المقالات
26 أبريل 2021
اثنين البصخة إن كنا نتألم معه فسوف نتمجد معه
نريد هذه السنة أن ندخل في المفهوم الروحي والعملي لأسبوع الآلام بالنسبة لحياتنا. طبعاً تعرفون أن أسبوع الآلام هو الاسم الشائع والسائد لهذا الأسبوع. ولكن الاسم المحبوب والطقسي هو أسبوع الفصح، أو أسبوع البصخة، حيث أنهما كلمة واحدة بنطق مختلف. وأصل التسمية هو حمل الفصح، الخروف الذي بدمه مُسح أعتاب بيوت شعب إسرائيل، فكان الملاك المُهلك يعبر عليهم ولا يمسهم سوء. وهذا بالطبع كان رمزاً قوياً للحمل الوديع، للمسيح المصلوب، الذي بدم نفسه مُست أعتاب شفاهنا وحياتنا وعبرنا من الموت إلى الحياة.هو في الحقيقة أسبوع فصح، ويتخذ اسمه من اليوم الأخير، الجمعة الكبيرة، حيث قمة آلامه، يوم ذبح الحمل على الصليب، ولكن لو جمعنا الكلمتين يمكن نسمي أسبوعنا هذا بـ: أسبوع الآلام الفصحية، حيث عبر الرب بنا وبالخطاة وبجسد الخطية، من الموت إلى الحياة والقيامة؛ من العقوبة والغضب الإلهي، إلى التبرير والخلاص الأبدي. اسمعه وهو مُنكسر القلب يتكلم عمَّا سيحدث له: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الأمم فيُهزأُ به ويُقتل». نحن نقولها الآن كأنه كلامٌ عاديٌ، إطلاقاً، ليس الأمر هكذا. المسيح كان يجلس مع تلاميذه في جلسة محبة ودية، وفجأة يتغير مجرى الكلام ويقول لهم هذه الأمور الصعبة، الأمر الذي أذهلهم واستنكروه ورفضوه وانزعجوا من أجله بشدة.نحن للأسف من كثرة ما قرأنا وتحدثنا عن هذا الأسبوع، وحوَّلناه إلى مناسبة طقسية، أُصبنا بداء الاعتياد ولم يعد يؤثر فينا. نريد هذه السنة أن نجوز هذا الأسبوع بحق مع الرب، ليس كاعتياد وطقوس وألحان، ولكن أن نسير على إثر خطواته، نجوزه بعهد أن نتألم كما هو تألم، نتألم معه بحب.في الحقيقة يا أحبائي، من المستحيل أن يجوز أحد آلام المسيح إلا بالحب، وينبض نبضة الحب الإلهي.هناك نوعان من الآلام: آلام طبيعية وآلام جبرية. الآلام الطبيعية مثل أصوامنا أو خدماتنا وعملنا الجسدي، كل هذه لا قيمة لها، ما لم تسندها النعمة، وما لم نعتبرها شركة في آلام المسيح.
أما الآلام الجبرية فهي آلام ندخلها بغير هوانا، أو بمعنى أدق تُفرض علينا فرضاً، وهي من المستحيل أن نغلبها ما لو تسندنا نعمته ونعتبرها شركة في آلامه.
علينا أن نجوز هذا الأسبوع على أساس القيامة الفعلية، فإذا كان الرب قد تألم؛ فهو أيضاً قام، هذا يعطينا قوة سرية روحية لا نهائية. أقول هذا بالأخص للذين هم يشتكون من آلام جسدية ومن ضعف النفس ومن محاربات الشيطان. أما أنا أقول لهؤلاء: اصبروا، تقووا، الرب معكم، لا تخافوا، الرب معين، الرب ناصر لن يتخلى أبداً. فإذا كنا قد عرفنا أن الرب بعد كل ألاماته المُرة، وبعد الأحزان الشديدة التي ذاقها، وبعد انكسار قلبه ونفسه، وغُصة الموت التي جازها..ففي ضوء القيامة ستكون كل آلامنا أيضاً لذيذة، وليست صعبة أو مصيبة أو مُفاجئة.لذلك تعالوا اليوم نمشي على إثر خطواته، فخطوات المسيح هي هي خطواتك، والذي احتمله هو كله عنك، فإن لم تشترك معه في هذا الاحتمال عينه؛ فلن تأخذ أجره أو ثمرته والتي هي قيامته.هل من الممكن أن هذه السنة نعمل عهداً جديداً مع بعضنا البعض، نأخذ هذا الأسبوع كعهد شركة حقيقية مع الرب؟ فإن كان هو قد تألم من أجلي؛ كيف لا أجوز أنا أيضاً بنفس هذه المشاعر؟ وأنا أعلم تماماً وبيقين وثقة روحية أن الرب صادق والروح أمين، وإنه كما أن الآلام التي جازاها المسيح حوَّلها إلى نُصرة؛ هكذا ستتحول لي أنا أيضاً إلى قيامة وغلبة؛ إن أنا جُزتها صدقاً وإخلاصاً وأمانة. الروح ينتظر مقدار أمانتا للمسيح. ولكن علينا أن نقول: إن الأمر ليس مجرد آلام مُجردة، فإن لم يتحرك القلب بالحب؛ فلن تكون آلاماً فصحية، ستكون مجرد آلام، وهنا، ما أكثر ما قضينا من أسابيع آلام، ولكنها كانت كلها آلاماً بلا ثمر ولا قيمة لها!! ولكن الذي نريده هذه السنة أن تكون آلامنا فصحية، تتحرك فينا وتنتهي بالعبور. نريد أن نفصح (=نعبر) في كل ساعة وفي كل يوم إلى أن نبلغ غاية فصحنا. لا نريدها آلاماً عقيمة، ولكن نريدها آلاماً تحملنا وتحمل هذا الجسد الخاطئ الميت، من حياة إلى حياة أو بالحري من موت إلى حياة، من إيمان ضعيف إلى إيمان قوي، من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح.أتمنى أن يكون لنا في هذه السنة ثمار تُفرِّح الرب وتُفرِّح السماء بنا.هناك كثيرون من أولاده الذين جازوا معه آلام، وعبروا ودخلوا معه في نُصرة أبدية، وعاشوا في ملء حرية أولاد الله وفي ملء قوة النعمة والنصرة على الجسد والعالم، وفي ملء القوة ضد الخطية.يا أحبائي، علامة سُكنى الروح القدس أن تكون هناك فينا قوة ضد الخطية. كل العلامات الأخرى تخطئ، ولكن أن ينتصر الإنسان على الخطية؛ فهذا يسكنه الروح بالتأكيد.لا أريد أن أقترح عليكم اقتراحات كيف تقضون وتسلكون وتصومون وتسهرون خلال هذا الأسبوع، دعوا الروح يُحرككم ويتكلم داخلكم. فقط قدِّموا باقات حب وكلمات عهد ووعد لحياة ليست للعالم، ولا يكون للجسد فيها نصيب، حياة مربوطة بقلب المسيح وتتحرك بحركته، حياة مُنقادة بالروح القدس، كما يُقاد الطفل الصغير في يد أبيه وهو لا يعلم إلى أين يمضي.حياة فيها حب إلهي، ولكن نجوز مع الرب آلامه بحزن حقيقي من أجل الخطايا التي بسببها تألم ومات.ولكن اعلم، إنه ليس فضلاً مني أو منك إنك تتألم خلال هذا الأسبوع، أو أن نفسك تذبل فيك، إنه هو ذبلت نفسه من أجلك قبلاً، سُفك دمه نقطة نقطة حتى أَسلم الروح بسبب خطيتك. فهذه ليست مكرمة منك، ولكنها ضريبة، ضريبة أسبوع الآلام.تعال إلى الرب وقُل له[ أنا عليَّ ضريبة لابد أن أدفعها لك هذه السنة، سأقدمها إليك مُجبراً، ولكن بملء حبي، وبملء فرحتي.أسبوع الآلام هذا كله بسببي أنا وليس بسبب الآخرين، فاعطنى أن أجوزه معك.أعطنى حزناً ليس أقل من حزنك، هبني انكساراً في قلبي كوجعك وانكسار قلبك، امنحني أنيناً كأنينك أعبر معك به هذا الأسبوع وكل المصادمات خطة بخطوة. شهِّر بي، يا رب، افضحني، اكشف خطايا علناً؛ لئلا أُفتضح بعد هذا في السماء.أعطني اتساع قلب واتساع فكر واتساع رؤية حتى أرى ماضيَّ كله فيك، وحتى عندما أتألم لا أكون أكذب على نفسي أو أكذب عليك ولا أكون أتصور أو افتعل.أعطنى يا رب إحساسك بخطايا الناس وكيف هي مررتك.اجعلني أذوق ألمك وبكائك وأنت تبكي على شعبك وأولادك الذين لم يعرفوا زمان افتقادهم.أعطني دموعاً أذرفها معك، لا تجعلني أعيش محصوراً في خطيتي فقط وبعيداً عن صليبك الكبير. لا تحرمني من لمسة صغيرة أرى فيها آلام العالم التي أنت ذقتها].أنا أقول لك: إن الآلام التي تجوزها لو كنت صادقاً، سوف تتحول إلى لذة وفرحة وتوبة بلا ندامة. إنك تستطيع بسهولة أن تفرق آلام المسيح عن هذه التي بحسب العالم. حزن العالم وآلامه يُنشئ توتراً وعدم راحة. هذا الحزن مرفوض. نحن عندما ندخل آلاماً حقيقية مع الرب وفيها نحزن حزن الموت إلا أننا في نهايتها تُبصر عيون قلوبنا القيامة عياناً بياناً، وتهتز قلوبنا فرحاً، وترنم ونقول: آلامك، يا ربي، أنشأت فيَّ فرحاً، آلامك أنشأت في داخلي بهجة قيامة ونوراً، لا أستطيع أن أعبر به. تصرخ وتقول: ما هذا المجد يا ربي، أإلى هذه الدرجة تكون آلامك مُفرحة ومُعزية؟ إذن لماذا نحن محرومين منها؟! ذلك لأننا ارتضينا بالمظاهر، أتقنا الطقس، راجعنا الألحان، ظبَّطنا الهزات، وتكون النتيجة أننا ندخل ونخرج ونحن غرباء عن آلامك.لا نريد هذا، نريد في هذا الأسبوع في كل لحظة، أن يتحرك قلبنا، كما تتحرك أوتار قيثارة بكل آلام الرب معاً، فيخرج من أعماقنا نشيد أعظم آلاف المرات من كل الألحان.من يدخل إلى هذا الأسبوع مدخلاً حقيقياً سوف يحمل البشرية كلها في قلبه، سوف يحمل سقطات الساقطين، سوف يحمل خطية الخطاة في قلبه الصغير هذا، سوف يتسع ويتعجب كيف أن الرب استأمنه على هذه الأسرار والكرامة العليا.هذا هو أسبوع الآلام، ما أمجدها آلاماً وما أعظمه فصحاً.أتمنى لكم جميعاً أن يكون هذا الأسبوع أسبوعاً خالداً في حياتكم لتعيشوا في حقيقة الإنجيل لا تفارقوه ولا يفارقكم لحظة، وتذوقوا في قلوبكم وأرواحكم عمل الروح القدس في القلب، وكيف يعبر الإنسان من مصر إلى كنعان، يعبر ويتجدد من جسد عتيق لإنسان جديد مُنقاد بالروح القدس ليس له مشيئة بعد، وقد نسى زمان الخطية وأوهامها الكاذبة وتصادق مع القادر المقتدر الذي قام باقتدار وانفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات.ولإلهنا المجد دائماً أبدياً أمين
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
19 أبريل 2021
إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع السابع من الصوم المقدس
المزمـور: «12أَحْمَدُكَ يَـا رَبُّ إِلهِي مِـنْ كُلِّ قَلْبِي، وَأُمَجِّدُ اسْمَكَ إِلَى الدَّهْـرِ. 13لأَنَّ رَحْمَتَكَ عَظِيمَةٌ نَحْوِي، وَقَدْ نَجَّيْتَ نَفْسِي مِنَ الْهَاوِيَةِ الْسُفْلَى» (مز 86: 13،12).
الإنجيل: «31إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا.32اَلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ.33أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ. 34وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ. 35كَانَ هُوَ السِّرَاجَ الْمُوقَدَ الْمُنِيرَ، وَأَنْتُمْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَةً. 36وَأَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا، لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا، هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَـدْ أَرْسَلَنِي. 37وَالآبُ نَفْسَهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ، 38وَلَيْسَتْ لَكُمْ كَلِمَتُهُ ثَابِتَةً فِيكُمْ، لأَنَّ الَّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ لَسْتُمْ أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِـهِ. 39فَتِّشُوا الْكُتُبَ لأَنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ لَكُمْ فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً. وَهِيَ الِّتِي تَشْهَدُ لِي.40وَلاَ تُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ لِتَكُونَ لَكُمْ حَيَاةٌ. 41مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ، 42وَلكِنِّي قَدْ عَرَفْتُكُمْ أَنْ لَيْسَتْ لَكُمْ مَحَبَّةُ اللهِ فِي أَنْفُسِكُمْ. 43أَنَا قَدْ أَتَيْتُ بِاسْمِ أَبِي وَلَسْتُمْ تَقْبَلُونَنِي. إِنْ أَتَى آخَرُ بِاسْمِ نَفْسِهِ فَذلِكَ تَقْبَلُونَهُ. 44كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟ 45لاَ تَظُنُّوا أَنِّي أَشْكُوكُمْ إِلَى الآبِ. يُوجَدُ الَّذِي يَشْكُوكُمْ وَهُوَ مُوسَى، الَّذِي عَلَيْهِ رَجَاؤُكُمْ. 46لأَنَّكُمْ لَوْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ مُوسَى لَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونَنِي، لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عَنِّي. 47فَإِنْ كُنْتُمْ لَسْتُمْ تُصَدِّقُونَ كُتُبَ ذَاكَ، فَكَيْفَ تُصَدِّقُونَ كَلاَمِي؟» (يو 5: 31-47).
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين
إنجيل القدَّاس:
إنجيل قدَّاس اليوم يحتاج منَّا إلى شرح. وإن كنتُ أودُّ أن يكون الكلام لأنفسنا؛ ولكن لأن الكلام يظهر كما لو أنَّ فيه نوعاً من التعارُض، لذلك أصبح لِزاماً عليَّ أن أشرحه أولاً.
في الأصحاح الخامس (يو 5: 31)، نجد أن الرب يسوع يقول: «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا»؛ بينما في الأصحاح الثامن (يو 8: 14)، يقول: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ». هنا نجد تعارُضاً ظاهرياً بين الآيتين، لابد أن نحلَّه أولاً.
سنشرح الوضع المذكور في إنجيل يوحنا - الأصحاح الثامن. فالمسيح يُقرِّر في شهادته لنفسه أنها حـقٌّ: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ»، أنها شهادة شخصية مُفردة، وذلك في ردِّه على الكَتَبَة والفرِّيسيين الذين كانوا يقولون له: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا»، في أعقاب قوله: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ». وكان كلامهم على أساس الناموس الذي يُقرُّ أنه لا تؤخذ شهادة شخصية من شخصٍ بعينه، بل كل شهادة لابد أن تقوم على فم شاهدَيْن أو ثلاثة.
ففي هذه الواقعة يقول المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ». على أيِّ أساس؟ على أساس مـا ذَكَره الرب لاحقاً: «لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وَإِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلاَ تَعْلَمُونَ مِـنْ أَيْنَ آتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ أَذْهَبُ». هـذه هي الحجَّة التي ذَكَرها المسيح: ”إنني أشهد لنفسي، وشهادتي حقٌّ؛ وأشهد شهادة شخصية، وهي حقٌّ؛ لأني أعلم من أين أتيتُ وإلى أين أذهب!“.هنا يُوضِّح المسيح أنه جاء من عند الله، وإلى الله سيذهب! إذن، فهو من الله. وإذن، هو من الحقِّ، وإلى الحقِّ يذهب. إذن، هو حقٌّ، وهو يشهد للحقِّ! فالحقُّ لا يطلب شهادة من أحدٍ، تماماً مثل النور، الذي يشهد لنفسه. فهل إذا كان النور مُشرقاً، يحتاج لِمَن يشهد أنَّ هذا نورٌ؟! هكذا المسيح، لأنه يشهد للحقِّ، فهو لا يحتاج إلى شهادة إنسانٍ قط! لماذا؟ لأنه هو نفسه جوهر الحق، فأصبح لا يحتاج إطلاقاً أن يشهد له آخر.
