المقالات
04 مايو 2021
الخمسين المقدسة
الخمسين المقدسة هي فترة الاحتفال بعيد القيامة المجيد، الذي فيه نفرح بالنصرة على الموت الذي ينتصر على الجميع. ويمتد الفرح ليشمل الإمكانيات التي وهبها لنا الرب القائم لنعيش هذه العطية بطريقة عملية حقيقية تفيدنا روحيًا لنكمل الفترة كلها في مراجعة أحداث القيامة ومشاركة الذين رأوا هذه الأحداث، ولكن بإيمان قلبي يفوق الرؤية، وبنفس الفرح الفائق بالحياة الأبدية التي أعلنها الرب القائم.(1) موكب أيقونة القيامة: ونحن نردّد لحن "خريستوس آنستي" وندور في الكنيسة بدورة عكس عقارب الساعة، لأن القيامة تعلن الحياة الأبدية التي فوق الزمن، ونقدم البخور لأيقونة القيامة بإحساس ومعنى تقصده الكنيسة وهو فرح التلاميذ والمريمات بوجود المسيح معهم طيلة 40 يومًا، يظهر لهم وينقل لهم معاني روحية فائقة، ويعبدون بنغمات الفرح الغالب للألم والضيق، ويقدم الوجه الآخر للصليب الذي نحمله لأجل الإيمان.(2) لحن يا كل الصفوف: الذي يعلن اشتراك السمائيين مع الكنيسة بهذه القيامة، إذ الملائكة قدموا ما يؤكد القيامة بدحرجة الحجر الذي لا يستطيع التلاميذ دحرجته إطلاقًا، ونقول في قسمة القداس: "ميخائيل رئيس الملائكة نزل من السماء، ودحرج الحجر عن فم القبر، وبشر النسوة حاملات الطيب قائلًا: المسيح قام من بين الأموات"... كذلك يصف اللحن الرب القائم مؤكدًا أن الموت لم ينل منه، فشبّهه بالنائم الذي انتفض من مرقده بدون أيّ تأثير للموت عليه فكان كالثمل من الخمر، وهذا لا يتعارض مع حقيقة موته ودفنه، وإنما دلالته في أن القيامة مَحَتْ كل أثر للموت، فلم يعد هناك آثار للجلد ولا للصلب إلّا أثر المسامير في اليدين والرجلين وأثر الحربة في الجنب، ليؤكد أن الذي قام هو الذي صُلب، وبهذا يُنهي العبودية اَلْمُرهَّ التي حلت بالبشرية نتيجة تسلط الخطية وعقوبة الموت على الإنسان.(3) تقديم البخور لأيقونة القيامة: بمعنى تأكيد ألوهية الرب القائم من الأموات، وأنه قام بقوة لاهوته لكي يمنح طبيعتنا البشرية النصرة على الموت ونوال الحياة الحقيقية في السماء إلى الأبد، لذلك نقدم له العبادة والشكر والتسبيح. فمع البخور نقول 3 قطع نرددها مع 3 أيادي بخور: فمع اليد الأولى نقول: "نسجد لك أيها المسيح إلهنا القائم من بين الأموات"... وفي اليد الثانية نقول: "يا من قُمتَ من بين الأموات امنحنا قوة قيامتك".. وفي اليد الثالثة نقول: "السلام للقيامة التي بها نلنا الحياة الأبدية". والبخور نقدمه بانحناء الرأس 3 مرات، في كل يد بخور ننحني ممجدِّين إلهنا واهب الحياة.(4) لحن القيامة قبل لحن آجيوس: وهو تعبير عن الوفاء لمن منحنا سلطان الحياة الغالبة للموت وليس بعدها موت، وهذا ما ينعكس على إحساس التلاميذ في كرازتهم وشهادتهم وقبولهم الموت والاستشهاد بدون خوف... فنجد بطرس الرسول وافق ليس على الصلب فقط بل على الصلب مُنكَّس الرأس، وهذا أصعب بكثير لأن آلامه صعبه جدًا، وباختياره بشجاعة وبدون خوف ولا تَحَسُّبَ للموت أو للألم الصعب.. إن كل هذا هو تصوير حقيقي لأثر القيامة في حياة الكنيسة والمؤمنين على مر الأيام.
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
03 مايو 2021
«اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ»
مع أحداث القيامة المجيدة، نطلب من الرب أن ينقذ البشرية، من وباء "الكورونا" الذي ضرب العالم كله، فهو القادر أن يبيده بنفخة فمه، ويعطينا قوة قيامته المجيدة..قال معلمنا بولس الرسول: - «اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ (قيامة التوبة)،- وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ (قيامة الأجساد)» (أف5: 14).فالقيامة من الأموات في الفهم الكتابي واللاهوتي لا تعني فقط قيامة الجسد بعد الموت، بل تعني أيضًا:- قيامة الروح من الخطية وسكنى الله في داخل الإنسان.. تمهيدًا للقيامة بعد الموت!!إذًا فهناك قيامتان: القيامة الأولى: قيامة التوبة. القيامة الثانية: قيامة الأجساد. - القيامة الأولى: قيامة التوبة:وهي أن نقوم من قبور الخطية «وَإِذْ كُنْتُمْ أمْوَاتًا فِي الْخَطَايَا وَغَلَفِ جَسَدِكُمْ، أحْيَاكُمْ مَعَهُ» (كو2: 13).1- والخطيئة في معناها الأصيل (آمارتيا) = ومعناها "الخطأ في التهديف". 2- أمّا التوبة فمعناها "ميطانيا" بمعنى ""تغيير الفكر" أو "تجديد الذهن".فالتوبة هي" القيامة الأولى" كقول الكتاب: - «مُبَارَكٌ وَمُقَدَّسٌ مَنْ لَهُ نَصِيبٌ فِي الْقِيَامَةِ الأُولَى (قيامة التوبة)، هَؤُلاَءِ لَيْسَ لِلْمَوْتِ الثَّانِي (الموت الأبدي بعد الموت الجسدي) سُلْطَانٌ عَلَيْهِمْ، بَلْ سَيَكُونُونَ كَهَنَةً لِلَّهِ وَالْمَسِيحِ، وَسَيَمْلِكُونَ مَعَهُ أَلْفَ سَنَةٍ» (رؤ20: 6). - «الَّذِينَ قُتِلُوا مِنْ أَجْلِ شَهَادَةِ يَسُوعَ وَمِنْ أَجْلِ كَلِمَةِ اللهِ، والَّذِينَ لَمْ يَسْجُدُوا لِلْوَحْشِ (الشيطان)، وَلاَ لِصُورَتِهِ (النبي الكذاب)، وَلَمْ يَقْبَلُوا السِّمَةَ (سمة الشيطان) عَلَى جِبَاهِهِمْ وَعَلَى أَيْدِيهِمْ، فَعَاشُوا وَمَلَكُوا مَعَ الْمَسِيحِ أَلْفَ سَنَةٍ» (رؤ20: 4). أمّا الألف سنة فهي مدة وجود هذا العالم.. حيث أن رقم "10" يشير إلى الإنسان، إذ يملك 10 أصابع في كل من يديه وقدميه.. والـ"100" ترمز إلى القرن، أي الزمن..الإنسان × الزمن = 10×100=1000 فبعد الزمن تأتي القيامة المجيدة. لذلك فقيامة التوبة، هي الانتماء للمسيح، ومعنى حمل سمته على جباههم (أي عقولهم) وأيديهم (أي أعمالهم).. أي أن تكون أفكارهم وتصرفاتهم شاهدة لمسيح القيامة.. - القيامة الثانية : قيامة الأجساد:وهي التي فيها يأتي رب المجد يسوع مرة ثانية، في "المجيء الثاني"، بعد المجيء الأول في التجسد، وقد أفرد لها معلمنا بولس الرسول إصحاحًا كاملًا في الرسالة الأولى إلى كورنثوس (إصحاح 15): «كيف يقام الأموات؟» إذ تحدث عن جسدنا قائلًا أنه:- «يُزْرَعُ فِي فَسَادٍ.. وَيُقَامُ فِي عَدَمِ فَسَادٍ!» (1كو15: 42).- «يُزْرَعُ فِي هَوَانٍ.. وَيُقَامُ فِي مَجْدٍ!» (1كو15: 43).- «يُزْرَعُ جِسْمًا حَيَوَانِيًّا.. وَيُقَامُ جِسْمًا رُوحَانِيًّا!» (1كو15: 44).كل عام وجميعكم بخير،،،
نيافة الحبر الجليل الأنبا موسى أسقف الشباب
المزيد
02 مايو 2021
الرسالة الأولى عید القیامة في ١١ برمودة سنة ٤٥ ش 6 أبریل سنة ٣٢٩ م.
هذا هو الیوم الذي صنعه الرب
هیا بنا یا أحبائي، فالوقت یدعونا إلى حفظ العید. وشمس البرّ (مل ٢:٤ ) إذ یشرق بأشعته الإلهیة علینا یعلن عن موعد العید. لذا یجب الاحتفال به مطیعین إیاه، لئلا إذ فاتنا الوقت قد یفوتنا السرور أیضًا.من أهم واجباتنا هو تمییز الأزمنة والأوقات، حتى نتمكن من ممارسة الفضیلة. كان الطوباوي بولس یعلم تلمیذه أن یلاحظ الوقت، قائلا : "أعكف على ذلك في وقت مناسب وغیر مناسب ( ٢ تي ٢:٤ )، حتى إذا ماعرف الوقتین – المناسب وغیر المناسب – یستطیع أن یصنع الأمور التي تناسب مع الوقت ویتحاشى ما هوغیر مناسب.وهكذا فإن إله الكل نفسه یعطي كل شيء في وقته كقول سلیمان الحكیم (جا ٧:٣ )، مریدًا بذلك أن یعم خلاص البشر في كل مكان في الوقت المناسب.وهكذا "حكمة الله" ( ١ كو ٢٤:١ )، ربنا ومخلصنا یسوع المسیح، أوجد في الأوقات المناسبة، من النفوس المقدسة أنبیاء وأحباء الله (حك ٢٧:٧ ). وبالرغم من أن كثیرین قد قدموا صلوات لأجله (لكي یأتي مسرعًا لیقدم الخلاص) قائلین: "لیأ ت من صهیون خلاص الله" (مز ١٤:٧ )، أو كما جاء في سفر نشید الأناشید على لسان العروس قائلة "لیتك كأخ لي ال ا رضع ثدي أمي" (نش ١:٨ )، أي لیتك كنت كبني البشر تحمل آلام البشریة من أجلنا. بال رغم من كل هذه الصلوات فإن إله الكل، خالق الأزمنة والأوقات، الذي یعرف ما هو لصالحنا أكثر منا، فإنه في الوقت المناسب، في ملء الزمان، ولیس في أي وقت ما اعتباطًا، أعلن كطبیب ماهر طریق شفائنا، إذ أرسل ابنه لكي نطیعه قائلا : "في وقت القبول وفي یوم الخلاص أعنتك". (إش ٨:٤٩)
هتاف أبواق العهد القدیم
قدیمًا دعي الرب بواسطة موسى… إلى حفظ أعیاد اللاویین في المواسم المقررة قائلا : "ثلاث مرات تعید لي في السنة" (خر ١٤:٢٣) . الثلاثة أعیاد هي: عید الفصح أو الفطیر، عید الخمسین أو الأسابیع أو الحصاد،عید المظال أو الجمع. وكانت أبواق الكهنة تهتف حاثة على حفظ العید كأمر المرنم الطوباوي القائل: "انفخوا في أ رس الشهر بالبوق عند الهلال لیوم عیدنا" (مز ٣:٨١)وكما كتب، كانت الأبواق تدعوهم أحیانًا إلى الأعیاد، وتارة إلى الصوم، وثالثة إلى الحرب، ولم یكن ذلك من قبیل المصادفة أو جزافًا، إنما كان الهتاف یتم لكي یتسنى لكل واحدٍ أن یحضر إلى الأمر المعلن عنه.هذه الأمور التي أتحدث عنها لیست من عندیاتي بل جاءت في الكتب المقدسة الإلهیة، إذ كما جاء في سفر العدد، عندما ظهر الله لموسى كلمه قائلاً "اصنع لك بوقین من فضة، مسحولین تعملهما، فیكونان لك لمناداة الجماعة" (عد 1:10-2) وهذا یطابق دعوة الرب الآن للذین یحبونه ههنا أنهم لم یكونوا یهتفون بالأبواق في وقت الحروب فحسب (عد ٩:١٠ )، لكنها كانت هناك أبواق للأعیاد أیضًا كما جاء في الناموس… إذ یقول: "في یوم فرحكم وفي أعیادكم ورؤوس شهوركم تضربون بالأبواق" (عد
١٠:١٠)ومتى سمع أحدكم الناموس یوصي باحت ا رم الأبواق، لا یظن أن هذا أم اً ر تافهًا أو قلیل الأهمیة، إنما هو أمر عجیب ومخیف!
فالأبواق تبعث في الإنسان الیقظة والرهبة أكثر من أي صوت آخر أو آلة أخرى. وكانت هذه الطریقة مستخدمة لتعلیمهم إذ كانوا لا زالوا أطفالا …ولئلا تؤخذ هذه الإعلانات على أنها مجرد إعلانات بشریة، فقد كانت أصواتها تشبه تلك التي حدثت على الجبل (خر ١٦:١٩ ) حینما ارتعدوا هناك ومن ثم أعطیت لهم الشریعة لیحفظوها.
من الرموز إلى الحقائق
و الآن فلنترك الرموز والظلال لننتقل إلى معانیها.هیا بنا إلى الحقائق، لنتطلع إلى الأبواق الكهنوتیة التي لمخلصنا، التي تهتف داعیة إیانا تارة إلى الحرب كقول الطوباوي بولس "فأن مصارعتنا لیست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطین مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر مع أجناد الشر الروحیة في السماویات" وتارة تدعونا إلى العفة وإنكار الذات والوفاق بین الأزواج فنحدث العذارى عن الأمور الخاصة بالعفة، والذین أحبوا حیاة البتولیة عن حیاة الزهد، والمتزوجین عن الأمور الخاصة بالزواج المكرم وهكذا تظهر لكل واحدالفضائل الخاصة به وج ا زءه المكرم.وتارة تدعونا للصوم، وأخرى للعید. وهنا نجد الرسول یهتف بالبوق مرة أخرى لیعلن قائلاً "إن فصحنا أیضًا المسیح قد ذبح لأجلنا. إذًا لنعید لیس بخمیرة عتیقة ولا بخمیرة الشر والخبث" وإن أردت أن تنصت إلى هتاف بوق… فأنصت إلى قول مخلصنا " وفي الیوم الأخیر العظیم من العید وقف یسوع ونادى قائلاً إن عطش أحد فلیقبل إليّ ویشرب" لأن المخلص لا یدعونا إلى مجرد عید بل إلى "العیدالعظیم" ذلك إن كنا مستعدین للاستماع إلى ما یعلنه لنا، والطاعة لندائه.
قدسوا صومًا
وإذ توجد نداءات مختلفة –كما سبق أن قلت- أنصتوا إلى النبي الذي یهتف في البوق معلنًا الحق قائلاً "اضربوابالبوق في صهیون قدسوا صومًا"هذا بوق منذر یوصینا باهتمام عظیم. فنحن حینما نصوم یلزمنا أن نقدس الصوم.لیس كل من یدعو الله یقدس الله، لأنه یوجد من یدنس الله، وهؤلاء لا یدنسون الله ذاته، فحاشا لله أن یتدنس، إنما تدنست أفكارهم من جهة الله. لأن الله القدوس، ومسرته في القدیسین. ولهذا نجد الطوباوي بولس یتهم الذین یهینون الله بأنهم "بتعدي الناموس یهینون الله" ولكي یفرزنا الله عن الذین یدنسون الصوم یقول "قدسوا صومًا"، إذ كثیرین ممن یتسابقون في الصوم یدنسون أنفسهم بأفكار قلوبهم، وذلك أحیانًا بصنعهم الشرور ضد اخوتهم، وأحیانًا أخرى باستخدامهم الغدر والغش…وحسبي أن أذكر أن كثیرین یفتخرون على الغیر بالصوم وهم بهذا یسببون أضرا راً خطیرة. فمع أن الفریسي كان یصوم یومین في الأسبوع إلا أنه لم یستفد شیئًا لأنه افتخر بذلك على العشار. وكأن الكلمة یوبخ شعب بني إسرائیل (الشریر) لصومه هكذا، واعظًا إیاهم بإشعیاء النبي "أمثل هذا یكون صوم أختاره: یومًا یذلل الإنسان فیه نفسه، یحني كالأسلة رأسه ویفرش تحته مسحًا ورمادًا؟! هل تُسمي هذا صومًا ویومًا مقبولاً للرب؟!"ولكي أظهر كیف نصوم، وماذا یكون علیه صومنا، یلزمنا أن ننصت إلى الله وهو یوصي موسى في سفر
اللاویین "وكلم الرب موسى قائلاً. أما العاشر في هذا الشهر السابع فهو یوم الكفارة. محفلاً مقدسًا یكون لكم تذللون نفوسكم وتقربون وقودًا للرب"ولكي تظهر الشریعة ماذا تقصد من هذا یكمل "أن كل نفس لا تتذلل في هذا الیوم عینه تقطع من شعبها"
كیف نصوم؟
أننا مطالبون أن نصوم، لا بالجسد فقط بل بالروح أیضًا. والروح یتضع حینما لا یتبع الأفكار الردیئة بل یغتذي بالشوق. فالفضائل والشرور كلاهما غذاء للروح. فالإنسان له أن یغتذي بأي الغذائین، له أن یمیل إلى أي منهما حسب إ رادته الخاصة.فإن مال الإنسان نحو الفضیلة. أغتذى بالفضیلة، والصلاح، وضبط النفس، والإتضاع، والإحتمال، وذلك كقول الرسول بولس "متربیًا (مغتذیًا) بكلام الإیمان"( ٤) وكما كان الحال مع مخلصنا الذي قال: "طعامي أن أعمل مشیئة أبي الذي في السماوات" فإذا كان حال الروح غیر هذا، بل كان الإنسان یمیل إلى أسفل، فإنه لا یتغذى إلا بالخطیة، وهكذا یصف الروح القدس الخطاة ویتكلم عن غذائهم، وذلك حینما یشیر إلى الشیطان قائلاً عنه "جعلته طعامًا لأهل…" (مز4:74 ) فالشیطان هو طعام الخطاة! وإذ ربنا ومخلصنا هو الخبز السماوي، لهذا فهو غذاء القدیسین، لهذا قال "إن لم تأكلوا جسدي وتشربوا دمي…." (یو ٥٣:٦) بینما الشیطان هو غذاء الدنسین، الذین لا یصنعون أعمال النور بل أعمال الظلمة. ولكي یجذبهم الله ویردهم عن شرورهم، یوصیهم أن یقتاتوا بالفضیلة وخاصة تواضع العقل، المسكنة، و احتمال الإهانات، والشكر لله.إن صومًا كهذا متى حفظ مقدسًا هكذا، فأنه لا یؤدي إلى التوبة فحسب، بل ویهيء القدیسین ویسمو بهم عن الأرضیات.
نماذج من صوم الأنبیاء
بالتأكید ما سأقوله الآن عجیب جدًا، غیر أنه لیس ببعید عن الحق، إذ أنه من تلك الأمور المعجزیة، كما تعلمون كذلك من الكتب المقدسة.فحینما كان ذلك الرجل العظیم موسى صائمًا، تكلم مع الله واستلم الشریعة.وعندما كان العظیم القدیس إیلیا صائمًا، استحق أن یعاین رؤى إلهیة. وفي النهایة رفع على مثال ذاك (السید
المسیح) الذي صعد إلى السماء.ودانیال عندما كان صائمًا، أؤتمن على الشر، رغم كونه شابًا، وكان هو الوحید الذي یفهم أسرار الملك، واستحق أن یعاین رؤى إلهیة.وقد یساور البعض الشك بسبب طول مدة صوم هؤلاء الرجال، التي تبدو كأمر عجیب. لكن لیؤمن هؤلاء ولیعرفواأن التأمل في الله وكلمة الله كافیًا لتغذیة هؤلاء الصائمین فالملائكة لا یسندهم سوى معاینتهم وجه الله على الدوام.وطالما كان موسى یكلم الله لذلك كان یلزمه أن یصوم جسدیًا، لكنه كان یغتذي بالكلام الإلهي. وغذ نزل إلى الناس شعر بألم الجوع مثل سائر البشر. لأنه لم یذكر عنه أنه صام أكثر من الأربعین یومًا التي كان یحادث فیها الله، وعلى هذا النحو استحق كل أحد من القدیسین لطعام یفوق العقل. لهذا إن اغتذت نفوسنا یا أحبائي بالطعام الإلهي، من الله الكلمة، وسلكنا حسب مشیئته، وصامت أجسادنا عن الأمور الخارجیة، بهذا نحفظ ذلك العید العظیم المخلص.
إبطال الفصح الیهودي بتقدمة الحمل الحقیقي
حتى الیهود الجهلاء، تناولوا من الطعام الإلهي حینما أكلوا الخروف في الفصح كرمز، لكن عدم فهمهم للرمز لا زالوا حتى یومنا هذا مخطئین، لأنهم یأكلون الفصح بعیدًا عن المدینة "أورشلیم" مبتعدین عن الحق… إذ لا یسمح لهم بإقامة تلك الطقوس في أي مدینة أخرى، وحیث أن أورشلیم قد خربت لهذا كان یلزم أن تنتهي تلك الرموز أیضًا.لاحظوا أنه بمجيء مخلصنا قد انتهت هذه المدینة وخربت كل أرض الیهود. ومن شهادة هذه الأمور وما تؤكده لنا عیوننا عن هذه الحقائق لا تحتاج إلى دلیل آخر، لهذا یلزم بالضرورة أن ینتهي الرمز.ولیس كلامي فقط هو الذي یوضح هذه الأمور، بل قد سبق النبي فأنبأ بذلك صارخًا: "هوذا على الجبال قدما مبشر منادِ بالسلام" (نا ١٥:١ ). وما هي رسالته التي بشر بها إلا التي أخذ یعلنها لهم، قائلا : "عیدي یا یهوذا أعیادك، أوفي للرب نذورك. فإنهم لا یعودوا إلى ما هو قدیم. قد انتهى؛ لقد انقرض كله. لقد ارتفع ذاك الذي نفخ على الوجه وخلصك من الغم" ( نا15:1, 2:1 LXX) والآن: من هو هذا الذي ارتفع؟ إن أردتم معرفة الحقیقة والتخلص من ادعاءات الیهود، تطلعوا إلى مخلصنا الذي ارتفع ونفخ في وجه تلامیذه قائلا : "اقبلوا الروح القدس" (یو ٢٢:٢٠ ). فبمجرد أن كمل هذا (الصلب) انتهت الأمور العتیقة، فانشق حجاب الهیكل (مت ٥١:٢٧) وتحطم المذبح (الیهودي)، ومع أن المدینة لم تكن بعد قد خربت، إلا أن رجسة الخراب (مت ١٥:٢٤ ) كانت تستعد للجلوس في وسط الهیكل، فتتلقى أورشلیم وكل تلك الفرائض العتیقة نهایتها.
حمل الله:
منذ ذلك الحین تركنا وراءنا عصر الرموز، فلم نعد نمارس تلك الطقوس في ظلها، بل قد حولناها كلها إلى الرب."وأما الرب فهو الروح. وحیث روح الرب هناك حریة" فأننا متى سمعنا هتاف البوق المقدس، لا نعود نذبح خروفًا عادیًا، بل ذلك الحمل الحقیقي الذي ذبح عنا – ربنا یسوع المسیح- الذي سیق "كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازیها" فقد تطهرنا بدمه الكریم "الذي یتكلم أفضل من هابیل"، واحتذت أرجلنا باستعداد الإنجیل، حاملین في أیدینا سلاح الله الكامل الذي كان موضوع تعزیة الطوباوي الذي قال "عصاك وعكازك هما یعزیانني". وبالإجمال نكون مستعدین في كل شيء، وغیر مهتمین بشيء لأن الرب قریب، وذلك كقول الطوباوي بولس. وكذلك یقول مخلصنا "في ساعة لا تظنون یأتي إبن الإنسان"
كیف نعبد؟
"إذا لنعید لیس بخمیرة عتیقة ولا بخمیرة الشر والخبث بل بفطیر الإخلاص والحق" ( ١ كو ٨:٥) ، وإذ نخلع الإنسان العتیق وأعماله، نلبس الإنسان الجدید المخلوق بحسب الله (أف ٢٢:٤ , 24)، ونلهج في ناموس الله نهاراً ولیلا ، بعقل متواضع وضمیر نقي.لنطرح عنا كل ریاء وغش، مبتعدین عن كل ریاء ومكر.لیتنا نتعهد بحب الله ومحبة القریب، لنصبح خلیقة جدیدة، متناولین خم اً ر جدیدًا...
إذًا لنحفظ العید كما ینبغي.
موعد العبد:
إننا نبدأ الصوم المقدس في الیوم الخامس من برمودة ( ٣١ مارس) وبإضافة تلك الستة أیام المقدسة وبإضافة تلك الستة أیام المقدسة العظیمة التي ترمز إلى أیام خلقة العالم – ینتهي الصیام ونستریح في السبت المقدس للأسبوع في العاشر من برمودة ( ٥ أبریل). وحینما یشرق علینا الیوم الأول من الأسبوع المقدس (الأحد) یكون العید وهو الحادي عشر من نفس الشهر( 6أبریل). ثم نحسب ابتداء منه الأسابیع السبعة( ٥) أسبوعًا أسبوعًا فنعید عید البندیكستي المجید الذي كان یقابل "عید الأسابیع"وقد كان یوم خلاص، فیمنحون فیه الصفح والإبراء من الدیون.
بركات العید
لنحفظ العید في الیوم الأول من الأسبوع العظیم كرمز للحیاة الأخرى، التي نأخذ عنها هنا وعدًا بأنه ستكون لنا حیاة أبدیة بعد الموت.من ثم سنحفظ عیدًا نقیًا مع المسیح، هاتفین قائلین مع القدیسین "لأني سأجوز إلى بیت الله بصوت الإبتهاج والحمد وهتاف المعیدین"حیث هرب الحزن والكآبة والتنهد. وستكلل رؤوسنا البهجة والفرح.لیتنا نستأهل لنوال هذه البركات.فلنتذكر الفقیر، ولا ننس عمل الله للغریب. وفوق الكل فلنحب الله من كل نفوسنا، ومن كل قدرتنا، ومن كل قوتنا، ونحب قریبنا كنفسنا. حتى نحصل على ما لم تره عین وما لم تسمع به أذن وما لم یخطر على قلب بشر، ما أعده الله للذین یحبونه. بنعمة ابنه الوحید ربنا ومخلصنا یسوع المسیح الذي له مع الآب والروح القدس المجد والسلطان إلى أبد الآبدین. آمین.
سلموا على بعضكم بعضًا بقبلة مقدسة. یسلم علیكم جمیع الإخوة الذین معي.
الرسائل الفصحية للقديس أثناسيوس الكبير
القمص تادرس يعقوب ملطي
المزيد
01 مايو 2021
متعة الروح في القيامة وهي في السماء
فيما نحن نحتفل بعيد القيامة، يسرني أن أحدثكم عن متعة الروح بعد القيامة وهي في السماء.
متعة الانطلاق
الروح الآن حبيسة في الجسد، في هذا القفص المادي. وبينما الروح كيان خفيف يتميز بالشفافية، فإن الجسد مادي يتصف بالثقل. والجسد يحاول أن يسيطر على الروح ليجذبها إلى ماديته، والروح تقاوم. فبينهما صراع. إن انتصرت الروح، ترتفع بالجسد إلى فوق. وإن انتصر الجسد، يهبط بالروح إلى لذة المادة وانفعالاتها.حتى في المعرفة، الجسد يمثل ضبابًا يمنع الرؤية الحقيقية عن الروح. فالروح حاليًا لا ترى إلا بعين الجسد، ولا تسمع إلا بأذن الجسد. وكل أنواع معرفتها تكون عن طريق حواس الجسد.
أما في انطلاق الروح، فتكون لها معرفة أوسع لا تستمدها من الحواس الجسدية، بل يكون لها الحس الروحي. ولا تتحرك بأرجل الجسد، بل تتحرك وهي خفيفة : تصعد وتهبط وتجتاز مسافات دون أن تعبر وَسَطًا، مثل الملائكة أو كالفكر الذي يتحرك إلى قارة أخرى دون أن يعبر الوسط الذي بينها.وتتلاقى الأرواح وتتعارف وتتحدث بدون ترجمة من لغة إلى أخرى. بل تتفاهم بحسّ روحي ليس حبيسًا في نطاق اللغات. حقًا بأية لغة قد تفاهم أبونا آدم، وأبونا نوح، وموسى النبي، وأيوب البار، حينما التقوا معًا في العالم الآخر؟ أم أن هؤلاء وكل الأبرار كانوا يتفاهمون بغير لسان من ألسنتنا؟ أو بغير أصوات! وبأية لغة كانوا يتحدثون مع الملائكة؟ أم أنهم يتخاطبون معهم بغير لغة بشرية! أي بلغة الروح!
وفي غير الحواس البشرية، ماذا ستكون الرؤية الروحية؟
ننتقل إلى نقطة أخرى من متعة الروح في السماء وهى متعة التحرر.
متعة التحرر.
الأرواح حاليًا وهى متحدة بالأجساد – ليست حرة فيما تريد ... هناك ضغوط كثيرة عليها من الخارج، ومن الجسد بالذات ... ولكنها عندما تنطلق من الجسد، سوف تحرر من كل قيوده.سوف تحرر من غرائز الجسد ومن كل انفعالاته. وسوف تتحرر من أمراض النفس مثل القلق والاضطراب والشك. وسوف تتحرر من الضعف والعجز، ومن التعب والإعياء ومن عديد من الأمراض التي يتعرض لها الجسد ويلقي بنتائجها على الروح.وسوف تتحرر من مؤامرات الناس الأشرار، وما يلقونه على الروح من خوف ورعب. وما تحاول من وسائل للبعد وللوقاية من الضرر.وسوف تتحرر من خوف الموت، لأن الموت يكون قد تم ووقع على الجسد ولم يعد هناك مجال لتكراره.
متعة البِرّ
في العالم الآخر سوف تتحرر الروح من الخطية. فلا مجال للخطايا التي تنتج عن شهوات الجسد وغرائزه، إذ قد خلعت الجسد وانفصلت عنه. كذلك لا مجال للخطايا التي تأتي نتيجة لإغراءات خارجية. ففي العالم الآخر لا إغراءات ولا حروب شياطين. فالشيطان لن يدخل مواضع الأبرار في السماء. ولا توجد خطايا تقع فيها الروح من احتكاك البشر. فالأرواح البارة سوف تسكن في العالم الآخر مع أرواح بارة من نفس النوع، وأحيانًا من نفس الدرجة. ولا مجال للصراعات والانقسامات وسوف ينزع الله من أرواح ساكني السماء معرفة الخطية وتذكاراتها وقصصها وصورها التي كانت على الأرض. ويمنح هذه الأرواح إكليل البر، فلا تعود هناك إمكانية للخطية ولا رغبة فيها.حقًا ما أعظمها متعة وما أعمقها، أن تعيش الروح هناك في عالمٍ جديد كله برّ، لا عثرة فيه ولا شر ولا شبه شر. عالم أجمل بكثير من الجنة التي عاش فيها أبوانا آدم وحواء قبل الخطية، حيث كانا يعيشان في براءة وبساطة، ولكن في طبيعة قابلة للسقوط، وقد سقطا، أما في العالم الآخر، فلا توجد إمكانية للسقوط.
متعة الشفافية
في العالم الآخر سوف تتمتع الروح بالشفافية التي لم يعد يحجبها ضباب الجسد. شفافية في المعرفة والإدراك تكاد تدرك شفافية الملائكة. فيها يُنزع القناع عنها، فترى غير المرئيات، وتعرف أسرارًا عن العالم الآخر ما كان يمكنها معرفتها على الأرض. وتظل تنمو في المعرفة ويوّسع الله مداركها لتعرف أكثر، بلون جديد من الإدراك فوق مستوى الحواس. وتكون معرفتها عن طريقين : أحدهما تجلي الروح في طبيعتها. وثانيهما هو الكشف الإلهي، إذ يكشف الله لها ما لا يمكن أن تدركه طبيعتها الحالية.
متعة الفرح
إنه فرح لا ينطق به يختلف عما في عالمنا من مباهج. هو فرح روحي. ثم هو فرح بأمور جديدة على الإنسان يختبرها لأول مرة. كذلك هو فرح دائم لا يتوقف ولا ينقطع، بل يكون دائم النمو والتجدد. وأيضًا هو فرح بالغلبة والانتصار، والتمتع بوعود الرب للغالبين ثم تفرح الروح بالعشرة المثالية التي في السماء، عشرة الأبرار والقديسين، بل وعشرة الملائكة، ورؤساء الملائكة، وعشرة مَنْ كنّا نقرأ عنهم في التاريخ ونشتهي مجرد معرفتهم.وأكثر من كل هذا عشرة الله نفسه -تبارك اسمه- لأن كل أفراح السماء بدون الله لا تكون أفراحًا حقيقية.إن كان الأمر كذلك، فلنستعد من الآن -في حياتنا الأرضية الحالية- حتى نكون مستعدين لكل تلك المتع السمائية التي أعدها الله لمن يحيون في طاعته. ليس لكل الأرواح، بل للأرواح الطاهرة الغالبة التي جاهدت وانتصرت واستحقت أن يكافئها الله بملكوته الأبدي.
ختامًا أهنئكم يا أخوتي بنعمة القيامة التي وهبها لنا الله في الحياة الأخرى. ونصلي جميعًا من أجل سلام العالم كله الذي انتشرت فيه الحروب والنزاعات، مع صلاة خاصة لأجل بلادنا مصروكل عام وجميعكم بخير.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
30 أبريل 2021
يوم الجمعة من البصخة المقدسة
دم المسيح وجهادنا اليومي
اليوم رهيب جداً يا أحبائي، لا تستطيع كلمات و لا تعبيرات بشرية أن تقترب مجرد اقتراب من سر الصليب. سر غير مُدرك، سر يتلاقى فيه الموت والحياة. سر يتلاقى فيه الألم الشنيع والضعف مُنتهى الضعف مع القوة مُنتهى القوة، بل مع قوة ليست من هذا الدهر.
من أجل هذا يصبح الكلام عسيراً جداً، إذ لمن صُلب المسيح إلا لنا، ولمن قدَّم المسيح جسده لِتُدقَّ فيه المسامير ويُطعن ويُخضب بالدماء، إلا لكي يغرس هذه المسامير عينها إنما - بلا وجع - في جسد كل واحد منا. لأنه مَنْ مِنَ البشر يستطيع أن يُصلب عن نفسه، غير ممكن، وإلا يُعتبر انتحاراً!! حتى لو صُلب الإنسان عن نفسه؛ أيُدعى ذلك خلاصاً؟! أبداً! ففي البداية والنهاية هي عقوبة، موت، والموت عقاب. فالمستحيل لدى كل إنسان استطاع الله أن يُتمه للإنسان.
اليوم نرى المسيح الصادق الأمين، الذي قال عن نفسه: «أنا هو الراعي الصالح» الذي «يبذل نفسه عن الخراف»، يُتمم ذلك عملياً على الصليب، ويقول: ليس حبٌّ أعظم من هذا أن يضع إنسان نفسه من أجل أحبائه.
حديثنا اليوم عن أوجه الصليب الثلاثة التي تختص بحياتنا.
الوجه الأول للصليب هو الوجه المقابل لله الآب:
هذا الوجه يختص بالله مائة في المائة. هو فعل كفَّاري. فإذا كنا نقول: أنا «مع المسيح صُلبت»، ومع المسيح مُت، ومع المسيح قُمت؛ ولكن لا أحد يجترئ ويقول: أنا مع المسيح سفكتُ دمي. هذا عمل يختص به المسيح وحده، عمل خاص به، لا نستطيع نحن أن نُشارك فيه. إنه عمل إلهي خاص بالعلاقة التي بين الآب والابن التي تجسد ليكملها من أجلنا. نحن عندما نقول أن المسيح سَفك دمه على الصليب، نتذكر على الفور ما كان يتم يوم عيد الكفارة عندما كان يدخل رئيس الكهنة وحده مرة واحدة في السنة إلى قدس الأقداس وينضح بالدم ويُكفِّر عن الشعب. هذا هو تماماً ما فعله المسيح عندما دخل إلى الأقداس بدم نفسه، ونضح على جسده، أي على البشرية كلها، وتراءى أمام الآب والدم عليه، فوجد لنا فداءً أبدياً. واعتُبر هذا ذبيحة كفَّارة عن كل خطية اقتُرفت من آدم إلى آخر الدهور.
الفعل الثاني لسفك الدم والتقدم به للمسيح متصل وتابع بالضرورة لذبيحة الكفارة: هو الفداء. المسيح عندما قدم ذاته كذبيحة كفارة والدم عليه أو على البشرية؛ فإن الآب قبل هذه الذبيحة، هذا هو الفداء، وأصبح الإنسان مفدياً. كانت البشرية كلها أمام الله ميتة، لأن اللعنة جازت من آدم لكل نسله. المسيح تقدم إلى الآب، بموت نفسه، لكي يقدم هذا الموت إزاء كل موت آخر لكل إنسان؛ فإذا قُبل هذا الموت ، أو قُبلت هذه الذبيحة الكفارية؛ يكون هنا الفداء قد أُكمل.
الفعل الثالث هو المصالحة، هو تالي ومتصل اتصالاً وثيقاً بالفعلين السابقين أي الكفارة التي قُدمت وقُبلت؛ وبذلك تم الفداء، ومن ثم صارت المصالحة. فالمصالحة هنا هي استجابة الآب. «وكان الله مُصالحِاً العالم لنفسه بالمسيح».
ثلاث أفعال سرية، نقلتنا 3 نقلات مهمة للغاية، كان نتيجتها إننا كُفِّر عنا، واُفتدينا، ثم صُولحنا مع الآب بدم كريم، دم يسوع الذي بروح أزلي قدَّم نفسه للآب ليطهِّر ضمائرنا من أعمال ميتة.
هذا هو وجه الصليب الأول، المواجه للآب.
ثانياً: وجه الصليب المواجه للشيطان
الشيطان هو المشتكي علينا وعلى إخوتنا ليلاً ونهاراً، هو لا يطيق نجاحنا، هو دائما يحسدنا، ثم هو يعرف ماضينا وما اقترفناه في حياتنا، لذلك هو يُذكِّر الله بها، تماماً كما رأيناه في شكواه على أيوب، لذلك هو يضع أمام الله كل مُسوغاته في الأفعال التي يمسكها علينا، ويُدعِّم شكاياته علينا ليثبت له عدم استحقاقنا. أما الله، فمن جهته، فهو يرى أمامه دم ابنه كل حين، فعلى الفور، وفي الحال، تسقط كل شكاوي الشيطان. كما يقول القديس يوحنا: «دم يسوع المسيح ابنه يُطهرِّنا من كل خطية». فكل شكوى تُقدم وتُقام ضد أولاد الله مرفوضة. ويبلور بولس الرسول هذا المفهوم ويقول: «مَنْ سيشتكي على مختاري الله؟» . فإذا كان المسيح هو الذي له وحده حق الدينونة علينا فنحن بكل تأكيد نصير مُبرَّأين وتسقط كل القضايا المرفوعة ضدنا.
كذلك الشيطان يمكن أن يشكونا ضد أنفسنا، يُزيِّف ضمائرنا. نعم قد يجعلك تقرع صدرك، ويقول أنت خاطئ وشرير، ولكن إلى هنا ليست هناك مشكلة، ولكنه بعد ذلك يوقعك في اليأس، ويوهمك أنه ليس هناك رجاء. ويجب أن تُفرِّق بين صوت روح الله المتكلم في الضمير وصوت الشيطان الكاذب في الضمير. صوت الله يعطي تبكيت، ولكن لخلاص ورجاء بلا ندامة، في حين أن صوت الشيطان هو للتأنيب وينتهي باليأس.
وخدعة أخرى للشيطان يحارب بها أولاد الله، هو أنه قد يقنعهم بزيادة الجهاد، بزيادة النسك، بزيادة الميطانيات، بزيادة السهر... والشخص يسير في هذا الطريق، للأسف، بلا مشورة، فيجد نفسه في محلك سر، مازال واقعاً تحت نفس الضعفات الأولى، ولا يتقدم قيد أُنملة في الطريق الروحي. في الحقيقة إنه لا عيب في الجهاد بحد ذاته، فلابد من النسك، لابد من قمع الجسد، لابد من الميطانيات، لكن هذه وحدها فقط لا تكفي، ولا تغني عن دم المسيح. فالسبب الرئيسي لغلبة الشيطان علينا هنا هو أننا نجاهد ببرنا الشخصي، نجاهد بقوتنا الرخيصة، نجاهد لحساب الذات.
أما الرد الوحيد على كل مهاجمة واتهام للعدو لنا هو:
دم المسيح. دم المسيح هو فِعل لانهائي، فلا خطيتي ولا خطايا البشرية كلها تقدر أن تُنهيه أو تستهلكه أو تستنفذه. ليست خطية ولا ألف خطية تقدر أن تدينني أو تُعيرني أو يكون لها شكاية عليَّ أمام الله. أنا أمام المسيح مُبرَّأٌ، مُكفرٌ عني، مغفور الخطايا. كل اتهام يرفعه الشيطان ضدي مرفوض شكلاً وموضوعاً، مُقدم أمامه حق الفيتو. فحتى ولو كان المشتكي يشتكي علينا ليلاً ونهاراً؛ فالمسيح بدمه يشفع فينا أيضاً ليلاً ونهاراً. فشفاعته ضد شكايته. وأنا تماماً خارج الموضوع. المسيح محا الصك المكتوب علينا، رفعه من الوسط، كل الوثائق الممسوكة علينا مزقها في صليبه، كما نقول: «مزَّق كتاب يد خطايانا، أيها المسيح إلهنا». المسيح، بدمه المسفوك على الصليب، ظفر بالشيطان، فضحه، جرَّده من كل أسلحته، أخضعه تحت رجليه. فهل بعد هذا يقدر الشيطان المُهلك أن يدخل البيت طالما الدم مرشوش عليه؟ هل تجوز أي شكاية أو عرائض اتهام علينا طالما نحن في حمى الدم؟ مستحيل بالتأكيد.
نعم، عليك أن تيأس من نفسك، ولا أقول تيأس من خطاياك، فكل خطاياك مغفورة، بل عليك أن تَكْفَر بقدراتك ومحاولاتك النابعة من أصل المرارة داخلك، لا تتكل على أعمال صلاحك، فكل هذا لن يجديك، هو فقط دم المسيح.
الوجه الثالث للصليب: أمام كل واحد فينا
هنا الإنسان يكتشف أن المسألة ليست مجرد خطية تُرتكب، ولا فعل خاطئ يُفعل، ولا سلوك معيب يُدان عليه، لا، الأمر أعمق من هذا بكثير، فداخلي ينبوع فاسد، ميل مستمر للخطية حتى بدون فعل. هذا هو الإنسان العتيق. والحق إن هذا المصدر هو أعمق بكثير من الأعمال والسلوك والخطايا، ذلك لأني كلما أُخطئ، أعترف وأتوب، والدم يُطهرني؛ ولكننا هنا نتكلم عن المصدر، المنبع الذي تنبع منه هذه الأفعال الرديئة، والطبيعة الميَّالة للخطية. نحن خطاة ليس لأننا نعمل الخطية؛ ولكننا أولاد آدم. عندما أخطأ آدم في الفردوس، نحن كنا معه في صُلبه، فورثنا منه طبيعته الخاطئة. فآدم كان هو العِلة، ورثنا منه كل ما هو رديء وكل ما هو لا يُرضي الله. إذن ما هو الحل؟ كيف أُغيِّر طبيعتي، ربما قليلاً نقدر أن نُغير بعض أفعالنا وبعض سلوكياتنا، ولكن المطلوب تغيير مصدر هذه الطبيعة. الحل لابد أن يموت آدم. ونحن جميعاً أولاد آدم.
ففي اليوم المعين، وفي الساعة المُعيَّنة العظيمة، الساعة التاسعة من يوم الجمعة العظيمة، نفَّذ الله تدبيره في المسيح، ومات المسيح، ومات آدم معه، وتخلصنا من طبيعة آدم إلى الأبد. وهذا هو وجه الصليب الثالث. هذا هو العمل العظيم الذي عمله الله في المسيح لكل واحد فينا.
كان من العسير أن الآب يتعامل مع كل واحد فينا ليُميته، فأرسل ابنه في شبه جسد الخطية ليدين الخطية، يدين المصدر، أي الينبوع المُلوث الذي تصدر منه سائر الخطايا.
مات المسيح بالجسد على الصليب فدينت الخطية إلى الأبد. ومات آدم الذي فينا وأُعطينا فرصة من اليوم وإلى الأبد، من يوم الصليب، الجمعة العظيمة وإلى نهاية الدهور أن ننال هذه القوة فينا بإيمان بدم المسيح، قوة الموت عن آدميتنا، لنحيا بالمسيح.
صلاة
يا ربنا يسوع المسيح، يا من أعطيتنا ذاتك، ووراء عطيتك كان ما كان من آلام لم تدركها البشرية بعد؛ ولكن أعلنتها لأولادك المخلصين.
أعلِنْها اليوم، يا رب، بالسر لأولاد سِرِّك، ليعلموا كم كلَّفَتْ الخطية الله وابن الله،
كم كلَّفت من حب مسفوكٌ دمه على الصليب؛
حتى نستطيع مرة أخرى أن نأخذ حريتنا بالروح، وننال حياتنا التي كُبلت بالخطية وبالموت سنيناً هذا عددها.
أعطِنا، يا ابن الله، انتباهة روحية في القلب لقيمة عمل الصليب بأوجهه الثلاثة،
لكي لا ننسى أبداً أننا كُفِّر عنا تكفيراً،
وافتُدينا فداءً أبدياً، وصولحنا أمامك إلى الأبد.
ولا يحتاج الأمر بعد إلا إيماناً بجرأة وقدوماً إليك في شخص يسوع المسيح لنأخذ نصيبنا الذي لنا في المسيح.
أعطِنا، أيها الآب السماوي، أن ندرك اليوم عطاياك التي وهبتَها لنا في شخص ابنك يسوع المسيح: عطايا هذا طولها وهذا عرضها على الأرض وفي السماء.
أعطنا أن نضع أيدينا على الدم المسفوك على صليبك ليكون لنا إيمان به، نسير به حتى عتبة الموت.
آمين. اسمعنا أيها الآب والابن والروح القدس ليتبارك اسمك منذ الآن وإلى أبد الآبدين. آمين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
29 أبريل 2021
يوم الخميس من البصخة المقدسة
عشاء الوداع: وتذكرونني إلى أن أجيء
«شهوةً اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم».
هي شهوة تكميل الرسالة وتسليم سر البقاء الدائم!
كانت آلام المسيح وكان موته الفاصل بين الوجود بالجسد والوجود بالروح، ليس فاصلاً زمنياً ولا فاصلاً كيانياً؛ ولكنه كان فاصلاً بين العيان المنظور والرؤيا بالروح لشخصه الإلهي في المجد.
وكان العشاء الأخير صورة وداع للغياب العيني بالمنظور، وفي نفس الوقت، استيداع سر بقائه مع التلاميذ إلى الأبد: «وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر»؛ وذلك في سرٍّ استودعه الخبز ليكون عِوَض الجسد الروحاني مأكولاً بالفم ومستقراً في كيانهم بالروح، وفي خمرٍ ممزوج عِوَض الدم مشروباً بالفم ومستقراً في كيانهم بالروح.كان هذا هو اشتياقه الذي برَّح به أن يأكل معهم فصح الوداع، ويكون فيه سر البقاء وسر الشركة الحقيقية بالروح.وإمعاناً في تأكيد وجوده كلما أكلوا من الخبز وشربوا الكأس، قدَّس كليهما تقديساً ليحمل الخبز سر الجسد ويحمل الكأس سر الدم. وبعد أن قدَّسهما أعطاهم الخبز متحوِّلاً إلى جسده وكاشفاً سر التحوُّل بقوله: «خذوا كُلوا هذا هو جسدي... وخذوا اشربوا هذا هو دمي».ولكي يجعل التأكيد على حضوره يقيناً، كشف لهم سر الجسد المكسور وسر الدم المسفوك بقوله: «كلما أكلتم من هذا الخبز (المتحوِّل) وشربتم هذه الكأس (المتحوِّلة)، تبشِّرون بموتي»؛ باعتبار أن الجسد حال تأكلونه، تأكلونه مذبوحاً بالسر؛ والدم حال تشربونه، تشربونه مسفوكاً بالسر؛ أي يكون قد استودع في العشاء سر الصليب والقبر. ولكونه أصلاً قد مات ليقوم، صارت البشارة بالموت هي بعينها اعترافاً بالقيامة.وبهذا العمل السري، يستحضرون الرب حيّاً وعليه جروح الصليب، ويكون هذا بمثابة وجوده بينهم حيّاً كما كان، إنما في حال قيامة دائمة وجروحه عليه. وهذا يكون بمثابة صُنع تذكار حيّ لوجوده غير المنظور، لا بالفكر كمَنْ يتذكَّرون المسيح الذي مات ومضى؛ بل ذِكْر وجودٍ حيٍّ للمسيح القائم الدائم. وهكذا صارت الإفخارستيا استدعاءً لوجود الرب مذبوحاً وقائماً معاً بحالٍ غير منظور للعيان، فائقاً على فكر الإنسان؛ كخبز مأكول ودم مشروب، وهو هو بعينه المأكل الحق والمشرب الحق، وليس حقٌّ في الوجود إلاَّ المسيح. ولذلك اعتُبِرَت الإفخارستيا أكلاً حقيقياً للرب حسب قوله: «مَنْ يأكلني فهو يحيا بي»!
وهكذا يؤول التذكار إلى شركة حيَّة في المسيح لتتميم سر الاتحاد العجيب: «أنتم فيَّ، وأنا فيكم» ! و “مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه» ، «ويكون له حياة أبدية، وأنا أُقيمه في اليوم الأخير» !
فتذكار المسيح بإقامة الإفخارستيا، هو ذِِكْر حضوره ليس ذِِكْراً عابراً، وهو بعينه سر شركة في حياة وقيامة الرب التي ستُستعلن أخيراً بالقيامة حينما نراه كما هو، ونرى أنفسنا فيه: «إذا أُظهِرَ نكون مثله، لأننا سنراه كما هو” . والقول: «نكون مثله» ، قولٌ سري عميق المعنى، غاية في الخطورة، لأنه يعني: شركة المثيل للمثيل.وقوله: «وتذكرونني إلى أن أجيء» ؛ أي: إلى أن أُحقِّق لكم وجودي بالعيان المنظور، الذي يبلغ من الصفاء الحد الذي فيه يتطابق العيان مع الرؤيا، حين يبلغ الإنسان الجديد تحقيقه اللازمني، فيرى ما لا يُرَى. فنحن الآن نعيش الذكرى بسبب تعوُّق الإنسان الجديد عن أن يُعاين بالعيان المجد الحادث الآن للرب ، ولو أنه أحياناً يأتي، فينفتح وعي الإنسان الجديد ويرى الرب قائماً ومتكلَّماً.مِن هذا يتأكَّد لنا أنه حاضرٌ محتجَبٌ. وقوله: «إلى أن أجيء» ، هو بسبب غيابنا نحن عن اكتشاف وجوده. لذلك فصراخ الشعب مع الكاهن في الكنيسة الأولى بعد تكميل الإفخارستيا وتناولهم جميعاً، عندما يقولون: “ماران أثا” بمعنى: “تعالَ أيها الرب يسوع، وليزول العالم”؛ هو محاولة شبه يائسة لرؤية الرب القائم في الوسط حسب وعده الأمين: «حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم»!
أما قوله على الجسد فهو: «لأني أقول لكم: إني لا آكل منه بعد حتى يُكْمَلَ في ملكوت الله»، ومرة أخرى على الدم: «الحق أقول لكم: إني لا أشرب من نتاج الكرمة إلى ذلك اليوم حينما أشربه جديداً في ملكوت الله». وذِكْر كلمة: ”اليوم“، تفيد: ”الآن وفي الزمن الحاضر“. فالمعروف، وبحسب الرب، أن في الملكوت السماوي لا أكل ولا شُرب؛ ولكن المعنى أقوى وأبسط، فهو سيأكله معنا هنا عندما يكون قد دخل ملكوته، ويشربه معنا هنا سرّا ًعلى الأرض وهو قائمٌ في ملكوته. فالمعروف، وبحسب صراخ الشماس، أن المسيح يكون قائماً على المذبح وقت رفع الذبيحة، ويشترك معنا كعشاء الخميس مع الرسل.أما كيف يأكل ويشرب هنا معنا، وهو في حال قيامته ومجده، فالردُّ على ذلك أوضحه هو: «وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه. وبينما هم غير مُصدِّقين من الفرح، ومتعجِّبون، قال لهم: أعندكم ههنا طعامٌ؟ فناولوه جُزءًا من سمك مشوي، وشيئاً من شهد عسل. فأخذ وأكل قدَّامهم».لذلك من اليسير أن نفهم أن المسيح بحضوره في الإفخارستيا يشترك حقًّا. ومن أجل هذا تأخذ الإفخارستيا قداستها ورهبتها وحقيقتها الأولى في عشاء الخميس.وفي قدَّاس القديس باسيليوس، تقول إحدى الأسبسمسات أثناء القبلة المقدسة: [ تعالَ إلينا اليوم يا سيدنا المسيح، وأضيء علينا بلاهوتك العالي].وأيضاً في نفس موضع القبلة في القداس الكيرلسي، يقول الشعب الأسبسمس الآتي: [ عمانوئيل في وسطنا الآن، بمجد أبيه والروح القدس، ليُباركنا كلنا ويُطهِّر قلوبنا ويشفي أمراض نفوسنا وأجسادنا. نسجد لك أيها المسيح].وفي أثناء التوزيع يُقال لحن:بي أويك Pioyk :[ونحن ننظرك كل يوم على المذبح، ونتناول من جسدك ودمك الكريم ... إلخ].فالإفخارستيا هي حضورٌ إلهي حقيقي، يقدِّسها المسيح بشخصه، ويُقيم سره فيها، وهو الذي يُناوِل بيده غير المنظورة، إنْ الجسد أو الدم.فالمسيح عند وعده، لم يشترك مع تلاميذه في أيِّ إفخارستيا إلاَّ بعد قيامته. وقد كشف لنا التلاميذ هذا الحضور وهذه الشركة في الأكل والشرب بقولهم: «هذا أقامه الله في اليوم الثالث، وأعطى أن يصير ظاهراً، ليس لجميع الشعب، بل لشهود سبق الله فانتخبهم، لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات» .وهكذا يتحقَّق لدينا حضور الرب في الإفخارستيا وتقديس أسرارها، واشتراكه فيها وتوزيعه لأسرارها بيديه. فهذه الإفخارستيا التي نصنعها لذكره، هو قائمٌ ومشتركٌ فيها. فأيُّ تذكار هذا إلاَّ ذِكْر حضوره!
أما مجيئه فسيكون لاستعلان القيم والحقائق العظمى للأسرار التي أكملناها باسمه وذِكْره، ولِبْس الأكاليل للذين أقاموا الذِّكْر حسناً. نعم، تعالَ أيها الرب يسوع. آمـين.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
28 أبريل 2021
الساعة التاسعة من يوم الأربعاء من البصخة المقدسة
مِسْحَة الموت المُعطِّرة للجسد
ان الطيب المسكوب على الجسد الحي من أجل تكفينه في بيت عنيا أول شركة مقدَّسة صادقة في موت المسيح. كانت هذه المسحة الأخيرة أول عبادة مقدَّسة للجسد الإلهي الذي ارتفع إلى السماء حيًّا ليحيي جسم البشرية ويبرِّرها. لقد رد المسيح طيب الناردين مضاعفاً باقياً أبداً لجسد البشرية الذي اتحد به ومنحه روحه وحياته وبنوَّته، بأن أجلسه عن يمين أبيه. وارتد تذكار هذه المحبة الخالصة الكثيرة الثمن لصاحبته من دور فدور وفي كل كنيسة وقلب كل عابد في العالم كله. ولقد صار ناردين البشرية المسكوب على جسد المسيح مدخلاً بديعاً للآلام ونبوَّة عن قيامة عتيدة تعطِّر تاريخ الإنسانية!
«وَفِيمَا كَانَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ عَنْيَا فِي بَيْتِ سِمْعَانَ الأَبْرَصِ، تَقَدَّمَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ مَعَهَا قَارُورَةُ طِيبٍ كَثِيِرِ الثَّمَنِ، فَسَكَبَتْهُ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ مُتَّكِئٌ».كان ذلك بحسب إنجيل ق. يوحنا قبل الفصح بستَّة أيام وبحسب الأيام كان مساء السبت 8 نيسان.القديس متى عاشق للمقارنات، يضع قصة العطر والمسحة في بيت مريض شفاه المسيح، في مقابل بيت رئيس الكهنة الذي تفوح منه رائحة الدم والنتانة تتصاعد من أفواه وبطون الكبراء والرؤساء والمرؤوسين والمأجورين.هنا يعفُّ ق. متى أن يمس بكلمة تلك المرأة صاحبة المحبة المحفوظة في قارورة الطيب إلى اليوم الذي ينبغي أن تخرج منه، لتعطي للجسد كرامته بل قداسته، إن لم يكن في أعين رؤساء الكهنة ففي عين الكنيسة إلى أبد الدهور. فالذي يمسح الجسد المسحة الأخيرة كاهن هو وأعظم من كاهن، فلمَّا خذل الكهنوت صَنْعَتَهُ واشتغلوا بالمؤامرات والقتل، قامت امرأة في إسرائيل كدبُّورة ترفع قرن الكهنوت عالياً وتطرح حقد التلاميذ وجشع يهوذا أرضاً لتقول قول دبورة: دوسي يا نفسي بعز!! وضمَّخت الجسد بالعطر قبل أن يُعرف له قبر!! ودهنت الرأس ولم تكن تعلم أنها دهنت رأس الكنيسة كلها. ولقد عبَّرت هذه المرأة الملهمة الذكية عن بهجة القيامة في وسط مؤامرات الموت وحبَّبت إليه القبر لمَّا اشتمَّ من قارورتها رائحة الصعود!
«فَلَمَّا رَأَى تَلاَمِيذُهُ ذلِكَ اغْتَاظُوا قَائِلِينَ: لِمَاذَا هذَا الإِتْلاَفُ؟ لأَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يُبَاعَ هذَا الطِّيبُ بِكَثِيرٍ وَيُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ».لقد تضاربت الأقوال على مَنْ هو صاحب هذا النقد غير الصائب، فالقديس يوحنا قال إنه يهوذا وهذا كان يليق به لأنه كان حامل الصندوق ويلتقط كل ما يدخل فيه. والقديس مرقس قال بعض التلاميذ متحشِّماً، وق. لوقا قال أحد الفريسيِّين حتى يزيح هذه السبَّة عن جبين التلاميذ. وهنا ق. متى يلقيها على التلاميذ كلهم - لأن ق. مرقس زاد القول أن التلاميذ كانوا يؤنِّبونها- حتى تصيب الكنيسة فيوعِّيها عن الخطأ والعيب. ولكن لا يفوتنا اتهام التلاميذ هنا عن أن يلقي الضوء على ضعف وانحراف دور التلاميذ في قصة الآلام الذي قد تنبَّأ عنه المعلِّم بقلب حزين: كلّكم تشكون فيَّ في هذه الليلة، هوذا تأتي ساعة وقد أتت الآن تتفرَّقون فيها كل واحد إلى خاصته وتتركونني وحدي، وأنا لست وحدي لأن الآب معي. فكانوا يشكِّلون ثقلاً على المسيح، ولكن كشفوا في المقابل عن مدى سعة صدر المسيح وعفوه وحبّه وتسامحه ونعمته. وصدق ق. يوحنا إذ قال بصددهم: كان قد أحبَّ خاصته الذين في العالم أحبَّهم إلى المنتهى. وألقى ق. لوقا صدى هذا القول بقوله: شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألَّم. كما تنبَّأ المسيح عن بطرس حزيناً: سمعان سمعان هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة ولكني طلبت من أجلك لكي لا ينفى إيمانك. ولكن وفي الحقيقة كان موقف التلاميذ مُخزياً للغاية!
«فَعَلِمَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُزْعِجُونَ الْمَرْأَةَ؟ فَإِنَّهَا قَدْ عَمِلَتْ بِي عَمَلاً حَسَناً! لأَنَّ الْفُقَرَاءَ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ، وَأَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مَعَكُمْ فِي كُلِّ حِينٍ».”كَشْفٌ فاضحٌ وتقريرٌ لاذع وتعقيب على غيظهم يَرُدُّ غيظهم إلى بطونهم. هم قالوا هذا التصرُّف فيه إتلاف فردّ الرب عليهم وقال هذا الرد فيه إزعاج. هم قالوا أن يُباع أحسن، والمسيح قال إنها عملت الأحسن. هم قالوا الفقراء أفضل والمسيح ردَّ عليهم بل أنا الأفضل! فماذا بقي لمشورة التلاميذ؟ لقد استطاع ق. لوقا في إنجيله أن يرى في تصرُّف التلاميذ هذا عملاً عدائياً للمسيح فاستكثره على التلاميذ فنسبه إلى أحد الفريسيين!! فكان هذا أفضل تعليق على الوضع بأكمله دون أن يجرح التلاميذ وهو بذاته أشد من الجرح!!
”تبًّا للمبادئ والأصول وقياس الأفضل مالياً إن كان فيها احتقار للمحبة، ويا ليتها محبة مقدَّسة لإنسان محتاج ولكن لمسيح قادم على الصليب. إن القلم يكاد يخرج عن طاعتي حينما أعيد الفكر فيما صنعه التلاميذ، ولكن شكراً للرب فقد قال ما يكفي. آه لو دري جميع الفقراء بما قاله التلاميذ، لتبرعوا بثمن خبزهم شهراً ليقدِّموا نفس قارورة الطيب وفي نفس وقتها ولنفس الغرض ويبقوا هم جياعاً مسرورين إذ يكونون قد قدَّموا طيباً لتكفين الجسد الذي حمل عنهم خطاياهم وفتح لهم باب الملكوت! وكم وكم تحمَّل الفقراء ألوف وملايين من الأموال التي نُهبت على اسمهم وما دروا وما سمعوا عنها شيئاً!! والقديس متى يصمِّم أن يجعل من قصصه تعليماً للكنيسة طالما بقي لها ضمير!!
”على أن الدرس الأكبر الذي نخرج به من قول المسيح إنها عملت بي عملاً حسناً وإن الفقراء معكم كل حين، هو أن العبادة لله بالروح أعلى شأناً من إعطاء الحسنات، وتوقير شخص المسيح بالحب أرفع من خدمة الفقير. لذلك نحن نرى في قول ق. مرقس من أجل ترك العالم والأسرة أن يكون ذا اتجاهين هكذا: من أجلي ومن أجل الإنجيل اتجاهاً سريًّا خطيراً لتقنين بيع العالم وما فيه حبًّا للمسيح وحده، وتقديم ذبيحة النفس طوعاً لعبادته، على نفس المستوى تماماً لتقديم الذبيحة لخدمة الإنجيل والكرازة باسمه. وعلى القارئ أن يزنها جيداً، فهي سند إنجيلي قوي للذين كرَّسوا الروح والنفس والجسد لعبادة الرب بالروح والحق!!
لذلك تجدنا أيها السامع العزيز أمام لغز هذه المرأة - التي نعرف بحسب تأكيد إنجيل ق. يوحنا أنها مريم أخت لعازر - التي لفتت نظر الكنيسة بقوة نحو حياة الجلوس تحت قدمي الرب باعتباره اختيار النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها، أفضل مما اختارت مرثا بالارتباك والاهتمام بأمور الخدمة الكثيرة. ثم تعود هنا وتظهر بقارورة طيبها التي لم تكن إلاَّ حياتها تكسرها وتدهن بها الجسد لتطيِّبه حبًّا فأراحت نفسه، وردَّ جميلها بأجمل منه إذ جعل حياتها هذه سواء بجلوسها تحت قدميه تسمع وتتأمَّل فيما تسمع، أو بتحويشة العمر لتسكبها على رأسه والجسد وتبل رجليه بدموعها كعهد تَـقْـوَى، وتمسحهما بشعرها لترتد لها مسحة قداسة، جعل حياتها في الكنيسة عملاً وذكرى وتذكاراً حسناً.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
27 أبريل 2021
الساعة الحادية عشرة ليوم ثلاثاء البصخة
على مثل الوزنات
«وَكَأَنَّمَا إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ».ويبدأ المَثَل في مشروع رحلة بعيدة لإنسان سيد، وبناء عليه دعا العبيد لتسليمهم أمواله، هنا ترتفع العلاقة التي تربط السيد بعبيده إلى أقصى مستوى من التبعية والأمانة التي تصل إلى حد تسليمهم أمواله ليقوموا بعمله، باعتبارهم حائزين على كل إمكانياته، وعلى ثقته أيضاً. والإحساس هنا يكاد يُنْبِئ بأنه جعلهم كأبناء كونه يحمِّلهم مسئولية إدارة أمواله في غيابه، وكأنهم يمثِّلونه شخصياً.«فَأَعْطَى وَاحِداً خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ».نحن الذين اختارهم الله في المسيح يسوع لملكوته الأبدي قبل إنشاء العالم لنكون قدِّيسين وبلا لوم قدَّامه في المحبة. اختارنا وكل واحد منا خلقه بإمكانية وطاقة معيَّنة في المواهب وفي القدرة على استخدام المواهب، وبالتالي بإمكانية للخدمة تتناسب مع الطاقة والمواهب. في حين أعطانا فداءً واحداً وخلاصاً واحداً ودعوة مقدَّسة واحدة متساوية في كل شيء للخلاص.وهكذا بمقتضى حكمة الله الفائقة ومعرفته الكاملة المطلقة التي لا يغيب عنها شيء من أمور الخليقة كلها، ودرايته الكاملة المطلقة بدقائق إمكانياتنا وذكائنا وضعفنا، أعطى كل واحد منَّا وزنات تتكافأ تماماً مع طاقتنا ومقدرتنا ومواهبنا للخدمة، نخدم خلاصنا وخلاص الآخرين لحساب ملكوته الأبدي. فلم يُعطِ لأحد من الوزنات أو من الخدمات ما يفوق طاقته، إلاَّ إذا أقحم إنسان نفسه في خدمة أو عمل يفوق طاقته وإمكانياته، فهذا يُسأل عن عجزه ويُلام في تقصيره ولا يُلام الله بسببه في شيء.
ويلاحظ السامع، أن السيد المسافر هذا لم يأخذ صكوكاً ولا كتب شروطاً ولا حذَّر ولا أنذر ولا أوعى وأوصى، بل بكل ثقة أعطى ماله لعبده الأول على أن يتاجر فيه بقدر ما حباه الله من مواهب. والأمانة المطلقة فُرضت هنا باعتبارها العلاقة الأُولى التي تربط السيد بعبيده.وهكذا أعطى العبد الثاني ما يتوافق مع طاقاته وإمكانياته، وكذلك الثالث، ولم يلاحظ قط أن أياً من الثلاثة استكثر الوزنات أو استقلها، مما يوحي أن التوزيع كان عادلاً بمقتضى طاقاتهم حقـًّا.
«وسافر للوقت»:
وكأن اجتماعه بخدمه كان طارئاً لتسليم هذه الوزنات، على أن عودته ستكون للسؤال عن النتائج بقدر الأهمية التي نعرفها نحن عن موهبة الفداء والخلاص التي منحها للجميع بقدر واحد، وكيف أنه سيأتي ليحاسبنا على الدم الذي سفكه من أجلنا، ونعمة الخلاص الذي أكمله بقيامته من أجلنا.«فَمَضَى الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. وَهَكَذَا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضاً وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ».لم يدَّخر جهداً، بل في الحال قام العبد الذي أخذ الخمس وزنات وتاجر بها وربح خمس وزنات أُخر، فكان عند حسن ظن سيده وأثبت جدارته، كما أثبت أن سيده كان حكيماً دقيقاً عالماً بإمكانياته وطاقته تماماً. كذلك العبد الثاني تاجر وربح وزنتين وأضاف إلى برهان الأول برهانه الخاص أنه كان جديراً بالوزنتين، وأن سيده كان حكيماً ومدركاً طاقته تماماً.حدَّد كمية الوزنات. أي أن الطاقة هي من عمل النعمة، وعلى أساس عمل النعمة يمنح الله الوزنات. وعلى هذا الأساس اللاهوتي تتم المحاسبة والعقاب. لأن الذي لم يربح يُعاقب لأنه عطَّل عمل النعمة فأوقف عمل الوزنات. أمَّا الربح فقد زكَّى عمل النعمة. وهكذا ترتد النعمة عليه بالطوبى والبركة والمكافأة.«وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي الأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ».إخفاء الوزنة أو الفضة في الأرض يقابلها تعطيل أو إبطال عمل الموهبة أو المميزات الروحية التي أعطاها الله للمؤمن. وهذا يتم عند الذين إمَّا فقدوا الإحساس بقيمة الموهبة أو صار لهم استهتار وازدراء بصاحب الموهبة، وبالتالي عدم اهتمام بمجيئه والحساب الذي سيحاسب به كل إنسان عن ما وهبه إيَّاه. وهنا يتركَّز المَثَل في عدم السهر ورفض العمل وفقدان الإحساس أو الأمانة بالمسيح.«وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيلٍ أَتَى سَيِّدُ أُولئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. فَجَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا».
هنا تحديد الزمان الذي غابه السيد بأنه طويل يوضِّح تأخُّر المجيء الثاني، وهذا ردٌّ على الذين كانوا يظنون أنه سيأتي سريعاً. وأمَّا الحساب فهو ضرورة قصوى كمبدأ إيماني ثابت أن الإيمان بالمسيح هو عمل وحساب على العمل، وإلاَّ انقلب الإيمان المسيحي إلى فوضى. ومرَّة أخرى نفهم الإيمان المسيحي أنه قائم على عطايا ومواهب وامتيازات تحمل قيمة فائقة داخلها لا يكشفها ويستمتع بها إلاَّ الذي يعمل ويجتهد ويتاجر بها. وفي نفس الوقت فإن هذه المواهب والامتيازات الإيمانية سيُطلَب ربحها في حياة كل مؤمن في حساب الدينونة العتيدة. ومثل هذه الوزنات هنا سواء في الخمس أو الاثنتين أو الواحدة هي مجرَّد عيار للمواهب توزن في مقابلها الأعمال. ويتحتَّم أن تكون هذه المواهب قد قدَّمت ما يساويها من أعمال وإلاَّ يُحسب الإنسان أنه اختلس أموال السيد.«فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».أمَّا كونه حسناً أو جيداً فلأنه أثبت أن ما قدَّمه من “عمل” يساوي “طاقته” تماماً، فهنا يكون وزن الشخصية روحياً قد نجح. وأمَّا أنه صالح فلأنه أثبت أمانته للسيد نفسه تماماً، فحَسَب ما استأمنه عليه من عمل شخصياً وُجِدَ أميناً فيه لشخص السيد، فهو صالح. وأمَّا أنه أمين فلأنه قدَّم خمس وزنات مقابل خمس وزنات استلمها، فهو أمين في مال سيِّده.
«كنت أميناً في القليل»:
القليل هنا هو كل العطايا والمواهب التي تُعطى للإنسان المؤمن ليتاجر بها. ويفرح ويفرِّح الآخرين، مهما كانت قوتها وقدرتها وعظمتها. لأنها هي بوضعها الحالي صورة لعطايا الله في السماء التي لا يمكن أن توصف أو يدركها عقل. وواضح من هذا الكلام أن المسيح إنما يهب لنا هذه المواهب والعطايا لنتاجر بها لحساب الملكوت، فهي الطريقة الوحيدة التي يدرِّبنا بها لكي نرتقي إلى ما هو أعلى وأعظم وأمجد - وما الدينونة الأخيرة أو الوقوف أمام المسيح إلاَّ لكي نسمع منه هذا الصوت الذي سوف يملأ أسماع السمائيين: نِعمَّا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح سيدك.«ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا.قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. ادْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ».وبهذا الإجراء يظهر تماماً منهج الرب يسوع المسيح في توزيع المواهب، والحكم النهائي على أداء الأعمال والمهام التي سلَّمها لمختاريه. إذ وضح أن التوزيع للمواهب والعطايا الروحية يتبع نظاماً دقيقاً للغاية مربوطاً بالطاقة التي يحوزها الإنسان، والقدرات الشخصية في مجملها الروحية والنفسية والجسدية. فكل مَنْ هو قادر على احتمال المسئوليات يُعطى من المواهب والنعمة ما يساوي قدرته تماماً. وهكذا تأتي محاكمته أيضاً عادلة للغاية ودقيقة للغاية، حيث تكون محاسبته على الأمانة والجهد والاهتمام الذي أدَّاه في مسئوليته، ولا يدخل فيه الكثرة أو القلة في المواهب. فصاحب الخمس وزنات نال من المديح والمكافأة ما ناله صاحب الوزنتين تماماً وبالحرف الواحد.«ثُمَّ جَاءَ أَيْضاً الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ».العبد هنا بدأ يدين السيد على سلوكه وأخلاقه ويلصق به بناءً على ذلك تهمةً أنه السبب في كونه مضى وأخفى الوزنة في الأرض، فلا هو انتفع بها ولا نفَّع أحداً.واضح لنا جداً أن غياب المحبة في قلب هذا العبد هي التي فصلت قلبه وذهنه عن سيِّده، كذلك عدم الأمانة وعدم الثقة جعلت الخوف يطغي على الطاعة ويضحِّي برضا السيد. ووصفه للسيد بالقسوة هو مجرَّد تبرير لسلوكه غير الأمين وشعوره غير المحب ولا الخاضع لأوامر السيد. فهو اتهام جزافي ليس عنده ما يبرِّره إلاَّ عجزه عن أن يكون خاضعاً وأميناً ونشيطاً.ونحن يستحيل أن نبرِّر هذا العبد في قوله عن السيد أنه قاسٍ مهما كانت الأسباب التي يتذرَّع بها، لأن سيده علم أولاً أن لديه الطاقة والإمكانية والقدرة على تحمُّل مسئولية إدارة وزنة واحدة، ثم هو أُعطي بالفعل وزنة تساوي طاقته وإمكانياته تماماً. فهو محاصر بين دراية السيد بإمكانياته وطاقته وبين عطية الوزنة التي تساوي طاقته وإمكانياته. هذا فيما يخصّه تماماً، فكونه يخرج بعذر جديد ليس له علاقة بالمسئولية التي ألقاها السيد عليه، وهي مسئولية فيها تكريم ووعد جيد بالمجازاة. هذا شيء يذهلنا إذ بدل أن يدين نفسه ويطلب الرحمة والمعذرة، انطلق يبرِّر نفسه وسلوكه بأن يأتي باللوم على السيد أنه رجل قاسٍ. هذا أضاف إلى قضيته التي تنحصر في التهاون والكسل وعدم الأمانة والاستهانة بأوامر السيد عنصراً خطيراً في الحكم، إذ تعدَّى على شرف السيد كقاضٍ، وذمَّه علناً بأنه قاسٍ، وكأنها محاولة منه لرد القاضي عن أن يكون صالحاً للحكم والقضاء، وهذا يُحسب للعبد شناعة.ومهلاً عزيزي السامع، فلا تتحامل كثيراً على هذا العبد الشرير الكسلان فهو أنا وأنت!! لأن قضية العبد الذي خبَّأ وزنته في التراب، وعاد فاستذنب الله ليتبرَّر هو، هي قضية كل خاطئ يرفض الاعتراف بخطيته أو التوبة عمَّا يصنع، لأنه يقتنع أن الحياة بلا خطية مطلب إلهي غير عادل، فإن كان الله لم يزرع في الجسم الطهارة والتقوى فكيف يطالب أن يحصد ما لم يزرعه؟ وإنها قسوة من الله أن يطالبنا أن نرتفع فوق طبيعتنا التي صنعها لنا. بهذا نكون قد وضعنا أنفسنا موضع العبد الشرير الكسلان الذي لم يتاجر بموهبة النعمة من أجل الطهارة بل طمرها في الجسد (التراب) وعاد يبرِّر نفسه أمام الديَّان.«فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ. فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِباً».أمَّا كونه شريراً فلأنه عصى أمر سيده عصياناً مبيَّتاً، وهي نفس خطية آدم التي جلبت الخراب على بني جنسنا. فأمر الله يُطاع حتى الموت ولا عذر إطلاقاً لعصيان أمر الله. لأن ذلك معناه القطع من الحياة والحكم بالموت. أمَّا كونه كسلاناً ومتوانياً، فواضح لأنه لم يحاول ولو محاولة أن يعمل بالموهبة التي استأمنه عليها سيده، وقد أعطاها له بحكمة ودقة وعدل بما يساوي طاقته وإمكانياته. فسيِّده يعلم أن لا عذر له على الإطلاق.
«فَخُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ».الذي لا يعمل لا يأكل، أما الذي تاجر وربح وأثبت جدارة فهذا عنده الإمكانية للمزيد، فهو الذي يأخذ الموهبة التي بقيت عاطلة وليس مَنْ يعمل بها. أمَّا الذي ثبت أن ليس عنده الرغبة والإرادة على العمل فالذي أخذه يؤخذ منه. هذا هو “عدل العمل” أو قانون المواهب: “الشجرة التي لا تصنع ثمراً جيِّداً تُقطع وتُلقى في النار. ”واضح لدينا الآن أن عين المسيح مسلَّطة على العمل والجهاد والنشاط والربح فيما يخص المواهب التي سكبها على التلاميذ والكنيسة. فغياب المسيح هو فترة العمل والجهاد العظمى لتكميل الخدمة والبلوغ بالفداء والخلاص إلى أقصى طاقة البشرية في الخدَّام الذين سيسكب المسيح عليهم مواهبه باستمرار، وبقدر طاقتهم وإمكانياتهم في الخدمة. والذي يُبدي نشاطاً أكثر سينال مواهب أكثر، والذي يتراخى ويهمل تُسحب منه المواهب. والمسيح يركِّز على أن فترة انتظار مجيء الرب هي فترة العمل بالمواهب. فالسهر ينبغي أن يكون سهراً عمَّالاً ومنتجاً. على أنه قد تبيَّن لنا أن المكافأة على أمانة الخدمة والعمل بالمواهب ستكون مزيداً من العمل والمواهب فوق، مع فرح لا يُنطق به.
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد
26 أبريل 2021
اثنين البصخة إن كنا نتألم معه فسوف نتمجد معه
نريد هذه السنة أن ندخل في المفهوم الروحي والعملي لأسبوع الآلام بالنسبة لحياتنا. طبعاً تعرفون أن أسبوع الآلام هو الاسم الشائع والسائد لهذا الأسبوع. ولكن الاسم المحبوب والطقسي هو أسبوع الفصح، أو أسبوع البصخة، حيث أنهما كلمة واحدة بنطق مختلف. وأصل التسمية هو حمل الفصح، الخروف الذي بدمه مُسح أعتاب بيوت شعب إسرائيل، فكان الملاك المُهلك يعبر عليهم ولا يمسهم سوء. وهذا بالطبع كان رمزاً قوياً للحمل الوديع، للمسيح المصلوب، الذي بدم نفسه مُست أعتاب شفاهنا وحياتنا وعبرنا من الموت إلى الحياة.هو في الحقيقة أسبوع فصح، ويتخذ اسمه من اليوم الأخير، الجمعة الكبيرة، حيث قمة آلامه، يوم ذبح الحمل على الصليب، ولكن لو جمعنا الكلمتين يمكن نسمي أسبوعنا هذا بـ: أسبوع الآلام الفصحية، حيث عبر الرب بنا وبالخطاة وبجسد الخطية، من الموت إلى الحياة والقيامة؛ من العقوبة والغضب الإلهي، إلى التبرير والخلاص الأبدي. اسمعه وهو مُنكسر القلب يتكلم عمَّا سيحدث له: «ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الأمم فيُهزأُ به ويُقتل». نحن نقولها الآن كأنه كلامٌ عاديٌ، إطلاقاً، ليس الأمر هكذا. المسيح كان يجلس مع تلاميذه في جلسة محبة ودية، وفجأة يتغير مجرى الكلام ويقول لهم هذه الأمور الصعبة، الأمر الذي أذهلهم واستنكروه ورفضوه وانزعجوا من أجله بشدة.نحن للأسف من كثرة ما قرأنا وتحدثنا عن هذا الأسبوع، وحوَّلناه إلى مناسبة طقسية، أُصبنا بداء الاعتياد ولم يعد يؤثر فينا. نريد هذه السنة أن نجوز هذا الأسبوع بحق مع الرب، ليس كاعتياد وطقوس وألحان، ولكن أن نسير على إثر خطواته، نجوزه بعهد أن نتألم كما هو تألم، نتألم معه بحب.في الحقيقة يا أحبائي، من المستحيل أن يجوز أحد آلام المسيح إلا بالحب، وينبض نبضة الحب الإلهي.هناك نوعان من الآلام: آلام طبيعية وآلام جبرية. الآلام الطبيعية مثل أصوامنا أو خدماتنا وعملنا الجسدي، كل هذه لا قيمة لها، ما لم تسندها النعمة، وما لم نعتبرها شركة في آلام المسيح.
أما الآلام الجبرية فهي آلام ندخلها بغير هوانا، أو بمعنى أدق تُفرض علينا فرضاً، وهي من المستحيل أن نغلبها ما لو تسندنا نعمته ونعتبرها شركة في آلامه.
علينا أن نجوز هذا الأسبوع على أساس القيامة الفعلية، فإذا كان الرب قد تألم؛ فهو أيضاً قام، هذا يعطينا قوة سرية روحية لا نهائية. أقول هذا بالأخص للذين هم يشتكون من آلام جسدية ومن ضعف النفس ومن محاربات الشيطان. أما أنا أقول لهؤلاء: اصبروا، تقووا، الرب معكم، لا تخافوا، الرب معين، الرب ناصر لن يتخلى أبداً. فإذا كنا قد عرفنا أن الرب بعد كل ألاماته المُرة، وبعد الأحزان الشديدة التي ذاقها، وبعد انكسار قلبه ونفسه، وغُصة الموت التي جازها..ففي ضوء القيامة ستكون كل آلامنا أيضاً لذيذة، وليست صعبة أو مصيبة أو مُفاجئة.لذلك تعالوا اليوم نمشي على إثر خطواته، فخطوات المسيح هي هي خطواتك، والذي احتمله هو كله عنك، فإن لم تشترك معه في هذا الاحتمال عينه؛ فلن تأخذ أجره أو ثمرته والتي هي قيامته.هل من الممكن أن هذه السنة نعمل عهداً جديداً مع بعضنا البعض، نأخذ هذا الأسبوع كعهد شركة حقيقية مع الرب؟ فإن كان هو قد تألم من أجلي؛ كيف لا أجوز أنا أيضاً بنفس هذه المشاعر؟ وأنا أعلم تماماً وبيقين وثقة روحية أن الرب صادق والروح أمين، وإنه كما أن الآلام التي جازاها المسيح حوَّلها إلى نُصرة؛ هكذا ستتحول لي أنا أيضاً إلى قيامة وغلبة؛ إن أنا جُزتها صدقاً وإخلاصاً وأمانة. الروح ينتظر مقدار أمانتا للمسيح. ولكن علينا أن نقول: إن الأمر ليس مجرد آلام مُجردة، فإن لم يتحرك القلب بالحب؛ فلن تكون آلاماً فصحية، ستكون مجرد آلام، وهنا، ما أكثر ما قضينا من أسابيع آلام، ولكنها كانت كلها آلاماً بلا ثمر ولا قيمة لها!! ولكن الذي نريده هذه السنة أن تكون آلامنا فصحية، تتحرك فينا وتنتهي بالعبور. نريد أن نفصح (=نعبر) في كل ساعة وفي كل يوم إلى أن نبلغ غاية فصحنا. لا نريدها آلاماً عقيمة، ولكن نريدها آلاماً تحملنا وتحمل هذا الجسد الخاطئ الميت، من حياة إلى حياة أو بالحري من موت إلى حياة، من إيمان ضعيف إلى إيمان قوي، من حياة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح.أتمنى أن يكون لنا في هذه السنة ثمار تُفرِّح الرب وتُفرِّح السماء بنا.هناك كثيرون من أولاده الذين جازوا معه آلام، وعبروا ودخلوا معه في نُصرة أبدية، وعاشوا في ملء حرية أولاد الله وفي ملء قوة النعمة والنصرة على الجسد والعالم، وفي ملء القوة ضد الخطية.يا أحبائي، علامة سُكنى الروح القدس أن تكون هناك فينا قوة ضد الخطية. كل العلامات الأخرى تخطئ، ولكن أن ينتصر الإنسان على الخطية؛ فهذا يسكنه الروح بالتأكيد.لا أريد أن أقترح عليكم اقتراحات كيف تقضون وتسلكون وتصومون وتسهرون خلال هذا الأسبوع، دعوا الروح يُحرككم ويتكلم داخلكم. فقط قدِّموا باقات حب وكلمات عهد ووعد لحياة ليست للعالم، ولا يكون للجسد فيها نصيب، حياة مربوطة بقلب المسيح وتتحرك بحركته، حياة مُنقادة بالروح القدس، كما يُقاد الطفل الصغير في يد أبيه وهو لا يعلم إلى أين يمضي.حياة فيها حب إلهي، ولكن نجوز مع الرب آلامه بحزن حقيقي من أجل الخطايا التي بسببها تألم ومات.ولكن اعلم، إنه ليس فضلاً مني أو منك إنك تتألم خلال هذا الأسبوع، أو أن نفسك تذبل فيك، إنه هو ذبلت نفسه من أجلك قبلاً، سُفك دمه نقطة نقطة حتى أَسلم الروح بسبب خطيتك. فهذه ليست مكرمة منك، ولكنها ضريبة، ضريبة أسبوع الآلام.تعال إلى الرب وقُل له[ أنا عليَّ ضريبة لابد أن أدفعها لك هذه السنة، سأقدمها إليك مُجبراً، ولكن بملء حبي، وبملء فرحتي.أسبوع الآلام هذا كله بسببي أنا وليس بسبب الآخرين، فاعطنى أن أجوزه معك.أعطنى حزناً ليس أقل من حزنك، هبني انكساراً في قلبي كوجعك وانكسار قلبك، امنحني أنيناً كأنينك أعبر معك به هذا الأسبوع وكل المصادمات خطة بخطوة. شهِّر بي، يا رب، افضحني، اكشف خطايا علناً؛ لئلا أُفتضح بعد هذا في السماء.أعطني اتساع قلب واتساع فكر واتساع رؤية حتى أرى ماضيَّ كله فيك، وحتى عندما أتألم لا أكون أكذب على نفسي أو أكذب عليك ولا أكون أتصور أو افتعل.أعطنى يا رب إحساسك بخطايا الناس وكيف هي مررتك.اجعلني أذوق ألمك وبكائك وأنت تبكي على شعبك وأولادك الذين لم يعرفوا زمان افتقادهم.أعطني دموعاً أذرفها معك، لا تجعلني أعيش محصوراً في خطيتي فقط وبعيداً عن صليبك الكبير. لا تحرمني من لمسة صغيرة أرى فيها آلام العالم التي أنت ذقتها].أنا أقول لك: إن الآلام التي تجوزها لو كنت صادقاً، سوف تتحول إلى لذة وفرحة وتوبة بلا ندامة. إنك تستطيع بسهولة أن تفرق آلام المسيح عن هذه التي بحسب العالم. حزن العالم وآلامه يُنشئ توتراً وعدم راحة. هذا الحزن مرفوض. نحن عندما ندخل آلاماً حقيقية مع الرب وفيها نحزن حزن الموت إلا أننا في نهايتها تُبصر عيون قلوبنا القيامة عياناً بياناً، وتهتز قلوبنا فرحاً، وترنم ونقول: آلامك، يا ربي، أنشأت فيَّ فرحاً، آلامك أنشأت في داخلي بهجة قيامة ونوراً، لا أستطيع أن أعبر به. تصرخ وتقول: ما هذا المجد يا ربي، أإلى هذه الدرجة تكون آلامك مُفرحة ومُعزية؟ إذن لماذا نحن محرومين منها؟! ذلك لأننا ارتضينا بالمظاهر، أتقنا الطقس، راجعنا الألحان، ظبَّطنا الهزات، وتكون النتيجة أننا ندخل ونخرج ونحن غرباء عن آلامك.لا نريد هذا، نريد في هذا الأسبوع في كل لحظة، أن يتحرك قلبنا، كما تتحرك أوتار قيثارة بكل آلام الرب معاً، فيخرج من أعماقنا نشيد أعظم آلاف المرات من كل الألحان.من يدخل إلى هذا الأسبوع مدخلاً حقيقياً سوف يحمل البشرية كلها في قلبه، سوف يحمل سقطات الساقطين، سوف يحمل خطية الخطاة في قلبه الصغير هذا، سوف يتسع ويتعجب كيف أن الرب استأمنه على هذه الأسرار والكرامة العليا.هذا هو أسبوع الآلام، ما أمجدها آلاماً وما أعظمه فصحاً.أتمنى لكم جميعاً أن يكون هذا الأسبوع أسبوعاً خالداً في حياتكم لتعيشوا في حقيقة الإنجيل لا تفارقوه ولا يفارقكم لحظة، وتذوقوا في قلوبكم وأرواحكم عمل الروح القدس في القلب، وكيف يعبر الإنسان من مصر إلى كنعان، يعبر ويتجدد من جسد عتيق لإنسان جديد مُنقاد بالروح القدس ليس له مشيئة بعد، وقد نسى زمان الخطية وأوهامها الكاذبة وتصادق مع القادر المقتدر الذي قام باقتدار وانفصل عن الخطاة وصار أعلى من السماوات.ولإلهنا المجد دائماً أبدياً أمين
المتنيح القمص متى المسكين
المزيد