المقالات

31 مارس 2025

«رَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى» (1تي4: 7).

تأتي كلمة تقوى في اليونانية ευσεβία تتكون من جزئين: ευ حسنا، σεβία بمعنى: أن يكون متعبِّدًا تقيًا. وهي تشير إلى التديُّن والوَرَع المتجه نحو الله، والذي يعمل حسب ما يرضيه ويتفق مع مشيئته. ويذكرها معلمنا القديس بولس الرسول بمعنى الخوف المقدس، الذي دفع نوح لبناء الفلك (عب11: 7). وقد جاءت هذه الصفة مرتبطة بالله: «هُوَ الصَّخْرُ الكَامِلُ صَنِيعُهُ. إِنَّ جَمِيعَ سُبُلِهِ عَدْلٌ. إِلهُ أَمَانَةٍ لا جَوْرَ فِيهِ. صِدِّيقٌ وَعَادِلٌ هُوَ» (تث32: 4)، فالله يقيم الساقطين، ويشبع الجياع، قريب لمن يدعوه، يقول عنه سفر الحكمة: «يلبس البِرّ درعًا، وحُكم الحق خوذة» (حك5: 19)، ويقول القديس يوحنا الرائي: «لأَنَّكَ وَحْدَكَ قُدُّوسٌ، لأَنَّ جَمِيعَ الأُمَمِ سَيَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ، لأَنَّ أَحْكَامَكَ قَدْ أُظْهِرَتْ» (رؤ15: 5). في المسيح تُحقّق تقوى الله قصدها الخلاصيّ، وفيه تجد تقوى المسيح ينبوعها ومثالها. وأعمال المسيح كانت تهدف إلى جذب الإنسان نحو التقوى، يقول القديس أثناسيوس الرسوليّ: [إن المخلص كان يتمم كل يوم أعمالًا متعددة، جاذبًا البشر إلى التقوى، ومقنعًا إياهم بحياة الفضيلة] (تجسد الكلمة، 31، 2)، والتقوى هنا يقصد بها الإيمان بالمسيح. والإيمان بالمسيح هو الحق حسب التقوى: يقول القديس بولس الرسول: «لأَجْلِ إِيمَانِ مُخْتَارِي اللهِ وَمَعْرِفَةِ الْحَقِّ، الَّذِي هُوَ حَسَبُ التَّقْوَى» (تى1:1)، ويقول: «وَبِالإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى» (1تي3: 16)، أي التقوى التي توجد متضمنة، ولا يمكن أن تتحقق، إلّا من خلال الإيمان بالمسيح. حياة التقوى: هي الحياة في مخافة الله وحسب وصاياه، فتكمن التقوى الحقيقية في صنع مشيئة الله بإرادة حرة، فيتجاوب المؤمن مع عمل النعمة في حياته، مثال حنانيا الذي عمّد شاول الطرسوسيّ: إذ كان «رَجُلًا تَقِيًّا حَسَبَ النَّامُوسِ» (أع22: 12). وبهذه الصفة وصفوا أيضًا الرجال الذين صعدوا لحضور عيد الخمسين «وَكَانَ يَهُودٌ رِجَالٌ أَتْقِيَاءُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ تَحْتَ السَّمَاءِ سَاكِنِينَ فِي أُورُشَلِيمَ» (أع2: 5)... وحياة التقوى هي البعد عن الشر، فقد قال الرب عن أيوب: «رَجُلٌ كَامِلٌ وَمُسْتَقِيمٌ يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ» (أي1: 8).. وفي (2بط3: 11) «يَجِبُ أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ فِي سِيرَةٍ مُقَدَّسَةٍ وَتَقْوَى» ويقصد بها أعمال التقوى. كما أن حياة التقوى تظهر في العلاقات مع الآخرين، بين الأقارب مثل يوسف مع أبيه يعقوب (تك47: 29)، والأصدقاء مثل يوناثان وداود (1صم20: 8)، والحلفاء (تك21: 23). والتعليم حسب التقوى هو التعليم السليم: «إِنْ كَانَ احَدٌ يُعَلِّمُ تَعْلِيمًا آخَرَ، وَلاَ يُوافِقُ كَلِمَاتِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ الصَّحِيحَةَ، وَالتَّعْلِيمَ الَّذِي هُوَ حَسَبَ التَّقْوَى فَقَدْ تَصَلَّفَ» (1تي6: 3). بل ويحذره من الذين يستخدمون التقوى بصورة خاطئة «يَظُنُّونَ انَّ التَّقْوَى تِجَارَةٌ. تَجَنَّبْ مِثْلَ هَؤُلاَء» (1تي6: 5). ويميز القديس يوحنا ذهبي الفم، التعليم حسب التقوى بأنه ليس فقط التعليم السليم بل التعليم بتواضع. فالكبرياء تنشأ عن عدم المعرفة، فيقول: [لا ينبع التصلُّف عن المعرفة، إنما عن عدم المعرفة، فمن يعرف تعاليم التقوى يميل بالأكثر إلى التواضع. من يعرف الكلمات المستقيمة لا يكون غير مستقيم] (عظة 17 على رسالة تيموثيؤس الأولى). اقتناء حياة التقوى: معلمنا القديس بولس الرسول ينصح تلميذه الأسقف تيموثيؤس، قائلًا: «َرَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى» (1تي4: 7). ولاهمية حياة التقوى يكرر له نفس النصيحة مرة أخرى في (1تي6: 11). والصلاة هي الطريقة التي نقتني بها حياة التقوى «لِكَيْ نَقْضِيَ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً هَادِئَةً فِي كُلِّ تَقْوَى وَوَقَارٍ» كذلك حياة الجهاد الروحي والتداريب الروحية: «َرَوِّضْ نَفْسَكَ لِلتَّقْوَى» (1تي4: 7)، والصوم فرصة مناسبة لذلك. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
24 مارس 2025

حَسَنَةٌ هِيَ الْغَيْرَةُ فِي الْحُسْنَى (غلا4: 18)

كلمة غيرة في اللغة اليونانية ζηλος وتعني كفاح متحمس، وفي الترجمة السبعينية تأتي غالبًا بمعنى حماس موجَّه نحو الله. والكلمة قد يُقصَد بها أيضًا حسد ونيّة سيئة (مثل إخوة يوسف) فقد يكون شخص يريد الوصول لأهداف خيِّرة، أو فرد حسود وغيور. الله غيور: يقول الله في الوصايا العشر: «لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلَهَكَ إِلَهٌ غَيُورٌ» (خر20: 10). وغيرة الله في اتجاهين:- الأول:- غضب الله وعقابه العادل نحو الأشرار«هَلْ إِلَى الدَّهْرِ تَسْخَطُ عَلَيْنَا؟ هَلْ تُطِيلُ غَضَبَكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ؟» (مز85: 5)، وقد غار المسيح إلهنا وطرد الباعة من الهيكل، و«َتَذَكَّرَ تلاَمِيذُهُ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي» (يو2: 17). والثاني:- عمل الرحمة مع أولئك الذين يتقونه «لأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِشَعْبِهِ وَلأَتْقِيَائِهِ فَلاَ يَرْجِعُنَّ إِلَى الْحَمَاقَةِ لأَنَّ خَلاَصَهُ قَرِيبٌ مِنْ خَائِفِيهِ» (مز85: 8، 9) يقول إشعياء النبي «فَلَبِسَ الْبِرَّ كَدِرْعٍ وَخُوذَةَ الْخَلاَصِ عَلَى رَأْسِهِ وَلَبِسَ ثِيَابَ الاِنْتِقَامِ كَلِبَاسٍ وَاكْتَسَى بِالْغَيْرَةِ كَرِدَاءٍ» (إش59: 17). غيرة القديسين: الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي هو عمل جماعي، يقول معلمنا يعقوب الرسول «فَلْيَعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَدَّ خَاطِئًا عَنْ ضَلاَلِ طَرِيقِهِ يُخَلِّصُ نَفْسًا مِنَ الْمَوْتِ، وَيَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا» (يع5: 20)، هكذا غار معلمنا داود النبي وملكتهُ الكآبة «لأَنَّ أَعْدَائِي نَسُوا كَلاَمَك» (مز119: 139) وكان القديس بولس الرسول غيورًا في خدمته لكل أحد فيقول «مَنْ يَضْعُفُ وَأَنَا لاَ أَضْعُفُ؟ مَنْ يَعْثُرُ وَأَنَا لاَ أَلْتَهِبُ؟» (2كو11: 29)، وقد احتدت روحه عندما وَجَد مدينة أثينا مملوءة أصنامًا (أع17: 16). ويقول القديس بولس للكورنثيين « فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ» (2كو11: 2)، فمحبته للمسيح وللقديسين جعلته يغير لئلا يقف أي شخص أو أي شيء حائلًا بينهم وبين المسيح. إنه لا يشفق على الذين بالتعاليم المُضلة يُبعدون القديسين عن المسيح أي مَنْ كان، فإن أتى رسول أو ملاك من السماء ليكرز بإنجيل آخر فليكن أناثيما (غلا1: 8). الغيرة الحسنى: هي الغيرة التي تؤدي إلى عمل بنّاء وليس عملًا هدّامًا، فالغيرة الهدّامة المرتبطة بالتحزُّب والثورة تؤدّي إلى أمور خارجة عن اللياقة، وهي من أعمال الجسد (غلا5: 19) وقد رفضها معلمنا يعقوب الرسول، إذ يقول «وَلَكِنْ إِنْ كَانَ لَكُمْ غَيْرَةٌ مُرَّةٌ وَتَحَّزُبٌ فِي قُلُوبِكُمْ، فَلاَ تَفْتَخِرُوا وَتَكْذِبُوا عَلَى الْحَقِّ لأَنَّهُ حَيْثُ الْغَيْرَةُ وَالتَّحَّزُبُ هُنَاكَ التَّشْوِيشُ وَكُلُّ أَمْرٍ رَدِيءٍ» (يع3: 14، 16) وقال القديس بولس الرسول عن الذين يغارون ولكن ليس عن صدق «يَغَارُونَ لَكُمْ لَيْسَ حَسَنًا» (غلا4: 17)، والباعث لمثل هذه الغيرة هو الرغبة فى المجد الذاتيّ، ولذلك يكمل الرسول قوله «بَلْ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّوكُمْ لِكَيْ تَغَارُوا لَهُمْ» (غلا4: 17) بينما الغيرة الحسنى هي الغيرة المرتبطة بالمحبة والتواضع، تكون في المسيح. ترتبط الغيرة الحسنى أيضًا بالمعرفة السليمة، فالذي يكون مشوّشًا في تعليمه يغار غيرة خاطئة بجهل، متحمّسًا لمحاربة شيء دون معرفة، دون تحقيق، دون تدقيق، لمجرد السماع يشير الرسول بولس إلى حياته قبل الإيمان بالمسيح، وكيف كان شديد الغيرة على الديانة اليهوديّة وعلى مقاومة من يخالفها على أنه يعترف أن اضطهاده للمسيحيين صدر منه عن جهل، ويتكلم عن رحمة الله التى أدركته. كيف نقتني الغيرة الحسنى؟ الروح القدس هو الذي يشعل فينا الغيرة نحو مجد الله، فنهيئ أنفسنا لنتجاوب مع عمل الروح القدس فينا، والصوم فرصة ملائمة لاقتناء الغيرة الحسنى، فنزيد من قراءة الكتاب المقدس والصلاة، كذلك سير القديسين، فتلهب مشاعرنا نحو الله والأمر الهام أيضًا في اختيار الأصدقاء اختر صديقًا يرفعك روحيًا وعلميًا وليس صديق يثبّطك ويهوى بك إلى أسفل «لاَ تَضِلُّوا! فَإِنَّ الْمُعَاشَرَاتِ الرَّدِيَّةَ تُفْسِدُ الأَخْلاَقَ الْجَيِّدَةَ» (1كو15: 33). القمص بنيامين المحرقي
المزيد
17 مارس 2025

في الصوم: تقوية للإرادة

في الوقت الذي يرفض فيه معلمنا القديس بولس الرسول، في عصر النعمة، العوائد اليهودية في الإمتناع عن بعض الأطعمة، وذلك لأن هذا المنع كان يقوم على كونها نجسة، فيقول: «إِنِّي عَالِمٌ وَمُتَيَقِّنٌ فِي الرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ نَجِسًا بِذَاتِهِ إِلاَّ مَنْ يَحْسِبُ شَيْئًا نَجِسًا فَلَهُ هُوَ نَجِسٌ» (رو14:14). في نفس الوقت ينادي بالصوم، ويعيشه (2كو6: 5؛ 11: 27)، فالصوم يعتمد على أن كل ما خلقه الله مقدس. فمنع بعض الأطعمة (الأطعمة الحيوانية) ليس لكونها نجسة؛ بل للتحكم في الإرادة، وكذلك العودة إلى حالة البر الأولى التي خُلِق عليها الإنسان، والتي فيها كان طعامه من أصل نباتيّ. الصوم وسيلة وليس غاية:- الصوم νηστία هو الامتناع عن الطعام لفترة محددة، يعقبه تناول أطعمة نباتية، هدفه قمع وانضباط للجسد والنفس، فعندما أوصى الله آدم أن لا يأكل من الشجرة، وإن أكل منها موتًا يموت، هذه الوصية الأولى بالصوم. الجوع الجسديّ يعبّر عن الجوع الروحيّ «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ» (مت5: 6) فبالصوم تقوّي الإرادة ويسيطر الإنسان على أهوائه الصوم يجعل الإنسان في حالة تركيزٍ روحيّ، فهو وسيلة لتطهير النفس: «تُذَلِّلُونَ نُفُوسَكُمْ لأَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ لِتَطْهِيرِكُمْ. مِنْ جَمِيعِ خَطَايَاكُمْ أَمَامَ الرَّبِّ تَطْهُرُونَ» (لا16: 29، 30) جاء في كتاب الأنظمة ليوحنا كاسيان [ينبغي علينا أن نُظهر أولًا أننا أحرار من الخضوع للجسد؛ لأن الشخص هو عبد لمن ينغلب منه لأنه من المستحيل للمعدة الممتلئة أن تنهض بمعارك الإنسان الباطنيّ ولا من الصواب لمَن قُهِر في أدنى مناوشة أن يكون جديرًا لأن يُجرَّب بمعارك أصعب] (أنظمة13). «أَقْمَعُ جَسَدِي وَأَسْتَعْبِدُهُ» (1كو9: 27):- لأن الإنسان خُلِق على صورة الله، في الحرية والإرادة، وعندما يفقدها تسيطر الغريزة، وفي هذه الحالة ينطبق عليه قول المزمور«إِنْسَانٌ فِي كَرَامَةٍ وَلاَ يَفْهَمُ يُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الَّتِي تُبَادُ» (مز49: 20) يقول القديس باسيليوس الكبير[الإنسان الذي هو أقل قليلًا من الملائكة، وعنه يقول سليمان الحكيم «اَلصِّدِّيقُ يَسْلُكُ بِكَمَالِهِ طُوبَى لِبَنِيهِ بَعْدَهُ» (أم20: 7)، هذا الإنسان لأنه لم يدرك قيمته العظيمة، أُستعبد إلى الشهوات الجسدية] (PG29/460) فالإنسان يختلف عن الحيوان في القدرة على تنظيم الحصول على إحتياجاته ‏الأساسية بصورة تليق بالحالة التي جُبل عليها فلو لم نقمع شهوات أجسادنا، فان الشهوات ستمتلكها وتقيدها وتقيدنا معها. يقترن الصوم دائمًا الصلاة والصدقة:- يقول دانيال النبي: «فَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى اللَّهِ السَّيِّدِ طَالِبًا بِالصَّلاَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ بِالصَّوْمِ وَالْمَسْحِ وَالرَّمَادِ» (دا 9: 3)،هكذا يذكر نحميا اقتران الصوم بالتوبة: «اجْتَمَعَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بِالصَّوْمِ وَعَلَيْهِمْ مُسُوحٌ وَتُرَابٌ وَوَقَفُوا وَاعْتَرَفُوا بِخَطَايَاهُمْ وَذُنُوبِ آبَائِهِمْ» (نح9: 1 ،2) والمسيح إلهنا نفسه، قال عن الأرواح النجسة «هَذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ» (مر9: 29) يصاحب الصوم قلب تائب، في اشتياق لتجديد علاقة مع الله فزمن الصوم هو زمن التوبة والعودة إلى الذات ويقول القديس يوحنا الدرجي [الصوم هو كبح رغبات الجسد، وابتعاد عن الأفكار الشريرة، وتحرر من التخيلات المذنبة هو طهارة الصلاة، نور للنفس، ويقظة العقل والقلب معًا فهو انتظار الرب، هو فتح القلب وتحرره من كل شيء يمكن أن يعرقل هبة فصح المسيح] لذلك الصوم يهيّئ الإنسان لمقابلة الله موسى النبي لكي يتهيّأ لإستلام لوحي الشريعة صام أربعين يومًا وأربعين ليلة، وعند اختيار برنابا وشاول للخدمة «فَصَامُوا حِينَئِذٍ وَصَلُّوا وَوَضَعُوا عَلَيْهِمَا الأَيَادِيَ ثُمَّ أَطْلَقُوهُمَا» (أع13: 3) ومن العبارات الكتابية القوية في ذلك «صَلَّيَا بِأَصْوَامٍ» (أع24: 23) يقول القديس يوحنا ذهبيّ الفم [لنطلب الطعام لكي نقتات به، لا ليحطمنا نطلب الطعام كقوتٍ لنا، لا كمجال للأمراض، أمراض النفس والجسد نطلب الطعام الذي يعطي راحة لا ترفًا حيث يكون مملوء إزعاجًا] (عظة27 على أعمال الرسل) القمص بنيامين المحرقي
المزيد
10 مارس 2025

«لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ» (يع1: 19)

تأتي الكلمة اليونانية κούω͗α بمعنى ينصت باهتمام، معبرة عن الإدراك عن طريق السمع وهو الأمر عينه الذي يوصى به يشوع بن سيراخ، قائلًا «كن سريعا في الاستماع وكثير التأني في إحارة الجواب» (سي5: 13) لقد أعطى الله الخالق للإنسان أُذنين بارزتين من رأسه، لكي يسهل له عملية الاستماع وكلمة "مسرعًا" تعني راغبًا أن يسمع باشتياق وبحب؛ فبالتالي هو لا يستمع بهدف الجدال أو المخاصمة، بل بعد السماع والإدراك يدخل حيز التنفيذ والعمل فنصلي في أوشية الإنجيل [فلنستحق أن نسمع ونعمل، بأناجيلك المقدسة، بطلبات قديسيك] ولكن يجب أن نلاحظ أن الإسراع في الاستماع ليس مطلقًا، فهناك أشياء لو سمعها الإنسان تضرّه، لذلك يوصينا سليمان الحكيم، «لاَ تَضَعْ قَلْبَكَ عَلَى كُلِّ الْكَلاَمِ الَّذِي يُقَالُ لِئَلاَّ تَسْمَعَ عَبْدَكَ يَسِبُّكَ» (جا7: 21) ومنها أن لا نشغل أنفسنا بكلمات الغير ضدنا، فالاهتمام بكلام أهل العالم، يجعلنا نصير عبيدًا للناس فلا نبالي لا نحب مديحهم، ولا نكره ذمّهم بل الإسراع في الاستماع لما يخص خلاص النفس والسماع إلى «خَبَرِ الإِيمَانِ» (غلا3: 5) فهذا واجب بأن نسرع دائمًا للجلوس تحت أقدام المسيح إلهنا، كما جلست مريم أخت لعازر الإستماع وصية إلهية يبدأ الله حديثه في الوصايا العشر، قائلًا «إِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ » (تث6: 4) فالاستماع أفضل من تقديم الذبيحة (1صم15: 22)، بل ويطلب معلمنا إشعياء النبي من الطبيعة غير العاقلة أن تستمع «اِسْمَعِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ وَأَصْغِي أَيَّتُهَا الأَرْضُ لأَنَّ الرَّبَّ يَتَكَلَّمُ» (إش1: 2) يقول القديس أمبروسيوس [لم يقل "تكلم" بل "اسمع" فقد سقطت حواء، لأنها تكلمت مع آدم بما لم تسمعه من الرب إلهها فالكلمة الأولى التي يقول لك الله "اسمع" فإن كنت تسمع تحتاط في طريقك، وإن سقطت تصلح بسرعة طريقك لأنه «بماذا يصلح الشاب طريقه إلاَّ بحفظ كلمة الرب؟!» (مز119: 9) لذلك قبل كل شيء اصمت واسمع، فلا تسقط بلسانك إنه لشر عظيم أن يُدان الإنسان بفمه] (Duties of the Clergy,Book1, ch. 2) وعدم الاستماع لصوت الله، ووصاياه خطيئة قبل سبي بابل كانت مهمة الأنبياء أن ينادوا بأن الله سيدين من لا يسمع لصوته، بل وجعل المسيح إلهنا لمن لا يسمع لصوت المصالحة أو من الكنيسة؛ كالوثنيّ والعشار (مت18: 17) مع ملاحظة قول المسيح إلهنا للرسل «اَلَّذِي يَسْمَعُ مِنْكُمْ يَسْمَعُ مِنِّي» (لو10: 16)، فالكنيسة لا تتكلم إلا بكلام الله الله يسمع كما يطلب الله من أبنائه أن يستمعوا له، هو أيضًا يسمع لهم، ويستجيب وهذا ما يميز الإله الحي الحقيقيّ عن الآلهة الكاذبة، التي لها آذان ولا تسمع «فحسبوا جميع أصنام الأمم آلهة، مع أنها لا تبصر بعيونها، ولا تتنشق الهواء بأنوفها، ولا تسمع بأذنها ولا تلمس بأصابع أيديها أما أرجلها فعاجزة عن المشي» (حك15: 15).الاستماع للآخر يعالج معلمنا القديس يعقوب الرسول، أمرٌ خطير في حوارنا مع بعضنا البعض، فنحن قد لا نعطى فرصة لمن يريد أن يتكلم حتى يُعبِّر عن نفسه، بل نقاطعه لنعلن رأينا نحن!! وهنا نسمع الطريقة الصحيحة للحوار، أن نعطي للمتكلم فرصة كافية ولا نقاطع المتكلم فالاستماع في حد ذاته وسيلة للعلاج، فقد يكون المتكلم يريد أن يخرج ما بداخله من أمور مكبوته، وفقط يطلب من يسمعه، وهذا أمرٌ هام بالنسبة للأب الكاهن أو الإخوة الخدام من ناحية أخرى سماع الآخر، ولا سيما صاحب الرأي الآخر، سواء في حوارٍ لاهوتيّ، أو مناقشة من تعرّض لأفكار إلحادية؛ وسيلة هامة جدًا أن نستمع لهم حتى نحدد الفكر الخاطئ بدقة، ولا نتوهم نحن المشكلة، فمن يسمع للناس بهدوء لن يخطئ في الرد عليهم. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
03 مارس 2025

في الصوم: "لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً"

ونحن على أبواب الصوم الكبير، لابد أن نستعد للعمل الروحي الجاد وبداية هذا الاستعداد أن نتمنطق بمنطقة روحية لقد كان إيليا النبيّ متمنطقًا بمنطقة (2مل1: 8) وكان يوحنا المعمدان يلبس «مِنْطَقَةً مِنْ جِلْدٍ عَلَى حَقَوَيْهِ» (مر1: 6). وقد أوصي السيد المسيح الرسل قائلًا «لِتَكُنْ أَحْقَاؤُكُمْ مُمَنْطَقَةً» (لو12: 35) كما كانت المنطقة أحد أجزء ملابس الكاهن في العهد القديم (خر28: 4) ومن ملابس الأب الأسقف في العهد الجديد "الحياصة"، وهى حزام عريض من الكتان أو الحرير يتمنطق بها رئيس الكهنة فوق صدره وتُسمى باليونانية ζωναρίο ، ويُضم طرفاها بواسطة قفل من الأمام ترمز المنطقة إلى: 1- حياة الجهاد والاستعداد: يلبس العبد منطقة تساعده على سرعة الحركة في خدمته لسيده وضيوفه (لو17: 8) كما كان الجندي الرومانيّ يشد وسطه بمنطقة جلدية على حقويه، مُثبتًا عليها صفائح فولاذية أو حديدية هذه المنطقة يشدها الجندي كأول استعداد له للدخول في المعركة، فهي من جهة تعطي شيئًا من الصلابة لظهره، كما تساعده على سرعة الحركة فلا تعوقه ملابسه، وأيضًا تحمي بعض أجزاء جسمه وهنا إشارة لاستعدادنا للجهاد الروحي «إِذْ أَسْلِحَةُ مُحَارَبَتِنَا لَيْسَتْ جَسَدِيَّةً، بَلْ قَادِرَةٌ بِاللَّهِ عَلَى هَدْمِ حُصُونٍ» (2كو10: 4) لقد أوصى الرب بني إسرائيل عند أكل خروف الفصح «هَكَذَا تَأْكُلُونَهُ: أحْقَاؤُكُمْ مَشْدُودَةٌ» (خر12: 11)، أي يكونوا مستعدِّين للمسيرة الَّتي تقودهم إلى أرض الميعاد؛ كذلك نحن أيضًا نأكل الفصح الَّذي هو المسيح متمنطقين روحيًا، حتَّى نكون على استعداد دائم. 2 - القوة: «اَلرَّبُّ قَدْ مَلَكَ لَبِسَ الْجَلاَلَ لَبِسَ الرَّبُّ الْقُدْرَةَ اتَّزَرَ بِهَا» (مز93: 1)، قد لبس رب المجد منطقة: ملكًا روحيًا يتمنطق بالبر والأمانة علامة غناه وجماله، وجاء كخادم يتمنطق لكي يغسل أقدام البشر فقد «خَلَعَ ثِيَابَهُ وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا» (يو13: 4)؛ حتى يُطهّر كل من يقبل إليه كما أن المنطقة غير المشدودة علامة الضعف والهوان «يُلْقِي هَوَانًا عَلَى الشُّرَفَاءِ وَيُرْخِي مِنْطَقَةَ الأَشِدَّاءِ» (أي12: 21)، أي يُضعف الأقوياء المتكلين على ذواتهم والصوم فرصة لتقوية الروح والإرادة. 3 - ضبط الشهوة: يتمنطق الراهب بمنطقة عبارة عن حزام جلدي مضفور بالصلبان، على الأحقاء، يشير إلى ضبط الشهوة أو إلى العفة وصناعة المنطقة من جلد ميت يشير إلى أن الإنسان يمارس إماتة هذه الأعضاء التي تضم بذار الشهوة، مطبِّقًا بذلك وصية بولس الرسول: «فأميتوا أعضاءكم التي علي الأرض الزنا النجاسة الهوى الشهوة الرديَّة» (كو3: 5). 4 - المنطقة تشير لالتصاقنا بالمسيح: يقول معلمنا بولس الرسول: «مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ». السيد المسيح هو الحق (يو14: 6)، يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "إن حصنّا أنفسنا بذلك، إن منطقنا أحقاءنا بالحق، لا يقدر أحد أن يغلبنا من يطلب تعليم الحق لن يسقط على الأرض" (عظة 92 على إنجيل لوقا) والإنسان المتحد بالمسيح متمنطق بالبر والحق «وَيَكُونُ الْبِرُّ مِنْطَقَةَ مَتْنَيْهِ وَالأَمَانَةُ مِنْطَقَةَ حَقَوَيْهِ» (إش11: 5) في الصوم دعوة للالتصاق بالرب كما تلتصق المنطقة بحقوي الإنسان، لأنه لو لم تلتصق المنطقة بقوة على الحقويين لا فائدة منها «لأَنَّهُ كَمَا تَلْتَصِقُ الْمِنْطَقَةُ بِحَقَوَيِ الإِنْسَانِ هَكَذَا أَلْصَقْتُ بِنَفْسِي كُلَّ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَكُلَّ بَيْتِ يَهُوذَا» (إر13: 11). أحبائي كوصية الرب: «اذْهَبْ وَاشْتَرِ لِنَفْسِكَ مِنْطَقَةً مِنْ كَتَّانٍ وَضَعْهَا عَلَى حَقَوَيْكَ» (إر13: 1)، تنمنطق بقوة الروح، بالبر، بالحق محاربين ضد شهوات الجسد. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
03 يونيو 2024

الاستنارة عطية القيامة

يقول معلمنا القديس لوقا عن تلميذي عمواس: "حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ" (لو ٢٤ : ٤٥) ، وعندما فتح الرب ذهنهم، كان شفاء "النوس" هو عربون الفداء الذي نالته البشرية بقيامة مخلصنا الصالح. عندما خلق الله الإنسان نَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاة" (تك ٢: ۷) وبموجب هذه النفخة اكتسب الإنسان قوى جعلته على صورة الله، ومن هذه القوى العقل [الذهن، الفكر العقل الفهم ](سترونج (٣٥٦٣) لقد خلق الإنسان في حالة نقية قابلة للنمو في المعرفة والفهم. فيذكر القديس يوستينوس الشهيد [إن الكلمة الأزلي ينير العقول البشرية منذ البدء، فأخصبت بذورا (Sperma) منه وزرع فيه جذر الإدراك والفهم؛ لكي يكون عاقلاً] (الدفاع الثاني ۱۰). لكن الاستنارة يتعطل عملها بالخطية. فبسبب السقوط صارت هناك غمامة على عين الإنسان، بل أَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ لَأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً" (يو ۳ :۱۹) ، وابتعد الإنسان عن الله مصدر النور هكذا عاش الكتبة والفريسيين: عُمْيَانٌ قَادَةُ عُمْيَانِ" (مت ١٥: ١٤) يبصرون النور ولكن لا يدركونه يبصرون المعجزات والتعاليم النقية السامية فيقولون به شَيْطَانٌ" (يو ۱۰ :۲۰)، بينما الذين لهم البصيرة يقولون: لَيْسَ هَذَا كَلامَ مَنْ بِهِ شَيْطَانٌ. أَلَعَلَّ شَيْطَانًا يَقْدِرُ أَنْ يَفْتَحَ أَعْيُنَ الْعُمْيَانِ؟" (يو ۱۰ : ۲۱). بالقيامة نلنا الاستنارة ورد الإنسان إلى رتبته واستنارته الأولى. ما هو السبيل للاستنارة؟ ١- الكتاب المقدس يقودنا إلى الاستنارة ففي حديث السيد المسيح مع تلميذي عمواس قال لهما : أَيُّهَا الْغَبِيَّانِ وَالْبَطِينَا الْقُلُوبِ فِي الْإِيمَانِ بِجَمِيعِ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ ابْتَدَأَ مِنْ مُوسَى وَمِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ يُفَسِّرُ لَهُمَا الأُمُورَ الْمُخْتَصَّةَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْكُتُب" (لو ٢٤: ٢٥-٢٧)، فعلمنا أن نبحث عن الاستنارة في كلام الله، الذي يهب نقاوة للنفس كما قال لتلاميذه: أَنْتُمُ الآنَ أَنْقِيَاءُ لِسَبَبِ الكلامِ الَّذِي كَلَّمْتُكُمْ بِهِ" (يو ٣:١٥). أما عدم قدرة التلاميذ على إدراك النبوات التي قيلت عنه، فكان بسبب عدم امتلاكهم الذهن المفتوح، بدليل إنه بعد حلول الروح القدس طفقوا يفسرون النبوات(أع ٤ : ٢٥ ؛٣: ۲۲، ٢٣، ۸ :۳۵). ٢- الأسرار ونعمة الروح القدس تمنحنا الاستنارة بالقيامة أعطانا الأسرار الكنسية التي نحصل عن طريقها على استحقاقات الفداء الذي تم على الصليب وبالتالي الاستنارة الروحية. ويقول معلمنا بولس الرسول الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيُّ لا يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللَّهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ" (١كو ٢ : ١٤) الإنسان الطبيعي هو الذي لم يولد الميلاد الثاني ولم ينل نعمة الروح القدس وبالتالي ليس لديه القدرة على إدراك الإيمانيات التي لا يمكن فهمها إلا بواسطة الاستنارة التي يعطيها الروح القدس. لاحظ إن القديس بولس قال: "لا يَقْبَلُ مَا لِرُوح الله"، أي إنه لا يسمح للحقائق الإلهية أن تلج إلى قلبه. ٣- الصلاة والزهد طريقنا إلى الاستنارة أحاط جيش آرام بأليشع النبي ولكنه لم يخف لأنه كان يملك الاستنارة، بينما خاف جيحزي لأن محبته للمادة أعمت استنارته رغم إنه خادم أليشع، لكن بصلاة اليشع: "يَا رَبُّ فَأَبْصَرَ، وَإِذَا الْجَبَلُ مَمْلُوءٌ افْتَحْ عَيْنَيْهِ فَيُبْصِرَ. فَفَتَحَ الرَّبُّ عَيْنِي الْغُلَامِ خَيْلًا وَمَرْكَبَاتِ نَارٍ حَوْلَ أَلِيشَعَ" (٢ مل ٦ :١٧). لنجاهد يا إخوتي ونصلي ليهبنا المسيح القائم حياة الاستنارة، حسب قول القديس بولس الرسول: "مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ، لِتَعْلَمُوا مَا هُوَ رَجَاءُ دَعْوَتِهِ، وَمَا هُوَ غِنَى مَجْدِ مِيرَاثِهِ فِي الْقِدِّيسِينَ" (أف ۱: ۱۸). القمص بنيامين المحرقي
المزيد
27 ديسمبر 2022

نمجد ميلادك غير المُدرَك

تجسد الله الكلمة من العذراء القديسة مريم، دون زرع بشر. ووُلِد ميلادًا بتوليًا، ويرى إيسيذورس الفرميّ أن التجسد الإلهيّ في بطن العذراء بدون زرع بشر، ليس أمرًا مستحيلًا، فحواء خُلقت من ضلع آدم، أي بدون زرع بشر، إذ يقول: [«فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلَهُ سُبَاتًاعَلَى آدَمَ فَنَامَ فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلَأَ مَكَانَهَا لَحْمًا» (تك2: 21)، حيث أنه في الأول قد خُلِق آدم من تراب الأرض، إذًا ها أن الرجل من الأرض والمرأة من الرجل، والاثنان خُلقا بدون اتحاد جسديّ. فلأن المرأة كان عليها دَيْنٌ للرجل، لأنها صارت منه بدون زرع بشر (بذرة)؛ سدّدت له الدين بأن صارت أُمَّ الرب وأعطته جسدًا بدون زرع بشر. إذًا ليس من المستحيل على الطبيعة، لكن مثلما قد صار بالضبط بالفعل مع الأبوين الأولين، هكذا أكملَ بتدبير الرب، بالرغم من أن كل العجائب ترجع إلى هذا المولود ذاته] (رسالة إلى اليهود فيما يتعلق بالحبل الإلهيّ).يؤكد ذلك أيضًا القديس كيرلس الأورشليميّ (348 -386)، فيتسائل: [ كيف وُلدت حواء في بدء الخليقة؟ من هي الأم التي حملت بها؟ إن الكتاب يقول إنها وُلِدت من جنب آدم ... فهل تولد حواء من جنب آدم بدون أم، ولا يولد طفل من بطن عذراء بدون أب؟! إن هذا دَيْن للرجل على المرأة. لأن حواء وُلِدت من الرجل فقط دون أن تحبل بها أم. ولكن مريم العذراء أوفت الدَيْن وردت الجميل لأنها حبلت حبلًا بلا زرع رجل، بل حبلت بالروح القدس حبلًا بلا دنس] (الكلمة صار جسدًا).ويشرح القديس كيرلس الكبير هدف التجسد، موضحًا [لقد جاء الابن وصار إنسانًا لكي يحوّل طبيعتنا فيه هو، وابتدأ أولًا بالميلاد الذي جعله مقدسًا وعجيبًا، إذ جعله ميلادًا للحياة، لكي ننال نحن هذه النعمة وتصل إلينا منه لكي نولد «لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ» (يو1: 13)، وبالروح القدس تولد نفوسنا ميلادًا جديدًا روحيًا، مشابهًا لميلاد ذاك الذي هو بالطبيعة وبالحق الابن، وبذلك ندعو الله أبًا، ويؤهّلنا هذا الميلاد أن نبقى في عدم انحلال لأننا امتلكنا ليس طبيعة آدم الأول الذي فيه انحللنا، بل طبيعة آدم الثاني] (المسيح الواحد: 5).فحاجتنا لكي نصبح أبناء الله، أن يولد الكلمة المتجسد من عذراء دون زرع بشر، فالابن الوحيد، هو ابن بالطبيعة: لذلك نصلي في قانون الإيمان: [مولود من الآب قبل كل الدهور]، ونؤكد على ذلك أيضًا، أنه [مولود غير مخلوق]، فالمولود له نفس طبيعة الوالد، وله نفس خواصه وطبيعته، فلقب ابن غير مضاف إليه (حوار حول الثالوث 1)، في تجسده لم يخلق لنفسه جسدًا من خارج العذراء مريم، بل أخذ جسدًا حقيقيًا محْيِيًا بروح عاقلة من الطبيعة المخلوقة التى للعذراء مريم. بفعل الروح القدس اتخذ ناسوتًا خاصًا به جدًا، متحدًا به اتحادًا طبيعيًا وأقنوميًا، حقيقيًا، كاملًا، بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغير، فاحتفظ كلٌّ منهما بخصائصه، فالطبيعة الواحدة لها خصائص الطبيعتين معًا في آنٍ واحد، لذلك يُسمّى سر التجسد، وسر الاتحاد. مساوٍ لنا كالتدبير، من قِبَله أخذنا نعمة البنوة، وأصبحنا أبناء الله. لذلك ولُد الكلمة المتجسد من أم عذراء دون زرع بشر. القمص بنيامين المحرقي
المزيد
26 ديسمبر 2022

لماذا التجسد؟

٢- لكي نعرف الله : يقول القديس أثناسيوس الرسولي : [ لأنه أية منفعة للمخلوقات لو أنها لم تعرف خالقها ؟ أو كيف يمكن أن تكون عاقلة لو لم تعرف كلمة الآب الذي به خلقوا ؟ لأنهم لن يتميزوا بالمرة عن المخلوقات غير العاقلة لو أنهم انحصروا فقط في معرفة الأمور الأرضية ( تجسد الكلمة ١١ : ٢ ) . الصورة الإلهية في الإنسان كانت كافية في حد ذاتها لكي تجعلنا نعرف الله الكلمة ، ونعرف الأب بواسطته . وبالخطيئة تشوهت صورة الله في الإنسان وأكل من شجرة معرفة الخير والشر وأصبحت معرفته بعيدة عن الله خالقه !! وعجزت الطبيعة - كما عجز الناموس- عن أن ترد الإنسان إلى المعرفة الحقيقية . لذا تجسد أقنوم الحكمة والمعرفة لكي يعرفنا الآب « الله لم يره أحد قط . الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر » ( يوحنا ۱ : ۱۸ ) . يقول القديس أثناسيوس : [ لكي عندما يرون تلك الصورة -أي كلمة الآب- يمكنهم عن طريقه أن يصلوا إلى معرفة الآب ... لأن كلمة الله صار إنسانا لكي يرفعنا نحن ، وأظهر جسد لكي تحصل على معرفة الأب غير المنظور ] ( تجسد الكلمة 11 : 3 ، 54 : 3 ) . معرفة الله أمر واجب ، فقد قال عنها السيد المسيح : « وهذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته » ( يوحنا 17 : 3 ) ،والمقصود بمعرفة الله ليست المعرفة النظرية فقط ، ولكن المعرفة العملية والإيمان العملي بوجوده ، فعندما ندخل مع الله في حياة الإيمان ، ونعيش في وسائط النعمة ، نراه ونلمسه بالعين الروحية والحس الروحي . ليس المقصود بمعرفة الله المعرفة التامة ، لأن الله غير محدود ، وعقل الإنسان محدود ، فكيف يستطيع المحدود أن يحوي غير المحدود ، « أإلى عمق الله تتصل أم إلى نهاية القدير تنتهي ؟ ... » ( أيوب ١١ : ۷-۹ ) . يقول القديس غريغوريوس النزينزي : [ لا تستطيع اللغة ( البشرية ) أن تعبر عن اللاهوت ، وهذا قد أثبت لنا ، ليس فقط بالحجة بل عن طريق أحكم حكماء العبرانيين ( كتاب العهد القديم ) ؛ الذين أعطوا صفات ذات كرامة لله ولم يسمحوا لأي اسم دون المستوى أن ينسب لله ، لأنهم يرون أنه ليس من اللائق إن الله يسمح لخليقته أن تعادله ، فبالتالي كيف يقرون بأن الطبيعة غير المنظورة وغير المنقسمة ( البسيطة ) أن نعبر عنها بكلمات ضعيفة ، فنحن نتصوره من خلال صفاته ، فجوهر الله لم يتمكن مخلوق ولا عقل من تصوره أو احتوائه بالكامل ، ولم تتمكن لفظة من احتواء حقيقته احتواء كاملا ، ولكننا نتخذ مما حواليه طريقا إلى تخيله في ذاته ، ونرسم لنا صورة غامضة وضعيفة وجزئية عنه ، إن أعظم لاهوتي ليس من اكتشف « الكل » ، إذ أن القيود التي نحن فيها لا تسمح لنا أن نعاين الكمال ، بل من تفوق على غيره في التصور ، ومن حقق في ذاته صورة الحقيقة أفضل من غيره ( The fourth theological oration , L17 : 30 ) . كذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم : [ لقد رأى الأنبياء الله ، لكنهم لم يروا جوهره إنما بدا لهم ذلك قدر ما يستطيعون ، وقد أعلن ذلك النبي : وكلمت الأنبياء وكثرت الرؤى وبيد الأنبياء مثلث أمثالا ( هوشع ١٢ : ١٠) ، كأن الله يقول : لا أعلن جوهري ذاته ، إنما أتنازل ( في رؤى ) بسبب ضعف الذين يرونني ، فالله يتنازل ويجعل نفسه منظورا ليس كما هو ، بل بالقدر الذي به يقدر الناظر أن يرى ، أي حسب ضعف الناظرين في الرؤية ( ضد الأنومبين 3 : 15 ، 4 : 19 ) . القمص بنيامين المحرقى
المزيد
20 ديسمبر 2022

لماذا التجسد ؟

1 - حتى يستعيد الإنسان الصورة التي خلق عليها:- خلق الله الإنسان على صورته ( تكوين 1 : ٢٦ ، ٢٧ ) . يقول القديس أثناسيوس الرسولي : « الله صالح بل هو بالأحرى مصدر الصلاح . والصالح لا يمكن أن يبخل بأي شيء وهو لا يحسد أحدا حتى على الوجود ، ولذلك خلق كل الأشياء من العدم بكلمته يسوع المسيح ربنا ، وبنوع خاص تحنن على جنس البشر . ولأنه رأى عدم قدرة الإنسان أن يبقى دائما على الحالة التي خلق فيها ، أعطاه نعمة إضافية ، فلم يكتف بخلق البشر مثل باقي الكائنات غير العاقلة على الأرض ، بل خلقهم على صورته وأعطاهم شركة في قوة كلمته » ( تجسد الكلمة 3 : 3 ) . ويفسر القديس كيرلس عمود الدین معنی خلقتنا على صورة الله ، فيقول : « رغم أننا خلقنا على صورته ومثاله إلا أن الفارق بين الله والإنسان فارق شاسع .. فالله بسيط في طبيعته وغير مركب بينما نحن نملك طبيعة مركبة ، إذ أن طبيعتنا البشرية مكونة من أجزاء متعددة . ونحن من التراب فيما يخص الجسد وهذا يعني أننا معرضون للفساد والزوال مثل الأعشاب ، بينما الله فوق كل ذلك . والنفس الإنسانية عرضة لتقلبات كثيرة من الصالح إلى الطالح ومن الطالح إلى الصالح ، ولكن الله هو هو دائما ، صالح إلى الأبد ولا يتحول ولا يتغير من حال إلى حال . وعدم تغير الله ليس صفة عرضية بل يرجع إلى جوهره . وهكذا أصبح من الواضح أن البشر الذين أتوا إلى الوجود من العدم لا يتشابهون مع الله حسب الطبيعة ، بل يمكن أن يتشابهوا معه في نوعية الحياة الجديدة والسلوك المستقيم » ( حوار حول الثالوث ، الحوار الأول ) . بحسب خلقتنا على صورة الله كان يمكننا أن نقاوم الفناء الطبيعي مادمنا محافظين على الصورة التي خلقنا عليها . ولكن بسوء استخدامنا للحرية الممنوحة لنا سقطنا من الحياة الأبدية ، وأصبح « الإنسان العاقل المخلوق على صورة الله أخذا في التلاشي ، وكانت خليقة الله أخذه في الانحلال » ( تجسد الكلمة 6 : 1 ) . ما الفائدة من خلق الإنسان على صورة الله ، إذا كان سيعيش بعيدا عن الله في الخطيئة ؟ كان من غير اللائق أن تهلك الخليقة وترجع إلى العدم بالفساد ، تلك الخليفة المخلوقة على صورة الله . فيذكر القديس أثناسيوس أنه لذلك وجب أن يتجسد الكلمة ، الصورة الحقيقية لله الآب يقول القديس أثناسيوس : « ما هو الذي كان ممكنا أن يفعله الله ؟ وماذا كان يمكن أن يتم سوى تجديد الخليفة التي وجدت على صورة الله ، مرة أخرى ، ولكي يستطيع البشر أن يعرفوه مرة أخرى ؟ ولكن كيف كان ممكنا لهذا الأمر أن يحدث إلا بحضور نفس صورة الله مخلصنا يسوع المسيح ؟ كان ذلك الأمر مستحيلا أن يتم بواسطة البشر لأنهم هم أيضا خلقوا على مثال تلك الصورة ( وليس هم الصورة نفسها ) ولا أيضا بواسطة الملائكة لأنهم ليسوا صورا ( لله ) ولهذا أتى كلمة الله بذاته لكي يستطيع – وهو صورة الآب - أن يجدد خلقة الإنسان ، على مثال صورة الله « ( تجسد الكلمة 13 : 7 ) . لذلك تجسد الابن الوحيد صورة الآب يرد الإنسان إلى رتبته الأولى ، كما يقول القديس غريغوريوس « أخذت الصورة ولم أحفظها .فأخذ جسدى لكى يخلص الصورة ويهب الخلود للجسد »عظة على الثيؤفانيا. القمص بنيامين المحرقى
المزيد

العنوان

‎71 شارع محرم بك - محرم بك. الاسكندريه

اتصل بنا

03-4968568 - 03-3931226

ارسل لنا ايميل