رجماً) على خشبة لتكون عبرة (تث 21: 22و 23، يش 10: 26). وكانت من تُعلق جثته يعتبر ملعوناً من الله، ومن هنا يقول الرسول بولس أن المسيح" صار لعنة لأجلنا" لأنه علق على خشبة الصليب (غل 3: 13) كما كان يجب إلي تبيت جثة المعلق على الخشبة بل كان يجب أن تُدفن في نفس إليوم (تث 21: 23، انظر يو 19: 31). ومن هنا جاء التعبير عن صليب المسيح بأنه "خشبة" (أع 5: 30، 10: 39، 13: 29، 1 بط 2: 24) رمزا للإذلال والعار.وكان الصليب في البداية عبارة عن "خازوق" يعدم عليه المجرم، أو مجرد عمود يعلق عليه المجرم حتى يموت من الجوع والإجهاد ثم تطور على مراحل حتى أصبح في عهد الرومان عموداً تثبت في طرفه الاعلى خشبة مستعرضة فيصبح على شكل حرف “T” أو قبل النهاية العليا بقليل، وهو الشكل المألوف للصليب والذي يعرف باسم الصليب اللاتينى. وقد تكون الخشبتان المتقاطعتأن متساويتين، وهو الصليب إليونأني، أو أن يكون الصليب على شكل حرف “X” ويعرف باسم صليب القديس أندراوس، وقد استخدم هذا الشكل للصليب في العصور الرومانية المتأخرة.وقد بدأ استخدام الصليب وسيلة للإعدام في الشرق، فقد استخدمه الإسكندر الأكبر نقلا عن الفرس، الذين يغلب أنهم أخذوه عن الخازوق الذي كان يستخدمه الإشوريون. واستعار الرومان الفكرة من قرطاجنة التي أخذته عن الفينيقيين وقد قصر الرومان الإعدام بالصلب على العبيد عقاباً لإشنع الجرائم، وعلى الثوار من أهل الولايات. وقلما كان يستخدم الصليب لإعدام مواطن روماني (كما يذكر شيشرون). وفي هذا تفسير لما يرويه التاريخ من أن بولس الرسول (كمواطن روماني) أُعدم بقطع رأسه. أما بطرس (غير روماني) فأُعدم مصلوباً.وبعد صدور الحكم على المجرم بالصلب، كأنت العادة أن يُجلد عارياً بسوط من الجلد من جملة فروع يُثبت فيها قطع من المعدن أو العظام لتزيد من فعاليتها في التغذيب، ثم يُجبر المحكوم عليه على حمل صليبه إلى الموقع الذي سينفذ فيه الإعدام. وكان يجري ذلك عادة خارج المدينة. وكان يسير أمامه شخص يحمل لوحة عليها التهمة التي حُكم عليه من أجلها أو قد تُعلَّق هذه اللوحة في رقبة المجرم بينما هو يحمل صليبه على كتفيه وكان المحكوم عليه يطرح أرضاً فوق الصليب، وتربط يداه أو ذراعاه، أو تسمران إلى الصليب. كما كانت تربط قدماه أو تُسمران. ثم كان الصليب يرفع بمن عليه لكي يثبت رأسياً في حفرة في الأرض بحيث لا تلامس القدمان الأرض، ولكن ليس بالارتفاع الكبير الذي يبدو عادة في الصور . وكان ثقل الجسم يرتكز -بالقدمين أو بالعجز- على قطعة بارزة مثبَّة بالقائم الرأسى للصليب حتى لا يتعلق الجسم بثقله كله على الذراعين المسمرين، مما يجعل عضلات الصدر مشدودة، فيمتنع التنفس ويموت المحكوم عليه مختنقاً بعد لحظات قليلة من تعليقه وعندما كان الحراس يرون أن المجرم قد تحمل من العذاب ما يكفي كانوا يكسرون ساقيه حتى لا يرتكز بقدميه على الخشبة البارزة ويصبح الجسم كله معلقاً على الذراعين فيتعذر التنفس فيختنق المحكوم عليه ويموت كما حدث مع اللصين اللذين صلبا مع الرب يسوع. أما عندما جاء العسكر إلى يسوع لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات ولكن واحداً من العسكر طعن جنبيه بحربة وللوقت خرج دم وماء (يو 19: 33 و34) للتأكد من موته حتى يمكن أنزال الجسد، كما طلب اليهود من بيلاطس (يو 19: 31( ويبدو أن طريقة الصلب كانت تختلف من منطقة إلى أخرى في الامبراطورية الرومانية الواسعة. ويبدو أن العملية كانت من القسوة والفظاعة حتى استنكف كُتَّاب ذلك العصر من إعطاء وصف تفصيلى لها، فكانت تعتبر من أقصى وأبشع وسائل العقاب. ولكن الرب وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب ( في 2: 8).وقد كشف فريق من الأثريين – في صيف 1968 عن أربعة قبور يهودية في "رأس المصارف" بالقرب من أورشليم، وكان أحدها يحتوي على صندوق به هيكل عظمى لشاب مات مصلوبا ويرجع تاريخه إلى ما بين 7 ، 66م. كما تدل عليه الأوانى الفخارية – من عصر الهيرودسيين- التي وجدت في القبر ومنقوش على الصندوق اسم "يوحانان". وقد أُجريت أبحاث دقيقة عن اسباب وطبيعة موته، مما قد يلقي بعض الضوء على كيفية صلب ربنا يسوع المسيح. كان ذراع الرجل (وليس يداه) مسمرتين الى خشبة الصليب ولعل كلمة "يديه" في لو 24: 39 ، يو 20: 20 و25 و27، ويقصد بها ذراعاه. والأرجح أن ثقل الجسم كان يرتكز عند العجز على قطعة من الخشب بارزة مثبتة إلى قائم الصليب. وكان الساقان منحنيين عند الركبتين الى الخلف، والكاحلان مثبتين بمسمار واحد الى قائم الصليب. وقد ثبت من شظية وجدت من بقايا الصليب، أنه كأن مصنوعاً من خشب الزيتون. وكان الساقان مكسورين كما يبدو أن بضربة عنيفة مثلما حدث مع اللصين اللذين صلبا مع يسوع (يو 19: 32.(ويذكر المؤرخون المعاصرون أن الصلب كان أقسى اشكال الإعدام. ولا يصف البشيرون آلام المسيح الجسدية بالتفصيل، بل يكتفون بالقول "صلبوه". وقد رفض المسيح أن يأخذ أي مسكن لآلامه (مت 27: 34) ولم يكن اهتمام كتبة العهد الجديد، بصليب المسيح ينصب – أساساً- على الناحية التاريخية، بل على الناحية المعنوية الكفارية الأبدية لموت الرب يسوع المسيح ابن الله. وتستخدم كلمة "الصليب" تعبيراً موجزاً عن أنجيل الخلاص عن أن يسوع المسيح قد "مات لأجل خطايانا"، فكانت الكرازة بالأنجيل تتركز في كلمة "الصليب" أو "بالمسيح يسوع وإياه مصلوباً" (1 كو 1: 17 و18، 2 : 2)، ولذلك يفتخر الرسول بولس "بصليب ربنا يسوع المسيح" (غل 6: 14)، فكلمة الصليب هنا تعني كل عمل الفداء الذي أكمله الرب يسوع المسيح بموته الكفارى كما أن كلمة "الصليب" هي كلمة "المصالحة" (2 كو 5: 19)، فقد صالح الله إليهود والامم في جسد واحد بالصليب قاتلاً العداوة به " (أف 2: 14 –16)، بل صالح "الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه" (كو 1: 20 ) ، "إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضداً لنا وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب إذ جرد الرياسات والسلاطين إشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه" (كو 2: 14 و15).والصليب في العهد الجديد – يرمز إلى العار والاتضاع، ولكن فيه تتجلى "قوة الله وحكمة الله " (1 كو 1: 24). لقد استخدمته روما ليس كآلة للتعذيب والإعدام فحسب، ولكن كرمز للخزى والعار إذكان يُعدم عليه أحط المجرمين، فكان الصليب لليهود عثرة لأنه رمز اللعنة (تث 21: 23، غل 3: 13) وهذا هو الموت الذي ماته المسيح، فقد "احتمل الصليب مستهيناً بالخزى" (عب 12 : 2) وكانت آخر درجة في سلم اتضاع المسيح أنه "أطاع حتى الموت ، موت الصليب" ( في 2: 8) لهذا كان الصليب "حجر عثرة " لليهود (1 كو 1 : 23 انظر أيضاً غل 5 :11.( وكان مشهد حمل المحكوم عليه للصليب أمراً مالوفاً عند من خاطبهم المسيح ثلاث مرات بأن طريق التلمذة له هي "حمل الصليب" (مت 10: 38، مرقس 8 : 34، لو 14 : 27) أي حمل الخزي والإهانة من أجل اسمه ثم أن الصليب هو رمز اتحادنا مع المسيح، ليس فقط في اقتدائنا به، بل فيما لأجلنا وما يفعله فينا. ففي موته النيابي عنا على الصليب متنا نحن "فيه" (2 كو 5: 14) و"أنساننا العتيق قد صُلب معه" (رو 6: 4 و5)، لكى نستطيع بروحه الساكن فينا أن "نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة" (رو 6: 4 و 5 ، غل 2 : 20، 5: 24، 6: 14) ونحن ثابتون "فيه" (يو 15: 4، 11، روحية 14: 4، 2 كو 1: 21 في 4: 1، 1 تس 3: 3 و8الخ). دائرة المعارف الكتابية
المزيد
16 سبتمبر 2019

النيـروز ... عيد الشــــهداء

النيروز كلمة مشتقة من اللغة الفارسية وتعني "اليوم الجديد" وكان المصريون في أيام الفراعنة يحتفلون بعيد النيروز، وكان الأحتفال به يستمر لمدة سبعة أيام متواصلة... ويوافق عيد النيروز الأول من شهر توت (11 سبتمبر) كل عام والمعروف أن المصريين منذ عصر الفراعنة أول من قاس الزمن وأرخ السنوات وكانوا أيضًا أول من قسم السنة إلى شهور، وقد استخدموا التقويم الشمسي في حساباتهم ونظموا تقويمهم بدقة فكانت السنة اثني عشر شهرًا والشهر ثلاثين يومًا، وكان ذلك منذ عام 4241 ق.م. ويؤكد المؤرخ الإغريقي هيرودوت، أن المصريين قد توصلوا إلى ذلك نتيجة ملاحظتهم للنجوم، بل كانوا متفوقين عن الإغريق، إذ عدلوا السنة الشمسية عندهم بإضافة شهر صغير من خمسة أيام إلى إجمالي الاثنى عشر شهرًا، بحيث تبدأ السنة بدقة وفقًا لحساباتهم والجدير بالذكر فإن التقويم الشمسي لدى قدماء المصريين القائم على أساس الحسابات الفلكية، هو التقويم الذي تتبعه جميع الشعوب حتى الآن وعلى أساس التقويم المصري القديم جاء التقويم القبطي، الذي يتوافق تمامًا مع ظهور نجم أو "كوكب الشعري اليمانية" وهو ألمع نجوم السماء، خاصة قبيل شروق الشمس ومن هنا تعتبر السنة المصرية أو السنة القبطية، سنة نجمية ويرى علماء الفلك في العصر الحديث أن اليوم النجمي أكثر دقة من اليوم الشمسي... وكانت السنة عند قدماء المصريين تنقسم إلى ثلاثة فصول: فصل الفيضان: الذي تغمر فيه مياه النيل الأرض. فصل الإنبات: وهو موسم الزراعة. فصل الحرارة: وهو موسم الحصاد. وقد احتفظ المصريون حتى يومنا هذا بتقسيم فصول العام على هذا النحو، أما أشهر السنة القبطية فهي كالآتي: توت "من 11 سبتمبر حتى 10 أكتوبر" ويحمل اسم الإله المصري "تحوت" رب القمر، وهو شهر فيضان النيل، ومن هنا جاء المثل: "في توت لا تدع الفرصة تفوت". بابه "من 11 أكتوبر حتى 9 نوفمبر" وإسمه بالقبطية "باأوني" وهو مشتق من رب النضار "تروت" أو إله النيل "حابي". هاتور "من 10 نوفمبر حتى 9 ديسمبر" واسمه بالقبطية "أتهور" وهو مشتق من اسم إلهة الحب والجمال "حتحور" وفي هذا الشهر يبذر القمح، ومن هنا يأتي المثل: "هاتور أبو الذهب المنثور". كيهك "من 10 ديسمبر حتى 8 يناير" ويرجع إلى إله الخير أو الثور المقدس "أبيس" رمز الخصوبة ويقول المثل "كيهك صباحك في مساك". طوبة "من يناير حتى 7 فبراير" واسمه بالقبطية "طوبى" التي تعني النظافة والنقاوة وتشير إلى المطر في مصر الفرعونية يدعى "طوبيا" وهو شهر البرد والمطر في مصر، ومن هنا جاء المثل "طوبة تخلي الصبية كركوبة". * أمشير "من 8 فبراير حتى 13 أو 14 مارس" وهو شهر البرد الشديد والرياح الشديدة، ويقول المثل: "أمشير يأخذ الهدوم ويطير". * برمهات "من 14 أو 15 مارس حتى 8 أو 9 أبريل" وفيه يعتدل الجو ويبدأ الحصاد، ويقول المثل: "في برمهات روح الغيط وهات". * برمودة "من 9 إلى 10 مايو حتى 8 أو 9 مايو" وهو شهر الحر, ويقول المثل: "في برمودة دق العمودة أي وتد المظلة". * بشنس "من 9 أو 10 مايو حتى 7 أو 8 يونيه" وهو مشتق من اسم إله القمر ابن آمون، ويقول المثل: "في بشنس خلي بالك من الشمس". * بؤونة "من 8 أو 9 يونيه حتى 7 أو 8 يوليو" ويسمى بالقبطية "باأوني" وتعني الحجر والمعادن، وهو شهر القيظ الشديد ويقول المثل: "حر بؤونة يفلق الحجر". * أبيب "من 8 إلى 9 يوليو إلى 6 أو 7 أغسطس" وفيه تبدأ مياه النيل في الأرتفاع، ومن هنا جاء المثل: "في أبيب تفور مياه النيل وتزيد". * مسرى "من 7 أو 8 أغسطس حتى 5 أو 6 سبتمبر" وهو مشتق من الفعل القبطي "ميس" الذي يعني الوضع أو الخلق، وهو شهر فيضان النيل، ويقول المثل: "في مسري تفيض المياه وعلى الأرض تسري". * النسيء "من 6 أو 7 سبتمبر حتى 10 سبتمبر" وهو الشهر الصغير المتمم لأيام السنة، ويتكون من خمسة إلى ستة أيام، ويقول المثل: "في النسيء لا تكن أنت المسيء"ولا يزال هذا التقويم "القبطي" مستخدمًا عند الفلاحين حتى الآن، ويحفظونه عن ظهر قلب... رأس السنة القبطية: يعتبر عام 284 م فاتحة التقويم القبطي، حيث ارتقى الإمبراطور الروماني ديوكليتان "دقلديانوس" العرش، وكانت الأضطهادات التي أثارها من العنف حتى أن الأقباط هزتهم قسوتها وأثرت فيهم تأثيرًا عميقًا، ورغبوا في أن يبدأوا تقويمهم ابتداء من السنة الأولى التي ارتقى فيها ديوكليتان السلطة.. لقد بلغ عدد من استشهدوا في عصره في تقدير بعض المؤرخين بما يقارب المليون... وعلى هذا فإنه يمكن أن نؤكد أن الكنيسة القبطية تحوز امتيازًا بأنها قدمت أكبر عدد من المضطهدين في المسيحية بأسرها، ومع ذلك فإن لها أن تبتهج وتفخر بأنها استطاعت أن تقاوم كل القوى التي حاولت محوها... وفي هذا الصدد يقول المنسنيور جرين في كتابه قاموس القواميس:"إن وضع شهداء مصر وحدهم في كفة من الميزان وشهداء العالم كله في الكفة الأخرى، لرجحت كفة مصر". تعتز مصر بتاريخها ويعتز كل مصري بوطنيته وعقيدته وأصالته التاريخية فمصر تاريخ وتراث، يحيا فينا كمصريين قبل أن نكون مسيحيين أو مسلمين، ومن تراث مصر الموروث عيد النيروز الذي كان عيد مباركة نهر النيل وروافده عند المصريين القدماء، فالمصري القديم كان أول من قسم السنة إلى فصول وجعل رأس السنة هو أول السنة الزراعية التي تبدأ بشهر توت (أول شهور السنة القبطية سنة الشهداء). فكان يقام أحتفال كبير عند نهر النيل له طقوس خاصة فرحًا بزيادة مياه نهر النيل الذي يدعى باللغة القبطية (نياروؤو) هذه الكلمة التي أضاف اليونان إلى نهايتها حرف (s)، كما يضيفون للأسماء فأصبح (ني ياروس) ويظن البعض أنها كلمة فارسية ولكن في الحقيقة هي مصرية قديمة ومعدلة حسب قاعدة الأسماء اليونانية، أما كلمة نيروز الفارسية فقد أطلقها الفرس على الأعتدال الربيعي أو عيد الربيع عندهم إذ يقع في يوم 21 مارس من كل سنة الذي جعله (جمشيدجم) الملك يوم عطلة لأنه رأس السنة الإيرانية، وهو منقول عن المصريين القدماء عرفه الفرس أثناء غزوتهم المعروفة لمصر القديمة وليس من الصواب أن ننسب ما لنا إلى غيرنا. يقول العلامة المتنيح نيافة الأنبا لوكاس أسقف منفلوط:"إن كلمة نيروز ليست هي فارسية بل كلمة مصرية قديمة أصلها "نياروز" وهي اختصار لجملة مكررة في الصلاة "نيارو أزمو أروؤو" وهو قرار شعري ابتهالي إلى الخالق لمباركة الأنهار وتبعًا لقواعد الاختزال في اللغة القبطية فعوضًا عن تكرار القرار الشعري كاملاً بنصه واقتصادًا في الكتابة يكتفي بكلمة واحدة أو كلمة وجزء من الكلمة الثانية ويوضع فوقها خط أفقي يعني الإشارة التي توحي إلى القارئ بتكميل الجملة المختزلة وبتكرار القرار بوضعه "نياروس أو نياروز" في يوم أول السنة المصرية ومعناه عيد بركة الأنهار والمقصود بها النيل وروافده. وطنية عيد النيروز: احتفل المصري القديم بهذا العيد رسميًا أيام حكم الملك مينا الأول حوالي سنة 4000 ق.م. ومن المعروف أن توت المنعوت به أول الشهور المصرية والذي يحتفل في اليوم الأول منه بعيد النيروز هو الذي قالت عنه المعالم الأثرية إنه ولد قبل عهد الملك مينا الأول في مدينة خمنو (الأشمونيتن) التي تتبع مركز ملوي حاليًا محافظة المنيا وكانت مركز عبادة تحوتي إله الحكمة، وعاش توت إله العلم والمعرفة في مكان قرية منتوت حاليًا التابعة لمركز أبو قرقاص محافظة المنيا وله الفضل في إحياء روح الانتماء إلى نهر النيل لأنه جعل المصريين يحبون هذا النهر ويقدسوه فهو مصدر البركة والخير. وساهم البطالمة في عهدهم من 323 ق.م إلى 30 ق.م في الأحتفال بعيد النيروز بإقامة الهياكل التي من أهمها هيكل دندرة بجوار مدينة قنا بالوجه القبلي، ويشهد هذا الهيكل حتى الآن أن عيد النيروز كان عيدًا وطنيًا يحتفل به به كل الملوك على مر العصور وكان يصل عدد الحضور في ذاك الزمان إلى المليون يقدمون الذبائح والقرابين وكانوا يستحمون في النيل في صباح عيد النيروز ويرتدون الملابس الجديدة ويكرمون من يستحق التكريم ويأكلون خبز الزلابية الخالي من الخمير ويزورون "حقل النيروز" من منتوت إلى الأشمونيين حاملين أغصان النخيل وثماره التي أرتبطت كرمز بعيد النيروز بعد ذلك. ارتباط عيد النيروز بسنة الشهداء (عقيدة): احتل الرومان مصر سنة 30 ق.م، وفي القرن الأول الميلادي انتشرت المسيحية في مصر بكرازة القديس مرقس الرسول وتحولت العبادة الوثنية إلى عبادة الإله الواحد وانتشر الإيمان المسيحي في كل ربوع مصروتعرضت مصر المسيحية بعد ذلك إلى حلقات الأضطهاد العشر التي كان آخرها اضطهاد دقلديانوس وأعوانه سنة 284 - 305 م فإتخذت الكنيسة القبطية من بداية حكم ذاك الطاغية بداية لتقويمها الذي أطلق عليه تقويم الشهداء ففي عهده ارتوت أرض مصر بدماء الشهداء من أجل الإيمان بالله ووحدانيته وبدل أن يفرحوا بثمار الأرض فرحت الكنيسة بثمار الإيمان ومن هنا جاء رمز البلحة الحمراء وعيد النيروز، فاللون الأحمر يشير إلى دم الشهداء وقلب البلحة الأبيض يشير إلى قلب المؤمن والشهيد النقي والنواة الثابتة تشير إلى ثبات الإيمان وقوته، ومن العجيب أن النخل لا يأتي بالبلح الأحمر إلا في أيام النيروز وكأن الطبيعة تتحد مع التاريخ في صنع الأعياد ومعانيها، ولا غرابة أن يكون عيد النيروز عيدًا لشهداء مصر المسيحية فتاريخ مصر تاريخًا وطنيًا ملكلكل المصريين بصرف النظر عن معتقداتهم لذلك كان النيروز عيدًا يهتم به كل الحكام حتى عهد المماليك، فكانت الحكومة تدفع مبالغ كبيرة من المال وتوزع هدايا من الملابس الحريرية والفاكهة لكبار رجال الدولة وتعطي معونات على يد متخصصين كان يطلق عليهم لقب (أمير النيروز) فكان يوم النيروز من أبهج الأيام والمواسم في مصر بأستثناء عهد الظاهر برقوق الذي أمر بعم الأحتفال به في القاهرة نظرًا لبعض السلوكيات، ولن الفاطميين اهتموا به وجعلوه عيدًا وطنيًا لكل المصريين ويقول المقريزي:"وكان النيروز القبطي في أيامهم من جملة المواسم فتتعطل فيه الأسواق ويقل فيه سعي الناس في الطرقات وتفرق فيه الكسوة لرجال أهل الدولة وأةلادهم ونسائهم والرسوم من المال وحوائج النيروز كما يذكر لنا التاريخ الحديث أنه في عهد محمد علي الكبير كان الأحتفال بعيد النيروز احتفالاً وطنيًا تدق فيه الطبول وتقام فيه التقاليد والعادات القديمة وتعطل فيه جميع الأعمال وعندما جاء سعيد باشا واليًا على مصر عام 1854 م أصدر في يوم السبت 7 يوليو عام 1855 م أمرًا بأن التاريخ القبطي هو التاريخ الرسمي في دواوين الحكومة وظل معمولاً به لمدة عشرين عامًا حتى جاء إسماعيل باشا ونقض هذا الأمر وتحول إلى التقويم الأفرنجي، ولكن إلى الآن يحتفظ الفلاح المصري بالتقويم القبطي (المصري القديم) تقويم الشهداء وبقيت معه الكنيسة القبطية محتفظة بتاريخ مصر محتفلة بعيد النيروز من 1 توت وحتى يوم 16 توت مؤكدة وطنيتها ومصريتها فعيد النيروز تاريخ وتراث لكل مصر ولنا أمل أن يعاد الأحتفال الوطني به على أساس أنه عيد مقترن باحترام نهر النيل الخالد وبعيدًا عن أي تعصب، أتمنى أن تقوم الدولة بخطوة وطنية ويتم تعديل القرار رقم 14 لسنة 1962 بإضافة يوم عيد النيروز إلى الأعياد الوطنية ويعامل معاملتها ويعتبر إجازة لكل المصريين، ولو تم هذا فسوف تمحو الدولة سيئة من السيئات التي صوبت نحو وطنية الإنسان المصري..
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل