المقالات
02 نوفمبر 2019
إسحق
"وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام" تك 26: 31
مقدمة
لست أعلم إن كان كتاباً يعطي أنماطاً لا تنتهي، وصوراً مختلفة للناس، كما يفعل كتاب الله العظيم الكتاب المقدس، إنه أشبه الكل بالبستان الواسع الرحب، الذي تجد فيه الصنوف المتعددة المختلفة من الأزهار والأشجار والأثمار، وهو الساحة الكبرى أن تنتقل فيها، وأنت تعرض لقصص الناس، بين الجبال والوهاد، والسهول والمروج، والصحاري والوديان، والجداول والأنهار، حتى يمكن أن تقع العين على العملاق والقزم، المنتصب والقميء، الجميل والقبيح، الخير والشرير، الأبيض والأسود على حد سواء،.. فإذا كنت تقرأ مثلاً قصة أبي المؤمنين إبراهيم، وترى نفسك إزاء عملاق من عمالقة العصور، وبطل من أبطال الأجيال، ورجل من أعظم رجالات التاريخ، فإنك عندما تتحول فجأة إلى ابنه إسحق، ستجد نفسك إزاء رجل آخر يختلف تمام الاختلاف عن أبيه، فإذا كان أبوه يتسم بالحركة، فإن الابن أدنى إلى السكون، وإذا كان إبراهيم أظهر في الإقدام والجسارة، فإن إسحق أركن إلى الهدوء والدعة،.. وإذا كان أبو المؤمنين نموذجاً غير عادي لمن يطلق عليهم النوادر من بني البشر، فإن إسحق أقرب إلى الإنسان العادي الذي تكاد تلاقيه بين عامة الشعوب، وإذا كانت ميزة إبراهيم الإيجابية المندفعة إلى الأمام، فإن ميزة ابنه السلبية القابعة الساكنة الرابضة في كل هدوء،.. وإذا كان أبو المؤمنين يكشف في مجمل حياته عن "الصداقة الكريمة المتعمقة مع الله" فإن السمة البارزة في حياة إسحق، هي سمة "السلام" فهو الإنسان الهاديء الذي يحب السلام، وينشده من كل وجه، وهو الذي يرغب دائماً في الجلسات الهادئة دون معكر أو منازع،.. وهو ضيق أبلغ الضيق، مرير أبلغ المرارة، إذا شابت سماءه غيوم أو عواصف، وهو لا يسلم من هذه العواصف داخل بيته، أو من الجيران المتربصين الحاقدين الحاسدين خارج هذا البيت،.. ولكنه مع ذلك هو الإنسان الذي يبذل كل جهد أو ثمن في سبيل الحصول على السلام، وهو متعثر في ذلك حيناً، ناجح على الأكثر والأرجح في أغلب الأحيان،.. وهو في كل الحالات النموذج الكتابي العظيم للإنسان الذي يحب السلام، ويسعى إليه، ويطلبه من كل وجه، ولذا يحسن أن نراه في معرض الكتاب في الصور التالية:
إسحق.. من هو؟!!
إن الصورة التي يرسمها لنا الكتاب عن إسحق، تعطينا الانطباع، بأنه الإنسان الضعيف البنية، وربما نشأ هذا في ذهن الكثيرين من الشراح لمجيئه المتأخر من أبوين مسنين، إذ هو ابن الشيخوخة، وليس هو كما وصف يعقوب رأوبين: "أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز".. ولعل الذي زاد هذا التصور عند هؤلاء الشراح، أو رجحه هو القول الذي ورد في رسالة غلاطية عن علاقة إسحق بأخيه: "ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح، هكذا الآن أيضاً" ومن المعلوم أن أخاه كان أوفر قوة، وأصح بدناً، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه،.. وهيهات أن يقارن به إسحق من الوجهة البدنية، والذي كان يقع دائماً تحت سطوته ورهبته إلى الدرجة التي أصرت معها سارة على طرد هاجر وابنها، الأمر الذي ساء في عيني إبراهيم، واستجاب له عن ضيق وألم واضطرار،.. وقد يكون هذا الاضطهاد المبكر، من الوجهة البشرية الخالصة، هو الذي أورث إسحق نوعاً من الحياة الانطوائية المنعزلة، فهو ليس الإنسان الذي يتفتح قلبه للجلسات مع المجتمع الصاخب حوله، وهو ليس الإنسان الذي يهرع إلى الناس، يبادلهم الزيارة والحديث والتعامل والضجيج، بل هو على العكس من الصبح الباكر في حياته، إنسان يأنس إلى الوحدة، ويلوذ بها، ويعيش في كنفها، وليس أحب إليه أن يجلس أياماً وليالي، دون أنيس أو صديق،.. فإذا سئل كيف يمكنه أن يعيش هذه الحياة، ويؤثرها، وتحلو له؟!! ربما أجاب إجابة برنارد شو عندما سأله أحدهم: لماذا يحب العزلة؟ فكان جوابه: "لأني أريد أن أجلس مع إنسان ذكي وهو يقصد بذلك نفسه، إذ يجلس إليها مفكراً متأملاً، مع هذا الفارق البعيد أن برنارد شو مهما اتسع في حديثه مع النفس، لم يصل إلى الحياة المتأملة مع الله التي كان يعيشها إسحق طوال حياته على هذه الأرض،.. كان إسحق منعزلاً ولكنه كان ابناً لله، ولقد أطلق عليه أحدهم "ورد ثورت عصره" أي الإنسان الذي كان يتمشى مع الله في سفوح الجبال، وكأنما الطبيعة كلها قد تحولت عنده إلى هيكل أو معبد لله،.. ولعله مما يجدر ذكره أن رفقة رأت إسحق لأول مرة عندما "خرج إسحق ليتأمل في الحقل عند إقبال المساء".. وهكذا كان إسحق على الدوام في الحقل أو الصحراء، في المساء أو الشروق، هو الإنسان المتأمل الذي ينصت في السكينة إلى صوت الله، ويتحدث في عمق وهدوء وتأمل إلى سامع الصلاة الذي يأتي إليه كل بشر!!.. كان إسحق إذاً ذلك الإنسان الهاديء الساكن المجبول على الوحدة والعزلة، والإنصات والتأمل، وهو أدنى إلى الله منه إلى الناس، وهو أقرب إلى المولى منه إلى البشر، وهو في كل الحالات الإنسان الذي يؤثر الهدوء، ويغري بالسكينة، ويمتليء فرحاً بالنسمة الهادئة، والجدول الرقراق، والعصفور الصغير الذي يزقزق في عشه من غير خوف أو فزع أو اضطراب،.. هل كان عنف أخيه كما ألمعنا هو الذي حبب إليه الحياة الهادئة من مطلع العمر؟ أم أنه ورث الهدوء عن أمه، وكان أقرب في طباعه إلى هذه الأم من أبيه؟؟. أغلب الظن أنه أعجب بالحياة الساكنة الهادئة لأمه، وأن هذه الأم كانت حضنه الهاديء الآمن الذي يلوذ به من عنف أخيه وقسوته وشراسته، وأن هذا الفارق البعيد بين دعة أمه، وعنف أخيه هو الذي جعله يتشبث بالسلام، وينزع إليه، ويحبه، وينشده طالما وجد السبيل إلى ذلك، في رحلته الأرضية التي طالت إلى المائة والثمانين من عمره بين الناس!!
على أن هذا كله في عقيدتي كان يبدو ضعيفاً وناقصاً ومبتوراً، ما لم يعثر إسحق على السر الأكبر في حياته في اتجاه السلام مع الناس، ألا وهو السلام مع الله، وذلك لأن السلام مع الله، هو أساس كل سلام، وسر كل سلام في حياة الإنسان على هذه الأرض،.. كان إسحق إنسان الصلاة، أو الإنسان الذي إذا ضاق بالحياة، وضاقت الحياة به، أو إذا عكر صفو سلامه لأي سبب كان يشق طريقه إلى الله ليغلب همه وينتصر على ضيقه بالصلاة،.. وبعد مئات من السنين وقد طافت الهموم بواحد من أبنائه إذ غشيه الاضطراب والضيق، ولعله في تلك اللحظة كان يرى طائراً يرف بجناحيه في أجواز السماء فصاح: "ليت لي جناحاً كالحمامة فأطير وأستريح هاأنذا كنت أبعد هارباً وأبيت في البرية كنت أسرع في نجاتي من الريح العاصفة ومن النوء".. على أنه سرعان ما أدرك غباء فكره، وحماقة تصوره، فاتجه إلى المصدر الوحيد للأمن والهدوء والسلام، وقال: "الق على الرب همك فهو يعولك لا يدع الصديق يتزعزع إلى الأبد".. أجل.. وفي يقيني الكامل أن الصلاة عند إسحق كانت العلاج الأعظم لمشاكله المتعددة وهو يمد يده من أجل السلام مع جميع الناس!!..
إسحق وقصة السلام مع الناس
وربما نستطيع أن نفهم قصة إسحق مع السلام في علاقته بأقرب الناس إليه وأبعدهم عنه، إذا سرنا وإياها مع التتابع الزمني:
إسحق وأخوه
كان أخو إسحق الأكبر قبلة النظر ومحط الآمال، عندما جاء مولوداً من هاجر الجارية المصرية، وكان –كما أشرنا- قوي البنية، متين البنيان، ومن غير المتصور أن يقبل التزحزح إلى الظل عند مولد أخيه الأصغر، ومن ثم كان لابد أن يظهر بطبيعته البطاشة وذراعه القوي، تجاه من هو أصغر منه وأضعف،.. ولم تقبل سارة هذا الوضع أو تحتمله على الإطلاق، فأكرهت زوجها إبراهيم على طرد الجارية وابنها،.. وكانت العزلة الواسعة بين الولدين شديدة الوقع على نفس أبي المؤمنين إبراهيم، لكنه يبدو أنه أنصت إلى صوت الله في الأمر، ولعل هذا هو الذي خفف وقعها، وهون أمرها، وسار الولدان كل في طريقه مع الحياة والأيام، ونهج المسلكين المختلفين، والأسلوبين المتباينين، والغايتين المختلفتين، وكانت العزلة –وهما يدريان أو لا يدريان- هي السبيل الأصلح والأنجح لحفظ السلام بينهما،.. فإذا كان المزاح الأول، والاضطهاد الأول، والولدان صبيان، هو الذي شجع في إسحق الرغبة الانطوائية المسالمة التي صاحبته الحياة كلها، فإن الفرقة بين الاثنين كانت ولا شك أصلح الطرق وأفضلها، في القضاء على كل نزاع يمكن أن يثور بين أخوين يجمعهما بيت واحد وأسرة واحدة، ومكان واحد، يسهل أن يتطاير فيه لأتفه الأمور، وأقل الأسباب!!..
إن الكثيرين تحت سوق العاطفة أو التهاب المشاعر، لا يستطيعون تطويق النزاع بين أخوين أو قريبين، بمثل هذا الحل من التفريق بينهما، لكن إبراهيم أدركه كالحل الوحيد في المنازعة مع لوط يوم قال له: "لا تكن مخاصمة بيني وبينك وبين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان، أليست كل الأرض أمامك، اعتزل عني إن ذهبت شمالاً فأنا يميناً وإن يميناً فأنا شمالاً".. وأدركه كالحل الدائم بين ولديه المختلفي المشارب والنزعات، والميول والغايات.. ومن المؤكد أن البتر ليس شيئاً يشتهيه الطبيب الجراح، ولكنه قد يكون العلاج الأوحد لسلامة الجسد، وحفظ الحياة!!..
إسحق وأبوه
كان إسحق من مولده الشمعة المنيرة المضيئة في بيت أبيه، كان هو كما أطلق عليه "ضحك" البيت ومسرته وبهجته، ولا أحسب أنه في يوم من الأيام سبب لأبويه تعباً أو مشقة أو ألماً أو ضيقاً بأية صورة من الصور، كان هو أنشودة السلام في هذا البيت القديم العظيم، على أنك لا تستطيع أن ترى إسحق في أروع مظهر من مظاهر السلام، إذا لم تره أو تعرفه فوق جبل المريا مع إبراهيم، كان إسحق في ذلك التاريخ –كما يعتقد المفسرون- في الخامسة والعشرين من عمره، شاب في ميعة الصبا وأوج الشباب، ولندع "يوسيفوس" يعطينا صورة الحوار بينه وبين أبيه، بعد أن بنى كلاهما المذبح الذي انتوى إبراهيم أن يقدمه عليه، قال إبراهيم لابنه: "أي ولدي: لقد رفعت من أجلك صلوات متعددة حتى جئت ابناً لي، ومنذ ذلك التاريخ كانت مشيئة الله أن أكون أباك، والآن إنها مشيئته أن أقدمك له، .. ولنحمل يا بني هذا التكريس بذهن متفتح، إذ يلزم يا ابني أن تموت، وليس بطريق من طرق الموت العادي، ولكن الله يريدك ذبيحة له، .. أنا أعتقد أنه يراك جديراً بأن تخرج من هذا العالم، لا بالمرض أو الحرب، أو بأي وسيلة أخرى قاسية، بل سيقبلك بالصلاة وعلى مذبح الدين، وسيجعلك قريباً منه.."الخ. وأجاب إسحق في الحال، إنه ليس أهلاً أولاً للحياة لذا خزل إرادة الله وأبيه، ولم يتمم شهوة قلبيهما.. وصعد بنبل في أروع تكريس على المذبح مجهزاً عنقه لطعنة أبيه!!.. ومع أني أتفق مع الرسول بولس أكثر من يوسيفوس، أن إبراهيم قدم ابنه وهو يعلم أنه سيذبحه، وبعد ذلك سيقوم من الأموات، كما جاء في الرسالة إلى أهل رومية،.. لكن هذا الضرب العظيم من الولاء والتكريس ينسي الناس أن فضل إسحق فيه لا يقل عن فضل إبراهيم. ومن الواجب أن نرى هذا الشاب العظيم رمزاً للأعظم الذي سيأتي بعد ألفي عام ليصيح في جسثيماني "لتكن لا إرادتي بل إرادتك".. وسنرى إسحق فوق المذبح في سلام الشهداء وعظمتهم، وأن السلام العميق الذي يربطه بالله حياً هو هو بعينه الذي يربطه به مذبوحاً وشهيداً،.. وهو ليس في كل الأحوال جهداً بشرياً أو شجاعة إنسانية، بل هو سلام علوي يأتي في أدق الظروف وأرهبها وأتعسها على وجه الإطلاق، ليعلم إسحق أن ينام هادئاً فوق المذبح، كما لو كان فوق فراش من حرير ودمقس، ويعلم الشونمية العظيمة، عندما تفقد ابنها، ويرسل إليشع غلامه يسألها! "أسلام لك: أسلام لزوجك، أسلام للولد؟ فقالت سلام".. حقاً إنه سلام الله الذي يفوق كل عقل عرفه إبراهيم وعرفه ابنه إسحق في أعظم امتحان لبشري أمام الله!!..
إن هذا السلام يتحقق في العادة لمن يبلغون نقطة "التسليم التام" لله، التسليم الذي توثق فيه الذبيحة بربط إلى المذبح، التسليم الذي يصعد فيه الإنسان رغم قسوة الامتحان ودقته، بقدميه على المذبح مكتف اليدين والرجلين، مادا عنقه لما يقضي به الله ويأمر به، ولا حاجة إلى القول أنه سيكون على الدوام مصحوباً بالفرح والبهجة، كما يقول يوسيفوس إن إبراهيم بعد أن قدم كبش الفداء، احتضن ابنه، وضمه بقوة إلى صدره، وعاد كلاهما أسعد اثنين على هذه الأرض، يتمتعان ببهجة السلام الذي تموت فيه النفس عن رغبة في الأرض. إلا بأن تعطي أولاً وأخيراً المجد لله!!.. وإن كنت لا أثق في التقليد القديم الذي جاء في ترجوم في أورشليم، والذي فيه يرد عمى إسحق في أخريات حياته، إلى أن أباه وهو يقيده فوق المذبح مد نظره فرأى عرش المجد، ومن تلك اللحظة بدأت عيناه تضعفان عن النظر في الأرض لكني أعلم تماماً أن الحياة التي تعطي الله مجداً على هذه الصورة، لابد أن تصل، وبكل يقين، إلى سلام الله الذي يفوق كل عقل!!..
إسحق وولداه
وهنا نأتي إلى المعاناة والاضطراب والعواصف البيتية التي عكرت الكثير من هذا السلام، ومن المؤسف أن إسحق كان الملوم الأول في هذا الأمر، إذ غلب فهمه البشري على إرادة الله جل جلاله، ومع أنه يعلم وعد الله، عندما ذهبت رفقة وهي حبلى لتسأل الرب: "فقال لها الرب في بطنك أمتان ومن أحشائك يفترق شعبان، شعب يقوى على شعب، وكبير يستعبد لصغير".. وخرج الاثنان إلى العالم، وأحب إسحق عيسو لأن في فمه صيدا، وأما رفقة فكانت تحب يعقوب،.. كان الأبوان يحب كل واحد منهما الشخص الذي يعتبر مكملاً لحياته، فإسحق الهادي الوادع الساكن، كان أميل إلى الابن الأشعر المهيب الطلعة الممتليء الحركة، الذي تخشاه القبائل، وتحسب له ألف حساب وحساب،.. في الوقت الذي كانت رفقة المتحركة المتحفزة تميل إلى الابن المطيع المحب الوادع، .. وأمعن كل من الأبوين في التعبير عن حبه دون مبالاة أو تغطية أو تحفظ، ولم يدريا بذلك أنهما يصنعان الصدع أو الشرخ في البيت، في السلام الذي لا يمكن أن يتحقق على الإطلاق للأسرة المنقسمة على ذاتها، وما يتبع هذا الانقسام من فرقة وتحزب وتحيز.. أجل.. ولعله من الواجب أن ترفع هنا صوت التحذير، لكي يتعلم الأب أو الأم أنه إن عجز بينه وبين نفسه أن يميز ابناً عن آخر، لما قد يكون في هذا الابن من السمات أو الصفات، ما يجعله أقرب أو أدنى إلى عواطفه وحبه ونفسه،.. فإن الخطأ الذي يقترب من الجريمة أن يحس واحد من الأبناء بأن هناك تفرقة أو تمييزاً في المعاملة بين ولد وآخر. كان أحد الآباء يميز ولداً من أولاده على الآخرين، وذات يوم أبصر صغيراً يتحرك من غرفة النوم، ظنه الابن المدلل، فهتف قائلاً: تعال يا حبوب، وجاءه الرد: أنا يوسف فقط ولست الحبوب، وكان هذا ابناً صغيراً آخر من أولاده،.. وكانت هذه العبارة وما فيها من رنة أسى وأسف وحزن، آخر عهد الأب بالتمييز بين أولاده بكافة الصور والألوان،..
هل أفسد إسحق عيسو بهذه التربية المتحيزة المتميزة المدللة؟ وهل كان من المتعين أن يكون عيسو إنساناً آخر لو أن أباه اهتم برائحة حياته الروحية، قدر اهتمامه برائحة ثيابه الفاخرة التي تعود أن يشمها كلما جاءه الابن الأكبر بصيد دسم سمين؟.. إننا نظلم إسحق كثيراً إذ اتهمناه بالبطنة التي ضيعت كل شيء في حياة عيسو، على ما يذهب الكسندر هوايت، وهو يصب جام غضبه عليه، عندما يأخذ من يد ابنه بنهم كبير، وشهوة بالغة، مما صاد بسهمه وقوسه، من الصيد أو الطعام الذي كان يحبه ويشتهيه،.. ولكننا في الوقت عينه –وإن أخفى عنا قصد الله السرمدي الذي أحب من البطن يعقوب وأبغض عيسو- لا نملك إلا أن نلوم- إلى درجة السخط- إسحق الذي ترك الحبل على الغارب لابنه، ونسى النبوة الإلهية الخاصة به، حتى وصل عيسو إلى الوصف الرهيب القبيح الذي وصفه به كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لئلا يكون أحد زانياً, أو مستبيحاً كعيسو الذي لأجل أكلة واحدة باع بكوريته، فإنكم تعلمون أنه أيضاً بعد ذلك لما أراد أن يرث البركة رفض إذ لم يجد للتوبة مكاناً مع أنه طلبها بدموع".. وجاء عيسو إلى بيت أبيه بيهوديت ابنة بيري الحثي، وبسمة بنت إيلون الحثي، زوجتيه اللتين أضحتا ينبوعاً من المرارة لرفقة وإسحق والبيت كله!!.. فإذا أضفنا إلى هذا كله قصة الصراع الرهيب المديد الطويل، الخفي حيناً، والظاهر أحياناً، حول البركة، والبكورية، وما لحقهما من تهديد عيسو بقتل أخيه، وغربة هذا الأخير لفترة ظن أول الأمر أنها لشهور قليلة، فإذا بها تطول إلى عشرين من الأعوام، ماتت أثناءها رفقة على الأغلب، وعاد يعقوب إلى أرضه، ولو رحمة من الله وضمانه الأبدي، لهلك في الطريق، وفي الصراع مع الأخ المتحفز المتربص، الذي لم يهدأ الثأر في قلبه طوال هذه السنوات بأكملها.. أجل وإنه لأمر مؤسف حقاً، أن الرجل الذي نجح في السلام مع العالم الخارجي، كان في حاجة إلى الصرخة القائلة: أيها الطبيب اشف نفسك، وحقق السلام قبل وبعد كل شيء بين ولديك التوأمين المتنازعين!!..
إسحق والعالم الخارجي
ومن الغريب أن الرجل الذي تعثر السلام في بيته نجح أكبر النجاح مع العالم الخارجي، المتربص به، والمتحفز له، والذي كان من الوجهة البشرية الخالصة يمكنه أن يقضي عليه، ويأتي على كل ما يمتلك،.. كانت حياة إسحق في مجملها حياة الإنسان الهاديء الطيب، وربما كانت طيبته المتزايدة نوعاً أكثر من مجرد المرونة المحبوبة التي ينبغي أن نتصف بها في معاملة الناس،.. أو إن شئنا الحقيقة كانت في الكثير من المواطن نوعاً من الليونة التي تنتهي في العادة إلى العكس مما يقصد صاحبها، ومن المؤكد أن إسحق كان من الممكن أن يكون أهنأ حالاً وأسعد بيتاً، لو أنه أخذ بيته بنوع من الحزم، لا يشجع استباحة عيسو، أو خداع يعقوب، أو استهانة الزوجة،.. ولكنه وقد جبل على الوداعة والطيبة، شجع هذه الأطراف على أن تتصرف بما لا يليق من أفعال أو تصرفات،.. ومع ذلك فهذا الرجل المسالم أعطى أروع الأمثلة وأعظمها على القدرة التي يستطيع بها المؤمن أن يعيش في وسط الوحوش والأشبال،.. لقد أدرك إسحق أن الهدوء والأمن والسلام تسير أطرادا مع ثقته الموطدة والممكنة في الله، فهو مثلاً على شفا الضياع إذ خاف وفزع وفعل ما فعله أبوه إذ زعم أن رفقة أخته، خوفاً من أن يقتلوه ويأخذوها لأنها كانت جميلة فاتنة حسنة المنظر،.. وهو قوي إذا طرح الخوف، وآمن أن الله أقوى وأقدر من كل القوات التي تتربص به، وتتعرض له أو تحاول أن تنال منه بأية صورة من الصور،.. وقد أكد الله هذا إذ ظهر له وشجعه وأعاد له العهد الذي سبق فأعطاه لإبراهيم أبيه، وإذ أراد الله أن يعطيه البرهان الفائق العظيم، باركه في سنة المجاعة القاسية: "وزرع إسحق في تلك الأرض فأصاب في تلك السنة مائة ضعف" "وتعاظم الرجل وكان يتزايد في التعاظم حتى صار عظيماً جداً" فإذا كان إسحق يريد أن يطمئن ويهدأ ويستريح في النهار، وينام قرير العين في الليل، فلن يكون ذلك إلا بشيء واحد ألا وهو التأكد بأن الذي معه أقوى من الذي عليه، وأن العين التي تحرسه لا تنعس أو تنام، في الوقت الذي تغفو أو لا تغفو عيون الناس المتربصة به، الحاسدة له، والراغبة كل الرغبة في الإيقاع به والقضاء عليه،.. إن الولد الصغير الباسم يقف في حديقة الحيوان أمام الأسد المخيف دون أن يفزع أو يضطرب، ليقينه الكامل أن الموازنة بين قوته الواهنة وقوة القضبان الحديدية وقوة الأسد ووحشيته، تقع على الدوام في جانبه وإلى صالحه، ومن ثم فهو يضحك ويطرب ويداعب ويلاعب الأسد نفسه، لأنه مهما كانت قوة ملك الوحوش، فإن الصغير وقد أضاف قوة القضبان إلى قوته هو، يعلم بالتأكيد أنه الأقوى والأعظم.. كان الذين حول إسحق وحوشاً ازدادت قسوتهم ووحشيتهم لأن إسحق، دائماً ينجح وهم فاشلون، وإسحق دائماً يتعاظم وهم متهاونون، وإسحق في وقت الجدب والمجاعة يزرع ويحصد مائة ضعف وهم يزرعون وتجف مزارعهم ويتحول ما يزرعون إلى عصافة تدفعها العواصف وتذروها الرياح، وإسحق يربي الماشية فتتوالد وتتكاثر، وهم يربون ومواشيهم تضمر وتموت، وإسحق يحفر آبار فتنفجر وتروي، وهم يحفرون فلا يجدون إلا رمالاً وجفافاً، وخيبة أمل فيما يحفرون، فإذا ضاقوا بجهدهم وحسدهم، فما أسهل أو أيسر عليهم إلا في المشاكسة والمنازعة والخصومة، فإذا بهم يطمون الآبار التي حفرها أو يغتصبونها، وينازعون في حقه فيها، ويتحرشون به، لعلهم يجرونه إلى المصارعة والمنازلة عليها،.. والرجل مع ذلك هاديء قرير، لم يخرجه الاستفزاز يوماً عن طوره، أو الظلم عن طبع السلامة والمسالمة فيه،.. وهو أشبه الكل بالولد الصغير أمام الأسد المتوحش المحبوس في قفصه لأنه يعلم علم اليقين أنه الأقوى والأعظم بربه وسيده ومخلصه وفاديه،.. فإذا نازعوه في مرعى، فإن الأرض واسعة ومراعي الله الأخرى في كل مكان،.. وإذا طموا له بئراً، فإن الله سيعطيه غيرها آباراً، فليترك البئر "عسق" بئر المنازعة، ويترك البئر "سطنه" بئر المخاصمة لأن الله سيعطيه بئر "رحوبوت" حيث يمكنه أن يقول: "إنه الآن قد أرحب لنا الرب وأثمرنا في الأرض" ثم بئر "شبعة" التي تزيد شبعاً ورياً، حيث يعطيه الله الفيض الذي لا يمكن أن يحجزه الإنسان!!..
فإذا كان الإنسان يحقد أو يحسد، فإن إسحق المسالم قد وجد الحل الأعظم والأمثل للحقد أو الحسد، إذ أنه يحول قضيته من الإنسان إلى الله، ومن حقد البشر إلى عدالة الله، ومهما كان الإنسان عنيفاً، فإن الخصومة في العادة تحتاج إلى طرفين، فإذا تعدي أحد الطرفين ورفض الآخر أن يرد العداء أو يقاوم الشر، فإن المعتدي لا يمكن أن يستمر في شره وعدائه، وتخف أو تموت حدة النزاع مهما بدأت عنيفة شرسة مخيفة قوية، بل في أغلب الحالات تنتهي إلى المصالحة والسلام،.. كان إسحق رائداً من أقدم الرواد وأعظمهم في هذا السبيل، وهو الرائد الذي انتصر آخر الأمر عندما سعى إليه أبيمالك وأحزات من أصحابه وفيكول رئيس جيشه، فقال لهم إسحق: ما بالكم أتيتم إليَّ وأنتم قد أبغضتموني وصرفتموني من عندكم، فقالوا إننا قد رأينا أن الرب كان معك، فقلنا ليكن بيننا حلف بيننا وبينك ونقطع معك عهداً أن لا تصنع بنا شراً كما لم نمسك وكما لم نصنع معك إلا خيراً، وصرفناك بسلام، أنت الآن مبارك الرب فصنع لهم ضيافة فألكوا وشربوا ثم بكروا في الغد وحلفوا بعضهم لبعض وصرفهم إسحق فمضوا من عنده بسلام. وحدث في ذلك اليوم أن عبيد إسحق جاءوا وأخبروه عن البئر التي حفروا وقالوا له قد وجدنا ماء فدعاها سبعة لذلك اسم المدينة بئر سبع إلى هذا اليوم.. وفي الحق أن هذه البئر ليست مصادفة أن تفجر ماءها في اليوم الذي يتعاهد فيه إسحق مع أبيمالك على السلام.. إذ هي في الحقيقة مكافأة الله وجزاؤه لصانعي السلام، ومحبيه بين الناس في كل مكان وزمان، على توالي العصور وامتداد الأجيال!!
إن مقاومة الشر بالشر لا تبقى عليه شراً واحداً بل تضاعفه إلى اثنين، كما أن آثار الشر لا يمكن أن تنال طرفاً وتترك الآخر، فهي كالحرب، ويل فيها للغالب والمغلوب على حد سواء، ولقد فطن الحكيم القديم إلى هذه الحقيقة فقال: "إن جاع عدوك فاطعمه وإن عطش فاسقه ماء فإنك تجمع حجراً على رأسه والرب يجازيك" وسار في أعقابه بولس يوم قال: "لا تجازوا أحداً عن شر بشر معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس، لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكاناً للغضب لأنه مكتوب لي النقمة أنا أجازي يقول الرب فإن جاع عدوك فأطعمه وإن عطش فاسقه لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه، لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير".. ولعل أمثلة حديثة من هذا القبيل يمكن أن تعطي الصور الناجحة لانتصار الروح المسالمة على العناد والقسوة والخصومة،.. عاش جوزيف برادفورد مساعداً أميناً لجون ويسلي وهو يصاحبه في رحلاته وخدماته التبشيرية سنوات متعددة، وحدث ذات مرة أن اشتد النزاع بين الصديقين إلى الدرجة التي قررا فيها في مساء يوم من الأيام أن يفترق الواحد منهما عن الآخر في اليوم التالي،.. وفي الصباح سأل ويسلي زميله: هل ما يزال مصراً على الرحيل، وجاءه الجواب: نعم.. وقال ويسلي: وهل هذا ضروري ولازم.. وجاء الرد جافاً: "سل نفسك يا سيدي.. وقال ويسلي لبرادفورد: ألا تعتذر؟وقال الآخر: لا يا سيدي؟وعنئذ قال ويسلي برقة ولطف.. إذا أنا أعتذر لك يا برادفورد، ولم يكمل ويسلي العبارة حتى فاضت الدموع من عيني زميله، وقال: أنا أعتذر، وتصالح الأخوان اللذان كانا على أبواب المفارقة والمقاطعة.. آه لو يعلم الناس أن الجواب اللين يصرف الغضب، وأن جلسة هادئة صغيرة، قد تصرف نزاعاً طويلاً مديداً مريراً"..
كان أحد المحامين واسمه هاكت وكان من أبرع المحامين وأطيبهم، وكان من مبدئه الدائم أن يدعو الناس إلى فض الكثير من أسباب النزاع دون الالتجاء إلى المحكمة. وقد حدث أنه اشترى قطعة أرض، كان الناس يرفضون شراءها لشراسة وقسوة مالك الأرض المجاورة لها.. غير أن هاكت اشتراها، وعندما ذهب ليستلمها واجهه الجار المتحفز للمخاصمة والصراع، بأكثر عنف وضراوة ، وهو يقصد أن يفهمه أنه لا يبالي على الإطلاق بما يمكن أن يكون لديه من الإلمام بالقانون أو الاتجاه إلى القضاء، غير أن هاكت سأل الجار عن الحد بين الأرضين،.. وقال الجار: إن حقه معتدى عليه، وأن الحد الصحيح يلزم أن يدخل في أرض هاكت قدمين من بدء الحد، وقدماً عند النهاية،.. وقال المحامي: حسناً يا صديقي وإني أرجوك أن ترسم الحد أربعة أقدام عند الابتداء، وقدمين عند النهاية،.. وصاح الجار: ولكن هذا ضعف ما أطلبه؟.. فقال هاكت: قد يكون هذا، ولكني قد جئت مصمماً ألا أجعل من هذه الأرض نقطة مخاصمة أو نزاع بيني وبينك، وأنا أود أن أرضيك تماماً، وأرجو أن تعلم أن هذا يسعدني ويبهجني أكثر من أي مسطح من الأرض يمكن أن نختلف أو نتنازع عليه!!.. وإذ قال هذا رد عليه الرجل: يا صديقي.. إن هذا الحد بيننا لن يتزحزح عما هو عليه الآن بوصة واحدة، لتذهب الأرض كيفما تذهب، فإن الهدوء والسلام والصداقة أولى وأجمل وأسعد وأبقى..
لم يكن "غاندي" مسيحياً، ولكنه وعى كلمات المسيح المباركة في الموعظة على الجبل: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بالشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، من سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين، من سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده.. سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم".. وقد قيل أنه في صدر شبابه كان يشرف على مجموعة من الشباب في جنوب أفريقيا، وفي فترة غيابه ظهر بينهم شاب ارتكب أخطاء جسيمة دون أدنى مبالاة،.. وعندما عاد غاندي سمع عما فعله الشاب، فناداه وتحدث إليه عما فعل، وتبين إصرار الشاب على تصرفه دون أدنى إحساس بألم أو ندم أو توبة.. فما كان من غاندي إلا أن قال: إن هناك خطأ قد حدث، ويبدو أني فشلت، ولابد من علاج لهذا الفشل، ولقد قررت أن أعالجه بالصوم عشرين يوماً، ولم يدرك الشاب في أول الأمر قسوة القرار حتى جلس إلى مائدة الطعام، وهنا أردك أنه لا يستطيع أن يأكل، وآخر جائع لا يتذوق طعاماً بسببه،.. ذهب إلى غاندي، وحاول أن يقنعه بتناول الطعام، وغاندي يرفض، وعذب الشاب، وقيل أنه أخذ من هذا الدرس ما لم يأخذه من دروس أخرى،.. لقد كسرت الوداعة الطيبة المسالمة قلبه، وجعلته فيما بعد من أحسن الشباب الذين عمل غاندي في وسطهم!..
لم يكن إسحق عملاقاً إذا قسنا حياته في ضوء حياة إبراهيم من قبله أو يعقوب من بعده، لكن هذه الحياة هي الدرس الذي يحتاجه العالم الباحث عن السلام في كل مكان وزمان، وهيهات له الوصول إليه قبل أن يصل إلى المعادلة التي نجح إسحق في حلها، معادلة السلام التي تأخذ سلامها من الله لتقتل به الحقد والنزاع والخصومة والضغينة، بروح من الحب والتسامح والتساهل والوداعة: "وطوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون"..
المزيد
28 سبتمبر 2019
تذكار الإحتفال بالصليب المجيد بكنيسة القيامة سنة 43 ش في عهد الملك قسطنطين البار
نعيد في هذا اليوم بتذكار ظهور الصليب المجيد الذي لمخلصنا يسوع المسيح . هذا الذي أظهرته الملكة المحبة للمسيح القديسة هيلانة أم قسطنطين من تحت كوم الجلجثة الذي أمرت بإزالته ، أما سبب وجود هذا الكوم فهو أنه لما رأى رؤساء اليهود كثرة العجائب التي تظهر من قبر المخلص من إقامة الموتى وإبراء المقعدين ، غضبوا ونادوا في جميع اليهودية وأورشليم " كل من كنس داره أو كان عنده تراب ، فلا يلقيه إلا على مقبرة يسوع الناصري" ، واستمر الحال على ذلك أكثر من مائتي سنة حتى صار كوما عظيما . ولما حضرت القديسة هيلانة وسألت اليهود عن موضع الصليب لم يفيدوها . وأخيرا أرشدها بعضهم عن رجل يهودي مسن يسمى يهوذا يعرف مكانه ، فاستدعته فأنكر أولا ، ولما شددت عليه اعلمها مكان الكوم . فأزالته وأخرجت منه الصليب المقدس وبنت كنيسة وكرست عيد له في السابع عشر من شهر توت . وصارت الشعوب المسيحية تحج إليها مثل عيد القيامة .
واتفق ان كان إنسان مسافرا هو وجماعته مع الشعب إلى أورشليم يدعى إسحق السامري ، هذا كان يبكت الناس على تكبدهم المتاعب في الذهاب إلى أورشليم .ليسجدوا لخشبه . وكان مع الشعب قسا يسمى أوخيدس ، وفيما هم سائرون في الطريق عطشوا ، ولم يجدوا ماء فأتوا إلى بئر فوجدوا ماءها نتنا مرا ، فضاق صدر الشعب جدا . وابتدأ إسحق السامري يهزأ بهم ويقول ان أنا شاهدت قوة باسم الصليب! آمنت بالمسيح . فغار القس أوخيدس غيرة إلهية وصلى على الماء النتن ورشمه بعلامة الصليب فصار حلوا . وشرب منه كل الشعب ودوابهم . أما إسحق فانه لما تناول وعاءه ليشرب وجده نتنا مدودا . فندم وبكى وأتى إلى القديس القس أوخيدس وخر عند قدميه أمن بالسيد المسيح . وشرب من الماء فوجده حلوا . وصار في ماء هذه البئر قوة ان يكون حلوا للمؤمنين ، ومرا لغيرهم . كما ظهر فيه صليب من نور . وبنوا هناك كنيسة .
ولما وصل إسحق السامري إلى مدينة القدس ذهب إلى أسقفها واعتمد منه هو وأهل بيته .
أما ظهور الصليب المجيد على يد الملكة هيلانة فكان في اليوم ا العاشر من برمهات . ولأنه دائمًا يكون في الصوم الكبير فقد استبدله الآباء بيوم 17 توت الذي هو تكريس كنيسته . والمجد والسجود لربنا يسوع المسيح إلى أبد الآبدين . آمين .
ملاحظة طقسية :
+ طقس عيد الصليب شعانيني 3 أيام
+ تقرأ فصول عيد الصليب في الثلاثة أيام العيد حتى أيام الآحاد
+ يقال تى شورى والهيتنيات وفاى إيتاف إنف الخاصة بعيد الصليب كما تقال القسمة السريانية
+ يعامل عيد الصليب معاملة الأعياد السيدية .
المزيد
17 سبتمبر 2019
الصليب معنى ومفهوم - بمناسبة عيد الصليب
صليب
ترد كلمة صليب 28 مرة في العهد الجديد بينما ترد الفعل منها 46 مرة. ولم يكن الصليب وسيلة للإعدام في العهد القديم (وكلمة "يصلب" ومشتقاتها في سفر أستير 5: 14، 7: 9و 10 معناها "يشنق" أو "يعلق") إذكانت وسيلة الإعدام هي الرجم. ولكن كان يمكن أن تعلق الجثث (بعد الإعدام رجماً) على خشبة لتكون عبرة (تث 21: 22و 23، يش 10: 26). وكانت من تُعلق جثته يعتبر ملعوناً من الله، ومن هنا يقول الرسول بولس أن المسيح" صار لعنة لأجلنا" لأنه علق على خشبة الصليب (غل 3: 13) كما كان يجب إلي تبيت جثة المعلق على الخشبة بل كان يجب أن تُدفن في نفس إليوم (تث 21: 23، انظر يو 19: 31). ومن هنا جاء التعبير عن صليب المسيح بأنه "خشبة" (أع 5: 30، 10: 39، 13: 29، 1 بط 2: 24) رمزا للإذلال والعار.وكان الصليب في البداية عبارة عن "خازوق" يعدم عليه المجرم، أو مجرد عمود يعلق عليه المجرم حتى يموت من الجوع والإجهاد ثم تطور على مراحل حتى أصبح في عهد الرومان عموداً تثبت في طرفه الاعلى خشبة مستعرضة فيصبح على شكل حرف “T” أو قبل النهاية العليا بقليل، وهو الشكل المألوف للصليب والذي يعرف باسم الصليب اللاتينى. وقد تكون الخشبتان المتقاطعتأن متساويتين، وهو الصليب إليونأني، أو أن يكون الصليب على شكل حرف “X” ويعرف باسم صليب القديس أندراوس، وقد استخدم هذا الشكل للصليب في العصور الرومانية المتأخرة.وقد بدأ استخدام الصليب وسيلة للإعدام في الشرق، فقد استخدمه الإسكندر الأكبر نقلا عن الفرس، الذين يغلب أنهم أخذوه عن الخازوق الذي كان يستخدمه الإشوريون. واستعار الرومان الفكرة من قرطاجنة التي أخذته عن الفينيقيين وقد قصر الرومان الإعدام بالصلب على العبيد عقاباً لإشنع الجرائم، وعلى الثوار من أهل الولايات. وقلما كان يستخدم الصليب لإعدام مواطن روماني (كما يذكر شيشرون). وفي هذا تفسير لما يرويه التاريخ من أن بولس الرسول (كمواطن روماني) أُعدم بقطع رأسه. أما بطرس (غير روماني) فأُعدم مصلوباً.وبعد صدور الحكم على المجرم بالصلب، كأنت العادة أن يُجلد عارياً بسوط من الجلد من جملة فروع يُثبت فيها قطع من المعدن أو العظام لتزيد من فعاليتها في التغذيب، ثم يُجبر المحكوم عليه على حمل صليبه إلى الموقع الذي سينفذ فيه الإعدام. وكان يجري ذلك عادة خارج المدينة. وكان يسير أمامه شخص يحمل لوحة عليها التهمة التي حُكم عليه من أجلها أو قد تُعلَّق هذه اللوحة في رقبة المجرم بينما هو يحمل صليبه على كتفيه وكان المحكوم عليه يطرح أرضاً فوق الصليب، وتربط يداه أو ذراعاه، أو تسمران إلى الصليب. كما كانت تربط قدماه أو تُسمران. ثم كان الصليب يرفع بمن عليه لكي يثبت رأسياً في حفرة في الأرض بحيث لا تلامس القدمان الأرض، ولكن ليس بالارتفاع الكبير الذي يبدو عادة في الصور . وكان ثقل الجسم يرتكز -بالقدمين أو بالعجز- على قطعة بارزة مثبَّة بالقائم الرأسى للصليب حتى لا يتعلق الجسم بثقله كله على الذراعين المسمرين، مما يجعل عضلات الصدر مشدودة، فيمتنع التنفس ويموت المحكوم عليه مختنقاً بعد لحظات قليلة من تعليقه وعندما كان الحراس يرون أن المجرم قد تحمل من العذاب ما يكفي كانوا يكسرون ساقيه حتى لا يرتكز بقدميه على الخشبة البارزة ويصبح الجسم كله معلقاً على الذراعين فيتعذر التنفس فيختنق المحكوم عليه ويموت كما حدث مع اللصين اللذين صلبا مع الرب يسوع. أما عندما جاء العسكر إلى يسوع لم يكسروا ساقيه لأنهم رأوه قد مات ولكن واحداً من العسكر طعن جنبيه بحربة وللوقت خرج دم وماء (يو 19: 33 و34) للتأكد من موته حتى يمكن أنزال الجسد، كما طلب اليهود من بيلاطس (يو 19: 31( ويبدو أن طريقة الصلب كانت تختلف من منطقة إلى أخرى في الامبراطورية الرومانية الواسعة. ويبدو أن العملية كانت من القسوة والفظاعة حتى استنكف كُتَّاب ذلك العصر من إعطاء وصف تفصيلى لها، فكانت تعتبر من أقصى وأبشع وسائل العقاب. ولكن الرب وضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب ( في 2: 8).وقد كشف فريق من الأثريين – في صيف 1968 عن أربعة قبور يهودية في "رأس المصارف" بالقرب من أورشليم، وكان أحدها يحتوي على صندوق به هيكل عظمى لشاب مات مصلوبا ويرجع تاريخه إلى ما بين 7 ، 66م. كما تدل عليه الأوانى الفخارية – من عصر الهيرودسيين- التي وجدت في القبر ومنقوش على الصندوق اسم "يوحانان". وقد أُجريت أبحاث دقيقة عن اسباب وطبيعة موته، مما قد يلقي بعض الضوء على كيفية صلب ربنا يسوع المسيح.
كان ذراع الرجل (وليس يداه) مسمرتين الى خشبة الصليب ولعل كلمة "يديه" في لو 24: 39 ، يو 20: 20 و25 و27، ويقصد بها ذراعاه. والأرجح أن ثقل الجسم كان يرتكز عند العجز على قطعة من الخشب بارزة مثبتة إلى قائم الصليب. وكان الساقان منحنيين عند الركبتين الى الخلف، والكاحلان مثبتين بمسمار واحد الى قائم الصليب. وقد ثبت من شظية وجدت من بقايا الصليب، أنه كأن مصنوعاً من خشب الزيتون. وكان الساقان مكسورين كما يبدو أن بضربة عنيفة مثلما حدث مع اللصين اللذين صلبا مع يسوع (يو 19: 32.(ويذكر المؤرخون المعاصرون أن الصلب كان أقسى اشكال الإعدام. ولا يصف البشيرون آلام المسيح الجسدية بالتفصيل، بل يكتفون بالقول "صلبوه". وقد رفض المسيح أن يأخذ أي مسكن لآلامه (مت 27: 34) ولم يكن اهتمام كتبة العهد الجديد، بصليب المسيح ينصب – أساساً- على الناحية التاريخية، بل على الناحية المعنوية الكفارية الأبدية لموت الرب يسوع المسيح ابن الله. وتستخدم كلمة "الصليب" تعبيراً موجزاً عن أنجيل الخلاص عن أن يسوع المسيح قد "مات لأجل خطايانا"، فكانت الكرازة بالأنجيل تتركز في كلمة "الصليب" أو "بالمسيح يسوع وإياه مصلوباً" (1 كو 1: 17 و18، 2 : 2)، ولذلك يفتخر الرسول بولس "بصليب ربنا يسوع المسيح" (غل 6: 14)، فكلمة الصليب هنا تعني كل عمل الفداء الذي أكمله الرب يسوع المسيح بموته الكفارى كما أن كلمة "الصليب" هي كلمة "المصالحة" (2 كو 5: 19)، فقد صالح الله إليهود والامم في جسد واحد بالصليب قاتلاً العداوة به " (أف 2: 14 –16)، بل صالح "الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه" (كو 1: 20 ) ، "إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضداً لنا وقد رفعه من الوسط مسمراً إياه بالصليب إذ جرد الرياسات والسلاطين إشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه" (كو 2: 14 و15).والصليب في العهد الجديد – يرمز إلى العار والاتضاع، ولكن فيه تتجلى "قوة الله وحكمة الله " (1 كو 1: 24). لقد استخدمته روما ليس كآلة للتعذيب والإعدام فحسب، ولكن كرمز للخزى والعار إذكان يُعدم عليه أحط المجرمين، فكان الصليب لليهود عثرة لأنه رمز اللعنة (تث 21: 23، غل 3: 13) وهذا هو الموت الذي ماته المسيح، فقد "احتمل الصليب مستهيناً بالخزى" (عب 12 : 2) وكانت آخر درجة في سلم اتضاع المسيح أنه "أطاع حتى الموت ، موت الصليب" ( في 2: 8) لهذا كان الصليب "حجر عثرة " لليهود (1 كو 1 : 23 انظر أيضاً غل 5 :11.(
وكان مشهد حمل المحكوم عليه للصليب أمراً مالوفاً عند من خاطبهم المسيح ثلاث مرات بأن طريق التلمذة له هي "حمل الصليب" (مت 10: 38، مرقس 8 : 34، لو 14 : 27) أي حمل الخزي والإهانة من أجل اسمه ثم أن الصليب هو رمز اتحادنا مع المسيح، ليس فقط في اقتدائنا به، بل فيما لأجلنا وما يفعله فينا. ففي موته النيابي عنا على الصليب متنا نحن "فيه" (2 كو 5: 14) و"أنساننا العتيق قد صُلب معه" (رو 6: 4 و5)، لكى نستطيع بروحه الساكن فينا أن "نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة" (رو 6: 4 و 5 ، غل 2 : 20، 5: 24، 6: 14) ونحن ثابتون "فيه" (يو 15: 4، 11، روحية 14: 4، 2 كو 1: 21 في 4: 1، 1 تس 3: 3 و8الخ).
دائرة المعارف الكتابية
المزيد
16 سبتمبر 2019
النيـروز ... عيد الشــــهداء
النيروز كلمة مشتقة من اللغة الفارسية وتعني "اليوم الجديد" وكان المصريون في أيام الفراعنة يحتفلون بعيد النيروز، وكان الأحتفال به يستمر لمدة سبعة أيام متواصلة... ويوافق عيد النيروز الأول من شهر توت (11 سبتمبر) كل عام والمعروف أن المصريين منذ عصر الفراعنة أول من قاس الزمن وأرخ السنوات وكانوا أيضًا أول من قسم السنة إلى شهور، وقد استخدموا التقويم الشمسي في حساباتهم ونظموا تقويمهم بدقة فكانت السنة اثني عشر شهرًا والشهر ثلاثين يومًا، وكان ذلك منذ عام 4241 ق.م.
ويؤكد المؤرخ الإغريقي هيرودوت، أن المصريين قد توصلوا إلى ذلك نتيجة ملاحظتهم للنجوم، بل كانوا متفوقين عن الإغريق، إذ عدلوا السنة الشمسية عندهم بإضافة شهر صغير من خمسة أيام إلى إجمالي الاثنى عشر شهرًا، بحيث تبدأ السنة بدقة وفقًا لحساباتهم والجدير بالذكر فإن التقويم الشمسي لدى قدماء المصريين القائم على أساس الحسابات الفلكية، هو التقويم الذي تتبعه جميع الشعوب حتى الآن وعلى أساس التقويم المصري القديم جاء التقويم القبطي، الذي يتوافق تمامًا مع ظهور نجم أو "كوكب الشعري اليمانية" وهو ألمع نجوم السماء، خاصة قبيل شروق الشمس ومن هنا تعتبر السنة المصرية أو السنة القبطية، سنة نجمية ويرى علماء الفلك في العصر الحديث أن اليوم النجمي أكثر دقة من اليوم الشمسي...
وكانت السنة عند قدماء المصريين تنقسم إلى ثلاثة فصول:
فصل الفيضان: الذي تغمر فيه مياه النيل الأرض.
فصل الإنبات: وهو موسم الزراعة.
فصل الحرارة: وهو موسم الحصاد.
وقد احتفظ المصريون حتى يومنا هذا بتقسيم فصول العام على هذا النحو، أما أشهر السنة القبطية فهي كالآتي:
توت "من 11 سبتمبر حتى 10 أكتوبر" ويحمل اسم الإله المصري "تحوت" رب القمر، وهو شهر فيضان النيل، ومن هنا جاء المثل: "في توت لا تدع الفرصة تفوت".
بابه "من 11 أكتوبر حتى 9 نوفمبر" وإسمه بالقبطية "باأوني" وهو مشتق من رب النضار "تروت" أو إله النيل "حابي".
هاتور "من 10 نوفمبر حتى 9 ديسمبر" واسمه بالقبطية "أتهور" وهو مشتق من اسم إلهة الحب والجمال "حتحور" وفي هذا الشهر يبذر القمح، ومن هنا يأتي المثل: "هاتور أبو الذهب المنثور".
كيهك "من 10 ديسمبر حتى 8 يناير" ويرجع إلى إله الخير أو الثور المقدس "أبيس" رمز الخصوبة ويقول المثل "كيهك صباحك في مساك".
طوبة "من يناير حتى 7 فبراير" واسمه بالقبطية "طوبى" التي تعني النظافة والنقاوة وتشير إلى المطر في مصر الفرعونية يدعى "طوبيا" وهو شهر البرد والمطر في مصر، ومن هنا جاء المثل "طوبة تخلي الصبية كركوبة".
* أمشير "من 8 فبراير حتى 13 أو 14 مارس" وهو شهر البرد الشديد والرياح الشديدة، ويقول المثل: "أمشير يأخذ الهدوم ويطير".
* برمهات "من 14 أو 15 مارس حتى 8 أو 9 أبريل" وفيه يعتدل الجو ويبدأ الحصاد، ويقول المثل: "في برمهات روح الغيط وهات".
* برمودة "من 9 إلى 10 مايو حتى 8 أو 9 مايو" وهو شهر الحر, ويقول المثل: "في برمودة دق العمودة أي وتد المظلة".
* بشنس "من 9 أو 10 مايو حتى 7 أو 8 يونيه" وهو مشتق من اسم إله القمر ابن آمون، ويقول المثل: "في بشنس خلي بالك من الشمس".
* بؤونة "من 8 أو 9 يونيه حتى 7 أو 8 يوليو" ويسمى بالقبطية "باأوني" وتعني الحجر والمعادن، وهو شهر القيظ الشديد ويقول المثل: "حر بؤونة يفلق الحجر".
* أبيب "من 8 إلى 9 يوليو إلى 6 أو 7 أغسطس" وفيه تبدأ مياه النيل في الأرتفاع، ومن هنا جاء المثل: "في أبيب تفور مياه النيل وتزيد".
* مسرى "من 7 أو 8 أغسطس حتى 5 أو 6 سبتمبر" وهو مشتق من الفعل القبطي "ميس" الذي يعني الوضع أو الخلق، وهو شهر فيضان النيل، ويقول المثل: "في مسري تفيض المياه وعلى الأرض تسري".
* النسيء "من 6 أو 7 سبتمبر حتى 10 سبتمبر" وهو الشهر الصغير المتمم لأيام السنة، ويتكون من خمسة إلى ستة أيام، ويقول المثل: "في النسيء لا تكن أنت المسيء"ولا يزال هذا التقويم "القبطي" مستخدمًا عند الفلاحين حتى الآن، ويحفظونه عن ظهر قلب...
رأس السنة القبطية:
يعتبر عام 284 م فاتحة التقويم القبطي، حيث ارتقى الإمبراطور الروماني ديوكليتان "دقلديانوس" العرش، وكانت الأضطهادات التي أثارها من العنف حتى أن الأقباط هزتهم قسوتها وأثرت فيهم تأثيرًا عميقًا، ورغبوا في أن يبدأوا تقويمهم ابتداء من السنة الأولى التي ارتقى فيها ديوكليتان السلطة..
لقد بلغ عدد من استشهدوا في عصره في تقدير بعض المؤرخين بما يقارب المليون... وعلى هذا فإنه يمكن أن نؤكد أن الكنيسة القبطية تحوز امتيازًا بأنها قدمت أكبر عدد من المضطهدين في المسيحية بأسرها، ومع ذلك فإن لها أن تبتهج وتفخر بأنها استطاعت أن تقاوم كل القوى التي حاولت محوها...
وفي هذا الصدد يقول المنسنيور جرين في كتابه قاموس القواميس:"إن وضع شهداء مصر وحدهم في كفة من الميزان وشهداء العالم كله في الكفة الأخرى، لرجحت كفة مصر".
تعتز مصر بتاريخها ويعتز كل مصري بوطنيته وعقيدته وأصالته التاريخية فمصر تاريخ وتراث، يحيا فينا كمصريين قبل أن نكون مسيحيين أو مسلمين، ومن تراث مصر الموروث عيد النيروز الذي كان عيد مباركة نهر النيل وروافده عند المصريين القدماء، فالمصري القديم كان أول من قسم السنة إلى فصول وجعل رأس السنة هو أول السنة الزراعية التي تبدأ بشهر توت (أول شهور السنة القبطية سنة الشهداء).
فكان يقام أحتفال كبير عند نهر النيل له طقوس خاصة فرحًا بزيادة مياه نهر النيل الذي يدعى باللغة القبطية (نياروؤو) هذه الكلمة التي أضاف اليونان إلى نهايتها حرف (s)، كما يضيفون للأسماء فأصبح (ني ياروس) ويظن البعض أنها كلمة فارسية ولكن في الحقيقة هي مصرية قديمة ومعدلة حسب قاعدة الأسماء اليونانية، أما كلمة نيروز الفارسية فقد أطلقها الفرس على الأعتدال الربيعي أو عيد الربيع عندهم إذ يقع في يوم 21 مارس من كل سنة الذي جعله (جمشيدجم) الملك يوم عطلة لأنه رأس السنة الإيرانية، وهو منقول عن المصريين القدماء عرفه الفرس أثناء غزوتهم المعروفة لمصر القديمة وليس من الصواب أن ننسب ما لنا إلى غيرنا.
يقول العلامة المتنيح نيافة الأنبا لوكاس أسقف منفلوط:"إن كلمة نيروز ليست هي فارسية بل كلمة مصرية قديمة أصلها "نياروز" وهي اختصار لجملة مكررة في الصلاة "نيارو أزمو أروؤو" وهو قرار شعري ابتهالي إلى الخالق لمباركة الأنهار وتبعًا لقواعد الاختزال في اللغة القبطية فعوضًا عن تكرار القرار الشعري كاملاً بنصه واقتصادًا في الكتابة يكتفي بكلمة واحدة أو كلمة وجزء من الكلمة الثانية ويوضع فوقها خط أفقي يعني الإشارة التي توحي إلى القارئ بتكميل الجملة المختزلة وبتكرار القرار بوضعه "نياروس أو نياروز" في يوم أول السنة المصرية ومعناه عيد بركة الأنهار والمقصود بها النيل وروافده.
وطنية عيد النيروز:
احتفل المصري القديم بهذا العيد رسميًا أيام حكم الملك مينا الأول حوالي سنة 4000 ق.م.
ومن المعروف أن توت المنعوت به أول الشهور المصرية والذي يحتفل في اليوم الأول منه بعيد النيروز هو الذي قالت عنه المعالم الأثرية إنه ولد قبل عهد الملك مينا الأول في مدينة خمنو (الأشمونيتن) التي تتبع مركز ملوي حاليًا محافظة المنيا وكانت مركز عبادة تحوتي إله الحكمة، وعاش توت إله العلم والمعرفة في مكان قرية منتوت حاليًا التابعة لمركز أبو قرقاص محافظة المنيا وله الفضل في إحياء روح الانتماء إلى نهر النيل لأنه جعل المصريين يحبون هذا النهر ويقدسوه فهو مصدر البركة والخير.
وساهم البطالمة في عهدهم من 323 ق.م إلى 30 ق.م في الأحتفال بعيد النيروز بإقامة الهياكل التي من أهمها هيكل دندرة بجوار مدينة قنا بالوجه القبلي، ويشهد هذا الهيكل حتى الآن أن عيد النيروز كان عيدًا وطنيًا يحتفل به به كل الملوك على مر العصور وكان يصل عدد الحضور في ذاك الزمان إلى المليون يقدمون الذبائح والقرابين وكانوا يستحمون في النيل في صباح عيد النيروز ويرتدون الملابس الجديدة ويكرمون من يستحق التكريم ويأكلون خبز الزلابية الخالي من الخمير ويزورون "حقل النيروز" من منتوت إلى الأشمونيين حاملين أغصان النخيل وثماره التي أرتبطت كرمز بعيد النيروز بعد ذلك.
ارتباط عيد النيروز بسنة الشهداء (عقيدة):
احتل الرومان مصر سنة 30 ق.م، وفي القرن الأول الميلادي انتشرت المسيحية في مصر بكرازة القديس مرقس الرسول وتحولت العبادة الوثنية إلى عبادة الإله الواحد وانتشر الإيمان المسيحي في كل ربوع مصروتعرضت مصر المسيحية بعد ذلك إلى حلقات الأضطهاد العشر التي كان آخرها اضطهاد دقلديانوس وأعوانه سنة 284 - 305 م فإتخذت الكنيسة القبطية من بداية حكم ذاك الطاغية بداية لتقويمها الذي أطلق عليه تقويم الشهداء ففي عهده ارتوت أرض مصر بدماء الشهداء من أجل الإيمان بالله ووحدانيته وبدل أن يفرحوا بثمار الأرض فرحت الكنيسة بثمار الإيمان ومن هنا جاء رمز البلحة الحمراء وعيد النيروز، فاللون الأحمر يشير إلى دم الشهداء وقلب البلحة الأبيض يشير إلى قلب المؤمن والشهيد النقي والنواة الثابتة تشير إلى ثبات الإيمان وقوته، ومن العجيب أن النخل لا يأتي بالبلح الأحمر إلا في أيام النيروز وكأن الطبيعة تتحد مع التاريخ في صنع الأعياد ومعانيها، ولا غرابة أن يكون عيد النيروز عيدًا لشهداء مصر المسيحية فتاريخ مصر تاريخًا وطنيًا ملكلكل المصريين بصرف النظر عن معتقداتهم لذلك كان النيروز عيدًا يهتم به كل الحكام حتى عهد المماليك، فكانت الحكومة تدفع مبالغ كبيرة من المال وتوزع هدايا من الملابس الحريرية والفاكهة لكبار رجال الدولة وتعطي معونات على يد متخصصين كان يطلق عليهم لقب (أمير النيروز) فكان يوم النيروز من أبهج الأيام والمواسم في مصر بأستثناء عهد الظاهر برقوق الذي أمر بعم الأحتفال به في القاهرة نظرًا لبعض السلوكيات، ولن الفاطميين اهتموا به وجعلوه عيدًا وطنيًا لكل المصريين ويقول المقريزي:"وكان النيروز القبطي في أيامهم من جملة المواسم فتتعطل فيه الأسواق ويقل فيه سعي الناس في الطرقات وتفرق فيه الكسوة لرجال أهل الدولة وأةلادهم ونسائهم والرسوم من المال وحوائج النيروز كما يذكر لنا التاريخ الحديث أنه في عهد محمد علي الكبير كان الأحتفال بعيد النيروز احتفالاً وطنيًا تدق فيه الطبول وتقام فيه التقاليد والعادات القديمة وتعطل فيه جميع الأعمال وعندما جاء سعيد باشا واليًا على مصر عام 1854 م أصدر في يوم السبت 7 يوليو عام 1855 م أمرًا بأن التاريخ القبطي هو التاريخ الرسمي في دواوين الحكومة وظل معمولاً به لمدة عشرين عامًا حتى جاء إسماعيل باشا ونقض هذا الأمر وتحول إلى التقويم الأفرنجي، ولكن إلى الآن يحتفظ الفلاح المصري بالتقويم القبطي (المصري القديم) تقويم الشهداء وبقيت معه الكنيسة القبطية محتفظة بتاريخ مصر محتفلة بعيد النيروز من 1 توت وحتى يوم 16 توت مؤكدة وطنيتها ومصريتها فعيد النيروز تاريخ وتراث لكل مصر ولنا أمل أن يعاد الأحتفال الوطني به على أساس أنه عيد مقترن باحترام نهر النيل الخالد وبعيدًا عن أي تعصب، أتمنى أن تقوم الدولة بخطوة وطنية ويتم تعديل القرار رقم 14 لسنة 1962 بإضافة يوم عيد النيروز إلى الأعياد الوطنية ويعامل معاملتها ويعتبر إجازة لكل المصريين، ولو تم هذا فسوف تمحو الدولة سيئة من السيئات التي صوبت نحو وطنية الإنسان المصري..
المزيد
15 سبتمبر 2019
تعرف على رموز وأصل النيروز رأس السنة القبطية وموسم فيضان النيل
تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعيد الشهداء "النيروز"، رأس السنة القبطية، حيث يتناول الأقباط البلح الأحمر والجوافة، حيث يرمز البلح إلى دم الشهداء بينما الجوافة إلى الأبيض رمز الطهر والنقاء. الأصل التاريخي لعيد النيروز النيروز وعيد رأس السنة المصرية هو أول يوم في السنة الزراعية الجديدة، وقد أتت لفظة نيروز من الكلمة القبطية nii`arwou (ني - يارؤو) = الأنهار، وذلك لأن ذاك الوقت من العام هو ميعاد اكتمال موسم فيضان النيل سبب الحياة في مصر. ولما دخل اليونانيين مصر أضافوا حرف السي للأعراب كعادتهم (مثل أنطوني وأنطونيوس) فأصبحت نيروس فظنها العرب نيروز الفارسية. علاقة عيد النيروز بفيضان النيل رمز الخير والبركة لأرض مصر نظرًا لارتباط النيروز بالنيل أبدلوا الراء بالأم فصارت نيلوس ومنها أشتق العرب لفظة النيل العربية. أما عن النيروز الفارسية فتعني اليوم الجديد (ني = جديد ، روز= يوم) وهو عيد الربيع عند الفُرس ومنه جاء الخلط من العرب، وأصبحت نياروس ومعناه الكامل "عيد مباركة الأنهار". أول شهور السنة القبطية توت هو أول شهور السنة القبطية، مشتق من الإله تحوت إله المعرفة وهو حكيم مصري عاش أيام الفرعون مينا الأول وهو مخترع الكتابة ومقسم الزمن، وقد أختار بداية السنة المصرية مع موسم الفيضان لأنه وجد نجمة الشعري اليمينية تبرق في السماء بوضوح في هذا الوقت من العام مما يعني أن السنة القبطية، سنة نجمية وليس شمسية مما يجعلها أكثر دقة من الشمسية التي احتاجت للتعديل الغريغوري وبالتالي لم تتأثر بهذا التعديل وذلك لأن الشمس تكبر الأرض بمليون وثلث مليون مرة والشعري اليمينية تكبر الشمس بـ200 مرة، مما يعني أنها أكبر من الأرض بـ260 مليون مرة مما يجعل السنة النجمية أدق عند المقارنة بالشمسية. دقلديانوس عصر الشهداء وإعلان التقويم القبطي بدأ الأقباط تقويم الاستشهاد وجعلوا هذا التقويم (المصري) يبدأ بالسنة التي صار فيها دقلديانوس إمبراطورًا (عام 284 ميلادية) لأنه عذب وقتل نحو مليون ونصف مليون من الأقباط، وسمى هذا التقويم بعد ذلك بتقويم الشهداء وهو الآن سنة 1733 للشهداء الأطهار. مع عصر دقلديانوس أحتفظ المصريين بمواقيت وشهور سنينهم التي يعتمد الفلاح عليها في الزراعة مع تغيير عداد السنين وتصفيره لجعله السنة الأولي لحكم دقلديانوس =282 ميلادية = 1 قبطية = 4525 توتية (فرعونية)، ومن هنا أرتبط النيروز بعيد الشهداء، حيث كان في تلك الأيام البعيدة يخرج المسيحيين في هذا التوقيت إلي الأماكن التي دفنوا فيها أجساد الشهداء مخبئة ليذكروهم، وقد أحتفظ الأقباط بهذه العادة حتى أيامنا فيما يسمونه بالطلعة. ماذا قال هيرودت عن التقويم القبطي؟ قال هيرودت المؤرخ الإغريقي (قبل الميلاد بحوالي ثلاثة قرون) عن التقويم القبطي (المصري): [وقد كان قدماء المصريين هم أول من أبتدع حساب السنة وقد قسموها إلى 12 قسمًا بحسب ما كان لهم من المعلومات عن النجوم، ويتضح لي أنهم أحذق من الأغارقة (اليونانيين)، فقد كان المصريون يحسبون الشهر ثلاثين يومًا ويضيفون خمسة أيام إلى السنة لكي يدور الفصل ويرجع إلى نقطة البداية]. ولقد قسم المصريين (منذ أربعة آلف ومائتي سنة قبل الميلاد) السنة إلى 12 برجًا في ثلاثة فصول (الفيضان - الزراعة - الحصاد) طول كل فصل أربعة شهور، وقسموا السنة إلى أسابيع وأيام، وقسموا اليوم إلى 24 ساعة والساعة إلى 60 دقيقة والدقيقة إلى 60 ثانية وقسموا الثانية أيضًا إلى 60 قسمًا والسنة في التقويم القبطي هي سنة نجمية شعرية أي مرتبطة بدورة نجم الشعري اليمانية (Sirius) وهو ألمع نجم في مجموعة نجوم كلب الجبار الذي كانوا يراقبون ظهوره الاحتراقي قبل شروق الشمس قبالة أنف أبو الهول التي كانت تحدد موقع ظهور هذا النجم في يوم عيد الإله العظيم عندهم، وهو يوم وصول ماء الفيضان إلى منف (ممفيس) قرب الجيزة. وحسبوا طول السنة (حسب دورة هذا النجم) 365 يومًا، ولكنهم لاحظوا أن الأعياد الثابتة الهامة عندهم لا تأتى في موقعها الفلكي إلا مرة كل 1460 سنة، فقسموا طول السنة 365 على 1460 فوجدوا أن الحاصل هو 4/1 يوم فأضافوا 4/1 يوم إلى طول السنة ليصبح 365 يومًا وربع. أي أضافوا يومًا كاملا لكل رابع سنة (كبيسة). وهكذا بدأت الأعياد تقع في موقعها الفلكي من حيث طول النهار والليل. شهور السنة القبطية: شهور السنة القبطية هي بالترتيب: توت، بابه، هاتور، كيهك، طوبة، أمشير، برمهات، برمودة، بشنس، بؤونة، أبيب، مسرى ثم الشهر الصغير (النسئ) وهو خمسة أيام فقط. (أو ستة أيام في السنة الكبيسة). ومازالت هذه الشهور مستخدمة في مصر ليس فقط على المستوى الكنسي بل على المستوى الشعبي أيضًا وخاصة في الزراعة
المزيد
12 سبتمبر 2019
النيروز ( رأس السنة القبطية للشهداء )
في هذا اليوم تعيد الكنيسة برأس السنة القبطية للشهداء ويسمى النيروز وهي كلمة فارسية معناها اليوم الجديد . وفيه تقام الاحتفالات تكريما لشهداء المسيحية وتخليدا لذكراهم وتبركا بحياتهم . إيمانا من الكنيسة والمؤمنين بفاعلية صلواتهم وطلباتهم . وقد بدأ تقويم الشهداء في بداية حكم الإمبراطور دقلديانوس سنة 284م والكنيسة تقدم لأبنائها تاريخ المسيحية المبكرة في أبهي صورة . حينما قدم المسيحيون ذواتهم في عهد ذلك الإمبراطور . نماذج للحب والبذل والأيمان والاحتمال ومحبة الأعداء بل ان الكنيسة تقدم قصة الكرازة بالإنجيل للعالم أجمع وللخليقة كلها وهي بذلك تعلم ان الإيمان المسيحي في طوره المبكر حفظ وانتشر بسفك دماء الشهداء والقدوة أكثر من انتشاره بالوعظ والتعليم .
فلنحفظه يومًا مقدسا بكل طهر ونقاوة ، ولنبتعد عن الأعمال المرذولة ، ولنبدأ سيرة جديدة مرضية . كما يقول الرسول بولس ان كل شئ قد تجدد بالمسيح . الأشياء القديمة قد مضت . هوذا أشياء جديدة قد صارت . وكل شئ هو من قبل الله . هذا الذي رضي عنا بالمسيح . وأعطانا خدمة المصالحة (2كوه : 17 - 18 ) وقال إشعياء النبي "روح السيد الرب على لان الرب مسحني لأبشر المساكين ، أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسبيين بالعتق و للمأسورين بالإطلاق (اش 61 : 1) ، وقال داود النبي "بارك رأس السنة بصلاحك . تمتلئ بقاعكم دسما (مز65 : 11) . فلنطلب من الرب ان يحفظنا بغير خطية ويساعدنا على العمل بمرضاته . بشفاعة القديسة مريم العذراء وجميع الشهداء والقديسين . آمين .
المزيد
22 أغسطس 2019
صعود جسد القديسة مريم العذراء
في مثل هذا اليوم كان صعود جسد سيدتنا الطاهرة مريم والدة الإله فأنها بينما كانت ملازمة الصلاة في القبر المقدس ومنتظرة ذلك الوقت السعيد الذي فيه تنطلق من رباطات الجسد أعلمها الروح القدس بانتقالها سريعا من هذا العالم الزائل ولما دنا الوقت حضر التلاميذ وعذارى جبل الزيتون وكانت السيدة مضطجعة علي سريرها . وإذا بالسيد المسيح قد حضر إليها وحوله ألوف ألوف من الملائكة . فعزاها وأعلمها بسعادتها الدائمة المعدة لها فسرت بذلك ومدت يدها وباركت التلاميذ والعذارى ثم أسلمت روحها الطاهرة بيد ابنها وألهها يسوع المسيح فأصعدها إلى المساكن العلوية آما الجسد الطاهر فكفنوه وحملوه إلى الجسمانية وفيما هم ذاهبون به خرج بعض اليهود في وجه التلاميذ لمنع دفنه وأمسك أحدهم بالتابوت فانفصلت يداه من جسمه وبقيتا معلقتين حتى آمن وندم علي سوء فعله وبصلوات التلاميذ القديسين عادت يداه إلى جسمه كما كانتا . ولم يكن توما الرسول حاضرا وقت نياحتها ، واتفق حضوره عند دفنها فرأي جسدها الطاهر مع الملائكة صاعدين به فقال له أحدهم : " أسرع وقبل جسد الطاهرة القديسة مريم " فأسرع وقبله . وعند حضوره إلى التلاميذ أعلموه بنياحتها فقال : " أنا لا أصدق حتى أعاين جسدها فأنتم تعرفون كيف أني شككت في قيامة السيد المسيح " . فمضوا معه إلى القبر وكشفوا عن الجسد فلم يجدوه فدهش الكل وتعجبوا فعرفهم توما الرسول كيف أنه شاهد الجسد الطاهر مع الملائكة صاعدين به . وقال لهم الروح القدس : " ان الرب لم يشأ ان يبقي جسدها في الأرض " وكان الرب قد وعد رسله الأطهار ان يريها لهم في الجسد مرة أخري فكانوا منتظرين إتمام ذلك الوعد الصادق حتى اليوم السادس عشر من شهر مسرى حيث تم الوعد لهم برؤيتها وهي جالسة عن يمين ابنها وإلهها وحولها طغمات الملائكة وتمت بذلك نبوة داود القائلة : " قامت الملكة عن يمين الملك " وكانت سنو حياتها علي الأرض ستين سنة . جازت منها اثنتي عشرة سنة في الهيكل وثلاثين سنة في بيت القديس يوسف البار . وأربع عشرة سنة عند القديس يوحنا الإنجيلي ، كوصية الرب القائل له : " هذا ابنك " وليوحنا : " هذه أمك " شفاعتها تكون معنا . آمين
المزيد
15 أغسطس 2019
عبارة "والدة الإله"
لن أبحث في نشوء العبارة وقد يكون أوريجينوس أول من استعملها وقد ذكرالعبارة الكسندروس السكندري وأثناسيوس وديديموس الأعمى والغرويغوريوسان وكيرلس الارشليمي. وفي إحدى رسائل كيرلس إلى نسطوريوس عندما يفسر التسمية يقول: "ليس لأن طبيعة الكلمة أو لاهوته كانت بدايته من العذراء القديسة، بل لأنه منها ولد الجسد المقدس بنفس عاقلة، وهو الجسد الذي اتحد به شخصيا الكلمة الذي قيل عنه إنه ولد بحسب الجسد ... وما دامت العذراء القديسة ولدت بالجسد الله الذي صار واحدا مع الجسد بحسب الطبيعة، لهذا السبب ندعوها والدة الإله ولا نعني بذلك أن طبيعة الكلمة كانت بداية وجودها في الجسد".لعل النعمة التي حّلت علينا ﺑﻬذه العقيدة أننا وُهبنا أن نرى وحدة المسيح وان
نذوقها بالرغم من كوﻧﻬا تفوق كل قدرة على استيعاﺑﻬا في شعور المصلي. ذلك أن المسيحي ولو ارتضى هذه العقيدة إلاَّ أنه يذهب في إحساسه إلى إلوهية للسيد لابسةٍ بشرية ما أو إلى إحساسه ببشرية متكاملة بإلوهية ما. إﻧﻬا لصعوبة رهيبة أن يختبر المؤمن الناسوت واللاهوت متعاملين في شخصية تبرز مركبة وموحدة بآن. هذا من الوحي المحض الذي ليس مثله شيء في دنيانا. إن الشرق تتكثف فيه رؤية الإلوهة في السيد على حساب بشريته وكأن الشرق مونوفيسي سيكولوجيا. ولعل تعليل ذلك إننا ذقنا
ويلات الأريوسية في ما كانت عليه وفي ما مورست عقودا وفي ما انبعثت في غير حركة.
وقد يكون الغرب ميا ً لا إلى المسيح الإنسان على نكهة نسطورية ، أو ما اصطلح عليه على أنه كذلك. وما من شك أن هذه النزعة هي التي تفسر طغيان عيد الميلاد في جانبه البشري وجوانبه الفولكلورية. ولقد لاحظت غير مرة إن المرء لا يستطيع أن ينتزع بسهولة عبارة والدة الإله من فم پروتستنتي.
وقد يكون الشرق كله موحدا على عبارة والدة الإله بلا استثناء كنيسة. هذه المداخلة لا يعنيها أن تبحث في موقف نسطوريوس من العقيدة. فإذا عدتم إلى ما قبل الخلاف الأفسسي تجدون عبارة والدة الإله بالأقل مرة عند نسطوريوس وقد صرح بعد مداخلات يوحنا الانطاكي: "إن العذراء القديسة هي والدة الإله لأن الهيكل المخلوق فيها بالروح القدس اتحد بالألوهة". وليس من صحة للتأكيد بأنه كان يؤمن بإنسان عادي استقر فيه الكلمة فيما بعد. عن علاقة الناسوت باللاهوت يقول متخذا سفر ٢ "كانت النار في العليقى والعليقى كانت النار والنار العليقى ولم يكن : الخروج ٣ عليقيان وناران" وفصل المقال عنده: "من قال في الاتحاد ابنا وإلها وربا كيف يمكنه بفصلهما أن يقول إنه ثمة على حدة ابن وإله وان ثمة آخر هو الإنسان وان يقول هكذا ابنين". يجمع الأخصائيون اليوم على أن نسطوريوس لم يكن نسطوريا لإيمانه بوحدة شخص المسيح وما كان قوله بالأقنومين في السيد إلاَّ لأن ذلك عنى له الطبيعتين. ما قلت لكم هذا لنخوض جدلا حول شخص نسطوريوس ولكن لأؤكد إن إكرام الشرقيين جميعا لسيدتنا والدة الإله واحد وإن إيماننا تاليا بالسيد المبارك واحد.ولكن لم نستطع معا نحن الخلقيدونيين وغير الخلقيدونيين أن نتجاوز حسنا بالتاريخ لنلتقي كنيسة المشرق المسماة أشورية على صيغة معقولة فالتقت هذه الكنيسة الكاثوليكية فأصدرتا بيانا خريستولوجيا مشتركًا في الحادي عشر من نوفمبر الماضي
وصرحتا أن اللاهوت والناسوت وهما بعيدان عن أن يشكلا "واحدا وواحدا" متحدان في شخص الابن ذاته، ابن الله الوحيد ... فالمسيح ليس "إنسانا عاديا" تبناه الله ليقر فيه وليلهمه كما ألهم الأبرار والأنبياء. ...والناسوت الذي ولدته العذراء مريم المغبوطة كان دائما ناسوت ابن الله ذاته. ولهذا السبب تصلي كنيسة الشرق الأشورية إلى العذراء مريم باعتبارها "والدة المسيح إلهنا ومخلصنا" واعترفت الكنيستان إن العبارتين "والدة الإله" ووالدة المسيح تعبران شرعيا وبدقة عن الإيمان الواحد. وسمت الكنيستان نفسيهما شقيقتين وتعاهدتا على رفع كل الحواجز دون تحقيق الشركة الكاملة.ليس لي إلاَّ أن ألاحظ بحزن أن الشرق فوت على نفسه فرصة أن يكون واحدا.
المطران جورج خضر
من كتاب والدة الإله
المزيد
13 أغسطس 2019
تكريم الكنيسة للسيدة العذراء
للعذراء مريم من بين جميع القديسين مكانة خاصة، والأرثوذكسيون يعظمونها باعتبارها (أشرف من الشيروبيم وأرفع مجداً بغير قياس من السيرافيم). وفي حين تُعظّم وتُكرّم والدة الإله بهذا الشكل، فمن المهم الملاحظة أن الكنيسة الأرثوذكسية لا تدعو أبداً إلى عبادتها كعبادتنا لله. فالتمييز واضح جداً في التعبير اللغوي الخاص باللاهوت اليوناني: فهناك كلمة خاصة مكرّسة لعبادة الله (Latreia) بينما هناك عبارات مختلفة تُستخدم بالنسبة لتكريم العذراء ألا وهي: (Duleia، Hyperduleia، Proskynesis) وتُذكر مريم معظم الأحيان عند إقامة الخدم الطقسية الأرثوذكسية وتدعى عادة بلقبها الكامل: (الكلية القداسة، الطاهرة، الفائقة البركات، المجيدة، سيدتنا والدة الإله، الدائمة البتولية، مريم). وهو لقب يضم النعوت الرئيسية الثلاثة التي تكرسها الكنيسة الأرثوذكسية للسيدة: (والدة الإله) (Theotokos)، (الدائمة البتولية) (Aeparthenos)، و (الكلية القداسة) (Panagia). أول هذه الألقاب منحه للعذراء المجمع المسكوني الثالث (أفسس 431). أما اللقب الثاني فجاء به المجمع المسكوني الخامس (القسطنطينية 553) {يبدو لأول وهلة الإيمان ببتولية مريم الدائمة متعارضاً ونص الكتاب المقدس وفقاً لإنجيل مرقص (31:3) الذي يورد عبارة (أشقاء) يسوع. لكن الكلمة اليونانية تعني أيضاً الأخ من أحد الأبوين أو ابن العم أو حتى أحد الأقرباء، إضافة إلى معنى (الأخ) الحقيقي}. أما لقب (الكلية القداسة) فلم يجر تحديده من الناحية العقائدية، بل هو مقبول ومستخدم من جميع الأرثوذكسيين وتسمية (والدة الإله) ذات أهمية فائقة، لأنها مفتاح العبادة الأرثوذكسية الموجهة للعذراء. نكرِّم مريم لأنها والدة إلهنا. ولا نكرّمها منفصلة عنه وإنما بسبب علاقتها بالمسيح. هكذا فإن التكريم الذي نخص به مريم، لا ينتقص من عبادة الله مطلقاً بل على العكس. وبالقدر الذي نقدّر فيه مريم، نعرف المزيد عن جلال ابنها، ذاك أننا إكراماً للابن نعمد إلى إجلال الأم نكرِّم الأم من أجل ابنها. إن التعليم الأرثوذكسي المتعلق بوالدة الإله منبثق من تعليمها الخاص بالمسيح. وحين أكدّ آباء مجمع أفسس على تسمية مريم بوالدة الإله، لم يكن ذلك بقصد تمجيدها بل من أجل الحفاظ على العقيدة الحقة المتعلقة بشخص المسيح. ومن يفكر في جميع مقتضيات هذه العبارة الأساسية: (والكلمة صار جسداً)، لا بدّ له أن يخشع باحترام أمام تلك التي تمّ اختيارها كي تكون أداة لهذا السر العظيم. وأولئك الذين يرفضون تكريم مريم هم أنفسهم أولئك الذين لا يؤمنون حقاً بالتجسد ولكن ليس لأنها والدة الإله فقط يعمد الأرثوذكسيون إلى تكريم مريم، بل لأنها أيضاً (كلية القداسة). فهي من بين جميع مخلوقات الله، المثال الأعلى للتآزر بين تدبير الله وحرية الإنسان. فالله الذي يحترم حرية الإنسان على الدوام، لم يشأ أن يتجسد دون موافقة والدته موافقة حرة. وانتظر إجابتها العفوية: (هوذا أنا أمة الرب فليكن لي حسب قولك) (لو 38:1). كان بوسعها أن ترفض. لم تكن صاغرة فقط، بل شاركت بملء إرادتها في سر التجسد. وكما قال نقولا كباسيلاس: (لم يكن التجسد فعل الآب وقدرته وروحه فقط... لكن كان أيضاً فعل إرادة العذراء وإيمانها... وكما أن الله تجسد بملء إرادته، هكذا شاء أن تحبل به أمه بملء حريتها، وموافقتها كل الموافقة) {حول البشارة، 4- 5} وكما أن المسيح هو آدم الجديد، فإن مريم هي حواء الجديدة، تلك التي أدّت طاعتها لمشيئة الله إلى خلق توازن مع عصيان حواء في الجنة. (هكذا فإن ما تعقَّد بعصيان حواء انحلّ بطاعة مريم. وما ربطته العذراء حواء في عدم إيمانها، حلّته العذراء مريم بإيمانها) {ايريناوس، (ضد الهرطقات)، 3، 22، 4}. (الموت من طريق حواء والحياة من طريق مريم) {ايريناوس، رسالته 22، 21} وتدعو الكنيسة الأرثوذكسية مريم (الكلية القداسة)، كما تدعوها (الطاهرة) والتي هي (بلا دنس). وجميع الأرثوذكسيين يؤمنون بأنها لم ترتكب قط أي خطيئة فعلية. ولكن هل تحررت أيضاً من الخطيئة الأصلية ؟ وبقول آخر، هل تجاري الأرثوذكسية العقيدة الكاثوليكية التي أعلنها الباب بيوس الحادي عشر السنة الـ1854 والتي تقضي بأن مريم مذ حملت بها أمها القديسة حنة وبنعمة خاصة من الله تم إنقاذها من كل (شوائب الخطيئة الأصلية)؟ إن الكنيسة الأرثوذكسية لم تقدم أبداً على إصدار بيان رسمي حول هذا الموضوع. ولكن منذ السنة الـ1854 رفضت غالبية الأرثوذكسيين هذه العقيدة الجديدة لأسباب عديدة: فهي تبدو غير مجدية، وتتضمن كما حدّدها الكاثوليك تفسيراً مغلوطاً للخطيئة الأصلية، وهي مدعاة للشك أيضاً لأنها تفضل مريم عن ذريّة آدم، واضعة إياها على حدة دون سائر أبرار العهد القديم من رجال ونساء ولكنّ الأرثوذكسية التي ترفض عقيدة (الحبل بلا دنس)، تؤمن بثبات بانتقال العذراء بالجسد. فالسيدة، على غرار سائر بني البشر، عرفت الموت الطبيعي، لكن قيامة جسدها تمّت قبل الجميع. فهي بالتالي تجاوزت الموت والدينونة وتعيش منذ الآن في الدهر الآتي. لكنها ليست منفصلة انفصالاً تاماً عن الإنسانية، لأننا نأمل أن نشارك ذات يوم في مجد الجسد الذي تتمتع به منذ الآن هذا الإيمان بانتقال والدة الإله يجري التعبير عنه بلا التباس في القطع التي ترتلها الكنيسة في 15 آب، يوم عيد (رقاد السيدة). لكن الأرثوذكسية بخلاف كنيسة رومية لم تلجأ إلى إعلان عقيدة (انتقال العذراء بالجسد) وليس في نيّتها أن تفعل ذلك أبداً. عقيدتا الثالوث والتجسد تم الإعلان عنهما كعقيدتين، لأنهما متعلقتان بكرازة الكنيسة، لكنّ تمجيد العذراء يُعتبر جزءاً من التقليد الداخلي للكنيسة: (من الصعب الكلام وأصعب من ذلك التفكير بالأسرار التي تحفظها الكنيسة في العمق الخفي لوجدانها الداخلي... ولم تكن والدة الإله يوماً موضوعاً للكرازة الرسولية. ففي حين بُشِّر بالمسيح فوق السطوح ونوديَ به على رؤوس الأشهاد عبر تعليم ديني موحّد للكون بأسره أُعلن سر والدة الإله فقط للذين في داخل الكنيسة... فهو أكثر من عرض للإيمان، إنه أساس لرجائنا، ثمرة الإيمان التي نضجت من التقليد. لنصمت إذاً ولنكفّ عن إدخال مجد والدة الإله الفائق في نطاق العقيدة) {فلاديمير لوسكي، (بناغيا)، في كتاب (والدة الإله)، منشورات ماسكال ص35}.
عن كتاب: الكنيسة الأرثوذكسية: إيمان وعقيدة
الفصل الثالث: كنيسة الله
الأسقف كاليستوس وير
المزيد