وفي نفس الأصحاح الثامن، يقول المسيح: «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يو 8: 18). هنا الرب لا يقصد أن هذه شهادة اثنين، ولكن لكي يسدَّ ثغرة الناموس، التي فتحها الكَتَبَة والفرِّيسيون بقولهم: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقًّا»، قـال لهم: «أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، وَيَشْهَدُ لِي الآبُ». فهي شهادة اثنين بالنسبة لهم؛ أما بالنسبة له، فهو يشهد للحقِّ الذي فيه، والحق الذي في الآب. وبالتالي فهو غير محتاج أن يشهد له شخصٌ آخر.
أمَّا في الأصحاح الخامس من إنجيل قدَّاس هذا الصباح، فإنَّ الرب يقول: «إِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي لَيْسَتْ حَقًّا». هنا ينطلق المسيح من مبدأ آخر غير الناموس الذي يُقرُّ أنَّ كل شهادة لابد أن تقوم على فم شاهدَين أو ثلاثة، هذا المبدأ الهام يُوضِّحه بقوله: «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ». فعلى أيِّ أساس يقول المسيح: «مَجْداً مِنَ النَّاسِ لَسْتُ أَقْبَلُ»! بالرغم من معرفتنا جيداً أنه يُطالبنا أن نُمجِّده؟ ذلك على أساس أنه لا يشهد لنفسه لكي يُمجِّده الناس؛ لأنه إذا شهد لنفسه لكي يُمجِّده الناس، تكون شهادته حينئذ ليست حقّاً. لماذا؟ لأنه في هذه الحالة يطلب مجد نفسه؛ والذي يطلب مجد نفسه، لا يطلب بالطبع مجد الله!
فالمسيح يقول ما معناه: ”إن كنتُ أشهد لنفسي لأتقبَّل مجداً أو كرامةً من الناس، تكون شهادتي ليست حقّاً“. فهو يَعتَبِر أنَّ شهادة يوحنا المعمدان، وشهادة كل الأنبياء، وشهادة موسى نفسه وكل التوراة؛ هي للإعلان عنه، أو لاستعلان مجده فقط. ولكنها جميعها غير قادرة أن تُضيف إليه مجداً. فهو في غير حاجة إلى كلام النبوَّات لتشهد له، لأنه هو بعينه الحق. النبوَّات جاءت لكي يعرف الناس أنَّ المسيح هو الحق، وليس لكي يُزيدوه حقّاً أو مجداً!
ولذلك بعد أن قال لهم المسيح: «أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ»، أردف قائلاً: «وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ، وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». فالمسيح في مطلع هذا الأصحاح، يقول: «اَلَّذِي يَشْهَدُ لِي هُوَ آخَرُ، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي هِيَ حَقٌّ»، هذا الكلام هو عن ”الآب“. والشهادة إذا كانت حقّاً، فتكون من الآب؛ أمَّا إذا كانت الشهادة للحقِّ، فتكون من يوحنا المعمدان! «أَنْتُمْ أَرْسَلْتُمْ إِلَى يُوحَنَّا فَشَهَدَ لِلْحَقِّ. وَأَنَا لاَ أَقْبَلُ شَهَادَةً مِنْ إِنْسَانٍ».
لماذا وجَّه المسيح النظر إلى يوحنا المعمدان؟
لقد وجَّه المسيح نَظَرَهم، بل ونَظَرنا نحن أيضاً، إلى يوحنا المعمدان، ذلك لكي يُظهِر أن شهادة يوحنا المعمدان، وكذلك كل الشهادات السابقة عليه، حتى موسى النبي؛ هي شهادات لأجلنا نحن، وليست له هو. ولذلك قال: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». فكل ما قاله المسيح، وكل ما عمله، وكل ما شهد به للحقِّ؛ هو من أجلنا نحن، وليس من أجل أن يتمجَّد هو!
إذن، أصبح قول المسيح: «وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَقٌّ»، هي في نظرنا وفي نظر السامعين له، لمجد الله الآب. وبالتالي فتكون شهادته لنفسه حقّاً، لأنها لمجد الآب.أمَّـا إذا كـانت شهادة المسيح لمجد نفسه، فتكون هـذه الشهادة ليست حقّاً. ذلك لأن الفرِّيسيين اتهموه أنـه يشهد لنفسه، أي يطلب مجد نفسه، يسعى لمجده الذاتي. وفي الحقيقة هم تكلَّموا بهذا الكلام، لأنهم مُلوَّثون بالبر الذاتي، وبهذه الأفكار. ولذلك فإنَّ المسيح أَظهر ما في نيَّتهم، وكَشَفَ إيمانهم وأعمالهم، وبالتالي أنـذرهم قائـلاً: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟» (يو 5: 44).
مُحاصرة المسيح للفرِّيسيين:
في الحقيقة، إنَّ مَن يقرأ هـذا الأصحاح (الخامس)، إذا لم يتمعَّن في هذه الآية التي ذُكِرَت آنفاً، سوف لا يفهم الأصحاح كله. فـالرب يسوع حاصر الفرٍِّيسيين من خلال هذه الآية، وكَشَفَ ما في داخلهم: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟ وَالْمَجْدُ الَّذِي مِـنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟». فوراء هـذه الكلمات معاني مخفية، إذ أنَّ العبادة والإيمان انقلبا عند الفرِّيسيين إلى فرصةٍ لتمجيد ذواتهم. فعبادتهم ليست عبادةً حقيقية، فهي ليست للحقِّ، ولا من أجل الحقِّ؛ ولكنها عبادة تبتدئ بأنفسهم، وتنتهي إلى أنفسهم!
لقد توزَّعت عليهم درجات التكريم والتمجيد من الناس، بل وطالبوا الناس بها. وبالتالي اهتموا جدّاً بالكرامات الذاتية، والأمجاد الذاتية؛ في الوقت الذي نَسَوْا فيه مجد الله وكرامته! ولذلك قال لهم المسيح: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْداً بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ؟». وهذا معناه - بحسب قـول المسيح - إنهم تغاضوا عـن مجد الله: «وَالْمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الْوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ». فَهُم أولاً نَسَوْا مجد الله، ثم بعد ذلك أهملوه، ثم أخيراً أحسُّوا أنهم في غير حاجة إليه! وبالتالي لم تبقَ العبادة - بالنسبة لهم - أساسها تمجيد الله، أو السعي لتمجيده، بالتسبيح أو بالصلاة أو بالسجود أو بالترتيل أو بكلِّ أنواع العبادة! فالعبادة كلها التي كان ينبغي أن تَصُبَّ في اتِّجاهٍ واحد، وهو مجد الله؛ أصبحت بكل ما فيها من كلام وتحية وصلاة وتسبيح لأجل مجد ذواتهم. وذلك لكي تُظهِر الشخص منهم أنه يعرف أن يُسبِّح بإتقان، ويعرف أن يتكلَّم جيِّداً، ويعرف أن يعظ بتدقيق؛ هذا كله من أجل مجد الشخص الذاتي، وليس مجد الله، ولذلك انتهت العبادة الحقيقية!
استحالة أن يتوافق الإيمان الحقيقي مع طلب الإنسان مجده الذاتي:
ولذلك قال لهم المسيح: «كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا...؟». فيستحيل الإيمان الحقيقي طالما أنَّ الإنسان يطلب مجد نفسه. وبالتالي يستحيل أن يسمح له الله أن يُمجِّده، مهما حاول! هذه نقطة خطيرة يُثيرها المسيح. فهذا الأصحاح من إنجيل القديس يوحنا يُركِّز على هذه النقطة بشدَّة، لأنها في الحقيقة أكبر لوثة لوَّثت العبادة والإيمان، أن يطلب الإنسان تزكية لنفسه، أن يسعى لمجد ذاته. كل هذا مِمَّن يطلبه الإنسان؟ يطلبه من إنسانٍ مثله!!
إذا قرأنا في إنجيل القديس متى، نجد ما هو أصعب وأكثر مِمَّا قيل في إنجيل القديس يوحنا، إذ يقول المسيح عـن الكَتَبَة والفرِّيسيين: «وَكُلَّ أَعْمَالِهِمْ يَعْمَلُونَهَا لِكَيْ تَنْظُرَهُمُ النَّاسُ، فَيُعَرِّضُونَ عَصَائِبَهُمْ وَيُعَظِّمُونَ أَهْدَابَ ثِيَابِهِـمْ، وَيُحِبُّونَ الْمُتَّكَأَ الأَوَّلَ فِي الْوَلاَئِـمِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَأَنْ يَدْعُوَهُمُ النَّاسُ: سَيِّدِي سَيِّدِي!» (مـت 23: 5-7).
متطلبات الشهادة للمسيح:
ولكن لا يتبادر إلى ذهن أحد، أنَّ المسيح لا يُريد شهادة من إنسان! فهو بالرغم من أنه غير محتاج إلى شهادة من أحدٍ، إلاَّ أننا نحن المحتاجين أن نشهد له. أن نشهد للمسيح بالقول والفكر والعمل، في كل موقف مـن مواقف الحياة: إن أكلنا لابد أن يكون ذلك لتمجيد الله، وإن شربنا كذلك، وإن نمنا، وإن عملنا أي عمل، لابد أن يكون كل ذلك لمجد الله! لماذا؟
لأنه، في الحقيقة، إذا مجَّدنا المسيح أو شهدنا له؛ فنحن نشهد للحقِّ. معنى هذا أنَّ الحق انكشف لنا، أنه استُعلِنَ لأعيننا. فنحن أبناء الإيمان، أولاد الشهداء. فالشهادة للمسيح ينبغي أن تكون عـن وعيٍ تام، ذلك أننا نشهد للحقِّ. فالحق لابد أن يكون مُستَعلَناً لنا تماماً، حتى تكون الشهادة له ذات فاعلية في قلوب الناس وعقولهم.فالإنسان الذي يشهد للمسيح، وهـو لا يُدرك شيئاً كثيراً عنه، فيكون إنساناً بسيطاً وساذجاً! ولكن الشهادة للمسيح عن وعيٍ وإدراك، تحتاج تلمذة لفتراتٍ طويلة قدَّام الإنجيل، وتحتاج لصلواتٍ متواترة، تحتاج لسؤال مَن لهم خبرة في الحياة الروحية... إلخ؛ حتى يستوعب الإنسانُ الحقَّ. أمَّا إذا شهدنا بكلماتٍ لا نعرف معناها ولا عُمقها؛ فهنا نكون كمَن لا يشهد إطلاقاً، إذ تكون شهادة بلا قيمة، وبالتالي لا تُقبَل شهادتنا! المسيح يطلب الذين يشهدون له، وهـو يطلب الساجدين له، وكذلك «الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ» (يو 4: 23). المسيح يطلب أننا نُمجِّده ليلَ نهار؛ لأننا إذا مجَّدناه نكون قد وصلنا إلى مفهوم مجد الله، الذي هو يفوق كل أمجاد الدنيا!
مَن هو الذي يُمجِّد المسيح؟
ولكن، مَن هو الذي يُمجِّد المسيح؟ يُمجِّده مَن يرفع مجد المسيح فوق أي مجدٍ آخر! يُمجِّده مَن يرفع مجد المسيح فوق أمجاد العالم! هذا هو الذي يُمجِّد المسيح. هنا المسيح يطلب الذين يشهدون له، كما قال: «رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 15: 27،26)، «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مر 16: 15).فالكرازة بالإنجيل هي شهادةٌ، والشهادة تمجيدٌ لاسم المسيح. فالشهادة والتمجيد صنوان عزيزان لا يفترقان أبداً. فكل مَن يشهد يُمجِّد الله، وكل مَن يُمجِّد الله يشهد له. المسيح بعدما صعد إلى أعلى السموات، أرسـل موعـد الآب لكي يشهـد له. لماذا؟ لأن الكرازة بالمسيح ما زالت سارية في العالم، بالروح القدس وبنا نحن! إذا توقَّفت الشهادة، انتهت الكرازة بالمسيح في الأرض كلها، ولذلك قال الرب: «وَلكِنْ مَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ، أَلَعَلَّهُ يَجِدُ الإِيمَانَ عَلَى الأَرْضِ؟» (لو 18: 8)، أي يجد الشهادة له! ولذلك أين نحن مـن الشهادة للمسيح؟ فالروح القدس لا يمكن أن يقف عاطلاً عن الشهادة للمسيح!
والآن، سأسرد الشهادات التي قالها المسيح من أجل خلاصنا: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ» (يو 5: 34)، «وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضاً» (يو 15: 27). فعلى أيِّ أساس نشهد؟ على أساس الشهادة التي شهد بها المسيح عن نفسه، لأنه هو الحق. وما هو منهج الشهادة؟ نحن لا نشهد من عندياتنا، ولا نخترع شهادةً مُعيَّنة؛ فالرب يسوع هو الذي وضعها كلها!
شهادة الرب يسوع عن نفسه:
+ «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إِلاَّ الَّذِي نَزَلَ مِـنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُـوَ فِي السَّمَاءِ» (يو 3: 13).
معنى هذا أنَّ السماء انفتحت لنا!
+ «أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ» (يو 6: 51).
معنى هذا أننا نقتني الحياة!
+ «مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلاَئِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ» (يو 1: 51).
إذن، فقد انفتحت السماء بعد قرونٍ طويلة!
+ «مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ» (يو 6: 54).
نحن نأكل جسد الرب ونشرب دمه كل يوم، ولذلك فلنا حياة كل يوم. فنحن لا ننتظر الحياة الأبدية، ولكننا نعيشها منذ الآن!
+ «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي» (يو 6: 57).
نأكلك يا ربنا يسوع المسيح؛ إذن، فنحن الآن أحياء بك وفيك للآب!
+ «إِنْ عَطِشَ أَحَدٌ فَلْيُقْبِلْ إِلَيَّ وَيَشْرَبْ» (يو 7: 37).
من الآن لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنه عطشان بالروح أبداً، فالينبوع مفتوحٌ: «مَنْ آمَنْ بِي، كَمَا قَالَ الْكِتَابُ، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يو 7: 38). تشرب أنت، وتروي الناس العطاشَى!
+ «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا» (يو 4: 10).المسيح كما قـال للسامريـة: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»؛ يطلب منَّا أيضاً أن يشرب، يشرب من صلاتنا، من دموعنا، من قَرْع صدورنا، من سجودنا. فالمسيح ليس عطشاناً للماء الذي تحمله السامرية، ولكنه عطشانٌ لها، لخلاصها؛ فهو عندما رواها من مائه الحي، ارتوى هو!
+ «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ... طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34،32).
+ «وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ» (يو 4: 14).مـاء المسيح يروي. إذا دَخَلْتَ في أعماق الكلمة، تروي عطشك لسنين قادمة. الكلمة الواحدة إذا انفَتَحَتْ لك، تعيش بها طوال العمر!
+ «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ» (يو 4: 32).عرِّفنا، يا ربُّ، ما هذا الطعام؟ «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ» (يو 4: 34). هذا هو الطعام الحقيقي، أن نصنع مشيئة الله. هذا هو غذاؤنا الذي سيرفعنا إلى أعلى!
+ «مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ» (يو 9: 5).لقد عرفنا، يا ربُّ، أنه ليست لنا ظلمة! كل مَن يقول إنه يعيش في الظلمة، فهو لا يقول الحق. لا يستطيع أحدٌ أن يقول إنه مظلومٌ، لأن معنى أنه مظلومٌ، أي أنه يعيش في الظلمة. نور العالم غير منطفئ أبداً، ولا يمكن أن ينطفئ!
+ «أَنَا قَدْ جِئْتُ نُوراً إِلَى الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ» (يو 12: 46).آمِن بالرب يسوع المسيح، فتنفتح لك العين العالمة بكـلِّ شيء، العين التي ترى وتعرف وتفهم حتى أعماق الله!
+ «لأَنَّـهُ كَمَا أَنَّ الآبَ يُقِيمُ الأَمْوَاتَ وَيُحْيِي، كَذلِكَ الاِبْـنُ أَيْضاً يُحْيِي مَـنْ يَشَاءُ» (يو 5: 21).نحن موتاك، يا ابن الله، وقد حيينا بك، ونحيا كل يوم!
+ «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْـنِ اللهِ» (يو 5: 25).الآن، يـا ربُّ، يا ليته يكون. أيها الأموات، أتسمعون صوت ابـن الله؟ «وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ». هذا وعدٌ، والله لا يحنث بوعده!
+ «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يو 11: 25).مُتنا، يا ربُّ، وحيينا فيك، وكل يوم نموت ونحيا!
+ «اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ» (يو 5: 24).نعم، قـد انتقلنا، يا ابن الله. فـلا دينونة الآن علينا. نحن قد عبرنا الدينونة، لأننا آمنَّا بك، يا ابن الله. قد سمعنا كلامك، ودخل قلوبنا، فلن يَقْوَى علينا الموت!
+ «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ إِلَيَّ الْجَمِيعَ» (يو 12: 32).أيها القطب الجاذب، نحن فيك، يا ربُّ، ناظرين إلى فوق، وعيوننا لا ترتخي إلى الأرض!
+ «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي» (يو 14: 6).نعم، يا ربُّ، نحن نسير في طريقك، فلنا فيك حياة. ولا يمكن أبداً أننا نَزِلُّ، لا يميناً ولا يساراً، لأنك أنت هو ”الطريق“. نحن لا نسير على الطريق، أنت الطريق، ونحن نسير بك وفيك!
+ «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (يو 14: 6).رأيناك، يا ابن الله، في قلوبنا. رأيناك في كلِّ كلمة. رأيناك في إنجيل كل يوم، ورأينا الآب فيك!
+ «قَالَ يَسُوعُ: ”الآنَ تَمَجَّدَ ابْنُ الإِنْسَانِ وَتَمَجَّدَ اللهُ فِيهِ. إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ تَمَجَّدَ فِيهِ، فَإِنَّ اللهَ سَيُمَجِّدُهُ فِي ذَاتِهِ، وَيُمَجِّدُهُ سَرِيعاً“» (يو 13: 32،31).المجد الذي لك، يا ابن الله، محفوظٌ لك. ونحن أيضاً مجَّدنا ونصيبنا السماوي محفوظٌ لنا فيك!
+ «أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يو 8: 23).ونحن أيضاً، يا ربُّ، لم نَعُد ولم نَصِر من هذا العالم!
+ «فَقَالَ لَهُ بِيلاَطُسُ: ”أَفَأَنْتَ إِذاً مَلِكٌ؟“ أَجَابَ يَسُوعُ: ”أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ“» (يو 18: 37).نحن نشهد بشهادتك، يا ابن الله، أنك أنت أتيتَ وشهدتَ واعترفتَ الاعتراف الحسن أمام بيلاطس البنطي!
+ «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الاِبْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الاِبْنُ وَمَنْ أَرَادَ الاِبْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (مت 11: 27؛ يو 13: 3).نشكر الله، لقـد انكشفت لنا أعماق الله. انكشفت لنا كـل أسـرار الله الآب في المسيح يسوع. لم نَعُد معوزين شيئاً مـن معرفة كل الأمور التي عند الآب، فقد أخبرنا بها الرب يسوع. قد صارت لنا السموات منذ الآن كصفحةٍ مقروءة، ككتابٍ مفتوح، نقرأه كل يوم!
+ «فَـإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلاَئِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُـلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ» (مت 16: 27).أعمالنا، يا ربُّ، وراؤنا، وأنت أمامنا. قد مَحَوْتَ كل خطايانا كغيمة صيف. نحن أمامك وأمام الآب بلا لوم في المحبة وقدِّيسون!
+ «وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلاَئِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ... ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (مت 25: 31-34).كل الذين باركوا الآب، سيجلسون عن يمينه، وسيُقال لهم: «رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ»! نُباركك، يا ابن الله، ونبارك أباك الصالح، كل يوم وكل لحظة!
+ «دُفِعَ إِلَيَّ كُـلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ، فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ...» (مت 28: 19،18).يقـول المسيح: ”بسلطاني، بالكلمة التي سأنطقها في أفـواهكم، بـالروح الذي سأسكبه على ألسنتكم؛ سوف تذهبون وتكرزون“!
«هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ مَوْعِدَ أَبِي» (لو 24: 49).
يا أحبَّائي، انظروا، هـذه هي شهادات المسيح عن نفسه. انظروا كيف أنها كلها تنطق بمجده، مع أنه لا يطلب من ورائها مجداً لنفسه!وفي كل هذه الشهادات التي شهدها المسيح، يَصدُق قوله: «وَلكِنِّي أَقُولُ هذَا لِتَخْلُصُوا أَنْتُمْ». ففي كل آية من هذه الآيات التي ذكرناها آنفاً، تكمن زاوية من زوايا خلاصنا.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
12 أبريل 2021
إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون
إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع السادس من الصوم المقدس
المزمـور: «1خَاصِـمْ يَـا رَبُّ مُخَاصِمِيَّ. قَـاتِلْ مُقَاتِلِيَّ. 2أَمْسِـكْ مِجَنًّا وَتُـرْساً وَانْهَضْ إِلَى مَعُونَتِي» (مز 35: 2،1).
الإنجيل: «1وَكَانَ حَاضِراً فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَوْمٌ يُخْبِرُونَهُ عِنِ الْجَلِيلِيِّينَ الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ. 2فَأْجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: ”أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ 3كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ. بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ. 4أَوْ أُولئِكَ الثَّمَانِيَةَ عَشَرَ الَّذِينَ سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْبُرْجُ فِي سِلْوَامَ وَقَتَلَهُمْ، أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ 5كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ“» (لو 13: 1-5).
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين
إنجيل القدَّاس:
لقد أعطى الرب يسوع، في إنجيل قدَّاس هذا الصباح، مَثَلَيْن للكوارث التي يُفَاجأ بها الناس:
أولاً: الكوارث الاجتماعية:
ومَثَلُها الذي يُقدِّمه الإنجيل: صِدَامٌ دموي بين الجليليين وجنود الرومان داخل الهيكل، حتى اختلط دم الذبائح بدم مُقدِّميها.ويتبعها كل الكوارث التي يتسبَّب فيها الإنسان نتيجة سوء تفاهُم أو تعدٍّ على حقوق، أو ابتزاز ونَهْب، أو كراهية فئوية أو جنسية أو عِرْقيَّة أو دينية أو استعمارية؛ وهي التي يقع تحتها المظاهرات وما ينشأ عنها، والحروب وما ينشأ عنها، والاضطهادات وما ينشأ عنها.
ثانياً: الكوارث الطبيعية:
ومَثَلُها الذي يُقدِّمه الإنجيل: سقوط بُرْج على الناس الذين فيه وموتهم.ويتبعها كل الكوارث التي تنشأ من الطبيعة، ولا دَخْل للإنسان فيها، كالزلازل والبراكين والأعاصير والعواصف والفيضانات وكـل مـا ينشأ عنها، من اختفاء قارات ومُدن وبيوت وأبراج، وحرائق؛ وكذلك الأوبئة والأمراض والجفاف وتعدِّي الحيوانات.
وجهة نظر المسيح فيها عموماً:
لم يشأ المسيح أن يدخل في تفاصيل هذه الكوارث، ولكنه أعطى قانونه في أسبابها وكيفية تلافيها:
1. فهو أولاً يرتفع بأسبابها الظاهرة المحدودة، فلا ينسب سببها إلى خطيةٍ ما من جانب المنكوبين، وكأنهم أكثر خطية من الذين نَجَوْا أو الذين لم يلحقهم الأذى: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ الْجَلِيلِيِّينَ كَانُوا خُطَاةً أَكْثَرَ مِـنْ كُـلِّ الْجَلِيلِيِّينَ لأَنَّهُمْ كَابَدُوا مِثْلَ هذَا؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ...» (لو 13: 2). كذلك الذين قتلهم البُرْج الساقط: «أَتَظُنُّونَ أَنَّ هؤُلاَءِ كَانُوا مُذْنِبِينَ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ السَّاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ...» (لو 13: 4).
2. إنذار: الكوارث موجَّهة كإنذارٍ للذين نَجَوْا، وللباقين أيضاً. هذا واضحٌ من قول المسيح: «بَلْ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ». أي إنَّ الكارثة عظة تُوجِّهنا للتوبة. هذا في أحكام الله وقوانينه التي تتحكَّم في مصائر الناس. إذن، فعليك إذا تواجَهْتَ مع كارثةٍ، فلا تبحث عن سببها ونتائجها؛ بل أول ما يجب أن يخطُر ببالك أنها إنذارٌ، وهذه عظةٌ لك. فإنْ لم تَتُبْ، فسوف تهلك كذلك.
3. ردُّ فعل: ولكن هناك في هذه العظة والإنذار ما يفيد تماماً أنَّ هذه الكارثة هي نتيجة خطية، وبقوله: ”إنَّ الذين ماتوا لم يكونوا أكثر خطيةً من الباقين“، يُوضِّح أنَّ سبب الكارثة هو خطية الذين ماتوا وخطية الذين نَجَوْا على السواء؛ بمعنى أنَّ الكارثة هي ردُّ فعل لخطية الجماعة كلها.إذن، الكارثة الصغرى التي حدثت هي إنذارٌ لكارثة أكبر قادمة. هذا قانونٌ إلهي سارٍ منذ البدء: فمعروفٌ أنَّ الطوفان كان ردَّ فعل مُباشر لازدياد خطايا البشر بصورةٍ تعدَّت حدودها المسموحة من الله، كأنَّ الله عنده حدودٌ لمستوى الخطية وكثرتها؛ هذا بصورةٍ عامة. كذلك، وبصورةٍ محدودة، خاصة من حيث نوع الخطية. فإنَّ هذا حدث أيضاً في مدينة سدوم وعمورة، إذ تسبَّبت خطية مُضاجعة الذكور وحدها بحَرْق المدينة بأَسْرها. وهي التي نسمع عنها في هذه الأيام، والتي نتج عنها مرض ”الإيدز“. هنا وَضْع سوابق مُطبَّقة، فهي قوانين إلهية مُطبَّقة عن سوابق واضحة جداً ومُسجَّلة من حيث الكَمِّ ومن حيث النوع.
4. هلاكٌ مُعَدٌّ مربوطٌ بالتوبة أو عدمها: ولكن قول المسيح: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ» (لو 13: 3)، إنها نبـوءة واضحة، أنَّ هناك هلاكاً قادماً بسبب الخطية، ولكن مجيء هذا الهلاك القادم مشروطٌ: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا». أي إنَّ الهلاك المُعدَّ يمكن للتوبة أن ترفعه وتتجاوزه، كما حدث لأهل نينوى، فتوبتهم رَفَعَت عنهم الهلاك المُعدَّ لهم!!
5. هلاكٌ للجميع: ولكن في قوله: «جميعكم»، يُوضِّح المسيح أنَّ الهلاك القادم خطيرٌ بل ومُريعٌ؛ فهو سيشمل ”الجميع“. وهذا ما تمَّ بالفعل بعد كلام المسيح هذا بأربعين سنة تماماً، عندما اكتسح الرومان أورشليم وهدموها على مَنْ فيها، بأسوارها وأبراجها، حرقوا هيكلها، وذبحوا كل الكهنة الذين تجمَّعوا وانهمكوا في تقديم الذبائح، واختلط دم الذبائح بدم مُقدِّمي الذبائح، وعلى نفس المذبح، وأُخلِيَت البلاد من جميع سُكَّانها!! فتمَّت النبوَّة بالحرف الواحد.هنا الذي يضمن شدَّة تنفيذ القانون، هـو الرحمة مع القُدرة. فقُدرة الله لانهائية في السَّحْق وفي الرحمة معاً. والاثنان واقفان مقابل بعضهما البعض، والواحدة منهما قادرة على تعطيل الأخرى.
6. ولكن الذي يسترعي انتباهنا، أنَّ الكارثتين المذكورتين في هذا الإنجيل، واللتين جعلهما المسيح إنذاراً لِمَا هو آتٍ، قد تَمَّتا بالفعل على المستوى الجماعي؛ إذ تهدَّمت الأسوار بأبراجها على مَن فيها، وذُبِحَ الكهنة مع ذبائحهم.وهكذا اتَّضح، وعلى المستوى التاريخي، أنَّ إنذار المسيح تمَّ بالفعل وعلى نفس مستوى النموذج الذي استخدمه المسيح.
7. التوبة تُغيِّر قضاء الله: ثم إذا بدأنا نحسب قَصْد المسيح من تعليمه وتقديمه لهذا القانون، يتَّضح لنا أنه لم يكن إنذاراً تهديديـاً؛ بل كـان بمثابة رجاءٍ وحثٍّ على التوبة. المسيح يرى الحاضر، ويرى القادم، ويرى وسيلة الخلاص من القضاء الذي سيتحتَّم وقوعه. فهنا تظهر التوبة أمامنا بجلاءٍ، كقوةٍ عُظمى قادرة أن تُغيِّر قضاء الله وقانونه المحتوم.لذلك إذا عُدنـا مرَّة أخرى لقول المسيح: «إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ»، نراه يكشف، بصِـدْقٍ، كيف أعطى للإنسـان حـقَّ ”الفيتـو“ (أي ”توقيف“) الأحكام والقوانين الحتمية.فالتوبة هي، في حقيقتها، التجاءٌ إلى الله نفسه صاحب القضاء والحُكْم والقانون، وهو نفسه الذي في يده سُلطان رَفْع الخطية التي تستوجب القضاء والحُكْم، وعلى أساسها يستمدُّ القانون سلطانه.والعجيب في شأن الله، كقاضٍ عادلٍ، أنـه أَلزم نفسه تجاه الإنسان. فإذا تاب إليه الإنسان حقّاً، فإنه يستحقُّ ويستوجب العفو المطلق.هنا ترتفع قيمة التوبـة في عينَي أيِّ إنسانٍ، لكي تبلغ إلى قامة الله في قُدرتـه على تنفيذ الحُكْم، وفي نفس الوقت قُدرتـه على رَفْع الحُكْم؛ حيث استمرار الخطية تجعله يُنفِّذ الحُكْم، والتوبة تجعله يلغي الحُكْم.
8. عشرة في كلِّ مدينة: ولكن أغرب ما في كلِّ أحكام الله وقوانينه وقضائه، أنه لا يُلْزِم نفسه ولا يُلْزِم الإنسان بأن يتوجَّب توبـة جميع الخطاة، بل إنه لكي يعفو عن مدينةٍ بأَسْرها صَدَر ضدها الحُكْم بالحرق والإبادة، يكفي أن يتوب عنها عشرة أشخاص أتقياء فقط. هذا أعلنه الله في حديثه مع إبراهيم أبي الآبـاء، وبحوارٍ صادق معه، إذ استطاع إبراهيم أن يكشف - في قانون أحكام الله - كيف أنـه يكتفي بعشرة فقط في مدينةٍ كبيرة يتوبون ويصلُّون عن المدينة كلها، لكي يصدر الحُكْم بالعفو الجماعي (تك 18: 32).
9. مطلوبٌ فدائيون عن كلِّ العالم: من هذا نفهم أنَّ خلاص مدينة وخلاص أُمَّة وخلاص العالم، مُتوقِّفٌ على جماعاتٍ فدائية تُكرِّس حياتها الخاصة للصلاة والتقوى والتوبة عن نفسها وعن الآخرين. فإن أنتم تنبهتُم، تعرفون ما هي مسئوليتكم.روح القانون الإلهي العام الذي يتحكَّم في مصائر الناس والأُمم والشعوب والعالم كله إنَّ رَبْط المسيح الهلاكَ الناتج من الكوارث الاجتماعية والكوارث الطبيعية على السواء بتوبة الإنسان، يكشف بوضوح روح القانون الإلهي الذي يتحكَّم في مصائر الناس والأُمم والشعوب والعالم كله، والذي يقوم على اتِّجاهَيْن:
1 - إن ازدياد مُعدَّل الخطية هو حدُّ القانون السلبي الذي يتحكَّم في مصائر الناس والعالم.
2 - وإنَّ الشقَّ الطبيعي في العالم، بكلِّ حركاته وثوراته، مربوطٌ بالشقِّ الروحي للإنسان.
والقديس بولس الرسول يُؤمِّن على ذلك بقوله: «فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعاً إِلَى الآنَ. وَلَيْسَ هكَذَا فَقَطْ، بَلْ نَحْنُ الَّذِينَ لَنَا بَاكُورَةُ الرُّوحِ، نَحْنُ أَنْفُسُنَا أَيْضاً نَئِنُّ فِي أَنْفُسِنَا، مُتَوَقِّعِينَ التَّبَنِّيَ فِدَاءَ أَجْسَادِنَا» (رو 8: 23،22).فالطبيعة كلها تحت أصابع الله، ونحن بخضوعنا تحت أصابع الله، نحفظ الطبيعة مـن الهلاك. فالشقُّ الطبيعي في العالم، الذي ينذهل العالم من جبروته، والفناء الذي قد يحصل للعالم من جراء خطية الإنسان؛ كلاهما مُرتبطٌ بشدَّةٍ بالشقِّ الروحي للإنسان.
أربعة مبادئ أساسية:
والآن يمكن أن نستخلص المبادئ الآتية من إنجيل قدَّاس هذا اليوم:
1. إنَّ وراء كل كارثة، خطية تسبَّبت فيها.
2. وإنَّ كل خطية يتبعها كارثة كنتيجة حتمية.
3. وإنَّ كل كارثة هي، بحدِّ ذاتها، إنذارٌ للتوبة.
4. وإنَّ التوبة تُوقِفُ حدوث الكارثة.
ذلك بالنسبة للفرد أو الجماعة أو الشعب أو المدينة أو العالم، وبحسب نسبة معلومة لدى الله وحده.كما يمكننا أن نفهم، بالوعي المسيحي، ما يجري الآن حولنا:
أ - فإنَّ ما يُعانيه الإنسان المسيحي، فوق أنه يدخل حتماً في قانون: «... أَنَّهُ بِضِيقَاتٍ كَثِيرَةٍ يَنْبَغِي أَنْ نَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ» (أع 14: 22)، و«فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ» (يو 16: 33)؛ إلاَّ أنه بالنسبة لإنجيل اليوم، فإنه يَستعلِن لنا سرّاً آخر من أسرار مواجهة العنف، وما يتأتَّى بسببه من كوارث، على ضوء ما واجهه المسيح من آلامٍ وصَلْبٍ وموتٍ. فكما حَمَل المسيح خطايا العالم في جسده، وتحمَّل آلام الإنسان عامةً واحتملها في نفسه، بل كما وهو في أَوْج محنة الآلام والصَّلْب، فقد طلب من الآب السماوي أن يغفر خطايا أعدائه وصالبيه ليرفع غضب الله عنهم.
ب - هكذا أصبح منهجنا المسيحي يُحتِّم علينا أن نَعتَبِر أنَّ الآلام والأوجاع التي يُعانيها المسيحيون الأتقياء، هي على مستوى الفديـة، يَفْدون بها بـلادهم؛ وإذ يتحمَّلونها بشُكرٍ، يرفعون بها غضب الله عن مُضطهديهم.إذن، فالمنهج المسيحي مؤسَّسٌ على حقيقتين:
الأولى: حتمية احتمال الألم.
الثانية: حتمية الصَّفْح عن المُسيئين، ليس هذا فحسب؛ بل والإحسان إليهم، وطلب رَفْع غضب الله عنهم.
ألَم يَقُل المسيح: «أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ» (مت 5: 13)! فالملح يذوب ليُعطي مذاقاً لحياةٍ الآخرين والعالم.
ألَم يَقُل أيضاً: «أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ» (مت 5: 14)! والنور يحترق ليُضيء على الآخرين وفي العالم.
+ «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (مت 5: 44).
صـلاة:
+ ”«يَـا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ» (لو 23: 34). لا تجعل صليـبي وحياتي سبباً لدينـونتهم، أبداً يا رب. أنا مصلوبٌ من أجلهم. اغفر لهم“.
هذا هـو الشقُّ الثاني الذي يحكمنا كمسيحيين في هـذا البلد. إنَّ الذين يتألَّمون من كلِّ اضطهادٍ وضيـق، حتى إلى سَفْك الـدم؛ إنمـا يحملون، لا ذنبهم، ولكـن ذنـب الذيـن يضطهدونهم، ويطلبون مـن الله لهم الغفـران والرحمـة، حتى لا يغضب الله عليهم. نحـن فدائيون، نفدي الذين يضطهدوننا، ونفدي مدينتنا وبلادنا، لئلا يشملها العقاب!
ما أصعب الصليب! ما أمَرَّ الصليب!
ولكن، مـا أعظم الصليب! إذ ليس في كـلِّ مـا يُعْرَض على الإنسان مـن كرامـةٍ ومجدٍ ما يُساوي حَمْل الصليب؛ لا على الصدور، بل على الأكتاف حتى السقوط تحته!!
ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
29 مارس 2021
حديث خاص مع أبناء النور(1)
إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الرابع من الصوم المقدس
المزمـور: «16أَمَّـا أَنَـا فَإِلَى اللهِ أَصْرُخُ، وَالرَّبُّ يُخَلِّصُنِي. 17مَسَاءً وَصَبَاحًا وَظُهْرًا أَشْكُو وَأَنُوحُ، فَيَسْمَعُ صَوْتِي» (مز 55: 17،16).
الإنجيل: «1وَقَالَ أَيْضًا لِتَلاَمِيذِهِ:”كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. 2فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. 3فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ، وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. 4قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. 5فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ 6فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. 7ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. 8فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ. 9وَأَنَا أَقُولُ لَكُمُ: اصْنَعُوا لَكُمْ أَصْدِقَاءَ بِمَالِ الظُّلْمِ، حَتَّى إِذَا فَنِيتُمْ يَقْبَلُونَكُمْ فِي الْمَظَالِّ الأَبَدِيَّةِ“» (لو 16: 1-9).
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين
إنجيل القداس:
حديث اليوم، حديث المسيح الخاص مع أبناء النور، ولكنه يتكلَّم بحزم: «أَعطِ حساب وكالتك»، «وأنـا أقول لكم: اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلْم، حتى إذا فَنيتُم يقبلونكم في المظال الأبديَّـة».
ونحن لا نستطيع أن نفهم هذا المَثَل جيِّداً إلاَّ إذا تَم ضمُّه لمجموعة الأَمثلة التي على شاكلته، فتكون أربعة أمثلة:
المثل الأول: الغَني ولعازر (لو 16: 19-31):
معيار هذا المثل: ارتباط الحياة بعد الموت بالحياة الأبدية ارتباطاً شديداً، على أساس الفعل، فقد أَورد المثل، الفعل ونتيجة الفعل. فما نعمله على الأرض، تَظهر نتيجته في الحياة الأخرى، هذا ما يُوضِّحه مَثَل الغَني ولعازر. فالغَني كان مُتنعِّماً، وكان يلبس الأَرْجُوان والبَزَّ. الأرجوان هو القطيفة الحمراء، وهو يُلبَس في الشتاء؛ والبَزُّ هو الحرير، ويُلبَس في الصيف. فالغَني كان يتنعَّم كل يوم مُترفِّهاً، والتنعُّم والتَّرفُّه هو فوق طاقة الإنسان العادي أو المتوسط.
وأمام باب دار الغَني طُرِحَ مسكين اسمه لعازر، «مضروباً بالقُرُوح، ويشتهي أن يشبع من الفُتات الساقط من مائدة الغَني». هنا المسيح يرفع الحجاب مرةً واحدة، ويُظهِر هذين الوضعَيْن في السماء: «فمات المسكين وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم. ومات الغَني أيضاً ودُفِنَ (وهو يتعذَّب في اللهيب)». طبعاً اللهيب هنا هو لهيب الضمير. وكان الغَني يتوسَّل لأبينا إبراهيم أن يُرسِل لعازر ليَبُلَّ طَرَف إصبعه بماءٍ ويُبرِّد لسانه، وهو نفس الإصبع الذي كان لعازر في حياته البائسة ينبش به القمامة ليعثر على كِسْرة خُبز.
المثل الثاني: الغَني الغَبي (لو 12: 16-21):
معيار هذا المثل: إمَّا أن تكنز في الأرض، أو تكنز في السماء. فهذا الغَني قال: «أَهدم مخازني وأبني أعظم، وأجمع هناك جميع غلاتي وخيراتي. وأقول لنفسي: يا نَفْسُ لكِ خيراتٌ كثيرة، موضوعةٌ لسنين كثيرة. استريحي وكُـلي واشربي وافرحي». فقـد عَمِلَ لحساب الأرض، ولم يعمل لحساب ما هو فوق، أي السماء. وفي أيامنا هذه، مِثْل إنسانٍٍ وجد أنَّ أسهمه في شركةٍ ما لم تَعُد تربح كثيراً، فسحب هذه الأسهم ووضعها في شركةٍ أخرى تُعطي أرباحاً أكثر، حتى لو كان القائمون على هذه الشركة هم من النَّصَّابين. ولكننا نسمع المسيح يُعقِّب على هذا المثل بقوله: «هكذا الذي يَكْنِزُ لنفسه وليس هو غنيّاً لله» (لو 12: 21).
المثل الثالث: الابن الضال (لو 15: 11-32):
معيار هذا المثل: إنسانٌ قادرٌ أن يُعوِّض عن الخسارة المُريعة التي لحقت به وأتلفت حياته في آخر لحظة، بأن يتوب ويرجع إلى أبيه، إلى الله. ونقرأ في المثل أن الأب عندما رأى ابنه آتياً وهو لم يَزَل بعيداً، «تحنَّن وركض ووقع على عُنقه وقبَّله»، وأعاده مرَّةً أخرى إلى رُتبة البنوَّة، وفَرِح به وصنع له وليمة، كما فرحت به السماء أيضاً، لأن هذا الابن «كان ميِّتاً فعاش، وكان ضالاً فوُجِدَ» (لو 15: 24).
+ هذا المثل يسند المثَلَيْن السابقَيْن. فهذا الابن «بذَّر ماله بعيشٍ مُسرف». فهو قد أَخَذَ الميراث الذي لأبيه وهو ما يزال حيّاً، وبَذَّره. ونحن عندما نُحوِّل هذه المفهومات إلى الحياة الروحية، نفهم أن هذا الميراث هو لله. فهذا الابن بَذَّر هذه الأموال وأتلفها، وكما قال الابن الأكبر لأبيه: «لَمَّا جاء ابنك هذا الذي أَكَلَ معيشتك مع الزواني، ذبحتَ له العِجْل المُسمَّن». فهذا الإتلاف هو إتلافٌ للجسد والروح. ولكن عندما انحطَّ هذا الابن إلى الحضيض، حتى أنه كان «يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله»، ولم يُعطِه أحد، وانحدر إلى مستوى الخنازير وهي في نظر اليهود ”نجسة“؛ قام من سقطته، ورجع إلى نفسه، وعاد إلى أبيه منكسراً نادماً. ففرِحَ به أبوه، كما فرحت به السماء. وكانت توبته أثمن من كل مقتنيات أبيه.
+ وإذا وضعنا هذه الأمثلة الثلاثة بجانب بعضها البعض، نجد أنَّ هذا التعليم الذي علَّمه المسيح بأمثالٍ كان ردّاً على كلام بطرس الرسول الذي قال للرب: «ها نحن قد تركنا كلَّ شيء وتبعناك. فماذا يكون لنا؟» (لو 19: 27). هنا المقارنة بين ما للأرض وما للسماء! ولذلك كان ردُّ المسيح على بطرس الرسول: «كلُّ مَن ترك... يأخذ مئة ضعف (هنا على الأرض) ويرث الحياة الأبدية» (مت 19: 29).
+ كما يمكن أن نضع هذه الأمثلة بجانب مَثَل الوزنات والمتاجرة الذي قاله الرب يسوع (مت 25: 14-30). فهذا، إذن، هو قانون ملكوت السموات: القانون الذي يربط الأرض بالسماء، الذي يربط الحياة الحاضرة بالحياة المستقبلة، الذي يربط المال بالروح، الذي يربط الحياة حسب الجسد بالحياة حسب الروح (انظر رو 8: 12-17). المقارنة بين محبة العالم ومحبة الله، ظهرت بوضوح في مَثَل الوزنات، إذ أُعطِيَت وزنات لكل واحد على قَدْر طاقته. فكل مَن تاجر بهذه الوزنات وربح، قال له سيِّده: «نِعِمَّا أيها العبد الصالح والأمين. كنتَ أميناً في القليل فأُقيمك على الكثير. اُدْخُل إلى فرح سيِّدك». أمَّا العبد البطَّال الذي لم يُتاجر بالوزنة، فقال سيِّده: «اطرحوه إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان».
+ وأيضاً لو أضفنا إلى هذه الأمثلة، مَثَل: اللؤلوة الكثيرة الثمن، الذي باع التاجر كل ما كان له واشتراها (مت 13: 46،45)؛ فنجد أن هذه مُقايضة جميلة جداً. فكل هذه الأمثلة هامة جداً في حياتنا المسيحية بحسب القانون الذي سيُحاسب به المسيح كل واحد مِنَّا.
المثل الرابع: وكيل الظلم (لو 16: 1-9):
معيار هذا المثل: الله يُعطينا الحياة التي فيها فُرص. الحياة فيها فُرص، فلابد لنا أن ننتهز هذه الفُرَص ونعمل المقايضة: نبيع الفاني الذي نقتنيه هنا، على أساس الأمثلة التي أوردناها سالفاً؛ ونقتني ما لا يَفْنَى والباقي إلى الأبد. فهذا المَثَل هو عملية مُقايضة، مُقايضة الفاني بالباقي. فالسيِّد «مَدَحَ وكيل الظُّلم إذ بحكمةٍ فعل»، وهي حكمة أهل العالم، حكمة مال الظُّلم، حكمة السلوك حسب الجسد. فالمسيح وضع نفسه في هذا المَثَل أنه هو السيِّد القدوس، وأنَّ كل ما وهبه لنا من مال وصحة وعافية وعينين وأُذنين وجسد ووقت وعقل ومعرفة للمواهب - جسدية وروحية - هذه كلها تُعتَبَر أمانات أودعها فينا ولنا؛ وهو صاحب هذه الأمانات كلها. أمَّا كل واحد مِنَّا، فهو وكيل على هذه الأمانات.
فوكيل الظلم - في المَثَل الذي قاله الرب - بدَّد وبذَّر أموال سيِّده، مع أنها ليست مِلْكاً له، لأن هذا الوكيل عَلِمَ أن سيِّده سيأخذ منه الوكالة، وهو ”لا يستطيع أن ينقب (يسرق) ويستحي أن يستعطي (يتسوَّل)“؛ فكيف - بمفهومه - يستطيع الحياة والأَكل والشُّرب، وهو لا يملك شيئاً؟ فهذا الوكيل اختلس أموال هذا السيِّد، على الورق فقط، «ودعا كل واحد من مَديوني سيِّده، وقال للأول: كم عليك لسيِّدي؟ فقـال: مئـة بثِّ زيت (معيار للسوائل). فقال له: خُـذ صكَّك واجلس عاجلاً واكتُب خمسين. ثم قال لآخر: وأنت كم عليك؟ فقال: مئة كُرِّ قمح (مكيال للحبوب). فقال له: خُذْ صكَّك واكتُب ثمانين» (لو 16: 5-7).
+ «فمدح السيِّد وكيل الظلم إذ بحكمة فعل». المسيح هنا يُريد أن يقول: ”أنا أُريدكم أن تحوزوا هذه الذهنية، سواء في المال أو الصحة أو كل ما تمتلكونه. فهذه كلها في الأصل ليست مِِلْككم، وأنا صاحب كل هذه الأمانات التي سلَّمتها لكم. فقدِّم أموالك للخير، وأنا أُعوِّضها لك مائة ضعف. ابذل صحَّتك من أجل الآخرين، وأنا أُعيدها لك أقوى وأفضل مما كانت“، كما يقول بولس الرسول: «أمَّا أنـا فبكل سرورٍ أُنْفِقُ وأُنْفَقُ لأجل أنفسكم» (2كو 12: 15). ”أُنفِق“ أي ”أُقدِّم ما عندي“؛ و”أُنفَق“ أي ”أموت من أجلكم“.
+ وهكذا كـأنَّ المسيح يقول لك: ”ابذل صحَّتك من أجل راحة الآخرين، ولا تخف، فإنني سأُعطيك هنا أجمل وأحسن منها مائة ضعف، ومعها هناك الحياة الأبدية. فكل ما تبذله لحسابي هنا، سأُضيفه أنا لحسابك هناك في الأبدية. أمَّا إن بدَّدتها لحسابك هنا، فقد أضعتها منك هناك إلى الأبد“.
هذا المثل دقيقٌ جداً، وهو يُحيِّر النفس، ولا يمكن فهمه إلاَّ على هذا الأساس: إنَّ كل ما عندك من مال وصحة وأب وأُم وأخ وأُخت وامرأة وأولاد... إلخ، كل هذه ليست مِلْكاً لك، وإنما هي مِلْكٌ للمسيح، وهو الذي يهبها لك. فإن ترك الإنسان كل هذه من أجل المسيح، يُعطيه هنا مائة ضعف، وهناك يهبه الحياة الأبدية في السماء. وإذا قدَّم الإنسان عواطفه، تلك التي تربطه بأهله وبالعالم، حُبّاً في المسيح؛ سيهبه المسيح ما هو أقوى منها، سيهبه عواطف أرقى بكثير مما قدَّمه، تنطلق إلى العواطف الروحية.
في الحقيقة، فإنَّ مَثَل وكيل الظلم قائمٌ على هذه الفكرة: «اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلم»، لأن «أبناء هذا الدَّهر أَحْكَم من أبناء النور في جيلهم». وذلك لأن أبناء الظلمة، يأخذون المال التافه الذي مآله إلى الفناء ويتمتَّعون به، ويعملون لهم به أصدقاء؛ بينما أنتم أولاد النور يُمكنكم أن تستغلوا هذا المال وتكسبوا به أصدقاء، ومن خلاله تفوزون بالحياة الأبدية، كما يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس: «أَوْصِ الأغنياء في الدَّهر الحاضر أن لا يستكبروا، ولا يُلقوا رجاءهم على غير يقينية الغِنَى، بل على الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنًى للتَّمتُّع. وأن يصنعوا صلاحاً، وأن يكونوا أغنياءَ في أعمالٍ صالحة، وأن يكونوا أسخياءَ في العطاء، كُرماءَ في التوزيع، مُدَّخرين لأنفسهم أساساً حسناً للمستقبل، لكي يُمْسِكوا بالحياة الأبدية» (1تي 6: 17-19).
+ مـا معنى ”أسخياء في العطاء“؟ أي أن يُعطي الإنسان للآخرين بلا حدود، وعند الاقتصاديين هذا ”تبديد“؛ ولكن المسيح يُحرِّض على هذا طالما للخير ولمساعدة الآخرين: «المُعطي فبسخاء» (رو 12: 18)، «المُعطي المسرور يُحِبُّه الله» (2كو 9: 7). فمَن يكون هذا الإنسان الذي يُعطي وبسرور؟ هو الإنسان الذي يشعر أن هذا المال ليس مِلْكه، بل هو أمينٌ عليه فقط. ولذلك نجد أنَّ الإنسان الذي بلغ هذا الإحساس لا يُبالي أبداً بالأرقام؛ بل يَحسِب هذه الأموال أنها مِلكٌ للربِّ، وهو عندما يهبها للمحتاجين، فهو يردُّها إلى صاحبها، أي إلى المسيح. وبالرغم من أن الآخرين يحسبون ذلك الإنسان الذي يُبدِّد أمواله معتوهاً، وينال منهم السخرية؛ إلاَّ أنه يَعتَبِر هذه الأموال مِلْكاً للمسيح، وهو المسئول عنها، وهو الذي يقول له: ”بِعْ، واعطِ بسخاء وبسرور“، هـذه هي ذهنية وكيل الظلم. ومـن أروع الأمثلة للحياة المسيحية: التصرُّف في كلِّ ما في الحياة على مستوى أنها ليست مِلْكاً لنا.
مال الظلم:
”مـال الظلم“: ”الظلم“ بـاللغة اليونـانية ++++++، يعني: ”غير صالح“، ”غير بـار“؛ أمَّا +++++++ فتعني: ”صالح“، ”بار“. وهـذا يعني أنَّ ”مال الظلم“ هو ”مالٌ لا يَمُتُّ للبرِّ بِصِلَة“. ومعروفٌ أنَّ «محبة المال أصل لكلِّ الشرور، الذي إذ ابتغاه قومٌ ضلُّوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة» (1تي 6: 10). ولكن مال الظلم هذا، المال البطَّال، عندما نُبدِّده ونوزِّعه لحساب المسيح يتحوَّل إلى مالِ برٍّ، ينتقل إلى الحياة الأبدية. ونحن نعلم أنَّ «العالم كله قد وُضِعَ في الشرير» (1يو 5: 19)، وأنَّ «الوقت (الزمن) منذ الآن مُقصَّر» (1كو 7: 29)، فهو زمنٌ شرير، وأيام شريرة. ولكن عندما نأخذ هذه الأيام التي تُعتَبَر شريرة، ونستغلها في الصلاة والسجود؛ عندئذ يتحوَّل هذا الزمن المُقصَّر الشرير إلى خلود داخلك، يتحوَّل هذا الزمن الرديء فيك إلى حياةٍ أبدية، وإلى خلود لروحك. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي أُعطِيَ له حق تحويل الزمن إلى خلود.
فالدقيقة التي تُصلِّيها تتحوَّل فيك إلى خلود، وإلى حياة أبدية في داخلك. إذا صلَّيتَ كل يوم، لا يبقى هذا اليوم كما هو في هذا الزمان الرديء، وإنما يتحوَّل لحساب الله، فيصير ألف سنة في الحياة الأبدية. أمَّا إذا صلَّيتَ سنة في حساب هذا الزمان، فستكون هذه السنة هي الأبدية بعينها بالنسبة لك، بالرغم أنَّ الأبدية ليس فيها أرقام أو أعداد. كلُّ شيء في هذا العالم فانٍ، ولكن المُقايضة تُحوِّل هذا الفاني إلى خالد، إلى حياةٍ أبدية. وهكذا فإنَّ الرب يسوع استطاع أن يُحوِّل هذا العالم المُتغيِّر إلى عالم أبدي. وهو قادرٌ أن يُحوِّل كل ما فيك، مِمَّا لا تتصوَّره، إلى مجدٍ، وإلى حياةٍ أبدية. وأنت نفسك تحوز صداقة مع الملائكة وأرواح الأبرار المُقدَّسين في السماء.
«اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظلم»:
مَن هم أصدقاؤنا؟ هم الأرواح المُبرَّرة في السماء. فعندما تنتقل من هذا العالم، فسوف تستقبلك الملائكة والأرواح البارَّة بالأحضان؛ لماذا؟ لأنك بذلتَ صحتك من أجل الآخرين، وقدَّمت المال للمحتاجين، وكل ذلك لحساب المسيح؛ فتكون النتيجة أنَّ أولئك الذين خدمتهم هنا على الأرض، يستقبلونك هناك في الأبدية بالفرح والتهليل. وهـذا هـو قانـون المقايضة: ترابٌ بمجدٍ، ملاليم بجواهرَ سمائية.
مقدار السعادة والغبطة التي يذوقها الإنسان حينما يبتدئ في التبديد والبَذْل لحساب الله، يحوزها من هنا في هذا العالم. فمهما حصلتَ على تكريمات ومُجاملات وأموال وأرباح وأشياء خاصة لك، فكل هذه لا يمكن أن تُقارَن بالإحساس الداخلي الرائع عندما توزِّع وتبذل كـل ما عندك لحساب المسيح ولخدمة الآخريـن.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
22 مارس 2021
العين البسيطة(1)
إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الثالث من الصوم المقدس (لو 11: 33-36)
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين
إنجيل القداس:
إنجيل هذا الصباح يتكلَّم عن موضوع هام جداً، ويُعتَبَر من أخطر المواضيع التي تُقابِل الإنسان الروحي في جهاده الروحي، وهو موضوع: ”العين البسيطة“. هذا الموضوع هو معيارٌ مسيحيٌّ من الدرجة الأولى، وهو يُعتَبَر امتيازاً عالياً للإنسان الروحي، ولذلك فهو يهمُّنا للغاية.
في إنجيل القديس متى يُزيد الموضوع توضيحاً، إذ يقول قبل آية العين البسيطة: «لأنه حيث يكون كنزُك هناك يكون قلبُكَ أيضاً» (مت 6: 21)، ثم يُكمِل ويقول: «سراجُ الجسد هو العين، فإنْ كانت عينُك بسيطة فجسدُك كلُّه يكون نَيِّراً. وإن كانت عينُك شريرة فجسدك كلُّه يكون مُظْلِماً» (مت 6: 23،22).
وفي الحقيقة، إذا أخذنا هذا التشبيه الذي ذَكَرَه الرب يسوع عن العين، كما أَخَذَه كثيرٌ جداً من الشُّرَّاح على أنه يعني ”العين الجسدية“، يكون الموضوع خارج السياق الذي قصده الرب يسوع. ولكن سوف نرى في شرحنا ما الذي يقصده الرب من كلمة: ”عينك“.
عمل العين وليس شكلها أو صفاتها:
الاتجاه الأول: أوضحه الرب يسوع، عندما لم يذكر ”عينَيْن“، بل قال: ”عين“ واحدة، بالمفرد. معنى هذا أنَّ الرب يقصد الاتجاه ناحية عمل ”العين“، وليس شكلها أو صفاتها.
الاتجاه الثاني: لقد ذَكَر الرب كلمة ”بسيطة“. وفي اللغة اليونـانية كلمة ”بسيطة“ ?????? تعني معاني قوية جداً، ولكن ولا معنى منها ينطبق على الجسد.
+ فعلى سبيل المثال، أحـد أهم هذه المعاني، أنها ”مُفردة“ ??????، ولكي نُزيدها إيضاحـاً فهي بـاللغة الإنجليزية single ”مُفرد“. ومعنى ذلك أنَّ العين هنا لا تحتمل معنى التركيب أو التعقيد أو الثنائية؛ بمعنى أنها لا يمكن أن تنقسم بين رؤيتَيْن.
+ المعنى الثاني لكلمة ”بسيطة“ ??????، أنهـا تعني ”مستقيمة“ باتجاهٍ إلى الأمام، وبالتالي فهي لا تحتمل معنى التعريج ما بين اليمين واليسار. وهذا المعنى نقرأه كثيراً في آيات الإنجيل.
+ المعنى الثالث أنَّ كلمة ”بسيطة“ ??????، تعني ”الصحة“ أي بـاللغة الإنجليزية healthy. وهذه الكلمة تعني أنها ليست ”مريضة“، وليس بها أية معوِّقات للرؤية.
+ المعنى الرابع لكلمة ”بسيطة“ أنها ”مكشوفة“ plain، أي ليس بهـا شيءٌ مختبئ أو متواري عن الأنظار.
والآن، إذا أخذنا كل هذه المعاني لكلمة ”بسيطة“، فهي:
single: ”مُفردة“، ”مستقيمة“.
clear: ”واضحة“، ”صافية“.
healthy: ”صحيحة“، ”سليمة“.
Plain: ”مكشوفة“، ”غير متوارية“.
إذا تمعنَّا في كل هذه الصفات، نجد أنها لا تنطبق عل العين الجسدية. وإذا انتبهنا للتعبيرات اللاهوتية عن طبيعة الله، نجد أنها ”بسيطة“ غير مُركَّبة. فهي تُعبِّر عن الطبيعة الروحية وليست الطبيعة الجسدية.
إذن، كلمة ”بسيطة“ وكلمة ”عين“ (بالمفرد) تُعطينا المفتاح للشرح. فإذا لم نعثر على هذا المفتاح، فسنحاول أن نُطبِّق الكلام على العين الجسدية، وهنا ننحرف عن السياق الذي قصده الرب يسوع ونتوه.
فإذا انحصرنا في نطاق الجسد، فما هو القصد من العين الجسدية البسيطة؟ وما هو معنى العين الجسدية الشريرة؟ فإنَّ الشر، ليس هو من الخارج، وإنما يصدر من الداخل! ومن هذا المنطلق يتضح أنَّ المسيح كان يقصد ”العين الروحية“. ومن هنا نبتدئ نفهم بداية شرح الآية.
ما هو القصد من العين الروحية البسيطة؟
فالقصد من العين الروحية، وبالمواصفات التي ذكرناها آنفاً، أنَّ الرب يقصد ”البصيرة“ وليس ”الإبصار“.
”البصيرة“ هي الإدراك الروحي للحق. فالإنسان الذي عنده ”بصيرة“، هو ذلك الإنسان الذي يستطيع أن يُدرك الحقَّ ويُميِّز بينه وبين الباطل؛ أما كلمة ”يُبصر“، فإنها تعني أن يرى الإنسان ظواهر الأشياء. فالعين التي يقصدها المسيح هنا هي مركز البصيرة وليس الإبصار.
والحق الذي يُدركه مَن لديه البصيرة، بالمفهوم الإلهي، وكذلك بالمفهوم الإنجيلي، هـو ”النور“، والباطل هو ”الظلمة“. فمركز البصيرة هنا يُدرِك الحق على أساس النور الإلهي.
عندما يُذكَر ”النور“، فهنا يستقرُّ على شخص الرب يسوع المسيح: «أنا هو نور العالم» (يو 8: 12). فللوقت تبتدئ العين تظهر أنها مركز لإدراك كل هذه الحقائق التي تستقرُّ في الرب يسوع المسيح.
فالعين البسيطة، هي العين الروحية التي انفتحت على المسيح وعلى الحياة الأبدية.
أما العين الشريرة، فهي عين روحية أيضاً، ولكنها انفتحت على الشرِّ. لأن العين الروحية عموماً هي من مُسلَّمات وهبات الله، وبها تُدرِك الطبيعةُ البشرية الحقَّ؛ وهي إما تنفتح على المسيح أو تنفتح على الخطيـة، وعلى ضوء ذلك تـأتي مُحاسبة الرب للإنسان. فـإذا انفتحت العين الروحيـة على الخطيـة والشر، أَظْلَمَتْ؛ وإذا انفتحت على المسيح، استنارتْ. وهذا الكلام واضحٌ جداً.
نعود مرة أخرى لشرح أوضح لكلمة ”بسيطة“ ??????:
+ single ”مُفردة“: أي لا تقبل غير رؤية واحدة، أي لا تقبل غير شخص المسيح، ولا تقبل أبداً أي بديل له.
+ straight ”مستقيمة“: أي تتَّجه نحو المسيح، ولا تميل ناحية اليمين أو ناحية اليسار. لا تحتمل التعريج أو الانثناء، بمعنى لا يُعطِّل اتجاهها إلى الأمام أي مُعوِّق أو عاكس.
+ healthy ”صحيحة“: أي ليست مريضة بأهواء وغوايات جسدية، وهي تستطيع بكل قوَّتها أن ترى المسيح.
+ clear ”صافية“: أي لا يشوبها شائبة، بمعنى قدرتها على صحة الرؤية بجلاء. وبالتالي فهي قادرة على الرؤية بدون تشويش، فلا تدخلها أو تتداخَل معها شوائب عالمية.
+ plain ”مكشوفة“، ”صريحة“: أي لا تُخفي شيئاً، ولا يختفي شيءٌ عنها. فهي عينٌ واضحة.
فهذه العين الروحية التي منحنا إيَّاها الله، هي العين التي تنفتح على المسيح.
معنى أنَّ المسيح ”فَتَحَ ذهن التلاميذ ليفهموا الكُتُب“؟
المسيح يريـد أن يضع العين في وضعها الصحيح. ولذلك فالمعيار الذي وضعه الرب يسوع معيارٌ عالٍ جداً: «ليس أحدٌ يُوقِدُ سراجاً ويضعه في خِفْيةٍ، ولا تحت المكيال، بل على المنارة» (لو 11: 33)، أي يضعه في أعلى مكان بالبيت، معنى ذلك أن الرب يتكلَّم عن العين الروحية.
فموقع العين الروحية، عند المسيح، هو في أعلى مرتبة بالنسبة للإنسان، وهي أهم عضو من أعضاء الإنسان. وهنا يأتي تركيز المسيح عليها في فَهم كل الإنجيل: «حينئذٍ فَتَحَ ذهنهم ليفهموا الكُتُب» (لو 24: 45).
ما معنى: ”فَتَحَ ذهنهم“؟ أي أنَّ العين الروحية انفتحت على الحق، ودخلها نور المسيح، أي الحق، فانكشف لها كل شيء عن المسيح. ولذلك كَشَفَ المسيح مقدار أهمية العين الروحية، ولذلك وضعها في أعلى مرتبة للإنسان، تماماً مثل السراج الذي يوضَع على المنارة في أعلى مكان في البيت.
فإذا كانت هذه العين مستقيمة أو صحيحة، فإن نور المسيح، النور الإلهي، يدخل من خلالها إلى داخل أعماق الإنسان. فالعين الصافية، غير المريضة، المستقيمة؛ لا تقبل شيئاً غير المسيح، وهي ذات اتِّجاهٍ مستقيم نحو المسيح. ولذلك فإنَّ الشعاع الإلهي، شعاع الحق، النور الحقيقي، يدخلها بدون عائقٍ، فتُنير كل ما في البيت، تُنير كل ما في الإنسان.
معنى: «يُضيء لجميع الذين في البيت»؟
«ولا يُوقِدون سراجاً ويضعونه تحت المكيال، بل على المنارة، فيُضيء لجميع الذين في البيت» (مت 5: 15).
فما معنى: «يُضيء لجميع الذين في البيت»؟ معناه: إنه يُضيء كل ما في الإنسان! عندما تكون العين الروحية بسيطة، حينئذٍ تُنير الفكر، القلب، الضمير، العواطف، المشاعر؛ وهي الأعضاء الداخلية غير المنظورة للإنسان. فيبتدئ نور المسيح بالحق، يُنير ما بداخل الإنسان، وذلك بدخول كلمة الإنجيل إلى القلب، بالقراءة الواعية، بالفهم الروحي. وحينئذٍ يستنير كل البيت، بمفهوم أنَّ «جسدك كلُّه يكون نَيِّراً».
وهنا نبتدئ بشرح معنى العين الجسدية. العين الجسدية أي من الجسد؛ ولكن العين الروحية ليست من الجسد. فإذا كانت العين الروحية سليمة؛ فـإنَّ نور الله، أو نور المسيح، أو المسيح، سيدخل؛ فيُضيء كل أعضاء الإنسان المنظورة (الجسدية) وغير المنظورة (الروحية).
أولاً فإنَّ نـور المسيح يُنير الفكر والضمير والعواطف والمشاعر والقلب، ثم بعد ذلك بالضرورة يُنير الجسد كله، كما قال بولس الرسول: «ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ أفآخُذُ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاءَ زانيةٍ؟ حاشا!» (1كو 6: 15)، وأيضاً: «ولا تُقدِّموا أعضاءكم آلاتِ إثمٍ للخطية... بل قدِّموا... أعضاءكم آلاتِ برٍّ لله» (رو 6: 13).
لـذلك إذا دخـل النور الإلهي إلى داخـل الإنسان، فإنـه ليس فقط يُنير أعماق الإنسان، بـل وتَستنير بـه أعضاء الجسد أيضاً. فهذا النور الروحي، نور المسيح الفائق الفعالية، إذا دخل الإنسان، عـن صحةٍ؛ يستقرُّ في الجسد أيضاً، ويُنيره، ويُميت الخطية الكائنـة في الأعضاء. وكـذلك يُطهِّر الفكر والقلب والضمير مـن الأعمال الميتـة. هـذا هو مفهوم العين الروحية البسيطة.
التأمُّل في الله:
إذا كانت العين الروحية سليمة ليس بها أي مرض، فسيتطلَّع الإنسان إلى ما هو فوق. فطالما كانت العين الروحية صحيحة ومستقيمة وليس فيها تعتيم، فإن النور الإلهي يدخلها وينفذ فيها ويُنيرها، فيكون نظرها دائماً إلى ما هو فوق: «بنورك، يا رب، نُعاين النور» (مز 36: 9). فالنور الإلهي إذا دخل إلى أعماق الإنسان، سينعكس على كل ما هو ظاهر أو خارج، فيحدث ما يُسمِّيه المتصوِّفون: ”التحديق“، وما يُطلِق عليه الروحيون: ”التأمُّل“، أو ما يُطلَق عليه ”التحديق في النور الإلهي“. أي التحديق في ”الحق“، أي في ”طبيعة المسيح“. فالإنسان الذي دخله شعاع النور، من خلال العين الروحية، يستطيع أن ينفُذ هو أيضاً - من خلال العين الروحية السليمة - لينظر ويتأمَّل في الله.
وكلما تأمَّلنا في الله، كلما انسكب فينا النور بصورةٍ أقوى. فهنا التحديق في نور الله، في الحق الإلهي، في شخص يسوع المسيح؛ يُزيد العين جلاءً، ويُزيد أعماق الإنسان استنارةً.
الذين يتأمَّلون في الروحانيات، إذا كنتم قد جرَّبتم هذا، فإنه يحدث لهم في بداية الطريق صُراخ، لماذا؟ لأن بمجرَّد أن يتأمَّل الإنسان في الحقِّ أو في النور أو في المسيح؛ ترتد العين الروحية. فالتحديق أو التأمُّل في النور الإلهي، يستغرق ثوانٍ، ثم ترتد العين عن التحديق أو التأمُّل.
ولماذا يرتدُّ الإنسان، أو العين الروحية، عن الرؤيا أو التحديق؟ لأن العين ليست مستقيمة كما ينبغي، ولذلك فهي تحتاج إلى تطهير وتنقية. ولذلك مداومة الإنسان على النُّسك والعبادة وقراءة الكتاب المقدس والاطِّلاع على الكتب الروحية وأقوال الآباء؛ يجعل العين الروحية صافية نقية. وعندما يزداد تحديق العين الروحية في الحق الإلهي، وتزداد فترات التأمُّل في آية من الآيات، أو في صفة من صفات الله؛ عندئذ يتركَّز الذهن مع القلب مع المشاعر مع الفكر، في الحق الإلهي، فيما هو فوق. ويستمر هذا التحديق أو التأمُّل لفترةٍ من الفترات، يعود بعدها الإنسان بغنيمةٍ روحية، ولا يعود فارغاً أبداً.
فكلَّما تأمَّلنا أكثر، ودام تأمُّلنا في الحق الإلهي أكثر؛ كلما أَخَذَت العين الروحية قـوةً للتحديق في النور الإلهي، واقتنت صفاتٍ روحية جديدة.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
15 مارس 2021
«انصفني من خصمي»قاضي الظلم(1)
إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الثاني من الصوم المقدس (لو 18: 1-8)
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين
إنجيل القدَّاس:
إنجيل هذا الصباح مُركَّز في آياته عن الأيام الأخيرة، وفي الأصحاح السابق (لو 17: 20-37) يتكلَّم المسيح عن علامات الزمان الأخير. ولذلك قال الرب يسوع في إنجيل هذا الصباح لتلاميذه: «وقال لهم أيضاً مَثَلاً» (لو 18: 1)، وذلك لكي يربط المَثَل بالآيات السابقة له. وفي البولس (رو 1: 18-25)، يتكلَّم بولس الرسول عن الخطية حينما تتفشَّى، «لأن غضب الله مُعْلَن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم»، وبدأ يذكر بولس الرسول العديد من الخطايا المنتشرة.
وفي الكاثوليكون (يهوذا 1-8) يتكلَّم يهوذا الرسول عن «سدوم وعمورة والمدن التي حولهما، إذ زنت على طريقٍ مثلهما، ومضت وراء جسدٍ آخر، جُعِلَت عِبْرَةً مُكابدَةً عقاب نارٍ أبدية».
وفي الإبركسيس (أع 4: 36-5: 11) تكلَّم عن شناعة الخطية في قصة حنانيَّا وسَفِّيرة.
وإنجيل هذا الصباح يتكلَّم عن أرملة تشكو من ظلم خصمها. ولكن يلزمنا أن نفهم أنَّ الكلام في هذا الإنجيل، وإنْ كان يتكلَّم عن الأيام الأخيرة وضيقات الأيام الأخيرة؛ إلاَّ أنه غير محصور في الأيام الأخيرة، ولكن أيضاً في كل ضيقة يُعانيها المؤمنون، لأن المسيح قال: «في العالم سيكون لكم ضيق» (يو 16: 33). ضيقات الأيام الأخيرة هي الصورة النهائية للضيقات التي سنجوزها في العالم، ولا يمكننا أن نَعبُر هذا العالم إلاَّ من خلال الضيقات.إذن، فكل تصوير يختص بالأيام الأخيرة من جهة الضيقات ومن جهة ضرورة الصلاة، ينطبق على كل يوم وكل لحظة نمرُّ بها ونُعاني فيها من الضيقات.
في إنجيل لوقا (17: 20-37) يكشف المسيح عن علامات الزمان الأخير، أنها مثل علامات الطوفان وعلامات سدوم وعمورة: «وكما كان في أيام نوح كذلك يكون أيضاً في أيام ابن الإنسان. كانوا يأكلون ويشربون، ويزوِّجون ويتزوَّجون، إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفُلْك، وجاء الطوفان وأهلك الجميع. كذلك أيضاً كما كان في أيام لوط، كانوا يأكلون ويشربون، ويشترون ويبيعون، ويغرسون ويبنون. ولكن اليوم الذي فيه خرج لوط من سدوم، أمطر ناراً وكبريتاً من السماء فأهلك الجميع. هكذا يكون في اليوم الذي فيه يُظْهَر ابن الإنسان». فعلامات آخر الزمان مترتِّبة على كثرة الخطية.ثم أوضح المسيح قائلاً: «إنه في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحد، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر. تكون اثنتان تطحنان معاً، فتؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى. يكون اثنان في الحقل، فيؤخذ الواحد ويُترك الآخر». كلام المسيح هنا مُصوَّب على الفردية. والخطورة هنا أن يختبئ الإنسان في الجماعة، أو يختبئ في الأسرة، أو يختبئ في الكنيسة، دون أن يعمل شيئاً. ولذلك يقول المسيح: «اثنتان تطحنان معاً، فتؤخذ الواحدة وتُترك الأخرى»، أي واحدة تُختَطَف إلى الملكوت، وأخرى لا يكون نصيبها في الملكوت، هنا الاتجاه مباشر للقلب.وبعد أن وصف المسيح الأيام الأخيرة وعلاماتها، ووصف نصيب الإنسان، «قال لهم أيضاً مَثَلاً في أنه ينبغي أن يُصلَّى كل حين ولا يُمَلَّ». ولم يربط المسيح الصلاة بالأيام الأخيرة فقط، ولكن كل حين. إذن، موضوع الإنجيل هو ”الصلاة بلا ملل“.
لماذا تأتي أزمنة الضيق؟
لابد أن نعلم أنَّ الله غير مُغرَم بالضيق. فالله أوجد جنة عَدْن، ووضع فيها آدم «ليعملها ويحفظها» (تك 2: 15)، وهي جيدة جداً، ولكن لما أخطأ آدم وامرأته فسدت الأرض نفسها. ثم تزايد شر الإنسان حتى جاء الطوفان. وهكذا في سدوم وعمورة، كان لوط يحيا في مدينة جميلة وأرض جيدة، لكن الإنسان أفسدها بشرِّه وخطيته. إذن، عمل الله جيد، ولكن الإنسان هو الذي يُفسده. وعندما تتعاظم الخطية تحلُّ العقوبة مباشرة.وواضح جداً ازدياد معدل الإثم والخطية في العالم الحاضر بصورة يلمسها جميع الناس وعلى جميع المستويات. والجميع الآن يصرخ ويئن من ازدياد الخطية وكثرة الإثم، وليس هذا فقط بل تنوُّعها بصورة لم تحدث قط منذ إنشاء العالم، وبانتشار أشد من الوباء.إذن، نحن نمرُّ في ضيقة عُظمى، ولا نستطيع أن نقول إنها الضيقة الأخيرة؛ ولكن من خلال علاماتها نرى أنها ضيقة مُرعبة، فهي ليست أقل من الضيقة الأخيرة. ولكن هناك تزييف واضح، لأن الخطية مستترة تحت أقنعة وهمية وثياب فاخرة. هذه الأقنعة والأشكال المزيَّفة التي تتخفَّى فيها الخطية هي لكي لا تتعرَّى وتنكشف باسمها الحقيقي، ولكي يصير بنو الإثم في غفلة لا يصحون منها. فصارت لهم عيون ولكنها لا تُبصر، وآذان ولكنها لا تسمع؛ لأنهم يرتضون ويُسرُّون بالخطية ولم يريدوا أن يأتوا إلى الرب، فهم لا يسعون إلى التوبة، ولذلك كما قال بولس الرسول: «لأنهم لم يقبلوا محبة الحق حتى يخلُصوا. ولأجل هذا سيُرسل إليهم الله عمل الضلال، حتى يُصدِّقوا الكذب. لكي يُدان جميع الذين لم يُصدِّقوا الحق، بل سُرُّوا بالإثم» (2تس 2: 12،11).
مَن هي هذه ”الأرملة“ التي تصرخ أمام قاضي الظلم؟
هذه الأرملة تُمثِّل ”الكنيسة“. كنيسة آخر الأيام التي فقدت عريسها، وانغمست في أمور هذا العالم؛ ولذلك تغرَّبت عن عريسها، وعريسها تغرَّب عنها. أصبحت أرملة عندما أخفقت في المتاجرة في الوزنات أي في الروحيات، واضطرت أن تُتاجر في الماديات، تتاجر في مال الظلم، وتتَّكل على مال الظلم. وحينئذ لِمَن تذهب؟ إلى قاضي الظلم لكي ينصفها!
اسمعوا كيف يقول الرب في وصفه للكنيسة في العهد القديم: «كيف جلست وحدها المدينة الكثيرة الشعب؟ كيف صارت كأرملة العظيمة في الأمم. السيدة في البلدان صارت تحت الجزية (جزية الخطيئة)، تبكي في الليل بكاءً ودموعها على خدَّيها (لا يرى الدموع إلاَّ أتقياء الله والمفروزين). ليس لها معزٍّ من كل مُحبيها. كل أصحابها غدروا بها، صاروا لها أعداءً» (مراثي إرميا 1: 1-2).
ثم مَن هي الأرملة أيضاً؟ هي نفسي أنا ونفسك أنت، التي تغرَّبت عن عريسها كأرملة تصرخ وليس مِن مُجيب. هذه هي أرملة آخر الزمان أيضاً.
النفس البشرية تعرَّت، ولكن إذا أفاقت النفس من غفوتها حينئذ سترى حقيقة هذا الكلام بالفعل. وعدو كل برٍّ قد عرَّاها من ثوب النعمة. وعندما عرَّاها من ثوب النعمة، أطلق عليها كلاب الشهوة، بعدما سرق الثوب! فصارت الشهوة تعمل فيها وبقسوة.ولكن، عندما تصرخ النفس متأوِّهة، مثل الأرملة أمام قاضي الظلم، يقول الرب: «أَفلا ينصف الله مختاريه، الصارخين إليه نهاراً وليلاً، وهو متمهِّلٌ عليهم؟ أقول لكم: إنه يُنصفهم سريعاً».فالرب يسمع للصارخين إليه نهاراً وليلاً، يسمع لمختاريه، يسمع للذين تابوا، للذين «غسَّلوا ثيابهم وبيَّضوا ثيابهم في دم الخروف» (رؤ 7: 14)، للذين سهروا وذرفوا الدموع، وسكبوا البكاء المتواصل، وقدَّموا الأصوام والصلوات.مَن هم المختارون؟ هم الصارخون إلى الرب نهاراً وليلاً!ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
08 مارس 2021
الصوم إطلالة على الملكوت
إنجيل يوم الاثنين من الأسبوع الأول من الصوم المقدس (مر 9: 33-50)
بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين
إنجيل القداس:
في الحقيقة على مدى العصور، كان لهذا الصوم المقدَّس شأنٌ خاص وكبير. وكلمات إنجيل قدَّاس هذا الصباح يمكن أن تُضَمَّ في ثلاثة معانٍ:
1. السائرون على الطريق.
2. المتعاركون في مَن هو أعظم!
3. عثرات الجسد وإمكانية التخلُّص منها.
فهذا الإنجيل، إذن، يضع لنا منهجاً متكاملاً، نُطِلُّ منه - للحظة بسيطة ولو لدقائق - على الملكوت.
نحن جميعاً نسير على الطريق، وأيُّ عِرَاكٍ في مَن هو أعظم سوف يُخرجنا من الطريق؛ لأن ”الطريق“ في الإنجيل هو المسيح نفسه، كما أنه ”الاتجاه“ نحو ملكوت الله.
ثم تأتي عثرات الجسد، إذ تثور أعضاء الجسد وتتصارع فيما بينها مثلما يحدث أن يتصارع الواحد مع الآخر. فالأعضاء تتصارع فينا كيما تُخرِجنا من الطريق.
الصوم وموسم هجرة الطيور:
وأستطيع تلخيص ذلك، فأقول: إنَّ موسم الصوم يُشبه موسم هجرة الطيور من أوطانها الباردة إلى مناطق أخرى دافئة، وخلال هذه الهجرة تُركِّز الطيور على تحليقها لتصل إلى مقصدها، دون أن تلتفت الإناث منها أو الذكور إلى فراخها الصغيرة الطائرة. وجميع هذه الطيور الطائرة على مسافاتٍٍ طويلة لا يُوجِّهها سوى الغريزة التي لم يستطع الإنسان حتى اليوم تفسيرها. فسِرْب الطيور يصل دائماً في الموعد وخلال نفس الطريق الذي سلكه سابقاً في رحلاتٍ سالفة.
فإن كانت الغريزة الطبيعية المغروسة في الطيور، وهي غريزة الهجرة، عجيبة بهذا المقدار؛ فكم يكون أعجب من هذا الغريزة الروحية المُعطاة لنا، وهي غريزة الهجرة إلى الملكوت. ولكن غريزة الهجرة إلى الملكوت، إلى وطننا الحقيقي والكامل، ما تزال غير واضحة في حياتنا.
فسِرْب الطيور المُهاجر، والذي يُركِّز كل انتباهه لبلوغ المناطق الدافئة، إذا فكَّر في التعارُك والصراع بين أفراده، أو إذا تحوَّل اهتمام بعض أفراد هذا السِّرْب إلى احتياجه للطعام؛ فقد يُعرِّض حياته للضياع والهلاك. فهجرة الطيور، إذن، هي هجرة صائمة غير مُعتمِدَة على أَكل أو شُرب، وبالتالي لا يوجد ما يُوجِّه هذا السِّرْب المهاجر سوى غريزة الهجرة إلى وطنٍ أفضل.
وهناك تفسيرات علمية عديدة ومختلفة لتعليل وتفسير هذه الغريزة عند الطيور المهاجرة. ولكن هذه الغريزة، غريزة الهجرة إلى الملكوت، هي عند الإنسان بصورة أعظم جداً مِمَّا عند الطيور. فلا يوجد إنسانٌ صادقٌ مع نفسه قد هاجر هجرة حقيقية وفَشَلَ.
فالهجرة الروحية ذات مفهوم عجيب، فهي هجرة من الذات، هي تركٌ للعشيرة وللوطن الأرضي، كما خرج إبراهيم وهو لا يعلم إلى أين يذهب. هي انطلاق إلى الوطن الجديد، دون أن نعرف الكثير عنه!
الهجرة في الطيور من أجل حفظ النوع والحياة. أما بالنسبة للسائرين في طريق الملكوت، فهي هجرة تتضمن معياراً روحياً لحياتنا الروحية، هي هجرة من الوطن والذات، اللذين هما أعظم مُسبِّبات العِرَاك والتشاحُن. وهي هجرة أيضاً من الأَكل (وهو أقلُّها)، أي هجرة صائمة.
وكأنما، يا أحبائي، فإنه عن طريق هذا الطير المهاجر، نستطيع أن نُدرك أن الأَكل والشُّرب إنما هما مُعطِّلان لنا في مسيرتنا إلى الحياة الأبدية.
وتطبيقاً على حياة الآباء، فإنَّ كل مَن استطاع أن يَعْبُر من ذاته، ومن شهواته؛ يأخذ مكاسب لا توصف من هذا الصوم. فامتناع الإنسان عن الأَكل، يتحوَّل فيه إلى حركة قيامة للجسد لا تقلُّ عن حركة المعمودية والتناول من الأسرار المقدسة.
الصوم سرٌّ عميق وطاقة روحية لبلوغ الحياة الأبدية:
فالصوم سرٌّ، أو هو في الحقيقة ديناميكية السر، أو الطاقة المُحرِّكة التي تربط ما بين المادة في الإنسان والروح في الله. الصوم طاقة عجيبة لا يمكن تفسيرها، ويمكن القول إنَّ الصوم مادي وروحي بآنٍ واحد، لأنه امتناع عن كل شهوة جسدية.
الصوم هو موهبة إنسانية تؤول إلى ديناميكية روحية لاستيعاب سرِّ الخلود. والصوم هو أيضاً دافعٌ للأسرار، وهو التاج الجميل للأسرار.
الصوم هـو الهجرة من الأرض إلى السماء، تتحقَّق وتنطبع قوتها فينا كخبرة تزداد كل يوم.والصوم في الكنيسة هو الوسط المُحرِّك للأسرار، ومن خلاله يأخذ الإنسان المهاجر مفعول الصوم القوي داخله. فيستطيع الإنسان، بصومه وبنعمة المسيح التي فيه، أن يُهاجر من الأرض إلى السماء، ومن ذاته إلى الحياة الأبدية.ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
23 فبراير 2021
آية يونان النبي
38:12 "حِينَئِذٍ أَجَابَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً".
بنوع من برود الأعصاب وعدم الاكتراث، بعد الذي سمعوه من المسيح يطلبون أن يروا آية. وكأنهم لم يروا شفاء الأعمى الأخرس أو بقية المعجزات. ولكن هذا في الحقيقة يُخفي عدم الإيمان وعدم الثقة معاً به وبأعماله، وما هذا الطلب إلاَّ نوعاً من التجربة. وكأنما يكرهون أن يسمعوا تعاليمه ويودُّون لو يسكت ليتسلَّوا بعمل آية.
"نريد أن نرى منك آية (من السماء)":
لم يعتبروا الأشفية ولا إخراج الشياطين آية، بل أرادوا آية "منك" أي شخصية تخص ذاتك ويكون مصدرها السماء، حتى نتعرَّف عليك بحسب ادعائك أنك أتيت من الله. وهذا فيه كثير من الصدق، لذلك ردَّ عليهم المسيح ردًّا صادقاً حقيقياً مُقنعاً، غير أنهم لم يفهموه بل كان يستحيل أن يفهموه، ولكن لا بد أن يفهموه!
39:12و40 "فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: جِيلٌ شِرِّيرٌ وَفَاسِقٌ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ فِي قَلْبِ الأَرْضِ ثَلاَثَةَ أَيـَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ".
ابتدأ المسيح بوصف الجيل الذي يطلب آية من السماء، أنه جيل فاسق وشرير، بمعنى أنه خرج عن علاقته الأمينة بالله كما تخرج الزانية عن علاقتها بزوجها. وليس ذلك فقط ولكنه جيل يمارس الخروج عن ناموس الحياة الخاضعة لله. وهذا هو الشر عين الشر. والآن فقد صار حالهم كحال أهل نينوى الذين أرسل الله لهم يونان: "وصار قول الرب إلى يونان بن أمتَّاي قائلاً: قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ عليها لأنه قد صعد شرُّهم أمامي" (يون 1: 1و2)، "بعد أربعين يوماً تنقلب نينوى" (يون 4:3). واعتبر المسيح نفسه بالنسبة لهذا الجيل الفاسق الشرير كيونان الذي جاء ينذر المدينة. فكما حدث ليونان وهو في طريقه لنينوى لكي ينقذها من الانقلاب الآتي عليها، أن ابتلعه الحوت وظلَّ في بطنه ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؛ هكذا سيصير المسيح وإنما في باطن الأرض. وهذه هي معجزة الخلاص، لأن بموت المسيح وبقائه في الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ تمَّت ذبيحة الكفَّارة ومات المسيح بالجسد، أي بالبشرية التي فيه، وهكذا كفَّر عن خطايا البشرية، وقام بالجسد أي البشرية المفتداة للمصالحة مع الله. لذلك احتُسِبَت الثلاثة أيام والثلاث ليالٍ في القبر أنها معجزة الجيل الفاسق الشرير - العظمى - لأن بهذه المعجزة الفائقة أُكمِلَت كل المعجزات وتمَّ استعلان المسيَّا كمخلِّص وفادي إسرائيل والبشرية قاطبة. وطبعاً قال المسيح هذا وهم لا يدرون ما يقول، ولكن كان لازماً جداً أن يرد المسيح على طلبهم، لأنه يبدو أنه كان طلباً صادراً عن رغبة الفهم والمعرفة، إذ لم تكفِهم معجزات الشفاء، وإخراج الشياطين، وهذا حق. فهذه المعجزات جميعاً لا تكفي لكي تحدِّد شخصية المسيَّا كمخلِّص وفادي إسرائيل. وهكذا أراح المسيح ضميره بأن قال لهم الحق الذي سيفهمونه فيما بعد، حتى وإن طال الزمن حتى الآن!!
أمَّا تعليقنا على الثلاثة أيام والثلاث ليالٍ فهي هكذا: النهار الأول أخذ ضمناً الليل السابق عليه، لأن اليوم اليهودي يُحسب من الغروب إلى الغروب، وأي جزء من النهار أو الليل يُحسب يوماً كاملاً، والمسيح استودع جسده في القبر قبل الغروب ثم دخل ليل اليوم الثاني، وهكذا يُحسب ما قبل الغروب يوماً كاملاً بليلته السابقة.فأول يوم هو يوم الجمعة لأنه حُسب له في القبر لأنه دُفن قبل الغروب + (ليلة السبت صابح السبت + نهار السبت = اليوم الثاني) + (ليلة الأحد صابح الأحد + الفجر = اليوم الثالث).
41:12و42 " رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا! مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكَمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا!"
أمَّا الآية التي طلبوها فقد قالها لهم ليرضي قلبه وضميره، أمَّا أعمالهم التي يعملونها فهي أنهم لم يسمعوا لا ليوحنا المعمدان ليتوبوا معترفين بخطاياهم ويعتمدوا، ليصيروا قادرين أن يسمعوا للمسيح ويفهموا حتى ينالوا معمودية الروح وسر الملكوت؛ ولا هم سمعوا لنداء المسيح حتى إذا قبلوه غُفرت خطاياهم وتُركت آثامهم. بل قالوا على يوحنا إن به شيطاناً وقالوا على المسيح إنه بشيطان يُخرج الشياطين. وكأن خلفية معرفتهم وفهمهم هي على أساس الشيطان، لينسبوا إليه كل الأعمال حتى الحق. وهنا يواجههم المسيح بالمصير الأسود أن رجال نينوى بل ونساءهم وأطفالهم سيقفون في الدينونة يفتخرون عليهم أنهم تابوا بمناداة يونان النبي. أمَّا هُم فلا للمعمدان اعترفوا وندموا، ولا للمسيح تابوا. فصارت دينونتهم فضيحة لحكمة إسرائيل ومهزأة لأولاد إبراهيم.وزاد المسيح بملكة التيمن أنها جاءت من أقصى الأرض لتسمع حكمة سليمان، أمَّا هم فقد داسوا أقوال الله على فم المسيح وأهانوها. فالذي كالوه للمسيح أشكالاً وألواناً من المراجعة والصدام والمَعْيَرة والإهانة والتهديد بالموت، بل والتعذيب قبل الصليب وعليه، سيصبح يوماً منظراً لكل العالم وهم واقفون يُسألون عنه وقد خرست أفواههم. وهكذا يا إخوة كل مَنْ لم يعمل للدينونة حساباً!!
43:12-45 " إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ، يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغاً مَكْنُوساً مُزَيَّناً. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ، فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِهِ. هكَذَا يَكُونُ أَيْضاً لِهذَا الْجِيلِ الشِّرِّيرِ".آخر ما يمكن أن يكشفه المسيح عن هؤلاء المتزعمين لجيل الكتبة والفرِّيسيين، وآخر ما كنَّا نظن أن نفتكر به. فالمسيح يوضِّح هنا سر كل الأمور التي عُرضت علينا والتي ستُعرض من جهة أعمال هؤلاء الحكماء والفهماء اليهود مع رؤساء كهنتهم وكهنتهم وشيوخ الشعب المتضافرين معهم، الذين ظهروا في النهاية عصبة واحدة متحدة قلباً وفكراً ونطقاً: "اصلبه اصلبه". فنحن كنَّا مذهولين من أعمالهم العدائية مع المسيح. لماذا؟ لماذا هذا الصدود المجاني؟ لماذا هذه المقاومة العلنية التي أضعفت إيمان الشعب؟ لماذا هذا الهجوم الفاجر ومحاولة القتل مراراً؟ ولكن عند الصليب انكشف المشهد الأخير عن قتلة محترفين وأعداء للحق والصدق والرحمة والعدل!!
والآن فقط وهنا وفي هذه الآية فهمنا سر رؤساء هذا الشعب الذين نكَّدوا على الشعب هذه القرون كلها، والله طالب خلاصهم وطالب ودّهم. يُرسل لهم الأنبياء جماعة وراء جماعة من خيرة رجال النعمة والعظماء حقًّا، أنبياء تفتخر بهم البشرية، ويزيِّنون تاريخ الله مع الإنسان. قاوموهم واضطهدوهم وقتلوهم ثم زيَّنوا قبورهم وجعلوها مزارات. ولكن بقيادة هؤلاء الرؤساء والمعلِّمين والربيين قادوا الشعب من عصيان إلى عصيان، وما كُنَّا ندري أنه لهذا الحد يبلغ بهم فجور العصيان والتمرُّد على الله، مَنْ كان يصدِّق؟ هوذا الآن نصدِّق، فقد كرروا تمرُّدهم هذه المرَّة على ابنه الوحيد الذي أرسله الله يطلب ودّهم ويطالب بالثمر، ثمر آلاف السنين تعزية ومعونة ونعمة وسخاء ومجداً لهذا الشعب الجاحد.والآن عرفنا، ومِنْ هذه الآية، أن الشيطان كان هو الذي يقودهم ويعلِّمهم أصول التمرُّد ويسوقهم أمامه لعبادة الأصنام والشياطين والنجاسة، لكي يغيظ الله بواسطتهم وقد نجح أعظم نجاح. ولمَّا جاء الابن أذاقه المرار بواسطة حكماء هذا الشعب وعلمائه وكتبته وكهنته الذين ورثوا مع الختانة الخيانة، الخيانة لعهد الله وكلامه ووصاياه، واجتمعوا على الابن الوحيد فهزأوا به ومرَّروا حياته ثم قتلوه!وجيل يسلِّم جيلاً حتى صارت عدد الشياطين الساكنة فيهم سبعة شياطين مضافة إلى الواحد، وكلَّها أشرّ منه، هؤلاء طلبوا آية فكانت آية الصليب!حنَّان، قيافا، شيوخ الشعب، كتبة، فريسيُّون، ناموسيُّون، هيرودسيُّون، سنهدرين، مشيخة الشعب، خُدَّام، كلها قِناعات لبسها الشيطان بعدما فرَّق الأدوار على الأبرار الكاذبين، وخرجوا بمظاهرة دينية رائعة يهدِّدون بيلاطس، وخاف بيلاطس طبعاً. اصلبوه أنتم!! لا ليست لنا عادة أن نقتل أحداً!! اقتله أنت. فسلَّمه إليهم فقتلوه!!
"هذه ساعتكم وسلطان الظلمة." (لو 53:22)
46:12-50 " وَفِيمَا هُوَ يُكَلِّمُ الْجُمُوعَ إِذَا أُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ قَدْ وَقَفُوا خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوهُ. فَقَالَ لَهُ وَاحِدٌ: هُوَذَا أُمُّكَ وَإِخْوَتُكَ وَاقِفُونَ خَارِجاً طَالِبِينَ أَنْ يُكَلِّمُوكَ. فَأَجَابَ وَقَالَ لِلقَائِلِ لَهُ: مَنْ هِيَ أُمِّي وَمَنْ هُمْ إِخْوَتِي؟ ثُمَّ مَدَّ يَدَهُ نَحْوَ تَلاَمِيذِهِ وَقَالَ: هَا أُمِّي وَإِخْوَتِي. لأَنَّ مَنْ يَصْنَعُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَواتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي".
جيِّد من القديس متى أن يأتي إلينا هنا بأخبار الأُم الطاهرة والتلاميذ الأتقياء لنشتَمَّ رائحتهم العطرة ونَبِلَّ ريقنا بعد أن نشّفه لنا هؤلاء الكتبة والفريسيُّون ونزحوا علينا روائحهم الكريهة!
مسكينة هذه الأُم المباركة القديسة زينة البشرية نبيَّة العهد الجديد وعزاء الأتقياء - جاءت تسأل عن ابنها! هي تعرف سرّه وتعرف سرّها، ولكن استودعت الكل قلبها وانتظرت ماذا ستكشف عنه الأيام. لا تستطيع أن تسير في الشوارع وحدها فجاءت تستند على أهل يوسف. لم تكن تطلب إلاَّ أن تراه فرأته من بُعد وارتاح قلبها وعادت.أمَّا هو فقد وجدها فرصة أن يعرِّفنا بالعائلة الكبيرة التي اتسعت لتضمنا. وهنا يكشف المسيح سر احتوائه للكنيسة الجديدة، كيف تآخى هو مع البشرية عندما صار بـِكْرَها بالتجسُّد، وكيف اتحدوا به في موته وقيامته، وكيف سلَّمنا جسده المقام من الموت لنصير فيه كلنا أعضاءً من لحمه وعظامه. وبالبداية وبالنهاية هي إرادة الآب السماوي التي صنعت منَّا كنيسة حيَّة واحدة إلهية. آباء وأُمهات وإخوة وأخوات، عجنة واحدة مقدَّسة، باكورة من خلائقه، أحبَّ أن يكون فيها هو الرأس فكان، وأحبنا أن نكون فيه الجسد فأعطانا!!
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
22 يناير 2021
الإبيفانيا
عنصر الإخصاب في الخليقة الجديدة(1)
لنا في كل عيد غطاس تأمل وعظة وعبرة وحياة، في عماد المسيح في الماء ونـزول الروح عليه في هيئة مجسَّمة كحمامة.تكلَّمنا وأفَضْنا جدّاً الكلام في دقائق الأمور الخاصة بالجوانب اللاهوتية والروحية، ولكن في هذا المساء نحاول أن نغطِّي هذا الموضوع بفكرة كبيرة على مساحة إنسانية وإلهية عريضة تبدأ من سفر التكوين وتنتهي عند جرن المعمودية.
أبدأ كلامي من سفر التكوين (1: 1 - 3) «في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة (لاحظوا هنا كلمة ”ظلمة“ مرادفة لكلمة ”خربة وخالية“) وروح الله يرفُّ على وجه المياه. وقال الله ليكن نور».هنا يبدأ تأملنا، وندخل في الحال في عمق الموضوع: هنا أمامنا الآن عناصر الخليقة الروحانية «من الماء والروح».نرجع للقديس يوحنا الرسول: «إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله» (يو 3: 5). إذن، هنا وعلى الأرض بدأ باب مفتوح للدخول إلى ملكوت الله.هذا كله قبل كل خليقة مادية، وقبل خلقة الإنسان الترابي نفسه، بل وقبل سقوطه وموته. هكذا وَضَعَ الله في المشورة العُظمى الإلهية، ليس عودة الإنسان وحسب، بل وخلقته الأخرى التي ستؤهِّله للدخول في مُلك الله!
«اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة» (أف 1: 4).هنا في الحقيقة شمول رؤيا يلزم أن يعيش فيها الإنسان المسيحي. فالله لا يتدرَّج في فكره أو يساير الإنسان في مراحله، ويعدِّل ويبدِّل في مشوراته على حسب واقع الإنسان، كما قد يبدو أحياناً حسب قصر النظر الروحي؛ ولكن الله هو هو أمس واليوم وإلى الأبد، كامل، وكماله يتسحَّب على فكره وعلى إرادته وعلى كل أعماله بالنسبة لكل إنسان منذ آدم حتى آخر إنسان يولد على الأرض. الإنسان يقوم ويسقط، ولكن الله هو الله، عالٍ وفوق كل عالٍ، في قيام الإنسان وسقوطه.والذي يسترعي انتباهنا جدّاً - أو كما يقولون - بالدرجة الأُولى، أن خلقة الإنسان الروحية كانت معدَّة للإنسان قبل خلقته الجسدية بل وقبل سقوطه، أليس هذا عجباً حقّاً؟ «الذي خلَّصنا ودعانا دعوة مقدَّسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطِيَت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية، وإنما أُظهِرَت الآن بظهور مخلِّصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل» (2تي 1: 10،9).أقف هنا لحظة معكم، فليس مثل هذا الكلام الروحي مقبولاً في هذا العالم بالدرجة التي نقبلها نحن الآن، نحن الذين قبلنا وآمنَّا ووُلِدنا حقّاً من الماء والروح. أعود بكم إلى بعض أفكار غير المولودين من الماء والروح، فلنسمع لقول بعض الفلاسفة العظام الذين أضجرهم موضوع الخلق ومصير الإنسان فمثلاً: نسمع من إمام الوجودية المعارضة وهو ”هيدجر“، وطبعاً يتكلَّم في غيبة كاملة عن الإيمان بالله، فيقول: إن الوجود الإنساني هو استسلام الفكر بأن الإنسان كائن قُذف به في العالم.ثم يعود ويقول: إن الإنسان موجود ليموت. وهذا هو منتهى المأساة الفكرية.ثم إذ يسألونه: أليس هذا عجزاً واستسلاماً؟ يقول: لا، بل يلزم أن نقبل الموت والنهاية بشجاعة ... سراب وخراب!!ثم لا أريد أن أستفيض معكم بما يقوله الفلاسفة الآخرون المعاصرون مثل ”جون بول سارتر“، الذي يجعل مضمون الإنسان أنه ”موجود ناقص يعطي لنفسه الكمال“، أو كما يقول أيضاً: ”إن الإنسان يجتهد ليمنح نفسه وجوداً مطلقاً يخلو من النقص“.الحقيقة والتاريخ كله ينفي ذلك. وفي الحقيقة سارتر هنا يترجم، دون أن يدري، خطية آدم، ويمتد بها ويصرُّ عليها حرفيّاً، إن آدم يريد أن يصير كالله!!ولكن نعود الآن نحن المولودين من الماء والروح، الذين كنا ليس ناقصين فحسب، بل وكنا عدماً بالخطية، كنا أمواتاً بالذنوب والخطايا فأحيانا الله مع المسيح، وصرنا حائزين على وجودنا الأبدي في الله!!نعود إلى تأمُّلنا في روح الله وهو يرفُّ على وجه الماء والأرض خربة وخالية. عجيبة هنا عناصر الخلقة الروحانية، ولكن بدون أي كائن مخلوق حي!! لماذا؟ لأن عناصر الخليقة الروحية (الملائكة) هنا هي بدون ”إخصاب“ - لو صحَّ اللفظ - أي بدون كلمة الله (أي أن الخلائق الروحية لم تكن مخلوقة على صورة الله).فإذا نحن استطعنا أن نختزل الأزمنة من بداية سفر التكوين - أي خلقة الإنسان من التراب - ثم أزمنة العصيان، ثم السقوط، ثم الموت، ثم الطرد، ونأتي سريعاً بحسب مضمون موضوع عيدنا ”الإبيفانيا“، أي نـزول المسيح إلى الأردن في مثل هذا اليوم؛ نرى أن عنصر الإخصاب بدأ يعمل عمله في الحال بين روح الله والماء.
هنا دخلت ”كلمة الله“ الحيَّة الفعَّالة - اللوغوس - ابن الله، الأقنوم الثاني، بين الماء والروح، ليبدأ الله للإنسان الخليقة الجديدة بواسطة المسيح، لتكون على شبه المسيح ومثاله. وهنا المسيح خالقٌ، وكرأس للبشرية الروحانية، وأبٌ مُخصب، «آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد» (عب 2: 10).
معمودية يوحنا:
كذلك وعَبْرَ اللمحة السريعة التي أريد أن أغطِّي بها هذا الموضوع المتَّسع، لا أريد أن أعبر بسهولة على معمودية يوحنا، التي قيل عنها إنها بالماء فقط للتوبة. هنا، في الحقيقة، الروح القدس غائب، ولا يوجد إلا عنصر التطهير القديم، الماء، الذي يدخل كعنصر مناسب لتطهير الخليقة التـرابية العتيقة لإعدادها، مع الاعتراف بالخطايا والذنوب لقبول الخلقة الروحانية الجديدة بوسيط آخر، أي بعنصر تطهيري فائق آخر غير الماء. عنصر تطهير روحي فائق، هو ناري في حقيقة طبعه، وهو الروح القدس!! وذلك لكي يُبدِّد ما في الخليقة العتيقة من موت وفساد وخطية وهلاك، ويجعلها في حالة من الطُّهر الإلهي - إذا صح هذا التعبير - لتقبل الخليقة السرِّية بواسطة الماء والروح، عنصر الإخصاب ”الكلمة“ اللوغوس، لنولد لله على شكل المسيح وبالمسيح من الماء والروح.إذن، ما هي المحصِّلة التي بلغناها الآن إزاء أو في موازاة محصِّلة مارتن هيدجر الفيلسوف الوجودي الرافض؟إنها محصِّلة عكسية، فالفيلسوف هيدجر يقول إن الإنسان كائن قُذف به في الوجود ليموت.انتبهوا جدّاً هنا: بحسب سفر التكوين وبحسب الإبيفانيا والروح القدس والمسيح، وجدنا أن الإنسان كائن وُجِدَ ليحيا. وما الموت الذي لزم أن يجوزه إلا إعداداً لحياة بلا موت، فالأمر الإلهي بالخلود سبق السقوط والعقاب!! وملكوت الله مُعدٌّ للإنسان قبل أن يُخلَق الإنسان: «تعالوا يا مُبارَكي أبي، رِثوا الملكوت المُعَدَّ لكم منذ تأسيس العالم» (مت 25: 34).إن هذه المحصلة أو الحقيقة في مفهوم العماد هي - بحدِّ ذاتها - ليست عنصراً مائياً منعشاً ومُحيياً فقط، بل عنصر رجاء، لا يجب ولا يمكن هدمه بأية فلسفة كانت، لأنها حقيقة نحياها وليس نتمناها. فالحياة الأبدية تسري فينا منذ الآن، والملكوت نعيشه بالروح.
السماء انشقَّت:
وإذا عُدنا إلى موضوع عماد المسيح في الأردن الذي فيه اعتبرنا أن مجرَّد نـزول المسيح في الماء وحلول الروح القدس يحوي تكامُل العناصر الفعَّالة للخلقة الروحانية: الماء والروح والكلمة، حيث هنا المسيح خالق ورأس الخليقة الجديدة، أقول نلمح ظاهرة مؤكَّدة لهذه الحقيقة تصل إلى حدِّ العجب، إذ أنه بمجرد أن تمَّ نـزول المسيح في الأردن، انشقَّت السماء. ما هذه الدلالة؟
هذه ظاهرة عجيبة حقّاً، لأننا نسمع المقابل لها تماماً عند حادثة تكميل موت المسيح الكفَّاري على الصليب من أجل العالم، إذ نسمع أيضاً أنه قد انشقَّ حجاب الهيكل الذي كان يفصل قدس الأقداس حيث حضرة الله عن القدس حيث وجود الناس، حتى الأطهار منهم - أي الكهنة. وهذا يعني أن الله رفع بنفسه الحجاب المتوسط بينه وبين الإنسان بموت المسيح!! وصار العالم كله مصالَحاً مع الآب بموت ابنه عن خطية العالم كله!!
هنا في الأردن، بعماد المسيح نجد السماء نفسها تنشق، وتتكشَّف الحضرة الدائمة لله تعبيراً عن التحام جديد وعجيب بين الله والإنسان، وليس بين السمائيين والأرضيين فقط، وذلك في شخص المسيح!! «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ» (مت 3: 17).إذن، فهنا دلالة قاطعة على رفع الحجاب الأبدي والكوني الذي يحجز الآب في السماء عن الإنسان، حينما يعتمد إنسان في يسوع المسيح. وكأنما الطريق من الأرض إلى السماء قد انفتح بانشقاق السماء في وجه الأرض. وما نـزول الروح القدس في الحقيقة إلا بمثابة الجناحين الجديدين الإلهيَّيْن، جناحَي الحب الإلهي ليسوع المسيح، اللذين أُعطيا للإنسان الجديد المولود من الماء والروح ليطير ويحلِّق بهما في سماء الله في حريَّة البنين.كذلك فإنه بمجرد أن التحمت عناصر الخليقة الروحانية الفائقة، الماء والروح والكلمة، على أرض الشقاء؛ انفتحت السماء، إعلاناً أن الوطن السمائي الذي تأسَّس للإنسان قد صار حقيقة مُشاهَدة ننتظرها ونرجوها؛ بل ونسمع صوتاً من السماء يُعلِن عن هذه المعاهدة الجديدة التي تمَّت في هذه اللحظة، إذ سلَّم الآب ابنه للعالم ليُصالح الجميع ويأتي بهم إليه!!
ظهور الروح القدس بهيئة منظورة مجسَّمة كحمامة:
كذلك تدخل هذه الدلالة دخولاً مباشراً وعميقاً في مفهوم الخليقة الروحانية الجديدة التي أكملها المسيح لنا في هذا السر المذهل الذي ظهر فيه كخالق للخليقة الروحانية الإنسانية، وكرأس مخصب لأبناء جُدُد لله الآب، لأن ظهور الحمامة نرى المقابل له في أيام الطوفان، عندما كان الماء هو عنصر الموت، لأنه لم يكن يخلو من روح الله. فكانت النقمة تُلازمه، وغضب الله فيه، فكان الماء للموت والهلاك، وظهور الحمامة في آخر لحظات هذه الخبرة المؤلمة في تاريخ البشرية كانت بشارة برفع الغضب الإلهي وبدء رضا الله، عندما عادت وفي فمها غصن زيتون أنبتته الأرض بعد انحسار لعنة الهلاك عنها.هنا في المقابل نرى الروح ينـزل من السماء على هيئة مجسَّمة كحمامة، وذلك عن قصد. فهذه الهيئة لا تُعبِّر إطلاقاً عن شكل الروح القدس أو صورته، فنحن رأينا الروح القدس يوم الخمسين على هيئة نار أيضاً.إذن، فظهور الروح القدس بهذه الهيئة - أي كحمامة - كان تعبيراً عن أن الماء هنا يحوي عنصر الحياة الإلهية، وذلك يتناسب مع عملية الخلق الروحاني الجديد الذي انفتح مجاله للإنسان. وكأنما كان كل زمان البشرية السابق من آدم حتى المسيح هو طوفان مستمر؛ ثم بقبول الكلمة المتجسِّد النـزولَ إلى الماء وبتقبُّله الروح القدس ليكون رأس الخليقة الجديدة، بدأت حياة الإنسان حقّاً مع الله وإلى الأبد.
هنا يتضح مرَّة أخرى أمامنا - ونحن بصدد فلسفة الوجوديين الملحدين - أن الحياة التي أعطاها الله للإنسان هي في حقيقتها الأُولى والأخيرة حياة لحياة. والمسيح لن يكون حياةً لموت فيما بعد!! بل وحياة يلازمها نشيد إلهي رائع، في صمت يحكي عنه الروح القدس وهو نازل من السماء كحمامة، وكذلك صوت الله بالسرور؛ هذا النشيد الصامت تعرف القلوب المؤمنة وحدها أن تترجمه. فهو حياة جديدة مفعمة بالسلام!! للقلوب الوديعة!! التي نالت وتنال كل يوم قوة هذا الميلاد عينه من فوق من الماء والروح، مع نور الكلمة، ورضا الآب في السماء!!وهكذا بنـزول المسيح في الأردن، وحلول الروح القدس عليه، وإعلان صوت الآب في السماء، هذا المُعبَّر عنه كنسيّاً بعيد الإبيفانيا، أي ظهور الآب والابن والروح القدس؛ بكل هذا صار، في الحقيقة، تدشينُ أول معمودية على الأرض باسم الثالوث، كبدءٍ فعَّال لا ينتهي ولن ينتهي إلا بانتهاء الزمان، من جهة ميلاد الإنسان ميلاداً جديداً من الله، روحيّاً من فوق، من السماء لحياة أبدية.وهكذا صارت أرض الشوك والشقاء واللعنة، الأرض العاقر التي كانت تسقي الإنسان الألم حتى الموت، والتي كانت تلد الإنسان لتُميته فعلاً، وتتركه للأيام لتُكفِّنه بخطاياه، وتدفنه الأيدي الحزينة كل يوم في أعماق لعنتها، صارت هذه الأرض عينها بميلاد المسيح الكلمة ابن الله متجسِّداً، ثم بنـزوله في الأردن معتمداً والروح القدس حالاً عليه؛ أقول صارت هذه الأرض من داخل الكنيسة ومن داخل جرن معموديتها، بطناً جديدة سماوية تنسل أبناءً لله جُدداً، لسلامٍ وحياةٍ لا تزول.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد