المقالات

08 يونيو 2025

نحن والروح القدس

اليوم يا أحبائي نحتفل بعيد عظيم في الكنيسة، إنه يوم انسكاب الروحالقدس على البشرية، يوم خالد لا تغرب شمسه لحظة. وهو ككل الأعياد والمواسم الكنسية ليس تمثيلية وليس تذكاراً، ولكن توقيع روحي على الزمن فالزمن يستجيب وينفعل ويتغير ويحيا، مثل العظام الميتة التي تحيا. فالروحالقدس محيي، وبمجرد ما يلتحم بالزمن يحوله إلى لا زمن وإلى خلود لذلك فحلول الروح القدس في هذا اليوم وهب للكنيسة هذا السر الفائق، سر الالتحام الذي فيه تلتحم الكنيسة بالأبدية، ويلتحم المنظور بغير المنظور، والزمني بالأبدي منذ اليوم تتنفس الكنيسة الروح القدس وتتنفس القداسة، لذلك نسميها كنيسة مقدسة، وقداستها دائمة طالما يسكن الروح فيها في الحقيقة لو أن الإنسان يحيا بالروح القدس؛ فستصير كل أعماله، حتى المادية منها، أعمالاً مقدسة. لقد غير حلول الروح القدس مضمون عمل الإنسان وعرقه. كان العمل في القديم صورة بالكربون للعنة الأولى: بعرق جبينك تأكل خبزك، فكان كل عمل يعمله الإنسان على الأرض هو صورة مصغرة أو مختومة بختم قديم جداً مكتوب عليه: "هذا عرق اللعنة". ولكن بحلول الروح القدس تغير الحال تماماً، ليس فقط على المستوى الروحي؛ ولكن أيضاً على مستوى العمل المادي اليومي.للأسف لقد غابت الكنيسة اليوم عن العالم، لقد كان من المفروض أنها تعمل تحلي للعالم، وللأرض، ليس فقط في تغيير الناس للإيمان؛ وإنما أيضاً في تغيير مفهومه للعمل والجهد وعرق الجبين تغيير من كونه امتداداً للعنة الأولى إلى مصدر للبركات، قال عنها النبي في القديم: «ويكتب على القدور وأجراس الخيل قدس للرب». فأواني الطبيخ صارت مقدسة، والخيول التي كانت مكروهة عند بني إسرائيل في القديم صار مكتوب عليها أنها مخصصة للرب. بمعنى أن الحياة كلها صارت متجلية، كيف؟ بالروح القدس أولاد الله لم يأخذوا للآن عافيتهم بالروح القدس، فالمطلوب منا ليس فقط أن نعمل العمل الروحي؛ ولكن أن تطور العالم كله، نبث الروح القدس في كل مكان، لتغير وجه الأرض في الحقيقة، نحن هنا في الدير، نحاول أن تحوّل العمل المادي لهذا المضمون، ونحن ملتزمون أن نجعل حياة العمل وحياة الصلاة ملتحمين، كفعل زمني وفعل أبدي مع بعضهما، لدرجة أن الراهب الذي لا يتقن الصلاة في أثناء العمل، يجب أن يُمنع من العمل. فلابد للراهب أن يصلي باستمرار ويرفع قلبه باستمرار أثناء عمله. أما إذا أخفق في هذا فيجب أن يعتكف في قلايته إلى أن يُجدد قواه الروحية، لكي عندما يعود للعمل مرة أخرى، يعمل بإحساس الوجود في حضرة الله، ويعمل كل شيء بدافع الحب الإلهي، الذي يدفعه للبذل والخدمة والعطاء، بل للموت لأجل الآخرين.الكنيسة اليوم محتاجة إليك، محتاجة إلى صلاتك. إن أنت لم تصل الله منك خسرت أنت، وخسرت الكنيسة. عليك أن تحس بما يريده ليصنعه من أجل الآخرين بواسطتك. فإذا أنت تكاسلت وتهاونت تكون النتيجة أن عمل الله يتعطل، وتحمل أنت الحرم. الله يريدك أن تصلي لكي يعمل بالروح القدس في قلوب الآخرين لأجل أمور يحتاجونها، وهو ليس له غيرنا نحن الرهبان، فإذا أطعنا كسبت الكنيسة وكسبنا من ورائها، ونلنا معونة الروح القدس وفرحناه؛ وإذا تقاعسنا تظل الكنيسة تعاني وأنت تعاني معها وتحس في النهاية إنك أضعت عليها الفرصة، وأنت في النهاية المسئول ! اسمع الآية: «صلوا بعضكم لأجل بعض واطلبوا بعضكم لأجل بعض لكي تشفوا». الروح القدس ينبه اليوم قلوبنا، يُكلمنا في الإنجيل، يُسمعنا صوته بكل طريقه، يقول لنا صلوا من أجل الآخرين، اطلبوا من أجل شفائهم، ليس هو شفاء جسدي، ولكن من مرض اسمه الانصداد عن الحياة الأبدية للأسف أنت تقول: "أنا قد استغنيت وليست لي حاجة لشيء"، ولكن الروح يقول لك : " أنت شقي وفقير وعريان تعال خذ مني الروح القدس للصلاة". اعلم أن الرب يريد أن يعطيك، ولكن عليك أنت أن تطلب. الرب يديه مملوءة عطايا ومواهب ولكنه لن يعطيها إن لم تخطفها منه، يريدك أن تغتصبها من يده. وأعظم هدية تأخذها من الروح القدس هي الصلاة. الروح القدس هو كملكوت الله يُغصب والغاصبون يختطفونه. فإن هو نبه قلبك لفكرة معينة فلا تتوانى وستجد منه معونة، وسيعطيك القوة على التنفيذ، وستفعل أموراً لأول مرة تصنعها في حياتك وسيعطيك الروح القدس فهماً للإنجيل، آية وراء آية، وأصحاح وراء أصحاح، بعد أن كنت من قبل لا تفهم شيئاً! كما إنك ستجد آيـــات تجدها موجهة لك، فيها كل حياتك، وكأن الرب يخاطبك من خلالها مباشرة. وهناك أمور يشدد عليها الروح، يحثك عليها، يكررها عليك مراراً يريد أن يقول لك شيئاً، فلابد أن تتجاوب معه، إياك أن تهرب وتترك الصلاة، إياك أن تمل، وتقول: زهقت ومليت. بل قف صل أيضاً. كيف أسترضي وجه الروح القدس؟ الروح القدس هو إشبين النفس لأنك ولدت من حضنه في المعمودية هو الذي يُعرفك بالمجد الذي نلته بدخولك في الزيجة السرية بينك وبين الرب ولكن كيف أمسك في خناق الروح القدس؟ الأمر في منتهى البساطة: حَصْرُ القلب والعقل فيه. هذا هو العمل الوحيد الذي عليك أن تعمله، أن تحصر عقلك في الروح القدس، وتحصر قلبك في الروح القدس، وتعيش معه اليوم كله، وتناجيه وتوقف حياتك وساعاتك وأوقاتك في الطلبة المستمرة لكي يحقق لك المسيح وعده بأن يُعرفك بكل الحق، فهو القادر لأن يعلمكم كل شيء». فإذا توسلت إليه بدموع وأنت في محنة، مثلاً من أجل خطية متعبة فيك من جهة عداوة، بغضة أفكار غير طاهرة ... وتقول له : أرني قوتك، كيف يكون المسيح في وأنا أعيش كهائم أكل الخرنوب ؟! } عندئذ ستجده قريباً منك ويُعرفك قوتك ونُصرتك في المسيح، وعندئذ تجد الفكر قد ذهب تماماً، والقوة الشيطانية المسيطرة على العقل ذابت ذوباناً، وإذا بالشخص الذي كنت أتألم بسببه قد صار كملاك أمامي وإذا ضغط عليك فكر نحس مثلاً، بالليل أو بالنهار، قم منتفضاً ساجداً على الأرض، وناد الرب، هنا سيتحول الفكر إلى فكر مقدس وستحس بالرب يسوع كقوة فاعلة فيك للمجد. الروح القدس يأخذ مما للمسيح ويعطينا: عمل الروح القدس أنه يُعرفنا بكل أعمال المسيح وبكل صفاته وعطاياه أطلب أي شيء يعجبك، أطلب من أجل شيء يتعبك، تذكر الروح القدس واطلب منه، تجده يوجهك ويُعرفك بالذي عمله المسيح لك في هذا الأمر، فتأخذ قوة، وتأخذ نُصرة، وتأخذ فرحاً وتعزية المسيح هو نصرتك، هو سلامك هو قوتك هو عزاؤك وفرحك، هو ماؤك الحي، هو حياتك الأبدية، هو وداعتك واتضاعك، هو مسكنتك... هو كل شيء. فإذا انتابك روح كبرياء وعجرفة، يأتيك المسيح كوديع ومتضع ويذيبك ذوباناً، ولكن لابد من توسط الروح القدس. إنه يُقرب لك المسيح، فتراه على قدر ما يمكنك إدراكه قليلاً قليلاً.فالروح القدس هو الواسطة الذي يقدر أن يصل ما بين المسيح وبينك يقدر أن يحضر لك المسيح المتضع فتتضع والمسيح النور فتنير، والمسيحالحلو فتصير حلواً، والمسيح الطاهر فتصير طاهراً، ولا يصعب عليك شيء إطلاقاً. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
25 مايو 2025

يسوع هو الطريق للحياة الحقيقية

الحياة المقصودة هنا هي الحياة الأبدية، فالحياة الجسدية لا يعترف بها كحياة لأنها مغلوبة للموت، وهي لذلك لا تُحسب عند الله أكثر من أنها حياة في الموت، أو كتصريح المسيح في قصة الابن الضال: «لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد»، وكتصريح بولس الرسول عن المرأة المتنعمة «فقد ماتت وهي حية» أما الحياة الحقيقية فهي حياة في الله أو حياة كل من يعيش الله حسب الروح، فهو يستمد حياته من الله نحن لم نكن نعرف شيئاً عن الحياة الأبدية ولا كنا نظن أن الله سيهبها لنا،ولكن التي فجرت الحياة الأبدية في عالم الإنسان هي القيامة التي ظفر بها المسيح بغلبته على الموت كما عبر عنها ق يوحنا «فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا» وحينما يقول المسيح «أنا هو القيامة والحياة» فهو كأنما يقول: أنا مخلصكم من الموت والفساد، أنا هو حياتكم ومحدكم، أنا الواهب لكم حب الله وفرح الرجاء وسر الخلود والقديس بولس الرسول يرى أن الحياة الأبدية التي دعينا إليها هي هدف جهادنا وسعينا والمطلوب من الإنسان أن يمسك بها: «جاهد الجهاد الحسن وأمسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت أيضاً» (١ تي ٦ : ١٢). فالحياة الأبدية هدف حي واقعي نمسك به هنا وهناك. هذه الحياة هي الغاية التي من أجلها جاء المسيح: "جئت لتكون لهم حياة" وهي النهاية التي من أجلها يعيش كل إنسان ويؤمن: «وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه». أمام قبر لعازر وعندما كان يتخاطب مع مرثا كشف المسيح عن إمكانياته بخصوص إقامة الميت وإعطائه الحياة، قال: «أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد». فالذي يؤمن بالمسيح يدخل هذه الحياة الأبدية الآن مباشرة بدون موت ولا دفن، بحيث لا تتوقف هذه الحياة الأبدية بعد ذلك إطلاقاً لا بموت ولا بأي شيء آخر الذي يؤمن بالمسيح لا يعود ينتظر القيامة في اليوم الأخير حتى يرى الحياة الأبدية، لأن المسيح ظهر أنه هو القيامة نفسها الآن وفي هذه الساعة، فنحن الآن لا يعطلنا موت عن قبول الحياة الأبدية، لأن المسيح الذي نؤمن به هو حياتنا كلنا. كذلك لا يعطلنا الآن انتظار القيامة العتيدة لأن المسيح الآن هو قيامتنا كلنا". يا لهذا العزاء العظيم !! المسيح يرفعنا منذ الآن إلى حالة حياة حقيقية لا يؤثر فيها الموت الجسدي ولا يوقفها قبر ولا يقلل من قوتها اضمحلال الجسد وفناؤه، لأنها قيامة حقيقية بالروح والحق، قيامة إلهية في الله، كل من يدخلها يبقى حياً إلى الأبد، حياً في المسيح، لا يفقد من كيانه إلا ما فسد منه. لذلك يتحتم أن يفقد الجسد فساده حتى يسترده جديداً في عدم فساد.المسيح لا يلغي الدينونة أو القيامة في اليوم الأخير، ولا ينفي أن الحياة الأبدية ستستعلن جهاراً في القيامة بظهوره؛ ولكنه يزيد على ذلك كله أن القيامة والعتق من الدينونة الآتية والحياة الأبدية كلها دخلت إلى العالم بدخوله واستعلنت وظهرت لكل من آمن ويؤمن بموته وقيامته حياً من الأموات: الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة»إذن لا خوف من الموت بعد الآن، ولا تشاؤم من عجز الإنسان، ولا رعبة من دينونة قادمة، فقد طعمنا في جسد ابن الله فسرت فينا الحياة الأبدية وعبرنا خطورة الموت واللعنة والفساد، وتجاوزنا حكم الدينونة بالضرورة، لأن الذي يدين أصبح هو نفسه محامينا بل مُبرِّئنا، بل قد صرنا متحدين بقاضينا! كل من يتحد بالمسيح الآن فإنه يوهب الحياة الأبدية في الحال بحيث أن القيامة في اليوم الأخير تأتي مُضافة أو مترتبة على شرط حصولنا على الحياة الأبدية منذ الآن. هذه الحياة الأبدية التي تمنح لنا لا يمكن الحصول عليها إلا بالمسيح ولا توجد وسيلة لدخولها فينا ودخولنا فيها إلا بالاتحاد بجسد المسيح ودمه: من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير»، «فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم» الحياة الأبدية ليست مجرد وعد ننتظره بعين الإيمان، بل هي روح حي، إنها روحه أسكنه داخل قلوبنا يعمل لحسابه. وقد ينشط الروححتى يغطي كل منافذ وحركات الجسد، فلا يشتاق الجسد إلا إليه فالحياة الأبدية عند الذين عرفوها وعاشوها حياة تصغر دونها الحياة الحاضرة، يرتقي فيها المجدون من مجد إلى مجد، وتتغير أشكالهم الروحية عن صدق وتحقيق لكي تُعد لتكون على صورة خالقها بكل الحق: أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو فحالنا الآن كحال جماعة أو فرقة تمثيل تتدرب باهتمام بالغ على الأدوار التي أعطي لكل واحد أن يمثلها، فنجد الواحد فيها يظل ليل نهار يحفظ ويسمع دوره، ويقف أمام المرآة ويلقي دوره فلا يعجبه الأمر، فيعود ويحسن من أدائه وكلماته وحركاته. حقاً يا إخوة، ستباغتنا لحظة سيرفع فيها الستار؛ فإذ نحن فوق، نأخذ مواقعنا عن حقيقة وليس عن تمثيل. هنا نلبس الأقنعة، رضينا أم لم نرض. فيا نعيم مَنْ لَبِسَ قناع الضعف والفقر والمسكنة؛ وأتقن دوره بصدق القلب حبا في الذي افتقر وهو غني، ولبس الضعف وهو رب القوة، وتمسكن وهو ابن الله لأن هناك سترفع الأقنعة وتوهب أكاليل المجد. انظروا، فالحياة الأبدية فينا وتبدأ من هنا بكل معطياتها ولكن تحت أقنعة، فلا يرى منها إلا شقاء هذا الزمان. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
18 مايو 2025

سيروا في النور لئلا يدرككم الظلام

حينما يوصف الله بالنور؛ فلا يظن أحد أنه نور مرئي بالنظر أو الفكر، بل هو طبيعة الله غير المدركة بالعقل، ولكنه مدرك بالروح، فالله مُدرك كامل يُدرك، ولكن لا يُدرك كماله. والمسيح بصفته شعاع أو بــــاء مــــد الله؛ فهو النور الذي جاء إلى العالم ليستعلن طبيعة الله غير المدركة والمسيح حينما يقول: "أنا هو نور العالم " فهو يقصد أن يقول إنه جاء إلى العالم ليستعلن طبيعة الله كآب وابن فطبيعة الله كانت سراً مختوماً لم يُعرف به أحد قط سابقاً المسيح هو بالحقيقة نور العالم، لأنه سلم للعالم سر استعلان بنوته الله، وسر حب الله الآب للعالم، هذا الحب الذي كلفه ذبح ابنه على الصليب، كذلك سلم العالم سر الأبوة والبنوة في الله، وهو السر الذي انتهى بالإنسان إلى قبول الحياة الأبدية وإلى التبني أي الدخول في بنوة الله مع المسيح والمسيح عندما قال: سيروا في النور ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام كان يقصد أن نسير في جدة الحياة أو الحياة الجديدة في المسيح، أي القيامة، أي الخليقة الأخرى التي من فوق، لئلا يدركنا الظلام، أي لئلا يطغى علينا مرة أخرى ظلام الإنسان العتيق والحياة القديمة المستعبدة لظلام الخطية وسلطان الظلمة.هناك مقارنة ومقابلة مستمرة في الكتاب المقدس ما بين النور والظلام النوم واليقظة: «قم أيها النائم واستيقظ من بين الأموات فيضئ لك المسيح»، أي أن هناك ربط بين الموت والظلام. فكما أن الحياة تنبعث من النور؛ كذلك الموت من الظلمة. لذلك يقول ق. يوحنا في رسالته: «الله نور وليس فيه ظلمة البتة»، ومن هنا يستخرج لنا منهجاً عملياً كعلاقة حتمية مع النور، اسمعه يقول: إن قلنا أن لنا شركة معه (أي النور وسلكنا في الظلمة (أي الخطية) نكذب ولسنا نعمل الحق» أسألكم كم مرة جلست مع نفسك تفحص هذا الأمر؟ النوم كظلمة، والخطية كظلمة، والمسيح كنور ؟! أول صفة قريبة للنور هي الحياة، نور الله حياة. فما أن تتذوق الإحساس بالحياة الأبدية يبتدئ النور يأخذ كيانه داخلك، لذلك فإن أول صفة نفهم بها النور هي الحياة الأبدية المسيح جاء لكي يُظهر لنا الحياة الأبدية. العالم لم يكن متصلاً بالحياة الأبدية، فجاء المسيح إلى العالم وعمل طريقاً للحياة الأبدية: «أنا هو الطريق، أنا هو النور». فعندما أمسك بوصية المسيح أجد نفسي سائراً في طريق الحياة الأبدية. هذا هو مفهوم النور. وعندما تنجح في التنفيذ يكون هذا هو المسير المسير في النور هو في الواقع عمل انتقال من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة، وهذا لا يُمكن أن يكون إلا بالمسيح لأنه اتصل بالموت وهو الحياة، لذلك عندما نتصل به ننتقل من الموت إلى الحياة. النور هو كلمة المسيح والروح القدس في الإنجيل، عندما أمسك بالمسيح طول النهار بكل قوتي أجد ذاتي قريباً من الحق يوجد مفهومان للنور: مفهوم للنور بالنسبة للعقل، ومفهوم للنور بالنسبة للمسير. المسيح تجنب النور العقلي، قال: «سيروا في النور»، ولم يقل: افهموا النور" مفهوم النور العقلي لذيذ، وأما الآخر للمسير فهو صعب المسيح قال:«احمل صليبك واتبعني»، فقرأها واحد وقال إن هذه الآية عميقة وفسرها في ثلاث مجلدات، وآخر أخذها وسكت ثُمَّ وضع الصليب على كتفه وسار! تفسير النور العقلي مضلّل، أما التفسير العملي ففي كل خطوة يخطوها الإنسان يظهر له النور أكثر. كل خطوة تخطوها في الوصية تتحول أنت بجملتك إلى نور !" سيروا في النور لتصيروا أبناء النور" السير في النور الإلهي هو شركة الطبيعة الإلهية، السير في الوصية هو شركة، تصبح شريكاً مع الذي قال الوصية، كل جزء في الآية يُحولك من الصورة الآدمية إلى الصورة الإلهية. لو أنت فهمت الإنجيل كله ولم تنفذ الوصية بدقة لن ترى النور. ربما تكتب مجلدات عن النور ولكن لن ترى النور! إنسان ساذج أُمّي ينفذ الوصية بالحرف يصير ابناً للنور! هنا المشقة منتهى المشقة والسهولة منتهى السهولة هناك أجيال تاهت وماتت و تلاشت ولم تأخذ نصيبها في الحياة الأبدية. ملكوت السموات انفتح للسذج والأميين بصورة سهلة جداً. تقول لي: أنا لست أفهم أقول لك: نفذ. إذا حسبت الخطورة في التنفيذ فأنت تدخل في المفهوم الذهني والعقلي، وبذلك تكون رفعت الموضوع من التنفيذ بالإيمان إلى التنفيذ بالمعرفة، فلن ترى الملكوت أحياناً تريد أن تفهم المسيح فيبعد عنك، أما أن تأخذه، فستجده في قلبك مباركة هي الخطوة الأولى في كل مسير نحو يسوع المسيح. كل خطوة عملية تخطوها في حياتنا متكلين على الوصية متمسكين بها هي المسير في النور كل خطوة تخطوها تُحدث فينا تحولاً داخلياً فنصير أبناء للنور والوصية ما أسهل الطريق المؤدى إلى الحياة الأبدية والمسيح حين يقول: «النور معكم زماناً قليلاً بعد فسيروا في النور» كان آنذاك محصوراً في زمان قليل بالفعل، حتى إنه بعد أن قال ذلك، أكمل القديس يوحنا كلامه موضحاً مدى السرية فيه قائلاً: « تكلم يسوع بهذا ثم مضى واختفى عنهم». ولكن لا يزال المسيح حتى اليوم يعرض نفسه لكل من يفتح قلبه. ولكن حذار ! فالعرض لن يدوم. فإذا توانى الإنسان في الاستجابة، ثم عاد يبحث عن الصوت فربما لن يجده. فوجود المسيح كنور العالم، أو كنور الإنسان رهن باستجابة الإنسان. وكأن كل إنسان في العالم مسئول عن وجود المسيح ودوامه؛ فإما أن نقبل النور، فنصير أبناء له، أو لا نقبله فيتم قول الإنجيل: فمضى واختفى عنهم». وبهذا تتحدد الدعوة لنكون إما أصحاب النور، وإما أعداء وفي الظلمة نعيش. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 مايو 2025

يسوع هو ماء الحياة

"قال لها يسوع: أعطني لأشرب" القول ينضح بالمفارقة الصارخة. ينبوع ماء الحياة يطلب أن يشرب من ماء معطش ومن يد امرأة جف منها ماء الحياء! ولكن دائماً أبداً تقـــف مفارقات الله مع الإنسان لحساب الإنسان فالرب دائماً يحتاج إلينا ليعطينا أجاب يسوع وقال لها " لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً" المسيح هنا يفتح أمامها الباب لكي تنكشف بصيرتها وتستعلن الشخص الجالس أمامها، ويوحي إليها أن تطلب منه عطية، وهذا هو مفتاح الصلة الحقيقية التي بها تنشأ العلاقة القوية بين الله والإنسان. وفعلاً نجح المسيح في هذا الإيحاء العجيب، وفعلاً طلبت المرأة، أما إن كان هذا الطلب غير صحيح؛ فقد عدله لها. كذلك فإن المسيح يُنبهها أنها محتاجة أن تعلم من هو ولا تعثر في منظره المتعب المجهد والعطشان! وكأنه يقول لها: التفتي إلي، لأني افتقرت وأنا غني، ولكني افتقرت لأغنيكم، فلا تتعثري في منظر بشريتي هكذا، بل ارفعي بصرك لتري حقيقتي. وقد تم كل هذا بالحرف الواحد، وفي أقل ما يمكن من الزمن وفي الحقيقة، إن المسيح هنا بقوله: «لو كنت تعلمين عطية الله» إنما يقدم نفسه للبشرية الخاطئة كما قصد أبوه الصالح تماماً: "هكذا أحب الله العالم حتى أعطى ابنه الوحيد...". ثم يعود ويربط هذه العطية، وهي نفسه، بالماء ثم الحياة،ولكن في صورة الماء الحي، أي الجاري،ومن هنا التبس الأمر على السامرية وهذا هو أسلوب ق يوحنا في استخدام اللفظ الذي يرمي إلى معنيين: الأول عادي ومادي؛ والثاني روحي وإلهي! والماء الحي في عُرف العهد الجديد هو مجرد ماء جار من نهر أو خلافه، ولكن في العهد الجديد فهو الماء المحيى، كعطية الله للإنسان على مستوى الشرب الذي يُحيي الجسد بالأساس، وبدونه يموت الإنسان. فالماء الحي عند المسيح هو : الحياة الأبدية نفسه. ولكن منظوره ومفهومه على أساس الحياة الجسدية التي يستمدها الجسد من الماء. أما الماء الطبيعي، إذا نال قوة روحية بالصلاة؛ فإنه يُعتبر ماءً للتقديس، وهو قادر أن يعطي الحياة الأبدية بالمعمودية بسبب قوة الحياة التي حلت بالصلاة ونلاحظ هنا أن المسيح يستخدم الماء موضوع الحوار من واقع حال الإنسان فيما يخص جسده وفيما يخص روحه؛ فيما يخص حياته على الأرض، وفيما يخص حياته الأبدية فالجسد يعطش ويعطش ويعود إلى الماء في كل مرة، فهو لا يرتوي أبداً أبداً؛ ولكن الروح تعطش، فإذا ارتوت فلن تعطش أبداً لأنها ترتوي من ماء الحياة الأبدية؛ أو الماء الحي، أو الماء الحقيقي، الذي هو الحياة الأبدية نفسها: «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» المسيح يضع إصبعه إلى نفسه ويشير إلى ذاته عندما يقول: الماء الذي أعطيه، فهو عطية الاستعلان التي إذا سكبها على قلب الإنسان ووعيه فإنه يتعرف على حقيقة المسيح فيدخل مجال الحق الإلهي وينتمي بروحه إلى السموات؛ ومن كل ما هو سام يشبع ويمتلئ ويرتوي، فلا تعود الأشياء التي في الدنيا موضع عطش أو تلهف أو متعة روح المسيح يضرب على الوتر الحساس ليرن صوته في أعماق النفس المتعبة التي نهبتها الشهوات والملذات والجري وراء سراب الغرور والمتعة، التي كلما شربت منها النفس ازدادت عطشاً إليها دون أن يدري الإنسان أنها تمتص رحيق حياته ونضارته وإرادته وكرامته، وأخيراً تتركه صريعاً للندم واليأس وخيبة الأمل. «لن يعطش أبداً». إنها مقولة تتجلى في حياة كل من يُقبل ويشرب كل يوم، ولكنها سوف تبلغ أوج تجليها في المجد الأعلى: «لا يجوعون بعد ولا يعطشون ولا يضرهم حر ولا شمس، لأن الذي يرحمهم يهديهم، وإلى ينابيع المياه يوردهم» كل من أدمن على شرب المياه المعطشة هنا ؛ يتمنى في يوم من الأيام لو لم يولد حينما يبلغ به العمر أرذله؛ أما الذي ذاق الحياة في المسيح يسوع، فهو كل يوم يولد جديداً كل من ضيع العمر في ملذات هذا الدهر، يتمنى لو يموت؛ أما الذي استعلن المسيح، واستنشق الحياة الأبدية فيه، فهو يحيا كل يوم حياة جديدة ولن يموت أبداً. "الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية". ماء العالم كل الذي يشرب منه يعود ويعطش أيضاً، لأنه ماء نابع من الأرض. ولكن جاء المسيح ومعه ماء حي، أي فيه روح الله. كل من يشرب منه يصير هو نفسه ينبوع ماء حي، يخرج من بطنه، أي من قلبه، أنهار من هذا الماء الحي، أي الذي فيه روح الله ومن عجائب هذا الماء الحي الذي جاء به المسيح من فوق، أن كل من شرب منه لا يموت حتى ولو داهمه موت الجسد، فهو يقوم من الموت إلى الحياة الأبدية والمسيح هنا يقصد بالماء الحي أنه تعاليمه التي فيها سر الحياة فكلام المسيح هو الحق وهو الحياة، ويؤدي بمن يستمع إليه إلى حياة أبدية، ولن يعبر على الدينونة، بل ينتقل من الموت إلى الحياة مباشرة وكلام المسيح حلو ويروي النفس العطشانة إلى الحق والله. لذلك كان تشبيه المسيح لكلامه أنه الماء الحي حقيقة سرية للغاية، لا تروي إلا لمن يعطش ويجوع إليها. فكلمة المسيح غذاء للنفس وارتواء أيضاً والعجيب حقاً أن كل من ارتوى بكلام المسيح، يصير هو نفسه ينبوع ماء حي، لا إلى ساعة أو يوم، بل إلى الأبد. كل من يسمعه كمن سمع المسيح نفسه، فكما ارتوى يروي أيضاً. وهكذا يعيش المسيح في كل مـــن آمن به وأحبه. كما يقول بولس الرسول: فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في». وهكذا يصبح من يؤمن حقاً بالمسيح ينبوع ماء حي. وكأنما يعيش المسيحفي كل الناس، كل من آمن وأحب فكما أن الماء الطبيعي يُحيي الإنسان كل أيام حياته، هكذا كلمـة المسيح تحيي كل من يسمعها، وتدخل إلى قلبه وتصيره ينبوع ماء حي وكما أن الماء للعطشان حلو ولذيذ يظل يشرب منه إلى أن يمتلئ، هكذا كلام المسيح لمن يستمع إليه حلو ولذيذ، يظل يشرب منه ليعود ويشرب أيضاً حتى آخر حياته. وكما أن الماء الطبيعي مركب من أوكسجين وهيدروجين، كذلك كلام المسيح مركب من حق ونور، الحق يكشف والنور يقود. فالماء الطبيعي يشربه الإنسان وهو في مكانه، أما الماء الحي فيشربه الإنسان ويرتقي إلى السماء يا لسعد البشرية بمجيء ابن الله، حاملاً سرّ الماء الحي ليحيي به الإنسان إلى الحياة الأبدية المرأة السامرية أرادت أن تشرب من ماء الحياة الأبدية، فاستحال عليها ذلك لأن ليس لها زوج. فسر الحياة الأبدية لا يقتنيه إلا الأبرار المولودين من فوق. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
04 مايو 2025

أنا هو خبز الحياة

فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة، من يُقبل إلى فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش إلى الأبد» لقد سألت السامرية المسيح أن يعطيها من مائه الحي لكي لا تعطش، فأعطاها نفسه فقبلته وهنا، وعلى نفس المستوى، لما طلب منه اليهود أن يعطيهم من خبز الله الحقيقي، أشار إلى نفسه، وقال لهم: أنا هو خبز الحياة. فلو كانوا قد قبلوا منه عطية نفسه، لما جاعوا العطية جاهزة أمامهم والخبز حاضر. ولو فتشوا الكتب لوجدوه، إنه هو الحياة الأبدية خبزاً وماء. فهو هنا يجمع الأكل والشرب معاً، فهو الطعام السماوي الكلي والكافي، الذي هنا نأكله ونشربه بالسر، وأما هناك فنشبع ونرتوي منه بالحق إلى الأبد المسيح يقدم نفسه لليهود ولنا كطعام حقيقي : مأكل حق يدوم هنا وفي السموات، ولا ينقطع قط. فالشبع من المسيح هو شبع إلهي سمائي لا يؤول إلى جوع دنيوي قط. والارتواء من المسيح هو ارتواء الروح بالروح. فينبوع المسيح سمائي إلهي ينسكب بجملته في أحشاء الإنسان لينبع فيـــه ومنه، هذا وعد المسيح وعمل الروح الذي يجري الآن أمام عيوننا، وطوبى لمن يرى ويسمع نعم، هذا الكلام حلو كشهد العسل، ولكن هناك فرق بين من يشتهي عطايا المسيح، ومن يشتهي المسيح نفسه فالجليليون كانوا مثل المرأة السامرية، عندما سمعوا هذا الكلام الحلو الذي يقطر عسلاً، طالبوه أن يعطيهم إياه، ولقبوه بالسيد تملقاً، لعلهم يفوزون بعطاياه، ولكن كاشف القلوب والكلى أدرك أنهم يقبلون عطاياه ولا يقبلونه هو، ويؤمنون بمنفعــــة مواهبه، ولا يؤمنون به هو فوضع لهم الشرط كالمشرط: (عطاياي لمن يقبل إلي، وغناي لمن يؤمن بي ) أنا هو خبز الحياة المسيح هنا اعتبر نفسه خبزاً لنوال الحياة الأبدية، حيث أن المسيح والخبز الذي يعطيه كلاهما يهب الحياة الأبدية. فالمسيحفيه الحياة ويعطي حياة، لأن المسيح حي ومحيي : «لأني أنا حي، فأنتم ستحيون». وخبز الحياة، هو كذلك خبز حي، فهو يعطي الحياة لأنه خبز الله، لأنه جسد المسيح. فالتطابق الذي يجعله المسيح بين كيانه الحي المحيي، وبين كيان الخبز الحي هو تطابق كلي؛ لذلك يعود المسيح بعد ذلك ويوضح هذا التطابق هكذا: «أنا هو الخبز الحي». وهنا يكمن سر التجسد العجيب الرهيب على مستوى اتحاد الكيان الإلهي بـ الجسد البشري المولود من الروح القدس اتحاداً سرياً كاملاً أبدياً والحيرة التي يقع فيها العقل الذي لم يقبل سر التجسد تكون حيرة حقيقية، إذ كيف يمكن للمسيح وهو إنسان أن يكون خبزاً؟؟!! والخبز كما هو معروف أنه يؤكل لقوام الحياة الجسدية؛ أما للذين قبلوا سر التجسد، أي بالإيمان بالمسيح الكلمة المتجسد، يصير من السهل عليهم أن يدركوا سر الإفخاريستيا في قول الرب : « الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي». فهذا هو غاية التجسد، فالمسيح تجسد ليعطي جسده الحي للعالم، ليكون بذرة الخليقة الجديدة. هذه الحقيقة سرية للغاية، والذي يقبلها إنما يقبلها بالإيمان والخطأ الذي ارتكبه اليهود، والذي لا يزال يرتكبه العالم هو أنهم يريدون أن يعرفوا سر المسيح قبل أن يأتوا إليه ويؤمنوا به، وهذا مستحيل.والنصيحة العظمى التي نقدمها للناس جميعاً، هي أن يأتوا إليه بـــلا فحص، وأن يقبلوه ويؤمنوا به لتنفتح عيونهم وقلوبهم، ويدركوا ســـــر المسيح والله، وسر الحياة الأبدية، بكل يقين. والمسيح في قوله إنه يعطي جسده يصير فاعلاً: «أنا هو»، ومفعولاً به «جسدي بآن واحد، لذلك حينما يبذل جسده فهو يعطي نفسه في هذا الجسد ليصير الأكل من الجسد اتحاداً به وبالله الآب، وقوة هذا الاتحاد هي الحياة الأبدية. في الحقيقة إن هذا اللقب هو من أبسط ألقاب المسيح التي أطلقها على نفسه، ولكن في نفس الوقت أعماقه لا تجارى ولا تُحد.ليس في جميع الأسرار التي تصادفنا في حياة المسيح وأقواله ومعجزاته ما يُعادل هذا السر الرهيب سر الخلود الذي أبقى المسيح إعلانه حتى آخر ساعة من حياته. ففي الليلة التي كان مزمعاً أن يُسلّم فيها نفسه للموت من أجل حياة العالم، جلس مع تلاميذه ومهد للسر بإعلانه حبه الخاصته الذين في العالم، حباً وصفه المسيح أنه حتى المنتهى (يو ١٣: ١) والمسيح لم يكن مغالياً حينما قال: «أنا هو خبز الحيـــاة». إذ أنه في العشاء الفصحي الأخير، عندما أخذ الخبز على يديه، ونظر إلى فوق، بــــه روح الحياة الأبدية. فحمل الخبز، ذات الحياة الأبدية التي في جسده، فصار الخبز الطبيعي معادلاً لجسده الإلهي الحي، أي خبزاً للحياة. وتمادى المسيحفي إجراء السر، إذ كسر الخبز من واقع ما سيتم على الصليب، وهكذا بث الخبز الحي موته المحيي، أي حمله قوة الفداء والغفران بآن واحد. وهكذا أصبح كل من يأكل من هذا الجسد يعبر - كما عبر المسيح - بالجسد من الموت إلى الحياة، أي صارت في هذا الخبز الحي قوة القيامة من الأموات. وبإعطاء المسيح الخبز حاملاً روح الحياة الأبدية، وسر كسر الجسد على الصليب؛ يكون قد أعطانا سر الشركة الكاملة في موته وحياته. والشركة هنا ليست مجازاً بل فعلاً وتحقيقاً، وهذا يُثبته ويُحققه قوله: "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه. هنا الثبوت المتبادل، هو حالة تواجد للمسيح دائم في حياة الإنسان، والذي يؤهله حتماً للحياة الأبدية من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» من هنا أصبح الأكل من الجسد، أي الخبز المتحول، ليس مأكلاً عادياً؛ بل هو مأكل حقيقي وإلهي بالدرجة الأولى. لذلك نبه المسيح ووعى: «لأن جسدي مأكل حق». لأجل هذا أصبح الأكل من الجسد له فاعلية إيمانية سرية صادقة ومباشرة للثبوت في المسيح كثبوت المثيل على المثيل. وتكون النتيجة المباشرة لهذا الثبوت هو اندفاق الحياة الأبدية التي للمسيح في الشخص الذي يتناول من جسده ودمه، وتصبح الحياة الأبدية مفتوحة عليه، وبالتالي وبالضرورة تكون القيامة التي هي مصدر الحياة الأبدية قائمة فيه.والمسيح هنا يكشف السر القائم في الإفخارستيا: أن من يأكل الخبز المتحول للجسد والخمر المتحول للدم يكون قد أكل المسيح شخصياً ويكون قد ظفر بسر الخلود. ومن هنا كان تعريف الشهيد إغناطيوس 66 دو للتناول من الجسد والدم أنه بمثابة تعاطي ترياق عدم الموت أي دواء الخلود، ذلك لأن فيها أولاً : شفاء، أي مغفرة الخطايا، وثانياً: النصرة على الموت والظفر بالحياة الأبدية. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
27 أبريل 2025

أحد توما

المسيح قام حقاً قام ثمانية أيام مضت على خبر القيامة بتوكيدات وشهادات من ملائكة و شهود عيان كثيرين المجدلية والنسوة وتلميذا عمواس والأحد عشر وبالرغم من ذلك بقى توما وحده مصمماً على عدم قبول القيامة إلا بشروطه الخاصة وعلى العموم نحن نجد أن هناك تدرجاً في الإيمان بالقيامة: الدرجة الأولى: يوحنا يؤمن بدون أن يرى يكفيه رؤية الأكفان الموضوعة في القبر الفارغ. الدرجة الثانية: مريم المجدلية تؤمن بالقيامة دون أن تتحقق من شخصية الرب، ولكن بمجرد تذكر صوته. الدرجة الثالثة: التلاميذ الأحد عشر آمنوا عندما رأوا وجسوا لحمه وعظامه وجروحه. الدرجة الرابعة: توما، بعد أن استوفى لنفسه شرط الإيمان بوضع أصبعه في الجروح. ثم أخيراً الدرجة فوق الأولى : وهي التي أعطى لها الرب الطوبى، وهي إيمان الذين صدقوا القيامة بالخبر وحسب. الإنجيل لم يذكر لنا حادثة توما هذه المخجلة لكي يحط من قدر توما؛ بل لكي يوضح صعوبة الإيمان بالقيامة. فأصبح الإيمان بها يحفه القبول من اليمين بالمديح، كما يحفه الشك من الشمال بالتوبيخ. أما الطوبى، أي السعادة، فهي نصيب الذين يؤمنون ولا يطلبون شهادة العيان، لأن الحق يضيء قلوبهم.إذاً، فرواية توما لا تخص توما، بل هي حدثت لتكون ركناً ركيناً في استعلان شخص المخلص، كجزء حي في درجات سلم استعلان قيامة المسيح، كطوق نجاة للذين ستعصف بهم شكوك مثل شكوك توما! وق. يوحنا يقدم لنا رواية توما على التوازي مع رواية تلميذي عمواس التي قدمها القديس لوقا. وكل من الروايتين حظت بظهور الرب وكل منهما حظي بالتوبيخ المناسب. "قد رأينا الرب" نفس ما قالته المجدلية: «قد رأيت الرب».لم تقع هذه البشارة المفرحة عند توما موقع التصديق، وذلك عن قصد من النعمة، ليكون أباً ومرشداً لكل الذين صاروا بعقولهم قوامين على قلوبهم، ومدوا أيديهم وأصابعهم عوض البصيرة ليتحسسوا بها طريق الحق. لقد صار توما في تاريخ الإيمان إمام الشكاكين. ويا ليت كل من يشك، ينطق بالنهاية بما نطق به توما لقد وقف توما على قمة الشكاكين مصمماً على حتمية أن تكون القيامة بنفس الجسد الذي تمزق على الصليب، وأن يكون على مستوى المس اليد ووضع الأصبع في نفس الجرح النافذ وفي نفس الجنب المطعون. ولكن لأن القيامة التي قامها الرب هي قيامة حقيقية بالجسد الميت فعلاً؛ لذلك لم يمانع الرب أبداً من تحقيق شرط تو ما وظهر له خصيصاً ليكمل له إيمانه هذا. فصار إيمان توما واعترافه المفاجئ: «ربي وإلهي» البرهان الأخير إزاء كل شكوك بأن المسيح قام حقاً، وبأنه قام بجسده الذي تمزق على الصليب هو هو فقال لهم "إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه لا أومن".جروح الصليب مميتة، فكيف تصبح علامة حياة؟ إنه تعجيز! ولكنها هي حقاً معجزة توما يطلب المستحيل بالعيان واللمس، يطلب اقتران الموت بالحياة والحياة بالموت، فكان له ما شاء! إنها حقاً القيامة! توما أراد أن يمسك بنار اللاهوت، فمسك ولم يحترق. توما أراد أن يُمثل بيده طعنة الحربة إن أهوال الصليب ضيعت من عقل توما كل معقولية الحياة من بعد الموت، لقد أصابت المسامير فكر توما بأكثر مما أصابت به يد الفادي الفادي قام ويداه في ملء الحركة والحياة، وفكر توما تسمر بالموت وبقى بلا حراك الجنب المفتوح بالحربة صار كهوة في إيمان توما، تفصل الميت عن الحياة، مع أن الدم والماء النازفين منه، كفيلان بأن يُحييا كل الأموات. «لا أومن». لقد جازف توما بكل إيمانه، لقد وضع إيمانه بالمسيح قائماً من الموت في كفة، ورؤية عينيه ولمس يده لآثار المسامير وطعنة الحربة في الكفة المقابلة! لقد ظن توما أن الإيمان بالقيامة رهن نظر العين ولمس اليد ولكن المسيح نفسه عندما ظهر للتلاميذ المجتمعين «أراهم يديه وجنبه»، فتوما وإن كان يُطالب بحقه الرسولي، كتلميذ له، في الرب المقام؛ إلا أن ما كان ينقص توما حقاً والذي وبخه المسيح على فقدانه، فهو الإيمان "ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام" "فجاء يسوع والأبواب مغلقة، ووقف في الوسط" كان هناك نوع من الترقب لمجيء يسوع. فمن أسبوع كان التلاميذ قد حازوا على عطية الروح القدس الكفيل أن يشعرهم "بالأمور الآتية" وخاصة فيما للرب ومجيئه. جاء يسوع ووقف في "الوسط"، صحيح أنـــه جاء خصيصاً لتوما، ولكن حينما ظهر كان ظهوره للجميع والجميع له. ليس كبير أو صغير بينهم، فالكل فيه كبير، والكل فيه كريم ومكرم. "وقال سلام لكم". ليست هي مجرد تحية، ولكنها وديعة يستودعها الرب لكنيسته «سلامي أعطيكم»، فالرب لا يُقرى السلام، بل يعطيه، بل يسكبه ويبته فينا بثاً، ليسري في القلوب والأفكار والأرواح، ليبقى ويدوم ويترسخ داخل النفس، تلتجئ إليه يوم العاصف فتجده، وتستغيث به في الضيقة فتتسربل به. "ثم قال لتوما: هات إصبعك إلى هنا وأبصر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً". عجيب أن الرب يعيد نفس الكلمات التي نطق بها توما وهو يتحدث مع زملائه، فكأن الرب كان واقفاً يستمع إلى شروط توما المغلظة، لم يعاتبه ولا حتى أخذه، بل بلطف يفوق كل لطف، أخضع جسده الذي ترتعب منه الأجناد السماوية لرؤية عين توما واللمس أصابعه عرى جروحه، وجعل جنبه المفتوح في متناول يده. وهكذا احتفظ الرب بعلامات الموت ليجعلها برهان الحياة، وجعل آثار الذلة والانسحاق لتكون هي هي أسباب المجد.ولكن ترى ماذا كان وقع كلمات الرب على توما، حينما ردد الرب المقام على مسامعه كل الكلام والشروط التي قالها للتلاميذ؟! أعتقد أنها فوق أنها أخجلته، فقد جعلته في غير حاجة لأن يمد يده أو إصبعه. ولكن حين مدها وحينما لمس إطاعة للأمر الذي صدر له، كان قد بلغ الإيمان في قلبه حد الصراخ والشهادة خبرة العين الروحية ابتلعت خبرة عين الجسد، ولمسة الروح في القلب طغت على لمسة اليد. «لا تكن غير مؤمن، بل مؤمناً» لم يكن توما غير مؤمن، وإلا لو كان هو فعلاً هكذا؛ أي غير مؤمن، لما ظهر له الرب على الإطلاق. ولكن لما استبد به الشك، كونه استثني من رؤية الرب، كان يطلب حقه في الرؤية العينية، إمعاناً في الوثوق الذي يطلبه. بمعنى أن توما كان في طريقه إلى الإيمان في حالة حصوله على ما احتاجه إيمانه: «أومن يا سيدي، فأعن عدم إيماني» الرب تنازل إلى مستوى شروط توما، ليقطع على كل توما، وعلى كل من يذهب مذهبه الطريق إلى عدم الإيمان. "أجاب توما، وقال: ربي وإلهي" هذه هي قمة الاستعلانات، بل هي قمة إنجيل يوحنا. والذي يزيد من قيمة هذا الاستعلان الذي استلهمه توما من رؤية الرب المقام، أنه جاء بعد أسبوع كامل من عذاب الشك وليل الظنون فهو، إن كان قد تأخر عن التلاميذ ثمانية أيام في التعرف على القيامة وتصديقها؛ إلا أنه سجل للكنيسة أول اعتراف علني بألوهية المسيح، خرج منه بتلقائية تعبر عن الحق الذي رآه كاعتراف إيمان بلغ الذروة، ليس في كل الأناجيل ما يُضاهيه إن ظهور الرب بحال قيامته كان كفيلاً بأن يُغيّر لا فكر توما بل روحه وحياته. إن ظهور الرب قوة، فالقيامة هي المجال الإلهي الفائق، الذي إذا دخله الإنسان يفقد رؤيته لنفسه والعالم، وكأنها أقنعة، يخلعها ليرى الحقيقة الدائمة، ولا يعود يرى نفسه إلا في الله : "ربي والهي" إنه يرى نفسه فيه ويراه هو في نفسه، وكأنه يُردد بلسان عروس النشيد: «أنا لحبيبي وحبيبي لي» لقد صار له المسيح وصار هو للمسيح فاستعلن له المسيح في ذاته رباً وإلهاً لقد تعرف على الله في المسيح، وتعرف على المسيح في الله. وأخيراً، أدرك توما أن المسيح ليس للمس اليد أو نظر العين !! فهو الملء الذي يملأ الروح والبصيرة والقلب، الذي لا تسعفه عين ولا يحيطه فكر قال له يسوع" لأنك رأيتني يا توما آمنت طوبى للذين آمنوا ولم يروا" لقد أمن المسيح على اعتراف وإيمان توما "ربي وإلهي"، ووافقه على إعلانه بلاهوته. فلو لم يكن المسيح إلهاً بالحقيقة ما كان قد ارتضى بهذا الإعلان. لقد رأى توما المسيح كما يريد المسيح أن يُرى.وهنا ظهرت رنة التوبيخ والعتاب في صوت المسيح لتوما، لأنه ما كان لائقاً بتلميذ عاشر الرب وسمع منه أنباء القيامة العتيدة، بل ورأى قوتها عياناً عند قبر لعازر، ثم بعد ذلك لا يؤمن، ولا يصدق من رأى وآمن ولكن شكراً لك أيها القديس توما، لأن بشكك ورثتنا الطوبى، بل أحسن الطوبى: «.. الذي وإن لم تروه تحبونه ذلك، وإن كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد» . المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
18 أبريل 2025

الساعة الثالثة من يوم الجمعة الكبيرة + مت ٢٧: ١٥ - ٢٦ + مر ٦:١٥- ٢٥ + لو ٢٣ : ١٣ - ٢٥ + يو ١٩: ١- ١٢

وَكَانَ الْوَالِي مُعْتَادًا فِي العِيدِ أنْ يُطلِقَ لِلجَمْعِ أَسِيرًا وَاحِدًا، مَنْ أَرَادُوهُ وَكَانَ لَهُمْ حِينَئِذٍ أَسِيرٌ مَشْهُورٌ يُسَمَّى بَارَابَاسِ. " فَفِيمَا هُمْ مُجْتَمِعُونَ قَالَ لَهُمْ بيلاطس: «مَنْ تُرِيدُونَ أنْ أَطْلِقَ لَكُمْ؟ بَارَابَاسَ أَمْ يَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ ؟» لأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ أَسْلَمُوهُ حَسَدًا. " وَإِذْ كَانَ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ الولايَةِ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِ امْرَأَتُهُ قائلة: «إِيَّاكَ وَذَلِكَ الْبَار لأني تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيرًا فِي حُلم مِنْ أَجْلِهِ». وَلَكِنَّ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالشَّيُوحَ حَرَّضُوا الجُمُوعَ عَلَى أَنْ يَطْلَبُوا بَارَابَاسَ وَيُهْلِكُوا يَسُوعَ.فأَجَابَ الْوَالِي وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ مِنْ الاثنين تُريدُونَ أَنْ أُطلِقَ لَكُمْ؟» فقالوا: «بَاراباس!». " قالَ لَهُمْ بيلاطس: «فَمَادًا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ ؟» قَالَ لَهُ الْجَمِيعُ: «لِيُصْلب!» فقالَ الْوَالِي: «وَأَيُّ شَرِّ عَمِلَ؟» فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخا قَائِلِينَ: «لِيُصْلِبْ!» فلما رأى بيلاطس أنَّهُ لَا يَنْفَعُ شَيْئًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَعْبٌ، أَخذ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قَدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلاً: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَم هذا الْبَارِ أَبْصِرُوا أَنْتُمْ!». فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْبِ وَقَالُوا: دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلادِنَا». حِينَئِذٍ أَطلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ، وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلِبَ. أما يسوع فجلدوه وأسلموه ليصلب طوبى للحزائي لأنهم يتعزّون، طوبى للمصلوبين لأنهم يتجلون، طوبى للمنسحقين لأنهم يملكون، طوبى للجياع لأنهم يشبعون، حيث تُنسى هناك كل أوجاعهم وتمسح دموعهم وينمو موضعها نور يشير إلى الأهوال التي اجتازوها وإلى سر المجد المتحصل منها، ويشرح عظم صبر الإنسان وقوة مراحم الله، حيث تبدو النسبة بين مقدار الألم ومقدار المجد المتحصل منه نسبة هائلة وغير معقولة، فيكتشف الإنسان أن الآلام كانت فخاً مقدساً نصبه الله ليصطاده إلى مجده. فاحتمال الألم أقوى من العبادة ويقول أحد القديسين أنه رأى في رؤيا جماعة الشهداء في مجد يفوق مجد الملائكة الذين كانوا معهم، ورأى حول أعناق الذين ماتوا منهم ذبحاً بالسيف زهوراً حمراء كعقد موضع الذبح تضئ وتتلألأ أشدّ لمعاناً من كل نور آخر ظهر في الرؤيا! إن سرّ الصليب بالنسبة للمسيح هو سر مجده فالألم الساحق الذي عاناه الرب تحت وطأة التمزيق النفسي بسبب الظلم أثناء المحاكمة، وخيانة التلاميذ وتسليم يهوذا، وإحساسه أن حياته ثمنوها بثلاثين من الفضة ... هذه كلها كانت معبراً من عالم التفاهة المتناهية إلى مجد الآب. وعلى هذا المعبر عينه يلزم أن تمر أقدام الإنسان في كل زمان ومكان الصليب بآلامه الرهيبة لا يُمكن أن يساوى المجد الذي تحصل منه. الصليب لم يصادف الرب في طريق حياته، ولكنه ولد له "لهذه الساعة أنا أتيت" الإنسان يُولد للألم، والألم مولود للإنسان. ولكن في نفس الوقت، الصليب لم يكن إلزاماً حتمياً على الرب، كما نشعر من كلامه، وكما نتأكد من جهة قداسته ولاهوته، ولكن هو نفسه جعله إلزاماً حتمياً على نفسه الكأس التي أعطاني الآب ألا أشربها؟ لكي يشاركنا في حتمية الألم، فبدا الله في شخص المسيح ابنه أنه يتألم اضطراراً، حتى يجعل اضطرار الألم مساوياً لاختياره، حتى لا يُحرم أي إنسان في الوجود من رحمة الله، ويمتد الصليب ليشمل كل من تألم ظلماً إن الألم عشرة كبرى لعقل الإنسان، فالعقل لا يُجيز الألم كواسطة لأي خير، وما جهاد الإنسان في ميادين العلوم المختلفة ليس إلا محاولة لتجنب الألم والتعب لذلك فحتمية الألم لدى العقل أمر عسير وشاق جداً، بل ومحال قبولها، لأن الرضى بالألم هو بعينه إلغاء العقل وكل نشاطه فلو أدركنا أن الصليب هو أعظم مظاهر تحرك الله على الصعيد العياني المنظور الذي فيه تجلى الله للإنسان أكثر من تجليه على جبل تابور، حيث الصليب هو الألم في صورته التعسفية الظالمة؛ حينئذ علينا أن نحس أن الصليب هو الدابة التي ركبها الله القدير وانحدر عليها من مكان سكناه هناك من موطن احتجابه الأزلي، وجاء إلينا وصافحنا يداً بيد الصليب هو قوة ديناميكية الله الفائقة التي أحدرت الله إلينا واستعلنته واضحاً. الألم هو بصورته المادية جمود والحصار وتوقف، ولكن بجوهره الروحي تحرك وأي تحرك ! الإنسان يظل متوقفاً روحياً، وعاطلاً عن المسير، راجعاً مع المسيح إلى الله إلى أن يحمل صليبه الإنسان يستحيل أن يتحرك نحو الله عقلياً، فالعقل مهما بلغ بالتأمل، إنما يكتشف الله وحسب، ويكتشف نوره وحبه ويسعد ويرتد؛ ولكن التحرك الحقيقي کائن بالمسيح، فهو ابن الله الآتي إلينا على الصليب، وعلى الصليب نتبعه إلى الآب. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
17 أبريل 2025

الساعة الثالثة من يوم الخميس مت ١٧:٢٦ - ١٩

وفي أول أيام الفطير تقدَّمَ التَّلَامِيدُ إلى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ: «أَيْنَ تُرِيدُ أنْ نَعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الفِصْحَ؟» فقالَ: «اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، إلى فلان وَقُولُوا لَهُ : الْمُعَلِّمُ يَقُولُ: إِنَّ وَقتِي قريب. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تلاميذي». " فَفَعَلَ التَّلَامِيدُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ. جسد ودم وروح وحياة المسيح هنا يرفع الأكل من الجسد المقدس والشرب من الدم المقدس من حالة الاختيار الحر والإرادة الحرة، إلى التزام، يُحسَب التخلي عنه موتاً أبدياً وحرماناً أبدياً من المسيح، وبالتالي حرماناً أبدياً من الحياة الأبدية لأن أكل الجسد وشرب الدم، مع الإيمان الصادق بالمسيح، هو بمثابة كل ما عمله المسيح لخلاصنا بالفداء الذي أكمله على الصليب، والقيامة المجيدة. فالذي يأكل جسد المسيح ويشرب دمه الأقدسين، يكون صدق وشهد وآمن بكل ما عمله المسيح للخلاص المجاني. فأكل الجسد وشرب الدم مصادقة إيمانية خالصة وكاملة ولها كل ما عمله المسيح في نفسه لأجلنا إنها بمثابة إعلان ونطق إيماني باتخاذ المسيح رباً وإلهاً. لذلك تدخل الشركة المقدسة في جسد المسيح ودمه، جزءًا لا يتجزأ من إعلان الإيمان بالمسيح والشهادة له فهي عملية إيمانية ذات أثر روحي يلازم المتناول من الجسد والدم يهبه شركة واقعية في المسيح ليس في جميع الأسرار التي تصادفنا في حياة المسيح وأقواله ومعجزاته ما يعادل هذا السر الرهيب، سر الخلود الذي أبقى المسيح إعلانه حتى آخر ساعة من حياته ففي الليلة التي كان مزمعاً أن يسلّم فيها نفسه للموت من أجل حياة العالم، جلس مع تلاميذه ومهد للسر بإعلان حبه لخاصته الذين في العالم، حبا وصفه الإنجيل أنه حتى المنتهى والمسيح لم يكن مغالياً حينما قال: " أنا هو خبز الحياة . إذ في العشاء الفصحي الأخير، لما أخذ الخبز على يديه ونظر إلى فوق، بثه روح الحياة الأبدية التي فيه. فحمل الخبز ذات الحياة الأبدية التي في جسده فصار الخبز الطبيعي معادلاً لجسده الإلهي الحي، أي خبزاً للحياة. وتمادى المسيح في إجراء السر على السر، إذ كسر الخبز من واقع ما سيتم على الصليب. وهكذا بث الخبز الحي موته المحيي أي حمله قوة الفداء والغفران بآن واحد. وهكذا أصبح كل مَنْ يأكل من هذا الخبز يعبر -كما عَبَرَ المسيح - بالجسد من الموت إلى الحياة، أي صارت في هذا الخبز الحي قوة القيامة من الأموات وهكذا حمل المسيح الخبز كسر الجسد، كما حمل الكأس سفك الدم وغفران الخطايا: «وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلكم، لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا». وهنا بقوله " شكر" وهو رافع عينيه إلى فوق يكون قد استودع الدم روح الحياة الأبدية التي فيه وهكذا حمل المسيح الخبز والكأس، سر كسر الجسد وسفك الدم على الصليب، ومغفرة الخطايا. ومن مضمون مغفرة الخطايا تستعلن الحياة الأبدية. وإذ عبرهم الموت بأكلهم الجسد المكسور وشربهم الدم المسفوك للفدية، فنالوا مغفرة الخطايا وقاموا معه الحياة أبدية، يكون قد سلمهم سر الخلود" الذي سماه القديس إغناطيوس ترياق عدم الموت". وبقول أوضح، ولكن أكثر سرية، يكون قد سلمهم ذاته ووجوده: جسد ودم، وروح وحياة !! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
16 أبريل 2025

الساعة الثالثة من يوم الأربعاء لو ١:٢٢ - ٦

وَقَرُبَ عِيدُ القطير، الَّذِي يُقالُ لَهُ الفِصْحُ وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَة يَطْلُبُونَ كَيْفَ يَقْتُلُونَهُ، لأَنَّهُمْ خَافُوا الشَّعْبَ. فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الَّذِي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيَّ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الاثني عَشَرَ فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقَوَّادِ الْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ فَفَرِحُوا وَعَاهَدُوهُ أَنْ يُعْطُوهُ فِضَّة. فَوَاعَدَهُمْ. وَكَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةٌ لِيُسَلَّمَهُ إِلَيْهِمْ خِلُوا مِنْ جَمْعِ. الصليب شهوة المسيح العظمى لقد بلغت شهوة الفداء في قلب يسوعنا الحبيب ذروتها في هذا الأسبوع، فرأى الصليب وكأنه يوم عرسه. لقد كان حب أبيه يُحرِّك قلبه ولسانه ويقود قدميه إلى الجلجثة. لقد ذهب خلسة من وراء تلاميذه وعاين رابية الجلجثة دون أن يراه أحد، فسر بها جداً واستحسن المكان وكأنه الفردوس الجديد وكتب اسمه هناك على الجمجمة للتذكار: "أنا يسوع حضرت وعاينت المكان، إنه أشهى بقعة وجدتها على الأرض العتيقة الأزرع فيها حبي! لقد صعدت إلى المرتفع فرأيتُ مشورة قلب أبي من وراء الأرض والزمان فوجدتها تماماً حسب قلبي". إن ذبيحة نفسي صارت موضوع سروري أمامي من هنا سأعلن للعالم كله عن أعظم هدية حملتها من عند أبي لبني الإنسان: آلامي التي هي سر الصعود إلى المجد. نعم سأجعل صليبي في متناول كل إنسان، حتى إذا انفتحت عيناه على سر آلامي ورأى وعاين وصدق وشاركني في ذبيحة حبي ولو بألم يسير يدخل إلى مجدي عيد صليبي؛ عيد جسدي المكسور، ليعاين سرى وسرَّ أبي؛ سر الحب الذي يجمع المتفرقين إلى واحد لقد غرست أمجادي في آلامي وأخفيتها فيها جداً بكل حكمة وفطنة، حتى لا يستطيع أحد أن يفرق أبداً بينهما، فلا يأخذ الواحدة ويترك الأخرى! لقد صممت أن أهب آلامي لكل إنسان حتى لا يُحرم أحد قط من مجدي؛ كل مَنْ ذاق ألماً باسمي ! المجد الذي أعطيه هو صليبي عاري مع خزيى، مري مع خلى، جسدي مع دمى. وآلامي الظاهرة مخفى فيها مجدي الذي لا ينطق بها كل من يتشجع ويذوقه يتحول تحت لسانه إلى بذرة حية، بذرة تسبيح وتمجيد لا يهدأ ، لا يسكنها خوف ولا ألم ولا وجع ولا موت، تظل تعطي المجد الله أي مع السبح والكرامة والسجود لأبد الآبدين أنا يسوع، أعطيت آلامي لتكون لحن الخليقة الجديدة، سأضع هذه البذرة في كل لسان يتحدث باسمي ويشهد لآلامي يا يسوع، لقد أحببت صليبك جداً، وكلنا تحبّك، تحبك كثيراً يا يسوع من أجل صليبك. لقد أسرتنا جلجثتك جداً، وسنذهب جميعاً وسنمضى كلنا كل واحد باسمه تحت إمضائك. لقد عشقنا صليبك بشهوة وأحببنا موتك، فكلاهما قد صار لنا ينبوعاً من الدموع أحلى وأشهى لنا من كل أمجاد الدنيا. سوف نحيا في الجلجثة، سنصنع فيها خيمتنا، سننتظرك هناك حتى تأتي حسب الوعد لقد بكيت بلا وعى، بكيتُ حتَّى لم تعد في داخلي قوة على البكاء.أسكت لا تبك كثيراً، هكذا سمعت صوتاً من داخل أعماقي. هوذا المسيح قادم من وراء القبر الفارغ، هو سيمسح دموعك. ولكنني ظللت أبكى وجريت نحوه. هل رأيتي يا ربي وأنت على الصليب؟ لقد كنتُ أنظر آلامك فتسيح الدموع من عيني بلا كيل، كنت أستمد دموعي من محبتك وليس من يأسى؛ ليس من يأسي أبداً يا رب أنا أحب صليبك يا رب، لأني أرى كل آلامي منقوشة عليه ومعها اسمي - الذي تعرفه أنت يا رب، الذي قد غيرته لي حين وجدتني تائهاً في دروب العالم -محفوراً على الخشبة ومطبوعاً على يدك الدم رسمه رسماً على كفك كختم. فكيف إذا لا يُمكنني أن أحب صليبك يا رب؟ إنه صليبي ويحمل اسمي. آه يا ويحي من وجهك الشاحب الذي لمحته حين أنزلوك من على الخشبة! عندما سكنت خفاقات آلامك لما توقف قلبك. لقد خَفَقَ الحزن داخلي وسَرَتْ فِي خصة ربطتني بموتك إلى الأبد. فأقسمت بحبك ألا أحب أي وجه غير وجهك. وأحسست أن خفقات آلامي داخلي تشدني إليك وقد تحولت إلى خفقات الحياة آه! لقد تحول موتك إلى حياتي يا ربي أنا أحب موتك جداً، أحسه في داخلي حياة، وعبيقه أشهى من رائحة لبنان. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل