المقالات
07 أبريل 2021
العمل الإيجابي البناء
ما أجمل وأعمق ذلك المثل الصيني الذي يقول:'بدلًا من أن تلعنوا الظلام، أضيئوا شمعة'.حقًا، إن مجرد لعن الظلام لا ينقذ أحدًا من ظلمته. ولكن الظلام ينقشع من تلقاء ذاته، بعمل ايجابي هو نشر النور، ولو علي الأقل بإضاءة شمعة وهكذا في أي مجتمع قد توجد أخطاء أو نقائص أو مشاكل. وإذا بمحبي الإصلاح يتجهون إلي اتجاهين: احدهما يضج ويصيح لكي يفضح هذه الأخطاء، أو انه يبكي بسببها وينوح وينعي الخير الذي ضاع أما الاتجاه الآخر، فهو العمل الايجابي الذي يكتب صفحة جديدة ناصعة في تاريخ المجتمع، في هدوء وفي قوة.. وهذا هو الأكثر ثباتًا وتفهمًا.اثنان ينظران نارا تشتعل في مبني.. فيقيم احدهما ضجة بسبب هذا الحريق.. أما الآخر ففي ايجابية يبذل كل الجهد في إطفاء النار اثنان يمران بشاطئ البحر.. وإذا بشخص في خطر يكاد يشرف علي الغرق.. فيظل احدهما يوبخه: كيف ينزل إلي البحر وهو لا يجيد السباحة؟! أما الآخر فينزل بسرعة لكي ينقذ ذلك الإنسان من الغرق.. وفي كل ذلك يبدو الفرق بين المنشغل بالسلبيات وبين العمل الايجابي البناء غالبية الناس يركزون جهدهم الإصلاحي في أن يلعنوا الفساد.. و هذا أمر سهل يقدر عليه كل احد. ولكن من بين كل هؤلاء من يهتم بشرح الأسلوب العملي الايجابي للقضاء علي الفساد. سهل جدًا أن توبخ فكرة خاطئة. ولكن الأصلح ايجابيًا أن تقدم الفكرة الصائبة، وتشرح أسلوب تنفيذها أتذكر وأنا شاب صغير أنه كان لي زميل في الدراسة يسرف في التدخين.. فأخذت أنصحه كثيرًا، وأحدثه عن مضار التدخين الذي فيه يفقد صحته وإرادته وماله.. وإذا بهذا الزميل يقول لي 'لا تتعب نفسك كثيرًا في الشرح.. فأنا بالخبرة أعرف أضرار التدخين أكثر منك ولكن المشكلة هي كيف يمكنني أن أتخلص عمليا من هذه العادة؟!نعم، إن الحديث عن الأخطاء سهل. أما العمل علي علاج تلك الأخطاء، فهو العمل الايجابي البناء.. والكلام الموجع ليس هو الذي يصلح الأخطاء.. إنما تصلحها الخطة الايجابية العملية الممكنة التنفيذ.كذلك هناك فرق بين شرح الخطأ للوقاية منه، وبين الحديث عن الأخطاء للتشهير بالمخطئين بأسلوب لا يصلحهم بل يثيرهم.هناك فرق جوهري بين الفأس التي تقلب الأرض لزراعتها، و الفأس التي تضرب في البناء لتهدمه..!
ما أسهل الإدانة والشجب بإمكان كل شخص أن يدين وأن يشجب.. أما المساهمة الإيجابية في الإصلاح، فهي العمل النافع.. النقد سهل.. وقد يكون النقض أيضًا سهلًا إن كاتبا بسيطا يمكنه أن ينقد قصيدة لشاعر مشهور.. ولكن هذا الناقد ربما لا يستطيع أن يكتب بيتًا واحدًا من الشعر!
وكثيرون من الذين يستهزئون بعمل غيرهم، هم أنفسهم لا يعملون!
قد يدعي القدرة علي العوم أولئك الذين يقفون علي الشاطئ..فإن نزلوا إلي البحر وسط أمواجه حينئذ يختبر ادعاؤهم. إن السلبيات قد تهدم.. أما الايجابيات فهي التي تبني.. والهدم عمل سهل.. أما البناء فيحتاج إلي مهارة ووقت.. يستطيع شخص بقنبلة أن يهدم في لحظات عمارة شاهقة.. ولكن بناء أية عمارة يحتاج إلي هندسة وفن ومدي زمني.. وهذا البناء عمل انفع وابقي.وكما أن نقد الأخطاء لا يصححها، ولا التشهير بها يصلحها.. كذلك الحزن علي المشاكل لا يحلها.. بل يحلها العمل الايجابي.إن الحزن علي المريض لا يشفيه من مرضه.. إنما يكون الشفاء عن طريق وصف العلاج وتقديم الدواء.والحزن بسبب انتشار الجهل أو الأمية لا يفيد شيئًا، بل النافع هو نشر التعليم ومحو الأمية.ويوسف الصديق لم يحزن من فرعون علي سنوات الجوع القادمة. إنما قدم الحل الايجابي وهو تخزين القمح ليكون تموينا لسد احتياجات تلك السنوات. وكان هذا هو النافع عمليا.والمعروف أن كثيرين قد بكوا وحزنوا بسبب تجريف بعض الأراضي الزراعية واستخدامها في إقامة المباني. ولكن الحزن لم يحل تلك المشكلة.. إنما كان حلها بالعمل الايجابي الفعال، الذي تمثل في مشروع تعمير الصحاري واستصلاح الأراضي وحفر الآبار، وما نتج عنه من إضافة مئات الآلاف من الأفدنة إلي الرقعة الزراعية في بلادنا، مع ما صاحب ذلك من أعمال التنمية.كذلك إن كنا ذاهبين إلي مكان ما، ووجدنا قناة أو مجري من الماء يعوقنا عن الوصول: هل الحزن في هذه الحالة ينفعنا؟! أم أن الذي ينفعنا هو إقامة جسر نصل به إلي المكان الذي نريده؟هذا هو العمل الايجابي الذي يلزمنا في كل أمور حياتنا، أكثر من الضجيج والنقد والشجب والسخرية.والذين سجلت أسماؤهم في التاريخ، هم الذين انشغلوا بالعمل الايجابي البناء ، قد نجحوا فيه.ولعل أولهم في تاريخ مصر هو الملك مينا الذي وحد القطرين وانشأ أول مملكة مصرية في عهد الفراعنة.ونحن نذكر بالخير كل الذين ساهموا في العمل البناء في تاريخ مصر الحديث. ومن بينهم طلعت حرب الذي ساهم في بناء اقتصاد مصر، وأسس البنوك والشركات. وسعد زغلول الذي جاهد حتى صدر دستور سنة 1923 وقاسم أمين الذي جاهد لتحرير المرأة.. وأحمد لطفي السيد الذي عمل لإنشاء الجامعة، وغيرهم من البنائين المهرة.إن العمل الايجابي هو دائما العمل المفيد، وهو المقبول من الجميع، ولا يعترض عليه احد.هناك مؤرخون كتبوا التاريخ.. ولكن أعظم منهم من صنع التاريخ.. صناع التاريخ لا يمكن نسيانهم، سواء في مجال السياسة أو العلم.. قد يكتب المؤرخون عن استقلال الهند بعد خضوعها فترة للاحتلال البريطاني.. أما صانع هذا التاريخ فهو المهاتما غاندي الزعيم الروحي للهند، الذي لم يقم إطلاقًا بإيذاء احد. إنما بالعمل الايجابي البناء، أوصل الهند إلي الاستقلال، وصارت لها حكومة وطنية وبرلمان.كذلك لا يستطيع التاريخ أن ينسي برايل، الذي استطاع أن يخترع طريقة الكتابة علي البارز، للمكفوفين يستطيعون بها القراءة والكتابة.. وأيضًا كل الذين قاموا بعمل ايجابي بناء في مجال الطب والدواء لا يمكن أن ينساهم التاريخ.ونحن نري في مجتمعنا بعض مشاكل لا يمكن أن يحلها الصياح ولا الضجيج ولا التشهير.. إنما تحتاج إلي عمل ايجابي بناء هناك مشاكل اقتصادية. مشاكل تختص بالبطالة وبارتفاع الأسعار. كذلك مشكلة التضخم السكاني، ومشكلة الدروس الخصوصية ومشكلة الإثارة ومشكلة الجمع بين الانضباط والحريات ومشاكل أخرى اجتماعية وسياسية وفكرية كيف يمكن حلها جميعًا بطريقة عملية وحضارية في نفس الوقت؟بحيث نتعاون جميعا في الحل، بغير صراع واصطدام إن مشكلة البطالة مثلًا: لا يمكن أن تحلها مهاجمة المسئولين في الحكومات المتتابعة. فكيف تحل؟لو كنت أنت أيها القارئ رئيسًا للدولة أو رئيسًا للحكومة، فماذا كنت ستفعل عمليا؟ ماذا تقترح للحل؟علي أن يكون الحل يمكن تنفيذه، ومضمونة نتائجه عمليًا وعلميًا.. هل نطرح السؤال، ونتلقى الإجابات ونصنفها ونحللها؟هل نقيم ندوات لبحث موضوع البطالة من ندوات أخرى لبحث باقي المشكلات؟ نعم، ما الحل الايجابي العملي البناء؟
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
06 أبريل 2021
الجهاد الروحي
يبدأ الإنسان في الجهاد الروحي من أول ما يعي للحياة والإدراك، ويستمر إلى آخر نفس في حياته.. ومن أهم عناصر الجهاد الروحي:
أولًا: أن يحيا الإنسان حياة التوبة
فالتوبة هي:
التحرر من عبودية الخطية والشيطان.
ترك الخطية ولكن تكون من أجل الله.
يقظة روحية مستمرة.. فالتوبة هي انتقال من الموت إلى الحياة.
تغيير شامل لحياة الإنسان.
ثانيًا: السعي نحو نقاوة القلب والفكر
* التوبة كأية فضيلة ينمو فيها الإنسان ويتدرج.. ويظل ينمو حتى يصل إلى كمالها.. وهي نقاوة القلب والفكر.. "يا ابني أعطِني قَلبَكَ، ولتُلاحِظْ عَيناكَ طُرُقي" (أم23: 26) مهم أن نترك الخطية.. ليس بالفعل فقط بل بالقلب والفكر.جهادنا ضد خطايا القلب والفكر أكبر أضعافًا من جهادنا ضد خطايا الجسد.. "الإنسانُ الصّالِحُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الصّالِحِ يُخرِجُ الصَّلاحَ، والإنسانُ الشريرُ مِنْ كنزِ قَلبِهِ الشريرِ يُخرِجُ الشَّرَّ. فإنَّهُ مِنْ فضلَةِ القَلبِ يتكلَّمُ فمُهُ" (لو6: 45).نسعى نحو التخلص من كل خطايا الفكر لكي يكون لنا "فكر المسيح"،ونعطي القلب له.. "وأمّا نَحنُ فلَنا فِكرُ المَسيحِ" (1كو2: 16)
ثالثًا: احترزوا.... (مت6: 1-18)
(1) أنْ تصنَعوا صَدَقَتَكُمْ قُدّامَ الناسِ:
الجهاد في اكتساب فضيلة العطاء.. العطاء الخفي.
الأضرار: العطاء الظاهر.. أخذنا أجرة من الناس.. "فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُصَوّتْ قُدّامَكَ بالبوقِ، كما يَفعَلُ المُراؤونَ في المجامعِ وفي الأزِقَّةِ، لكَيْ يُمَجَّدوا مِنَ الناسِ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَنَعتَ صَدَقَةً فلا تُعَرّفْ شِمالكَ ما تفعَلُ يَمينُكَ، لكَيْ تكونَ صَدَقَتُكَ في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ هو يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 2-4).
التدريب الروحي على الصدقة في الخفاء.. كيف.. لماذا.. فائدتها.
حاول أن تفكر معي في تنفيذ ذلك.
(2) الصلاة في الخفاء:
"ومَتَى صَلَّيتَ فلا تكُنْ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُحِبّونَ أنْ يُصَلّوا قائمينَ في المجامعِ وفي زَوايا الشَّوارِعِ، لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ! وأمّا أنتَ فمَتَى صَلَّيتَ فادخُلْ إلَى مِخدَعِكَ وأغلِقْ بابَكَ (الحواس)، وصَلِّ إلَى أبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً. وحينَما تُصَلّونَ لا تُكَرّروا الكلامَ باطِلًا كالأُمَمِ، فإنَّهُمْ يَظُنّونَ أنَّهُ بكَثرَةِ كلامِهِمْ يُستَجابُ لهُمْ. فلا تتَشَبَّهوا بهِمْ. لأنَّ أباكُمْ يَعلَمُ ما تحتاجونَ إليهِ قَبلَ أنْ تسألوهُ" (مت6: 5-8).الصلاة في الخفاء.. غلق باب الحواس. الاهتمام بالصلاة المستمرة.. وخاصة صلاة القلب.عدم السعي وراء المُراءاة في الصلاة.. بهدف المدح من الآخرين.
(3) الصوم في الخفاء:
"ومَتَى صُمتُمْ فلا تكونوا عابِسينَ كالمُرائينَ، فإنَّهُمْ يُغَيّرونَ وُجوهَهُمْ لكَيْ يَظهَروا للنّاسِ صائمينَ. الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنهُم قد استَوْفَوْا أجرَهُمْ. وأمّا أنتَ فمَتَى صُمتَ فادهُنْ رأسَكَ واغسِلْ وجهَكَ، لكَيْ لا تظهَرَ للنّاسِ صائمًا، بل لأبيكَ الذي في الخَفاءِ. فأبوكَ الذي يَرَى في الخَفاءِ يُجازيكَ عَلانيَةً" (مت6: 16-18).الصوم في الخفاء، وعدم افتعال أي مواقف تلفت انتباه الآخرين إلى صومي (التصويت بالبوق).
رابعًا: لا تكنزوا.. (مت6: 19-21)
عدم الاهتمام بالأموال (الكنوز).. وهذا هو التحذير الثاني. الجهاد ضد القنية وحب المال.. "مَحَبَّةَ المالِ أصلٌ لكُل الشُّرورِ" (1تي6: 10) "لا يَقدِرُ أحَدٌ أنْ يَخدِمَ سيّدَينِ، لأنَّهُ إمّا أنْ يُبغِضَ الواحِدَ ويُحِبَّ الآخَرَ، أو يُلازِمَ الواحِدَ ويَحتَقِرَ الآخَرَ. لا تقدِرونَ أنْ تخدِموا اللهَ والمالَ" (مت6: 24).أين أنا من المال؟ ومَنْ الذي يستخدم الآخر؟
المال ومحبته تجلب على الإنسان متاعب كثيرة، وشهوات العالم تجر وراء بعضها.التحذير من المال.. يَنقُبُ السارِقونَ ويَسرِقونَ.المقتنيات الأرضية.. يُفسِدُ السوسٌ والصَدأٌ. "محبة المقتنيات تزعج العقل والزهد فيها يمنحه استنارة" (القديس الأنبا موسى الأسود).
خامسًا: سِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ
نقاوة الحواس.
العين هي التي تحدِّد فكر الإنسان.. فحسب رؤيتها يترتب عليها الفكر.."فإنْ كانَتْ عَينُكَ بَسيطَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ نَيّرًا، وإنْ كانَتْ عَينُكَ شِرّيرَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ مُظلِمًا، فإنْ كانَ النّورُ الذي فيكَ ظَلامًا فالظَّلامُ كمْ يكونُ" (مت6: 22-23).العين هي الجهاز الذي يعلن عن الشخص نفسه.. (عفيف، شهواني، ماكر، غضوب...). حسب رؤية العين تتحدد شخصية الإنسان وحياته الروحية.العين توقع الإنسان في خطايا كثيرة.. (الحسد، الإدانة، النميمة، الشهوة، الأفكار الرديئة...).فسِراجُ الجَسَدِ هو العَينُ.."لكن اطلُبوا أوَّلًا ملكوتَ اللهِ وبرَّهُ، وهذِهِ كُلُّها تُزادُ لكُمْ" (مت6: 33)لإلهنا كل المجد والإكرام من الآن والى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
05 أبريل 2021
المسيحية والنُسك
معني كلمة نُسك:
إن كلمة نُسك في اللغة العربية تأتي من الفعل (نُسك نُسكًا) - أي تعني: (تزهد أو تقشف أو تعبد)، وكلمة نُسك تعني في مفهومها الأوضح: (العبادة)، ومنها لقب الشخص الزاهد أو المتعبد بلقب الناسك.
أما من الناحية الكنسية أو المعنى الكنسي لكلمة نُسك فهي تعبِّر عن كل أنواع إماتات الجسد.. أي الزهد في العالم وملذاته وشهواته الزائلة.. وهذه الكلمة أطلقت على الرهبان الذين تركوا العالم وكل ما فيه من مُغريات، وعاشوا في تجرد وتقشف وزهد وبتولية، وضاعفوا في صلواتهم وأصوامهم.. وذلك بقصد تقديم الجسد ذبيحة حيَّة مرضية للرب يسوع المسيح.
النُسك في المفهوم الكنسي:
يوجد فرق جوهري واضح جدًا بين النُسك في المفهوم المسيحي والتنسُك بالمفهوم الغير كنسي..
فالأول (المفهوم المسيحي): يرتبط بحياة الروح، وهدفه هو إنعاش الروح وانطلاقها لكي تتحرر من رباطات الجسد الأرضية وتتغلب على معوقاتها.
أما الثاني (المفهوم الغير مسيحي): ترتبط ممارسته بفكرة خاطئة عن الجسد باعتبار الجسد شر وهو شيء مُعطل للإنسان، فتنصب ممارسة النُسك على تعذيب الجسد وإذلاله بطريقة خاطئة.وهذا خطأ فادح.. فنحن في فكرنا المسيحي لا ننظر للجسد على أنه شرًا، أو سبب للخطية التي يرتكبها الإنسان، أو هو معطل للإنسان الذي يريد الحياة مع الله.. ولكن الجسد هو وزنة أعطاها الله لنا، ويريد من كل واحد منَّا استثمارها.. فيوجد مَنْ يربح خمس وزنات ويوجد مَنْ يطمر وزنته في التراب "وكأنَّما إنسانٌ مُسافِرٌ دَعا عَبيدَهُ وسلَّمَهُمْ أموالهُ، فأعطَى واحِدًا خَمسَ وزَناتٍ، وآخَرَ وزنَتَينِ، وآخَرَ وزنَةً. كُلَّ واحِدٍ علَى قَدرِ طاقَتِهِ. وسافَرَ للوقتِ. فمَضَى الذي أخَذَ الخَمسَ وزَناتٍ وتاجَرَ بها، فرَبِحَ خَمسَ وزَناتٍ أُخَرَ. وهكذا الذي أخَذَ الوَزنَتَينِ، رَبِحَ أيضًا وزنَتَينِ أُخرَيَينِ. وأمّا الذي أخَذَ الوَزنَةَ فمَضَى وحَفَرَ في الأرضِ وأخفَى فِضَّةَ سيدِهِ. وبَعدَ زَمانٍ طَويلٍ أتى سيدُ أولئكَ العَبيدِ وحاسَبَهُمْ. فجاءَ الذي أخَذَ الخَمسَ وزَناتٍ وقَدَّمَ خَمسَ وزَناتٍ أُخَرَ قائلًا: يا سيدُ، خَمسَ وزَناتٍ سلَّمتَني. هوذا خَمسُ وزَناتٍ أُخَرُ رَبِحتُها فوقَها. فقالَ لهُ سيدُهُ: نِعِمّا أيُّها العَبدُ الصّالِحُ والأمينُ! كُنتَ أمينًا في القَليلِ فأُقيمُكَ علَى الكَثيرِ. اُدخُلْ إلَى فرَحِ سيدِكَ. ثُمَّ جاءَ الذي أخَذَ الوَزنَتَينِ وقالَ: يا سيدُ، وزنَتَينِ سلَّمتَني. هوذا وزنَتانِ أُخرَيانِ رَبِحتُهُما فوقَهُما. قالَ لهُ سيدُهُ: نِعِمّا أيُّها العَبدُ الصّالِحُ الأمينُ! كُنتَ أمينًا في القَليلِ فأُقيمُكَ علَى الكَثيرِ. اُدخُلْ إلَى فرَحِ سيدِكَ. ثُمَّ جاءَ أيضًا الذي أخَذَ الوَزنَةَ الواحِدَةَ وقالَ: يا سيدُ، عَرَفتُ أنَّكَ إنسانٌ قاسٍ، تحصُدُ حَيثُ لم تزرَعْ، وتجمَعُ مِنْ حَيثُ لم تبذُرْ. فخِفتُ ومَضَيتُ وأخفَيتُ وزنَتَكَ في الأرضِ. هوذا الذي لكَ. فأجابَ سيدُهُ وقالَ لهُ: أيُّها العَبدُ الشريرُ والكَسلانُ، عَرَفتَ أني أحصُدُ حَيثُ لم أزرَعْ، وأجمَعُ مِنْ حَيثُ لم أبذُرْ، فكانَ يَنبَغي أنْ تضَعَ فِضَّتي عِندَ الصَّيارِفَةِ، فعِندَ مَجيئي كُنتُ آخُذُ الذي لي مع رِبًا. فخُذوا مِنهُ الوَزنَةَ وأعطوها للذي لهُ العَشرُ وزَناتٍ. لأنَّ كُلَّ مَنْ لهُ يُعطَى فيَزدادُ، ومَنْ ليس لهُ فالذي عِندَهُ يؤخَذُ مِنهُ. والعَبدُ البَطّالُ اطرَحوهُ إلَى الظُّلمَةِ الخارِجيَّةِ، هناكَ يكونُ البُكاءُ وصَريرُ الأسنانِ" (مت25: 14-30).فالهدف الأساسي في كل الممارسات النسكية من (صوم، صلاة، ميطانيات metanoia، سهر....) في المسيحية هو إذلال الجسد (أي إخضاعه لسلطان الروح)، وليس إذلاله بطريقة خاطئة.. أي إهانته وتعذيبه وإهماله حتى يكون معوق لممارسة هذه الممارسات فيضعفه أكثر من اللازم.وعلى سبيل المثال:
إنسانًا يفهم الصوم بطريقة خاطئة، فيفرض على نفسه أصوامًا كثيرة ومتلاحقة بدون تدبير أو تمييز أو إرشاد من أب اعترافه.. فيقع في حصار الصوم، ويعتبر نفسه من الآباء الصوّامين، فيؤدي ذلك إلى ضعف الجسد، ويصل إلى حد الأنيميا الحادة والدوخة والغثيان حتى لا يقدر أن يقف ليصلي أو يضرب الميطانيات أو حضور القداسات أو السهر أو... فيكون حَكَم على نفسه بالإنقطاع عن هذه الممارسات النسكية كلها باقي عمره بسبب سوء فهمه وتصرفه الخاطئ.
إنسانًا آخر يتوسم في نفسه أنه إنسان مُصلي، فيقف يُصلي ساعات طويلة، ويترك على أثر ذلك عمله.. (هذا إذا كان علمانيًا أو راهبًا في الدير)، وبذلك يكون قد ترك جزء من برنامجه أو قانونه اليومي.. فمن أين يأكل ما لم يعمل؟!
ولعل ذلك يذكرني بالقصة المذكورة في بستان الرهبان.. عن أحد الآباء الرهبان الذي توسم في نفسه أنه رجل صلاة، فعندما ذهب لدير آخر دخل قلاية وحبس نفسه فيها للصلاة، ولم يخرج مع أخوته للعمل.. فأخذ يصلي، وحينما جاء ميعاد المائدة للأكل انتظر مَنْ يقرع بابه ليدعوه لتناول الطعام مع باقي الآباء.. وطال انتظاره ولم يذهب إليه أحد.. وأخيرًا خرج من قلايته ذاهبًا للأب مدبر الدير وخاطبه قائلًا: أما أكل الأخوة اليوم يا أبي؟ قال له الرئيس: لقد أكل الأخوة في ميعادهم. فقال له: ولماذا لم يدعوني أحد لتناول الطعام معهم؟ فأجابه الرئيس قائلًا: أنت رجل صلاة، ولا تحتاج إلى طعام.. فطعامك هو العمل الروحي والغذاء الروحي، ولا تحتاج إلى الطعام الجسدي الذي نعمل من أجله لأن "مَنْ لا يعمل لا يأكل"!! فشعر هذا الراهب بخطأه، وضرب ميطانية metanoia للأب المدبر قائلًا له: أخطأت ومنذ اليوم سوف أعمل مع أخوتي وأصلي باقي الوقت.. وانصرف عنه.
إنسانًا آخر يسئ فهم الميطانيات وفوائدها، فيكثر منها بإرادته وتدبيره الشخصي، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى.. فيضع لنفسه عددًا لا يحصى مع أن إمكانياته الجسدية لا تساعده على ذلك فيؤدي به إلى أمراض في العظام، وخشونة في الركب، وانزلاق غضروفي في العمود الفقري، ويصبح طريح الفراش يحتاج إلى عمليات جراحية كثيرة.. وبسبب ملازمته للفراش وتقرير الأطباء الذي يحذره بلهجة شديدة بعدم الحركة يفقد حرارته الروحية وصلواته وأصوامه.. ويكون قد أساء إلى جسده الذي هو وزنة مؤتمن عليها.فلنلاحظ أنه إذا ضعف الجسد ومرض.. لا يستطيع الإنسان أن يؤدي واجباته الروحية على الوجه الأمثل.. فالنُسك يحتاج إلى إفراز وتدبير من أب الاعتراف وليس حسب هوى كل إنسان.فلنتحلى بفضيلة الإفراز فهي أهم الفضائل. ولإلهنا كل المجد والإكرام من الآن وإلى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
04 أبريل 2021
أحد السامرية الأحد الرابع من الصوم الكبير عزة الإنجيل
ارتباط قراءات الفصول:
"عزة الإنجيل"
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "عزة الإنجيل" أي العزة التي يمنحها الإنجيل لمن يعملون بأوامره ، فإنجيل العشية يتكلم عن ميراث المخلص للذين يطلبون إنجيله كما وعدهم بذلك إن طلبوا ملكوت الله ، وإنجيل باكر عن انتخابه لهم كما صرح بقوله إن المدعوين كثيرون ولكن المختارين قليلون ، وإنجيل القداس عن عزة إنجيله معهم كما وعد بأن الذي يشرب من الماء الذي يعطيه هو فلن يعطش إلى الأبد ، وإنجيل المساء عن رحمته بهم إذ يرشدهم إلى أن زمان شريعته والسجود له بالروح والحق قد حضر .ويهيب بهم الرسول في البولس أن يتسلحوا بكلمة الإنجيل كما سماه الرسول "سيف الروح الذي هو كلمة الله"، ويحذرهم يعقوب في الكاثوليكون من خطية عدم العمل به ، ويشير الإبركسيس إلى قوة المبشرين به في دفاعهم عن أنفسهم كما فعل بولس .
البولس من أفسس 6: 10-24
أَخِيرًا يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوْا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ.الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ.فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.مِنْ أَجْلِ ذلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا.فَاثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ،وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ.حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ.وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ.مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ،وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ،الَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ.وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ أَيْضًا أَحْوَالِي، مَاذَا أَفْعَلُ، يُعَرِّفُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ تِيخِيكُسُ الأَخُ الْحَبِيبُ وَالْخَادِمُ الأَمِينُ فِي الرَّبِّ، الَّذِي أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ لِهذَا بِعَيْنِهِ، لِكَيْ تَعْلَمُوا أَحْوَالَنَا، وَلِكَيْ يُعَزِّيَ قُلُوبَكُمْ.سَلاَمٌ عَلَى الإِخْوَةِ، وَمَحَبَّةٌ بِإِيمَانٍ مِنَ اللهِ الآبِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. آمِينَ.
3. الجهاد الروحي
إذ رفع من شأن الكنيسة فأعلن بإتحادها بالسيد المسيح، بكونها جسده، وأوضح أنها حياة غالبة، لها سماتها الفائقة التي تتجلى في حياة أولادها سواء في حياتهم التعبدية أو علاقاتهم الزوجية أو الأسرية أو خلال العمل اليومي، فقد دفع السيد المسيح ثمن هذه الحياة: حياته المبذولة حبًا من أجلنا! هذا ما أكده الرسول بولس خلال هذه الرسالة بوضوح وقوة. والآن قبل أن يختم رسالته أراد إبراز دورنا الإيجابي إذ نتعرض لهجوم عنيف لا من البشر وإنما من إبليس، لأن قيام الكنيسة كمملكة للمسيح فيه تحطيم لمملكة الظلمة وانهيار لكيانها؛ لذا جاء الحديث صريحًا عن مقاومة عدو الخير لنا والتزامنا بالتسلح روحيًا ضد الظلمة حتى نمارس حياتنا الكنسية النامية.يقول الرسول"أَخِيرًا يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ.الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ.فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ،بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ،عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ" [١٠-١٢].
ويلاحظ في هذا النص الأتي:
أولًا: إذ عرف كل مؤمن موقعه في الكنيسة، سواء كان كاهنًا أو من الشعب، سواء كان زوجًا أو زوجة أو ابنًا أو والدًا أو والدةً، سواء كان عبدًا أو سيدًا. لكل عضو تمايزه ومواهبه، ولكلٍ وصيته الخاصة به التي تناسب موقعه، لكن هنا وصية عامة يلتزم بها جميع الإخوة كأعضاء في جسد الرب، ألا وهي "تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ" [١٠]. الكل إخوة، بكونهم أعضاء في الجسد الواحد، وإن حمل الكهنة نوعًا من الأبوة الروحية لأبنائهم في الرب كما يحمل الآباء حسب الجسد أو بالتبني لأولادهم. فإن الكل يحمل نوعًا من الأخوة. خلال هذه الأخوة العامة يشترك الجميع في حربٍ واحدةٍ ضد عدوٍ مشتركٍ يحاول تحطيم الكل. "أَخِيرًا تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ" [١٠] ... إذ يوشك المقال على الانتهاء كعادته يتجه إلى هذا (الحديث عن الجهاد الروحي).انظروا، إذ ينتزع (فوارق) الأعمال المتنوعة، يسلحهم ويقودهم إلى الحرب (الروحية). فإنه إذ لا يقتحم أحد وظيفة غيره، إنما يبقى في موقعه، يكون الكل قد تدبّر حسنًا."تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ"]١٠[، بمعنى "في الرجاء" الذي لنا في الرب خلال عونه لنا... ضعوا رجاءكم في الرب، فيصير كل شيء سهلًا."الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ"]١١[. لم يقل ضد المحاربات، ولا ضد العداوات، وإنما ضد "المكايد". فإن هذا العدو لا يحاربنا ببساطة علانية وإنما خلال المكايد. ماذا يعني بالمكايد؟ أي بالخداع... إبليس لا يقترح علينا الخطايا في ألوانها الطبيعية... إنما يعطيها ثيابًا أخرى، مستخدمًا المكائد الآن، بهذه الطريقة يثير الرسول الجنود (الروحيين) ويحثهم على السهر ويثقفهم، موضحًا لهم أن جهادنا (الروحي) يمثل أحد الحروب الماهرة، فنحن نقاتل ضد عدوٍ ليس بسيطًا ولا مباشرًا وإنما نقاتل عدوًا مخادعًا.في البداية أثار الرسول التلاميذ ليضعوا في اعتبارهم مهارة إبليس، بعد ذلك تحدث عن طبيعته وعن عدد قواته. لم يفعل ذلك ليحطّم نفسية الجنود الذين تحته وإنما لكي يحمسهم ويوقظهم ويظهر لهم مناوراته، مهيئًا إياهم للسهر، فلو أنه عدّد بالتفصيل قوة العدو ثم توقف عن الحديث لتحطمت نفسيتهم... لكنه قبل أن يعرض ذلك وبعد العرض أيضًا أظهر إمكانية النصرة على عدو كهذا، مثيرًا فيهم روح الشجاعة. وبقدر ما أوضح قوة أعدائنا بالأكثر ألهب غيرة جنودنا (للجهاد الروحي)."فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ"]١٢[.إذ تحدث عن الأعداء أنهم شرسون أضاف أنهم يسلبوننا البركات العظيمة، ما هذا؟ الصراع يقوم "في السماويات"،فهو ليس صراعًا من أجل الغنى أو المجد وإنما لاستعبادنا. لهذا فإنه لا مجال للمصالحة هنا في هذا الصراع... الصراع يكون أكثر شراسة كلما كان موضوعه هام، فإن كلمة "في السماويات" تعني "من أجل السماويات". الأعداء لا يقتنون شيئًا بالغلبة علينا إنما يجردوننا... (عدو الخير) يبذل كل الجهد ليطردنا من السماء (القديس يوحنا الذهبي الفم).
ثانيًا: يشرح القديس يوحنا الذهبي الفم تعبير "وُلاَةِ الْعَالَمِ" [١٢] قائلًا: [دعاهم "وُلاَةِ الْعَالَمِ" ليس لأن لهم سلطانًا على العالم، وإنما لأن الكتاب المقدس اعتاد دعوة الممارسات الشريرة ب "العالم". فكمثال يقول المسيح: "ليسوا من العالم كما إني أنا لست من العالم" (يو ١٧: ١٦). ماذا؟ ألم يكونوا من العالم؟ ألم يلتحفوا جسدًا؟ ألم يكونوا بين الذين هم في العالم؟ مرة أخرى يقول: "لا يقدر العالم أن يبغضكم ولكنه يبغضني" (يو٧: ٧)... هكذا يقصد الرسول هنا بالعالم الناس الأشرار، إذ تحمل الأرواح الشريرة سلطانًا خاصًا عليهم.]هنا يوضح الرسول بولس أن حربنا ليست ضد إنسانٍ، إنما نحمل العداوة ضد إبليس العدو العام ضد كل البشرية. وكما يقول القديس أغسطينوس: [مصارعتنا ليس ضد البشر الذين نراهم يغضبون علينا، إذ هم ليسوا إلاَّ أوانٍ يستخدمها غيرهم، هم أدوات في يدّ الآخرين.]
ثالثًا: إن كان الأعداء الحقيقيون غير منظورين، لكننا ننال الغلبة عليهم خلال جهادٍ ملموسٍ أو كما يقول القديس أغسطينوس أن القديسين يربحون النصرة على الأعداء غير المنظورين خلال الأمور المحسوسة.
رابعًا: واضح من حديث الرسول أن الحرب ليست فقط شرسة ولكن إذ طرفها إبليس الذي لا ينام، فإنها مستمرة ودائمة ضد كل المؤمنين المجاهدين. لذا يقول القديس چيروم: [هل يظن أحد أننا في أمان، وأنه من الصواب أن ننام لمجرد نوالنا العماد؟.]
خامسًا: قدم لنا الرسول بولس عدة حربية روحية يتسلح بها المؤمن بالكامل لينال الغلبة والنصرة، قائلًا:"مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ،لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ،وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا" [١٣].هذه العدّة في حقيقتها روحية، وكما يقول القديس أمبروسيوس: [يلزمنا ألاَّ نفكر في أسلحة الجسد بل تلك التي هي قديرة أمام الله.]مركز السلاح أو جوهره هو تجلي السيد المسيح نفسه في داخلنا، هو الذي غلب عدو الخير ويبقى غالبًا له خلالنا... السيد المسيح نفسه هو سلاحنا وغلبتنا ونصرتنا على إبليس وجنوده.
يوجد سلاح لخلاصنا مادام يوجد المسيح (القديس أمبروسيوس).
عدة أسلحتنا هي المسيح (القديس أغسطينوس).لسنا نجهل أن الأرواح جميعها ليست في نفس الشراسة والنشاط، ولا في نفس الشجاعة والخبث، فالمبتدئون والضعفاء من البشر تهاجمهم الأرواح الضعيفة، فإذا ما انهزمت تلك الأرواح تأتي من هي أقوى منها لتهاجم جنود المسيح.ويصعب على الإنسان بقوته أن يقاوم، لأنه لا يقدر أحد من القديسين أن توازي طاقته خُبث هؤلاء الأعداء الأقوياء الكثيرين، أو يصد هجماتهم أو يحتمل قسوتهم ووحشيتهم، ما لم يرحمه المصارع معنا ورئيس الصراع نفسه الرب يسوع، فيرد قوة المحاربين، ويصد الهجوم المتزايد، ويجعل مع التجربة المنْفَذ قدر ما نستطيع أن نحتمل (١كو ١٠: ١٣) (الأب سيرينوس).
سادسًا: إذ سألنا الرسول أن نقاوم في اليوم الشرير، أي في لحظات التجربة المرة، يليق بنا أن نتمم جهادنا المستمر حتى يتحقق ثباتنا، وتُعلن نصرتنا الكاملة، إذ يقول: "وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا" مع كل تجربة يصبها العدو لتحطيمنا نجاهد، فننمو ويتحقق بالأكثر ثباتنا، وهكذا يبقى العدو يحارب، ونبقى نحن نجاهد بالرب، فتنهار مملكة إبليس ويثبت ملكوت الله فينا. تسقط الأرواح في الحزن، وإذ تريد هلاكنا تهلك هي بواسطتنا بنفس التهلكة التي يرغبوها لنا. ولكن لا تعني هزيمتهم أنهم يتركوننا بغير رجعةإذ تهلك قواهم ويفشلون في صراعهم معنا، نقول: "فليخزَ وليخجل الذين يطلبون نفسي لإهلاكها، ليرتد إلى الوراء ويخز المسرورين بأذيتي" (مز ١٤: ٤). وأيضًا يقول إرميا: "ليخز طارديّ ولا أخزى أنا، ليرتعبوا هم ولا أرتعب أنا، أجلب عليهم يوم الشر واسحقهم سحقًا مضاعفًا" (إر ١٧: ١٨)، إذ لا يقدر أحد أن يشك في أنه متى انتصرنا عليهم يهلكون هلاكًا مضاعفًا (الأب سيرينوس) أنا أعلم يا إخوتي أن تلك الجراحات التي نتقبلها من أجل المسيح ليست مدمرة للحياة بل بالحري معينة للحياة (القديس أمبروسيوس)." لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا"] يقصد باليوم الشرير الحياة الحاضرة، إذ يدعوها أيضًا: "العالم الحاضر الشرير" (غلا ١: ٤)، وذلك بسبب الشر الذي يُرتكب فيها يقول "تتموا كل شيء" أي تقاوموا كل الأهواء والشهوات الدنسة وكل ما يقلقنا. هنا لا يتحدث عن مجرد ممارسة الأعمال وإنما إتمامها، بمعنى أننا بعد ما نُقتل (بالخطايا) نثبت. فإن كثيرين يسقطون بعد نوالهم النصرة... أما نحن فيلزمنا أن نثبت بعد النصرة. فقد يضُرب عدو لكنه يقوم ثانية إن لم نثبت إن قام الأعداء (الروحيون) ثانية فإنهم يعودوا فيسقطون إن كنا ثابتين.
ما دمنا لا نتزعزع لا يقوم العدو من جديد.
"الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ"؛ ألا تراه كيف ينزع كل خوف؟ فإن كان ممكنًا بعد إتمام كل شيء أن نثبت، فإن وصفه لقوة العدو لا يخلق جُبنًا وخوفًا بل ينتزع كل استرخاء.يقول: "لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ"، مقدمًا لهم تشجيعًا من الزمن بكونه مقصرًا (إذ يدعوه يومًا واحدًا)، فالأمر يحتاج إلى ثبات دون وهن إذ تحدث غلبة (القديس يوحنا الذهبي الفم).
سابعًا: إذ أعلن الرسول عن المعركة الروحية الحقيقية وأبرز من هو العدو وما هي قدراته الفكرية المخادعة وإمكانياته كما ألهب قلبنا بالشوق للنصرة والثبات فيها خلال عبورنا هذه الحياة الحاضرة كيومٍ واحدٍ قصيرٍ، الآن يصّور لنا العدة الروحية التي تكسو كل كياننا فتحفظنا من ضربات العدو.
هذه العدة الروحية هي:
أ. "فَاثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ" [١٤].
يبدأ حديثه عن هذه العدة الروحية بكلمة "اثبتوا"، والثبات هو في ذاته جزء أساسي وحيوي حتى أثناء الجهاد في الأمور الزمنية، إذ يمثل عدة داخلية يلتزم أن يتسلح بها كل إنسان مجاهد في حياته؛ بدون هذا الثبات يسقط الإنسان في اليأس وينهار أمام أية صعوبة ولا يحقق غايته.يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على كلمة "اثبتوا" بالقول [أول ملامح التحركات الحربية (الروحية) أن تعرف كيف تثبت، فإن أمورًا كثيرة تتوقف على هذا. لذلك كثيرًا ما تحدث عن الثبات، فيقول في موضع آخر:
"اسهروا، اثبتوا" (١ كو ١٦: ٣)...
"اثبتوا هكذا في الرب" (في ٤: ١)...
"من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط" (١كو ١٠: ١٢)...
"بعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا" (أف ٦: ١٣).بلا شك لا يقصد مجرد الثبات بأية كيفية، وإنما في الطريق السليم، ذلك كما أن كثيرين لهم خبرات في الحروب يعرفون في المركز الرئيسي كيف يثبتوا. فإن كان في حالة الملاكمين والمصارعين يطلب المدرب من اللاعبين الثبات قبل كل شيء، فكم بالأكثر في حالات الحروب والأمور العسكرية؟!
الإنسان الذي يثبت بمعنى الكلمة يكون مستقيمًا، فلا يقف متراخيًا، ولا يتكئ على شيء.الاستقامة التامة تعلن عن ذاتها بالثبات، فإن المستقيمين بالكمال يثبتون أما الذين لا يثبتون فلا يمكن أن يكونوا على حق ولا منظّمين بل "مشوشين".الإنسان المترف لا يثبت باستقامة بل يكون منحنيًا، وهكذا الشهواني ومحب المال.من يعرف كيف يثبت، بثبوته ذاته كما من ينبوع خاص به يجعل كل جهاده سهلًا بالنسبة له.]أما قوله: "مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ" فيحمل بلا شك مفهومًا رمزيًا. فالجندي الروماني كان يشد وسطه بمنطقة جلدية على حقويه، مُثبت عليها صفائح فولاذية أو حديدية. هذه المنطقة يشدها الجندي كأول استعداد له للدخول في المعركة، فهي من جهة تعطي شيئًا من الصلابة لظهره، كما تساعده على سرعة الحركة فلا تعوقه ملابسه، وأيضًا كانت تحمي بعض أجزاء جسمه. ويرى كثير من الآباء أن الحقوين يشيران إلى الشهوة الجسدية، وشّدهما بالمنطقة يشير إلى ضبط الشهوة أو إلى العفة.ما الذي يسندنا في عفتنا سوى رفض الباطل وقبول "الحق" الذي هي السيد المسيح، مصدر نقاوتنا وعفتنا، لذا يقول الرسول: "مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ". المسيح الحق هو ضابط أجسادنا ومقدسها لتعمل مجاهدة لحساب الملكوت عوض انشغالها بالباطل.يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [إن حصنا أنفسنا بذلك، إن منطقنا أحقاءنا بالحق، لا يقدر أحد أن يغلبنا. من يطلب تعليم الحق لن يسقط على الأرض.]
ب. "وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ".
إن كان السيد المسيح المصلوب هو الحق الذي نتمنطق به فنحارب شهوات الجسد ونغلب عوض الفلسفات الباطلة التي قد تشغل الذهن لكنها تعجز عن تقديم الحياة العفيفة في الرب، هكذا هو أيضًا "برّنا" الذي نلبسه كدرع يحمينا من ضربات السيف وطعنات الرماح والسهام القاتلة.كان الدرع العسكري الروماني يمتد من العنق إلى الركبة، من زرد أو حراشيف معدنية متصلة تحمي المحارب من ضربات العدو.كما أن الدرع لا يمكن اختراقه هكذا البرّ، هنا يقصد بالبرّ حياة الفضيلة الجامعة. فمثل هذه الحياة لا يقدر أحد أن يغلبها، حقًا قد يجرحه أحد لكن لا يقدر أحد أن يخترقه ولا حتى الشيطان نفسه.كأنه يقول ليثبت البرّ في الصدر، ويقول المسيح: "طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ فإنهم يشعبون" (مت ٥: ٦). هكذا يكون ثابتًا وقويًا كما بدرع (القديس يوحنا الذهبي الفم).
ج. "وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ".هكذا يتسلح المؤمن بأسلحة روحية تمس كل كيانه حتى قدميه، وكما يقول الشهيد كبريانوس: [لنتسلح أيها الإخوة المحبوبون بكل قوتنا، ونستعد للمعركة بذهن غير فاسد وإيمان مستقيم، وشجاعة جادة. ليذهب معسكر الله إلى أرض المعركة المعدة لنا... ليته حتى الساقطين أيضًا يتسلحون، لعلهم يعودون فيربحوا ما قد خسروه....]إن كانت المنطقة تؤهل الجندي للحركة بلا عائق وسط الميدان فإن الحذاء ضروري لسرعة الجري في الحروب القديمة وأيضًا للوقاية من الزلق ولتسلق الجبال حيث كانت النعال العسكرية تحمل مسامير بارزة الكرات للوقاية.لن نستطيع السير بسرعة وسط المعركة التي يثيرها العدو ما لم يكن إنجيل السلام حافظًا لأقدامنا الروحية، لنتحرك حسب مشيئة الله وإنجيله.بينما يثير العدو الحرب ضدنا نحتذي نحن بإنجيل السلام، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [لقد أظهر لنا أن الصراع ضد الأرواح الشريرة يستلزم إنجيل السلام... فإن حربنا ضدهم تنهي حربًا أخرى، أي تهني الحرب التي بيننا وبين الله. حين نكون في حربٍ ضد إبليس نكون في سلام مع الله. لذلك لا تخف أيها الحبيب، إنه "إنجيل" أي أخبار مفرحة، تهب نصرة.]
د. "حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ" [١٦].
إذ كان العدو لا يكف عن تصويب سهام ليست معدنية، وإنما نارية ملتهبة تقتل النفس، فإن الإيمان هو الترس الذي يحطم هذه السهام ويطفيء لهيبها. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كما أن الترس يُوضع أمام الجسد كله بكونه نوعًا من الحاجز، هكذا أيضًا بالنسبة للإيمان حيث يخضع كل شيء له... فإن هذا الترس لا يقدر أن يقاومه شيء. اسمع ما يقوله المسيح لتلاميذه: "الحق أقول لكم لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقل من هنا إلى هناك فينتقل" (مت ١٧: ٢٠)... يُقصد أيضًا بسهام الشرير الملتهبة التجارب والرغبات الفاسدة، أما كونها "ملتهبة" فهي سمة هذه الرغبات. فإن كان الإيمان يسيطر على الأرواح الشريرة فبالأولى يستطيع أن يسيطر على شهوات النفس.]
ه."وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ" [١٧].
إن كانت الخوذة هي الواقية للرأس، فإن انشغالنا بالخلاص، ورجاءنا في التحرر من العقوبات الآتية والتمتع بالميراث السماوي الأبدي هو الخوذة الروحية التي تحمي رأسنا أي إيماننا بالسيد المسيح الرأس.أما سيف الروح الذي نمسك به لنحارب فهو كلمة الله، به نضرب في داخلنا فنعزل بقوة بين ما هو لله وما هو خارج الله، به نبتر في داخلنا كل فساد ونلقي به خارجًا، كلمة الله كالسيف يجرح لكنه يشفي!
يرى الأب بينوفيوس أن هذا السيف، كلمة الله، يجب أن يسفك الدم، دم خطايانا التي نعيش فيها، لأنه بدون سفك دم لا تحصل مغفرة (عب ٩: ٢٢)، وقد جاء في إرميا "ملعون من يمنع سيفه عن الدم" (إر ٤٨: ١٠)، وكأن المؤمن لا يكف عن أن يقتل بالوصية كل خطية تكمن في قلبه أو فكره أو أحاسيسه حتى يتقدس بالكامل في الرب.يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: أننا بهذا السيف الروحي نقتل رأس الحية.
و. "مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهَذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ" [١٨].
يختم حديثه عن أسلحة محاربتنا الروحية بالصلاة، لا لأنها تحتل المكانة الأخيرة وإنما لكي تثبت في الذهن. فإن الأسلحة السابقة كلها هي في حقيقتها عطية إلهية لا نستطيع أن ننعم بها بدون الصلاة. وكأنه يختم الحديث بفتح الباب الذي به ننال الأسلحة المقاومة لإبليس وكل مكايده.إن كان حديث الله معنا (كلمة الله) هو السيف الروحي الذي به نحطم كل شر يهاجمنا في الداخل، فإن حديثنا معه (الصلاة) هو سندنا لنوال العون الإلهي خلال جهادنا المستمر.[عن صديقه الناسك بونسيوس]إنه لا يبالي (بمحاربات الشيطان)، ولا يخف، إذ هو متسلح بأسلحة الرسول من رأسه إلى قدميه. يصغي إلى الله إذ يقرأ الكتاب المقدس، ويتحدث مع الله إذ يصلي إلى الرب... في اختصار سيحاربه الشيطان، لكن المسيح يدافع عنه. بالصوم الصارم مع السهر (في الصلاة) تُطفي نيران سهام إبليس (القديس چيروم).
ز. الجهاد الروحي الجماعي:
ختم الرسول بولس حديثه الخاص بالجهاد ضد إبليس بالكشف عن جانب إنجيلي كنسي هام، وهو إن كان العدو يحارب كل عضو على إنفراد، إنما يعمل العدو بكل جنوده، أي تعمل الأرواح الشريرة معًا ضد مملكة المسيح. فبالأولى جدًا في جهادنا نحن ألاَّ نحارب إبليس منفردين، وإنما كجماعة مقدسة. حقًا هي حرب داخلية تمس علاقتنا الشخصية بالله لكن خلال إتحادنا معًا، لذا يؤكد الرسول السهر الدائم والطلبة المستمرة من أجل جميع القديسين، فالكل يطلب معًا بروحٍ واحدٍ، فيشعر إنه في جهاده ليس بمعزلٍ عن إخوته.لنطلب صلوات الآخرين حتى يسندنا الله، ولنصلِ نحن من أجل إخوتنا علامة شركتنا معهم وحبنا لهم ووحدتنا في الروح.أُفرز الرسول بولس من البطن لخدمة الكرازة، والذي دعاه الرب علانية وهو في الطريق إلى دمشق، والذي نال مواهب كثيرة، يشعر بحاجة شديدة لصلوات الشعب من أجله ليسنده الرب ليس فقط في جهاده الروحي وإنما في كرازته بالإنجيل، إذ يقول: "وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لأُعْلِمَ جِهَارًا بِسِرِّ الإِنْجِيلِ، الَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ" [١٩-٢٠].إن كانت قيوده تشفع فيه لدى الله كسفير أمين احتمل الآلام من أجل الإنجيل لكنه كان في عوز إلى شفاعات كل الكنيسة عنه ليتمم رسالته بلا عائق. لهذا اعتادت الكنيسة أن تصلي من أجل البطريرك والأسقف والكهنة والشمامسة وكل الخدام، ويصلي البابا البطريرك وكل الخدام من أجل الشعب. حقًا نحتاج في جهادنا إلى صلوات مشتركة!في تعليق القديس يوحنا الذهبي الفم على هذه العبارات الرسولية، يقول: [الصلاة قادرة على تحقيق عظائم.]
4. الخاتمة والبركة الرسولية
ختم الرسول بولس هذه الرسالة بالآتي:
أولًا: أعلن لهم أنه يبعث إليهم تيخيكس، لا حاملًا الرسالة فحسب، وإنما كشاهدٍ عيان يطمئنهم على حاله وهو في السجن كيف يستخدمه الله للكرازة وبنيان الملكوت فتتعزى قلوبهم. هذا وبإرساله تيخيكس الخادم الأمين في الرب يسمعون كلمة الله منه لبنيانهم، إذ يقول: "وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ أَيْضًا أَحْوَالِي، مَاذَا أَفْعَلُ، يُعَرِّفُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ تِيخِيكُسُ الأَخُ الْحَبِيبُ وَالْخَادِمُ الأَمِينُ فِي الرَّبِّ، الَّذِي أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ لِهَذَا بِعَيْنِهِ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَحْوَالَنَا، وَلِكَيْ يُعَزِّيَ قُلُوبَكُمْ" [٢١-٢٢].
ثانيًا: يختم بالبركة الرسولية: "سَلاَمٌ عَلَى الإِخْوَةِ، وَمَحَبَّةٌ بِإِيمَانٍ مِنَ اللهِ الآبِ، وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. آمِينَ" [٢٣-٢٤].إذ كتب الرسالة عن الكنيسة التي هي حقيقتها وجوهرها "سلام مع الله والإخوة، ومحبة صادرة عن الله والرب يسوع، ونعمة مقدمة لنا"، لذا جاءت البركة متناغمة مع جوهر الرسالة.ابتهل من أجلهم يسأل لهم "السلام والمحبة بإيمان". نطق حسنًا، إذ لم يرد لهم أن ينظروا إلى المحبة بذاتها بل ممتزجة بما هو من الإيمان.إن وُجد سلام وُجدت محبة، وإن وُجدت محبة يوجد سلام أيضًا."بإيمان"، إذ بدونه لا تبلغ المحبة شيئًا، بل ولا يكون لها وجود بالكلية..."فِي عَدَمِ فَسَادٍ"... أما يعني "في طهارة" أو "من أجل الأمور غير الفاسدة"، أي ليس من أجل الغنى والمجد والكنوز التي تفسد. "خلال عدم الفساد"، أي "خلال الفضيلة"، لأن كل خطية هي فساد (القديس يوحنا الذهبي الفم).هذه صورة مبسطة للملامح الرئيسية لهذه الرسالة الحية التي تعلن عضويتها في جسد السيد المسيح، وتمتعنا بشركة حياته وسماته، في كل عملي خفي وظاهر، حتى في جهادنا ضد قوات الظلمة، من أجل بلوغنا الميراث الذي لا يفنى ولا يضمحل.
إنجيل القداس من يوحنا 4: 1-42:
فَلَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ أَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ سَمِعُوا أَنَّ يَسُوعَ يُصَيِّرُ وَيُعَمِّدُ تَلاَمِيذَ أَكْثَرَ مِنْ يُوحَنَّا،مَعَ أَنَّ يَسُوعَ نَفْسَهُ لَمْ يَكُنْ يُعَمِّدُ بَلْ تَلاَمِيذُهُ،تَرَكَ الْيَهُودِيَّةَ وَمَضَى أَيْضًا إِلَى الْجَلِيلِ.وَكَانَ لاَ بُدَّ لَهُ أَنْ يَجْتَازَ السَّامِرَةَ.فَأَتَى إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ السَّامِرَةِ يُقَالُ لَهَا سُوخَارُ، بِقُرْبِ الضَّيْعَةِ الَّتِي وَهَبَهَا يَعْقُوبُ لِيُوسُفَ ابْنِهِ.وَكَانَتْ هُنَاكَ بِئْرُ يَعْقُوبَ. فَإِذْ كَانَ يَسُوعُ قَدْ تَعِبَ مِنَ السَّفَرِ، جَلَسَ هكَذَا عَلَى الْبِئْرِ، وَكَانَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ.فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ لِتَسْتَقِيَ مَاءً، فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ»لأَنَّ تَلاَمِيذَهُ كَانُوا قَدْ مَضَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَبْتَاعُوا طَعَامًا.فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السَّامِرِيَّةُ: «كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟» لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ.أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: «لَوْ كُنْتِ تَعْلَمِينَ عَطِيَّةَ اللهِ، وَمَنْ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَكِ أَعْطِينِي لأَشْرَبَ، لَطَلَبْتِ أَنْتِ مِنْهُ فَأَعْطَاكِ مَاءً حَيًّا».قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ، لاَ دَلْوَ لَكَ وَالْبِئْرُ عَمِيقَةٌ. فَمِنْ أَيْنَ لَكَ الْمَاءُ الْحَيُّ؟أَلَعَلَّكَ أَعْظَمُ مِنْ أَبِينَا يَعْقُوبَ، الَّذِي أَعْطَانَا الْبِئْرَ، وَشَرِبَ مِنْهَا هُوَ وَبَنُوهُ وَمَوَاشِيهِ؟أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهاَ: «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا.وَلكِنْ مَنْ يَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أُعْطِيهِ أَنَا فَلَنْ يَعْطَشَ إِلَى الأَبَدِ، بَلِ الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ».قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ أَعْطِنِي هذَا الْمَاءَ، لِكَيْ لاَ أَعْطَشَ وَلاَ آتِيَ إِلَى هُنَا لأَسْتَقِيَ».قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «اذْهَبِي وَادْعِي زَوْجَكِ وَتَعَالَيْ إِلَى ههُنَاجَابَتِ الْمَرْأَةُ وَقَالتْ: «لَيْسَ لِي زَوْجٌ». قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «حَسَنًا قُلْتِ: لَيْسَ لِي زَوْجٌ،لأَنَّهُ كَانَ لَكِ خَمْسَةُ أَزْوَاجٍ، وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ. هذَا قُلْتِ بِالصِّدْقِ».قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ!آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ».قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ.أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ . لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ.وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا».قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ».قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ».وَعِنْدَ ذلِكَ جَاءَ تَلاَمِيذُهُ، وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ امْرَأَةٍ. وَلكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: «مَاذَا تَطْلُبُ؟» أَوْ «لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا؟»فَتَرَكَتِ الْمَرْأَةُ جَرَّتَهَا وَمَضَتْ إِلَى الْمَدِينَةِ وَقَالَتْ لِلنَّاسِ«هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟».فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَتَوْا إِلَيْهِ.وَفِي أَثْنَاءِ ذلِكَ سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، كُلْ»فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا لِي طَعَامٌ لآكُلَ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ أَنْتُمْ»فَقَالَ التَّلاَمِيذُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «أَلَعَلَّ أَحَدًا أَتَاهُ بِشَيْءٍ لِيَأْكُلَ؟»قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ.أَمَا تَقُولُونَ: إِنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمَّ يَأْتِي الْحَصَادُ؟ هَا أَنَا أَقُولُ لَكُمُ: ارْفَعُوا أَعْيُنَكُمْ وَانْظُرُوا الْحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ابْيَضَّتْ لِلْحَصَادِ.وَالْحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَةً وَيَجْمَعُ ثَمَرًا لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، لِكَيْ يَفْرَحَ الزَّارِعُ وَالْحَاصِدُ مَعًا.لأَنَّهُ فِي هذَا يَصْدُقُ الْقَوْلُ: إِنَّ وَاحِدًا يَزْرَعُ وَآخَرَ يَحْصُدُ.أَنَا أَرْسَلْتُكُمْ لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ. آخَرُونَ تَعِبُوا وَأَنْتُمْ قَدْ دَخَلْتُمْ عَلَى تَعَبِهِمْ».فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: «قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ»فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ السَّامِرِيُّونَ سَأَلُوهُ أَنْ يَمْكُثَ عِنْدَهُمْ، فَمَكَثَ هُنَاكَ يَوْمَيْنِ فَآمَنَ بِهِ أَكْثَرُ جِدًّا بِسَبَبِ كَلاَمِهِ.وَقَالُوا لِلْمَرْأَةِ: «إِنَّنَا لَسْنَا بَعْدُ بِسَبَبِ كَلاَمِكِ نُؤْمِنُ، لأَنَّنَا نَحْنُ قَدْ سَمِعْنَا وَنَعْلَمُ أَنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَسِيحُ مُخَلِّصُ الْعَالَمِ».
في الطريق عبر السيد المسيح على السامرة، والتقى عند البئر بامرأة سامرية تزوجت قبلا بخمسة رجال والذي معها ليس برجلها. دخل معها السيد في حوار بالرغم من العداء بين اليهود والسامريين، فاجتذبها إلى خلاصها، بل وجعلها كارزة بالخلاص. اجتذبها فتمتعت بالمعرفة، وأدركت أنه المسيا الذي يخبرنا بكل شيء. وبعد دقائق تركت جرتها لتجتذب المدينة بأسرها ويؤمن كثيرون بالسيد المسيح. حقًا من يلتقي برابح النفوس العجيب يشاركه سماته، فيصير هو أيضًا رابحًا للنفوس خلال هذا اللقاء يحثنا السيد المسيح على العبادة الجديدة، حيث قدم لها ولأهل مدينتها ماءً حيًا يفيض في داخلهم. لقد أعلن السيد أنه عوض بئر يعقوب يقدم المياه التي من يشرب منها لا يعطش إلى الأبد، إذ تهب حياة جديدة أبدية. وأن الساعة قد أتت لتتحقق العبادة على مستوى أعظم من جبل جرزيم أو الهيكل، حيث يسجد العابدون للآب بالروح والحق[23]. وأن له طعام جديد وهو أن يفعل مشيئة الذي أرسله..
مجيئه إلى السامرة
"وكان لا بد له أن يجتاز السامرة". [4]
أبرز السيد اهتمامه بالسامرة والسامريين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فمدح الأبرص السامري غريب الجنس، الذي وحده دون التسعة اليهود البرص عاد ليشكر السيد على تطهيره له (لو 17: 15-18). كما قدم لنا مثل السامري الصالح الذي تحرك قلبه بالحب العملي ليهتم بجريح يهودي أكثر من الكاهن اليهودي واللاوي (لو 10: 33-36). وأخيرا قبل صعوده وضع علي عنق الرسل الالتزام بالخدمة في السامرة: "تكونون لي شهودًا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض" (أع 1: 18).
"وكانت هناك بئر يعقوب،فإذ كان يسوع قد تعب من السفر،جلس هكذا على البئر،وكان نحو الساعة السادسة". [6]
نحو الساعة السادسة، أي الظهيرة، تعب السيد المسيح بسبب السير في وسط حر الظهيرة. كإنسان حقيقي خضع للضعف الجسدي فتعب. في تواضع كان يمارس رحلاته مشيًا على قدميه، ولم يكن لديه مركبة ولا دابة يمتطيها. وإذ كان جسده رقيقًا لم يحتمل السير حتى الظهيرة بينما لم يجد التلاميذ صعوبة أن يدخلوا المدينة ليشتروا طعامًا. ليس عجيبًا أن نسمع عن السيد أنه تعب وعطش في وقت الظهيرة، وهناك تركه تلاميذه، فإن هذا المنظر يحمل صورة للسيد المسيح علي جبل الجلجثة حيث استراح علي الصليب في وقت الظهيرة وقد حمل أتعابنا وأعلن عطشه لكل نفس بشرية. هناك أيضًا تركه تلاميذه هاربين، ليجتاز المعصرة وحده.إنه يسأل أن يشرب ذاك الذي في طريقه أن يعطي. لكنه يشرب لا من ماء جدول يفيض، بل يشرب خلاصك. إنه يشرب من تصرفاتك الصالحة، يشرب الكأس أي الآلام التي يكفر بها عن خطاياك، حتى إذ تشرب من دمه المقدس تروي عطش هذا العالم.هكذا تمتع إبراهيم باللَّه بعد أن حفر بئرًا (تك30:21). واسحق تقبّل زوجته وهو سائر بجوار البئر (تك62:24)، التي كانت قادمة إليه كرمزٍ للكنيسة... رفقة وجدت من يبحث عنها عند البئر..
"فجاءت امرأة من السامرة لتستقي ماء،فقال لها يسوع:أعطيني لأشرب". [7]
مجيء المرأة عند الظهيرة بعد أن حمل الرجال والنساء مياههم إلى منازلهم يكشف عن موقف الشعب منها؛ إذ لم تكن لها الجرأة أن تواجه أحدًا، فجاءت في وسط الحرّ لتستقي ماء من البئر بمفردها. مسيحنا هو إله المرذولين والمطرودين، يخرج منهم أبناء الملكوت وكارزين بالحق.هذا اللقاء يذكرنا برفقة وراحيل وابنة يثرون كيف تزوجن خلال اللقاء عند البئر بزيجات مباركة بإسحق ويعقوب وموسى. هكذا وجدت السامرية عريس نفسها عند بئر يعقوب. ونحن نجد مسيحنا عريسًا لنا عند جرن المعمودية.بدأ السيد المسيح حواره معها بطلب متواضع: أن يشرب ماءً. ذاك الذي من أجلنا افتقر، الآن من أجلنا صار شحاذًا لكوب ماء، ليس لاحتياج شخصي، وإنما ليكشف لها عن احتياجها هي إليه،فتشرب وترتوي من ينابيع نعمته الغنية.بينما مضى التلاميذ إلى المدينة ليشتروا طعامًا استغل السيد هذه الفرصة ليدخل في حوارٍ مع المرأة السامرية، ويسحبها هي وأهل المدينة لخلاصهم. هذا هو طعامه الحقيقي أن يتمم مشيئة الآب، وهي خلاص النفوس.
"فقالت له المرأة السامرية:كيف تطلب مني لتشرب وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية؟لأن اليهود لا يعاملون السامريين". [9]"أجاب يسوع وقال لها:لو كنتِ تعلمين عطية الله،ومن هو الذي يقول لك أعطيني لأشرب،لطلبت أنت منه،فأعطاك ماءً حيًا". [10]
سحب السيد المسيح هذه المرأة إلى طريق الخلاص، لا بالهجوم على العبادة في السامرة، بكونها منشقة، وأنها قد شوهت الإيمان والعبادة، وإنما بسحب فكرها من الانشغال بالعداوة القائمة بين الفريقين إلى الدخول إلى أعماق نفسها لتعطش إلى الماء الحي، وتدرك حاجتها إلى المخلص. الآن ليس الوقت للنزاع، بل للجلوس الهادئ مع النفس والتمتع بعطايا الله المجانية. فقد حان وقت افتقاد الله للعالم كله بإرسال المسيّا المخلص. شهوة قلب السيد المسيح أن نعرفه، فنطلبه ونقتنيه، فنرتوي منه أبديًا!
السامرية لم تكن تدرك عطية الله الذي أرسل ابنه الوحيد ليبذل ذاته عن العالم (يو ٣: ١٦)، ولا عطية الروح القدس الذي يفيض في النفس كنهرٍ يرويها ويروي آخرين، ويقدم الروح مواهب روحية لا حصر لها لخلاص العالم. هذه العطايا إلهية مجانية قدمها الله من أجل مبادرته بالحب لنا ونحن بعد أعداء "الماء الحي" هو تعبير شائع لينابيع المياه التي تفيض بلا توقف، يقابله "الماء الميت" الراكد في البرك والمستنقعات ومخازن المياه حيث تتعرض للتلوث. يشير الماء الحي إلى الروح القدس الذي يروي النفس ويحول قفرها إلى فردوسٍ مثمرٍ، ويغسل ما في النفس من دنس.
"أجاب يسوع وقال لها:كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا". [13]"ولكن من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا،فلن يعطش إلى الأبد،بل الماء الذي أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء، ينبع إلى حياة أبدية". [14]
لم يجبها: "نعم، أنا أعظم من يعقوب"، لكنه بلغ هذا الهدف بحديثه معها الماء الذي في البئر هو ملذات العالم في أعماقه المظلمة، من هذا يسحب البشر بأوانيهم التي للشهوة... لتحسبوا الشهوة هي الدلو، واللذة هي الماء الذي من عمق البئر. عندما يحصل شخص على لذة هذا العالم، فإن هذا بالنسبة له طعام وشراب وحمَّام وأبهة وسلاح، فهل يمكنه ألا يعطش مرة أخرى؟[471]في لطفٍ شديد بدأ يكشف لها عن الماء الحي، مقارنًا إياه بماء بئر يعقوب. أوضح أنه لا وجه للمقارنة بين ماء يروي الجسد إلى حين، وماء يسند النفس أبديًا ويرويها، فلا تعتاز إلى شيء..
الماء الذي يقدمه السيد له ميزات خاصة:
هو عطية إلهية "أنا أعطيه"، لذا يهب فرحًا إلهيًا..
يهب حياة أبدية بلا احتياج، "لن يعطش إلى الأبد"..
ماء داخلي في النفس "يصير فيه"لذا يناجيها واهب المياه الحية، قائلا: "أختي العروس جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع مختوم" (نش 4: 12).
يحول الأعماق إلى ينبوع فياض على الغير. "مَنْ آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي" (يو 7: 38).
"قالت له المرأة:يا سيد أعطني هذا الماء لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي". [15]
وهنا نرى كيف أن المرأة صعدت قليلًا إلى التعاليم العلوية؟ لقد ظنت أن هذا الماء أعلى قدرًا من الماء المحسوس أرأيت كيف أن المرأة فضلت المسيح على رئيس الآباء إذ أوضحت رأيها في يعقوب ومقدار عظمته وعرفت الأفضل منه؟
هنا اكتسبت بصيرة أكثر جلاءً. لكنها لم تكن قد أدركت بعد الصورة الكاملة، لأنها قالت: "أعطيني هذا الماء حتى لا أعطش، ولا آتي إلى ههنا لأستقي".
"ولكن تأتي ساعة وهي الآن،حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق،لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له". [23]
عوض الانشغال بمكان العبادة يلزم الانشغال بحال الفكر الداخلي، وهيكل الله داخل النفس، وكيفية تقديم العبادة لله الذي هو روح. فالله الآب يطلب العابدين بقلوبهم، ونادرًا ما يوجدون..
العبادة بالروح تحول القلب إلى صهيون الحقيقية التي يشتهيها الله كقول المرتل: "لأن الرب اختار صهيون، اشتهاها مسكنًا له؛ هذه هي راحتي إلى الأبد؛ ههنا أسكن لأنه اشتهيتها (مز ١٣٢: ١٣-١٤).
"الله روح،والذين يسجدون له، فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا". [24]"قالت له المرأة:أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي،فمتى جاء ذاك،يخبرنا بكل شيء". [25]
أخيرًا جاء الحوار بخصوص المسيا، فإذ لم تعترض السامرية على ما يقوله بل شعرت بقوة في داخلها سألته عما كان يدور في أذهان اليهود والسامريين، وهو: متى يأتي المسيا؟ فمع العداوة القائمة بين اليهود والسامريين إلاَّ أن أمرًا واحدًا كان الكل يترقبه، وربما تحدث كثير من المعلمين عنه في ذلك الوقت، وهو تحقيق الوعد الإلهي الخاص بمجيء المسيا وحلول مملكته.مع ما لحق بها من فساد بسبب خطيتها لكن شوقها لمعرفة الحق وترقبها في تواضع لمجيء المخلص هيأها للالتقاء مع السيد والتعرف عليه والشهادة له.
"قال لها يسوع:أنا الذي أكلمك هو". [26]لم يتحدث السيد المسيح مع اليهود، ولا حتى مع تلاميذه بعبارات مباشرة هكذا: "أنا الذي أكلمك هو".الحصاد قد أُعد، فقد قام الأنبياء بالغرس لينمو، والآن قد جاء إلى النضوج وينتظر الرسل كحاصدين له... فبالنسبة للمرأة السامرية كان اسم "المسيا" ليس بجديدٍ عليها، كانت بالفعل تترقب مجيئه. لقد آمنت بالفعل أنه قادم. من أين كان لها أن تؤمن بهذا لو لم يغرسه موسى؟
كرازة المرأة السامرية الناجحة
"وعند ذلك جاء تلاميذه،وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة،ولكن لم يقلأحد ماذا تطلب؟أو لماذا تتكلم معها؟" [27]
لم يكن في ذهن التلاميذ أن معلمهم الذي كانوا يترقبون ملكوته العظيم على الأرض يتحدث مع امرأة فقيرة سامرية. إنها ليست من قطيع إسرائيل الضال، وفي ذهنهم لا يمكن أن يكون لها دور في ملكوته، فلماذا يتحدث معها؟
هذا ومن جانب آخر فإنه لم يكن من عادة الرجال أن يتحدثوا مع نساء في الطريق، حتى وإن كانت زوجاتهم، وقد وجدت قوانين كثيرة سنها الحاخامات في هذا الشأن.
"فتركت المرأة جرتها،ومضت إلى المدينة،وقالت للناس". [28]"هلموا انظروا إنسانًا قال لي كل ما فعلت،ألعل هذا هو المسيح؟" [29]
إذ تمتعت السامرية بالحق الإلهي تركت جرتها، ونسيت ما جاءت من أجله، وعادت إلى المدينة دون الماء، إنما لتقدم ماء الحق لأهل المدينة. تركت جرتها لأنها لم ترد أن تعوقها الجرة عن الإسراع نحو المدينة لتشهد للحق. أخبرت الجميع في الشوارع أنها وجدت الكنز الذي تبحث عنه، ووجدت ينبوع سرورها الداخلي.سبق أن طلب السيد منها أن تدعو زوجها [16]، وها هي قد دعت كل رجال المدينة ونجحت في مهمتها.لم تخبرهم أنه حاورها في أمور دينية خطيرة خاصة بمكان العبادة وطريقة ممارستها، بل ما لمس قلبها حقًا أنه عرف أسرارها واجتذبها بقوة كلمته إليه، فتعرفت على شخصه، إنه هو المسيا.هنا امرأة أعلنت عن المسيح للسامريين، وفي نهاية الأناجيل أيضًا امرأة رأته قبل كل الآخرين تخبر الرسل عن قيامة المخلص (يو 20: 18).جاءت السامرية لتستقي ماءً، وعندما استنارت وعرفت الينبوع الحقيقي للتو احتقرت الينبوع المادي. وهي في هذه الواقعة البسيطة تعلمنا أن نتجاوز عن أمور الحياة المادية عندما نصغي للروحيات... دون أن يوجه لها أحد أمرًا تركت جرتها، وعلى جناحي الفرح والبهجة أسرعت وصنعت ما فعله الإنجيليون، ولم تدعُ واحدًا أو اثنين، كما فعل أندراوس وفيلبس، إنما دعت مدينة بأكملها، وأتت بهم إلى الرب يسوع.آمنت المرأة السامرية على الفور، وبذلك اتضح أنها أكثر حكمة من نيقوديموس، بل وأكثر شجاعة وثباتًا. لأن نيقوديموس بعد أن سمع قدر ما سمعت المرأة آلاف المرات لم يذهب ويدعو آخرين لسماع هذه الكلمات، ولا تحدث بصراحة على الملأ. لكن هذه المرأة فعلت ما لم يفعله الرسل، إذ قامت بالكرازة للجميع تدعوهم إلى المسيح. بذلك قادت مدينة بأكملها إلى الإيمان بيسوع المسيح.
ونرى السيد المسيح يستكمل حديثه قائلًا:"أما تقولون أنه يكون أربعة أشهر ثم يأتي الحصاد.ها أنا أقول لكم:ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول إنها قد ابيضت للحصاد". [35]
يطلب السيد المسيح الحصاد الذي لن يتحقق بدون العمل الجاد بسرورٍ ومثابرة. فالعملٍ ضرورة حتمية وملحة للتمتع بالحصاد.إنه يرى الحصاد القادم حيث يأتي كثير من السامريين إليه خلال خدمة المرأة السامرية، يؤمنون به ويتأهلون للبس الثياب البيضاء.
"والحاصد يأخذ أجرة،ويجمع ثمرًا للحياة الأبدية،لكي يفرح الزارع والحاصد معًا". [36]
الآن يتقدم السيد المسيح بكونه الزارع الذي غرس الكلمة في قلب السامرية، وفي ساعات قليلة جدًا قام بدور الحاصد، وفرح وتهلل من أجل الثمر حيث آمن به كل أهل المدينة قائلين: "إن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم" [٤٢].
"لأنه في هذا يصدق القول إن واحدًا يزرع،وآخر يحصد"."أنا أرسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه.آخرون تعبوا وأنتم قد دخلتم على تعبهم". فالأنبياء هم الذين زرعوا ولم يحصدوا، وأما الذين حصدوا فهم الرسل. لكن لم يُحرم الذين زرعوا فقط من الفرح بالمكافأة على أتعابهم، إنما تهللوا وابتهجوا بالرغم من أنهم لم يحصدوا."فآمن به من تلك المدينة كثيرون من السامريين،بسبب كلام المرأة التي كانت تشهد أنه قال لي كل ما فعلت". "فلما جاء إليه السامريون،سألوه أن يمكث عندهم،فمكث هناك يومين". لم يرَ أهل سوخار معجزة ما، لكن ما اجتذبهم إلى السيد المسيح هو شخصه وحديثه الإلهي. تمتعوا بكلمة المسيح الواهبة الحياة فلنجتهد أيها الأحباء أن نتمثَّل بالمرأة السامرية لنكرز بالسيد المسيح لكل الناس بأعمالنا الحسنة، ونحيا بـ: "لكي يروا أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السموات" (مت 5: 16).
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
03 أبريل 2021
إنجيل عشية الأحد الرابع من الصوم الكبير
لو22:12-31
وقال لتلاميذه: "من أجل هذا أقول لكم: لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون، ولا للجسد بما تلبسون.الحياة أفضل من الطعام والجسد أفضل من اللباس.تأملوا الغربان: أنها لا نزرع ولا تحصد، وليس لهـا مخدع ولا مخزن، واالله يقيتها. كم أنتم بالحرى أفضل من الطيور! ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعا واحد؟ فإن كنتم لا تقدرون ولا على الأصغر، فلماذا تهتمون بالبواقي؟ تـأملوا الزنـابق
كيف تنمو: لا تتعب ولا تغزل، ولكن أقول لكم: إنه ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها. فإن كان العشب الذي يوجد اليوم في الحقل ويطرح غدا في التنور يلبسه االله هكذا، فكم بالحرى يلبسكم أنـت يـا قليلي الإيمان؟ لا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا، فإن هذه كلها تطلبها أمم العالم. وأما أنتم فأبوكم يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه. بل اطلبوا ملكوت االله، وهذه كلها تزاد لكم .
الطعام الباقي الذي للحياة الأبدية
في إنجيل القداس يتقابل الرب يسوع مع المرأة السامرية بينما يذهب التلاميذ ليبتاعوا طعامـا ولمـا
عادوا إليه وطلبوا قائلين: "يا معلم كل"... فقال لهم "لي طعام آخر لستم تعرفونه... طعامي أن أعمل مشـيئة الذي أرسلني وأتمم عمله"... ويتساءل التلاميذ في براءة "ألعل أحدا قد أتاه بطعام؟، إذ لم يكونوا بعد يـدركون كمال تدبيره الإلهي.لذلك يجيء إنجيل العشية كمقدمة لهذا الحوار وهو يبين قصد المسيح ويكشف عن الاهتمام بالطعـام الباقي الذي للحياة الأبدية. فقول الرب لتلاميذه هنا "لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون"... عنـدما نقرئـه بإنجيـل السامرية يأخذ كما معناه الإلهي.الحياة أفضل من الطعام... يأعن الحياة الأبدية التي لا تستمد وجودها ولا قوتها مـن هـذا الطعـامالبائد.
يوجد طعام آخر... هل ذقته؟
لقد شغل طعام هذا العالم قلب الإنسان وعقله من يوم أن وطأت قدماه أرض الشقاء لكي يفلحها بعرق
الجبين وصار كل سعيه محصورا في الحصول على قوت الجسد وبسبب لعنة الخطية صارت تنبت له شـوكًا وحسكًا يوخز الجسد فيئن مدى الحياة.وقد دعا الرب يسوع هذا الطعام... الطعام البائد... بالمقارنة بالطعام الباقي الذي للحياة الأبدية.وفي التجربة على الجبل عندما قال المجرب للرب، قل لهذه الحجارة أن تصير خبزا، ضاربا سهمه نحو جسد الرب الجائع... فكان أن الرب رد سهمه إليه وأخرج الرب من كنف المقلاع درة من سفر التثنيـة كانت مخزونة لليوم والساعة وهي المكتوب "أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فـم الله". فارتزت في جبين العدو الشرير فسقط صريعا كجليات في القديم.لقد جاء الوقت الذي فيه يقدم المسيح للبشرية الجائعة خبز الحياة الأبدية لكـي يأكلـه الإنسـان ولا يموت... إنه طعام آخر... غير الذي يعرفه الناس. الخبز النازل من السماء لكي يأكله الإنسان ولا يمـوت...ليس هذا الخبز سوى المسيح نفسه... المأكل الحقيقي هو جسده الذي بذله عنا.
المسيح طلب من السامرية أن يشرب وكان وقت الساعة السادسة وقت الصليب الذي كان حاضرا في
المسيح... لأن المسيح غير زمني، فليس عنده مستقبل ولا ماضي بل هو أزلي أبدي حاضر دائما فكان
الصليب ماثلاً في ذلك الساعة السادسة. ووقتها على الصليب أظهر عطشه مرة أخـرى وقـال "أنـا
عطشان" ولما قدموا له خلاً ليشرب لم يرد أن يشرب لأنهم لم يفهموا أن عطش المسيح لا يرويه مـاء
هذا العالم، وجوع المسيح لا يشبعه خبز هذا العالم.قال اللص على الصليب للمسيح "اذكرني" وكانت يد المسيح ممدودة إليه وهو معلق إلى جانبه، وحين صلى اللص يطلب الخلاص ارتاح قلب يسوع وارتوى إذ وجد ثمار دمه المبذول لأجل الخطاة... كان اللـص أول من ارتمى تحت قدمي الصليب ليفيض عليه رشاش الدم الإلهي... هذه كانت أول ثمرة... تشـبع قلـب يسوع وتروي عطشه... يا للسرور الذي كان موضوعا أمامه وهو على الصليب!. وهكذا السامرية لم تعطـه ليشرب من ماء بئر، بل حينما مد يده وأخرجها من عمق بئر الخطايا وظلمـة ماضـيها... ارتـوت نفسـه وارتاحت إلى خليقته الجديدة إذ رأى أنها وهي مفدية بدمه صارت حسنة جدا جدا.تُرى متى يبطل اهتمامنا بالطعام البائد وإن كان هذا كثيرا نقول تُرى متى نهتم بالطعام الآخر ونسعى إليه وما هو مقدار سعينا نحوه؟.
وأين العرق الجديد للخبز الجديد؟ أين أتعابنا وسهرنا وكدنا في طلب خبز الحياة؟.
قال الرب للرسل: "ارفعوا عيونكم... الحقول ابيضت للحصاد". ظاهرا حقول القمح هي خبز الجسد،
ولكن المسيح يتكلم عن الحصاد الكثير. وقلة الفعلة، وينقل الذهن إلى حبات حنطة الحياة الجديدة التـي
تلدها حبة الحنطة التي ماتت وأتت بثمر كثير... كان باكورة هذا الحصاد هي السامرية.لقد حان أوان قطافها... ووقعت في يد المسيح. نفوس كثيرة تحتاج كلمة... نفوس كثيـرة جـاهزة للخلاص.اطلبوا إلى رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده، فالحصاد كثير جدا.إن الوقت والجهد الذي نبذله من أجل خبز الحياة ضئيل جدا جدا إذا ما قورن بما نبذله من أجل لقمة العيش وخبز الجسد .أين ما علمنا إياه الرب في الصلاة أن نطلب خبز الغد (خبز الحياة الأبدية لأننا لا نعرف لنـا غـدا سوى حياتنا في المسيح إلى الأبد). لكي يعطيه لنا اليوم نذوقه ونتمتع به ونتغذى عليه كمن يحيا الحياة الأبدية وهو بعد على الأرض.لا يفهم هذا على أنه تقليل من شأن الجهاد والعمل في العالم بحسب ما أعطى االله، وزنات لكل واحـد إن كان للطالب في جهاده في دراسته أو عامل في عمله أو موظف في وظيفته أو مزارع في زراعـة أو أم في تربية أولادها. وكل هذه أعمال واجبة وممدوحة نؤديها بالأمانة المسيحية في كـل إخـلاص ونجني ثمرها ونشكر االله على عمله معنا وسنده إيانا. لكن الرب ينبه الذهن إلى عدم الهم وعدم القلـق التي تعمل بها هذه الأعمال "لا تهتموا... لا تقلقوا". لأن من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد علـى قامتـه ذراعا واحدة؟ يستحيل فالهم علاوة على أنه لا يغير شيئًا فهو مؤذٍ للنفس "الهم في قلب الرجل يحنـي ظهره" (أمثال). والاهتمام تدبير أما الهم فهو عدم اتكال على االله.والأمر الثاني هو تحويل مركز اهتمامنا من الأرضيات إلى السماويات ومن خبز الجسد وضرورياته إلى خبز الحياة الأبدية والسعي الدائم نحوه. ففيما نحن نمارس أعمالنا اليومية يكون شغل قلبنـا هـو
سماوي.
تدريب:
تدرب على أكل الكلمة الإلهية "وجد كلامك فأكلته" قال الرب لحزقيال حين عرض عليه الكلمة الإلهية مكتوبة في درج كتاب قال له: "كُل مـا تجـده،فأكله فصار في فمه كالعسل حلاوة". تدريب على التلذذ بأكل الكلمة الحية... فتحيا بها كطعام يومي.
تدرب على التناول بوعي روحي وإدراك وحاسة مقدسة ومذاقة روحية... لا تنسى أنك أخذت المسيح
نصيبك وحين تأكله أقضي اليوم كله متأملاً فيه، كيف أعطانا جسده لنأكله... الأمـر الـذي تشـتهي
الملائكة أن تطلع عليه. كرر قول المسيح "لي طعام آخر" مرات كثيرة في اليوم ليدفعك للسعي نحو الحياة الفضلى والشبع بما هو نازل من فوق .
المتنيح القمص لوقا سيداروس
(عن كتاب "تأملات فى أناجيل عشيات الآحاد")
المزيد
02 أبريل 2021
الجمعة الرابعة من الصوم الكبير: الإيمان بالإنجيل
ارتباط فصول القراءات:
الإيمان بالإنجيل
تدور فصول هذا اليوم جميعها حول موضوع واحد هو "الإيمان بالإنجيل"، فالنبوة الأولى تتكلم عن وجوب الإيمان به كما أوصى الرب بنى إسرائيل بحفظ شريعته، والثانية عن بركات الله للمؤمنين به كما وعد بذلك المساكين من بنى إسرائيل، والثالثة عن إهلاكه لمحتقريه كما توعد بذلك الشرير في يوم الدين، والرابعة عن تمجد الله في المؤمنين به كما تمجد في دانيال حين وجد سالما في جب الأسود.
ويتكلم إنجيل باكر عن قوة المؤمنين بالإنجيل في طرد الشياطين من الناس كما انتهر المخلص الشيطان من الرجل في المجمع، وإنجيل القداس عن استجابة الله لصلواتهم كما استجاب المخلص لصراخ المرأة الكنعانية وشفى ابنتها.ويحثهم الرسول في البولس على ضرورة الاعتراف به، ويوصيهم يوحنا في الكاثوليكون بضرورة الثبات فيه، ويهيب بهم الإبركسيس أن ينادوا به بين الأمم.
النبوات (تث 10: 12 – 11: 28)
غنى عطايا الله لهم
لم يقف موسى النبي عند السلبيات مهاجما اتكال الشعب على برهم الذاتي، وإنما سألهم أن يسلكوا بروح إيجابية. كان يليق بهم أن يتأملوا في فيض نعمة الله وغنى عطاياه لهم. فإنه حتى بعد سقوطهم في العبادة الوثنية وتعلقهم بالعجل الذهبي، وتعبدهم له ؛ قبل الرب أن يغفر لهم، ويهبهم عطايا بلا حصر. يذكر منها أربع عطايا: إعادة كتابة لوحي الشريعة، إبقاء الكهنوت اللاوي بعدما ارتكب هرون أول رئيس كهنة خطأ فاحشا، إفراز سبط لاوي لخدمته، قبوله شفاعة موسى عنهم.
الإصحاح الحادي عشر من سفر تثنية
أيامنا كأيام السماء
تحدث في الإصحاح السابق عن بركات الرب وعطاياه، وأوضح ماذا يريد الله من شعبه، غير مشير إلى الذبائح الحيوانية والطقوس بل إلى ضرورة الالتصاق به والاستماع لكلماته، ثم ختمه بعطية الرب الفائقة أنه عوض السبعين نفسًا التي نزلت إلى مصر خرج الشعب كنجوم السماء في الكثرة.وفي هذا الأصحاح يوضح مكافأة الله للأمناء وهي أن تصير أيامهم كأنها أيام السماء على الأرض [21]. هذا ما يدفعنا أن نحب الله ونحفظ وصاياه، نثبتها على قلوبنا ونربطها كعلامة على أيدينا، فنتمتع ببركات الطاعة، أي التمتع بأيام السماء على الأرض، عوض السقوط تحت لعنة العصيان، أي الانحدار إلى أيام الجحيم.إن كان إسرائيل قد اتسم بالعصيان [1 – 7]، فإنه يليق أن يترجم الحب بلغة الطاعة لله الكلى الصلاح والعطاء [8 – 25] ليختبر الحياة السماوية. الآن وهو على أبواب الدخول إلى أرض الموعد يجدون الفرصة للتعبير عن أمانتهم لله وإخلاصهم للعهد معه [26 – 32].
البولس من العبرانيين (عب 13: 7 – 16)
محبة الرعاة:
"اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ، فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ" [٧].لنذكر الآباء الرعاة الذين يختفون وراء كلمة الله، فيشهدون لا بما لهم بل بالكلمة الإلهي المعلن في كرازتهم وفي سلوكهم. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [أي نوع من الإقتداء هو هذا؟ بالحق نتمثل بما هو صالح فيهم. إذ يقول: "انظروا حياتهم، فتمثلوا بإيمانهم". فإن الإيمان إنما يعلن في الحياة النقية.]
الهروب من الهرطقات
"يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ.لاَ تُسَاقُوا بِتَعَالِيمَ مُتَنَّوِعَةٍ وَغَرِيبَةٍ" [٨-٩].إذ أراد أن يوصيهم بعدم الانسياق وراء التعاليم الغريبة المتنوعة أكد لهم أن "يسوع المسيح هو أمس واليوم وإلى الأبد". إنه ابن الله الحيّ الذي لم ولن يتغير، نقبله كما قبله آباؤنا بالأمس، ونسلم الإيمان به للأجيال المقبلة بلا انحراف.إنه رئيس الكهنة السماوي الذي عمل في آبائنا، ولا يزال يعمل لحسابنا، ويبقى عاملًا إلى الأبد حتى يدخل بالكنيسة كلها إلى مجده الأبدي.إذ نتمسك بالسيد المسيح نرفض البدع والهرطقات، لا نطلب جديدًا، إذ مسيحنا لا يشيخ ولا يقدم، بركاته جديدة في حياتنا كل يوم.هنا أيضًا يلمح إلى الهرطقات التي ظهرت في عهده، إذ حملت فكرًا غنوسيًا يحرم الأطعمة لا لأجل النسك الروحي، وإنما كدنسٍ يلزم الامتناع عنها كما يدنسون الزواج. فيقول الرسول: "لأَنَّهُ حَسَنٌ أَنْ يُثَبَّتَ الْقَلْبُ بِالنِّعْمَةِ، لاَ بِأَطْعِمَةٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الَّذِينَ تَعَاطَوْهَا" [٩].حتى في تلميحه يتحدث الرسول بلطف لينزع عنهم النظرة الغنوسية، مقدمًا إليهم نظرة مقدسة إلى كل شيء حتى الطعام.
التألم مع السيد المسيح
انتقل بهم الرسول من عدم الانسياق وراء البدع والهرطقات إلى ضرورة التأمل في آلام السيد المسيح المصلوب، وعوض الانشغال بالأطعمة الزمنية يليق بنا أن نرفع قلوبنا إلى الذبيح السماوي القدوس!
لقد أراد الرسول بالتأمل في الصليب أمرين: نزع المرارة التي لحقت بالعبرانيين الذين آمنوا بالمسيح لأنهم حُرموا من الطقوس اليهودية وطردوا من المحلة، وقبول الآلام مع المصلوب بفرح وسرور. يقول الرسول: "لَنَا مَذْبَحٌ لاَ سُلْطَانَ لِلَّذِينَ يَخْدِمُونَ الْمَسْكَنَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ. فَإِنَّ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي يُدْخَلُ بِدَمِهَا عَنِ الْخَطِيَّةِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِيَدِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ تُحْرَقُ أَجْسَامُهَا خَارِجَ الْمَحَلَّةِ" [١٠-١١].وكأنه يقول إن كان في الطقس اليهودي يحرم على الكهنة الأكل من الحيوانات التي يُدخل بدمها عن الخطية بيد رئيس الكهنة وتحرق أجسامها خارج المحلة، فبالأولى جدًا ألاَّ يقدر كهنة اليهود أن يتمتعوا بذبيحة السيد المسيح الذي صُلب خارج المحلة وارتفع إلى السماوات! حُرموا مما ننعم به، جسد الرب ودمه المبذولين من أجلنا، حرموا من سرّ الإفخارستيا الواهب التقديس! هنا يطمئنهم الرسول أنهم ليسوا هم محرومين بل أصحاب الطقس اليهودي الذين لا يزالوا في الظل والرمز محرومين من أكل الذبائح الحيوانية التي يقدسها رئيس الكهنة عن الخطية ومن الذبيحة الحقيقية التي وهبها السيد لمؤمنيه.هذا العمل الطقسي أيضًا حمل رمزًا أن السيد المسيح يُطرد خارج المحلة ويُصلب خارج أورشليم، حتى نلتزم بالخروج معه وإليه لنحمل عار صليبه، ونشترك معه في آلامه خلال طردنا من أورشليم. "لِذَلِكَ يَسُوعُ أَيْضًا، لِكَيْ يُقَدِّسَ الشَّعْبَ بِدَمِ نَفْسِهِ، تَأَلَّمَ خَارِجَ الْبَابِ. فَلْنَخْرُجْ إِذًا إِلَيْهِ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ حَامِلِينَ عَارَهُ" [١٢-١٣].فإن كان هؤلاء العبرانيون قد طردهم مجلس السنهدرين كمرتدين، لا يخجلوا، فقد سبق أن طُرد مسيحهم قبلهم. إنه لمجد عظيم أن نُطرد معه، ونبقى خارج المحلة عربون خروجنا من هذا العالم وتمتعنا بالمدينة العتيدة؛ "لأَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لَكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ" [١٤]. الطرد من أورشليم الأرضية عربون الدخول إلى أورشليم العليا.وعن ذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لقد صلب خارجًا كمدين، فلا نخجل نحن من طردنا خارجًا.] بخروجه كمذنبٍ صار لنا شرف الطرد خارجًا؛ وإن لم يخرجنا الناس خلال مضايقتهم لنا، نخرج نحن عن محبة الزمنيات، حاملين الصليب في داخلنا، مشتهين المجد السماوي.ويستكمل لسان العطر بولس كلامه فيذكر ضرورة فعل الخير قائلًا "وَلَكِنْ لاَ تَنْسُوا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالتَّوْزِيعَ، لأَنَّهُ بِذَبَائِحَ مِثْلِ هَذِهِ يُسَرُّ اللهُ" [١٦].كأن التسبيح ليس مجرد كلمات تنطق بها الشفاه وإنما هي طبيعة يعيشها المؤمن، يعلنها في قلبه بالمشاعر المملوءة حبًا لله، وبالشفاه خلال كلمات التسبيح، وبالعمل الصالح الروحي.
إنجيل القداس من متى 15: 21 – 31
ثم خرج يسوع من هناك وانصرف الى نواحي صور وصيدا واذا امراة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت اليه قائلة ارحمني يا سيد يا ابن داود ابنتي مجنونة جدا فلم يجبها بكلمة فتقدم تلاميذه وطلبوا اليه قائلين اصرفها لانها تصيح وراءنا فاجاب وقال لم ارسل الا الى خراف بيت اسرائيل الضالة فأتت وسجدت له قائلة يا سيد أعني فأجاب وقال ليس حسنا ان يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب فقالت نعم يا سيد والكلاب أيضًا تاكل من الفتات الذي يسقط من مائدة اربابها حينئذ أجاب يسوع وقال لها يا إمراة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين فشفيت إبنتها من تلك الساعة ثم انتقل يسوع من هناك وجاء الى جانب بحر الجليل وصعد الى الجبل وجلس هناك فجاء اليه جموع كثيرة معهم عرج وعمي وخرس وشل واخرون كثيرون وطرحوهم عند قدمي يسوع فشفاهم حتى تعجب الجموع اذ راوا الخرس يتكلمون والشل يصحون والعرج يمشون والعمي يبصرون ومجدوا إله إسرائيل
لقاء مع الكنعانيّة
إن كان قد تحوّل رجال الكتاب المقدّس -الكتبة والفرّيسيّون- بعمى قلوبهم عن الكلمة الإلهي المتجسّد، فصاروا مقاومين له ومناضلين لمملكته الروحيّة، عِوض أن ينعموا بها ويكرزوا، لهذا يقول الإنجيلي: "ثم خرج يسوع من هناك، وانصرف إلى نواحي صور وصيدا". وكأنه يُعلن تركه للشعب اليهودي الرافض الإيمان ليبحث عن أولاده من بين الأمم. بخروجه ينزع الأغصان الأصيلة بسبب كبريائهم وعدم إيمانهم، لكي يطعم فيه الأغصان البرّيّة لتنعم بثمر روحه القدّوس.بينما انهمك اليهود -في أشخاص قادتهم- في حرفيّة الناموس وشكليّات التقليد بغير روح، صاروا يبحثون عن خطأ يرتكبه المسيّا المخلّص، وإذا بكنيسة الأمم ممثّلة في هذه الكنعانيّة تخرج إليه لتطلب منه احتياجها."وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه؛ قائلة: ارحمني يا ابن داود، ابنتي مجنونة جدًا" [22].لقد حُرمت زمانها كلّه من سماع كلمة الله، ولم تتسلّم الناموس ولا ظهر في وسطها أنبياء بل عاشت حياتها في عبادة الأوثان، لكنها بالسماع عرفت القليل عن المسيّا "ابن داود"، فخرجت من تخومها، كما من كُفرها وعبادتها الوثنيّة، لتلتقي به. رفضه الذين لديهم قوائم الأنساب وبين أيديهم الرموز والنبوّات تحدِّد شخصه، وجاءت إليه غريبة الجنس، لا لتدخل في مناقشات غبيّة ومجادلات، إنّما لتغتصب حبّه الإلهي ومراحمه، لينقذ ابنتها المجنونة جدًا، لقد قبلته مخلّصًا لها، إذ شعرت بالحاجة إليه لأن نفسها كابنة لها مجنونة جدًا، فقدت تعقلها وحكمتها!
حقًا إذ انطلق السيّد إلى نواحي صور وصيدا، إذا بالمرأة تخرج من تخومها، وكأن السيّد وهو محب للبشر ينصرف إليهم، لكنّه لا يلتقي بهم داخل تخوم الأوثان بل خارجها. لقد حقّقت بهذا ما لم يعلنه لها داود النبي: "اسمعي يا ابنتي وانظري وأميلي أذنك، واِنسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك، لأنه هو سيّدك فاُسجدي له" (مز 45: 10-11). لقد تمّمت الوصيّة وخرجت من شعبها، وتركت بيت أبيها تطلب الملك الحقيقي.يقول الإنجيلي: "لم يجبها بكلمة" [23].. لماذا؟
أولًا: عدم إجابته لها في البداية هو إعلان عن عمله الخلاصي، فقد جاء وسط بني إسرائيل وركّز غالبية أعماله وقوّاته على هذا الشعب، الذي تمتّع بالوعود والنبوّات والشرائع، حتى إذا ما رفضه يكون قد امتلأ كأسه، فيرفضه الرب، ليفتح الباب على مصراعيه للأمم. لقد ركّز على هذا الشعب في البداية ليكون الخميرة المقدّسة لتخمير العجين كلّه، خلال الكرازة والتبشير. ونحن لا ننكر أنه وإن رفضه اليهود لكن قلّة منهم كانوا التلاميذ والرسل الذين كرزوا في العالم.
ثانيًا: كان صمت السيّد إلى حين يثير التلاميذ لكي يتقدّموا من أجلها. لقد أراد أن يكشف لهم رسالتهم أن يهتمّوا بالعالم الوثني المتألّم والفاقد وعيه الروحي وخلاصه.
ثالثًا: كان السيّد صامتًا في الخارج، لكن يده غير المنظورة تسند قلبها وإيمانها، وعيناه تترقّبان بفرح تواضعها الفائق. لقد أراد بصمته لا أن يتجاهلها، وإنما بالأحرى يزكّيها أمام الجميع. ولذلك نجد القديس أغسطينوس يقول: [إذا كانت تشغف على الحصول على الرحمة صرخت وبجسارة قرعت، فظهر كأنه لم يسمعها. لم ترفضها الرحمة إلى النهاية، إنّما ما حدث كان لكي يُلهب رغبتها ويُظهر تواضعها. صرخت وكأن المسيح لا يسمعها، مع أنه كان يدبّر الأمر بهدوء.]كما يقول: [كانت دائمة الصراخ، داومت على القرع، وكأنها سبق فسمعت قوله: "اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم" (مت 7: 7).] "فتقدّم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين: اصرفها لأنها تصيح وراءنا.فأجابهم وقال: لم أُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة" [23-24].والتساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف لم يُرسَل إلا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة، وهو القائل لنيقوديموس "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو3: 16)؟ بل وسبق فشهد الأنبياء في العهد القديم عن مجيء المسيّا للعالم كله، اليهود والأمم معًا؟
يجيب القديس أغسطينوس علي هذا التساؤل قائلًا: [إننا نفهم من هذا أنه لاق به أن يُعلن عن حضوره بالجسد وميلاده، وعمل معجزاته وقوّة قيامته وسط هذا الشعب، فإنه هكذا قد دبّر الأمر منذ البداية. ما سبق فبُشِّر به قد تحقّق بمجيء المسيح يسوع لأمّة اليهود كي يُقتل، لكنّه يربح منهم الذين سبق فعرفهم، فإنه لم يدن الشعب كلّه، إنّما فحصهم فوجد بينهم تبنًا كثيرًا، ووجد أيضًا حنطة مختفية. منهم ما هو يُحرق، ومنهم ما يملأ المخازن، فإنه من أين جاء الرسل؟!]كما يقول: [لأنه لم يذهب بنفسه للأمم، بل أرسل تلاميذه، فيتحقّق ما قاله النبي: "شعب لم أعرفه يتعبّد لي" (مز 18: 43). انظر كيف أوضحت النبوّة الأمر كيف تحقّق؟! تحدّثت بوضوح: "شعب لم أعرفه"؛ كيف؟ يكمّل قائلًا: "من سماع الأذن يسمعون لي" (مز 18: 44)، أي يؤمنون لا خلال النظر بل خلال السمع، لهذا نال الأمم مديحًا عظيمًا. فإن (اليهود) رأوه فقتلوه، الأمم سمعوا عنه وآمنوا به.]لقد أكمل السيّد حديثه، قائلًا: "ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب؟" [26]. لماذا نطق هكذا؟ هل كان يحتقر الأمم فيدعوهم كلابًا؟! بلا شك لا يحتقر السيّد خليقته، ولكنه ربّما قال هذا مردِّدًا ما كان يردِّده اليهود لكي يمجِّد من ظنَّهم اليهود كلابًا، معلنًا كيف صاروا أعظم إيمانًا من البنين أنفسهم. هذا ومن ناحية أخرى، فإن الأمم بإنكارهم الإيمان بالله، وصنعهم الشرور الكثيرة حتى أجاز الكثيرون أطفالهم في النار، وقدّموا بنيهم ذبائح للأصنام، فعلوا ما لا تفعله الكائنات غير العاقلة. إنه لا يقصد تمييز اليهود عن الأمم، إنّما يكشف عن فعل الخطيئة فينا، كما كشف عن أعماق قلب المرأة الكنعانيّة التي سبقت بتواضعها العجيب أبناء الملكوت. فقد قالت: "نعم يا سيّد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها" [27].
وهنا يقول القديس أغسطينوس: [أنها لم تثُرْ ولا غضبت، لأجل دعوتها ككلبٍ عندما طلبت البركة وسألت الرحمة، بل قالت: "نعم يا سيّد". لقد دعوتني كلبًا، وبالحق أنا هكذا، فإنّني أعرف لقبي! إنك تنطق بالحق، لكن ينبغي ألا أُحرم من البركة بسبب هذا.. فإن الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الساقط من مائدة أربابها. ما أرغبه هو البركة بقدر معتدل، فإنّني لا أزحم المائدة، إنّما أبحث فقط عن الفتات. انظروا أيها الإخوة عظمة التواضع الذي أمامنا!.. إذ عرفت نفسها، قال الرب في الحال: "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن كما تريدين" [28]. لقد قلتِ عن نفسكِ إنكِ "كلبًا"، لكنّني أعرفك إنكِ "إنسان".. لقد سألتي وطلبتي وقرعتي، فيُعطَى لك وتجدين ويُفتح لك. انظروا أيها الإخوة كيف صارت هذه المرأة الكنعانيّة مثالًا أو رمزًا للكنيسة؟! لقد قدّمت أمامنا عطيّة التواضع بدرجة فائقة!] ما حُرم منه اليهود أصحاب الوعود بسبب كبريائهم نالته الأمم المحرومة من المعرفة خلال التواضع. الذين ظنّوا في أنفسهم أبناء، حُرموا أنفسهم من مائدة الملكوت خلال جحودهم، والذين كانوا في شرّهم ودنسهم كالكلاب، صاروا بالحق أبناء يدخلون وليمة أبيهم السماوي.لقد حقّقت هذه المرأة الخارجة من تخوم صور ما سبق فأعلنه النبي عنها: "بنت صور أغنى الشعوب تترضَّى وجهك بهديّة" (مز 45: 12). أيّة هدية تقدّمها بيت صور هذه إلا إعلان إيمانها الفائق خلال صمت السيّد، وتظاهره بعدم العطاء في البداية. لقد وهبها الفرصة لتقديم أعظم هديّة يشتهيها الرب، إذ يقول "يا امرأة عظيم إيمانك، ليكن لكِ كما تريدين" [28]. لقد فتحت بهذه الهديّة كنوز السيّد، لتنال كل ما تريد، بينما أغلق قادة اليهود أبواب مراحم الله أمام أنفسهم. قبل هديّتها القلبيّة الفائقة، وردّ لها الهديّة بما هو أعظم، إذ مدَحها أمام الجميع، فاتحًا أبواب محبّته أمامها، مقيمًا إيّاها رمزًا لكنيسة الأمم التي اغتصبت الرب نفسه بالإيمان.
انجذاب البسطاء إليه
مرة أخرى يصعد السيّد إلى الجبل ليجلس هناك، فتجتمع الجماهير البسيطة، تحمل إليه العرج والعمي والخرس إلخ.، يطرحونهم عند قدميه فيشفيهم. إن كان القادة بريائهم الذي أعمى قلوبهم فلم يعاينوا شمس البرّ، فإن الغرباء (الأمم) في شخص المرأة الكنعانيّة التقوا به خلال الشعور بالاحتياج إليه، وهكذا أيضًا بسطاء اليهود أدركوا في بساطة قلوبهم في يسوع المسيح ملكهم المخلّص، الأمر الذي حُرم منه القادة.فليعطنا الرب إيمان المرأة الكنعانية لكي نسمع من فمه الطاهر عظيم هو إيمانك ولإلهنا المجد الدائم إلى الأبد أمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
01 أبريل 2021
ما بين الروح والجسد
الكثير منَّا يكون اهتمامه الأول وشغله الشاغل هو (الجسد)، وكل متطلباته واحتياجاته.. يغذي الجسد ويربيه، ويهتم به، ويهتم بالحالة الصحية، والمظهر العام... وغيره.وفي وسط المشغولية ننسي الروح تبدأ المعادلة العكسية في الوضوح الجسد يقوى ويقوى.. والروح تضعف وتضعف.الجسد يزدهر والروح تذبل.الجسد يكون صحيحًا.. والروح تصبح مريضة ويصبح كل اهتمامنا بالجسد وتُهمَل الروح نهائيًا.في حين أننا نجد مُعلِّمنا بولس الرسول يتكلم كلامًا صريحًا عن الروح والجسد فيقول"فإنَّكُمْ إنَّما دُعيتُمْ للحُريَّةِ أيُّها الإخوَةُ. غَيرَ أنَّهُ لا تُصَيروا الحُريَّةَ فُرصَةً للجَسَدِ، بل بالمَحَبَّةِ اخدِموا بَعضُكُمْ بَعضًا" (غل5: 13). ثم يقول أيضًا: "وإنَّما أقولُ: اسلُكوا بالرّوحِ فلا تُكَملوا شَهوةَ الجَسَدِ. لأنَّ الجَسَدَ يَشتَهي ضِدَّ الرّوحِ والرّوحُ ضِدَّ الجَسَدِ، وهذانِ يُقاوِمُ أحَدُهُما الآخَرَ، حتَّى تفعَلونَ ما لا تُريدونَ" (غل5: 16-17).دائمًا الجسد يشتهي ضد الروح.. خذوا مثلًا:
الصوم
حينما يأتي علينا وقت الصوم.. نجد الجسد يشتكي باستمرار.. وإذا كنَّا لم نستطيع أن نلّجمه من قبل.. يشتكي ويعترض على الصوم.. ويبدأ الجسد بأعراض الضعف والهزل وعدم التركيز!! وذلك لأنه لا يريد أن يصوم.. لا يريد أي ممارسات روحية.. يهمه الأكل الكثير.. فهو في صراع مع الروح.. يريد أن يقوى على الروح لأنه إذا قويت الروح فسوف تقوده وهو لا يريد ذلك نجد الإنسان يعترض على الصوم ويقول إن أصوامنا كثيرة جدًا.. هذه الأصوام سوف تضعف جسدنا.. سوف لا يقدر على تأدية رسالته.. أنا محتاج أن يكون جسدي قوي لكي أستطيع أن أحيا وأتحرك وأمارس كل متطلبات الحياة.هذه هي النظرة البشرية العادية التي تشفق على الجسد!!
ولكن الإنسان الذي يسلك حسب الروح لا يهمه الجسد.. هذا الجسد هو صورة لكي نعيش بها فترة على الأرض، وهذه الفترة يكون هدفنا هو نمو الروح، لكي نصل للعِشرة مع الله، ونعمل أعمال تزكيتنا للملكوت.. وليس أن يصبح بالنسبة لنا معطل أساسي للروح وللحياة الروحية كلها.إذا اهتممنا بالجسد بطريقة زائدة عن المطلوب.. فسوف تضعف الروح، ونصبح أناسًا جسدانيين لا روح لهم.. فمُعلِّمنا بولس الرسول تيقظ لهذه النقطة وقال"أقمَعُ جَسَدي وأستَعبِدُهُ، حتَّى بَعدَ ما كرَزتُ للآخَرينَ لا أصيرُ أنا نَفسي مَرفوضًا" (1كو9: 27).وعاد وقال لنا أيضًا في رسالة غلاطية "وأعمالُ الجَسَدِ ظاهِرَةٌ، التي هي: زِنىً، عَهارَةٌ، نَجاسَةٌ، دَعارَةٌ، عِبادَةُ الأوثانِ، سِحرٌ، عَداوَةٌ، خِصامٌ، غَيرَةٌ، سخَطٌ، تحَزُّبٌ، شِقاقٌ، بدعَةٌ، حَسَدٌ، قَتلٌ، سُكرٌ، بَطَرٌ، وأمثالُ هذِهِ التي أسبِقُ فأقولُ لكُمْ عنها كما سبَقتُ فقُلتُ أيضًا: إنَّ الذينَ يَفعَلونَ مِثلَ هذِهِ لا يَرِثونَ ملكوتَ اللهِ" (غل5: 19-21).نلاحظ أن مُعلِّمنا بولس الرسول ذكر لنا ستة عشر عمل (خطية) من أعمال الجسد وقال: "وأمثال هذه".. أي أن أعمال مسيئة للجسد أخرى يعملها الجسد.من منَّا مستيقظ لهذه الخطايا؟
وهل كل منَّا يحرص أن تكون روحه هي التي تقود جسده أم العكس؟
إذا كان العكس.. فسوف نجني ثمرة مُرّة.. وهي أعمال الجسد هذه التي سوف تبعدنا عن الله وعن العِشرة معه لأنه (لا يجتمع النور مع الظلمة) إن تقييمنا للروح هو الذي يُحدد طريقنا في الحياة.. "لأنَّ الجَسَدَ يَشتَهي ضِدَّ الرّوحِ والرّوحُ ضِدَّ الجَسَدِ، وهذانِ يُقاوِمُ أحَدُهُما الآخَرَ" (غل5: 17)
من منَّا يريد أن يحيا في سلاسل الجسد وظلمة الحياة،ولا يريد أن يسلك في النور؟
نحن كلنا نتفق في مبدأ أن: "إذا قوي الجسد ضعفت الروح".. فماذا يكون اهتمامنا بالجسد؟ هو الاهتمام الأول (كيف يأكل.. كيف يشرب.. كيف يعالج.. كيف يلبس....)، نوفي له كل رغباته، وكأنه شخص آخر يقف أمامنا،ودائمًا يطالب بجميع حقوقه ونحن لا نملك إلاَّ أن نقول في كل طلب: "حاضر سوف أوفيك إياه.. إنني لا أستطيع أن أمنع عنك أي طلب تطلبه" إذا وصلنا إلى هذه المرحلة فسوف نحيا كجسديين وليس كروحين تعالوا بنا نسمع مُعلِّمنا بولس الرسول وهو يقول لنا "اسلُكوا بالرّوحِ فلا تُكَمّلوا شَهوةَ الجَسَدِ" (غل5: 16) "ولكن الذينَ هُم للمَسيحِ قد صَلَبوا الجَسَدَ مع الأهواءِ والشَّهَواتِ" (غل5: 24) "إنْ كُنّا نَعيشُ بالرّوحِ، فلنَسلُكْ أيضًا بحَسَبِ الرّوحِ" (غل5: 25) "لأنَّ مَنْ يَزرَعُ لجَسَدِهِ فمِنَ الجَسَدِ يَحصُدُ فسادًا، ومَنْ يَزرَعُ للرّوحِ فمِنَ الرّوحِ يَحصُدُ حياةً أبديَّةً" (غل 6: 8) هيا بنا نراجع أنفسنا جميعًا مَنْ الذي يغلب علينا: الروح أم الجسد؟!
كيف نحيا حياتنا الحالية على الأرض؟
هل نعيش حسب الروح أم حسب الجسد؟
ليتنا جميعًا نسلك بالروح فلا نكمل شهوة الجسد.. نعيش في حياة روحية.. نتمتع بالسيد المسيح.. نمارس الممارسات الروحية عن حب وليس عن تغصب.. يصبح فكرنا روحي وليس جسدي.. ولا يتحول خوفنا على جسدنا أن يأتي وقت يقف الجسد ومتطلباته ضد الروح ويعطلها.. إلى أن نصل إلى أن نهمل الروح ويقوى الجسد بكل ممارسة الخاطئة.ربنا يعطينا جميعًا أن نحيا حسب الروح وليس حسب الجسد..ولإلهنا كل المجد والإكرام في كنيسته المقدسة.من الآن وإلى الأبد آمين.
الراهب القمص بطرس البراموسي
المزيد
31 مارس 2021
تداريب أثناء الصوم 2
تداريب الحفظ:-
يمكن أن تتخذ فترة الصوم مجالاً أيضاً للحفظ : حفظ آيات ، وحفظ مزامير وحفظ فصول من الإنجيل ، وحفظ ألحان وتراتيل
أ- خذ مثلاً تدريباً لحفظ العظة علي الجبل . وتشمل 111 آية . لو انك حفظت كل يوم 3 آيات ، تنتهي منها في 37 يوماً .
ب- أحفظ مثلاً قطع الأجبية ، وتشمل 36 قطعة ( غير الستار ) ، فلو حفظت كل يوم قطعة ، يمكنك الانتهاء منها في 36 يوماً .
ج- أحفظ تحاليل الساعات ، وتشمل 8 تحاليل . ويمكن أيضاً القطع المشتركة في كل الصلوات مثل الثلاثة فكقديسات ، وصلاة الشكر ، والمزمور الخمسين وختام كل صلاة ، مع بعض القطع التي تنفرد بها صلاة باكر أو صلاة النوم .
د- ‘حفظ ما يمكنك من مزامير الساعات ، ويمكن البدء بمزامير قصيرة
هـ - أحفظ آيات مختارة من الكتاب ، وحبذا لو كانت بشواهدها . فلو أنك حفظت كل يوم ثلاث آيات ، لأمكنك أن تحفظ في الصوم الكبير وحده 150 آية في كل عام …
و- تحفظ آيات تشمل معاني معينة ، او آيات علي كل سر من أسرار الكنيسة ، أو آياتخاصة بعقائد ، أو خاصة بكل فضيلة من الفضائل .
ز- يمكن أن تحفظ خلال الصوم فصولاً مشهورة في الكتاب المقدس ، مثل ( 1كو 13) الخاص بالمحبة ، أو ( رو12) وهو مجموعة آيات ذهبية خاصة بفضائل عديدة ، وكذلك ( 1 تس 5:12-23) ، ( أف 6: 10-18) الخاص بالحروب الروحية ، و ( في 3: 7-14) … وما يشبه ذلك من الفصول المختارة في الكتاب .
ح- ما تحفظة من آيات أتخذه مجالاً للتأمل الروحي ، غذاء لنفسك خلال الصوم . ويمكن أن تتخذه مجالاً للتطبيق العملي .
أثناء
ط- ما تحفظه من صلوات ومزامير ، ردده باستمرار ، لكي تضيفا إلي صلواتك اليومية .
ي- كذلك ضع لك برنامجاًً في حفظ الألحان و التسابيح . وهكذا تجد أمامك جدولا روحيا ، تشعر فيه بقيمة وقتك وأهميته ، فتحرص عليه لكي تستخدمه فيما ينفعك .
تداريب الصلاة:-
أهتم في أيام الصوم أن تزيد برنامج صلواتك . فلا تقتصر علي صلوات الجبية أو الوضح العادي لك في الصلاة . وإنما نضع أمامك التداريب الآتية ، لتستخدمها حسب إمكانياتك :
1- تدريب الصلاة في الطريق :
يمكن أن تكون سائراً في الطريق ، وقلبك منشغل مع الله ، إما بمزمور ، أو بصلاة خاصة ، أو بصلوات قصيرة ترفع بها قلبك إلي الله ، كأن تقول له : يارب أغفر لي ، لا تحسب علي آثامي . ارحمني يارب كعظيم رحمتك . نجني يارب من ضعفاتي ، أعطني قوة . أجعلها يارب أيام مباركة ، بارك أيام هذا الصوم أعطني يارب فترة أقضيها معك . أربط يارب قلبي بك . إملأني يارب من محبتك أعطني يارب نعمة ، أعطني معونة ، أعطني يارب حياة مقدسة ،أعطني قلباً نقياً. إغسلني يارب فأبيض أكثر من الثلج . يارب نقني . يارب نجني . أحفظني من كل شر . أشترك في العمل معي . كرحمتك يارب ولا كخطاياي … درب نفسك علي أمثال هذه الصلوات ، وانت في الطريق ، أو وانت في طرق المواصلات . المهم أن تشغل قلبك بالله … وهناك أيضا :
2- تدريب الصلاة وسط الناس :
سواء كنت في اجتماع ، أو مع أصدقائك أو مع أفراد الأسرة ، أو وسط الناس في أي مكان ، أرفع قلبك إلي الله بأية عبارة . وهكذا تكون ساكتاً . وقلبك يشتغل من الداخل ، في شركة مع الروح القدس . لأن الإنسان الصامت يمكن أن يكون مخزناً لأسرار الله . وكما يقول الشيخ الروحاني " سكت لسانك ، لكي يتكلم قلبك …"
3- تدريب الصلاة أثناء العمل :
العمل اليدوي يساعد كثيراً علي امتزاجه بالصلاة ، كما كان آباؤنا في عمل أيديهم . وهكذا يختلف عن الأعمال اليدوية التي يقوم بها أهل العالم . وحتى لو كان عملك فكرياً بحتاً ، بين الحين والآخر أرفع قلبك إلي الله ولو بصلاة قصيرة جداً كأن تقول : اشتقت إليك يارب . لا أريد أن أتغرب كثيراً عنك . إجعلني أعمل من أجلك . بارك كل ما أعمله . أحبك يارب من قلبي وأشتاق إليك . أسبح أسمك القدوس أثناء عملي . حلو أسمك ومبارك ، في أفواه قديسيك . أشكرك يارب من كل قلبي . كن معي . أشترك في العمل معي … لا تجعل العمل يفصلني عن الصلة الدائمة بك . لا شئ يفصلني عن محبة المسيح …
4- تدريب التأمل في الصلوات :
خذ صلوات المزامير مثلاً ، وباقي صلوات الأجبية ، مجالاً لتأملك الروحي وهكذا عندما تصليها يكون ذلك بعمق . وكذلك صلوات القداس و التسبحة حتى يكون لها تأثيرها في قلبك عندما تسمعها .
5- تدريب الاستمرار في الصلاة :
درب نفسك علي انه كلما تجد صلاتك قاربت علي الانتهاء ، حاول أن تطليها بعض الوقت ، ولو دقيقتين . المهم أنك لا تسرع بالانتهاء من الصلاة والانصراف من حضرة الله . قاوم نفسك واستمر ولو قليلاً جداً . ثم استأذن الرب واختم صلاتك .
6- تداريب نقاوة الصلاة وروحانيتها :
وهي تداريب كثيرة جداً . منها الصلاة بفهم ، وبعمق ، وبحرارة ورغبة والصلاة باتضاع وانسحاق . والصلاة بلا طياشة بلا سرحان . وان لم تستطيع ذلك أدخل في التدريب التالي وهو:
7- تدريب الصلاة لأجل الصلاة :
قيل لمار أسحق " كيف نتعلم الصلاة ؟" فقال " بالصلاة " … ولا شك أن الصلاة - كأي عمل روحي - هي عطية صالحة نازلة من فوق من عند أبي الأنوار "( يع 1: 17) . فاطلبها التلاميذ قائلين " علمنا يارب ان نصلي " ( لو 11:1) . قل له : أعطني يارب أن أصلي . أعطني خلوة حلوه معك . أعطني الحب الذي أحبك به فأصلي . أعطني الحرارة التي في الصلاة . وأعطني الدموع و الخشوع . أنا يارب لا اعلم كيف أصلي فعلمني . وأمنحني المشاعر اللائقة بالصلاة . وتحدث أنت معي يارب فأحدثك …
8- تدريب الصلاة لأجل الآخرين :
لا تكن صلاتك في الصوم من اجل نفسك فقط . إنما تدرب أيضاً علي الصلاة من أجل الآخرين . كم من أناس طلبوا إليك أن تصلي لأجلهم ، ولم تفعل . تذكر ذلك في الصوم . كم من أشخاص تشعر بحاجتهم تشعر بحاجتهم إلي الصلاة ، لأنهم في مشكلة ، أو في ضيقة ، أو مرض ، أوهم محتاجون من أجل حياتهم الروحية . صل من أجل هؤلاء ، ومن أجل الذين رقدوا … صل من أجل الكنيسة ،، ومن أجل سلامه البلد ، ومن أجل الخير العام ، ومن أجل الذين لا يعرفون الله ، من أجل الملحدين والمستهترين وغير المؤمنين . صل لأجل ملكوت الله علي الأرض . إنه تدريب جميل ان تصلي لأجل غيرك . وبوجه خاص :
9-تدريب الصلاة لأجل المسيئين :
إنه آمر إلهي أكثر من كونه تدريباً ، إذ يقول الرب " صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم "( مت 5:44) . إنها فرصة أن تدرب نفسك علي تنفيذ هذه الوصية أثناء الصوم . صل ان يغفر الله لهؤلاء المسيئين ، وأن ينقذهم مما هم فيه . وصل من أجل محبتهم لك ومحبتك لهم ، حتى لا يتغير قلبك من جهتهم بسبب إساءتهم لك . أطلب لهم الخير . وصل ان ينقذك الرب من إدانتهم في فكرك أو أمام الناس . طبيعي أنك تصلي لأجل أحبائك . والأجمل ان تصلي لأجل هؤلاء . قل له : أحفظهم يارب . خلصهم . أغفر لهم . أعطني نعمة في أعينهم واعطني ان أحبهم كسائر أحبائي . أجعل قلبي من جهتهم قلبي نقياً من جهتهم . 10-تداريب أخري للصلاة :
أ- درب نفسك علي التبكير في الصلاة ، وان يكون الله هو أول من تكلمه في يومك ، ولو بعبارة قصيرة . أشكرك يارب . أجعله يارب يوماً مباركاً . أعطني يوماً مقدساً أرضيك فيه …
ب- درب نفسك علي ترديد صلوات القديسين . أبحث عنها وصل بها ( صلوات الأنبياء موجودة في الكتاب وفي طقس سبت النور )
ج- أقرأ الكتب التي تعطيك حرارة روحية وتجعلك بحرارة .
د- صل قبل كل عمل ، وقبل كل زيارة ومقابلة .
تداريب وسائط روحية أخرى:-
1- درب نفسك علي القراءات الروحية :
القراءات الدينية كثيرة ، ولا تدخل تحت حصر . ولكن أيام الصوم المقدسة - كفترة عبادة - لا يكون التركيز فيها علي الكتب التي تزيد معلوماتك ومعارفك ، إنما اهتم بالكتب الروحية التي تلهب قلبك بمحبة الله ، وتشغلك بحرارة تقودك إلي الصلاة ، وتحثك حثاً علي التوبة ونقاوة الحياة . بمثل هذه الكتب تهتم . وأنت ادري بالقراءات التي تؤثر فيك روحياً … اما باقي الدينية ، فلست أمنعك عنها ولكنها في الصوم لها الدرجة الثانية . اما الأولوية فللكتب الروحية وسير القديسين .
2- درب نفسك أيضاً علي التراتيل والألحان .
وبخاصة التراتيل والألحان التي لها روح الصلاة ، وتشعر فيها انك تخاطب الله والتي ترتلها من قلبك وروحك ، وقد مست مشاعرك وأثرت في قلبك . ويمكن أن تحفظ هذه الترانيم التي تؤثر فيك وترددها في أي وقت
3- درب نفسك أيضاً علي المطانيات .
أن أهملتها في أوقات أخري ، أحرص أن تمارسها أثناء الصوم ,.
تداريب على فضائل معينة:-
يمكن الاستفادة من المشاعر الروحية العميقة خلال فترة الصوم ، ليتدرب الصائم خلالها علي أية فضيله يشتاق إليها قلبه كان يدرب نفسه علي التسامح ، او الاحتمال ، او الهدوء ، أو الأمانة في العمل ، أو الدقة في كل شئ ، أو النظام الخ ولو أنك خرجت من كل صوم ، وقد أتقنت إحدى الفضائل ، فإن هذا لا شك ربح روحي كبير ,
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب روحانية الصوم
المزيد
30 مارس 2021
حِوَارُ السَّامِرِيَّةِ
كان حوار المسيح مع السامرية اختبارًا لأحضان الله المفتوحة مع كل إنسان؛ اختبار للقاء مع كل أحد مهما كان أصله وجنسه وسيرته؛ اختبار البحث عن الخروف الضال والدرهم المفقود.. في لقاء يتخطىَ القيود والحدود والموانع والأجناس. فقد جاء السيد ليلقي بذرة الإيمان الحي في تربة السامرة التي تقبلت الكلمة بالإيمان لا بالمعجزات خلال لقائه مع السامرية؛ إذ كان لا بُد له أن يجتاز السامرة عطشانًا إلى مائها كعطشه على الصليب من أجل خلاص العالم كله.
أتى المسيح بنفسه متجسدًا متخليًا عن مجده الإلهي؛ ليقيم موتى الذنوب والخطايا؛ وليخلص العالم كله؛ وقد تعب من السفر والمشي من أجل التفتيش على كل نفس. واليوم سعى من أجل نفس المرأة السامرية؛ وهو في تدبيره الصالح يُعد لنا ولكل ضال ولكل سامرية ولكل مخلع ولكل مولود أعمى أجمل الاختبارات والبركات والتعزيات. سعى إلى كل من تركوه من أجل شهوات العالم... سعى في طلب الضال وتعب كأب حقيقي مع كل ساقط؛ ليربطه بالأدوية المؤدية إلى الحياة.. تعب وهو مريح التعابىَ. وعطش وهو يُنبوع الماء الحي. وجلس عند البئر وهو نهر الحياة الوحيد.. ترك خدمة أورشليم حيث الهيكل والمجد وكراسي التعليم؛ ليذهب ويفتش ويتعب بحثًا عن النفس البعيدة. وكما أنه استراح على الصليب في وقت الظهيرة وحمل أتعابنا وآثامنا وأعلن عطشه لكل نفس بشرية واجتاز المعصرة وحده.. هكذا مشى وتعب اليوم من أجل نفس واحدة... فرحلته وتعبه وجلوسه هو الجسد الذي أخذه من أجلنا ومن أجل خلاصنا، وطعامه الحقيقي في أن يتمم مشيئة الآب في خلاص النفوس.. فبينما السامرة فرغ ماؤها؛ فرغت قانا من الخمر.. فالأولى أعوزها سر الفرح؛ والثانية أعوزها سر الحياة، ولا فرح ولا حياة من دون خلاصه الثمين..
لم يكن مجيء السامرية عند البئر مجرد مصادفة؛ بل هو تدبير إلهي من أجل خلاص نفسها، إنه تدبير من يصنع الأمور المقضي بها على الأرض، وقد اشتمل هذا التدبير الإلهي تدبير الزمن في وقت الساعة السادسة ليكون وقتًا مقبولاً ووقت خلاص، وفي تدبير المكان ليكون عند البئر حيث ماء يُنبوع الحياة والتقديس والتجديد بالمعمودية.. فلم يكن تدبير الرب لخلاص السامرية سوى صورة لتدبيره الإلهي لخلاص البشرية؛ لأنه في ملء الزمان جاء ابن الإنسان وأخلى نفسه وظهر لنا بالظهور المُحيي... جاء إلى الخطاة وقرع بابهم وصرخ على الصليب أنا عطشان (أعطني لأشرب)؛ إذ أن عطشه لا إلى ماء بل إلى خلاص النفوس... أتى كمحتاج يمد ذراعه طول النهار؛ ليدعونا إلى ملكوت محبته؛ بينما نحن لا نعلم عطيته لنا؛ وأنه ليس ماءًا يروي ظمأ الجسد؛ بل ماءًا حياً لحياة أبدية... عطيته لنا ذبيحة ومائدة رتبها لنا المنّان أمام مضايقينا. عطيته لنا كلمته الحية في بشارة الخلاص المفرحة. عطيته لنا أن نكون أبناء وورثة ورعية مع القديسين. عطيته صارت لنا به لنتخطى كل الصعاب؛ فلا دلو ولا أعماق ولا قصور في الإمكانيات ولا مقاييس تحُول دون بلوغنا تطهير ضميرنا من الأعمال الميتة.
لقد بدأ المسيح حديثه مع السامرية (واقف على الباب أقرع) رؤ ٢٠:٣؛ طالبًا إليها أن تعطيه ليشرب (أعطني لأشرب = يا ابني أعطني قلبك ولتلاحظ عيناك طرقي) أم ٢٦:٢٣.. فإذ بالحديث يتحول بأن تطلب هي إليه أن يعطيها لتشرب. فمسكين هو من يعتقد في جهله أن الرب هو المحتاج إليه.. ومسكين هو من يتعلل بالدلو والبئر ويصنع الحواجز بينه وبين المسيح (لم تكن أنت المحتاج إلى عبوديتي بل أنا المحتاج إلى ربوبيتك). مسكين هو من يظن أن الرب محتاج إلى خدمته أو إلى دوره أو إلى عشوره وتقدماته.. إنه ملء الملء لا يزيد ولن ينقص.. نحن المحتاجون إلى ماء الحياة لنحيا ولا نعطش. فإن كانت ماديات العالم وأموره تروي ظمأ الإنسان إلى حين؛ إلا أنها لا تروي عطشه العميق إلى الأبد... الله وحده هو الذي يملأ كيان الإنسان؛ فبه نحيا ونوجد ونتحرك؛ وحتى ولو عملنا كل البر من أجل اسمه فنحن عبيد بطّالون.
لقد كشف المسيح للسامرية عن نفسه كي تذهب وتدعو زوجها؛ لأنه قبل أن يعطينا ماء الحياة؛ لا بد أن نقر بخطايانا معترفين بها تائبين عنها؛ وعندئذ نرتوي بماء الحياة.. لقد رأى المسيح السامرية أمامه ميتة كلعازر الميت الذي أنتن في القبر؛ وكان لا بد له أن يقيمها من خطاياها ويمنحها ماء الحياة؛ وهو العالِم بكل أسرارها الخفية؛ لكنه لم ينهرها ولم يشهّر بها؛ بل مدح الحسن الذي فيها لأنها حسنًا قالت الصدق... إنه يُخرج من الآكل أُكلاً ومن الجافي حلاوة؛ لم يفضح شرها وزناها؛ لكنه بارك قولاً واحدًا اعتبره صدقًا.. إنه طبيب الرحمة والتحنن الذي لا يخرجنا خارجًا؛ بل يتأنى على كل فتيلة مدخنة وقصبة مرضوضة.
إن قولك يا رب محسوب حسابه؛ فقد كلمت السامرية سبع كلمات بميزان العد والتصنيف؛ بلا زيادة ولا نقصان؛ وكلماتك محسوبة ومقننة في سُباعيات: سبع تطويبات في العظة على الجبل، وسبعة توسلات في الصلاة الربانية، وسبع كلمات على الصليب، وسبع رسائل يقولها الروح للكنائس؛ إنها سهام سباعياتك المحكمة الوزن والعد؛ فإسمح أن نسمع وننصت بحكمة لندرك ما أدركتنا لأجله ونشرب ماء تقديسك الحي الذي للحياة الأبدية؛ ماؤك الجاري كاليُنبوع؛ تمنحه لنا بسخاء أكثر مما نطلب أو نفتكر؛ لأنه فوق كل شيء وأنت الذي تسند المُعيَ بكلمة؛ وتمنحنا ماء التنقية والتطهير والفهم والراحة؛ وتسقينا من ماء الدسم والنعمة وفطنة الحكمة؛ وتصيّر الساقية نهرًا؛ والنهر بحرًا وغمرًا..
فما السامرية إلا أنا وأنت؛ وقد سعيت إلينا يا مسيحنا... تعبت وعطشت نحو الساعة السادسة من النهار لأجلنا. فهل نعلم الآن ما هي عطيتك لنا؟! وهل تيقنّا عن من هو الذي يكلمنا ويتحدث إلينا؟! وهل عرفنا الذي استعلن نفسه لنا كمخلص وفادٍ؛ وفتح عيوننا لنرى احتياجنا الحتمي له؛ لا كسيد ولا كنبي؛ بل كرئيس خلاصنا؟؟!! هل شربنا ماءه الفياض الحي المجاني والمُروي؟؟!! إنه اليوم قد صار لنا يُنبوعًا نشرب منه فلا نعطش إلى الأبد؛ وهو يوردنا إليه لكي تجري من بطوننا أنهار ماء حي؛ فتملأ الأواني والينابيع وتفيض بجداول النعم الحسنة؛ حيث ينابيع الخلاص والنهر الصافي ومياه الفرح؛ محسوبين مع الساجدين الحقيقيين لآلامه بالروح والحق؛ لأن الذي يكلمنا هو... وقد قال لنا كل ما فعلنا.. فلنذهب إذن لنبشر به ونخبر بكم صنع بنا ورحمنا.
القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد