المتنيح القمص متى المسكين

Large image

نبذة عن حياته وجهاده
لقد كانت مسيرة حياة أبينا الطوباوي متى المسكين آية وقدوة للمؤمنين بالمسيح في طهارة حياته وصدق نيته في الحياة للمسيح، وفي احتماله المعاناة التي عاناها على مدى ما يقرب من 60 عاماً منذ دخوله الرهبنة عام 1948 وحتى انتقاله إلى حضن المسيح، في احتمال وشكر وشركة في آلام المسيح، على مثال الرسل والشهداء والقديسين.
وبالإضافة إلى ذلك ومن خلال هذه الحياة الزاخرة حمل مشعل العلم والتنوير الروحي واللاهوتي في الكنيسة بالمنهج الأرثوذكسي التقليدي: العُمق الروحي والخبرة الميستيكية Mystical الصافية, مع الالتزام بالأصالة والرجوع إلى الجذور الإنجيلية وتعاليم آباء الكنيسة, ولكن مع التقديم العصري المناسب لذهنية الحاضر, فأنار بهذا أجيالاً بأكملها بالتعليم الروحي والعقائدي المؤسس على كلمة الله وعلى التعليم الآبائي الأرثوذكسي, حيث فتح أمام القارئ العصري آفاق المسيحية وعمَّق في وجدانه المفاهيم والخبرات الحياتية المسيحية, كل هذا مسنوداً بسيرة حياته التي تشهد للتعليم الذي علَّم به في كل أرجاء الكنيسة في داخل مصر والخارج.
أبونا متى المسكين
سيرة مختصرة عن كتاب ”السيرة الذاتية لأبينا القمص متى المسكين“ الأب متى المسكين
سيرة حياة عطرة مفعمة بالآلام والضيقات والاختبارات الروحية،
ولكن مع وفرة في استعلان الحقائق الإلهية
+ وُلد يوم 20 سبتمبر سنة 1919 في أسرة كبيرة عدداً فقيرة معيشة.
+ كان وهو طفل صامتاً، ولكن يحاول أن يعرف كل شيء بنفسه. كان يتأمل منذ طفولته في الحياة ولكن في ما هو فوق الحوادث اليومية وهموم الأسرة، وهذا كان منذ أن كان ابن عشر سنوات.
قدوة الأم المنحنية الساجدة بالصلاة:
+ كانت والدته متدينة جداً. كانت تدخل غرفة خاصة فيمسك هو بملابسها بإصرار حتى تَسمح له بالدخول معها. وكانت تظل واقفة لعدة ساعات تصلي وتسجد، ولا تكفُّ عن السجود مئات المرات. وهو يحاول أن يقلِّدها فيسجد وهو يحس أن ذلك ضروري، فطالما أمه تسجد فيلزم أن يسجد معها، إلى أن يتعب فيقف صامتاً يتأملها، وكانت تمسك في يدها بمِسْبَحة وصليب. وكان يترقب دخولها الغرفة إلى أن تدخل فيطير قلبه من الفرح حينما تسمح له، ويبدأ يسجد معها.
+ وفي ليلة من الليالي رآها والده وهي تسجد وتصلي بينما رأى الصليب في يدها منيراً بصورة مُشعَّة جداً. فاشترى أجبية وبدأ هو الآخر يصلي صلوات الساعات. كان ذلك حوالي عام 1928 أو 1929. رؤيا السوَّاح:
+ في إحدى الليالي، وكان عمره 7 سنوات، وبينما آوى الجميع إلى فراشهم، وكانت أخته الكبرى تنام بجواره، وبعد منتصف الليل قام من فراشه، ورأى أمامه في الصالة الوسطى للبيت وعلى المائدة ثلاثة رجال بذقون طويلة ويرتدون ملابس حمراء وعباءة بشكل لم يَرَه أبداً. وكانوا يتحدثون معاً وأمامهم طعام (خبز وصحن جبن) وشمعة موقدة (وكانوا لا يستخدمون الشمع في البيت قط). ويقول أبونا متى المسكين في مذكراته: ”حاولت إيقاظ أختى فانتهرتني، وقالت إنها لا ترى أحداً. فلما ترجَّيتها كثيراً، قامت ورأتهم، ولكنها قالت: إنهم أصدقاء أبوك، ونامت. وظللت جالساً أتأمل فيهم فرحاً مذهولاً وهم ينظرون نحوي أكثر من ساعة حتى غلبني النعاس. وفي الفجر قمتُ وأيقظت أمي وإخوتي، فرأوا بقايا الخبز والجبن والشمع، فانذهلوا لأنه لا يوجد بالبيت شمع. ولأول مرة أسمع من أمي تقول عنهم إنهم "السواح المجاهدون"، وهم بركة عظيمة أن يزوروا البيت لأننا فقراء.“ + ”وقد زاد هذا الحادث من إحساسي برهبة الصلاة عندي منذ ذلك اليوم وحتى هذه الساعة، فلا أستطيع أن أُصلي إلا وأنا مُغمض العينين والدموع تسيل بلا كيل.“
الطفل المحروم من الكماليات، ولكن بالرضا والشكر :
+ لأن الأسرة كانت فقيرة، فلم يكن يتلقى مصروفاً أبداً، ولا يملك أي شيء مما يملكه جميع الأطفال من لِعَب أو ملابس خاصة أو أطعمة حلوة، ولكن، كما يقول هو: ”لم أكن أشعر بالحرمان أبداً، بل كنت راضياً به تمام الرضا، ولا اشتهيتُ هذه الأشياء، خصوصاً بعد أن دخلتُ المدرسة“. ففي فترات الفسحة كان يقف وحيداً، بينما يذهب الأطفال إلى الكانتين لشراء الحلويات والسندويتشات. وحينما يعزم عليه الأطفال مما معهم كان يرفض، ويعود بقلبه متعطِّفاً جداً على والده الفقير، مصمماً أن يعيش هذا الفقر اختيارياً.
+ وقد ارتبط في أعماقه هذا الشعور بالفقر الاختياري مع شعوره بدخوله مع أمِّه للصلاة في غرفتها الخاصة، فأحس بأن ما يناسب الصلاة جداً أن يعيش راضياً بالحرمان، وأن الشعور بالحرمان الاختياري مناسب ومقبول مثل الشعور بالفرح وهو يدخل مع أمه غرفة الصلاة.
الطالب الكفء والملتزم بجدية الدراسة والحياة:
+ في عام 1935 التحق بمدرسة شبين الكوم الثانوية، وكان يسافر كل يوم من منوف إلى شبين الكوم في القطار الممتلىء بالطلبة مثله. وكان ينقسم الطلبة في القطار إلى قسمين: قسم يمرح ويهرِّج، وقسم يلتف حوله داخل الديوان الذي يركب فيه إلى أن يمتلىء على آخره لسماع حديثه على هيئة سؤال وجواب. فقد وجد فيه الطلبة مُعيِناً لا ينضب من الرد على أسئلتهم الحائرة في كل الأمور. ”ولأني لا أحب الجدال ولا أتعالى في حديثي، لذلك لم يجد فيَّ المبارزون بالكلام أي مدخل. وظللت لمدة سنتين الصديق النصوح للطلبة وربما المثال الهادئ للسلوك والتفتُّح.“
+ وحينما كان يدرس في الجامعة، كانت المصاريف التي كان يحصل عليها من والده لكي يعيش في القاهرة ويدرس ويسكن ويشتري الكتب ويأكل طوال الشهر، كانت خمسة جنيهات من عام 1938 إلى عام 1943، فلم يكن يتوفر لديه آخر الشهر ولا مليم واحد.
القدوة المسيحية أمام غير المسيحيين:
+ كانت سمعته في الحيّ الذي يسكن فيه بالقاهرة في منيل الروضة، سمعة طيبة (كان يسكن منفرداً كطالب مغترب). ”وكانت صاحبة المنـزل تحكي للجيران عن سلوكي وأخلاقي، فكانوا يزدادون احتراماً لي.“ وذات يوم وبينما كان في المنـزل وباب الفرندة مغلقاً بالشيش فقط، سمع صاحبة المنـزل (مسلمة) وتسكن في الدور العلوي تقول للجيران في العمارة التي أمامهم عن سلوكه وكيف إنه لم يجرح شعور أحد من الجيران قط، وسبب اختلافه عن باقي الطلبة القاطنين في نفس المنـزل، فقالت لهم: ”لأنه مسيحي“!! يقول الأب متى المسكين في مذكراته: ”وقد أثَّرت فيَّ هذه الكلمة وأدركت قيمة الشهادة للمسيح بالسلوك. وكان هذا مصدر سعادة وتعويض لنفسي إذ لم أسمح لنفسي بأي سلوك يخرج عن اللياقة كل أيام حياتي بدافع شعوري أني لست محتاجاً لشيء، وأني لا أستطيع أن أُخالف ضميري الذي كان ملتصقاً بالله أشد الالتصاق في إخلاص وصدق.“
+ كان على علاقة ممتازة بزملائه الطلبة، لأنه كان يحترم الجميع ويحب الجميع ولا يرفض مجاملة المشاركة معهم في ضحكهم ومزاحهم في حدود اللياقة. ويقول أبونا متى المسكين: ”لقد كانوا يعملون لي حساباً في هذا، فكانوا يستحون جداً أن يتكلموا بالقباحة المكشوفة أمامي قط، وكنت صديقاً للمسلمين والمسيحيين على السواء.“
في معترك الحياة: النجاح في العمل ومحبة الجميع:
+ بعد تخرُّجه من كلية الصيدلة سنة 1944 تعيَّن بالتكليف العسكري في المستشفيات الحكومية، وبعد ذلك انخرط في العمل الحر، فقام بإدارة أجزخانة في الإسكندرية، ثم فتح أجزخانة في دمنهور. وكان العمل ناجحاً جداً وقد اشتهر بالأمانة والدقة، وأحب الناس وأحبوه، حتى أن سكان الأرياف حول دمنهور كانوا يتزاحمون في أيام السوق حول الأجزخانة لشراء أدويتهم، وكانوا لا يعرفون اسمه، بل يدعونه ”القبطي“. ويقول أحد زملائه القدامى إنه كان يعطف على الجميع دون فرق، بل المسلم قبل المسيحي. وكان إذا استشفَّ أن مريضه فقير لا يستطيع أن يحصل على الدواء، فكان يعطيه الدواء دون مقابل!
مبادئ حياة التأمل بدأت معه منذ الطفولة:
+ يقول الأب متى المسكين عن مشاعره هذه منذ طفولته: ”كانت هناك حركات روحية تجيش في أعماقي منذ طفولتي وأنا ابن أربع سنوات، كنتُ أحس بأني غريب عن إخوتي وأصدقائي، وكأني من عالم ولعالم آخر، حتى أن أسرتي لاحظت ذلك، وكانت تقدِّمني في اجتماع الصلاة وأنا طفل لكي أبدأ وأختم الصلاة. ولم أكن أتمنَّع قط. وكانوا حينما يعجنون الدقيق بالماء الساخن ويتركونه للتخمير يطلبون مني أن أغرس أصبعي في العجين وأرشم به علامة الصليب. وكم كانت العجنة ساخنة وأصبعي يُلْسع وأنا صامت!“
+ ويقول الأب متى المسكين عن نفس المشاعر وهو في فترة طفولته في المنصورة: ”كنت أختلس وقت الظهيرة والكل ينامون بعد الغذاء، وأخرج من المنـزل دون أن يشعر بي أحد وأذهب إلى شارع البحر، وهو قريب من المنـزل، وأسير على كوبري طلخا (يربط بين المنصورة وطلخا)، وأقف في منتصفه تماماً أتأمل النيل مدة طويلة وأسير على الشاطئ وأنا محمَّل بمشاعر غريبة تربط بين الصلاة والسجود وبين الطبيعة التي أمامي، البحر، الشاطئ، الأشجار الجميلة، الفلاحون عائدون من الأسواق.“
+ وحينما صار شاباً يقول: ”ازداد حنيني لله جداً، وازداد حبِّي له. فكنت بعد أن أنتهي من عملي بالأجزخانة، أذهب إلى منـزلي بدمنهور في الساعة 11 مساءً، وأبدأ أُصلِّي وأنا راكع حتى أفرغ من الأجبية، وأُبلِّل فراشي بدموعي. أين أجدك يا الله؟ لقد بحثت عنك في كل مكان فما وجدتُك: لا في العلم، ولا في السياسة، ولا في تعصُّبات رجال الدين، ولا في المال الذي بدأ يملأ خزانتي. فأين أجدك؟ سؤال ظل هو موضوع صلاتي ودموعي بالنهار أثناء العمل، وبالليل أثناء هذه الصلاة.“
+ ويقول الأب متى المسكين إنه بدأ يحس بسلطان يفوق إرادته ويعمل داخل كيانه. وطلب من الله بلجاجة أن يسهِّل خروجه من العالم لكي يعيش حُرّاً من بني الإنسان، أو بالحري ليعيش منتهى حريته في الله، أو على الإطلاق يعيش في الله.
اللحظة الحاسمة:
+ ظل الضغط الروحي في أعماقه يزداد، ووعيه للحياة الأبدية يتعمَّق، حتى حدثت المُفاضلة الفاصلة: بين أن يبقى في العالم يبيع ويشتري ويغتني ويعول أسرة؛ وبين أن ينطلق في رحاب الله، يحب، ويفرح، ويعرف، وينمو بلا قيود. وهكذا لم تستطع جميع المعوِّقات وكانت هائلة ومخيفة أن تمنعه من الانطلاق، فانطلق إلى الدير. وكان أول شاب متعلم جامعياً، يَلِجُ طريق الرهبنة في جيله، في شهر مايو 1948.
(يجب أن يلاحظ القارئ أن خريجي الجامعتين فؤاد الأول بالجيزة، وفاروق الأول بالإسكندرية، لم يكونوا يُعدَّون بعشرات الآلاف كما هو الآن؛ بل كل كلية كانت تُخرِّج كل عام عشرات فقط، ربما لا تتعدى المائة إن لم تنقص. وكان الخريجون من صفوة المجتمع أخلاقاً وعلماً ورِقيّاً حضارياً، ولم تكن مجانية التعليم قد طُبِّقت بعد، وكان وزير المعارف طه حسين في ذلك الوقت غير مُحبِّذ لها).
وهكذا ذهب إلى دير الأنبا صموئيل بصحراء القلمون، وقد اختاره لأنه أفقر وأبعد دير عن العمران.
الاختبار الرهباني: الصلاة ودراسة كلمة الله:
+ ”منذ أول يوم دخلتُ فيه الدير، دخلتُ الحياة مع الله بقوة وبساطة وعمق وهدوء. كنتُ أمضي الليل كله في الصلاة، لمدة ثلاث سنوات، لأني كنتُ إذا نمت أقوم في الحال، لأن النوم صار كحالة إنهاك تحتِّم عليَّ أن أقع وأستسلم للنوم عن انغلاب.“
+ ”أحببتُ الله حباً لا مثيل له، حبّاً سرياً بكل ما أملك، عن وعي وأصالة، ومقارنة بعمالقة الآباء في العهدين القديم والجديد. وهكذا كانت الإضافة العظمى لرصيد حياتي الروحية هي المعرفة بدقائق العهدين القديم والجديد، وفي تأملات عميقة واعية وصلاة عشتُ مع جميع شخصيات الكتاب، ودخلت في سر العلاقة التي تربطهم بالله، فكان هذا ينبوعاً أشرب منه وأرتوي وأمتلئ بالمعرفة والحق والنور كل يوم بلا شبع.“
وهكذا قضى في دير الأنبا صموئيل ثلاث سنين تقريباً ألَّف فيها كتابه الأول: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية.“
إنزاله إلى دير السريان للعلاج (مارس 1951):
+ وذلك إثر مرض أصاب عينيه وبمبادرة من المتنيح الأستاذ راغب مفتاح، وبعد ذلك توجَّه إلى دير السريان ليقضي فيه فترة قليلة حتى استرداد عافيته، فرسمه أسقف الدير قسّاً (19 مارس 1951) باسم ”متى المسكين“ على اسم القديس متى المسكين مؤسس دير بأسوان في أوائل القرن الثامن. واستأمنه نيافة أسقف الدير على تلمذة رهبان جدد كانوا قد أتوا لكي يترهبوا من تأثرهم بكتاب حياة الصلاة.
+ ثم استأذن من رئيس الدير أن يخرج ليحفر لنفسه مغارة تبعد عن الدير حوالي 40 دقيقة مشياً على الأقدام في الصحراء التي لا يحدُّها البصر. وفي هذه الفترة استقبله الأب المتوحد عبد المسيح الحبشي في مغارته لمدة أسبوعين لحين قيامه بحفر المغارة، حيث كان الراهب متى المسكين يخدم الأب المتوحد عبد المسيح الحبشي ويستلم منه حياة التوحُّد.
+ وفي هذه الوحدة المطلقة اختبر انطلاق الروح من كل قيود الجدران العالية والأمان المصطنع، حيث كانت الذئاب تزور مغارته في الليالي القمرية وتلعب أمام باب المغارة طوال الليل. كما نزل بالوادي ضبع كان يطوف حول المغارة، أما الثعابين فكانت تتعايش من فضلات أكله.
+ يقول الأب متى المسكين: ”كل هذا جعلني أحسُّ بالخليقة عن قرب وأمتدُّ في تأملاتي، لأني كنت أحبُّها وهذه الوحوش لم تؤذني قط“. ويستطرد في القول:
+ ”كنت أقضي الليل كله ساهراً متأملاً، وكل ومضة جديدة من المعرفة كانت تشعل روحي وتُلهب كل ملكاتي، فأقوم وأُصلِّي كثيراً، وأسجد، وأشكر بدموع، معترفاً بأني لستُ كفؤاً لأكثر من هذا.
وبالرغم من هذا، كنت أُدقق في صلواتي الطقسية وفروض السواعي بالليل والنهار بكتاب "الأجبية"، وحفظت مزاميره كلها عن ظهر قلب، وكانت لي مُعيناً عظيماً في عدم توقف التأمل أو برودة النفس.“
انتدابه وكيلاً بطريركياً في الإسكندرية (مارس 1954- مايو 1955) وخدمته الخالدة هناك:
+ في سنة 1954 (بعد 3 سنوات من الوحدة في المغارة)، دُعي للذهاب إلى الإسكندرية ليخدم كوكيل للبطريرك الأنبا يوساب الثاني، فرفض مرة وأخرى، وفي الثالثة أتاه الأسقف للمغارة، فلم يستطع الرفض لشعوره بالخجل ولإحساسه بأن الله معه. وفي الإسكندرية نظَّم الخدمة، وضبط المالية، ورتَّب طريقة إجراء الخدمات الطقسية دون إعثار المؤمنين بالتمادي في تحصيل الرسوم، ولكن أعاقه تكتُّل بعض الكهنة الذين تأذَّوا من التنظيم المالي للخدمات الطقسية، فبدأت الحرب ضده ثلاث مرات. فاستعفى وعاد إلى ديره في المرتين الأولى والثانية، وعاد تحت إلحاح الشعب والمجلس الملي وبموجب خطاب التأييد والتشجيع من البابا يوساب الذي قال عنه ضمن ما قال في خطابه: ”نهنئ ولدنا القمص متى بهذه المحبة التي تمكَّنت من قلوب الجميع. ... ونعلن لحضراتكم ولأبنائنا الشعب المبارك المحبوب ما نكنُّه لولدنا القمص متى من حُبٍّ وتقدير ورضاء لإخلاصه وصلاحه، وما كان من أثر خدماته لمدينة الإسكندرية التي يستحيل على غيره القيام بها.“ وفي الخطاب الثاني موجهاً إلى القمص متى المسكين: ”... إننا نعتمد على غيرتكم وإخلاصكم كما نعتمد على ما منحكم الله من حكمة أن تقوموا بعملكم مؤيَّدين بنعمة الله وتعضيدنا الكلِّي.“
+ أما في المرة الثالثة، فقد نجح ”أنصار التأخر والجهل“ (كما أسماهم المهتمون بالشئون الكنسية في ذلك الوقت) في إبعاد القمص متى المسكين، فصدر قرار بإعفائه. وانصرف إلى مغارته في دير السريان، حيث رفض كل المحاولات لإعادته ثانية، سواء من الشعب والكهنة والمجلس الملي، أو من الحكومة.
+ وبعد عودته تكاثر عدد الرهبان على يديه حتى بلغوا 12 راهباً.
إلى دير الأنبا صموئيل (20 يوليو 1956):
+ لم تكن الحركة المناوئة لـوجود الأب متى المسكين في الإسكندرية عارضة، بل كانت متصلة بالسياسة العامة للبطريركية في ذلك الوقت، حيث بدأ المطارنة يخشون من تولِّي الأب متى المسكين البطريركية بعد نياحة البابا يوساب، مما أدى إلى محاولات من أراخنة الكنيسة إقصاء البابا يوساب الثاني عن منصبه بسبب تغلُّب ”أنصار التأخر والجهل“ على سياسة الكنيسة. كما أن هذه السياسة انعكست أيضاً على وجود الأب متى المسكين في دير السريان فبدأ يحس بالمضايقة من رئيس الدير، وكان الذي توجَّس خيفة من كثرة الذين تتلمذوا له من الرهبان، والذين تأثروا من حياته وكتابه: ”حياة الصلاة الأرثوذكسية“، فطلب من رئيس دير السريان الحِلَّ أن يعود إلى ديره الأصلي، فغادر الدير متوجهاً إلى دير الأنبا صموئيل، ثم تبعه الرهبان الاثنا عشر إلى هناك، فبدأوا في تعمير الدير وبناء القلالي الجديدة (30 قلاية). وظلوا هناك حوالي 3 سنوات.
إنشاء بيت التكريس لخدمة الكرازة بحلوان (1958):
+ في عام 1958 أنشأ الأب متى المسكين بيتاً للمكرسين من الشباب المتبتل الذين يرغبون في الخدمة – دون الرهبنة – وكان مقره المؤقت في حدائق القبة، ثم انتقل في أوائل عام 1959 إلى حلوان.
وقد انضم كثيرون من الخدام للبيت، كما كان يزوره الخدام من كل جهة، وكان الأب متى المسكين، حينما يتواجد في أوقات قليلة في البيت (إذ كان يقضى معظم وقته طبعاً في الدير)، كان يردُّ على أسئلتهم الروحية. فبدأ يكتب مقالات وكتباً تفيدهم في حياتهم الروحية وفي خدمتهم التعليمية في مدارس الأحد. وهكذا بدأ نشر سلسلة من الكتب بعنوان: ”مقالات تصلح للشباب والخدام“، و”لأعرفه وقوة قيامته“، ”العنصرة“،”الكنيسة الخالدة“، ”مع المسيح في آلامه وموته وقيامته“... إلخ. وقد بدأت تظهر لنا في هذه الكتب نعمة الإلهام في التعليم الروحي واستعلان المعرفة اللاهوتية الأرثوذكسية من خلال أحداث حياة المسيح وتعليم الإنجيل وكتابات وتعاليم آباء الكنيسة.
إلى صحراء وادي الريان (11 أغسطس 1960):
+ وتوالت أحداث سريعة، توجه بعدها الأب متى المسكين من دير الأنبا صموئيل في 27 يناير 1960 مع الرهبان الاثني عشر إلى بيت التكريس بحلوان وأقاموا فيه إقامة مؤقتة لحين صدور توجيهات البابا كيرلس السادس لاختيار الدير الذي يناسبهم. ولكن فوجئوا بقرار طردهم من القاهرة. فتوجهوا إلى صحراء وادي الريان (في سياحة إجبارية، وهي وادٍ ليس به ساكن، عميق جداً داخل صحراء قاحلة، حفروا في صخورها مغائر يسكنون فيها، وصاروا يشربون من عيون ماء مالحة آذت صحتهم جداً. وعاشوا جميعهم حياة التوحد والصلاة. وكان الله يرسل لهم طعامهم كل شهرين في قوافل جمال على يد أحباء لهم في القاهرة، وذلك لمدة تسع سنوات كاملات، يقول عنها الأب متى المسكين كما يلي: + ”في حياة صعبة، لقد كانت أصعب وأشقَّ فترة عشتها في حياتي.“
+ أسقف دير السريان يُعلن في إعلان بجريدة الأهرام بأنهم مجرَّدون من أسمائهم الرهبانية، بدون إجراءات محاكمات كنسية قانونية.
+ تعرُّض الآباء للتيه والهلاك في صحراء موحشة؛
+ مسئولية مرض الآباء وإعالتهم في هذا المكان القفر؛
+ تعرُّضهم للمهرِّبين للمخدرات، حيث كان هذا الوادي لبُعده عن الأنظار طريقاً مأموناً لهؤلاء المهرِّبين، الذين حاولوا القضاء على الرهبان، ظناً منهم أنهم من البوليس يحاولون القبض عليهم.
تكليف من البابا كيرلس السادس بعد 6 سنوات في الريان إلى ”القمص متى المسكين“:
ويقطع هذا الانعزال خطاب ودي يصل إلى الأب متى المسكين من قداسة البابا كيرلس السادس. ففي أوائل فبراير 1966، وبعد 6 سنين من المجيء إلى وادي الريان، فوجئ الأب متى المسكين وهو في وادي الريان بخطاب يصله من البطريركية يحمل مظروفه من الخارج ومن الداخل عنوان باسم ”القمص متى المسكين“، ووضح من عنوان ومضمون الخطاب أن البابا غير معترف بما نشره أسقف دير السريان من تشهير بالأب متى المسكين وبالرهبان الذين معه في جريدة الأهرام عام 1960؛ إذ أن البابا كان يدعوه في هذا الخطاب أن يرسل 3 رهبان من عنده إلى دير الأنبا صموئيل، وقام الأب متى المسكين بإرسال الرهبان إلى هناك حسب أمر قداسة البابا.
المصالحة الكبرى عام 1969:
وبعد 3 سنوات من هذا الخطاب، وبعد 9 سنوات من سُكنى الأب متى المسكين والرهبان في وادي الريان، نجحت محاولات المصالحة مع الأب متى المسكين (التي لم تكفُّ طيلة السنوات التسع، لكنها نجحت هذه المرة)، حيث طلب البابا كيرلس السادس حضور الأب متى المسكين. وحينما حضر الأب متى المسكين مع وسيط المصالحة القمص صليب سوريال وفي حضور نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط، فاجأ البابا كيرلس السادس الأب متى المسكين بقوله: ”حاللني يا أبونا متى“! ولما تمنَّع أبونا متى سائلاً البابا أن يحاللـه هو، صمم البابا على طلب الحلِّ(*)، فقال له الأب متى المسكين: ”الله يحالك يا سيدنا ـ حاللني يا سيدنا“. ثم حضر الرهبان الذين معه يوم تذكار نياحة القديسة العذراء مريم، الجمعة 9 مايو 1969، وألحقهم بدير القديس أنبا مقار، وذلك في حضور وترحيب رئيس الدير نيافة أنبا ميخائيل مطران أسيوط، حيث سلَّم له البابا مسئولية بعث الحياة الرهبانية في الدير وتجديد وتوسيع مبانيه. وانتقل البابا كيرلس بعد ذلك بفترة قصيرة إلى الأخدار السماوية راضي النفس ومستريح الضمير بهذه المصالحة.
في دير القديس أنبا مقار (1969 – 2006):
+ فالنشاط الزراعي والإنتاج الحيواني، هو نوع من العمل يُعتبر أحد وسائل النمو الروحي. ومن هناك ظهر التقدم الفني في:
1 – استزراع الصحراء.
2 – التجارب الزراعية (بنجر العلف وبنجر السكر والتين المجفف).
3 – في مجال الإنتاج الحيواني (ما يمكن للقارئ أن يرجع إليه بالتفصيل في كتاب: لمحة سريعة عن دير القديس أنبا مقار، ص 73–85؛ وكتاب: الرهبنة القبطية في عصر القديس أنبا مقار، ص 501-525).
وبعد جهاد في الرهبنة دام 58 عاماً في تكريس كامل للحياة الرهبانية، مُشيحاً بوجهه عن كل ما يعطله عن نموها وامتدادها والكشف عن غناها وعظم بركتها للكنيسة، تنيح بسلام في فجر يوم الخميس الموافق الثامن من يونيو عام 2006، اليوم الأول من بؤونة عام 1722 للشهداء، تاركاً تراثه العريض الغني من سيرة الحياة الزاخرة، وعظاته وتعاليمه المسموعة والمقروءة، ما ستسعد به الأجيال الحاضرة والمستقبلة، لاستعادة مجد الله في الكنيسة والخلاص في نفوس المؤمنين.
فلتكن صلواته وشفاعته معنا ومع الكنيسة كلها.
ولتهنأ الأجيال كلها بالتراث الطويل العريض الذي تركه الأب متى المسكين للكنيسة, من سيرة حياة عطرة فاضلة, وكنـز من التعليم المسموع والمقروء, ما سيسعد به كل من أراد أن ينهل منه ويعطي الآخرين طلباً للحياة الأبدية, ولمجد اسم الله القدوس. آمين

المقالات (60)

08 يونيو 2025

نحن والروح القدس

اليوم يا أحبائي نحتفل بعيد عظيم في الكنيسة، إنه يوم انسكاب الروحالقدس على البشرية، يوم خالد لا تغرب شمسه لحظة. وهو ككل الأعياد والمواسم الكنسية ليس تمثيلية وليس تذكاراً، ولكن توقيع روحي على الزمن فالزمن يستجيب وينفعل ويتغير ويحيا، مثل العظام الميتة التي تحيا. فالروحالقدس محيي، وبمجرد ما يلتحم بالزمن يحوله إلى لا زمن وإلى خلود لذلك فحلول الروح القدس في هذا اليوم وهب للكنيسة هذا السر الفائق، سر الالتحام الذي فيه تلتحم الكنيسة بالأبدية، ويلتحم المنظور بغير المنظور، والزمني بالأبدي منذ اليوم تتنفس الكنيسة الروح القدس وتتنفس القداسة، لذلك نسميها كنيسة مقدسة، وقداستها دائمة طالما يسكن الروح فيها في الحقيقة لو أن الإنسان يحيا بالروح القدس؛ فستصير كل أعماله، حتى المادية منها، أعمالاً مقدسة. لقد غير حلول الروح القدس مضمون عمل الإنسان وعرقه. كان العمل في القديم صورة بالكربون للعنة الأولى: بعرق جبينك تأكل خبزك، فكان كل عمل يعمله الإنسان على الأرض هو صورة مصغرة أو مختومة بختم قديم جداً مكتوب عليه: "هذا عرق اللعنة". ولكن بحلول الروح القدس تغير الحال تماماً، ليس فقط على المستوى الروحي؛ ولكن أيضاً على مستوى العمل المادي اليومي.للأسف لقد غابت الكنيسة اليوم عن العالم، لقد كان من المفروض أنها تعمل تحلي للعالم، وللأرض، ليس فقط في تغيير الناس للإيمان؛ وإنما أيضاً في تغيير مفهومه للعمل والجهد وعرق الجبين تغيير من كونه امتداداً للعنة الأولى إلى مصدر للبركات، قال عنها النبي في القديم: «ويكتب على القدور وأجراس الخيل قدس للرب». فأواني الطبيخ صارت مقدسة، والخيول التي كانت مكروهة عند بني إسرائيل في القديم صار مكتوب عليها أنها مخصصة للرب. بمعنى أن الحياة كلها صارت متجلية، كيف؟ بالروح القدس أولاد الله لم يأخذوا للآن عافيتهم بالروح القدس، فالمطلوب منا ليس فقط أن نعمل العمل الروحي؛ ولكن أن تطور العالم كله، نبث الروح القدس في كل مكان، لتغير وجه الأرض في الحقيقة، نحن هنا في الدير، نحاول أن تحوّل العمل المادي لهذا المضمون، ونحن ملتزمون أن نجعل حياة العمل وحياة الصلاة ملتحمين، كفعل زمني وفعل أبدي مع بعضهما، لدرجة أن الراهب الذي لا يتقن الصلاة في أثناء العمل، يجب أن يُمنع من العمل. فلابد للراهب أن يصلي باستمرار ويرفع قلبه باستمرار أثناء عمله. أما إذا أخفق في هذا فيجب أن يعتكف في قلايته إلى أن يُجدد قواه الروحية، لكي عندما يعود للعمل مرة أخرى، يعمل بإحساس الوجود في حضرة الله، ويعمل كل شيء بدافع الحب الإلهي، الذي يدفعه للبذل والخدمة والعطاء، بل للموت لأجل الآخرين.الكنيسة اليوم محتاجة إليك، محتاجة إلى صلاتك. إن أنت لم تصل الله منك خسرت أنت، وخسرت الكنيسة. عليك أن تحس بما يريده ليصنعه من أجل الآخرين بواسطتك. فإذا أنت تكاسلت وتهاونت تكون النتيجة أن عمل الله يتعطل، وتحمل أنت الحرم. الله يريدك أن تصلي لكي يعمل بالروح القدس في قلوب الآخرين لأجل أمور يحتاجونها، وهو ليس له غيرنا نحن الرهبان، فإذا أطعنا كسبت الكنيسة وكسبنا من ورائها، ونلنا معونة الروح القدس وفرحناه؛ وإذا تقاعسنا تظل الكنيسة تعاني وأنت تعاني معها وتحس في النهاية إنك أضعت عليها الفرصة، وأنت في النهاية المسئول ! اسمع الآية: «صلوا بعضكم لأجل بعض واطلبوا بعضكم لأجل بعض لكي تشفوا». الروح القدس ينبه اليوم قلوبنا، يُكلمنا في الإنجيل، يُسمعنا صوته بكل طريقه، يقول لنا صلوا من أجل الآخرين، اطلبوا من أجل شفائهم، ليس هو شفاء جسدي، ولكن من مرض اسمه الانصداد عن الحياة الأبدية للأسف أنت تقول: "أنا قد استغنيت وليست لي حاجة لشيء"، ولكن الروح يقول لك : " أنت شقي وفقير وعريان تعال خذ مني الروح القدس للصلاة". اعلم أن الرب يريد أن يعطيك، ولكن عليك أنت أن تطلب. الرب يديه مملوءة عطايا ومواهب ولكنه لن يعطيها إن لم تخطفها منه، يريدك أن تغتصبها من يده. وأعظم هدية تأخذها من الروح القدس هي الصلاة. الروح القدس هو كملكوت الله يُغصب والغاصبون يختطفونه. فإن هو نبه قلبك لفكرة معينة فلا تتوانى وستجد منه معونة، وسيعطيك القوة على التنفيذ، وستفعل أموراً لأول مرة تصنعها في حياتك وسيعطيك الروح القدس فهماً للإنجيل، آية وراء آية، وأصحاح وراء أصحاح، بعد أن كنت من قبل لا تفهم شيئاً! كما إنك ستجد آيـــات تجدها موجهة لك، فيها كل حياتك، وكأن الرب يخاطبك من خلالها مباشرة. وهناك أمور يشدد عليها الروح، يحثك عليها، يكررها عليك مراراً يريد أن يقول لك شيئاً، فلابد أن تتجاوب معه، إياك أن تهرب وتترك الصلاة، إياك أن تمل، وتقول: زهقت ومليت. بل قف صل أيضاً. كيف أسترضي وجه الروح القدس؟ الروح القدس هو إشبين النفس لأنك ولدت من حضنه في المعمودية هو الذي يُعرفك بالمجد الذي نلته بدخولك في الزيجة السرية بينك وبين الرب ولكن كيف أمسك في خناق الروح القدس؟ الأمر في منتهى البساطة: حَصْرُ القلب والعقل فيه. هذا هو العمل الوحيد الذي عليك أن تعمله، أن تحصر عقلك في الروح القدس، وتحصر قلبك في الروح القدس، وتعيش معه اليوم كله، وتناجيه وتوقف حياتك وساعاتك وأوقاتك في الطلبة المستمرة لكي يحقق لك المسيح وعده بأن يُعرفك بكل الحق، فهو القادر لأن يعلمكم كل شيء». فإذا توسلت إليه بدموع وأنت في محنة، مثلاً من أجل خطية متعبة فيك من جهة عداوة، بغضة أفكار غير طاهرة ... وتقول له : أرني قوتك، كيف يكون المسيح في وأنا أعيش كهائم أكل الخرنوب ؟! } عندئذ ستجده قريباً منك ويُعرفك قوتك ونُصرتك في المسيح، وعندئذ تجد الفكر قد ذهب تماماً، والقوة الشيطانية المسيطرة على العقل ذابت ذوباناً، وإذا بالشخص الذي كنت أتألم بسببه قد صار كملاك أمامي وإذا ضغط عليك فكر نحس مثلاً، بالليل أو بالنهار، قم منتفضاً ساجداً على الأرض، وناد الرب، هنا سيتحول الفكر إلى فكر مقدس وستحس بالرب يسوع كقوة فاعلة فيك للمجد. الروح القدس يأخذ مما للمسيح ويعطينا: عمل الروح القدس أنه يُعرفنا بكل أعمال المسيح وبكل صفاته وعطاياه أطلب أي شيء يعجبك، أطلب من أجل شيء يتعبك، تذكر الروح القدس واطلب منه، تجده يوجهك ويُعرفك بالذي عمله المسيح لك في هذا الأمر، فتأخذ قوة، وتأخذ نُصرة، وتأخذ فرحاً وتعزية المسيح هو نصرتك، هو سلامك هو قوتك هو عزاؤك وفرحك، هو ماؤك الحي، هو حياتك الأبدية، هو وداعتك واتضاعك، هو مسكنتك... هو كل شيء. فإذا انتابك روح كبرياء وعجرفة، يأتيك المسيح كوديع ومتضع ويذيبك ذوباناً، ولكن لابد من توسط الروح القدس. إنه يُقرب لك المسيح، فتراه على قدر ما يمكنك إدراكه قليلاً قليلاً.فالروح القدس هو الواسطة الذي يقدر أن يصل ما بين المسيح وبينك يقدر أن يحضر لك المسيح المتضع فتتضع والمسيح النور فتنير، والمسيحالحلو فتصير حلواً، والمسيح الطاهر فتصير طاهراً، ولا يصعب عليك شيء إطلاقاً. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
25 مايو 2025

يسوع هو الطريق للحياة الحقيقية

الحياة المقصودة هنا هي الحياة الأبدية، فالحياة الجسدية لا يعترف بها كحياة لأنها مغلوبة للموت، وهي لذلك لا تُحسب عند الله أكثر من أنها حياة في الموت، أو كتصريح المسيح في قصة الابن الضال: «لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فوجد»، وكتصريح بولس الرسول عن المرأة المتنعمة «فقد ماتت وهي حية» أما الحياة الحقيقية فهي حياة في الله أو حياة كل من يعيش الله حسب الروح، فهو يستمد حياته من الله نحن لم نكن نعرف شيئاً عن الحياة الأبدية ولا كنا نظن أن الله سيهبها لنا،ولكن التي فجرت الحياة الأبدية في عالم الإنسان هي القيامة التي ظفر بها المسيح بغلبته على الموت كما عبر عنها ق يوحنا «فإن الحياة أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأظهرت لنا» وحينما يقول المسيح «أنا هو القيامة والحياة» فهو كأنما يقول: أنا مخلصكم من الموت والفساد، أنا هو حياتكم ومحدكم، أنا الواهب لكم حب الله وفرح الرجاء وسر الخلود والقديس بولس الرسول يرى أن الحياة الأبدية التي دعينا إليها هي هدف جهادنا وسعينا والمطلوب من الإنسان أن يمسك بها: «جاهد الجهاد الحسن وأمسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت أيضاً» (١ تي ٦ : ١٢). فالحياة الأبدية هدف حي واقعي نمسك به هنا وهناك. هذه الحياة هي الغاية التي من أجلها جاء المسيح: "جئت لتكون لهم حياة" وهي النهاية التي من أجلها يعيش كل إنسان ويؤمن: «وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه». أمام قبر لعازر وعندما كان يتخاطب مع مرثا كشف المسيح عن إمكانياته بخصوص إقامة الميت وإعطائه الحياة، قال: «أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد». فالذي يؤمن بالمسيح يدخل هذه الحياة الأبدية الآن مباشرة بدون موت ولا دفن، بحيث لا تتوقف هذه الحياة الأبدية بعد ذلك إطلاقاً لا بموت ولا بأي شيء آخر الذي يؤمن بالمسيح لا يعود ينتظر القيامة في اليوم الأخير حتى يرى الحياة الأبدية، لأن المسيح ظهر أنه هو القيامة نفسها الآن وفي هذه الساعة، فنحن الآن لا يعطلنا موت عن قبول الحياة الأبدية، لأن المسيح الذي نؤمن به هو حياتنا كلنا. كذلك لا يعطلنا الآن انتظار القيامة العتيدة لأن المسيح الآن هو قيامتنا كلنا". يا لهذا العزاء العظيم !! المسيح يرفعنا منذ الآن إلى حالة حياة حقيقية لا يؤثر فيها الموت الجسدي ولا يوقفها قبر ولا يقلل من قوتها اضمحلال الجسد وفناؤه، لأنها قيامة حقيقية بالروح والحق، قيامة إلهية في الله، كل من يدخلها يبقى حياً إلى الأبد، حياً في المسيح، لا يفقد من كيانه إلا ما فسد منه. لذلك يتحتم أن يفقد الجسد فساده حتى يسترده جديداً في عدم فساد.المسيح لا يلغي الدينونة أو القيامة في اليوم الأخير، ولا ينفي أن الحياة الأبدية ستستعلن جهاراً في القيامة بظهوره؛ ولكنه يزيد على ذلك كله أن القيامة والعتق من الدينونة الآتية والحياة الأبدية كلها دخلت إلى العالم بدخوله واستعلنت وظهرت لكل من آمن ويؤمن بموته وقيامته حياً من الأموات: الحق الحق أقول لكم إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة»إذن لا خوف من الموت بعد الآن، ولا تشاؤم من عجز الإنسان، ولا رعبة من دينونة قادمة، فقد طعمنا في جسد ابن الله فسرت فينا الحياة الأبدية وعبرنا خطورة الموت واللعنة والفساد، وتجاوزنا حكم الدينونة بالضرورة، لأن الذي يدين أصبح هو نفسه محامينا بل مُبرِّئنا، بل قد صرنا متحدين بقاضينا! كل من يتحد بالمسيح الآن فإنه يوهب الحياة الأبدية في الحال بحيث أن القيامة في اليوم الأخير تأتي مُضافة أو مترتبة على شرط حصولنا على الحياة الأبدية منذ الآن. هذه الحياة الأبدية التي تمنح لنا لا يمكن الحصول عليها إلا بالمسيح ولا توجد وسيلة لدخولها فينا ودخولنا فيها إلا بالاتحاد بجسد المسيح ودمه: من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية، وأنا أقيمه في اليوم الأخير»، «فقال لهم يسوع: الحق أقول لكم إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم» الحياة الأبدية ليست مجرد وعد ننتظره بعين الإيمان، بل هي روح حي، إنها روحه أسكنه داخل قلوبنا يعمل لحسابه. وقد ينشط الروححتى يغطي كل منافذ وحركات الجسد، فلا يشتاق الجسد إلا إليه فالحياة الأبدية عند الذين عرفوها وعاشوها حياة تصغر دونها الحياة الحاضرة، يرتقي فيها المجدون من مجد إلى مجد، وتتغير أشكالهم الروحية عن صدق وتحقيق لكي تُعد لتكون على صورة خالقها بكل الحق: أيها الأحباء، الآن نحن أولاد الله، ولم يُظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو فحالنا الآن كحال جماعة أو فرقة تمثيل تتدرب باهتمام بالغ على الأدوار التي أعطي لكل واحد أن يمثلها، فنجد الواحد فيها يظل ليل نهار يحفظ ويسمع دوره، ويقف أمام المرآة ويلقي دوره فلا يعجبه الأمر، فيعود ويحسن من أدائه وكلماته وحركاته. حقاً يا إخوة، ستباغتنا لحظة سيرفع فيها الستار؛ فإذ نحن فوق، نأخذ مواقعنا عن حقيقة وليس عن تمثيل. هنا نلبس الأقنعة، رضينا أم لم نرض. فيا نعيم مَنْ لَبِسَ قناع الضعف والفقر والمسكنة؛ وأتقن دوره بصدق القلب حبا في الذي افتقر وهو غني، ولبس الضعف وهو رب القوة، وتمسكن وهو ابن الله لأن هناك سترفع الأقنعة وتوهب أكاليل المجد. انظروا، فالحياة الأبدية فينا وتبدأ من هنا بكل معطياتها ولكن تحت أقنعة، فلا يرى منها إلا شقاء هذا الزمان. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
18 مايو 2025

سيروا في النور لئلا يدرككم الظلام

حينما يوصف الله بالنور؛ فلا يظن أحد أنه نور مرئي بالنظر أو الفكر، بل هو طبيعة الله غير المدركة بالعقل، ولكنه مدرك بالروح، فالله مُدرك كامل يُدرك، ولكن لا يُدرك كماله. والمسيح بصفته شعاع أو بــــاء مــــد الله؛ فهو النور الذي جاء إلى العالم ليستعلن طبيعة الله غير المدركة والمسيح حينما يقول: "أنا هو نور العالم " فهو يقصد أن يقول إنه جاء إلى العالم ليستعلن طبيعة الله كآب وابن فطبيعة الله كانت سراً مختوماً لم يُعرف به أحد قط سابقاً المسيح هو بالحقيقة نور العالم، لأنه سلم للعالم سر استعلان بنوته الله، وسر حب الله الآب للعالم، هذا الحب الذي كلفه ذبح ابنه على الصليب، كذلك سلم العالم سر الأبوة والبنوة في الله، وهو السر الذي انتهى بالإنسان إلى قبول الحياة الأبدية وإلى التبني أي الدخول في بنوة الله مع المسيح والمسيح عندما قال: سيروا في النور ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام كان يقصد أن نسير في جدة الحياة أو الحياة الجديدة في المسيح، أي القيامة، أي الخليقة الأخرى التي من فوق، لئلا يدركنا الظلام، أي لئلا يطغى علينا مرة أخرى ظلام الإنسان العتيق والحياة القديمة المستعبدة لظلام الخطية وسلطان الظلمة.هناك مقارنة ومقابلة مستمرة في الكتاب المقدس ما بين النور والظلام النوم واليقظة: «قم أيها النائم واستيقظ من بين الأموات فيضئ لك المسيح»، أي أن هناك ربط بين الموت والظلام. فكما أن الحياة تنبعث من النور؛ كذلك الموت من الظلمة. لذلك يقول ق. يوحنا في رسالته: «الله نور وليس فيه ظلمة البتة»، ومن هنا يستخرج لنا منهجاً عملياً كعلاقة حتمية مع النور، اسمعه يقول: إن قلنا أن لنا شركة معه (أي النور وسلكنا في الظلمة (أي الخطية) نكذب ولسنا نعمل الحق» أسألكم كم مرة جلست مع نفسك تفحص هذا الأمر؟ النوم كظلمة، والخطية كظلمة، والمسيح كنور ؟! أول صفة قريبة للنور هي الحياة، نور الله حياة. فما أن تتذوق الإحساس بالحياة الأبدية يبتدئ النور يأخذ كيانه داخلك، لذلك فإن أول صفة نفهم بها النور هي الحياة الأبدية المسيح جاء لكي يُظهر لنا الحياة الأبدية. العالم لم يكن متصلاً بالحياة الأبدية، فجاء المسيح إلى العالم وعمل طريقاً للحياة الأبدية: «أنا هو الطريق، أنا هو النور». فعندما أمسك بوصية المسيح أجد نفسي سائراً في طريق الحياة الأبدية. هذا هو مفهوم النور. وعندما تنجح في التنفيذ يكون هذا هو المسير المسير في النور هو في الواقع عمل انتقال من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة، وهذا لا يُمكن أن يكون إلا بالمسيح لأنه اتصل بالموت وهو الحياة، لذلك عندما نتصل به ننتقل من الموت إلى الحياة. النور هو كلمة المسيح والروح القدس في الإنجيل، عندما أمسك بالمسيح طول النهار بكل قوتي أجد ذاتي قريباً من الحق يوجد مفهومان للنور: مفهوم للنور بالنسبة للعقل، ومفهوم للنور بالنسبة للمسير. المسيح تجنب النور العقلي، قال: «سيروا في النور»، ولم يقل: افهموا النور" مفهوم النور العقلي لذيذ، وأما الآخر للمسير فهو صعب المسيح قال:«احمل صليبك واتبعني»، فقرأها واحد وقال إن هذه الآية عميقة وفسرها في ثلاث مجلدات، وآخر أخذها وسكت ثُمَّ وضع الصليب على كتفه وسار! تفسير النور العقلي مضلّل، أما التفسير العملي ففي كل خطوة يخطوها الإنسان يظهر له النور أكثر. كل خطوة تخطوها في الوصية تتحول أنت بجملتك إلى نور !" سيروا في النور لتصيروا أبناء النور" السير في النور الإلهي هو شركة الطبيعة الإلهية، السير في الوصية هو شركة، تصبح شريكاً مع الذي قال الوصية، كل جزء في الآية يُحولك من الصورة الآدمية إلى الصورة الإلهية. لو أنت فهمت الإنجيل كله ولم تنفذ الوصية بدقة لن ترى النور. ربما تكتب مجلدات عن النور ولكن لن ترى النور! إنسان ساذج أُمّي ينفذ الوصية بالحرف يصير ابناً للنور! هنا المشقة منتهى المشقة والسهولة منتهى السهولة هناك أجيال تاهت وماتت و تلاشت ولم تأخذ نصيبها في الحياة الأبدية. ملكوت السموات انفتح للسذج والأميين بصورة سهلة جداً. تقول لي: أنا لست أفهم أقول لك: نفذ. إذا حسبت الخطورة في التنفيذ فأنت تدخل في المفهوم الذهني والعقلي، وبذلك تكون رفعت الموضوع من التنفيذ بالإيمان إلى التنفيذ بالمعرفة، فلن ترى الملكوت أحياناً تريد أن تفهم المسيح فيبعد عنك، أما أن تأخذه، فستجده في قلبك مباركة هي الخطوة الأولى في كل مسير نحو يسوع المسيح. كل خطوة عملية تخطوها في حياتنا متكلين على الوصية متمسكين بها هي المسير في النور كل خطوة تخطوها تُحدث فينا تحولاً داخلياً فنصير أبناء للنور والوصية ما أسهل الطريق المؤدى إلى الحياة الأبدية والمسيح حين يقول: «النور معكم زماناً قليلاً بعد فسيروا في النور» كان آنذاك محصوراً في زمان قليل بالفعل، حتى إنه بعد أن قال ذلك، أكمل القديس يوحنا كلامه موضحاً مدى السرية فيه قائلاً: « تكلم يسوع بهذا ثم مضى واختفى عنهم». ولكن لا يزال المسيح حتى اليوم يعرض نفسه لكل من يفتح قلبه. ولكن حذار ! فالعرض لن يدوم. فإذا توانى الإنسان في الاستجابة، ثم عاد يبحث عن الصوت فربما لن يجده. فوجود المسيح كنور العالم، أو كنور الإنسان رهن باستجابة الإنسان. وكأن كل إنسان في العالم مسئول عن وجود المسيح ودوامه؛ فإما أن نقبل النور، فنصير أبناء له، أو لا نقبله فيتم قول الإنجيل: فمضى واختفى عنهم». وبهذا تتحدد الدعوة لنكون إما أصحاب النور، وإما أعداء وفي الظلمة نعيش. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 مايو 2025

يسوع هو ماء الحياة

"قال لها يسوع: أعطني لأشرب" القول ينضح بالمفارقة الصارخة. ينبوع ماء الحياة يطلب أن يشرب من ماء معطش ومن يد امرأة جف منها ماء الحياء! ولكن دائماً أبداً تقـــف مفارقات الله مع الإنسان لحساب الإنسان فالرب دائماً يحتاج إلينا ليعطينا أجاب يسوع وقال لها " لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب، لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً" المسيح هنا يفتح أمامها الباب لكي تنكشف بصيرتها وتستعلن الشخص الجالس أمامها، ويوحي إليها أن تطلب منه عطية، وهذا هو مفتاح الصلة الحقيقية التي بها تنشأ العلاقة القوية بين الله والإنسان. وفعلاً نجح المسيح في هذا الإيحاء العجيب، وفعلاً طلبت المرأة، أما إن كان هذا الطلب غير صحيح؛ فقد عدله لها. كذلك فإن المسيح يُنبهها أنها محتاجة أن تعلم من هو ولا تعثر في منظره المتعب المجهد والعطشان! وكأنه يقول لها: التفتي إلي، لأني افتقرت وأنا غني، ولكني افتقرت لأغنيكم، فلا تتعثري في منظر بشريتي هكذا، بل ارفعي بصرك لتري حقيقتي. وقد تم كل هذا بالحرف الواحد، وفي أقل ما يمكن من الزمن وفي الحقيقة، إن المسيح هنا بقوله: «لو كنت تعلمين عطية الله» إنما يقدم نفسه للبشرية الخاطئة كما قصد أبوه الصالح تماماً: "هكذا أحب الله العالم حتى أعطى ابنه الوحيد...". ثم يعود ويربط هذه العطية، وهي نفسه، بالماء ثم الحياة،ولكن في صورة الماء الحي، أي الجاري،ومن هنا التبس الأمر على السامرية وهذا هو أسلوب ق يوحنا في استخدام اللفظ الذي يرمي إلى معنيين: الأول عادي ومادي؛ والثاني روحي وإلهي! والماء الحي في عُرف العهد الجديد هو مجرد ماء جار من نهر أو خلافه، ولكن في العهد الجديد فهو الماء المحيى، كعطية الله للإنسان على مستوى الشرب الذي يُحيي الجسد بالأساس، وبدونه يموت الإنسان. فالماء الحي عند المسيح هو : الحياة الأبدية نفسه. ولكن منظوره ومفهومه على أساس الحياة الجسدية التي يستمدها الجسد من الماء. أما الماء الطبيعي، إذا نال قوة روحية بالصلاة؛ فإنه يُعتبر ماءً للتقديس، وهو قادر أن يعطي الحياة الأبدية بالمعمودية بسبب قوة الحياة التي حلت بالصلاة ونلاحظ هنا أن المسيح يستخدم الماء موضوع الحوار من واقع حال الإنسان فيما يخص جسده وفيما يخص روحه؛ فيما يخص حياته على الأرض، وفيما يخص حياته الأبدية فالجسد يعطش ويعطش ويعود إلى الماء في كل مرة، فهو لا يرتوي أبداً أبداً؛ ولكن الروح تعطش، فإذا ارتوت فلن تعطش أبداً لأنها ترتوي من ماء الحياة الأبدية؛ أو الماء الحي، أو الماء الحقيقي، الذي هو الحياة الأبدية نفسها: «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» المسيح يضع إصبعه إلى نفسه ويشير إلى ذاته عندما يقول: الماء الذي أعطيه، فهو عطية الاستعلان التي إذا سكبها على قلب الإنسان ووعيه فإنه يتعرف على حقيقة المسيح فيدخل مجال الحق الإلهي وينتمي بروحه إلى السموات؛ ومن كل ما هو سام يشبع ويمتلئ ويرتوي، فلا تعود الأشياء التي في الدنيا موضع عطش أو تلهف أو متعة روح المسيح يضرب على الوتر الحساس ليرن صوته في أعماق النفس المتعبة التي نهبتها الشهوات والملذات والجري وراء سراب الغرور والمتعة، التي كلما شربت منها النفس ازدادت عطشاً إليها دون أن يدري الإنسان أنها تمتص رحيق حياته ونضارته وإرادته وكرامته، وأخيراً تتركه صريعاً للندم واليأس وخيبة الأمل. «لن يعطش أبداً». إنها مقولة تتجلى في حياة كل من يُقبل ويشرب كل يوم، ولكنها سوف تبلغ أوج تجليها في المجد الأعلى: «لا يجوعون بعد ولا يعطشون ولا يضرهم حر ولا شمس، لأن الذي يرحمهم يهديهم، وإلى ينابيع المياه يوردهم» كل من أدمن على شرب المياه المعطشة هنا ؛ يتمنى في يوم من الأيام لو لم يولد حينما يبلغ به العمر أرذله؛ أما الذي ذاق الحياة في المسيح يسوع، فهو كل يوم يولد جديداً كل من ضيع العمر في ملذات هذا الدهر، يتمنى لو يموت؛ أما الذي استعلن المسيح، واستنشق الحياة الأبدية فيه، فهو يحيا كل يوم حياة جديدة ولن يموت أبداً. "الماء الذي أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية". ماء العالم كل الذي يشرب منه يعود ويعطش أيضاً، لأنه ماء نابع من الأرض. ولكن جاء المسيح ومعه ماء حي، أي فيه روح الله. كل من يشرب منه يصير هو نفسه ينبوع ماء حي، يخرج من بطنه، أي من قلبه، أنهار من هذا الماء الحي، أي الذي فيه روح الله ومن عجائب هذا الماء الحي الذي جاء به المسيح من فوق، أن كل من شرب منه لا يموت حتى ولو داهمه موت الجسد، فهو يقوم من الموت إلى الحياة الأبدية والمسيح هنا يقصد بالماء الحي أنه تعاليمه التي فيها سر الحياة فكلام المسيح هو الحق وهو الحياة، ويؤدي بمن يستمع إليه إلى حياة أبدية، ولن يعبر على الدينونة، بل ينتقل من الموت إلى الحياة مباشرة وكلام المسيح حلو ويروي النفس العطشانة إلى الحق والله. لذلك كان تشبيه المسيح لكلامه أنه الماء الحي حقيقة سرية للغاية، لا تروي إلا لمن يعطش ويجوع إليها. فكلمة المسيح غذاء للنفس وارتواء أيضاً والعجيب حقاً أن كل من ارتوى بكلام المسيح، يصير هو نفسه ينبوع ماء حي، لا إلى ساعة أو يوم، بل إلى الأبد. كل من يسمعه كمن سمع المسيح نفسه، فكما ارتوى يروي أيضاً. وهكذا يعيش المسيح في كل مـــن آمن به وأحبه. كما يقول بولس الرسول: فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في». وهكذا يصبح من يؤمن حقاً بالمسيح ينبوع ماء حي. وكأنما يعيش المسيحفي كل الناس، كل من آمن وأحب فكما أن الماء الطبيعي يُحيي الإنسان كل أيام حياته، هكذا كلمـة المسيح تحيي كل من يسمعها، وتدخل إلى قلبه وتصيره ينبوع ماء حي وكما أن الماء للعطشان حلو ولذيذ يظل يشرب منه إلى أن يمتلئ، هكذا كلام المسيح لمن يستمع إليه حلو ولذيذ، يظل يشرب منه ليعود ويشرب أيضاً حتى آخر حياته. وكما أن الماء الطبيعي مركب من أوكسجين وهيدروجين، كذلك كلام المسيح مركب من حق ونور، الحق يكشف والنور يقود. فالماء الطبيعي يشربه الإنسان وهو في مكانه، أما الماء الحي فيشربه الإنسان ويرتقي إلى السماء يا لسعد البشرية بمجيء ابن الله، حاملاً سرّ الماء الحي ليحيي به الإنسان إلى الحياة الأبدية المرأة السامرية أرادت أن تشرب من ماء الحياة الأبدية، فاستحال عليها ذلك لأن ليس لها زوج. فسر الحياة الأبدية لا يقتنيه إلا الأبرار المولودين من فوق. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
04 مايو 2025

أنا هو خبز الحياة

فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة، من يُقبل إلى فلا يجوع، ومن يؤمن بي فلا يعطش إلى الأبد» لقد سألت السامرية المسيح أن يعطيها من مائه الحي لكي لا تعطش، فأعطاها نفسه فقبلته وهنا، وعلى نفس المستوى، لما طلب منه اليهود أن يعطيهم من خبز الله الحقيقي، أشار إلى نفسه، وقال لهم: أنا هو خبز الحياة. فلو كانوا قد قبلوا منه عطية نفسه، لما جاعوا العطية جاهزة أمامهم والخبز حاضر. ولو فتشوا الكتب لوجدوه، إنه هو الحياة الأبدية خبزاً وماء. فهو هنا يجمع الأكل والشرب معاً، فهو الطعام السماوي الكلي والكافي، الذي هنا نأكله ونشربه بالسر، وأما هناك فنشبع ونرتوي منه بالحق إلى الأبد المسيح يقدم نفسه لليهود ولنا كطعام حقيقي : مأكل حق يدوم هنا وفي السموات، ولا ينقطع قط. فالشبع من المسيح هو شبع إلهي سمائي لا يؤول إلى جوع دنيوي قط. والارتواء من المسيح هو ارتواء الروح بالروح. فينبوع المسيح سمائي إلهي ينسكب بجملته في أحشاء الإنسان لينبع فيـــه ومنه، هذا وعد المسيح وعمل الروح الذي يجري الآن أمام عيوننا، وطوبى لمن يرى ويسمع نعم، هذا الكلام حلو كشهد العسل، ولكن هناك فرق بين من يشتهي عطايا المسيح، ومن يشتهي المسيح نفسه فالجليليون كانوا مثل المرأة السامرية، عندما سمعوا هذا الكلام الحلو الذي يقطر عسلاً، طالبوه أن يعطيهم إياه، ولقبوه بالسيد تملقاً، لعلهم يفوزون بعطاياه، ولكن كاشف القلوب والكلى أدرك أنهم يقبلون عطاياه ولا يقبلونه هو، ويؤمنون بمنفعــــة مواهبه، ولا يؤمنون به هو فوضع لهم الشرط كالمشرط: (عطاياي لمن يقبل إلي، وغناي لمن يؤمن بي ) أنا هو خبز الحياة المسيح هنا اعتبر نفسه خبزاً لنوال الحياة الأبدية، حيث أن المسيح والخبز الذي يعطيه كلاهما يهب الحياة الأبدية. فالمسيحفيه الحياة ويعطي حياة، لأن المسيح حي ومحيي : «لأني أنا حي، فأنتم ستحيون». وخبز الحياة، هو كذلك خبز حي، فهو يعطي الحياة لأنه خبز الله، لأنه جسد المسيح. فالتطابق الذي يجعله المسيح بين كيانه الحي المحيي، وبين كيان الخبز الحي هو تطابق كلي؛ لذلك يعود المسيح بعد ذلك ويوضح هذا التطابق هكذا: «أنا هو الخبز الحي». وهنا يكمن سر التجسد العجيب الرهيب على مستوى اتحاد الكيان الإلهي بـ الجسد البشري المولود من الروح القدس اتحاداً سرياً كاملاً أبدياً والحيرة التي يقع فيها العقل الذي لم يقبل سر التجسد تكون حيرة حقيقية، إذ كيف يمكن للمسيح وهو إنسان أن يكون خبزاً؟؟!! والخبز كما هو معروف أنه يؤكل لقوام الحياة الجسدية؛ أما للذين قبلوا سر التجسد، أي بالإيمان بالمسيح الكلمة المتجسد، يصير من السهل عليهم أن يدركوا سر الإفخاريستيا في قول الرب : « الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي». فهذا هو غاية التجسد، فالمسيح تجسد ليعطي جسده الحي للعالم، ليكون بذرة الخليقة الجديدة. هذه الحقيقة سرية للغاية، والذي يقبلها إنما يقبلها بالإيمان والخطأ الذي ارتكبه اليهود، والذي لا يزال يرتكبه العالم هو أنهم يريدون أن يعرفوا سر المسيح قبل أن يأتوا إليه ويؤمنوا به، وهذا مستحيل.والنصيحة العظمى التي نقدمها للناس جميعاً، هي أن يأتوا إليه بـــلا فحص، وأن يقبلوه ويؤمنوا به لتنفتح عيونهم وقلوبهم، ويدركوا ســـــر المسيح والله، وسر الحياة الأبدية، بكل يقين. والمسيح في قوله إنه يعطي جسده يصير فاعلاً: «أنا هو»، ومفعولاً به «جسدي بآن واحد، لذلك حينما يبذل جسده فهو يعطي نفسه في هذا الجسد ليصير الأكل من الجسد اتحاداً به وبالله الآب، وقوة هذا الاتحاد هي الحياة الأبدية. في الحقيقة إن هذا اللقب هو من أبسط ألقاب المسيح التي أطلقها على نفسه، ولكن في نفس الوقت أعماقه لا تجارى ولا تُحد.ليس في جميع الأسرار التي تصادفنا في حياة المسيح وأقواله ومعجزاته ما يُعادل هذا السر الرهيب سر الخلود الذي أبقى المسيح إعلانه حتى آخر ساعة من حياته. ففي الليلة التي كان مزمعاً أن يُسلّم فيها نفسه للموت من أجل حياة العالم، جلس مع تلاميذه ومهد للسر بإعلانه حبه الخاصته الذين في العالم، حباً وصفه المسيح أنه حتى المنتهى (يو ١٣: ١) والمسيح لم يكن مغالياً حينما قال: «أنا هو خبز الحيـــاة». إذ أنه في العشاء الفصحي الأخير، عندما أخذ الخبز على يديه، ونظر إلى فوق، بــــه روح الحياة الأبدية. فحمل الخبز، ذات الحياة الأبدية التي في جسده، فصار الخبز الطبيعي معادلاً لجسده الإلهي الحي، أي خبزاً للحياة. وتمادى المسيحفي إجراء السر، إذ كسر الخبز من واقع ما سيتم على الصليب، وهكذا بث الخبز الحي موته المحيي، أي حمله قوة الفداء والغفران بآن واحد. وهكذا أصبح كل من يأكل من هذا الجسد يعبر - كما عبر المسيح - بالجسد من الموت إلى الحياة، أي صارت في هذا الخبز الحي قوة القيامة من الأموات. وبإعطاء المسيح الخبز حاملاً روح الحياة الأبدية، وسر كسر الجسد على الصليب؛ يكون قد أعطانا سر الشركة الكاملة في موته وحياته. والشركة هنا ليست مجازاً بل فعلاً وتحقيقاً، وهذا يُثبته ويُحققه قوله: "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت في وأنا فيه. هنا الثبوت المتبادل، هو حالة تواجد للمسيح دائم في حياة الإنسان، والذي يؤهله حتماً للحياة الأبدية من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير» من هنا أصبح الأكل من الجسد، أي الخبز المتحول، ليس مأكلاً عادياً؛ بل هو مأكل حقيقي وإلهي بالدرجة الأولى. لذلك نبه المسيح ووعى: «لأن جسدي مأكل حق». لأجل هذا أصبح الأكل من الجسد له فاعلية إيمانية سرية صادقة ومباشرة للثبوت في المسيح كثبوت المثيل على المثيل. وتكون النتيجة المباشرة لهذا الثبوت هو اندفاق الحياة الأبدية التي للمسيح في الشخص الذي يتناول من جسده ودمه، وتصبح الحياة الأبدية مفتوحة عليه، وبالتالي وبالضرورة تكون القيامة التي هي مصدر الحياة الأبدية قائمة فيه.والمسيح هنا يكشف السر القائم في الإفخارستيا: أن من يأكل الخبز المتحول للجسد والخمر المتحول للدم يكون قد أكل المسيح شخصياً ويكون قد ظفر بسر الخلود. ومن هنا كان تعريف الشهيد إغناطيوس 66 دو للتناول من الجسد والدم أنه بمثابة تعاطي ترياق عدم الموت أي دواء الخلود، ذلك لأن فيها أولاً : شفاء، أي مغفرة الخطايا، وثانياً: النصرة على الموت والظفر بالحياة الأبدية. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
27 أبريل 2025

أحد توما

المسيح قام حقاً قام ثمانية أيام مضت على خبر القيامة بتوكيدات وشهادات من ملائكة و شهود عيان كثيرين المجدلية والنسوة وتلميذا عمواس والأحد عشر وبالرغم من ذلك بقى توما وحده مصمماً على عدم قبول القيامة إلا بشروطه الخاصة وعلى العموم نحن نجد أن هناك تدرجاً في الإيمان بالقيامة: الدرجة الأولى: يوحنا يؤمن بدون أن يرى يكفيه رؤية الأكفان الموضوعة في القبر الفارغ. الدرجة الثانية: مريم المجدلية تؤمن بالقيامة دون أن تتحقق من شخصية الرب، ولكن بمجرد تذكر صوته. الدرجة الثالثة: التلاميذ الأحد عشر آمنوا عندما رأوا وجسوا لحمه وعظامه وجروحه. الدرجة الرابعة: توما، بعد أن استوفى لنفسه شرط الإيمان بوضع أصبعه في الجروح. ثم أخيراً الدرجة فوق الأولى : وهي التي أعطى لها الرب الطوبى، وهي إيمان الذين صدقوا القيامة بالخبر وحسب. الإنجيل لم يذكر لنا حادثة توما هذه المخجلة لكي يحط من قدر توما؛ بل لكي يوضح صعوبة الإيمان بالقيامة. فأصبح الإيمان بها يحفه القبول من اليمين بالمديح، كما يحفه الشك من الشمال بالتوبيخ. أما الطوبى، أي السعادة، فهي نصيب الذين يؤمنون ولا يطلبون شهادة العيان، لأن الحق يضيء قلوبهم.إذاً، فرواية توما لا تخص توما، بل هي حدثت لتكون ركناً ركيناً في استعلان شخص المخلص، كجزء حي في درجات سلم استعلان قيامة المسيح، كطوق نجاة للذين ستعصف بهم شكوك مثل شكوك توما! وق. يوحنا يقدم لنا رواية توما على التوازي مع رواية تلميذي عمواس التي قدمها القديس لوقا. وكل من الروايتين حظت بظهور الرب وكل منهما حظي بالتوبيخ المناسب. "قد رأينا الرب" نفس ما قالته المجدلية: «قد رأيت الرب».لم تقع هذه البشارة المفرحة عند توما موقع التصديق، وذلك عن قصد من النعمة، ليكون أباً ومرشداً لكل الذين صاروا بعقولهم قوامين على قلوبهم، ومدوا أيديهم وأصابعهم عوض البصيرة ليتحسسوا بها طريق الحق. لقد صار توما في تاريخ الإيمان إمام الشكاكين. ويا ليت كل من يشك، ينطق بالنهاية بما نطق به توما لقد وقف توما على قمة الشكاكين مصمماً على حتمية أن تكون القيامة بنفس الجسد الذي تمزق على الصليب، وأن يكون على مستوى المس اليد ووضع الأصبع في نفس الجرح النافذ وفي نفس الجنب المطعون. ولكن لأن القيامة التي قامها الرب هي قيامة حقيقية بالجسد الميت فعلاً؛ لذلك لم يمانع الرب أبداً من تحقيق شرط تو ما وظهر له خصيصاً ليكمل له إيمانه هذا. فصار إيمان توما واعترافه المفاجئ: «ربي وإلهي» البرهان الأخير إزاء كل شكوك بأن المسيح قام حقاً، وبأنه قام بجسده الذي تمزق على الصليب هو هو فقال لهم "إن لم أبصر في يديه أثر المسامير، وأضع إصبعي في أثر المسامير، وأضع يدي في جنبه لا أومن".جروح الصليب مميتة، فكيف تصبح علامة حياة؟ إنه تعجيز! ولكنها هي حقاً معجزة توما يطلب المستحيل بالعيان واللمس، يطلب اقتران الموت بالحياة والحياة بالموت، فكان له ما شاء! إنها حقاً القيامة! توما أراد أن يمسك بنار اللاهوت، فمسك ولم يحترق. توما أراد أن يُمثل بيده طعنة الحربة إن أهوال الصليب ضيعت من عقل توما كل معقولية الحياة من بعد الموت، لقد أصابت المسامير فكر توما بأكثر مما أصابت به يد الفادي الفادي قام ويداه في ملء الحركة والحياة، وفكر توما تسمر بالموت وبقى بلا حراك الجنب المفتوح بالحربة صار كهوة في إيمان توما، تفصل الميت عن الحياة، مع أن الدم والماء النازفين منه، كفيلان بأن يُحييا كل الأموات. «لا أومن». لقد جازف توما بكل إيمانه، لقد وضع إيمانه بالمسيح قائماً من الموت في كفة، ورؤية عينيه ولمس يده لآثار المسامير وطعنة الحربة في الكفة المقابلة! لقد ظن توما أن الإيمان بالقيامة رهن نظر العين ولمس اليد ولكن المسيح نفسه عندما ظهر للتلاميذ المجتمعين «أراهم يديه وجنبه»، فتوما وإن كان يُطالب بحقه الرسولي، كتلميذ له، في الرب المقام؛ إلا أن ما كان ينقص توما حقاً والذي وبخه المسيح على فقدانه، فهو الإيمان "ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام" "فجاء يسوع والأبواب مغلقة، ووقف في الوسط" كان هناك نوع من الترقب لمجيء يسوع. فمن أسبوع كان التلاميذ قد حازوا على عطية الروح القدس الكفيل أن يشعرهم "بالأمور الآتية" وخاصة فيما للرب ومجيئه. جاء يسوع ووقف في "الوسط"، صحيح أنـــه جاء خصيصاً لتوما، ولكن حينما ظهر كان ظهوره للجميع والجميع له. ليس كبير أو صغير بينهم، فالكل فيه كبير، والكل فيه كريم ومكرم. "وقال سلام لكم". ليست هي مجرد تحية، ولكنها وديعة يستودعها الرب لكنيسته «سلامي أعطيكم»، فالرب لا يُقرى السلام، بل يعطيه، بل يسكبه ويبته فينا بثاً، ليسري في القلوب والأفكار والأرواح، ليبقى ويدوم ويترسخ داخل النفس، تلتجئ إليه يوم العاصف فتجده، وتستغيث به في الضيقة فتتسربل به. "ثم قال لتوما: هات إصبعك إلى هنا وأبصر يدي، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً". عجيب أن الرب يعيد نفس الكلمات التي نطق بها توما وهو يتحدث مع زملائه، فكأن الرب كان واقفاً يستمع إلى شروط توما المغلظة، لم يعاتبه ولا حتى أخذه، بل بلطف يفوق كل لطف، أخضع جسده الذي ترتعب منه الأجناد السماوية لرؤية عين توما واللمس أصابعه عرى جروحه، وجعل جنبه المفتوح في متناول يده. وهكذا احتفظ الرب بعلامات الموت ليجعلها برهان الحياة، وجعل آثار الذلة والانسحاق لتكون هي هي أسباب المجد.ولكن ترى ماذا كان وقع كلمات الرب على توما، حينما ردد الرب المقام على مسامعه كل الكلام والشروط التي قالها للتلاميذ؟! أعتقد أنها فوق أنها أخجلته، فقد جعلته في غير حاجة لأن يمد يده أو إصبعه. ولكن حين مدها وحينما لمس إطاعة للأمر الذي صدر له، كان قد بلغ الإيمان في قلبه حد الصراخ والشهادة خبرة العين الروحية ابتلعت خبرة عين الجسد، ولمسة الروح في القلب طغت على لمسة اليد. «لا تكن غير مؤمن، بل مؤمناً» لم يكن توما غير مؤمن، وإلا لو كان هو فعلاً هكذا؛ أي غير مؤمن، لما ظهر له الرب على الإطلاق. ولكن لما استبد به الشك، كونه استثني من رؤية الرب، كان يطلب حقه في الرؤية العينية، إمعاناً في الوثوق الذي يطلبه. بمعنى أن توما كان في طريقه إلى الإيمان في حالة حصوله على ما احتاجه إيمانه: «أومن يا سيدي، فأعن عدم إيماني» الرب تنازل إلى مستوى شروط توما، ليقطع على كل توما، وعلى كل من يذهب مذهبه الطريق إلى عدم الإيمان. "أجاب توما، وقال: ربي وإلهي" هذه هي قمة الاستعلانات، بل هي قمة إنجيل يوحنا. والذي يزيد من قيمة هذا الاستعلان الذي استلهمه توما من رؤية الرب المقام، أنه جاء بعد أسبوع كامل من عذاب الشك وليل الظنون فهو، إن كان قد تأخر عن التلاميذ ثمانية أيام في التعرف على القيامة وتصديقها؛ إلا أنه سجل للكنيسة أول اعتراف علني بألوهية المسيح، خرج منه بتلقائية تعبر عن الحق الذي رآه كاعتراف إيمان بلغ الذروة، ليس في كل الأناجيل ما يُضاهيه إن ظهور الرب بحال قيامته كان كفيلاً بأن يُغيّر لا فكر توما بل روحه وحياته. إن ظهور الرب قوة، فالقيامة هي المجال الإلهي الفائق، الذي إذا دخله الإنسان يفقد رؤيته لنفسه والعالم، وكأنها أقنعة، يخلعها ليرى الحقيقة الدائمة، ولا يعود يرى نفسه إلا في الله : "ربي والهي" إنه يرى نفسه فيه ويراه هو في نفسه، وكأنه يُردد بلسان عروس النشيد: «أنا لحبيبي وحبيبي لي» لقد صار له المسيح وصار هو للمسيح فاستعلن له المسيح في ذاته رباً وإلهاً لقد تعرف على الله في المسيح، وتعرف على المسيح في الله. وأخيراً، أدرك توما أن المسيح ليس للمس اليد أو نظر العين !! فهو الملء الذي يملأ الروح والبصيرة والقلب، الذي لا تسعفه عين ولا يحيطه فكر قال له يسوع" لأنك رأيتني يا توما آمنت طوبى للذين آمنوا ولم يروا" لقد أمن المسيح على اعتراف وإيمان توما "ربي وإلهي"، ووافقه على إعلانه بلاهوته. فلو لم يكن المسيح إلهاً بالحقيقة ما كان قد ارتضى بهذا الإعلان. لقد رأى توما المسيح كما يريد المسيح أن يُرى.وهنا ظهرت رنة التوبيخ والعتاب في صوت المسيح لتوما، لأنه ما كان لائقاً بتلميذ عاشر الرب وسمع منه أنباء القيامة العتيدة، بل ورأى قوتها عياناً عند قبر لعازر، ثم بعد ذلك لا يؤمن، ولا يصدق من رأى وآمن ولكن شكراً لك أيها القديس توما، لأن بشكك ورثتنا الطوبى، بل أحسن الطوبى: «.. الذي وإن لم تروه تحبونه ذلك، وإن كنتم لا ترونه الآن، لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به ومجيد» . المتنيح القمص متى المسكين
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل