المقالات

13 يناير 2021

سلامٌ لكِ يا بيت لحم

يا للتعطُّفات الأبوية الرحيمة!! هو خلقنا ولا يزال يحمل مسئولية أنيننا، ويهتمُّ جدّاً بأحوالنا، ولا يطيق أن يرى أولاده تحت ظُلم أو سُخرة أو ضيق، لأنه في كلِّ حال ضيقهم يتضايق جدّاً، ومَنْ يمسُّهم كأنه يمسُّ حَدَقَة عينه.أليس بسبب تعطُّفات الأُبـوَّة الرحيمة التي تملأ طبيعته المجيدة، أرسل لنا ابنه الحبيب ليتجسَّد ويتأنَّس ويصير تحت آلامنا كلها بعينها، فلا يعود الآب يتشارَك معنا في آلامنا تشارُكاً معنوياً فقط، بل تصير ال‍مُشاركة مُشاركة فعلية حقيقية في جسد ابنه!! مَنْ ذا يستطيع بعد ذلك أن ينسى حنان الأُبوَّة التي افتقدنا ب‍ها الآب في المسيح أو يتجاهلها؟ أو مَنْ ذا يتضايق إلى حدِّ التذمُّر مهما بلغت شدَّة الضيقة، بعد أن عرفنا بتأكيد أنه يتضايق معنا ومثلنا؟ وإن كانت أنوار بيت لحم في هذه الأيام ال‍مُباركة تجذب أبصار قلوبنا بشدَّة للتأمُّل في أمجاد البنوَّة المملوءة حبّاً وسلاماً، فإنَّ أصوات الملائكة لا تزال تلحُّ عليَّ جدّاً أن أتكلَّم مُعطياً المجد لله الآب في الأعالي، مُكرِّماً مشاعر الأُبوَّة المتعطِّفة التي صارت منها هذه المسرَّة والنعمة ال‍مُتضاعفة. ومَنْ ذا يستطيع أن يتقدَّم إلى بيت لحم إن لم يجذبه الآب أولاً؟ أو مَنْ ذا قد صار في الابن ولم يسبق أن اختاره الآب؟ هذا هو عيد البنوَّة حقّاً، وهو عيد الأُبوَّة بالضرورة.فإن امتلأت قلوبنا بمشاعر المسرَّة بالابن، فلنا أيضاً شركة مع الآب في مسرَّته: «هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (مت 3: 17)، مُمجِّدين مقاصده الرحيمة لنا التي ادَّخرها لنا في المسيح قبل تأسيس العالم. إنَّ الآب إذ رأى وسمع أنين البشرية كلها أرسل ابنه؛ بل إنَّ الآب الرحيم المحب أَظهر لنا قِدَم محبته لنا، إذ ونحن بعد خطاة وُلِدَ المسيح. والعالم وهو غارق في ظلمة الجحود، أحبه الآب هكذا، وأرسل ابنه ليبذل نفسه فدية لأجل الجميع.أيَّة متعة لنا في مشاعر حنان الأُبوَّة! آه أنا محصور في حب الآب! إني أستشعر حبه جدّاً قديماً قبل بيت لحم هذا الذي به عرفني ابنه، وهذا الذي به أيضاً جذبني إليه. ومحبة الآب لا زالت واضحة المشاعر في أعماقي أرى في نورها نور محبة المسيح، وأفهم على هُداها مجد ذبيحة المسيح وتكميل المقاصد المكتومة في أسرار ما قبل الدهور.وفي الحقِّ أنا محصورٌ بين الاثنين، فمن قلب الآب تقبَّلتُ أعظم وأجلَّ مشاعر محبة الله ملموسة منظورة في الحياة الأبدية وطبيعته الإلهية التي أُظهِرَت لنا في المسيح مُتجسِّداً. ومن قلب المسيح المجروح من أجلي تقبَّلتُ أسمى آيات الحب الباذل لرفع نفسي والصعود ب‍ها في طريق النور، طريق مُقدَّس كرَّسه حديثاً بجسده المكسور، ليُوصِّلني أنا بنفسي إلى أعماق قلب الآب.وها أنا كلَّما أنظر المسيح يسوع ربي وأنذهل من فرط حبه واتضاعه وأنفعل في قلبي بحبٍّ لذيذ واضح، لا أملك إلا أن أرفع نظري إلى فوق نحو الآب أبيه وأبي كل أحد، وأرى وأحسُّ بحبه الأبوي، فأنذهل أيضاً من فرط هذا الحب والاتضاع، فيزداد قلبي انفعالاً واضطراباً لذيذاً حتى أكاد أغيب عن وعيي وأستريح من فرط فرحتي التي أثقلت عقلي.كذلك كل مرَّة أتطلَّع فيها إلى الآب وأتقبَّل منه مشاعر الأُبوَّة الرحيمة كما يتقبَّلها ابن عاطل من القوة مستكين في حضن أبيه سيد كل البشر، يمتلئ قلبي شجاعة وينطلق لساني تسبيحاً ومجداً، لا يكمل فرحي ولا ت‍هدأ نفسي حتى أنظر إلى الابن الجالس في حضن أبيه الذي به صار لي مثل هذه الجرأة إلى صدر الله وقدوماً بثقة إلى أُبوَّته الرحيمة ومعرفة بطبيعته المجيدة.فأي تسبيح يا نفسي يمكن أن تُقدِّميه إلى الآب السمائي في ذكرى ميلاد ابنه الحبيب؟ وأي مجد يليق بالأُبوَّة في يوم عيد البنوَّة؟! ولكن مهما مجَّدنا الآب بالمجد اللائق الفائق، فلن نستطيع أن نبلغ شيئاً مما بلغه المسيح في ذلك. فما من عظمة لائقة في موضعها إلاَّ وقدَّمها لأبيه، وما من فرصة مواتية بقولٍ حسن أو عمل مجيد أو آية أو صلاح إلا ونسبهُ للآب! حتى فاق في تمجيده لأبيه كل حدود إمكانيات البشر ولم يستَبْقِ لنفسه منها شيئاً قط مُتمِّماً القول القائل: «لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ» (في 2: 7). ولكن ليس عن تمايُز أو تفاضُل بين الآب ونفسه، حاشا! لأنه هو القائل: «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» و«كُلُّ مَا هُوَ لِي فَهُوَ لَكَ (للآب)، وَمَا هُوَ لَكَ (للآب) فَهُوَ لِي» (يو 10: 30؛ 17: 10)، بل بكفاءة متساوية وكرامة واحدة متَّحدة.ونحن وإن كُنَّا قد تصوَّرنا أنفسنا في عداوة سابقة، كلَّ واحد منَّا كابن رافض لمحبة أبيه مُتغرِّباً عنه في كورة بعيدة؛ إلاَّ أنَّ الآب الصالح ما فتئ يطلبنا بنداء الحب الصامت ويدعونا إليه ناسياً جهلنا في اشتياقات صلاحه، وبتوسُّط ذبيحة ابنه. وما الصورة التي قدَّمها لنا السيد المسيح في قصة الابن الضال إلاَّ شرحاً لصلاح الأُبوَّة بالأكثر، مُظهراً في ن‍هايتها ال‍مُبدعة كيف تُغسل عيوب البنوَّة في حب الآب فتُنسى.ثم يزيد المسيح قُرباً وتلامساً لصلاح أبيه وحنانه ورقَّة مشاعره من نحونا في مُقارنة لطيفة قصيرة غزيرة المشاعر مزدحمة بالأحاسيس بين أبوَّة الإنسان وأبوَّة الله (انظر: مت 7: 7 -11)، مُقرِّراً في تأكيد كم أنَّ هذه الأخيرة أكثر تعرُّفاً على الخير وأكثر سخاءً في تقديمه.ولقد كان شغل المسيح الشاغل أن يُعرِّف الجميع بكل وسيلة ممكنة وغير ممكنة: مَنْ هو الآب! فلم يكُفَّ فمه الطاهر عن نُطق هذه الكلمة العزيزة عنده أعز من كل شيء، فقد رآه واستعلنه واضحاً ظاهراً في كل عمل وقول، مُعلناً بوضوح أنه مـن حضن الآب جاء، وبالآب يعمل الأعمال كلها، ومن الآب يتكلَّم، ومن عنده يشهد، وله وحده يُمجِّد، وفي الآب هو كائن، وإلى الآب يعود؛ حتى إن التلاميذ فات عليهم عُمق اتضاعه وارتبكت معرفتهم عنه هو فسألوه: «أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا» (يو 14: 8).ويا لعِظَم مسرَّة قلوبنا وغِنَى حظنا في الآب بالابن، لأن المسيح لم يكفَّ بعد عن أن يُعرِّفنا الآب حتى الآن: «وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ» (يو 17: 26)، وذلك «ليتمجَّد الآب بالابن» كما مجَّد الآب الابن (يو 14: 13؛ 8: 54).والنفس التي ذاقت حقّاً حب المسيح وتنسَّمت رائحة أقنومه الإلهي وتقلَّبت على جمر نار حبه، لابد وأن تذوق حب الآب أيضاً الذي هو أسمى اختبارات البشرية، هذا الذي يُقال عنه في التصوُّف ”التاورية الثالثة“ أي تاورية (= تأمُّل) الثالوث الأقدس. هذا هو ن‍هاية جميع الهبات وختام مواهب الروح القدس الذي ختم به السيد المسيح صلاته وسؤاله عنا في ن‍هاية رسالته على الأرض: «لِيَكَونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ» (يو 17: 26).ولقد كان الرسل شديدي الإحساس بالآب وما استطاعوا أبداً أن يتذوَّقوا جمال الابن إلا في أبيه، ولا رسالته إلا في إرساليته، بل وما ذكروا الابن إلا بالآب، وما طلبوا سلاماً أو نعمة أو بركة إلا واستمدُّوها من الآب بالمسيح أو في المسيح. وهذا الشعور المقدَّس في تفهُّم الرسل لشخصية الآب يُحدِّده يوحنا الرسول في عبارة موجـزة شاملة مُكمِّلة: «اَلَّذِي رَأَيْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ نُخْبِرُكُمْ بِهِ، لِكَيْ يَكُـونَ لَكُمْ أَيْضاً شَرِكَةٌ مَعَنَا. وَأَمَّا شَرِكَتُنَا نَحْنُ فَهِيَ مَعَ الآبِ وَمَعَ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. وَنَكْتُبُ إِلَيْكُمْ هذَا لِكَيْ يَكُونَ فَرَحُكُمْ كَامِلاً» (1يو 1: 3).وإن قدَّاسَي القدِّيسَيْن باسيليوس وكيرلس لَتَطبيق عملي لحياة الشركة العميقة مع الآب ومع الابن التي تكلَّم عنها يوحنا الرسول.فيا ليتنا نتذوَّق مشاعر الآب في ذكرى ميلاد ابنه، ونجعلها تنمو في قلوبنا لتحتل في حياتنا وأفكارنا ولغتنا مكان‍ها الأول المناسب. فنحن أبناء الله الآب في يسوع المسيح وشركتنا هي مع الآب ومع الابن.سلامٌ لكِ يا بيت لحم مسقط رأسنا. فقد وُلِدنا فيكِ لله بالمسيح، وصرتِ لنا مكان التبنِّي الذي حُسبنا فيه أهل بيت الله لَمَّا وُلِدَ فيكِ أخونا البِكْر.يسوع الذي تجمَّعت فيه بُنوَّات الإنسان الكثيرة المتباينة المتنافرة، فأخذها وغسلها بالماء والدم، وطهَّرها وقدَّسها ووحَّدها بروحه الأزلي، وقدَّمها في طاعة محبته بنوَّة واحدة لائقة للآب، «وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ» (عب 2: 10)، مستطيعاً أن يجعل الكلَّ واحداً فيه، وهو إذ لم يَسْتَحِ أن يدعونا إخوة، استحققنا باتضاعه واشتراكه معنا في اللحم والدم أن ندعو أباه أبانا.وهو لَمَّا تجسَّد، وهبنا فكره الذي بـه استطعنا أن نمتدَّ وراء الدهور، لنقرأ بالروح مكنونات الأسرار في الأزلية؛ عن قصة خلقتنا الحقيقية في مقاصد الآب، ونَعْلَم أننا كُنَّا في المسيح قبل تأسيس العالم لمقاصد ومشيئات الآب الصالح ولنهاية مجيدة مُفرحة.يا لقِدَم تاريخ الإنسان الذي انكشفت أهم وأمجد حلقاته الروحية بتجسُّد الابن، رافعاً الستار عن طبيعة الإنسان المباركـة المكرَّمـة في المسيح يسوع قبل أن توجـد خليقة ما وقبل أن يـرفَّ روح الله على وجه المياه.هذا هو كلمة الله الأقنوم الثاني والمساوي مـع الآب في الجوهر، صانع الخليقة المنظورة وغير المنظورة، الذي ليس مخفياً عن معرفتنا؛ بل مقروءٌ لاهوته في خليقته ومُدرَكٌ لاهوته بالمصنوعات (رو 1: 20). هذا الذي لما عرفوه لم يمجِّدوه كإله، ولما جهلوه نـزل ليُعلِن وينطق بخبر الآب الذي أرسله ويكشف عن طبيعة الله بكلمته.هذه هي الحياة الأبدية التي أُظهِرَت لنا في جسد إنسان، وهي هي التي تمدُّ الخليقة بالحياة وتحفظها من العدم. هذا هو الحق المتجسِّد ليُعلِن لنا أسرار الله في ذاته وفي قيامته.هذا هو النور الذي جاء إلى العالم مُضيئاً بالحقِّ والحياة التي فيه، حتى بنوره نستطيع أن نُدرك النور أي الحق والحياة معاً التي في الله.هذا هو الإله المتأنِّس الذي يحمل طبيعة الإنسان بكافة نواحيها، والذي اكتملت فيه مشاعر الطبيعة البشرية حتى يستطيع أن يتلامس مع كل إنسان في الوجود، إذ يجمع في شخصه كل سجيات البشرية الفاضلة ولمسات روحها المبدعة بكلِّ أنواعها وصفات‍ها العديدة، من كل شكل وكل جنس وكل قامة من فجر الطفولة إلى غَسَق الشيخوخة، خلا صفة واحدة ذات اسم شنيع مكروه: ”الخطية“.ففي المسيح، كل ذي جمال وكل ذي عاطفة نبيلة أو حاسة مقدَّسة طاهرة، يجد فيه اتفاقاً ومَعِيناً لا ينضب لإلهاماته وإبداعاته. وفي المسيح أيضاً يجد كل إنسان، خلا من امتيازات العبقرية والإلهام، يجد في المسيح إنساناً نظيره؛ ولكن فيه مقدرة أن يستكمل فيه ومنه كل ما تشتهيه نفسه من إلهام وإبداع.وكل مرذول محتَقَر، كل مَنْ نبذته البشرية وأذلَّته فصار كأنه غريب على عنصرها، يكدح خارجاً عن دائرة اعتبارها مع المخلوقات الأقل؛ هذا يجد في المسيح إنساناً مُهاناً نظيره يستطيع أن يستعيد فيه كرامته البشرية، ويجد عنده راحة من كدِّ هذا العالم، ويتقبَّل منه شرف أخوية أسمى لعنصر أرقى وحياة أبقى.إذاً، فاليوم عيد، عيد لكلِّ الناس، لأنه وُلِدَ للبشرية مُعين، وأُعطِيَ للإنسان ابن تكمَّلت فيه كل إعوازها. سلامٌ لكِ يا بيت لحم! فأنتِ حقّاً لستِ الصُّغرى، فتخومكِ امتدَّت مع المولود فيكِ ودَخَلَت مناطق الأزلية في أقصى السموات، وصار لنا منكِ عبورٌ سهل إلى تلك النواحي البعيدة في اللان‍هائية.وسلامٌ للنجم الذي لا يزال يُضيء قلوب الحاجين إليه، أي كلمة الحياة، التي هي سراجٌ منير في موضع العالم المظلم، يسير أمام السائرين على هَدْي نورها حتى لا تُدركهم الظلمة، يرقَى ب‍هم إلى مراقي المجد حتى قلب الله. وسلامٌ على موكب الحكماء السائرين في ليل هذا العمر، متشجِّعين بالرؤيا وبالنجم الذي يتقدَّمهم ويُلهمهم حكمة لمعرفة الطريق، حكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر، حكمة في سرٍّ، حاملين هداياهم: مال العالم والذهب، ومُشتهيات الجسد مع اللُّبان، ومُر الحياة مع الرضا.قدَّموا أموالهم لينالوا الملكوت، ووهبوا أجسادهم ليحظوا بالكهنوت، واحتملوا ال‍مُر ليجدوا السرور.ما أحكم المجوس وما أعمق سر الهدايا، إن أسرارها لكثيرة! وسلامٌ للعذراء الأُم الممتلئة نعمة التي اختيرت ليحلَّ روح الله على هيكلها البشري حتى تصير نموذجاً أبدياً لإمكانية حلول الله في الإنسان.سلامٌ للتي لها دالة عند الله أفضل من نبي ورسول، ومن البشريين قاطبة، إذ لها مع الأقنوم الثاني رباطٌ وثيق مقدَّس يضمُّها إليه إلى الأبد.سلامٌ للتي وَجَدَت نعمة أكثر من ملاك ومن رئيس ملائكة، وأُعطِيَت أن تجلس عن يمين الملك في مجده لأن القدير صنع ب‍ها عظائم، رفعها وأنزل الأعزَّاء عن الكراسي.هو الربُّ، لذَّته دائماً مع المتضعين في بني الإنسان. لذلك جميع الأجيال تُطوِّب‍ها، وسعيدٌ أنـا إذ بلغتُ جيلاً يُطوِّب‍ها.بركات بيت لحم فلتحلَّ على شعب الله مـن جيلٍ إلى جيل، له المجد في كنيسته إلى الأبـد، آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
12 يناير 2021

تأملات في التجسُّد والميلاد

«هذا يكون عظيماً، وابنَ العليِّ يُدعَى، ويُعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لمُلْكه نهاية» (لو 1: 33،32).هنا الملاك المبشِّر يُعطي ملامح يسوع المسيح. ولينتبه القارئ، فأُفق الملاك في المعرفة محدود للغاية، وهو يُعطي أوصاف المسيح على مستوى ملائكي فيقول إنه: «يكون عظيماً»، حيث العظمة عظمة ملائكية سمائية تنتهي بالدرجات العظمى، أي أنه سيكون أعظم من الملائكة. ثم يستدرك ويصف علاقته بالله فيُعطيه درجة ابن العليِّ وهو وصف يفوق قدرة ملاك، لأن الملائكة محسوبون أنهم خُلقوا ليخدموا الخلاص للعتيدين أن يرثوه، ولكن الملاك هنا يكشف أول أسرار الابن التي لم يسبق أن سمع بها ملاك أو بشر. فابن العليِّ عليٌّ هو، وأعلى من كل صفوف الملائكة ورؤساء الملائكة. ثم يدخل الملاك في خصائص ابن العليِّ فيصف مُلْكه الكلِّي والأبدي على بيت إسرائيل، ثم يعود ويصف مدى انتشار واتساع مُلْكه الأبدي أن لا نهايةَ زمنيةً له، بمعنى أنه فائق على زمن البشر الذي له نهاية، فمُلْك ابن العليِّ لا نهاية له، لا نهاية زمانية ولا مكانية، أي أنه يملأ السماء ويملأ الأرض، لا حدود له ويصف الملاك أيضاً مستوى تملُّك ابن العليِّ على كرسي داود، باعتبار أن المسيح ابن العليِّ سيكون سليل داود، أي يرث مُلْك داود كوريث شرعي، وهنا يُلمِّح الملاك إلى جنسية ابن العليّ أنه بشريٌّ هو، وهنا يُقْرِن الملاك لاهوت ابن العليِّ بناسوت ميراث داود. وهذا يُعتبر أول استعلان للابن المتجسِّد أنه ابن العليِّ وابن الإنسان معاً، الأمر الذي يشير إلى نوع ملوكيته: إنه وسيط قادر بين العليِّ وبين البشر. فهنا يتحتَّم أن تكون ملوكية ابن العليِّ سماوية وأرضية معاً، تحمل كل ما لله وكل ما للبشر. حيث تصبح المصالحة بين الله والإنسان على مستوى إلهي وملكي، يخدم هذه المصالحة ابنُ العليِّ إلى أبد الآبدين، حيث تضم هذه المصالحة كل أجيال الإنسان، فهي مصالحة أبدية قادرة على التكميل الكامل.لهذا تُعتبر بشارة الملاك المبشِّر للقديسة العذراء مريم سجلاًّ مختصراً وكاملاً لعمل ابن العليِّ المولود من العذراء مريم ومستواه الإلهي الملكي.وبذلك يكون ابن العليِّ، أي الرب يسوع المسيح، صاحب مملكتين: ملكوت السماء، ومملكة الإنسان، بــآنٍ واحد. وهنا نجد الإشارة واضحة لعمل ابـن العليِّ، أن ينقل الإنسان من مملكة الإنسان ليُدخله في ملكوت السموات. وفي هذا كانت مسرَّة الآب ومنتهى مسرَّة الإنسان معاً. وظلَّت هذه المسرَّة مرافقة لابن العليِّ حتى إلى الصليب، فقيل إنه: «من أجل السرور الموضوع أمامه، احتمل الصليب» (عب 12: 2)، وهي مسرَّة الآب في السماء، ومسرَّة الناس على الأرض، ومسرَّة الابن الذي أكمل طاعة الآب «حتى الموت، موت الصليب» (في 2: 8).لذلك نحن مديونون لملاك البشارة الذي أعطانا هذا السجلَّ الحافل بعمل ابن العليِّ. «هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً، ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا» (مت 1: 23). لمَّا أخطأ آدم وحواء وطُردا من أمام وجه الله، أُصيبت البشرية بابتعاد الله عنها، فصارت تتوالد في عُقْم البُعاد عن الله، بمعنى أن البشرية فقدت قُرْبها من الله الذي كان يَنعم به آدم. بما يعني أن كل أعمال وحياة الناس لم تكن تَنعم بمشورة الله وعمله، ليس إلى جيل بل إلى جيل الأجيال.وأخيراً جاءت القُربَى من لَدُن الله، وتَدَخَّل الله بنفسه في حياة البشر، إذ أرسل ابنه الوحيد المساوي للآب في الجوهر أي في الطبيعة، ليولَد من عذراء طاهرة من بيت إسرائيل في ولادة فائقة على طبيعة البشر، أي بدون رجل، فكان الله الآب بمثابة أب حقيقي فائق للطبيعة البشرية، وأصبح المولود ابن الله الحقيقي (انظر لو 1: 35)، ورأس البشرية الجديدة كلها. وهكذا انعقدت الآمال كلها ورجاء الإنسان في مولود العذراء، فلم تَعُد البشرية متغرِّبة عن الله، بل تحوَّل الإنسان تحوُّلاً فائق الوصف من كونه من بني آدم إلى ابنٍ لله، وصار نسله بالتالي بني الله العَليِّ بالإيمان (انظر غل 3: 26)، إيمان ابن الله الذي دُعِيَ يسوع. وبعد أن كان آدم رأس الجنس البشري، أصبح يسوع المدعو المسيح هو رأس البشرية الجديدة المؤمنة بيسوع المسيح، فكلُّ مَن يولد في الإيمان بيسوع المسيح ابن الله، ينال حق التبنِّي لله (انظر يو 1: 12).ومع التبنِّي لله، صار جنس الإنسان بحسب رأس الجنس كله أي يسوع المسيح، يُدعَى مسيحياً.وبالتالي صار كل بني آدم مسيحيين؛ وبحسب الروح الذي يعمل في الإيمان، أي الروح القدس، صار كل الناس المسيحيين لهم رأس واحد وهو يسوع المسيح، وروح واحد أي الروح القدس. وبمعنى كلِّي، صار كل الناس إنساناً واحداً في المسيح، لا ذكر ولا أنثى فيما بعد بل «جميعاً أبناء الله الحيّ بالإيمان (الواحد) بالمسيح يسوع» (غل 3: 26).وهكذا تحوَّل بنو آدم من جنس البشر إلى جنس يسوع المسيح، ومن الكثرة المتفتتة إلى وحدانية الروح والجنس، ومن الأصل الترابي إلى طبيعة سماوية، ومن ميراث الجسد والآباء والأمهات إلى ميراث ابن الله في السموات، أي الحياة الدائمة الأبدية، لأنه لا يكون للإنسان موتٌ بعد بل انتقال من جنس ترابي إلى جنس سماوي، ومن ميراث ترابي إلى ميراث إلهي أبدي.ومن هنا، بدأت الدعوة وبدأ التبشير بالإيمان بيسوع المسيح إيماناً صادقاً حقيقياً، يتهيَّأ لهذه النقلة السعيدة بالإيمان الصادق الحيِّ بالمسيح يسوع ربنا.على أنه يلزم جداً جداً أن نضع اللمسات الإلهية على معنى الإيمان الحيِّ الصادق بالمسيح يسوع.وما هو الإيمان الحيُّ الصادق بالمسيح يسوع؟ هو أن نقبل قبولاً قلبياً حاراً صليبَ ربنا يسوع المسيح الذي قَبـِلَه هو «من أجل السرور الموضوع أمامه» (عب 12: 2).وما هو السرور الذي كان موضوعاً أمام المسيح وقت الصلبوت؟ هو الحب، الحب الطاغي الذي جعله يحتمل التعذيب وسفك الدم (انظر غل 2: 20)!! وهو حبُّ الآب الذي أطاعه الابن حتى الصليب، وحبُّ المسيح من نحو الإنسان الخاطئ.وهنا ننبه ذهن القارئ أن عصيان آدم لله حُسِبَ خطية عظمى، وكل إنسان يولد لآدم يرث موت الخطية في الطبيعة، فكل بني آدم حُسبوا خطاة في آدم لأن الخطية سادت على الجميع والكل وُلد في الخطية. ولكن، وكما سبق وقلنا، فإن بني آدم بعد أن آمنوا بالمسيح بالقلب والروح والصدق، حُسبوا بني الله في المسيح، أي حُسبوا جميعاً إنساناً واحداً في المسيح.وكما أنه لمَّا أخطأ آدم صار كل بني آدم خطاة، هكذا يصير بنو الله في المسيح كالمسيح قديسين وأبراراً، لأن برَّ المسيح الذي اكتسبه بالصليب والفداء والقيامة منحه كاملاً متكاملاً للإنسان، فصار الإنسان باراً أمام الله بالفداء الذي أكمله المسيح للإنسان الخاطئ.لذلك يُحسب عدم الإيمان بالمسيح والصليب والفداء أنه رجْعَةٌ إلى خطية آدم والبُعاد عن الله. «فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس» (يو 1: 4).معروف أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة. ولم يعرف الإنسان الظلمة إلاَّ بعد أن أخطأ آدم وتقبَّل عقوبة الموت عقاباً وجزاءً.وكان الموت هو الظلمة عينها حيث تتوقف البصيرة عن معرفة أي شيء. ويُكنَى عن الظلمة بالجهل أو الجهالة، حيث تُحجز عن الإنسان أية معرفة، خاصةً فيما يخص الله وأمور الله.وهكذا عاشت البشرية بعد آدم، إذ تسلَّمت الخطية منه مع عقوبة الموت، فدخلت في ظلام دامس هو بعينه عدم معرفة الله وكل ما يختص بالله. وتَوالَد الإنسان في الظلمة، حتى لم يعرف أنه في ظلمة، لأن ظلمة المعرفة تطمس معالم النفس البشرية.وبينما كان بنو آدم في هذه الظلمة القاتمة، يسود عليهم الموت ومَنْ له سلطان الموت أي إبليس، الذي يُعرف عنه أنه يطمس العين البشرية لكي لا ترى الله ونور الله، بل تبقى في ظلمة العبودية والموت سيِّدٌ عليها (انظر 2كو 4: 4)؛ نقول إنه بينما كان الإنسان عائشاً في الظلمة سابقاً وهو راضٍ عن هذه الظلمة لا يعرف لها مخرجاً، إذ بالله الكثير الرحمة والتحنُّن يدبِّر له مَنْ يخُرجه من هذه الظلمة ويورِّثه النور كحياة.فأَرسل الله كلمته إلى عالمنا المظلم، أي ابنه الوحيد المعروف أنه نور السموات والأرض. ووُلد الكلمة من عذراء قديسة. وهكذا دخل نور الله عالم الإنسان، كإنسان، وحمل كلمة الله حياة الله. وهكذا دخل النور والحياة إلى عالم «الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق» (أف 4: 24).وبالإيمان بالمسيح وبموته وقيامته، قام الإنسان أيضاً من موت الخطية بقيامة المسيح من بعد موتِ الفداء، وبالإيمان بالمسيح حُسِبَ أهلاً أن يرث ميراث الابن في الحياة الأبدية.وما أن دخل شعاع الحياة الأبدية إلى قلب الإنسان الجديد، حتى انفتحت عيناه، فرأى النور الأبدي الذي لا يُطفأ، نور معرفة ابن الله (انظر 2كو 4: 6).فبذبيحة الابن على الصليب تمَّ الفداء من الموت وظلمة الموت، وانبعثت الحياة من وسط ظلمة الموت، وارتفعت إلى السماء لتُعطي الإنسان استعلان معرفة الله وكل ما لله، وصار النور طبيعةً للطبيعة الجديدة للإنسان، فصار الإنسان يرى ويتثبَّت مما يراه من كل حقائق الإيمان. والعجب في كل أمور اللاهوت أنه إذا استَعلَن الإنسان حقيقةً فيه، امتلك هذه الحقيقة عن وعي وبثبوت.وكما يتسلَّط النور على غرفة مظلمة فيصير كل ما فيها تحت نظرك وبصيرتك، هكذا جعل الله - البديع في تدبيره - أنه إذا دخل إنسان إلى معرفة الحق بالإيمان، فإنه يأخذه ويصير شريكاً فيه. هكذا كلُّ مَنْ يشترك في حياة الكلمة، أي يسوع المسيح، فإنه يتملَّكُه ويَستَعلِن له كل أسراره بلا مانع. بهذا يُستعلَن للقارئ العزيز كيف كان تدبير الله منذ الأزل أن يدخل الإنسان في شركة الابن ليصير في شركة الحياة معه (انظر 1كو 1: 9)، وبهذا يُستعلَن له الله بكل وصاياه وتعاليمه، لأن في حياة الكلمة نوراً أزلياً يَستَعلن حق الله لكل ذي جسد يؤمن بالابن، وبصليبه للفداء، وبقيامته للحياة.يقول الكتاب: «كان النور الحقيقي الذي ينير كلَّ إنسان، آتياً إلى العالم» (يو 1: 9). فوظيفة المسيح العظمى هي أنه النور الحقيقي والحياة الأبدية معاً، وقد سلَّم المسيح الإنسان الجديد الحياة والنور معاً ليليق أن يحيا مع الله.فآمنوا بالنور لتعيشوا في النور،لئلا يدرككم الظلام (انظر يو 12: 36،35). «وصوت من السموات قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ» (مت 3: 17).هذا أول تعريف باللاهوت، فالصوت الذي جاء من السماء هو حتماً صوت الآب لأنه يقول: «هذا هو ابني».فلأول مرة يُستعلَن الله من السماء أنه آب وابن. ومن هنا جاءت حتمية الروح، فالآب حيٌّ والابن حيٌّ؛ والآب قدوسٌ هو، والابن بالتالي قدوسٌ، ولَزِمَ أن يكون الروح قدُّوساً فعرفناه أنه الروح القدس.وليس في اللاهوت انقسام أو عددية، فالآب والابن والروح القدس هو الله الواحد. فالآب حيٌّ بالروح القدس، والابن حيٌّ بالروح القدس، والروح القدس حيٌّ في الآب والابن، وقد حقَّق لنا المسيح أن الابن كائن في الآب وبالآب، وأن الآب كائن في الابن وبالابن، فالأبوة والبنوة في الله كيان واحد، وتحتَّم أن يكون الروح القدس قائماً في هذا الكيان. ولكن كما قلنا، إن اللاهوت مُنـزَّه عن الانقسام والعددية والمحدودية، فالآب يملأ السموات والأرض، والابن يملأ السموات والأرض، والروح القدس يملأ السموات والأرض. فالآب والابن والروح القدس لاهوت واحد يملأ السموات والأرض.فلما سقط آدم في الخطية وطُرد من أمام الله دبَّر الله كيف يُعيد بني آدم إلى حضرته، لأنه خليقته وقد خلقه الله على صورته ومثاله. وبالرغم من أن آدم أخطأ وأصبح نسله كله وارثاً لموت الخطية، إلاَّ أن الله كان يحب خليقته جداً كما أعلمنا الكتاب: «هكذا أحب الله العالم (عالم الإنسان)» (يو 3: 16).ودبَّر الله لآدم وبنيه خلاصاً من خطية آدم، وعقوبة الموت التي أخذها استحقاقاً لخطيئته، وذلك بأن كلَّف ابنه المحبوب الوحيد أن يتجسَّد، أي يأخذ جسد إنسان على أن يكون بلا خطية، وهذا يُحتِّمه الواقع لأن ابن الله قدوسٌ هو، وحيٌّ بالروح القدس. وأطاع الابن وتجسَّد، أي صار إنساناً بلا خطية، وذلك بأن تجسَّد في بطن عذراء قديسة، ووُلد، ويوم عماده سُمِع الآب من السماء يُناديه: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ».وقد كلَّفه الآب أن يحمل خطية الإنسان في جسده القدوس، ولكن عقوبة الخطية هي الموت، فكان لابد لابن الله الذي سُمِّيَ ”يسوع“ أن يموت بالجسد حاملاً خطية الإنسان ولعنة الناموس، فلَزِمَ أن يموت صَلباً، لأن كل مَنْ يُصلب يكون ملعوناً (غل 3: 3)، فأطاع الابنُ وحمَلَ خطية العالم كله في جسده القدوس مُعلَّقاً على خشبة الصليب، واعتُبـِر ذلك ذبيحة خطية عن العالم كله، ومات ودُفن، ولكنه لأنه ابن الله الحيُّ بالروح القدس، قام بعد أن أدَّى واجب الموت ملعوناً على خشبة، حاملاً في جسده القدوس كل خطية بني آدم. وهكذا لمَّا مات حاملاً خطية الإنسان ماتت الخطية حتماً وبالضرورة.ولمَّا قام من الموت في اليوم الثالث، وهي عقوبة الموت كاملة، وقام بقوة الله والروح القدس الذي فيه، هكذا تمَّم ذبيحة الفداء كاملة على الصليب. ولمَّا قام، أقام الجسد المحسوب أنه جسد الإنسان ككل، وهكذا قام الإنسان بقيامة المسيح وصعد بصعوده إلى السماء. ولمَّا جلس المسيح عن يمين الآب، أجلَس معه كلَّ خاطئ عن يمين الله، وهكذا تمت المصالحة الأبدية بين الله وبني آدم الخطاة جميعاً الذين آمنوا بالمسيح وبصليب المسيح وبقيامته. وهكذا تبرَّر الخاطئ ببرِّ المسيح، وحُسب الخطاةُ أبراراً وقديسين وبلا لوم في المسيح قدَّام الله كخليقة جديدة بالروح مُبرَّرَة ومَفْديّةً.وقول الآب من السماء يوم عماد المسيح: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرْتُ»، قالها الآب للابن، فوقعت من نصيب الإنسان، فدخل الإنسان في مسرَّة الله. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 ديسمبر 2020

ميلاد المسيح وميلاد الإنسان

وُلِدَ المسيح من روح الله القدوس، ومن عذراء لم تعرف رجلاً تُدعى مريم، فكان ميلاداً إلهيّاً، لم يحدث له نظير قط لا من قبل ولا من بعد! سبق أن تحدَّثَتْ عن هذا الميلاد الأسفار المقدَّسة، وجميع الأنبياء تنبَّأوا عنه بآياتٍ كثيرة، وكانت الحوادث كلها تتَّجه نحوه، وتنتهي إليه، حتى الزمن قيل إنه سيبلغ مِلأَه يوم مجيئه، وقد كان، فبُدئ بالتاريخ جديداً منذ الميلاد. وهكذا لم يكن المسيح نبيّاً ليتنبَّأ عن مجيء أحد آخر، ولا رسولاً ينتهي عند تكميل رسالته، بل كان هو «كلمة الله» صار جسداً، صائراً في صورة الناس آخِذاً شكل العبد! (في 2: 7)، وعاش كإنسان بين الناس، ودَعا نفسه «ابن الإنسان». ولكنه كان ذا مجدٍ إلهي، رآه أخصَّاؤه رؤيا العيان مجداً فريداً «مجداً كما لوحيدٍ من الآب» (يو 1: 14). وهو قال عن نفسه: إن الله أبوه (يو 5: 18). والله ناداه من السماء على مسمعٍ من تلاميذه: «هذا هو ابني الحبيب، له اسمعوا» (مر 9: 7). ولكنه وَضَعَ نفسه كالعبد، اختياراً، باتضاعٍ عجيب ومُذهل، حتى يرفع كل العبيد إلى درجة بنوَّته!! «لا أعود أُسمِّيكم عبيداً... لكني قد سمَّيتكم أحبَّاءَ لأني أَعْلَمتُكم بكلِّ ما سمعته من أبي» (يو 15: 15)، وأخلى نفسه قدر ما أمكنه من كلِّ مجدٍ ظاهر حتى يتفرَّغ لشركة الآلام مع الناس، هذه الآلام التي وُلد خصيصاً لكي يحملها عنهم كاملة، ليرفع لعنتها عن بني الإنسان، ويُتوِّجها في النهاية بموتٍ اختياري، قَبِلَه كقضاء دين وحُكْم تأديب، عن كلِّ خطاة الأرض، ليهبهم بموته براءة. وهكذا لم يَعُد الموت للإنسان قضاء دَيْنٍ وحُكْمَ تأديب عن خطية وعن إثم وتعدٍّ، بل حُكْم براءة وكفَّارة! وقام المسيح من بين الأموات بمجد وجلال ومشيئة سبق أن أعلن عنها، فأَعطى للإنسان بالقيامة قوَّة الغلبة على الموت، وطبيعة الحياة الجديدة الممتدَّة مع الله بعد الموت وإلى الأبد، يستمدُّها الإنسان من المسيح وبروح الله منذ الآن كعربون لِمَا هو آتٍ. فأصبحنا، ونحن الآن في قيامة المسيح، لا يمنعنا الموت عن البقاء في حياةٍ مع الله لا تزول. هكذا احتضن المسيح العالم كله بآلامه وموته وقيامته، فوَهَبَ الإنسان ميلاداً جديداً في ميلاده، وآلاماً شافية بآلامه، وموتاً بموته، وقيامة مُبرَّرة لحياةٍ أخرى أبدية. أو بمعنى آخر، فإنَّ المسيح جعل الإنسان خليقةً جديدة روحية بعد أن كانت خليقةً ترابية وحسب. وصارت حياة الإنسان مُمتدَّة في الله إلى مالان‍هاية. وبالتالي، لم يَعُد تراب الأرض أو الجنس أو اللون أو العنصر الذي ينحدر منه الإنسان، سبب فخر أو علَّة عار فيما بعد! فالإنسان، كل إنسان، قد تجنَّس بالمسيح، وبالتالي بالله في المسيح!! ولم تَعُد المرأة من دون الرجل، ولا العبد من دون الحُر، ولا الفقير من دون الغَني، ولا الجاهل من دون الحكيم، لا كأن‍ها حقوق إنسان تؤخذ بالمنطق أو تؤخذ غِلاباً؛ بل هي عطية الله للإنسان بميلاد المسيح، إذ رَفَع البشرية فيه إلى درجة بنوَّته، فصار الكل أبناء الله يُدْعَوْن!! والبنون متساوون في كلِّ شيء. لقد وُلِدَ الإنسان جديداً يوم ميلاد المسيح، لميراث أبوي محفوظ له في السموات، لفرح لن يُن‍زع منه، ومجد لا يُنطَق به. هو عطاءٌ مجَّاني للإنسان الذي شبع شقاءً عَبْر الدهور، فكما كان ميلاد المسيح أعظم هبات الله للإنسان، هكذا صار لنا هذا الميراث معه في السماء كعطية مجَّانية، كالشمس والهواء للخليقة الترابية، فمَنْ ذا يشتري الشمس أو مَنْ ذا يبيع الهواء؟ هكذا الله في المسيح لا يبيع برَّه بثمن، ولا قيامته ولا ميراثه في المجد. كل مَنْ يسأل يأخذ، ومَنْ يطلب يجد، ومَنْ يقرع يُفتَح له (لو 11: 10). بل وأكثر من ذلك، فإنه يسبقنا إلى باب السؤال عينه: «هأنذا واقفٌ على الباب وأقرع. إنْ سَمِعَ أحدٌ صوتي وفتح الباب، أدخل إليه وأتعشَّى معه وهو معي» (رؤ 3: 20). إن بنويَّة الله للإنسان قد صارت مَشاعاً على وجه الأرض كلها لكل بني الإنسان، في ميلاد المسيح! + ( + البشرية لم تستوعب ميلاد المسيح بعد، بمعناه الـ ”فوق بشري“، لأن عقلها صار لها فخّاً وعثرة، غير أن‍ها تسير وتتحرَّك نحو هذا الميلاد بحركة تفوق وعيها. فالبشرية يشدُّها إلى أعلى صوتٌ مُبهَم يُقلقها من الداخل ويضطرم فيها اضطراماً، تُعبِّر عنه بمفهومات تنطقها دون أن تكتشف بعد مصدرها العلوي، وتُخرجها كصيحات ترتفع من كل أقطار الأرض معاً وفي نَفَسٍ واحد. فالكل يُنادي بضرورة وحتمية السلام، سلام على مستوى العالم كله!! وحقوق الإنسان لكل إنسان!! وحرية الشعوب، والرأي، والتعبير، والعبادة، وحق تقرير المصير، وعدم الانحياز، ورفع الفوارق بين الطبقات والحياة الأفضل. هذه ليست مجرَّد شعارات، كما يظنُّها رَجُل السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو الدِّين، ولكنها خصائص الإنسان الجديد الذي يتعطَّش إليها، لأن‍ها وُهِبَت له لتكون جزءاً حيّاً من كيانه وطبيعته العُليا الجديدة، بدون‍ها كأنَّ الإنسان في شِبْه نوم يجلس في الظلمة وظلال الموت مُذَلاًّ بقيود كأن‍ها من حديد، حتى أشرق عليه نور الله يوم ميلاد المسيح: «أنا هو نور العالم، مَنْ يتبعني فلا يمشي في الظلمة» (يو 8: 12). لأن في المسيح تنازَل الله إلى أعماق كيان الإنسان وأضاء بحبِّه وقداسته كلَّ ظلام طبيعته، وبدَّد كلَّ أحزانه، وقطع كلَّ قيوده وأوهامه، وأعطاه كلَّ ما يتناسب والحياة الأفضل، ونعمة فوق نعمة (يو 1: 16)؛ كل خصائص الإنسان الجديد. وطالما شعر الإنسان أنه فاقدٌ لهذه الصفات، فسيظل حائراً قلقاً، بل ثائراً مُتمرِّداً على كلِّ وضع، لا يفتأ يطلبها بإلحاح ويُحطِّم في سبيلها كلَّ القيود، لأن‍ها روحه الجديدة التي لن يستطعم للحياة بدون‍ها أي معنى. وإن كانت هذه الخصائص التي يُنادَى بها الآن تبدو كأن‍ها مجرَّد حقوق أو أصالة إنسانية أو حق وطني أو تقدُّم حضاري أو افتخار بشري، إلا أنها في حقيقتها تظل تعبِّر تعبيراً خفياً عن امتداد روح الإنسان الجديد نحو الله، والتهيُّؤ المناسب للتلاقي معه على مستوى ميلاد المسيح! المسيح وُلِدَ بجسد من روح الله ومن عذراء؛ جسد إلهي هو، مقدَّس، ممتد، لا حدود له، يشمل البشرية كلها بالتبنِّي؛ فقد قيل في الكتاب إن المسيح هو ”آدم الثاني“، رأس البشرية الجديدة، كل مَنْ قَبِلَه واعتمد باسمه، يولَد له بالروح ويصير ابناً لله فيه! المسيح، إذن، هو رأس البشرية الجديدة بالتبنِّي! لذلك يقول الكتاب: إنه «آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد» (عب 2: 10). هؤلاء في حقيقتهم الروحية هُم جسده الكبير الممتد ليُغطِّي كل أجيال الدهور في السماء والأرض. يقول بولس الرسول عنهم وعنه هكذا: «ليجمع كل شيء في المسيح، ما في السموات وما على الأرض، في ذاك» (أف 1: 10). ولكن المسيح لم يبلغ بعد إلى ملء قامته في الإنسان! لأن البشرية لم تبلغ بعد ملء قامتها في المسيح. البشرية إلى الآن تنمو فيه مجرَّد نموٍّ، ولكن لم تكتمل صورت‍ها النهائية لتُطابق صورة المسيح. المسيح بدأ يتصوَّر في الشعارات فقط، وكأن البشرية ”تتوحَّم“ بصورة جنينها الجديد، ولكنها في نفس الوقت تتقيَّأ، وباستمرار، تراثها الميت الذي عافته. فهي الآن في توتُّر بلغ أقصاه: حروب، نزاعات، مجاعات، عداوة، خصام، تحزُّب، تكتُّل، تحدٍّ، حرمان، تجويع، فقر، إباحية، ثورة على التقليد والعفة والروتين والدِّين، وعلى الله نفسه. لماذا هذا التقيُّؤ كله؟ نعم، لماذا هذا كله معاً وفي جيلٍ واحد؟ أليس هذا لأن البشرية تجوز الآن مخاضها الأخير؟ إن‍ها تصرخ متوجعة: «لأن الأجنَّة دَنَت إلى المولد، ولا قوة على الولادة!» (إش 37: 3) البشرية تصرخ بشعارات‍ها الجديدة وكأن‍ها ت‍هذي: سلام عالمي، سلام سلام وليس سلام! مؤتمرات كل يوم في كـل مكان وبلا هدوء، ما هذا؟ البشرية تريد أن تتغيَّر عن شكلها، ولكن لا يسعفها ميراثها التقليدي، سياسياً كان أو اجتماعياً أو اقتصاديّاً أو حتى الدِّيني!! لأن كل ميراثها أصبح يعوزه الروح. لقد تعفَّن القديم كله وأنتن، وقارَبَ على الاضمحلال، وأصبح لا يُشبِع البشرية ولا يُغنِي عن جوع، وليس أمل، في الواقع، إلاَّ في ميلادٍ جديد لبشرية جديدة تولَد من الروح!! هذه هي الحياة الفُضلَى! ولا يمكن أن تكون حياة أفضل من حياة إلاَّ بمقدار عمل الروح، روح الله في التجديد. فالسياسة يعوزها الروح، والاجتماع والاقتصاد والدِّين وكل ضوابط البشرية، إذا لم يضبطها الله بروحه عاملاً في عمق كيان الإنسان بتجديدٍ يشمل الفكر والضمير العالمي، لأَخَويَّة على الأرض تستمدُّ روحها وأصالتها من بنويَّة واحدة لله؛ فسيظلُّ الإنسان يتقيَّأ نفسه. وأي شعار مهما أتقنه ونفَّذه، إنْ هو كان خالياً من روح الإنسان الجديد، أي من عمق معنى التبنِّي؛ فسيخرج هذا الشعار سَقْطاً ميتاً. فالسياسة، مهما ارتقت، إنْ هي لم تَرَ في جميع الأجناس والألوان والشعوب والأوطان أبناءً متساوين لله الواحد، لهم حقوق متساوية في أرضٍ جديدة وسماءٍ جديدة، فهي سياسة أرضية ميتة وسَقْط ممسوخ متكرر لتقليد ترابي عافَه الإنسان جدّاً وتقيَّأه، وأصبح لا يطيق أن يسمع عنه أو يقرأ له! المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
11 فبراير 2020

يونان ونينوى ونحن

ليس عبثاً وضعت الكنيسة هذا الصوم المبارك في هذا الوقت بالذات، فترتيب الكنيسة دائماً مُلهَم. تعلمون أننا قادمون على الصوم الأربعيني المقدَّس. والكلام هنا مركَّز وموجَّه. فكلمة "الأربعيني" ذات أهمية خاصة. ذلك لأننا قادمون على موت يجوزه المسيح عن البشرية كلها، أو هو استبدال موت بهلاك، ذلك لأن البشرية كلها كانت في حالة هلاك أو مشرفة على هلاك وإبادة لا تقل عن إبادة الطوفان(2)، وذلك بسبب تعاظم سلطان الخطية وهذا ما حدا بالابن المبارك أن يترك مجده ويلبس بشريتنا ويتألَّم لكي ينقذ البشرية. لقد قدَّم نفسه للموت عوضاً عن هلاك البشرية ثم قام، فصار موته وقيامته مصدر خلاص وتوبة لا تنتهي. صار آية لكل مَنْ يريد أن يرث - لا أن يرى الإنسان بعد آية - بل يرث السماء نفسها. فهذا هو موت المسيح وقيامته. وهذا هو الصوم الأربعيني الذي صامه الرب عن البشرية كلها، ليوفِّي عنها كل نقص في نسك أو في صوم والكنسيون منكم يتذكَّرون أننا لازلنا نردِّد ألحان عيد الظهور الإلهي، أي التعميد الذي لا يتم حسب الطقس إلا بالتغطيس الكامل تحت سطح الماء(3)، أي في عمق المياه - أو بتعبير قصة يونان - نزل إلى بطن الماء. لذلك لما خرج المسيح من الماء اعتُبر ذلك مسحة خَدَم بها، تلك التي تقدَّم بها للدخول في صوم الأربعين يوماً، ثم إذا تجاوزنا الزمان أو التـزمنا بالطقس الكنسي ندخل مباشرة في أسبوع الآلام ثم الموت فالقيامة وهكذا يأتي صوم يونان قبل الأربعين المقدَّسة حاملاً معاني ورموزاً كثيرة ما بين الغطاس والموت على الصليب!! نعود إلى يونان. ونسأل: مَنْ هذا المدعو يونان؟ إنسان نبي، من العبرانيين، أتاه صوت الرب هكذا «وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلاً: قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة » (يون 1: 1 و2)فقام يونان، يقول الكتاب إنه "قام وهرب" إلى ترشيش من وجه الرب، وذهب وهاج البحر السفر لم يوضِّح أكثر من هذا، وطبعاً إن أي عدم توضيح في الأسفار أو الإنجيل ليس معناه قصوراً أو خللاً في التدوين ولا حتى سهواً، ولكنه فسحة للفكر العمق وللنفس المتأمِّلة، لتستوعب الأشياء التي لا يمكن أن تُكتب في سطور. وأتمنَّى أن يكون هذا الكلام له صدى عند السامع، لأن كثيرين يشتكون من غموض بعض المواضع في العهد القديم؛ بل وفي الإنجيل أيضاً. صوت الرب يقول ليونان: اذهب وبشِّرها لأن شرَّها صعد أمامي. فهرب ونزل في بطن الماء وبقي فيه ثلاثة أيام، وبالتعبير الكتابي، المسيح نـزل إلى الهاوية ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ. ويونان نـزل إلى العمق، في بطن الحوت، ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، وبتعبيره هو قال: «صرختُ من جوف الهاوية» (يون 2: 2)، وهكذا يبدو سفر يونان تطبيقاً ورؤيويًّا، وكل سطر وكلمة فيه تشير إلى المسيح بصورة قويَّة جداً. وهنا يمكن اعتبار يونان بمثابة يوحنا المعمدان في العهد الجديد الصارخ ليعد طريق الرب يونان رمز حيٌّ بشخصه، يمثِّل المسيح. عماد المسيح دفع به إلى الأربعين المقدَّسة، والأربعين إلى الصليب ثم القيامة. تماماً كما نـزل يونان الماء ثم ذهب لنينوى كارزاً لها بالتوبة قائلاً لها: إن المدينة ستهلك بعد أربعين يوماً - كأنما هنا إشارة خفية أن الأربعين يوماً هذه مهمة في تحديدات الله - وكأنها وفاء أقصى مدة محدَّدة للهلاك(4). لكن الرب وفَّاها وقضاها في صومه الأربعيني عن البشرية كلها أما هروب يونان، فكأنه يستصعب الدعوة، لكنه بعد أن نـزل في الماء وظلَّ فيها ثلاثة أيام حدث له شيء ما. لأنه بعد ما ألقاه الحوت على الشاطئ، قال له الرب مرَّة ثانية بنفس الألفاظ الأُولى: «قُم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة ونادِ لها بالمناداة التي أنا مُكلِّمُكَ بها» (يون 3: 2)، فانصاع يونان وكأنما تجدَّد فكره بعد أن اعتمد لنينوى ثلاثة أيام في العُمق!! هنا شيء سرِّي حدث. وكأنما النـزول في الماء - معمودية يونان - هو اجتياز الموت والقيامة لنينوى. يا للعجب على الإشارات البليغة، يا للكنيسة التي تستطيع باللمسات الخفيفة أن تحدِّد صوماً محدَّداً أو عيداً معيناً. تحديدات كلها إلهام ورؤيا لمَنْ يريد أن يسمع أو أن يرى، وليس كالكتبة والفريسيين الذين قالوا له: «نريد أن نرى آية»، متغاضين عمَّا حدث من قبل وضعت الكنيسة هذا السفر أمام أعيننا في هذه الأيام لنستطيع أن نستوعبه لأنفسنا: أولاً في يونان، وثانياً في نينوى. لأن ليونان ونينوى رسالتين لنا في حياتنا. فيونان يضع لمسات صورة المسيح القادم من بعيد. ونينوى تبكِّتنا بشدَّة: «رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه، جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلاَّ آية يونان النبي.» (مت 12: 41 و39)«هذا الجيل»، لا يقصد به الوحي زمن جيل المسيح فحسب - كما يقول أغلبية الشرَّاح - ولكنه هو هذا الجيل أي كل جيل شرير وفاسق. كل جيل فيه الشرير والفاسق، فهو «هذا الجيل». أما جيل المسيح الذي هو جيل الرسل فهو جيل مستمر فينا وبنا حتى الآن. وأنتم تسمعون الكاهن يقول: "اذكر يا رب كنيستك الواحدة الوحيدة المقدَّسة الجامعة الرسولية"، ثم تسمع في المجمع أسماء البطاركة حتى آخر بطريرك. فالكنيسة ممتدَّة من المسيح والرسل إلى هذا اليوم. فهو جيل واحد، هو جيل المسيح، وهذا اسمه. الجيل الشاهد للمسيح حتى آخر يوم في تاريخ البشرية، جيل ممتد، الجيل الطيب القديس الطاهر أما الجيل الآخر فهو جيل قايين، وجيل يهوذا، الجيل الصالب، هو أيضاً ممتد حتى هذا اليوم، فيه يهوذا وفيه الصالب أيضاً «جيل فاسق وشرير»، قد تبدو هنا قسوة في كلام المسيح، ولكن ليس الأمر كذلك. هو جيل فاسق وشرير لأنه زاغ عن الله. وإذا سمعت عن "الفسق والشر" في الإنجيل فلتفهم أنه يقصد الوضع الروحي وليس الجسدي (لأن الوضع الجسدي يمكنه بطعنة في الضمير الحي من سيف كلمة الله أن يحوِّل أشر الناس إلى القداسة). الشر الروحي، هو أن نعبد غير الله، أن نرتمي في أحضان الشيطان، هذه هي الخيانة الزوجية. لأن المسيح اتخذ الكنيسة لنفسه عروساً، حسب نفسه عريساً للكنيسة: «لأني خطبتكم لرجل واحد لأُقدِّم عذراء عفيفة للمسيح.» (1كو 11: 2)«جيل فاسق وشرير يطلب آية»، هل يريد من الله أن يرسل له ناراً من السماء؟ أو يرسل له منًّا من السماء يأكله ويشبع؟ ألم يقدِّم لهم الطعام في معجزة إكثار الخمس خبزات والسمكتين (إنجيل اليوم الثالث من صوم يونان)؟ ولكن لننتبه لأنفسنا جداً لأن الآية لا تزيد الإيمان، ولكن الإيمان بحد ذاته آية!! تذكرون قول الإنجيل إن المسيح «لم يصنع هناك (في الناصرة) قوات كثيرة لعدم إيمانهم» (مت 13: 58). لن يستطيع المسيح أن يعمل لك آية في حياتك إن لم يسبقها إيمان «ولا تُعطَى له آية إلا آية يونان النبي»، جيل فاسق شرير، وخطيته شنيعة جداً. لن تنفعه الآيات من السماء. ولكن آيته الوحيدة هي التي تقيمه من موت الضمير، وآيته هي آية يونان النبي، آية الموت لأن يونان في عُرف المنطق والعلم أنه كان يتحتَّم أن يموت في بطن الحوت، يونان مات، نعم مات، والرب أقامه، ولكن لمَنْ كان الموت؟ ما أجمله موتاً ذلك الذي نموته كل يوم من أجل الآخرين! ما أجملك يا يونان يا نبي الفداء وأنت تموت ثلاثة أيام بلياليها لتكفِّر عن خطيتك وخطية نينوى العظيمة!! الشرَّاح الغربيون يقولون عن سفر يونان أنه سفر خرافي، أما المتساهلون منهم فيقولون عن يونان إنه يمثِّل الابن الأكبر (في مَثَل الابن الضال)، لأن نينوى لما خلصت حزن يونان وصار مثل الابن الأكبر لم يُرِدْ أن يدخل البيت لا، لم يحدث هذا، الحقيقة العميقة هي أن يونان تمنَّع من الذهاب لنينوى لئلاً يبِّشرها بالخراب!! ولأنه يعلم يقين العلم أن الله طويل الأناة بطيء الغضب، وسيصفح حتماً في النهاية. لذلك هرب يونان لئلا يواجه محنتين: محنة التبشير بالخراب، وهو عسير كل العسر على النفس الوديعة؛ ومحنة رجوع الله عن غضبه، فيظهر يونان وكأنه يسخر من شعب غريب. ولكن أين يهرب يونان من وجه الله؟ فالله دائماً يطارد الخادم الهربان. فكل إنسان يمكن أن يهرب من وجه الله، إلاَّ من سمع صوته وحمل نيِّره وقَبـِلَ اسمه القدوس في الفكر القبطي يونان ليس هو الابن الأكبر الذي حزن على خاص نينوى، ولكنه مثال المسيح. هو نبي الفداء المبدع، لا يقلُّ بل ربما يزيد عن كل الأنبياء في العهد القديم، رقة ورهافة، لا يماثله في هذه الرهافة والرقة إلاَّ نبي واحد مظلوم مثله، هو أيوب.يونان لم يحتمل أن يكون كارزاً بالخراب. وفي إنجيل لوقا إشارة لطيفة جداً ولكنها سرية للغاية، تكشف عن حدوث صلة توبيخ لأهل نينوى بسبب المخاطرة العظمى والموت المحقَّق الذي تعرَّض له يونان من أجلهم: «وكما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل.» (لو 11: 30)إذاً، فقد بلغ أهل نينوى أن يونان عبر محنة الموت في داخل بطن الحوت ثلاثة أيام، ثم قام من أجل خلاصهم!!هنا يقصد إنجيل لوقا أنه كما كان يونان بنفسه (وليس بكرازته فقط) آية لأهل نينوى، هكذا يكون ابن الإنسان بنفسه آية لهذا الجيل، أي بموته وقيامته من الصعب جداً، يا إخوة، أن نتكلَّم كثيراً عن ضغطة الموت على مدى ثلاثة أيام بلياليها التي جازها يونان، ولكننا نعرفها أكيداً في تطبيقها على المسيح لما مكث ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في الهاوية ثم قام: «سبى سبياً وأعطى الناس عطايا (أي كرامات)» (أف 4: 8)، قام «ونفخ (في وجه تلاميذه) وقال لهم ... مَنْ غفرتم خطاياه غُفرت له» (يو 20: 22 و23). أعطى الحِلَّ والبركة على الأرض لتدوم إلى أبد الآبدين، إذ نسمع الكاهن يقول: «كما أعطيت الحلّ للتلاميذ ليغفروا الخطايا ...»، هكذا دام هذا الحلُّ الذي يفك كل الخطايا هكذا قام يونان وكَرَزَ لنينوى، ليحل عنهم بضيقة موته ثم بكرازته غضب الله!! ويبدو أنه قال لهم ما حدث له وأما من جهة نينوى المدينة العظيمة، فنحن آتون هنا لمنظر من المناظر الرهيبة، إذ بمجرَّد أن سمع الملك بما حدث ليونان، وبما نادى به، قام عن كرسيه الملكي وخلع ثيابه وفخفخته وجماله وفخره الكاذب، ولبس المسوح، والشعب كله لبس المسوح - والمسوح ثوب من شعر المعزى خشن الملمس جداً - وأعطى الملك أمراً أن يُرفع الطعام عن كل إنسان كبيراً كان أم صغيراً حتى الرضيع على صدر أمه - يا للهول - وعن البهائم كلها، وهنا وكأنما الخليقة كلها تتمثَّل في قصة توبة نينوى.وكان ذلك إلى ثلاثة أيام. مدينة فيها "واحد على ثمانية" مليون نسمة تتوب كلها ويعفو الرب عنها من أجل توبة جماعية ناشطة وتدبير متقن لهذا الملك النصوح الواعي الذي استطاع بحكمته أن يرفع حكم الموت عن شعبه؛ يا للرعاية ويا لحكمة الراعي!! ثم ما هذا الحضن المتسع يا الله؟ إن هذا عجب كبير حقاً! مدينة وثنية تؤمن بالله بكرازة واحدة؟ نعم، ليس بآية من السماء ولا من الأرض تتوب البشرية أو يُعفَى عن إثمها، بل بالاتضاع والصوم والصلاة وتذلُّل القلب لدى الله القدير!آه لو علم كل خاطئ هذا، ما استكثر خطاياه أبداً عن عفو الله. لو علمت الكنيسة ما ينبغي أن تكون عليها من توبة جماعية، لجلست مع أبنائها في هذه المسوح وفي تراب المذلة إلى أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء، ولكانت أزمنة الفرج تأتي من السماء سريعاً!! كما قال بطرس الرسول (أع 3: 19)يا أحبائي، إن تعطَّلت أزمنة الفرج فالعيب هو منا، نينوى كانت تسير إلى الهاوية والهلاك أكيداً وسريعاً، ولكن بوقفة شريفة شُجاعة أمينة على قدر الدعوة وقدر التهديد استطاعت أن تجتذب لنفسها عفواً من السماء. ماذا يعوزك أيها الخاطئ؟ أيعوزك المسوح؟ أيعوزك التراب؟ ماذا يعوزك؟ لو كانت التوبة بذهب وفضة، لو كانت تستلزم سلماً عالياً نطلع به إلى السماء، لو كانت تستلزم منا جهداً نفسانياً أو عقلياً أو جسمانياً أو حكمة فائقة أو علماً زاهراً، لكي نحدر المسيح من السماء أو نصعده من الهاوية؛ لقلنا إن التوبة صعبة وشاقة. ولكن ملك وشعب ونساء وأطفال وبهائم نينوى عرفت طريقها سريعاً إلى النجاة. فما بالنا نتعطَّل نحن، وما بالنا نذهب يميناً ويساراً ونستشير الكبير والصغير، والخلاص أمامنا وبابه مفتوح، والذين دخلوا منه كثيرون، ومن كل شعب ولسان وأُمة!!وها هي نينوى تضع لنا نموذجاً لتوبة بسيطة قادرة بعنفها أن تفتح أبواب السماء وتحدر عفواً شاملاً بلا أي استثناء للمدينة بأسرها، قيل عنها في الكتاب إنها لا تعرف شمالها من يمينها!يا إخوة، نحن قادمون على الأربعين المقدسة، يعوزنا قلب كقلب ملك نينوى وشعب نينوى. أما مجرَّد ذكر البهائم الصائمة وهي خائرة على مذاودها ففيه توبيخ لنفسي، لأني أرى في نفسي وحوشاً ضارية تتعالى على غيرها كما يعلو الأسد على الغزال. كم فيكِ يا نفسي من غرائز تحتاج أن تُذلَّل بالجوع والمسوح؟ منظر نينوى وبهائمها واقفة على المذاود تئن، مرعب لشهواتي وملذاتي. الثيران وقعت من الجوع خائرة. وكم فيكِ من هذا يا نفسي يا مدينة الله! ما أجملكِ يا نفسي وأنتِ جالسة في المسوح والتراب متشبِّهة بنينوى!! جيد لكِ يا نفسي في هذه الأربعين المقدسة أن تَرْبُطي حواسكِ كلها، البهيمي منها والوحشي، ولا تفتكري أنكِ بنت المدينة العظمى التي تعرف شمالها من يمينها، لأن الخطية لا يتعالى عليها إلا مَنْ ذاق ما ذاقته نينوى!اليوم يا أحبائي، أكشف أمامكم سر السماء بلا ستار، بلا حجاب؛ ملك يترك عرشه، وينتـزع الخلاص، وينتـزع العفو السمائي، بتوبة جميلة رائعة استطاع أن يحصل عليها وهو في التراب والرماد ثقوا، إن ساعات الخلاص وأيام الرجاء لا تأتي جزافاً أبداً. إن كنت تريد خلاصاً سريعاً، إن كنت تريد أزمنة فرج، فاليوم تعلَّم من درس نينوى، وهو درس للأجيال كلها جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تُعطَى له آية إلا آية نينوى آية نينوى لا تقل إطلاقاً عن تفتيح عيني الأعمى، وعن إطعام الجائعين بخمس خبزات وسمكتين، وتحويل الماء إلى خمرآية نينوى فاقت كل آية إلا موت المسيح وقيامته، ولكن الجديد في آية نينوى أنها تابت بمناداة نبي، والآن الصوت الذي ينادينا أعظم من كل نبي لأن يونان نادى بالموت أو التوبة، ولكن المسيح يقدِّم لنا موته قوَّة حية محيية قادرة أن تُقيم من الخطية والموت!!اليوم يا أحبائي يوم نينوى ونبيها الرقيق المشاعر، النبي الفادي القائل: "هذه خطيتي" حينما هاج البحر ولم يقل "هذه خطية نينوى"يونان هنا ينادي كل خادم، كل واعظ، كل كاهن، كيف يرى خطية شعبه ومدينته، ويرى في آلامه وحزنه وضيقه، بل وموته فدية لأولاده وصلَّى يونان إلى الرب إلهه من جوف الحوت وقال«دعوت مِنْ ضيقي الرب فاستجابني. صَرَختُ مِنْ جوف الهاوية فَسَمِعتَ صوتي. لأنك طرحتني في العمق في قلب البحار. فأحاط بي نهرٌ (نهر الموت). جازت فوقي جميع تياراتك ولججك. فقلت: قَدْ طُردتُ مِنْ أمام عينيك (إلهي إلهي لماذا تركتني؟). ولكنني أعود أنظر إلى هيكل قدسك (وفي اليوم الثالث أقوم). قد اكتنفتني مياهٌ إلى النفسِ (هذا المزمور يُقال في يوم جمعة الصلبوت). أحاط بي غَمْرٌ. التفَّ عشبُ البحرِ بِرَأْسِي. نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض عليَّ إلى الأبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتي أيها الرب إلهي. حين أعيت فيَّ نفسي ذكرتُ الرب فجاءت إليك صلاتي إلى هيكل قدسك. الذين يراعون أباطيل كاذبة يتركون نعمتهم. أما أنا فبصوت الحمد أذبح لكَ. وأوفي بما نذرته. للرب الخلاص.» (يون 2: 2 - 9) هكذا تكون صلواتنا في ضيقاتنا. اشْتَكِ للرب فقط، شكوى الممنونين "جازت عليَّ آلامك يا رب. أجزتني المحنة وأمررتني تحت العصا. المرُّ في حلقي. دخلت المرارة إلى قلبي وإلى نفسي". وكما يقول النبي: «توجعني جدران قلبي» (إر 4: 19)، بتعبير عجيب، كلها أنين الشكر وشكوى الحمد إن صلاة يونان هي المزامير الجديدة للسائرين في طريق الجلجثة والتي حتماً تردِّد قرارها في السماء كل الأرواح المبرَّرة المكمَّلة في المجد. إنها السلم الجديد الذي نرتفع عليه لكي نطل خلسة إطلالة سريعة على المجد المعد!نعم، هكذا يُغتصب ملكوت السموات! بصلاة كصلاة يونان وهو في عمق الهاوية. اليوم يا أحبائي، هو يوم التوبة الغاصبة لحقوق القديسين وميراث ابن الله. اليوم، مفهوم جديد لمعنى الكرازة بالبذل حتى الدم. اليوم، دعوة للكارز ليسلك طريق النجاة لنفسه وشعبه، للراعي والرعية. هذه نينوى تعطينا صورة حاسمة لكل دقائق ومعنى استرضاء وجه الله!! يا رعية الله، صغيرها وكبيرها، شيخها وطفلها، مريضها وسليمها، هذه نينوى أمامنا آية ويا كارزي المسكونة، ويا واعظي الكنيسة، هوذا يونان لكم اليوم مثلٌ يُحتَذى، كيف كان وماذا صار. فيونان قَبـِلَ أن يدخل محنة الموت والثلاثة الأيام بلياليها ما كان نافعاً لا لنينوى ولا لنفسه، حيث كان سيذهب إلى ترشيش ليأكل الخرنوب مع الخنازير وها هو يونان بعد أن صلَّى من عمق التجربة وأهوال الموت يرينا كيف جاز التجربة حتى النهاية، وصار يونان كارزاً بشبه المسيح، وحُسب له موته بشبه فداء. وهكذا تكرَّم يونان بهذه التجربة فصار هو النبي الوحيد الذي أخذه المسيح ليضعه نموذجاً لموته وقيامته! وآية للتائبين!! صلاة يا رب الفداء الحقيقي الذي منك نستمد كل معنى وكل قوَّة للفداء، أعطِ يا رب روح الفداء لرعاة شعبك، الكبير منهم والصغير، العجوز والحَدَث، المطران والكاهن، أعطهم روح يونان يا رب، وأما رعيتك فأعطها طاعة كطاعة نينوى لمليكها لقبول مرارة التوبة لتنجو ولا تُدان مع العالم، وليؤمن شعبك بالحق أن الرب قادر أن يميت ويُحيي فيا شعب الله اطلبوا الحياة بسيرة التوبة ولا تسعوا بسيرة أهل العالم في طريق الموت يا رب أعطِ رعيتك جميعاً روحاً كروح نينوى في هذا اليوم ليتوب شعبك، وتتوب كل مدن ممالك الأرض إليك، ولتأتِ أزمنة الفرج سريعاً من عندك على العالم. آمين. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
14 يناير 2019

ثانياً: عيد الختان

أما بخصوص زمن التعييد لهذه المناسبة المقدَّسة، فالمعروف أنه كان مرتبطاً بعيد الميلاد ارتباطاً جوهريًّا، بحيث لم توافق الكنيسة منذ البدء على أن تخصِّص له عيداً منفصلاً عن الميلاد. وزمن عيد الميلاد لم تحدِّده الكنائس كلها في زمن واحد. فمعروف أن كنيسة روما في الغرب كانت تُمارس عيد الميلاد، وربما عيد الختان منذ زمن بعيد، كما يقول العلامة ترتليانوس، إذ عَثَرَ عُلماؤها في القرون الأُولى على أرشيف الحوادث المدنية التي حوت ذكر حوادث الاكتتاب أيام أوغسطس قيصر، وفيها اسم يسوع ونسبه وميعاد ميلاده وخلافه، والتي منها استدلَّت الكنيسة على ميعاد ميلاد المخلِّص، وبالتالي حدَّدت زمن عيد الميلاد والختان: [أو كيف يُسمح للمسيح أن يدخل إلى المجمع إذا كان غير معروف سابقاً أو كان ظهوره مفاجئاً ولا يُعرف من أي سبط هو ومن أي بلدٍ ومَنْ هي عائلته؟ وأخيراً تسجيله في الاكتتاب الذي عمله أوغسطس قيصر، وهو الشاهد الصادق على ميلاد الرب، المحفوظ في أرشيف روما. كذلك وبكل تأكيد كان هناك شهود يتذكَّرون إن كان قد اختتن على أيديهم أم لا حتى يُسمح له بالدخول إلى أماكنهم المقدَّسة.]([6]) ويؤكِّد هذه الحقيقة القديس يوحنا ذهبي الفم في عظته التي ألقاها في 25 ديسمبر سنة 376م، حيث يُعلن فيها ضمناً بدء ممارسة كنيسة أنطاكية لعيد الميلاد منفرداً عن عيد الغطاس، اعتماداً على مراسلات جرت له مع كنيسة روما التي كانت قد سبقت أنطاكية في تحديد زمن العيد بوقت كثير. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [والحقيقة أنه لم يمضِ حتى الآن سوى عشر سنوات منذ أن تعرَّفنا بوضوح على هذا اليوم (يوم الميلاد 25 ديسمبر). وبالرغم من ذلك، ها هوذا قد ازدهر هذا اليوم وانتشر بسبب غيرتكم وكأنه قد تسلَّم لنا منذ البدء. وهكذا لا يخطئ الإنسان لو هو قال إن هذا العيد جديد وقديم معاً، جديد لأننا هوذا قد عرفناه حديثاً، وقديم لأنه هكذا اكتسب مساواة مع الأعياد القديمة ... وهذا اليوم كان معروفاً منذ البدء عند رجال الغرب، غير أنه وصلنا أخيراً منذ مدة وجيزة فقط ... (وهنا يبدأ يوحنا يقص قصة الأرشيف المدني في روما كمصدر تعرف منه رجال الكنيسة على هذا اليوم) ... ومن هؤلاء الذين كانت لديهم معلومات دقيقة عن الموضوع في روما قد تسلَّمنا بدورنا تحديد هذا اليوم، لأن قاطني هذه المدينة كانوا متمسِّكين بهذا اليوم منذ البدء، ومن التقليد القديم، وهم الذين أرسلوا لنا هذه المعلومات]. أما في كنيسة مصر، فنستقي تحديد بدء عيد الميلاد (ومعه عيد الختان) من مصادر متعددة، وأهمها الآتي: أولاً: الدسقولية (أي تعاليم الرسل) وهي من مدونات القرن الثالث: 18: [يا إخوتنا تحفَّظوا في يوم الأعياد التي هي عيد ميلاد الرب، وأكملوه في اليوم الخامس والعشرين من الشهر التاسع الذي للعبرانيين، الذي هو اليوم التاسع والعشرون في الشهر الرابع الذي للمصريين. ومن بعد هذا الإبيفانيا، فليكن عندكم جليلاً لأن فيه بدأ الرب أن يظهر لاهوتيته في معموديته في الأردن من يوحنا. واعملوه في اليوم السادس من الشهر العاشر الذي للعبرانيين الذي هو الحادي عشر من الشهر الخامس الذي للمصريين. وليتقرَّب في الميلاد والغطاس ليلاً لا لكراهية الصوم بل لتمجيد العيد]. ويُلاحَظ هنا أنه ذكر كلمة ”يوم الأعياد“، مما يفيد أنه في يوم واحد كان يُقام عيد للميلاد والغطاس معاً. كذلك فإن تشابه العيدين في طقسهما المسائي يوحي بذلك. ثانياً: القديس أثناسيوس الرسولي: وينقل عنه العالِم كوتيلييه من إحدى مخطوطاته التي لم يُذكر اسمها قول أثناسيوس: [لأن ربنا يسوع المسيح وُلِدَ من العذراء القديسة مريم في بيت لحم في 29 من شهر كيهك، بحسب المصريين، في الساعة السابعة، الموافق الثامن من يناير.]([7]) ثالثاً: من كلمندس الإسكندري، حيث يبدو كلمندس متردِّداً في قبوله: [والأمر العجيب أنه توجد جماعات حدَّدت بالفعل سنة ميلاد الرب وأيضاً اليوم الذي وُلِدَ فيه المخلِّص وهي السنة الثامنة والعشرون لأوغسطس قيصر، في اليوم الخامس والعشرين في الشهر التاسع([8]) (ديسمبر) (الموافق 28 كيهك). كذلك نعلم أن أتباع باسيليدس يعيِّدون أيضاً ليوم عماده، ويمضون الليل كله ساهرين في القراءات، ويقولون إن عماد الرب كان في السنة الخامسة عشر لسلطنة طيباريوس قيصر، في اليوم الخامس عشر من شهر طوبة.]([9]) وهكذا تأتينا هذه الأخبار المبكِّرة جدًّا بخصوص تعييد العيدين: الميلاد والغطاس، كل بمفرده في مصر، ولكن ليس مؤكَّداً إن كان هذا من قبل الكنيسة الرسمية الأرثوذكسية الجامعة. ولكن الإشارة هنا إلى أن تعييد العماد بمفرده كان لبعض الجماعات المنشقة مثل باسيليدس. رابعاً: عن كاسيان: سنة 360 - 450م: ثم يعود كاسيان ويؤكِّد لنا أن الكنيسة في مصر كلها كانت لا تزال في أيامه تعيد لعيد الميلاد والغطاس معاً في عيد الإبيفانيا، حيث تأتي كلمة ”الإبيفانيا“ بصيغة الجمع، أي تشمل عدَّة ظهورات: ( أ ) الظهور في الجسد «الله ظهر في الجسد». (ب) ظهور النجم للمجوس، وهو إشارة إلى استعلان الله للأُمم. ( ج ) استعلان بنوَّته لله في العماد بصوت السماء. ( د ) استعلان لاهوته بمعجزة قانا الجليل. [وفي إقليم مصر، هذه العادة قديمة بالتقليد حيث يراعى أنه بعد عبور ”الإبيفانيا“ التي يعتبرها الكهنة في هذا الإقليم الزمن الخاص بمعمودية الرب، وأيضاً ميلاده بالجسد، وهكذا يعيِّدون لكلا التذكارين أي لكلا ”السرّين“، ولا يعيِّدونهما منفصلين كما هو في أقاليم الغرب. ولكن في عيد واحد في هذا اليوم.]([10]) ونفس هذه الحقائق يسجِّلها إبيفانيوس أسقف قبرص. والمعروف لدى العلماء أن أول مَنْ عيَّد ”الإبيفانيا“ للميلاد والغطاس معاً هي كنيسة الإسكندرية منذ العصر الرسولي، ويُقال إن هذا التقليد مسلَّم للكنيسة من القديس يعقوب أخي الرب. ومنها انتقلت إلى روما والغرب. وهناك حدث في الربع الأخير من القرن الرابع، انفصال العيدين، وعيَّدت كنائس الغرب للميلاد في 25 ديسمبر. ومن الأمور الطريفة أن في عيد الغطاس عند الغرب، لا تزال الكنيسة هناك تحتفظ بتذكار زيارة المجوس!!([11]) كذلك من الأمور الطريفة أن الغرب احتفظ باسم عيد ”الإبيفانيا“ في نطقه اليوناني، أما الميلاد فبنطقه اللاتيني؛ مما يفيد أن عيد الإبيفانيا مأخوذ بطقسه واسمه من الشرق، أما التعييد للميلاد منفرداً عن الغطاس فهو من ترتيب الغرب. خامساً: البابا الإسكندري تيموثاوس الأول (378 - 384م): يسجِّل لنا المؤرِّخ جناديوس في كتابه عن التاريخ الكنسي، أن البابا الإسكندري تيموثاوس هذا ألَّف كتاباً على ميلاد ربنا بحسب الجسد. ويظن المؤرِّخ أنه كُتب أو قُرئ في عيد الإبيفانيا([12]). ومن هذه الإشارة يبدو واضحاً أن كنيسة الإسكندرية كانت تعيِّد للميلاد متميِّزاً عن الغطاس، ولو أن ذلك كان في يوم واحد وعيداً واحداً، وكانا يُسميان معاً بالإبيفانيا. ويُعتبر هذا الكتاب الذي ألَّفه تيموثاوس بابا الإسكندرية الثاني والعشرون عن الميلاد أول مؤلَّف كنسي عن الميلاد قاطبة. وهكذا كما ابتدأ الميلاد يأخذ مجاله المتميِّز كعيد قائم بذاته منذ القرن الثاني في مصر، هكذا ابتدأ عيد الختان يأخذ وضوحه المتميِّز معه جيلاً بعد جيل؛ لأن الكنيسة بدأت تهتم بتسجيل كل حوادث الإنجيل مبكِّراً جدًّا، فنحن نقرأ للقديس مار أفرآم السرياني (الذي تنيَّح سنة 373م) تحديده أيضاً لعيد البشارة هكذا: [لأن في العاشر من مارس كان الحبل به وفي السادس من يناير كان ميلاده.]([13]) سادساً: البابا كيرلس الكبير عمود الدين (412 - 444م)، والأسقف بولس من ”أميسا“: مذكور في تسجيلات مجمع أفسس سنة 431م، أن الأسقف بولس من أميسا ألقى عظة في حضور البابا كيرلس الكبير الإسكندري عن ميلاد ربنا يسوع المسيح، حدَّد فيها ميلاد المسيح باليوم التاسع والعشرين من شهر كيهك (الذي كان يوافق 25 ديسمبر)([14]). وعنوان العظة كالآتي: [عظة لبولس أسقف أميسا ألقاها في اليوم التاسع والعشرين لشهر كيهك في الكنيسة العظمى بالإسكندرية بحضرة المطوب كيرلس على ميلاد ربنا ومخلِّصنا يسوع المسيح]. ومن هذه العظة يتضح أن عيد الميلاد كان له وجود مستقل عن عيد الغطاس في زمن كيرلس الكبير! وكان قد تحدَّد له يوم معيَّن خلاف يوم الإبيفانيا. ولكن المعروف أن هذا تم بحذر شديد، لأن التقليد المألوف الجاري في الكنيسة كان يعتبر أن عيدي الميلاد والغطاس يكوِّنان مفهوماً واحداً ”لطبيعة الله الكلمة المتجسِّد“. كذلك فمجرد تقسيم العيدين يُعتبر تقسيماً لمفهوم طبيعة المسيح، الأمر الذي أثار حفيظة شعب القسطنطينية عندما أجرى غريغوريوس النـزينـزي (اللاهوتي) هذا التقسيم وجعل الميلاد منفصلاً عن الغطاس، فهاج الشعب محتجاً معتبراً ذلك إساءة لمفهوم لاهوت المسيح. تحديد عيد الختان: ومن الأمور الثابتة في الكنيسة أن الإشارة إلى عيد الختان كانت قديمة في الكنيسة، وكانت تستتر تحت كلمة ”الأوكتاف Octave“ أي ”الثامن“، وهو اليوم الثامن من بعد الميلاد، أي الموافق للختان. وقد اختير هذا الاصطلاح تحشُّماً واحتراماً لجلال المختتن. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكنيسة كانت تعتبر الختان مكمِّلاً للميلاد، فلا يصح أن يُعيَّد للختان عيداً منفصلاً عن الميلاد، فأضافت ”اليوم الثامن“ أي ”الأوكتاف“ إلى عيد الميلاد بالرغم من إقامة تذكاره في يوم آخر غير يوم الميلاد. وهذا الأمر سبق أن لاحظناه أيضاً في تمسُّك الكنيسة بالجمع بين عيدي الميلاد والغطاس معاً، باعتبارهما يكوِّنان مفهوماً واحداً لمسيح واحد مولود في بيت لحم وفي الأزلية، بحيث لا يمكن فصل ميلاده في بيت لحم عن ميلاده الأزلي. وقد ظلَّ هذا الاصطلاح ”الأوكتاف“ معمولاً به في الكنيسة مدَّة طويلة، حيث بدأ قليلاً قليلاً يأخذ اسمه الطقسي ”عيد الختان“ بوضوح. ومن قراءات اليوم الثامن من بعد الميلاد، تظهر الفصول الخاصة بختانة المسيح، وذلك في أقدم القطمارسات أما أقدم وثيقة في الكنيسة بلغت إلى علمنا حتى الآن، فهي تحمل عظة عن ”عيد الختان“، وهي من أعمال ”زينو“ أسقف فيرونا من القرن الرابع([15])، قيلت في ”أوكتاف“ الميلاد، أي في اليوم الثامن من الميلاد. المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
13 يناير 2019

الختان وعيد الختان

أولاً: الختان ( أ ) معنى الكلمة: peritšmnw 1 - جاءت هذه الكلمة في الأدب اليوناني القديم بمعنى ”يقطع دائريًّا“ أو «يحز دائريًّا للقطع». واستخدمت في معنى «تقليم العنب». ولعل مَثَل الرب عندما شبَّه نفسه بالكرمة ونحن الأغصان، وأن الآب يقلِّم الأغصان لتأتي بثمر أكثر، إشارة غير مباشرة إلى الختان الروحي. 2 - ويشير ”استرابو“ (الحكيم اليوناني الشهير) إلى الختان بوضوح بصفته عادة يهودية مأخوذة من مصر. ولكن هذا أمر غير صحيح، وذلك بمقارنة الأصحاح الخامس من يشوع القائل إن ختان مَنْ تبقَّى من شعب إسرائيل قبل عبور الأردن كان يومئذ لرفع عار مصر عن الشعب. (ب) الختان في العهد القديم: 1 - أصل الطقس: (تكوين 17): «وقال الله لإبراهيم: وأما أنت فتحفظ عهدي. أنتَ ونسلك من بعدك في أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك. يُختن منكم كل ذكر. فتختنون في لحم غرلتكم. فيكون علامة عهد بيني وبينكم. ابن ثمانية أيامٍ يختن منكم كلُّ ذكرٍ في أجيالكم. وَلِيد البيت والمُبتاع بفضة من كل ابن غريب ليس من نسلك. يختن ختاناً وليد بيتك والمبتاع بفضتك. فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبديًّا. وأما الذكر الأغلف الذي لا يُختَن في لحم غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها. إنه قد نكث عهدي.» (تك 17: 9 - 14) وبذلك فالختان كان بمثابة أول علامة عهد شخصي على مستوى العلاقة الداخلية غير المنظورة بين الله وبين كل فرد في شعب الله. وسُمِّي ”عهد الختان“ (أع 7: 8). ولكن نجد العهد القديم يستخدم الختان ليس للإنسان فحسب، بل وللشجر أيضاً حاسباً أن الشجرة المغروسة جديداً تعتبر ”غلفاء“ أي غير مختونة (غير مقدَّسة) معنويًّا لمدَّة ثلاث سنوات، حيث يعتبر كل ثمرها ”أغلف“ أي نجساً لا يُؤكل، بل يُطرح. وفي السنة الرابعة تحسب الشجرة مقدَّسة بعدما يقدم طرحها للرب كتقدمة شكر، وبعد ذلك في السنة الخامسة تحسب حلالاً على الإنسان ومقدَّسة: + «ومتى دخلتم الأرض وغرستم كل شجرة للطعام تحسبون ثمرها غرلتها. ثلاث سنين تكون لكم غلفاء. لا يؤكل منها. وفي السنة الرابعة يكون كل ثمرها قُدساً لتمجيد الرب. وفي السنة الخامسة تأكلون ثمرها. لتزيد لكم غلتها. أنا الرب إلهكم.» (لا 19: 23 - 25) والمعنى هنا ينصبّ على تحويل الشجرة من غرس أرضي (شيطاني) عليه اللعنة الأُولى، إلى غرس سماوي (مقدَّس) حلَّت عليه البركة. وكأنها عملية جحد للشيطان تماماً كالذي يحتِّمه الطقس في المعمودية، تنتقل به الخليقة من معسكر الشيطان إلى معسكر الله. وهذا يتضح أكثر في قصة موسى وزوجته صفورة وابنها البكر الذي ختنته في الطريق إلى مصر لتمنع عنه الهلاك، وكان دم ختانته على رجليه (القائمتين) علامة على التصاقه بالرب «فانفكَّ عنه، حينئذ قالت: عريس دم من أجل الختان.» (خر 4: 26) والمُلاحَظ أن كلمة ”ختانة“ في اللغة السامية (الآرامية) القديمة تفيد معنى ”قطع الغلفة“، أو معنى ”العريس“، وقد استعملت كذلك منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد باعتبار أن الختانة هي علامة أو طقس الزواج. وقد انحدرت هذه المرادفة إلى اللغة العربية فـ”الختن“ هو ”العريس“، ولكن بمفهوم العريس الطاهر، أي الذي انفك عنه الشيطان بقطع غلفة النجاسة. وفي أواخر العصر اليهودي اقتصرت الختانة الجسدية على مفهوم الدخول في شعب الله (كشعب اختاره الله وتزوجه لنفسه كابن بكر)، وقد اقتربت الختانة بأخذ الاسم الجديد الذي يلزم أن يكون مطابقاً لاسم أحد أفراد أسرته إمعاناً في تبعية الطفل لشعب الله. وكان هذا الطقس، على العموم، في غاية الأهمية بالنسبة لليهودي المخلص لشعبه وإلهه، لدرجة أنه كان يهون جدًّا على الإنسان اليهودي أن يستشهد في سبيل تكميل ختانته لأن موت اليهودي بدون ختانة معناه الحرمان الأبدي من ميراث شعب الله. 2 - دخول طقس الختان في شريعة موسى مرتبطاً بالفصح: وقال الرب لموسى وهارون هذه فريضة الفصح: كل ابن غريب لا يأكل منه، ولكن كل عبد مبتاع بالفضة تختنه ثم يأكل منه. النـزيل والأجير لا يأكلان منه. وهنا ابتدأ الختان يأخذ صورة طقسية محضة ويتزحزح قليلاً قليلاً في التقليد اليهودي من وضعه الأصيل كعلامة عهد خاصة بين الله وكل فرد على المستوى الروحي والإيماني بحسب الترتيب الذي وضعه الله مع إبراهيم، حيث إبراهيم هو مركز إيمان وليس مركز طقس في الكتاب المقدَّس بعهديه. 3 - الخطأ الذي وقع فيه التقليد اليهودي بخصوص أصل الختان ومستواه الروحي: واضح من المنازعات التي حدثت في بداية البشارة بالإنجيل بين الأُمم غير المختونين، أن الفكر اليهودي كان قد تزحزح تماماً عن مفهوم الختان الروحي ومصدره الأصيل، وهو إبراهيم، إذ ظنوا أن مجرد العلامة في اللحم هي الختان، وأنه من وضع موسى وليس إبراهيم: «وانحدر قومٌ من اليهود وجعلوا يعلِّمون الإخوة أنه إن لم تختتنوا حسب عادة موسى لا يمكنكم أن تخلصوا» (أع 15: 1)، «وقد أُخبروا عنك أنك تعلِّم جميع اليهود الذين بين الأُمم الارتداد عن موسى قائلاً أن لا يختنوا أولادهم ولا يسلكوا حسب العوائد.» (أع 21: 21) الرب يسوع يصحح وضع الختان أنه من إبراهيم وليس من موسى: واضح جدًّا أن الرب يسوع لمح من حياة اليهود وتفكيرهم وتمسُّكهم بطقس الختان أنهم كانوا قد انحرفوا انحرافاً أكيداً عن معناه ومصدره الأصلي، لذلك نجده يصحح هذا التقليد بقوله: «أجاب يسوع وقال لهم: عملاً واحداً عملت فتتعجَّبون جميعاً (شفاء مريض بيت حسدا - مريض الـ 38 سنة)، لهذا أعطاكم موسى الختان، ليس أنه من موسى بل من الآباء (إبراهيم)، ففي السبت تختنون الإنسان، فإن كان الإنسان يقبل الختان (طقس إبراهيمي ثم موسوي) في السبت (والسبت طقس أهم إذ قد رتَّبه الله نفسه) لئلا يُنقَض ناموس موسى، أفتسخطون عليَّ لأني شفيت إنساناً كله في السبت؟ لا تحكموا حسب الظاهر!» (يو 7: 21 - 24) وهنا يشير الرب إشارة في غاية الوضوح والعمق أن الختان الذي كان علامة خارجية لارتباط روحي داخلي بين الله والإنسان عند الآباء، صار عند الأجيال المتأخرة، وخصوصاً من بعد موسى، مجرَّد علامة خارجية خوفاً من نقض ناموس موسى وليس لاقتراب روحي أو قلبي إلى الله: كعهد علاقة إلهية والتصاق. وشفاء الرب لمريض الثماني والثلاثين سنة بـ”كلمة“ يعبِّر عنه الرب: «لأني شفيت إنساناً كله». وهنا يجعل الرب كلمته الشافية شفاءً كليًّا أعلى من مستوى الختان، أي باعتبار الختان شفاءً جزئيًّا بالنسبة للشفاء الكلِّي الذي صنعه الرب مع المرض المزمن لأنه غفر خطاياه وشفاه، أي شفاه روحيًّا أولاً ثم جسديًّا!! في حين أن الختان كان يفيد الشفاء الجسدي وحسب. وهكذا تكشف لنا هذه الآيات عن قيمة الختان في نظر المسيح بالنسبة للعمل الخلاصي الذي نـزل من السماء ليكمِّله لنا. فالختان في مضمونه الكلِّي على مدى العهد القديم كان في نظر الرب علامة ارتباط بين الإنسان والله، عجز الإنسان أن يتمِّم شروطها الروحية الداخلية، فانحصرت في حدودها الجسدية فقط، وبذلك فقدت عملها الشفائي الكلِّي أو الخلاصي. وهكذا ظلَّ مريض الثماني والثلاثين سنة مطروحاً عاجزاً مع أنه مختتن!! وكان مفروضاً أن اختتانه يُدخله ضمن وعد الله الذي يضمن له الشفاء، أو ربما يضمن له عدم المرض أصلاً وذلك إن كان يطيع أوامره ووصاياه. المعنى الروحي العميق للختان في العهد القديم: غُلْفة الشفتين: لم يكن الختان يقتصر فقط في معناه العميق على أعضاء التذكير في الإنسان، فنحن نسمع موسى يقول لله: «كيف يسمعني فرعون وأنا أغلف الشفتين (أي غير مختون الشفتين).» (خر 6: 12 و30) وهنا ”غلفة“ الشفتين تفيد نجاسة الفم، وبالتالي ضعف الفم واللسان عن النطق بأقوال الله المقدَّسة، فتأتي الكلمات ضعيفة أو متلعثمة أو خاطئة!! وهذا يحقِّقه إشعياء النبي بوضوح: «فقلت ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيَّ قد رأتا الملك رب الجنود. فطار إليَّ واحد من السَّرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح ومسَّ بها فمي وقال: إن هذه قد مسَّت شفتيك فانتُزع إثمك وكُفِّر عن خطيتك.» (إش 6: 5 - 7) غُلفة الآذان: ونسمع إرميا النبي يقول لله: «من أكلِّمهم وأنذرهم فيسمعوا. ها إن أذنهم غلفاء (غير مختونة) فلا يقدرون أن يصغوا. ها إن كلمة الرب صارت لهم عاراً، لا يُسرون بها.» (إر 6: 10) غُلْفة القلوب: كذلك إرميا النبي يربط بين طهارة القلب ورضاء الله ربطاً شديداً في تعبير ختانة القلب ورفع نجاساته. + «اختتنوا للرب وانـزعوا غُرَل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أُورشليم لئلا يخرج كنار غيظي.» (إر 4: 4) ويلاحظ هنا إن أرميا النبي يضيف الختانة لحساب الله «اختتنوا للرب». وهنا تعمُّق أكثر في المعنى اللاهوتي للختانة كعمل إلهي أو طقس روحي صرف، فهو إن كان يُجرى في لحم الجسد فهو يمتد إلى القلب والضمير ويوطد الصلة بالله!! وإدراك صلة الختانة في اللحم بالطاعة لله يشدِّد عليه موسى منذ البدء «فاختنوا غرلة قلوبكم ولا تصلِّبوا رقابكم.» (تث 10: 16) ويعود موسى أيضاً ويكشف عن معنى سرِّي تصوُّفي عميق للغاية للختان القلبي كعمل روحي يتم في الخفاء بجرح القلب نفسه جرح محبة أبدي: «ويختن الرب إلهك قلبك وقلب نسلك لكي تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك لتحيا» (تث 30: 6). وهذا يفيد رفع كل أهواء وشهوات وتعلُّقات القلب بكل شيء في الدنيا فيصير القلب كله للرب!! ونسمع أيضاً من الشهيد استفانوس أحد الشمامسة السبعة، وهو ينقل لنا صورة عن مفهوم الختان في العهد القديم الذي ورثه الأتقياء المختارون الذين قبلوا الروح القدس والإيمان بالمسيح، وذلك عند قوله: «يا قُساة الرقاب وغير المختونين بالقلوب والآذان. أنتم دائماً تقاومون الروح القدس.» (أع 7: 51) وهكذا يتضح أمامنا مقدار عمق معنى الختانة الروحي في العهد القديم. فالختان فهموه أنه ليس مجرد علامة في لحم أعضاء التذكير بقطع غلفة الذكر، بل يتعدى ذلك إلى الشفاه والآذان والقلوب. فأعضاء الإنسان كلها ذات غلفة، أي ذات غطاء جلدي يمنعها من الإحساس والاستجابة، وتحتاج إلى ختانة!! فالشفاه الغلفاء لا تستطيع أن تبشر باسم الله وقوته وكلمته، حيث الغلفة هنا تفيد النجاسة. موسى كان يحس بأن شفتيه كانتا غلفاوتين. إشعياء النبي كذلك. من هنا كان الإحساس العميق بالحاجة إلى التطهير بالدم أو بالنار... وكذلك الآذان الغلفاء، يصفها إرميا النبي بأنها لا تستطيع أن تصغي إلى كلمة الرب ولا أن تحترمها إذ تصير كلمة الرب وكأنها عار، تتحاشى سماعه، وإذا سمعتها لا تسرُّ بها!! أما الشهيد استفانوس فيكشف لنا عن مفهوم القلب الأغلف غير المختون بأنه يقاوم الروح القدس، أي روح القداسة والطهارة، وأن هناك علاقة حتمية بين القلب الأغلف والأذن الغلفاء: فغلفة القلب تنشئ غلفة الأذن، وغلفة الأذن تنشئ غلفة القلب. أما الغلفة فهي ترمز إلى الغلاف اللحمي، الذي يجعل القلب والآذان والشفاه حساسة للشهوة واللذة والنجاسة والانفعال بالغرائز اللحمية الحيوانية، فتنصدَّ عن كل ما هو طاهر ومقدَّس وروحي! ... إذن، فكان معروفاً لدى الروحيين في العهد القديم أن طقس الختان كان عملاً روحيًّا يشير إلى قطع شهوة النجاسة بمفهومها المتسع، ليس من عضو الذكر فحسب، بل ومن القلب والأذن والشفاه ومن الإنسان كله، حتى يتطهَّر ويكون قريباً من الله متهيئاً لسماع كلمته والنطق بها والشهادة لها. وأخيراً يكون مستعداً للتعرُّف على المسيح نفسه عند مجيئه وظهوره باعتباره ”كلمة الله“ القدوس. والله اختار عضو الذكر ليجري عليه الختان كعلامة عهد بين الله وإبراهيم ونسله، حتى ينتبه الإنسان أن عهد الله منذ البدء يقوم على الطهارة، ظاهرياً في اللحم وداخلياً في القلب وفي الأذن وفي الشفاه، تمهيداً لحلول كلمته وروح قدسه في هيكلنا. فالاختتان في العهد القديم هو تماماً عملية تكريس كامل لله بكل الأعضاء، داخلياً وخارجياً!! ليصير الإنسان على مستوى عهد الله وقداسة الله «سر أمامي وكُن كاملاً» (تك 17: 1)، أو كما وضعها العهد الجديد على فم المسيح: «كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل» (مت 5: 48). ولذلك اعتُبر المسيح أنه خادم الختان!! لأنه الوحيد الذي تمَّم الختان على أعلى وأكمل مستواه، الروحي والجسدي معاً، بأن كان مقدِّساً أو مكرِّساً جسده ونفسه لله كليًّا من أجلنا: «لأجلهم أقدِّس أنا ذاتي.» (يو 17: 19) وكان كذلك حتى يمكن أن يكمِّل الله فيه كل وعد الختان وعهده لنا، فيظهر فيه صدق وعد الله للإنسان منذ إبراهيم!! «وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبِّت مواعيد الله.» (رو 15: 8) وهكذا قبل إبراهيم الختان ليكون أباً لكل من يؤمن بالله ويدخل عهده ويصير من أهل بيت الله، وليس كالغريب أو النـزيل. ولكن لم يستطع أحد أن يحقِّق عهد الختان هذا ويثبت أهليته لله. وبقي صدق الله معلَّقاً من حيث وعده بقبول الإنسان ليكون من أهل بيته حتى مجيء المسيح، لأنه حتى ولا موسى نفسه استطاع ذلك، إذ قيل عنه أنه «كان أميناً في كل بيته كخادم ... أما المسيح فكابن.» (عب 3: 5 و6) توارث الختان ثم توقُّفه: كان في تأسيس عهد الختان الذي صنعه الله مع إبراهيم ما يشير بوضوح إلى أعماق سر الختان من جهة هدفه الروحي، وذلك حينما جعله يشمل ختانة الأطفال المولودين: «ابن ثمانية أيام يختن منكم كل ذكر في أجيالكم، وليد البيت، والمبتاع بفضة، من كل ابن غريب ليس من نسلك ... في ذلك اليوم عينه خُتِن إبراهيم وإسماعيل ابنه وكل رجال بيته وِلْدان البيت والمبتاعين بالفضة من ابن الغريب خُتنوا معه.» (تك 17: 12 و26 و27) هنا يتجه الختان إلى الأثر أو المعنى الروحي الذي يتجاوز العلامة الخارجية، فهو ميراث يرثه الصغير ابن الثمانية الأيام بمقتضى إيمان أبيه، مجاناً؛ فينضم إلى شعب الله ويرث كل مواعيد الآباء وبركتهم، حتى ولو كان ابناً لعبد مشترى بالفضة غريباً عن رعوية إسرائيل، طالما كان هذا العبد أميناً لصاحب البيت وأميناً لإله إسرائيل ببرهان طاعة وصايا الله وأوامره. وهكذا بمقدار ما للخطية من أثر توارثي، صار لبر الإيمان من أثر توارثي كذلك، وذلك بواسطة الختان الذي هو في حقيقته ختم مجَّاني لميراث بر الإيمان الذي ناله إبراهيم بسخاء الله وجوده. كما يحدِّد بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية: «وأخذ علامة الختان ختماً لبر الإيمان الذي كان في الغرلة، ليكون أباً لجميع الذين يؤمنون وهم في الغرلة، كي يُحسب لهم أيضاً البر.» (رو 4: 11) كذلك بالرغم من أن تكميل طقس الختان في لحم الغرلة كان يعطي الطفل المولود ابن ثمانية أيام كل حقوق الرعوية في شعب إسرائيل، إلا أن هذه الحقوق تتوقَّف كلها إلى أن يثبت المختون طاعته لوصايا الله عند بلوغه السن الذي يطالب فيه بتكميل الوصايا. وهذا نراه متركِّزاً بشدَّة في وصية الله لإبراهيم كشرط أساسي في تكميل كل بنود عهد الختان: «سر أمامي وكُن كاملاً فأجعل عهدي بيني وبينك.» (تك 17: 1 و2) إذن، فكانت الطاعة لوصايا الله هي التي تجعل عهد الختان قائم المفعول دائم الأثر، وهكذا كان مفهوم الختان في العهد القديم، روحيًّا بمقدار ما كان لمفهوم الطاعة لوصايا الله! ... وهكذا نرى أن عهد الختان كان يورَّث بالإيمان ويثبَّت بالطاعة: + «اختتنوا للرب وانـزعوا غرل قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أُورشليم لئلا يخرج كنار غيظي، فيحرق وليس مَنْ يطفئ بسبب شر أعمالكم.» (إر 4: 4) + «فإن الختان ينفع إن عملت بالناموس. ولكن إن كنت متعدِّياً الناموس فقد صار ختانك غرلة.» (رو 2: 25) ومن هنا يصبح الختان عديم المنفعة تماماً إزاء العجز عن تكميل الناموس. فإن كان قد بلغ العجز عن تكميل الناموس في نهاية العهد القديم إلى أقصى حالاته وعمَّ كل الشعب بلا استثناء: «الجميع زاغوا وفسدوا معاً. ليس مَنْ يعمل صلاحاً ليس ولا واحد» (رو 3: 12)، يكون بذلك قد بلغ عهد الختان إلى حالة عديمة الفعل والأثر وتوقف نهائياً: «ها أيام تأتي يقول الرب وأعاقب كل مختون وأغلف» (إر 9: 25). وقد تم تهديد الله هذا بالحرف الواحد. فنقرأ في السفر الأول للمكابيين في نهاية أيام حكم الملوك السلوقيين، وبالذات في أيام الملك أنطيوخس الرابع (175 - 163ق.م.)، أنه صدر حكم يمنع ختانة اليهودي، وكان أن الأم التي تختن ولدها تقتل: «والنساء اللواتي كُنَّ يختّنَّ أولادهن أماتوهنَّ حسب الأمر ... وكان على إسرائيل غضب عظيم جدًّا.» (1مك 1: 60) وهكذا وضحت مشيئة الله أن ينـزع من إسرائيل في أواخر الأيام الختم، أو علامة الختان التي هي علامة تبعية الشعب لله، وحلَّ بدلها الغضب واللعنة في الحال والتبعية لملك الأُمم، إشارة إلى زوال مُلك الله عنهم. ولكن أهمية الختان ظلت عند اليهود أقوى من الموت حتى وفي أعصب أوقات اضطهادهم. وكان يهون عليهم الاستشهاد في سبيل تكميلها، لأن الختان كان في صُلب الإيمان بمثابة ختم يلازم اليهودي بعد الموت، فهو ختم فداء لما بعد الموت. فالأغلف في حياته هكذا يكون في موته: «كلهم قَتْلى، ساقطون بالسيف، الذين هبطوا غُلْفاً إلى الأرض السفلى.» (حز 32: 24) ختان المسيح في اليوم الثامن: يقول بولس الرسول إن المسيح وُلِدَ «تحت الناموس» (غل 4: 4) لكي يكمل حرفية الناموس لأجلنا ويفتدينا من لعنته، حيث الإشارة هنا تتضمَّن الخضوع لعملية الختان في اليوم الثامن، كما كان يأمر بها الناموس، حيث أخذ أيضاً اسمه الذي كان قد تسمَّى به سابقاً. أما بخصوص تتميم ختان اللحم والتدقيق في تكميل ذلك في اليوم الثامن بحسب الناموس، ففي ظاهره لا يعطي أية قيمة عملية، ولكن إذ يحمل هذا بالنسبة للمسيح بالذات أبعاداً روحية وسريَّة عميقة، لذلك ينبغي جدًّا الانتباه إلى دقائق هذه الأمور لما تحوي من استعلان للحق الإلهي. وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير عمود الدين: [لأن في اليوم الثامن (أي يوم الأحد) قام المسيح من الأموات وأعطانا الختان الروحي، وذلك بمقتضى ما أمر به الرسل القديسين: «اذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19)، ونحن نؤكِّد هنا أن الختان الروحي يتم أساساً في المعمودية، حيث يجعلنا المسيح شركاء أيضاً في الروح القدس.]([1]) ويبدو أن البابا كيرلس الكبير هنا ينقل لنا تقليداً رسوليًّا ردَّده من قبله الشهيد يوستين في محاوراته مع تريفو: [إن الوصية بطقس الختان التي تأمر بأن يعتمد الأطفال في اليوم الثامن، كانت رمزاً أو مثالاً للختان الحقيقي للخلاص من الخطية والشر، بواسطة قيامة الرب يسوع المسيح من الأموات في اليوم الأول من الأسبوع (الأحد)، الذي بالرغم من بقائه معتبراً الأول لكل الأيام إلا أنه يُدعى الثامن (لأنه أتى بعد السبت بحدث جديد فأكمل بعد مرور الأسبوع بسبعة أيامه عملاً لم يدخل أصلاً في حدود الأيام السبعة خصوصاً في أيام الخلقة القديمة).]([2]) ويعود القديس كيرلس الكبير ويشرح كيف يختنَّا المسيح بالروح القدس، بقوله: [وعن هذا أيضاً، فإن يشوع القديم، الذي كان قائداً بعد موسى، هو مثال فإنه أولاً قاد بني إسرائيل عبر الأردن ثم في الحال توقَّف وختنهم بسكاكين من صوان؛ هكذا نحن بعد أن نعبر الأردن (أي المعمودية) يختنَّا المسيح بقوة الروح القدس لا مطهِّراً الجسد، ولكن قاطعاً بالأحرى النجاسة أو الفساد الذي في أنفسنا.]([3]) ثم يعود القديس كيرلس ويكشف عن مدى ارتباط خلاصنا بختانة المسيح في اليوم الثامن معتبراً أن المسيح اختتن لنا ونحن اختتنا فيه؛ فتمَّ لنا بختانة المسيح وفي ختانة المسيح، الخلاص! [في اليوم الثامن، إذن، اختُتن المسيح وتقبَّل اسمه (يُدعى اسمه يسوع أي المخلِّص). لأنه عندئذ، أي بهذا، خلصنا بواسطته وفيه. كما قيل: «وبه أيضاً خُتنتم ختاناً غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشرية، بختان المسيح، مدفونين معه في المعمودية التي فيها أُقمتم أيضاً معه» (كو 2: 11 و12). أي أنه كما كان موت المسيح من أجلنا وكانت قيامته، كذلك كانت ختانته.]([4]) انتهاء عهد الختان: وبتأسيس المعمودية التي يتم فيها الختان الروحي للإنسان، حيث يخلع جسد الخطية، ويلبس الجديد بالروح القدس، ويتم الختم الإلهي لتبعية الله بالاتحاد بالمسيح؛ انتهى عهد ختان اللحم. وفي ذلك يقول القديس كيرلس أيضاً: [ولكن بعد ختانة المسيح انتهى هذا الطقس إلى الأبد، وذلك بدخول المعمودية التي كان طقس الختان يرمز لها. لأن بسبب المعمودية لا نعود نمارس طقس الختان بعد. لأن الختان حسب ما يبدو لي كان يخدم ثلاث غايات: الغاية الأولى: تخصيص نسل إبراهيم بعلامة أو بختم لتمييزهم عن بقية الشعوب الأخرى جميعاً. الغاية الثانية: أن الختان كان يحمل صورة نعمة وفعالية المعمودية الإلهية حيث كان يُحسب قديماً أن المختون هو عضو في شعب الله بهذا الختم، هكذا أيضاً كل مَنْ يعتمد الآن يكون قد حصل في داخله على المسيح الختم، وبذلك يُكتب ضمن شعب الله المختار. أما الغاية الثالثة: فهي تفيد رمزيًّا أن الشخص المؤمن قد تأسَّس في النعمة قاطعاً أولاً بأول كل الشهوات الجسدية وإماتة كل الأوجاع بعمل الإيمان الجراحي أي القاطع، وليس بقطع اللحم، إنما بالنسك المجتهد وبتطهير القلب مختتناً بالروح وليس بالحرف، الذي مدحه لا يحتاج، كما يقول بولس الرسول، إلى حكم بشري وإنما يعتمد على شهادة من فوق.]([5]) وهكذا نجد أن العماد حلَّ محل الختان بصورة أكمل وأشمل وبأثر روحي عميق وفعَّال. فبالمعمودية، كما يقول بولس الرسول، خلعنا جسم الخطية بأكمله وليس جزءًا منه، ولبسنا المسيح وصرنا فيه وبه خليقة جديدة كميلاد ثانٍ من السماء، وأصبحنا رعية مع القديسين، أهلاً وأحباء في بيت الله، وملوكاً وكهنة مع المسيح لله!... ولكن لا ينبغي أن يتوه عن بالنا قط أن كل بركات المعمودية بحدودها الباهرة اللانهائية، إنما هي امتداد ”للختان“ عبر المسيح! فالختان - كما رأينا - سبق أن تصور فيه كل أسرار الحاضر؛ من أجل ذلك لم يحجم المسيح عن أن يخدم هذا السر في صورته الرمزية بحسب الوعد الأول، ليمنحنا الانفتاح اللانهائي على بركاته الأُولى والأخيرة «وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يثبِّت المواعيد التي أُعطيت للآباء.» (رو 15: 8) وبولس الرسول يرى أن الإنسان الجديد العابد بالروح والمتحد بالمسيح هو الآن بحد ذاته ”ختان كامل“ أو ”أوج الختان“ في أعلى مفهوم روحي له «لأننا نحن الختان، العابدين الله بالروح والمفتخرين في المسيح يسوع وغير المتكلين فيه على الجسد.» (في 3: 3 ترجمة حرفية) المتنيح القمص متى المسكين
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل