المقالات
04 مارس 2021
الصوم الكبير تاريخيًا
إن الصوم الأربعيني تقليد رسولي وهو تعليم كنيسة الإسكندرية منذ زمن بعيد فالقديس كيرلس الأول عمود الدين يقول في عظاته بخصوص الصوم الكبير إنه "حسب التقليد الرسولي"، ومن قبله البطريرك ثيؤفيلس يقرر ذلك أيضًا في خطاباته الفصحية، كما تحدث القديس ايريانوس "أبو التقليد الكنسي" عن أهمية الصوم الأربعيني الكبير، وأكد انه قديم العهد جدًا، وان طقسه يراعى في أنحاء العالم كله، ويرجع إلى أيام الرسل (Im. Epist. Ad. Vict. ).فالصوم هو أقدم وصية عرفتها البشرية منذ آدم الأول (تك 2: 16-17)، وقد أثبت ذلك أيضًا القديس يوسابيوس القيصري في تاريخه (5: 24) وقرر المؤرخ سقراط سوزمين في تاريخه الكنسي (7: 19) ان كنيسة مصر القبطية تصوم هذا الصوم سبعة أسابيع كاملة، ويقول القديس يوحنا كاسيان أن الصوم الكبير يقدم فيه الأقباط عشور السنة صومًا.وفى قوانين ابوليدس الروماني والمعروفة باسم التقليد الرسولي لهيبوليتس صيغة إخبارية تقول في وضوح وقوة أيام الصوم الكبير التي تثبت هي الأربعاء والجمعة والذي يزيد عليها ينال أجرًا. Hippolytus وتأتي الديسقولية فتقرر "فليكن عندكم جليلا صوم الأربعين المقدسة"، وتؤكد في الباب العاشر "وان تصوموا في كل عام أربعين يوما كما صام موسى وإيليا النبيان العظيمان، وجميع الأنبياء في العتيقة، وابتدأ سيدنا المسيح بذلك ليعلمنا أن نفعل ذلك قبل آلامه المحيية".وقد جاء في كتاب مصباح الظلمة "للأب القس أبو البركات المعروف بابن كبر" عن الصوم الكبير:-
"وقد كان الآباء الرسل القديسون الأطهار ومن تبعهم من المؤمنين يصومون الأربعين المقدسة".
ويذكر العلامة أوريجين فيقرر قائلًا "الأصوام التي نلتزم بها هي الأربعون المقدسة والأربعاء والجمعة"، كما وذكره روفنيوس المؤرخ ناسِبًا ذكره إلى العلامة اوريجين في تفسيره لسفر اللاويين.
وقد وضعت الدسقولية عقوبة على من لا يصوم "أي أسقف أو قس أو شماس أو أيبذياكون أو أغنسطس أو مرتل لا يصوم صوم الأربعين المقدسة وصوم يوميّ الأربعاء والجمعة فليقطع ما خلا إذا امتنع لأجل مرض جسدي وإذا كان عاميا فليفرز".وبعض الآباء القديسين القدامى عندما كانوا يتأملون في الأربعين المقدسة، كانوا يقارنونها بعدد الساعات التي قضاها الرب في القبر وهي أربعون ساعة محسوبة، أي إننا نصوم عن كل ساعة قضاها الرب في القبر يومًا كاملًا فالصوم الأربعيني كان منذ العصر الرسولي، موجودًا منذ القرن الأول المسيحي ومارسته الكنيسة في كل أنحاء العالم وصامه المسيحيون(1).
وقد ورد عن الأربعين المقدسة في الرسائل الفصحية لباباوات الإسكندرية، فنجد أن البابا أثناسيوس الرسولي حامى الإيمان البطريرك العشرين يقرر قاعدة الصوم الكبير في الرسالة الفصحية الثانية وفي الرسالة الثالثة والسادسة والسابعة(2).
ونجد أن طقس تكريس الميرون المقدس، كان يتم في الأربعين يومًا، وهو ما قام به أيضًا قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث ، فقد قام غبطته بعمل الميرون مرتين في عهده المبارك - في زمن الأربعين المقدسة.ويتكلم أيضًا البابا كيرلس الكبير عمود الدين في رسائله الفصحية عن الأربعين المقدسة، وهنا تتقرر من رسائل القديس أثناسيوس والقديس كيرلس، وطقس الميرون، قاعدة الصوم الكبير.كما أشار إليه القانون الخامس من قوانين مجمع نيقية، كشيء ثابت ومقرر في الكنيسة المسيحية في العالم كله وذكرته قوانين الرسل، وقالت إنه تم إتباعا لما فعله السيد المسيح(3).لقد كان الصوم الأربعيني من الممارسات الروحية التي مارستها كنيسة الرسل عمود الحق وقاعدته، هيا مع الكنيسة التي هي باب السماء فلك نوح الجديد بل والحقيقي لنخلص لأن كل من كان خارجها هلك (1 بط 3: 20)، ولنتمتع باختبار الصوم الكبير المقدس من أجل بنيان حياتنا وشعبها الحقيقي، فنجتاز الصوم مع المسيح الذي صامه عنا (مت 4: 2)، وكما صام داود النبي (مز 35: 13)، ودانيال النبي (دا 9: 3)، وحزقيال النبي (حز 4: 9)، ونحميا النبي (نح 1: 3)، وعزرا الكاتب والكاهن (عز 8: 21).. فنكون غالبين للعالم والشيطان لأن (هذا الجنس لا يخرج إلا بالصوم والصلاة).
القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
عن كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
المزيد
03 مارس 2021
أمثال شائعة مع شرح وتعليق
ما أكثر الأمثال الشائعة, بعضها بالعامية وبعضها بالشعر.وهى تجرى عند الناس مجرى الحكمة. ولكن ليست كلها سليمة تمامًا, وقد تحتاج إلى تعليق. ونذكر من بينها:
1- امشي على مهلك, علشان توصل بسرعة...
ويضرب هذا المثل بوجه خاص لسائقي السيارات الذين بسبب السرعة المتهورة تحدث لهم حوادث غالبًا ما تعطلهم. فلو أنهم تجنبوا تلك السرعة, لأمكنهم تجنب الحوادث ووصلوا بسرعة ويمكن أن يستخدم هذا المثل للتحذير من كل سرعة ضارة.وينضم إلى هذا المثل مثلان آخران هما:
2- في التأني السلامة, وفي العجلة الندامة. وأيضًا:
3- العجلة من الشيطان:
ويضرب هذا المثل بقصد التروي, والتفكير وعدم التسرع. ذلك لأن بعض الأمور التي تعمل بسرعة, لا تأخذ ما يلزمها من الدراسة.. ولكن يجب ملاحظة الفرق بين السرعة والتسرع.التسرع مذموم. ولكن السرعة قد تكون واجبة أحيانًا, كالسرعة في إنقاذ شخص في خطر, وفي إغاثة المحتاج, مثل السرعة في إطفاء حريق أو إنقاذ غريق. كذلك السرعة في أداء الواجب, والسرعة في التوبة قبل أن تمدّ الخطيئة جذورها في أعماق النفس. وأيضًا السرعة في دفع أجرة الأجير لأنه محتاج.وبهذه المناسبة, نذكر أن أحد الشعراء في التأني:
قد يدرك المتأني بعض حاجته وقد يكون مع المستعجلِ الزللُ
فردّ عليه شاعر آخر بقوله:
وكم أضرّ ببعض الناس بطؤهمو وكان خيرًا لهم لو أنهم عجلو
وفى هذا المجال لا ننسى المثل الشائع القائل:
4- كل تأخيرة وفيها ِخيرة (أي خير):
ولعل المقصود به التأخير الذي سببه التفكير والتروي أو الانتظار للاستشارة الحكيمة, أو الانتظار لتدبير الوقت المناسب ولا نستطيع أن نقول إن هذا المثل سليم في كافة الأحوال, فهناك أمور لا يكون التأخير فيها للخير. كالذي يتأخر في علاج مرض, فتزداد خطورته ويصبح غير قادر للعلاج.وأمور كثيرة جدًا يكون التأخير فيها مضرًا, حتى في بعض الأمور المادية. مثل تأخير مشروع, حتى ترتفع الأسعار والأجور فتكون تكاليفه أكثر, ولا يكون التأخير فيه خيرًا. وأيضًا التأخير الذي تضيع به بعض الفرص المتاحة.
نذكر بهذه المناسبة المثل القائل:
5- اضرب الحديد وهو ساخن
ذلك لأنه في تلك الحالة يمكن طرقه وتشكيله. أما لو تأخرت حتى يبرد, يصعب ذلك العمل. ويضرب هذا المثل في انتهاز الفرصة المناسبة.
وهناك مثل آخر يحتاج إلى تعليق وهو:
6- امشي سنه, ولا تخطى قنه (أي قناة):
ويضرب هذا المثل في الحث على البعد عن الأخطار, ولو أدّى الأمر أن يتكلف الإنسان مزيدًا من الوقت والجهد. أي أسلك في الطريق الأكثر أمنًا, ولو كان طويلًا. فلا تختصر المشوار بأن تعبر قناة ربما تسبب غرقك. حتى لو اضطررت أن تمشى سنة.وطبعًا عيب هذا المثل أنه ضد الجرأة و المخاطرة, بزيادة الحرص! وما أسهل أن يعبر الإنسان بدون خوف أو خطر.
هناك مثل في الابتعاد عن التحدث في عيوب الناس, وهو:
7- من كان بيته من زجاج, لا يقذف الناس بالحجارة
لأنهم لو بادلوه حجرًا بحجر, لا نهدم بيته كله. ويضرب هذا المثل للذي يتكلم عن عيوب الناس وكله عيوب. ولعل المثل مأخوذ من قصة المرأة الخاطئة التي أراد بعض معلمي اليهود أن يرجموها, وهم أيضًا خطاة. فقال لهم السيد المسيح "من كان منكم بلا خطية, فليرمها بأول حجر".
ويشبه هذا المثل قول أحد الشعراء:
إذا شئت أن تحيا سليمًا من الذي وحظك موفور وعِرضك ميّنُ
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلك عورات وللناس ألسنُ
وعينك أن أبدت إليك معايبًا فصنها وقل يا عينُ للناس أعينُ
ويشبه هذا الأمر المثل القائل:
8- لا تعايرني ولا أعايرك, دا الهم طايلني وطايلك
أي لا داعي لأن تعيب أحدًا على خطأ أنت واقع فيه. أو لا تشمت في مصيبة إنسان, وأنت في نفس الحال.
مثل آخر عن إيذاء الآخرين, هو
9- إللي يشدّ ديل قط, يخربشه
يضرب هذا المثل عن رد الفعل للإيذاء, فإنه يُقابل بإيذاء مثله.
لذلك ينبغي البعد عن التحرش بالغير.وقيل عن المعاملات السيئة التي تطول وتستمر:
10- مِثل ليالي الشتاء طويلة وباردة
ويقال ذلك عن العداوات والعلاقات التي تُتعب ولا تنتهي بسهولة. أو عن التجارب والضيقات التي تستمر زمنًا.
11- كثرة العتاب تفرّق الأحباب:
لا مانع من العقاب في بعض الأمور بأسلوب فيه محبة. ولكن إذا كان الإنسان يعاتب على كل صغيرة وكبيرة, مظهرًا في عتابه أخطاء أصدقائه, فربما يتعبون من كثرة نقده لهم ويبتعدون عنه, كما قال الشاعر:
إذا كنت في الأمور معاتبًا صديقك لم تلق الذي تعاتبه
فعِش واحدًا أو صِل أخاك فإنه مقارف ذنب مرةً ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ظمئتَ وأي الناس تصفو مشاربه
12- ويقول مثل أخر:
من غرْبَلَ الناس نخلوه
13- كل عقدة ولها حلاّل:
يُضرب هذا المثل, لكي لا ييأس أحد مهما كانت المشاكل. فلا توجد مشكلة بدون حلّ, بل يوجد من يحلّها. وكذلك كل باب مغلق له مفتاح يمكن أن يفتحه. والإنسان المؤمن يلجأ إلى الله, باعتباره حلال المشاكل أو قد ُيضرب المثل في مدح ذكاء من يقدر على حلّ العقدة, أو في النصح باللجوء إلى المتخصصين في حل العقد.ويشبه هذا التغير, مثل آخر يقول:
14- وكل فولة لها كيّال
أي كل نوع من الفول, له متخصص في كيله. فليس الكل سواء...
ويقرب من نفس المعنى, مثل يقول:
15- ما كل من لبس العمامة يزينها, ولا كل من ركب الحصان خيّال.
أي أن المظهر الخارجي لا يدل إطلاقًا على حقيقة الشخص, ولا كل من يشغل وظيفة هامة يمكنه أن يشرفّ هذا المنصب.وكلمة خيالّ معناها من يتقن ركوب الخيل. فليس كل من ركب حصانًا يعتبر فارسا.
ويشبهه مثل آخر يقول:
16- ما يجيبها إلا رجالها:
أي لا يقوم بالمسئولية, ولا يحل المشكلة, إلا من اتصف بالرجولة.
17- إن فاتتك فرصة, فالتمس غيرها:
يُضْرَب هذا المثل تشجيعًا لمن فشل في مرحلة ما, لكي يحاول مرة أخرى ولا ييأس مهما كانت الخسارة. وهو مثل يدعو إلى تجديد القوة, ورفع الروح المعنوية. ويكملّه مثل آخر يقول:
18- الجايات أكثر من الرايحات:
أي أنه سوف تجئ فرص ومناسبات أكثر من الفرص التي مضت. فلا تندم على ضياعها. وليكن لك رجاء في المستقبل.
19- يقتل القتيل ويمشى في جنازته
يقال عن الذي يتسبب في مشكلة, ثم يأتي ليعزى من أصابته المشكلة, ويواسيه بكلمات طيبة!
20- طلع من حفره, وقع في بير (بئر)
أي نجا من مشكلة بسيطة, فوقع في مشكلة أصعب.
21- خبطتين في الرأس توجع
أي أن الإنسان قد يحتمل ضربة واحدة. أما إذا كثرت عليه الضربات والمشاكل وفي مناطق موجعة, فإن نفسيته تتعب.
وهذا هو ما شكا منه أحد الشعراء فقال:
لو كان همًا واحدًا لاحتملته لكنه همُّ وثانٍ وثالثُ
وقال آخر عن توالى المتاعب:
كم أداوى الجرحَ قلّت حيلتي كلما داويت جرحًا سال جرحُ
وفي توالى المتاعب، ضُرب المثل الآتي:
22- خلّي الميهّ (100) ميّه وأردب:
أي أنه إذا وصلت الخسارة إلى مائة أردبًا, فلا يفرق كثيرًا إن كانت 101.
ويضرب المثل للمشاكل أو الأخطاء العديدة, إن زادت واحدة...
وعن الاغتياب والدسّ في الخفاء, قيل:
23- قُل في وشّه, ولا تغشّه.
أي تكلم معه مواجهةً وبكل صراحة, خير من أن تخدعه بكلام معسول, غير ما تبطن.
وقيل أيضًا عن مثل هذا المرائي الخدّاع:
24- في الوِش مرايه, وفي القفا سلاّية (أي شوكة).
وهذه العبارة تعطى نفس معنى المثل السابق. أي لا تظهر أمام غيرك كأنك مرآة, لك نفس فكره ورأيه, بينما تكون شوكة في ظهره!وقيل عن التأثير الذي يظل باقيًا, مهما ابتعد صاحبه أو صمت:
25- يموت الزمّار وصباعه بيلعب
ويضرب هذا المثل للآثار التي تظل باقية, حتى بعد انتهاء خدمة أو مسئولية صاحبها, سواء عن طريق إتباعه و حاشيته أو مؤلفاته. أو عن طريق تدخله الخفي في العمل, بعد تركه مسئوليته فيه.أو يُضرب المثل عن الشخص الذي تتخلص من زمالته, ولكن مؤامراته مازالت تلاحقك. أو يضرب عن الشّر الذي انتهى فعله, ولكن نتائجه مستمرة ولم تنتهِ.
26- الديك الفصيح من البيضة يصيح:
أي تظهر شخصيته بمجرد أن يفقس (أي يخرج من البيضة). ويضرب هذا المثل لمن يظهر نبوغه من صغره, أو من تظهر مقدرته بمجرد توليه المسئولية.
27- إيه رماك على المرّ, قال: إللي أمرّ منه
أي أن ما دفعه إلى الشدائد, ما هو أشد منها. فاختار أخف الضررين.
28- اللقمة الهنيةّ تكفى ميهّ (100)
أي أن القليل, إذا تقاسمه بالمحبة كثيرون, فإنه يكفيهم جميعًا.
29- يعمل من الحبةّ قبةّ:-
يضرب هذا المثل لمن يبالغ في الوصف, أو من يبالغ في المشاكل.
30- طول البال يهدّ الجبال:-
أي أن الصبر وطول الأناة, يمكّنك من الانتصار على أصعب العوائق, حتى لو كانت في ثقل الجبال.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
02 مارس 2021
صِنَاعَةُ التَّوْبَةِ
ما دمنا نُخطئ كل يوم؛ إذنْ فلنتُبْ كل يوم ونجدد أنفسنا بالتوبة. فمراحم الله نحونا لا نهائية وتفوق كل تعبير. التوبة علاجها ليس له حدود؛ وخطايانا الكثيرة يقابلها مراحم لا تُعدّ ولا تُحصىَ... خطايانا المتكررة لن تستعصي إزاء صلاح الله اللانهائي؛ إنها تتلاشى أمام رأفاته التي لا تفرغ؛ هي تقودنا لكي نتبرر. وما لا نستطيع عمله؛ الله يستطيع بقدرته وبدم صليبه أن يكمله.
التوبة هي عهد مع الله وتجديد للمعمودية؛ وهي حُكم على الذات؛ بها يتم المصالحة مع الآب وتطهير الوجدان. نعمل مشيئة الله مبتعدين عن شيطان الجولان. نتشبه بالمسيح في أقواله وأفعاله وأفكاره؛ كي ننجو من القصاص العادل بالشفقة الإلهية... يأتي هو ويدحرج القساوة من قلوبنا ويعتقنا من الحبس والظلمة الخارجية... نُرضي الرب كما يُرضي الجنديُ الملك؛ لأننا سنُطالب بدقّة عن ثمار توبتنا؛ وعلى قدر كثرة شدة تقيُّحنا تشتد الحاجة إلى التداوي؛ لا نميل يمينًا ولا يسارًا؛ ولا نلتفت إلى الوراء؛ فنرتدّ إلى خلف ونصير عمود ملح بلا حراك... نتوب عن شرنا وضعفنا حتى لا تصير أواخرنا أشرّ من أوائلنا؛ ويعطينا الله نعمته لكي نقبلها ونحرسها. ففي نعمته يكمُن خلاصُنا؛ وهي التي تسند توبتنا وتقودنا إن كنا نُخلص بحق.
بالتوبة نصل إلى كنزنا الذي داخلنا وسُلَّم ملكوته فينا... سائرين بالتوبة؛ لأن الخلاص هو نصيب مَن يسلك حسب قانونها ويُصلح حاله بتوبته. نتوب عن أرواح الكذب والإدانة والطمع والتعظم ومحبة النصيب الأكبر والنجاسة والخبث والرياء... ولا نثق بطين جسدنا مدى الحياة؛ ولا نرتكن إليه حتى نقف أمام المسيح الديان؛ لأن الله لن يأتي بنا إلى الخلاص ضدًا لحرية إرادتنا؛ بل برغبة أنفسنا وتهليل قلوبنا.
صناعة توبتنا تنقذنا من الخطأ وتمنحنا نعيم الملكوت. نتوب عن عبودية الخطية؛ وتكون كل كلمة وكل فعل من معلمنا الإلهي هي قاعدة وقانونًا لنا في التقوى والفضيلة والتجديد يومًا فيومًا؛ حيث يتأسس هيكل الثالوث القدوس في داخل قلوبنا؛ نفعل الأمور الصالحة ويكون الله نفسه هو مُبتغانا. نجمع زهور روحية تنسج لنا أكاليل سماوية وتنضح ثمرتنا (الزهور ظهرت) و (الطيب انسكب) عندما يجتذبنا المسيح نفسه إليه ويقرِّبنا منه. لا يذكر خطايانا وتعدِّياتنا فيما بعد؛ لأن التوبة الحقيقية هي معجزة شفاء عظيمة... وهي البشارة المُفرحة الجديدة... وهي عملنا الدائم الذي يلازم حياتنا باستمرار... نغيِّر أذهاننا وسلوكنا ونقوم من غفلتنا... هي (حزن مُفرح)... (حزن) الندم على خطايانا؛ و(فرح) رجاء الغفران. فهي ليست أزمة نفسية إنفعالية؛ لكنها تحوُّل داخلي وروح جديدة؛ نجحد فيها اليأس ونترجىَ حياة مستقيمة. فنحن لسنا في طريق مسدود؛ بل في سعة سكة الحياة؛ ننسى ما هو وراء ونمتدّ إلى ما هو قدام في موقف دائم ما دامت النعمة وافرة والإرادة حاضرة.
حزن التوبة مضيء لأنه حزن بحسب مشيئة الله " يُنشئ توبة لخلاص بلا ندامة " (٢كو ١٠:٧). فما التوبة الصادقة إلا حالة (إنسان الحرية)؛ التي تثمر فرحًا وسلامًا وإنفكاكًا من ثقل الخطية وذنبها وعثرتها... إنه (اختبار) سلوك الحياة والبركة؛ ورفض الموت واللعنة. (اختبار) عمل الإرادة الإلهية من أجل المسرة. (اختبار) عمل الأعمال المرضية أمام الله. (اختبار) دعوة واختيار المُعَيَّنين للحياة الأبدية وللمُمسكين بها؛ والتي إليها دُعُوا. ساهرين صاحين متممين خلاصهم بخوف ورعدة... ملتحفين بنعمة الله المُخلِّصة لجميع الناس... حافظين وديعتهم إلى اليوم الأخير.
لأن كل من لا يقدم توبة ينال الويلات والتوبيخ والهلاك "إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون" (لو ٣:١٣)؛ فإن كان الله يتأنّىَ علينا ويتركنا هذه السنة أيضًا؛ فذلك لأنه لا يشاء قطعنا وهلاكنا؛ لكنه يقبل توبتنا ويبررنا؛ ويقبل ثمرنا إن كنا نرجع ونحيا... هو يمكث معنا ويدخل إلينا ويقبل كل من يُقبل إليه... يأتي عندنا ويصنع منزلاً؛ يدخل ويتعشىَ معنا؛ يُقيم فينا ويغفر لنا زلاتنا... كلما نحاسب أنفسنا ونُدرك ضعفنا ثم نقوم لنرجع إليه. وعندما نأخذ خطوة نحوه هو يأتي إلينا مبادرًا ويستقبلنا ويتحنن على كل راجع؛ يركض نحوه ويُلبسه الحُلة (المعمودية) والخاتم (الميرون) ويدعوه إلى ذبيحته المُثَمَّنة (الإفخارستيا) ليأكل ويفرح بالوليمة المجانية.
يا لفِعل التوبة المستمر؛ إنه الحدث الفائق الذي نعود به إلى الله ونرجع إليه وتتغير حياتنا مجددًا. إنه سر حلاوة المسيحية في البداية الجديدة - (هَبني يا رب أن أبدأ) – نعرف زيفنا وسقطاتنا ليحل النور محل الظل والظلام؛ وتصير الخطية المتكررة والمحبَّبة مكروهة ومرفوضة بل وغريبة في نور ومعونة جمال المسيح الإلهي. وهي بالجملة معجزة غفران خطايانا وعمل الله المعجزي معنا مثلما مع السامرية والابن الضال؛ نسرع وننزل مع زكا؛ فنلتقي بالقدوس والبار الذي دعانا لنتوب؛ حاملاً خطايانا في جسده على الخشبة؛ وبه نكون أعظم من منتصرين... متحصِّنين بختمه الملوكي الخلاصي العجيب؛ وبعلامة ضمانته المخلِّصة الموسومة لمعونتنا والتي لا تُمحىَ.
ويعتبر الآباء أن التوبة هي برهان التقوى وصدق العِشرة المقدسة مع الآب والمسيح والروح القدس. وبها نختبر الثمار اللائقة التي تفتح إضاءة طريق الملكوت؛ كخطّ ونصيب أبدي في فرح لا يُنطق به... نتوب عن كل شر ولا تسودنا الخطية بسلاح الإنجيل وحلول المسيح في إنساننا الباطن. نجاهد لنضبط أنفسنا في كل شيء؛ وبإصرار نرفض تذكارات الشر ومعقولات إبليس وحِيَله... هو يكرر عمله ونحن نكرر رفضنا " قاوموه راسخين في الإيمان " (١ بط ٩:٥).
وبتعب التوبة اليومي لا تعود قلوبنا تتقسىَ عبر أزمنة الحياة وحتى غروب العمر؛ لأن التوبة تُقاس بصدق ميل القلب وحرارته ورغبته؛ وبإدراك مقدار الدَّيْن الذي سامحنا به الله... وإله الفرصة الثانية المتجددة هو إله المستحيلات الذي لا يشاء موت الخاطئ مثلما يرجع ويحيا؛ وهو الفخاري الذي يصيغنا من جديد ويصنعنا آنية كرامة له... يعود ويعملنا وعاءً جديدًا كما يحسُن في عينيه.
توبتنا هي طريقنا ومسيرة نموّنا. قائدها الروح القدس؛ تصل بنا إلى الشبه الإلهي؛ وهي لا تكمل إلا بإستجابة عمل النعمة فينا وبإتمام الوصايا وعدم التأجيل أو الإهمال والتحول للطابع الحسن؛ حسب متطلبات قصد دعوتنا التي بها نكون مرضيين عنده وغير مرفوضين... وتستمر توبتنا هذه دائمة حتى القبر عندما نربط كل شيء بما يطلبه منا سيدنا وملكنا في الخفاء والعَلَن؛ وفي كل ما يجعلنا مقبولين عنده. متممين عمله الذي يُنشئ فينا إرادة الخلاص والثبات في توبة تستمر (ستين ثانية × كل دقيقة × ستين دقيقة × كل ساعة × عدد سنوات العمر = توبة الحياة وحياة التوبة).
تتفق فيها توبتنا مع عظم إحسان الله تجاهنا؛ فتجعله يتحنن ولا يلاحقنا بغضبه؛ إنما يُدركنا بصلاحه: نطلب الحق / نُنصف المظلوم / نُقضي لليتيم / نُحامي عن الأرملة / نتحاجج معه وهو يسير معنا كل الطريق؛ نمشي له خطوة وهو يقترب نحونا أميالاً ليبيِّضنا كالثلج ويُذيقنا حلاوته ويفتح أمامنا الأبواب؛ فندخل إلى المنازل الكثيرة... وكلما ندخل تنفتح أمامنا أبواب جديدة وتنكشف لنا أعماق العجائب؛ وننال فرح توبة الربيع الروحي... نجني بذار بهحة التحرر من الذنب والمَلامة؛ ونحصد بركات النهوض من السقطة والغفلة. وكما خلُصت رَحاب الزانية واللص اليمين الذي صار أول مواطني الفردوس؛ ومثل العشار الذي صار إنجيليًا؛ والمجدِّف الذي نال رتبة الرسولية، هكذا نحن نكمل صناعة توبتنا في كل زمان مهما كان هو لنا زمان توبة.
القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
01 مارس 2021
الصوم الكبير كنسيًا
للصوم الأربعيني الكبير مكانة خاصة في كنيستنا، فهو أقدس أيام السنة، ونقول عنه إنه صوم سيدي، لأن سيدنا يسوع المسيح قد صامه، لذا فهو من الأصوام الهامة في كنيستنا القبطية الأرثوذكسية. وتدخل الكنيسة فيه فترة اعتكافها وتوبتها الليتروجية، فهو ربيع السنة الروحية وزمن الاعتكاف والالتقاء مع الله.
ورسمت كنيستنا هذا الصوم ووضعته في برنامجها تشبها بربنا يسوع المسيح نفسه الذي صام عنا أربعين يوما وأربعين ليلة لم يأكل شيئا فيها.. لذلك اعتبرته فترة تخزين روحي للعام كله ولأهمية الصوم الكبير كان الآباء يتخذونه مجالا للوعظ، مثل القديس يوحنا ذهبي الفم بطريرك القسطنطينية، والقديس أغسطينوس إبن الدموع أسقف هيبو واللذان اشتهرت عظاتهما في زمن الصوم الكبير.بل وكانت الكنيسة تجعل أيام الصوم الكبير فترة إعداد للمقبلين على العماد بالتعليم والوعظ ليتقبلوا نعمة المعمودية، فكانت تقام فصول للموعوظين خلال هذا الصوم تلقى فيها عليهم عظات لتسليمهم قواعد الإيمان وتثبيتهم، وهكذا ينالون العماد في يوم "أحد التناصير"، لكي يعيدوا مع المؤمنين في الأحد التالي أحد الشعانين، ويشتركوا معهم في صلوات البصخة وأفراح القيامة.. وقد اشتهرت عظات القديس كيرلس الأورشليمي لإعداد الموعوظين للإيمان خلال فترة الصوم، ومن ثم أصبح الصوم الكبير من أهم الأصوام وأقدمها أيضا والصوم الأربعيني المقدس عبارة عن ثلاثة أصوام، الأربعون المقدسة في الوسط يسبقها أسبوع تمهيدي ويعقبها أسبوع الآلام.
أسبوع الاستعداد
الأربعون المقدسة 55 يومًا
أسبوع الآلام
ولاهتمام الكنيسة بهذا الصوم سمته الصوم الكبير، وإذا كان السيد المسيح قد صام عنا وهو في غير حاجة إليه فكم بالحري نحن، وقد مهدت الكنيسة لهذا الصوم بصوم يونان، لتعدها أولادها للصوم الكبير قبل أن يبدأ بأسبوعين، ولتجعله ربيعا للنفس والكنيسة، حيث تتجدد الطبيعة البشرية لتزهر في يوم الأزهار العظيم يوم عيد القيامة المجيدة الذي هو عيد الأعياد ولان الصوم الكبير اكبر الأصوام الكنسية وأقدسها لذا رتبت له كنيستنا طقسًا خاصًا، فله الحان خاصة ومردات خاصة، وله قراءات وقطمارس خاص (قطمارس الصوم الكبير) katameooc، وله ترتيبه وطقسه الخاص (الطقس الصيامي)، في رفع بخور باكر ومطانيات وسجدات metanoia وميامر وطلبات ونبوات وقراءات من العهد القديم،وهكذا جعلت الكنيسة للصوم جوا روحيا خاصا، وهو ما سنتأمل فيه عندما عندما ندخل إلى رحلة الصوم الكبير في المنهج الليتورجي التعبدي.ولما كان هذا الصوم اقتداء بالمسيح لذا رتبته الكنيسة، لتدعونا فيه إلى تبعية المسيح، وبهذا تكون قد أدخلت حياته في جسدها لتكون أفعال حياة رب المجد يسوع هي حياة أعضائها، تقتدي به في منهجها الحياتي، وبهذا تصبح حارسة على سر اللاهوت النسكي الذي أسسه الرب بصومه الأربعين المقدسة، ومن هنا أتت عظمة هذا الصوم في انه يأتي تشبها بصوم السيد المسيح الذي جعلته الكنيسة سرا تسلمه لأولادها العابدين وقصدت الكنيسة من وضع هذا الصوم أن يكون موسم توبة جماعية، لأن كنيستنا جموعية، وتدبير هذا الصوم إنما هو تأكيد لمضمون الشركة في جسد المسيح، لتصير توبتنا الجماعية هدف وقصد هذا الصوم من اجل النمو الجماعي والحب الجماعي والحرارة الجماعية والكرازة الجماعية والصلاة الجماعية كما من قلب واحد، في الكنسية مدينة الرب مسكن القديسين ومجمع الأبرار.لأن كنيستنا ليست كنيسة أفراد، ولكنها كنيسة أعضاء، فهي لا تعرف الفردية ولكنها كنيسة جموعية وكنيسة شركة، (شركة مع الثالوث القدوس، شركة مع القديسين، وشركة مع جماعة المؤمنين أعضاء الجسد الواحد). نتقدم فيها لنأكل جسد الحمل الذي بلا عيب، الذي ينزع خطايا العالم، نأكله في بيت واحد، أي في الكنيسة الجامعة المرشوشة بالحب والحاملة سلاح الفضيلة.
القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
عن كتاب رحلة الكنيسة في الصوم الكبير
المزيد
28 فبراير 2021
تَذْكَارُ سَاوِيرُوس الأنْطَاكِي (تَاجُ السُّرْيَانِ)
حينما نذكر سيرته العطرة؛ إنما نعيِّد ونكمل بشكل خاص ذكرى المعلمين اللابسي الروح، فكلهم تكلموا روحيًا بفمه الطاهر. وُلد ساويروس سنة ٤٥٩ م في أسيا الصغرى وسُمي بإسم جده لأبيه، وقد درس الأدبين اليوناني واللاتيني في المدينة العظمى الأسكندرية مع شقيقيه الأكبرين، وكان له زميل فاضل يُدعى زكريا الفصيح؛ وهو الذي أسهم في قيادته روحيًا حتى نال صبغة المعمودية المقدسة.
درس وعشق تعليم أثناسيوس السكندري وباسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي؛ وأيضًا مصنفات السميين الثلاثة غريغوريوس؛ والذهبي الفم وكيرلس الكبير الحكيم، وكانت أقوالهم وكتاباتهم موضع دراسته وتأملات شبابه؛ معتبرًا أن تعليمهم كنهر؛ مَن لا يشرب منه لا ينتفع، ممتدحًا إياهم؛ لأنهم لم يكتفوا بالكلام بل بالجراءة والعمل؛ وأظهروا رغبتهم في الاستشهاد؛ وما كانوا متعلقين بكراسيهم؛ لكنهم غاروا غيرة عظيمة وغربوا عن العالم ليشرقوا في المسيح شمس البر.
سافر إلى مدينة طرابلس ببيروت سنة ٤٨٨ م ليدرس البلاغة والشرع ومصنفات علماءالكنيسة الأُوَل، فقادته النعمة الإلهية إلى دعوة حياة الرهبنة ولبس الإسكيم.. فكتب رسالة في الإيمان إلى رؤساء الأديار حول طبيعة المسيح الكريستولوجية (طبيعة واحدة للكلمة المتجسد)؛ ودافع عن الإيمان السليم؛ مستحضرًا النسخ الأصلية لمقالات ورسائل كيرلس السكندري، ثم ألف كتابًا أسماه فيلو لاتيس (محب الحق)؛ دفاعًا عن كيرلس الحكيم قبالة الخلقيدونيين؛ ودحض طومس لاون؛ ناسجًا على منوال آباء كنيسة الأسكندرية (أثناسيوس وكيرلس وديسقوروس).
رُسم كاهنًا سنة ٥٠٨ م وكانت خدمته الكهنوتية التي عاشها ورآها وكتب عنها عبارة عن: الاستعداد والتقديس أولاً ثم التعليم ثم التدبير؛ من أجل عمل خدمة بناء جسد المسيح... فكان هادئ الطبع؛ دقيق الفكر؛ متفوق في التعليم؛ ودرس الفلسفة واستعملها استعمالاً حسنًا كسلاح خاص، وقد رفعته النعمة وقادته عبر شروحات الكتب المقدسة وممارسة الليتورجية، واضطلع على علوم الوعظ ومعرفة التفسير الكتابي؛ واستعمل الشرح من أجل اللاهوت... فجاءت عظاته شرحًا لآيات الكتب المقدسة ولتفسير المشاهد الإنجيلية، متتلمذًا على الحُجج الآبائية التي تعلّم منها الفلسفة العالية الحقيقية، مميزًا للتعليم السليم داحضًا شر الهراطقة؛ لأن الحق يجتذب إليه الذين يستحقونه كما يجتذب المغناطيس الحديد، وقد تضمنت مجموعة الباترولوجيا الشرقية (Patrologia Oriantalis) ]فكره وسيرته النابعة من الكنيسة المؤسسة على صخرة الإيمان العقلي الكلمة الإلهي[.
عاش مسيرة رسالته الكهنوتية في ثلاث محطات الاستعداد والتقديس ثم التعليم ثم التدبير، فكان استعداده في الانطلاق للرعاية على مثال موسى النبي ويوحنا المعمدان وصموئيل وشخصيات الكتاب المقدس؛ وبالأخص الرسولين بطرس وبولس، كذلك كشف عن حقيقة وجه الكاهن بأنه مكلَّف بواجب تعليم الشعب وتدبيره وتعزيته (عَزّوا عَزُوا شعبي)؛ فيكون للكاهن سمع دقيق وحاسة روحية بواسطة التنقية والنسك؛ كي يدرك الرؤى التي تأتي من الله؛ حتى يشهد ويتكلم (آمنتُ لذلك تكلمتُ) وعندئذ تدخل الكلمة إلى قلب أورشليم لتلامس السامعين وتعبر إلى داخل نفوسهم.
تم انتخابه بطريركًا لأنطاكية في مجمع صُور سنة ٥۱۲ م لكنه حاول الإفلات دون جدوى؛ حيث اقتبل رتبة البطريركية السامية؛ ليكون خليفة للقديس بطرس الرسول؛ فرعى رعية الله بأمانة وبر، وفي سنة ٥۱٨ م ثار اضطهاد عنيف على الأرثوذكسيين؛ حيث تم نفي الأساقفة الذين لا يقرون المجمع الخلقيدوني... إلى الحد الذي وصل لإصدار أمر بقطع لسان ساويروس الأنطاكي، فصار هائمًا على وجهه يبحث له عن ملجأ يواريه عن أبصار المضطهِدين؛ فأبحر إلى مصر واستقر فيها مدة عشرين سنة؛ وتنيح سنة ٥۳٨ م في مدينة سخا؛ ثم نقلوه بإكرام جزيل ليُدفن حيث كان يعيش في دير الزجاج (غرب الأسكندرية). وتعيِّد له الكنيسة القبطية في ۲ بابى لتذكار مجيئه إلى مصر؛ وفي ۱٤ أمشير لتذكار نياحته؛ وفي ۱٠ كيهك لتذكار نقل جسده إلى دير الزجاج.. إن اسمه عظيم لأنه خدم القدوس العجيب في قديسيه الذي لعظمته المجد والإكرام والسجود.
اذكروني في صلواتكم
القمص أثناسيوس جورج كاهن كنيسة مارمينا فلمنج الاسكندرية
المزيد
27 فبراير 2021
الضعف: أنواعه وأسبابه وعلاجه
على الرغم من محبه الناس للقوة و تمجيدهم لها، إلا أنه لا تزال هناك ضعفات يتصف بها البعض، وتكون سببًا للشكوى، أو سببًا للألم. وقد يوجد شخص قوى بصفة عامة، إلا أن له ضعفًا في زاوية معينة من حياته، أو في جانب معين من تصرفاته فما هي إذن أنواع الضعف؟ وكيف يمكن معالجة كل نوع منها؟ وما هو موقف الأقوياء من الضعفاء؟ هذا ما نود أن نتحدث اليوم عنه...
أنواع الضعف
1- قد يوجد عند إنسان ضعف، لا ذنب له فيه:-
مثال ذلك ضعف وصل إليه عن طريق الوراثة، أو ظروف ولادته. سواء كان ذلك الضعف في جسده، أو في قواه العقلية، أو في مستوى اجتماعي ضعيف، أو في أسرة لا تساعده على الحياة السويّة، أو أنه نشأ بأسلوب تربوي خاطئ ترك في نفسيته ضعفات تتعبه في مستقبل حياته ونلاحظ أن ضعف الجسد قد يقاسى منه الإنسان الروحي أيضًا. إذ لا يقدر على ممارسات روحية معينة بسبب ضعف جسده وعدم قدرته. فعلى الإنسان الروحي ألا يصيبه هذا بالإحباط، بل يعمل على قدر ما يحتمله جسده...
2- وقد يوجد شخص، أعصابه ضعيفة:-
وهو لهذا السبب ضعيف الاحتمال، يثور ويغضب بسرعة، ويغضب بسرعة، ويخطئ في غضبه. ويحتاج إلى إنسان قوى وطويل البال و رحب الصدر، يمكن أن يحتمله. إذ يجب على الأقوياء أن يحتملوا ضعفات الضعفاء. ومعروف أن الإنسان القوى هو الذي يستطيع أن يحتمل. أما الغضوب الذي يثور ويخطئ إلى غيره، فهو الإنسان الضعيف على أن الغضوب يلزمه أن يعالج الضعف الذي فيه، أعنى الغضب وذلك بأن يبعد عن أسباب الغضب، وعن المجالات التي تثير أعصابه. فيمارس تداريب روحية في البعد عن الغضب. ويقوّى أعصابه من الناحية الجسدية. ويتأنى في انفعاله وفى ثورته. ويفكر في النتائج السيئة لغضبه و نرفزته قبل أن يغضب. ويتدرب على ضبط النفس. كما يقرأ كثيرًا عن الودعاء و الهادئين محاولًا أن يتأثر بسيرتهم ويتمثل بهم. ويحترس من أن يقول "هكذا طبعي"! فالمفروض أن ينتصر على طبعه...
3- هناك نوع آخر من الناس ضعيف في إرادته:-
فالخير الذي يقتنع به، يعجز عن تنفيذه. إذ تنتصر شهواته أو طباعه على اقتناعه، فيضعف. أو قد يكون مثل هذا الشخص، من طبعه التردد. فإرادته لا تستطيع أن تقرر ما ينبغى أن يفعله. وإن قرّر شيئًا، لا يمكنه أن يثبت فيه، بل تراوده أفكار أخرى وتوجد تداريب كثيرة لتقوية الإرادة. وقد يستطيع أن يقوىّ إرادته، عن طريق التغصب، وقهر الذات في أخطائها، أو عن طريق الصوم. كما يصلح له أن يستشير مرشدًا روحيًا يثق تمامًا بحكمته، ويخضع لإرشاده وإن كانت هناك عادة تسيطر عليه، ينبغي أن يقاومها، ولا يستسلم لها، لأن هذا الاستسلام يزيده ضعفًا على ضعف...
4- يوجد إنسان آخر يتعبه ضعف إيمانه:-
له إيمان نظري، ولكن هذا الإيمان من الناحية العملية يمكن أن يضعف. وإن تعرض لمشكلة، ينهار أمامها ويخاف. ويدل انهياره على ضعف إيمانه بحفظ الله له ورعايته وحمايته. وإن صلى صلاة، ولم يشعر باستجابة سريعة، يبدأ أن يشك في جدوى الصلاة وفى معونة الله! بينما يكون الحلّ قادمًا من عند الله، ولكن هذا الضعيف لم يستطيع أن ينتظر! بل هو يحتاج أن يثق بأن الله يعمل لإنقاذه، مهما بدا له أن المعونة قد تأخرت!
5- نوع آخر من الضعف هو ضعف النفسية:-
وهذا النوع من الناس الضعاف النفسية يسمونهم أحيانًا "صغار النفوس". وهم يقلقون بسرعة ويخافون ويضطربون، بل قد ينهارون ويبكون. وربما يقعون في اليأس. وهم قليلو الاحتمال، وسريعو الانفعال، ويحتاجون باستمرار إلى من يسندهم. وقد يكون البعض منهم كبيرًا في سنّه، ولكن له نفسية الصغار..!
6- نوعيات أخرى من الضعف:-
منها ضعف العقلية. ويتمثل في من يتصفون بمستوى ضعيف في درجة الذكاء، ويشمل ذلك ضعفًا في الذاكرة وهناك أيضًا ضعف الشخصية ومن صفاتها العجز عن التصرف السليم، وسهولة الانقياد، وسرعة التحول، وعدم الثقة بالذات أما ضعف الروح فهو الذي يستسلم للخطيئة بدون مقاومة تُذكر، ولا يصمد أمام حروب الشياطين وإغراءات المادة وشهوات الجسد من بين أنواع الضعف أيضًا: ضعف الطفولة، وضعف الشيخوخة..
موقفنا من الضعفاء:-
إن كنت أنت ضعيفًا، فلا تيأس من ضعفك، بل حاول أن تعالجه وإن رأيت شخصًا ضعيفًا، فلا تحتقر ضعفه، بل تذكر الحكمة التي تقول "شَجِّعُوا صِغَارَ النُّفُوسِ. أَسْنِدُوا الضُّعَفَاءَ. تَأَنَّوْا عَلَى الْجَمِيعِ".. (رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل تسالونيكي 5: 14)لذلك افتحوا طاقة من الرجاء، لتضئ على الذين يسيرون في الظلمة خائفين ومضطربين. امنحوهم ثقة، وحدثوهم عن تدخل الله في حياتهم ولو في آخر لحظة. واحكوا لهم قصصًا عن الذين سقطوا وقاموا وصاروا من الغالبين، ومن الذين فشلوا أولًا ثم نجحوا أخيرًا، ومن كفاح الضعفاء الإنسان القوى، لا يجوز له أن يفتخر على الضعيف، ولا أن يستصغروه، ولا يشهر به. بل على العكس يشجعه، ويمنحه من القوة التي فيه التي منحه الرب إياها. والله نفسه- تبارك اسمه- يعتني بالضعفاء، كما يعتني بالأطفال، ويسندهم، ويشفق عليهم.وكل إنسان معرض للضعف أحيانًا. والذي تدفعه الكبرياء إلى احتقار الضعيف، ما أسهل أن يضربه الشيطان فيضعف أو يسقط..!
معالجة الضعف:-
1- مهما كنت ضعيفًا، لا تيأس:-
لا تفقد الأمل مطلقًا. لأن اليأس يحطم النفس، ويجعلك خائر القوى، تستسلم للضياع، وتستمر في الضعف وفي الخطأ، وكأنه لا فائدة من الجهاد!! ضع أمامك أمثلة لمن كانوا في حالة أسوأ من حالتك، وقد خلصهم الله من نقائصهم.
2- جاهد بكل ما عندك من قدرة مهما كانت ضئيلة:-
وجهادك يدل على رغبتك في القيام، متذكرًا أن أطول مشوار كانت أوله خطوة، وأن أكبر مشروع ناجح كانت بدايته فكرة. وأن حفنة من القمح ترميها في الحقل تنتج لك جوالات من الحنطة.
3- ابحث عن سبب ضعفك، وحاول أن تعالجه:-
سواء كان في داخل نفسك من صفة فيك، أو من تأثير خارجي عليك أن تقاومه وتبعد عنه. وأعرف أن كل مشكلة لها حلّ أو حلول، وأن كل باب مغلق له مفتاح أو عدة مفاتيح. وكل مرض له وسائل للعلاج..
4- اطلب معونة من الله، واجعل ضعفاتك مجالًا لصلواتك:-
وكن واثقًا أن الله يسمع وأنه يستجيب، لأنه يحب الخير لك، ويعمل لأجل منفعتك. وعليك أنت أيضًا أن تعمل. فالمعونة التي تأتى من فوق يمكن أن تسند الضعف الذي يجاهد ولا يكل وكن باستمرار متفائلًا، متوقعًا خيرًا. وليكن الله معك.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
المزيد
26 فبراير 2021
الباب المفتوح
«مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» (يع4: 17).
إذن ليسَتْ الخطيّة هي فقط التعدِّي وكَسر وصايا الرب. فكثيرًا ما يُبرّر الإنسان نفسه أنّه لا يكذب ولا يحلف ولا يسرق ولا يزني، وحسنًا أن يكون الإنسان هكذا.. ولكن هل تَعلَم أنّ التقصير في فِعل الخير يُحسَب خطيّة؟
هذا القول الإلهي، يضعنا أمام مبدأ روحي غاية في الأهمّيّة من جهة العمل الإيجابي. ليس الامتناع عن السلبيّات شيئًا يدعو إلى الافتخار أو التباهي، فإن كُنّا قد نلنا النعمة وصِرنا أولاد الله، فأي ثمر ينبغي أن نثمر قال القديس بولس عن هذه الأمور إنّها كانت ثمر الطبيعة القديمة الساقطة، وهي التي سلكنا فيها قَبلاً متسكّعين في الخطايا والنجاسات، الأمور التي نستحي منها الآن، التي ذِكرها أيضًا قبيح. أمّا الآن فلكم حياة مقدسة كأعضاء جسد المسيح، ولكم ثمر الحياة الأبدية.قول الرب في القديم أنّ كلّ شجرة تُثمِرُ كجنسها (تك1: 11) هذا قانون إلهي. فإن كُنّا قد قُطِعنا من شجرة البشرية الساقطة وطُعمنا في الكرمة الحقيقيّة، وصِرنا أغصانًا فيها، فثمر حياتنا لابد أن يكون من نِتاج الكرمة الرب يسوع قال: «أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ. كُلُّ غُصْنٍ فِيَّ لاَ يَأْتِي بِثَمَرٍ يَنْزِعُهُ، وَكُلُّ مَا يَأْتِي بِثَمَرٍ يُنَقِّيهِ لِيَأْتِيَ بِثَمَرٍ أَكْثَرَ» (يو15: 1، 2). لذلك نقول إن ثبَتنا في الكرمة الحقيقيّة نأتي بثمر ويدوم ثمرنا، وتصير ثمار الطبيعة القديمة من كلّ أنواع الخطايا غريبة عنا.. نستحي منها، ويستحيل على طبيعتنا الجديدة المولودة من الله أن تتصالح معها «هَلْ تَقْدِرُ يَا إِخْوَتِي تِينَةٌ أَنْ تَصْنَعَ زَيْتُونًا، أَوْ كَرْمَةٌ تِينًا؟» (يع3: 12). لذلك نُكرِّر ونقول إن خَلَتْ حياتنا من ثمر الشرور والخطايا فهذا أمر طبيعي للثابتين في جسد المسيح الذي هو الكنيسة.ورجوعًا إلى الآية أنّ «مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ»، يتوجَّب علينا أن نعي بإدراك روحي أنّ فِعل الخير والصلاح، من تقديم المحبة وإنكار الذات وبذلها من أجل الآخر، والخدمة بجميع أنواعها، وأعمال المساعدة والمعونة والاحتمال والغفران... إلى آخر كلّ الفضائل المسيحية التى رأيناها في سِيَر القديسين.. بحسب ما أعطَتْ النعمة كلّ واحد مِن مواهب واحسانات، فمَن يعرف أن يعمل شيئًا مِن هذه ولا يفعل فقد صار بلا ثمر، وهذا وصفه الروح بأنّه خطية. فإن وضعَتْ النعمة أمامنا فُرصة لعمل الخير فلنسرِع وننتهز الفُرصة كقول الرسول: «لاَ نَفْشَلْ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ لأَنَّنَا سَنَحْصُدُ فِي وَقْتِهِ إِنْ كُنَّا لاَ نَكِلُّ» (غل6: 9). وأيضًا «مُسْرعِينَ إلَى حِفْظِ وَحْدانَّية الروُّحِ برِبَاطِ الصُّلحِ الكَاملِ» (أف4: 3).
«هَا قَدْ جَعَلْتُ أَمَامَكَ بَابًا مَفْتُوحًا» (رؤ3: 8).
النعمة دائمًا تجعل أمامنا بابًا مفتوحًا للدخول وللتحصيل على نعمة أكثر. قد توجَد أبواب مقفولة دوننا، وهذه نحاول أحيانًا الدخول فيها، وإذ نفشل نصاب بالإحباط واليأس أحيانًا مِن كَثرة المحاولات وتكرار الفشل.دَعْ عنكَ الأبواب المغلقة لا ترتبك بها ولا تيأس. خُذْ مثلاً داود النبي والملك.. كان قد اشتهى من كلّ كيانه أن يبني بيتًا للرب، يضع فيه تابوت العهد وتكون فيه الذبائح والتسبيح، بدلاً من كون التابوت موجودًا في خيمة، ولكنّ الرب قال لداود: أنت لا تبني الهيكل.. لأنّك رجل حروب وقد سفكتَ دماء لقد انسدّ هذا الباب الذي اشتهى داود أن يدخل فيه، وصار من المستحيل أن يعمل أو يكمل هذا الأمر. وكُنّا نتصوّر أنْ يلتمس داود لنفسه الأعذار.. ما دام الأمر كذلك، وما دام الرب قد حرمني من هذه النعمة، فماذا عساي أن أفعل؟
على العكس من ذلك وجدنا داود قد انصرف إلى العمل نحو ذات الغرض من الأبواب الأخرى.. إذ جهّز كلّ ما يلزم لبناء الهيكل من ذهب وفضة وأخشاب.. إلى آخره. لم يقف عاجزًا أمام باب مغلق، بل بإيجابٍ استطاع أن يَعمل ويَعمل.. وسلّم سليمان ابنه كلّ ما يلزم للبناء، بل وسلّمه كلّ المقاسات والتفاصيل والأوزان وأراه المثال كاملاً قائلاً: «قَدْ أَفْهَمَنِي الرَّبُّ كُلَّ ذلِكَ بِالْكِتَابَةِ بِيَدِهِ عَلَيَّ (1أخ28: 19).
تأمَّل أيضًا في حياة القديس بولس الرسول لمّا ألقوه في السجن، ماذا يفعل هذا الكارز العظيم الذي طاف العالم يبشّر بالمسيح. لقد تقيّدتْ حرّيّته بين جدران السجن. وكان من الطبيعي أن يجد لنفسه كلّ العذر في أن لا يفعل شيئًا ويستسلم للأمر الواقع، ويقول للرب إن كنتَ تريدني أن أخدم أخرجني من هذا الحبس، لأني أنا هنا عاجز أن أفعل شيئًا.. لقد كان أمام باب مغلق!!
ولكنّه بالروح تجاوز هذا الباب المُغلَق وانفتح له باب عظيم فعّال، فعكف يكتب رسائله المملوءة من النعمة والحكمة إلى جميع الكنائس، بل وإلى كلّ أجيال الكنيسة في كلّ مكان وزمان.والعجيب أنّ رسالته إلى أهل أفسس، التي يسمّيها الدارسون للكتاب المقدس أنها أعلى وأعمق ما كتبه الروح القدس في العهدين. هذه الرسالة كتبها القديس بولس وهو في السجن لم يقف عاجزًا بائسًا ويائسًا أمام باب مقفول، بل تجاوَزَهُ إلى الأبواب المفتوحة توجَد أمور لا يستطيع الإنسان أن يعمل فيها شيئًا، ولكن تَجِدُ أمورًا يستطيع الإنسان بالنعمة أن يعمل فيها ما أجمل هذا المثال الموضوع أمامنا. إنّه وإن كانت أمورٌ لا نستطيع أن نعمل شيئًا فيها. فهناك أمور أخرى كثيرة نستطيع بالنعمة أن نكمّلها لمجد المسيح وانتشار ملكوته.تفكّر يا أخي في قول الرسول: «مَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنًا وَلاَ يَعْمَلُ، فَذلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ» وقُلْ بالنعمة «أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي» (في4: 13).اعملْ في القليل الذي أمامك.. واعملْ بالإمكانيات البسيطة التي لك، وتبصَّرْ في الفُرَص التي تُهيئُها النعمة، ولا تَنظرْ كثيرًا إلى الباب المُغلَق أو إلى الأمور التي يصعُب أن تتجاوَزها. والرب معك.
المتنيح القمص لوقا سيداروس
المزيد
25 فبراير 2021
شخصيات الكتاب المقدس يونان
" قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة "" يون 1: 2 "
مقدمة
نظر الصبى الزنجى الصغير، إلى المدرس الأبيض وسأله: هل كان المسيح أبيض اللون؟.. وقال المدرس: أعتقد ذلك.. ولكن لماذا تسأل هذا السؤال أيها الصبى!!؟ أجاب: إذاً فهو لم يأت لنا نحن السود!!؟.. ووقف المدرس هنيهة متأملا قبل أن يقول: أظن يابنى أن شمس فلسطين قد لوحته، إذ أنه جاء إلى العالم كله، للأسود والأبيض، ولجميع الأجناس لأنه يحب الجميع كان يونان النبى أول مرسل قديم أرسله اللّه إلى الأمم، وقال بروفسور كورنل عن سفره: « لقد قرأت كتاب يونان ما لا يقل عن مائة مرة، وينبغى أن أعترف جهاراً، دون أن أخجل من ضعفى، إننى ما تناولت هذا الكتاب العجيب أو تحدثت عنه دون أن تنهمر الدموع من عينى، ودون أن تسرع نبضات قلبى، فهذا السفر الصغير من أعمق وأعظم ما كتب على الإطلاق، وإنى أقول لكل إنسان يقترب منه: اخلع حذاءك من رجليك لأن الموضع الذى أنت واقف عليه أرض مقدسة.فمن هو يونان صاحب هذا السفر، وما هى الرسالة التى أوكلت إليه، وحاول التملص منها، ثم اضطر إلى قبولها وأتت بثمر لم يكن ينتظره أو يرجوه وكان هو والرسالة موضوع حنان اللّه وشفقته!!؟؟.
دعنا نراه الآن فيما يلى:
يونان ومن هو!!؟
لا نكاد نعرف عن يونان سوى بضع عبارات وردت عنه فى العهد القديم والجديد، وبعض التقاليد اليهودية غير الثابتة، وهذه وتلك قد تعطينا ضوءاً كافياً، لنعرف أنه يونان بن أمتاى، من جت حافر الواقعة فى سبط زبولون والتى تبعد ثلاثة أميال إلى الشمال الشرقى من مدينة الناصرة، والكلمة يونان معناها حماقة « وأمتاى » تعنى حقيقة، وإن كان جيروم يعتقد أن الاسم يونان يعنى « حزين ». وهناك تقاليد متعددة عنه، فالبعض يقول إنه ابن أرملة صرفة صيدا الذى أقامه إيليا من الموت، والبعض الآخر يقول إنه النبى الذى أرسله أليشع ليمسح ياهو بن نمشى، بينما اعتقد آخرون أنه زوج الشونمية التى كانت تضيف أليشع، وأيا كان هو، فإن الثابت أنه تنبأ فى عصر يربعام الثانى، ومن المرجح أنه بدأ نبوته فى أوائل حكم هذا الملك أو عام 785 ق.م.، ويعتقد البعض أنه ذهب إلى نينوى حوالى 763 ق.م. وقد بدأ يونان رحلته وهو هارب من مدينته إلى يافا، الميناء الواقع على بعد اثنين وثلاثين ميلا جنوبى قيصرية، وإلى الشمال الغربى من أورشليم، والتى يقال إنها أقدم مدن فلسطين على الإطلاق، وقد اتجه بالسفينة غرباً إلى ترشيش القريبة من جبل طارق فى أسبانيا، ثم رجع إلى نينوى عاصمة الدولة الأشورية العظيمة، والتى كانت من أعظم وأجمل المدن التى عرفها التاريخ القديم والتى كان محيط دائراتها، عندما ذهب إليها يونان، ستين ميلا أو يزيد، وقد بنيت على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وعلى بعد ستمائه ميل من الخليج الفارسى، وقد كشفت الحفريات الحديثة عما كان لها من مجد ضائع، وعز دارس، ذهب فى بطن الأيام وأحشاء القرون.
يونان والقصد الإلهى
يكاد إجماع الشراح ينعقد على أنه ليس فى أسفار العهد القديم كله سفر استطاع أن يتجاوز التزمت اليهودى، ويعلن عن محبة اللّه، وأبوته لليهود والأمم، كهذا السفر الصغير الذى لا يتجاوز ثمانى وأربعين آية، ولذا لا عجب أن يرى فيه تشارلس ريد الروائى، أنه أجمل قصة كتبت على الإطلاق، ولا عجب أن تكون هذه القصة سبباً فى مجئ القديس كبريانوس إلى المسيح!
والقصة تكشف عن قصد اللّه الثابت والمجيد فى إنقاذ نينوى، والتى كان يبلغ عدد سكانها فى أيام يونان ما يزيد على ستمائة ألف نسمة إذ كان بها من الأطفال الذين لا يعرفون يمينهم من شمالهم أكثر من مائة وعشرين ألفاً (اثنى عشرة ربوة) وكانت مطوقة بسور عظيم يسهل على أربع عربات أن تجرى متجاوره فوقه، أما داخلها فقد كان متسعاً يذخر بالترع والقنوات والميادين، والحدائق والقصور والتماثيل والسلع، والمجوهرات والذخائر والكنوز!!..ولعله مما يسترعى الملاحظة والانتباه، أن اللّه، لكى يثبت قصده، كشف عن هذا القصد: « فأرسل ريحاً شديدة » « فأعد حوتاً عظيماً » « فأعد الرب الإله يقطينة » « ثم أعد اللّه دودة ». (يونان 1: 2 و17، 4: 6 و7) وهل وقفنا لنتأمل الفعل « فأرسل » والفعل الذى كرر ثلاث مرات: « أعد » لقد استخدم اللّه الريح، والحوت، واليقطينة، والدودة، على النحو العجيب المثير لإثبات قصده، أو فى لغة أخرى، أن اللّه كان وراء الطبيعة، والحيوان الضخم، والنبتة الصغيرة، والدودة الحقيرة، لكى يؤكد استخدامه لكل شئ، وهو يثبت قصده عندما تمرد يونان على الرحلة، وبدأ فى الاتجاه العكسى لها، أرسل اللّه له الريح الشديدة العاتية، لتعيده إلى الرسالة التى يلزم أن يؤديها، ويونان كان كموسى، وإرميا، إذ لم يقبل على الرسالة بقلب راغب، واستعداد كامل، كما فعل إشعياء، وهو يقول: « ها أنذا إرسلنى »، (إش 6: 8) وكثيراً ما يرسل اللّه ريحه الشديدة على سفينة حياتنا، وقد تكون هذا الريح فشلا أو ضيقاً، أو اضطراباً أو إفلاساً، أو ما أشبه، حتى تعود هذه السفينة مرة أخرى من ترشيش التى نزمع الذهاب إليها، إلى نينوى التى نرفض أن نتجه إليها،... ومع أن اللّه غضب على يونان، إلا أنه فى الغضب يذكر الرحمة، وقد أعد اللّه لذلك حوتاً عظيماً،... ولم يكن هذا الحوت مصادفة أو خيالا أو رمزاً، كما يزعم النقاد الذين علت القصة فوق إدراكهم، فتصوروها شيئاً يصعب تصديقه، وكان يكفيهم تماماً أن يشير المسيح يسوع سيدنا إلى هذه القصة كواقعة وحقيقة تعتبر صورة أو مثالا لما سيحدث معه هو فى القبر بعد الصليب،.. ولا يستطيع أحد أن يتصور أن المسيح يجعل من قصة رمزية أو خيالية، شبهاً أو رمزاً لقصته هو فى القبر قبل القيامة،... ولو صح هذا، لتحولت قصة المسيح بدورها رمزاً أو خيالاً، وليس موتاً أو صليباً حقيقياً، ألم يقل: «هذا الجيل شرير. يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبى. لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك يكون ابن الإنسان أيضاً لهذا الجيل » (لو 11: 92 و03)؟؟. فإذا كان اليهود قد قبلوا هذه القصة مرغمين وأوردها يوسيفوس المؤرخ اليهودى كواقعة تاريخية فى كتاب الآثار، وإذا كانت توبة نينوى لم تكن مجرد خيال أو تصور بل حقيقة واقعة، فإنه يحق لنا أن نورد ما قاله أحد الشراح اللاهوتيين: « إن ديان المستقبل، وهو يتحدث إلى أولئك الذين سيقفون يوما أمام كرسيه، محذراً، كان لابد أن يعطيهم صورة حقيقية مثالا لحقيقتهم، وهم ماثلون أمامه، ويستحيل أن يعطيهم صورة رمزية، لما سيكونون عليه عندما يمثلون أمام عرشه العظيم، فى يوم القضاء الأبدى، كواقعة حقيقية »... فإذا أضفنا أن مصدر الصعوبة القائمة عند من لا يقبلون القصة، ويعتبرونها حلماً حلم به يونان أو أسطورة ألحقت بالكتاب، وهو ما يستحيل على أهل نينوى قبوله كآية تردهم إلى اللّه، ما لم يكن حقيقة ماثلة أمام عيونهم، إن مصدر الصعوبة راجع إلى أنه لا يعقل أن هناك حوتاً يستطيع أن يبلغ يونان، فى بطنه ليستقر ثلاثة أيام ليال، وأنه شئ، يتجاوز تفكيرهم وخيالهم،... وقد أطلق النقد الأعلى هذا الاتهام المردود والذى تصدى له كثيرون من علماء علم الأحياء، والذين قالوا إن هناك نوعاً من الحيتان يمكنه أن يبتلع رجلاً مهما كان حجمه، والحوت كما نعلم يختلف عن غيره من الأسماك، وهو أشبه بالغواصة التى صنعها الإنسان ليبقى تحت الماء أسابيع وأياماً،... وإذا أمكن أن يصنع الإنسان شيئاً من هذا القبيل، فإنه يحسن بنا أن نذكر التعبير الكتابى كما أشار واحد من المفسرين: « فاعد اللّه حوتاً عظيماً »... واللّه لن يعجز على أسلوب عادى أو خارج أن يعد ذلك،... وقد كان أهل نينوى يؤمنون، على ما يعلق هنرى كلاى ترامبل، بخلائق تخرج من البحر نصفها إنسان والنصف الآخر سمكة،... ومع ما فى هذا الخيال من خرافة،... إلا أنه من السهل أن تأتيهم رسالة من إنسان قذف به الحوت إلى الشاطئ على النحو العجيب الذى صنعه اللّه آية لهم، ليرجعوا عن شرورهم، ويتوبوا عن خطاياهم،.. وقد أدرك يونان أنها رحمة اللّه وليس غضبه، أن يحفظه فى بطن الحوت ليصلى صلاته ويرجع هو، إلى رسالته العتيدة إلى نينوى وإلى جانب ذلك لا ننسى أن اللّه « أعد يقطينة » وهنا نتحول إلى منظر آخر، من الحوت الضخم إلى اليقطينة الصغيرة، ونتحول من رحمة اللّه تجاه الإنسان الغريق إلى ابتسامة اللّه تجاه النفس المغمومة، كان الحر اللافح خارج يونان وداخله، وهو يجلس على مشارف المدينة، وقد امتلأ غيظاً وغضباً وغماً، وأعد اللّه له اليقطينة ليخرجه من هذا الغم المستولى عليه،... وما أكثر ما يفعل اللّه معنا هكذا عندما تستولى علينا الوساوس والهموم، فيرسل اللّه ابتسامته التى تأتى إلينا مفاجأة، وعلى وجه لم تكن نتوقعه،.. قالت سيدة عجوز للرئيس ابراهام لنكولن فى أدق أوقات الحرب الأهلية: « لا تفزع اللّه معك، ونحن نصلى لأجلك، ولن تهزم »... وفرح الرئيس بهذه الكلمات البسيطة التى أخرجته من هوة اليأس العميق الذى وصل إليه!!.. كان الصبى على أعتاب اليأس، عندما رسب فى الامتحان، وكانت قريته كلها تتكلم عن رسوبه، غير أن الراعى التقى به ووضع يده على كتفه، وقال له: أنا أعلم أنك ستنجح!!... وكانت هذه الكلمات هى التى عبرت به الخط الفاصل بين الفشل والنجاح فى تاريخه كله!!.. حاول صموئيل جونسون - وهو شاب فقير - أن يلفت أنظار أحد اللوردات الإنجليز إليه دون جدوى، لكنه لما أصبح كاتباً إنجليزياً عظيماً، أرسل إليه هذا اللورد خطاب تهنئة،.. ورد جونسون يقول: لقد جاءت هذه التحيات ياسيدى متأخرة، لقد كنت فى حاجة إلى كلمة صغيرة واحدة منها فى أيام التعب والفشل والمأساة!!.. لم ينس اللّه أن يعد يقطينة ليونان!!.. على أن اللّه مع ذلك، أعد دودة لتقضى على هذا الفرح بسرعة غريبة،... وذلك لأن اللّه أبصر فى الفرح نوعاً من الأنانية، كانت اليقطينة شيئاً يشبه شجر اللبلاب الذى لا قيمة له، وكان يونان أنانياً بفرحه، فهو يفزع ليقطينة ضاعت دون أن يبالى بمدينة عظيمة تتعرض للضياع!!... كان قصد اللّه ثابتاً وأكيداً فى إنقاذ نينوى!!..
يونان والتمرد الشخصى
كيف تكلم اللّه إلى يونان، وبأية صورة جاء هذا الكلام!!. نحن لا نعلم، غير أننا ندرك أن يونان تحول إلى بركان من الثورة، وتمرد على الرسالة، هل يرجع تمرده إلى شئ فيه، أم شئ فى المدينة نفسها، أم إلى شئ فى اللّه تعالى؟ … يعتقد البعض أن الرسالة فى حد ذاتها كانت لا تتجاوب مع طبيعة يونان، فيونان واسمه « حمامة » وهو أدنى إلى طباع الحمام ووداعته، ليس من السهل عليه أن يتحدث بلغة الزجر والشدة والانقلاب، … قد يكون من السهل على الإنسان أن يتحدث بالناعمات، ويردد ما هو مطلوب أو منسجم مع آذان سامعيه، لكن من أصعب الأشياء وأقساها وأشدها وقعاً على النفس أن يقف منهم – وهو وديع هادئ مسالم – متحدثاً بالعنف والإنذار والتهديد!! على أن البعض الآخر يعتقد أن يونان تمرد على الرسالة، لأنه بطبعه يكره هذه المدينة، وهى مدينة وثنية تتربص ببلاده وشعبه بالغزو والفتح، وهو كرجل إسرائيلى وطنى يهمه أن تزول نينوى من الوجود، لا أن تبقى …!! … ويرى غيرهم أن الأمر يرجع، أكثر من ذلك، إلى يقين يونان فى اللّه، إذ أبصر من وراء ندائه القاسى على المدينة بالانقلاب، نداء آخر بالرجوع والتوبة، وخاف هو أن تتوب المدينة وترجع، فيعفو اللّه ويسامح، إذ هو « إله رؤوف ورحيم بطئ الغضب وكثير الرحمة ونادم على الشر ».. " يونان 4: 2 " وهو لا يريد لنينوى هذا!!..
يونان والهروب العكسى
إن قصة يونان لا تتحدث عن نينوى فحسب، لكنها - أكثر من ذلك - تكشف عن إحسان اللّه ومعاملته لخدامه حتى فى لحظات الضعف التمرد!!.. وقصة الرجل، فى هروبه، تكشف عن بعض الوقائع المثيرة،.. لعل أولها أن الأجرة الجاهزة، أو السفينة المقلعة، ليست بالضرورة دليل العناية أو الموافقة الإلهية،... إن عناية اللّه لا يجوز تفسيرها بالمظهر السطحى الساذج، لعمل يعلم الإنسان تماماً أنه فى الاتجاه العكسى لإرادة اللّه، ولا يجوز لإنسان أن يندفع فى رغبة ما تتمشى مع هواه، ويبصر بعض خطواتها سهلة أو هينة يسيرة، فيعتقد أن هذا هو الجواب المؤكد من اللّه بالموافقة على العمل بصرف النظر عن طبيعته وفحواه،... وما أكثر ما يرتبط الناس ببعض الصور الساذجة أو الخرافية، معتقدين أنها إرادة اللّه، واللّه منها براء،... يتصور بعض المؤمنين أنهم بمجرد أن يفتح الكتاب المقدس، ويضعوا يدهم على آية أو صفحة معينة، فإن هذه الآية أو الصفحة - ستكون - قطعاً - الصوت الإلهى الذى يلزم أن يأخذوا به وينفذوه، وبعض الناس قد يتوهمون هذا الصوت فى حلم جاءهم فى المنام، أو فى رسالة جاءت إليهم من آخر،.. فيأخذون السفينة إلى ترشيش، وهم مطلوبون فى نينوى!!
على أن الأمر الثانى.. أن الهروب العكسى قد لا يضر بنا وحدنا، بل قد يضر أيضاً بالآخرين الذين قد تجمعنا معهم سفينة الحياة، وذلك لأن هروب يونان كاد أن يؤدى " لا بحياته هو " بل بحياة الملاحين الذين كانوا فى السفينة معه أيضاً!!... ومع أن اللّه، عادة، يحاسب كل إنسان على حدة، وبخطاياه، دون أن يمتد هذا إلى غيره، لكن السفينة التى تحملنا معا تتعرض للضياع، لأن فرداً فيها قد يكون فى الاتجاه العكسى لطريق اللّه، فالقائد فى الأمة والراعى فى الكنيسة، ورب البيت فى الأسرة، والصديق فى المجتمع، يرتبطون بلا فكاك مع من يجتمعون معهم فى سفينة واحدة،... ومصيرهم يدور وجوداً أو عدماً، مع الرابطة الواحدة فى السفينة الواحدة،... وإذا نظرنا إلى الأمر من الجانب المنير، فإننا نعلم أن وجود بولس فى السفينة التى أقلعت إلى روما، كان السبب فى إنقاذ جميع الركاب وعددهم مائتان وستة وسبعون، « لأنه وقف بى هذه الليلة ملاك الإله الذى أنا له والذى أعبده قائلا: لا تخف يابولس ينبغى لك أن تقف أمام قيصر، هوذا قد وهبك اللّه جميع المسافرين معك. لذلك سروا أيها الرجال لأنى أومن باللهّ أنه يكون هكذا كما قيل لى » " أع 27: 23 - 25 "...
وثالثاً: إننا قد نصل فى الهروب إلى درجة التثقل بالنوم العميق حتى يأتينا التوبيخ من أهل العالم كما وبخ رئيس النوتية يونان!!.. وأنها لمأساة محزنة لكثيرين من أبناء اللّه فى سقطاتهم، عندما يفعلون مالا يفعله أبناء العالم أنفسهم، ويقف المرء متعجباً: كيف يمكن أن ينحدر المؤمن فى بعض لحظات الزمن، إلى مالا يسقط فيه العالمى، بدافع من الشهامة أو المروءة أو الرجولة أو ما أشبه من صفات أدبية تتملكه وتستولى عليه؟!!.. ألا تتعجب إذ يأخذ إبراهيم درسه من فرعون أولا، وأبيمالك ثانياً؟ ويأخذ اسحق نفس الدرس، لأن الأب أو الإبن لم يعط الصورة الصحيحة الكاملة عن سارة أو رفقة باعتبارها زوجته، ولولا حماية اللّه لحدث الضرر الذى كان لا يمكن تجنبه!!..
يونان والإعياء النفسى
دفع اللّه يونان إلى بطن الحوت، وهناك صلى: « حين أعيت فى نفسى ذكرت الرب » " يونان 2: 7 " وهذه هى نقطة التحول أو الرجوع فى قصة الرجل،... لقد أدرك ضعفه الكامل أمام الريح الشديدة التى لم تفلح كل الجهود فى مواجهتها، وإعيائه الكامل فى بطن الحوت،... لقد كان حراً طليقاً كما يريد اللّه لأبنائه أن يكونوا، أحراراً يسيرون فى خدمة اللّه، دون إكراه أو ضغط، ولكننا ما أكثر ما نسئ استخدام هذه الحرية، فيظهر اللّه اضطراراً إلى أن يأخذها منا، حتى نثوب إلى رشدنا - وكان يونان محتاجاً إلى الإعياء النفسى الكامل حتى يتعلم كيف يعود إلى إلهه ويذكر! على أن هذا الإعياء لم يكن فى فقدان الحرية فحسب، بل، أكثر من ذلك فى ضياع الصحة أو القوة،... لست أعلم كم كانت كمية العشب التى التفت برأسه، وكيف حاول أن يكافحها حتى بدأ كما لو أنه أوشك أن يختنق، وإذ به يذكر الرب،... وما أكثر ما ذكر أبناء اللّه إلههم وهم فى العجز الصحى أو فى سرير المرض. أو فى شدة العلة، أو فى قسوة الداء!!.. وأكثر من ذلك، لقد أصاب يونان الإعياء عندما سقط فى الوحدة والعزلة القاسية، فلا يوجد من يتحدث معه أو يخاطبه فى بطن الحوت، سوى اللّه الذى بقى له، عندما انقطع من أرض الأحياء،... ولعلنا نسأل هنا: ما الداعى إلى ذكر الرب، وما الفائدة من ذلك!!؟ وقد أطبق عليه الحوت وغاص هو معه فى المياه العميقة،... لقد ذكره لأكثر من سبب..
أولا: لأن اللّه أرحم مما كان يصور أو يتخيل،... لو أن اللّه قضى عليه بالموت غرقاً، لما نسب إلى اللّه أدنى لوم، بل كان اللّه عادلا لو فعل ذلك،.. لكنه اكتشف أن اللّه العادل هو أيضاً أرحم الراحمين، لقد أدرك أن سجنه فى بطن الحوت هو الرحمة بعينها، والعناية التى تعلو على كل فهم أو خيال،... لقد تبين أن الحوت تحول بقدرة القادر على كل شئ، إلى فلك آخر كالذى أدخل اللّه فيه نوحاً وأغلق عليه، ليحميه من الهلاك والغرق!!.. وكم يغلق اللّه علينا، ولا يتركنا للحماقة والضياع، عندما يرانا نسعى إلى حتفنا بظلفنا!...
ثانياً: لقد أدرك يونان ان اللّه ليس أرحم فحسب، بل هو أكرم وأطيب من أن يدخل معه فى نوع من المؤاخذه أو الحساب،... لقد كان مجئ الابن الضال إلى أبيه كافياً لأن يستبدل هوانه وجوعه وذله وحاجته بالترحيب والإكرام والعطاء السخى، دون مراجعة أو حساب عما فعل أو أساء،.. وظهر اللّه إلى جانب هذا كله، عندما أمر الحوت بأن يقذف يونان إلى البر،... لقد ظن يونان كما يبدو من صلاته أن انتهى إلى الأبد: « نزلت إلى أسافل الجبال. مغاليق الأرض على إلى الإبد. ثم أصعدت من الوهدة حياتى أيها الرب إلهى »... " يونان 2: 6 ".
ثالثاً: ولكن اللّه إلى جانب أنه أرحم، وأكرم، هو أيضاً أقدر فلا حدود لقوته وقدرته،أما كيف استطاع يونان وهو فى العمق فى قلب البحار أن يذكر الرب،... فإنه ذكره بأمرين عظيمين قريبين إليه أينما يذهب أو يجئ،... لقد ذكره بالإيمان، وما الإيمان إلا تحول النفس والمشاعر والإرادة تجاه اللّه،... وما أجمل أن يدرك الإنسان هذه الحقيقة فى شتى الظروف المحيطة به « أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب؟ إن صعدت إلى السموات فأنت هناك، وإن فرشت فى الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحى الصبح وسكنت فى أقاصى البحر، فهناك أيضاً تهدينى يدك وتمسكنى يمينك » " مز 137: 7 - 10 ".
أما الصلاة فقد كانت من جوف الحوت، وصلاة المتضايق لا يشترط أن تكون فى هيكل أو معبد، أو مع جماعة من الناس يشاركون فى العبادة أو التضرع،... بل يمكن أن تكون فى أعماق البحار أو فى أعلى الجبال، يمكن أن تكون فى السجن أو الأتون، إنها فى المكان الذى يوجد فيه الإنسان إن كارها أو راضياً، لأن اللّه فى كل مكان: « اطلبوا الرب مادام يوجد ادعوه وهو قريب » " إش 55: 6 " ونحن لا نعلم هل استطاع يونان أن يصلى وقفاً أو راكعاً أو منبطحاً على ظهره أو بطنه،... لا يهم الصورة التى يظهر فيها المصلى، إنما المهم أن يكون راكع النفس، منحنى المشاعر، منبطح التسليم، واللّه سيسمعه طالما يتجه فى إعياء النفس بروح الصلاة،... هل كان يصرخ فى الصلاة، هل كان يصلى بصوت يسمع، أم كان يتمتم بشفتيه،... إن الصوت فى حد ذاته يتساوى أمام إذن اللّه، التى تسمع الصوت الصارخ، أو المتمتم، أو الهامس على حد سواء، طالما تخرج صرخة النفس من الأعماق أمام اللّه!!.. لقد صرخ يونان من بطن الحوت واستمع اللّه إلى صراخ نفسه!..
يونان والعودة إلى الرسالة
عاد يونان إلى الرسالة التى هرب منها، وذهب إلى نينوى، لا ليعلن لها فحسب، بل للأجيال كلها - الحقائق العظيمة التالية:-
أولا: إن أبوة اللّه ومحبته وإشفاقه، لا تقف عند حدود اليهود فقط، بل تمتد إلى جميع الناس، إذ الكل خليقته وأبناؤه وذريته،... كان يونان من الحماقة حتى كان يهرب من امتيازه الأعظم فى كل التاريخ، إذ أنه هو المرسل الأول إلى الأمم، أو فى لغة أخرى، أبو المرسلين القدامى والمحدثين فى كل التاريخ... كان وليم كيرى رائد المرسلين فى التاريخ الحديث، وكان شاباً إسكافياً فقيراً لا يملك مالا أو نقوداً أو علماً، ومع ذلك فقد امتلأ قلبه حباً وغيرة على تبشير العالم الوثنى، وقد تحدث فى ذلك الشأن إلى بعض رجال الدين، فلم يجد منها تأييداً أو معونة، بل وجد على العكس تعطيلا وتحقيراً ومقاومة، كان يضع فى دكانه خريطة العالم وقد كتب عليها: « لأنه هكذا أحب اللّه العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية » " يو 3: 16 "... كان يحمل معه الكتاب المقدس وكتاب « الأجرومية » "علم النحو والصرف "، وقد تعلم عدة لغات وذهب إلى الهند. وعندما نذكر أنه فتح الباب أمام جيش المرسلين فى التاريخ الحديث، علينا أن نذكر يونان المرسل الأول فى كل التاريخ، إلى نينوى!! كان يونان وهو لا يدرى أول من تعلم الدرس أنه لا فرق عند اللّه بين اليونانى واليهودى والعبد والحر، والذكر والأنثى، والأسود والأبيض - أو كما قال الرسول بطرس فى بيت كرنيليوس: « بالحق أنا أجد أن اللّه لا يقبل الوجوه بل فى كل أمة الذى يتقيه ويصنع البر مقبول عنده » " أع 10: 34 و35 "أشرنا فى دراسة سابقة إلى دكتور أجرى الذى عاش يدافع عن الملونين ويهاجم التفرقة العنصرية، ولم يكن يضيق بلونه الأسود، بل قال: لو ذهبت إلى السماء وهناك سألنى اللّه عما إذا كنت أرغب فى العودة إلى الأرض كرجل أبيض فإنى أجيبه: إن عندى عملا كرجل أسود أكثر مما يستطيع رجل أبيض أن يؤديه، أرجوك أن ترسلنى ثانياً أسود حتى يمكنى أن أؤدى عملى ».
ثانيا: تعلم يونان ما كان يجهل أو مالم يكن يعلم حق العلم، أن النفس البشرية غالية جداً عند اللّه،: « الذى يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون » " 1 تى 2: 4 ".. وأنه إذا كان يونان قد خرج بيقطينة ظللته، ولكنها إذ ذوت وهى بنت ليلة ولدت، وبنت ليلة ضاعت، فامتلأ غيظاً وهماً وقلقاً، فكيف يكون الأمر بالنسبة لقلب اللّه، كخالق، وهو يرى مدينة عظيمة تهوى إلى قاع الهاوية والجحيم؟... آه! لو نعلم كم يتألم قلب اللّه على النفوس الضائعة، لعشنا حياتنا كلها، ولا هم لنا إلا إنقاذ النفوس الهالكة،... لا لأنها خليقة اللّه فحسب، بل، أكثر من ذلك، لأن المسيح مات من أجلها على هضبة الجلجثة!!..
والأمر الثالث الذى أدركه يونان، هو بركة الألم فى الحياة، لقد أعاده الألم إلى اللّه والرسالة التى هم بأن يهرب منها،... وجاءت نينوى إلى التوبة عندما هددت بالانقلاب!!... ومع أنه شئ محزن وتعس أن يلجأ اللّه إلى أسلوب الشدة مع الإنسان، وكان من الممكن أن يستمع إلى نداءاته الكثيرة بالخير والبركة والجود والمراحم،... لكنها الصفة فى النفس البشرية، التى تجعل اللّه يرحم الإنسان بالتأديب والتهديد والآلام، وربما نعمة فى نعمة طويت..
الأمر الرابع: أن التوبة الشاملة الصادقة ميسورة لأى شعب أو فرد أو جنس، متى اتجه إلى اللّه من كل قلبه وفكره، حتى كانت توبته عملية بالرجوع عن الطرق الرديئة والظلم الذى فى يديه، وأنه ليس فى حاجة إلى كهانة أو وساطة أو شروط، ماخلا الاتجاه إلى اللّه الحى الحقيقى!!..
على أن القصة تعلمنا آخر الأمر غرابة النفس البشرية، وقد تكون من أفضل النفوس على الأرض، إذ هى النفس السريعة التذبذب، الغريبة الأطوار، تفرح وتكتئب، وتتسع وتضيق، دون فاصل زمنى، وتغتاظ مرات كثيرة بالصواب،... ومن الغريب أن نجاح يونان كان فشلا فى تصوره، وأن وقوفه فى وجه الكارثة، كان كارثته الشديدة،... والسر الحقيقى كما ذكر كلفن، أن يونان كان مهتماً بالذات أكثر من اهتمامه بخلاص المدينة أو مجد اللّه!!.كان يونان، كما دعاه الكسندر هويت، الأخ الأكبر الذى غضب لمجئ أخيه، ولم يرد أن يدخل البيت، فخرج أبوه يطلب إليه الدخول... فى الحقيقة أن رجاءنا دائماً فى خلاص النفوس لا يرجع إلينا، بل يرجع إلى قصد اللّه الأبدى ومحبته التى لا تتغير ولا تتبدل!!..
المزيد
24 فبراير 2021
تأملات في سفر يونان النبي
إن سفر يونان النبي مملوء بالتأملات الروحية الجميلة ، نعرض لهذا السفر من الناحية الروحية البحتة وليس من جهة الجدل اللاهوتي سبيلنا هو الاستفادة وليس النقاش. نريد أن نأخذ من هذا السفر الجميل دروسا نافعة لحياتنا، نستفيد من عمل الله ، ومن فضائل الناس ، ومن أخطائهم وما أجمل ما فعلته الكنيسة إذ اختارت هذا السفر ليكون مقدمة للصوم الكبير ، يسبقه بأسبوعين ، بقصة جميلة للتوبة ، وللصوم حتى نستقبل أيام الأربعين المقدسة بقلب نقى ملتصق بالرب والعجيب أن كثيرين من الذين يدرسون سفر يونان ، يركزون على أهل نينوى وصومهم وينسون ركاب السفينة ، وينسون يونان النبي ومشكلته . فماذا كانت مشكلة يونان ؟
مشكلة يونان
إن الله في سفر يونان النبي، يريد أن يعرّفنا حقيقة هامة هي أن الأنبياء ليسوا من طبيعة أخرى غير طبيعتنا ، بل هم أشخاص "تحت الآلام مثلنا" يع 5 : 17.. لهم ضعفاتهم ولهم نقائصهم وعيوبهم، ومن الممكن أن يسقطوا كما نسقط . كل ما في الأمر أن نعمة الله عملت فيهم، وأعطتهم قوة ليست هي قوتهم وإنما هي قوة الروح القدس العامل في ضعفهم ، لكي يكون فضل القوة لله وليس لنا كما يقول الرسول ( 2 كو 4 : 7 )وقد كان يونان النبي من "ضعفاء العالم" الذين اختارهم الرب ليخزي بهم الأقوياء ( 1 كو 1 : 27 ) . كانت له عيوبه، وكانت له فضائله. وقد اختاره الرب على الرغم من عيوبه، وعمل به، وعمل فيه، وعمل معه.. وأقامه نبيا قديسا عظيما لا نستحق التراب الذي يدوسه بقدميه؛ لكي يرينا بهذا أيضا أنه يمكن أن يعمل معنا ويستخدم ضعفنا، كما عمل مع يونان من قبل..
سقطات فى هروب يونان:-
سنرى بعضا من ضعف يونان في موقفه من دعوة الرب.. يقول الكتاب : "وصار قول الرب إلى يونان بن أمتاي قائلا: قم اذهب إلى نينوى المدينة العظيمة، ونادِ عليها، لأنه قد صعد شرهم أمامي. فقام يونان ليخرج إلى ترشيش من وجه الرب، فنزل إلى يافا، فوجد سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها، ونزل فيها ليذهب معهم إلى ترشيش من وجه الرب"وهنا نرى يونان النبي وقد سقط في عدة أخطاء..
كانت السقطة الأولى له هي المخالفة والعصيان:-
لم يستطع أن يطيع الرب في هذا الأمر، وهو النبي الذي ليس له عمل سوى أن يدعو الناس إلى طاعة الرب . عندما نقع في المخالفة ، يجدر بنا أن نشفق على المخالفين . واضعين أمامنا قول الرسول: "اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون أيضا مثلهم .." ( عب 13 : 3 ) على أن سقطة المخالفة التي وقع فيها يونان، كانت تخفي وراءها سقطة أخرى أصعب وأشد هي الكبرياء ممثلة في الاعتزاز بكلمته، وترفعه عن أن يقول كلمة وتسقط إلى الأرض ولا تنفذ كان اعتزازه بكلمته هو السبب الذي دفعه إلى العصيان، وحقا إن خطية يمكن أن تقود إلى خطية أخرى، في سلسلة متلاحمة الحلقات.. كان يونان يعلم أن الله رحيم ورؤوف، وأنه لا بد سيعفو عن هذه المدينة إذا تابت. وهنا سبب المشكلة!
وماذا يضيرك يا يونان في أن يكون الله رحيما ويعفو؟
يضيرني الشيء الكثير : سأقول للناس كلمة، وكلمتي ستنزل إلى الأرض!.. إلى هذا الحد كان يونان متمركزا حول ذاته!
من يستطع أن ينكر ذاته في سبيل خلاص الناس. كانت هيبته وكرامته وكلمته، أهم عنده من خلاص مدينة بأكملها..!
كان لا مانع عنده من أن يعمل مع الرب، على شرط أن يحافظ له الرب على كرامته وعلى هيبة كلمته.. من أجل هذا هرب من وجه الرب، ولم يقبل القيام بتلك المهمة التي تهز كبرياءه وكان صريحا مع الرب في كشف ما بداخل القلب، إذ قال لله فيما بعد عندما عاتبه:
وكان هرب يونان من وجه الرب يحمل في ثناياه خطية أخرى هي الجهل وعدم الإيمان.. هذا الذي يهرب من الرب، إلى أين يهرب، والرب موجود في كل مكان؟!صدق داود النبي حينما قال للرب: " أين أذهب من روحك؟ ومن وجهك أين أهرب؟.. ( مز 139 : 7 – 10 ).. أما يونان فكان مثل جده آدم الذي ظن أنه يختفي من وجه الرب وراء الشجر.. حقا إن الخطية تطفئ في الإنسان نور المعرفة، وتنسيه حتى البديهيات!
وجد يونان في يافا سفينة ذاهبة إلى ترشيش، فدفع أجرتها، ونزل فيها.. العجيب أن الخطيئة كلفته مالا وجهدا. دفع أجرة للسفينة ليكمل خطيته.. أما النعمة فننالها مجانا.. عندما دفع يونان أجرة السفينة خسر خسارة مزدوجة: خسر ماله، وخسر أيضا طاعته ونقاوته العجيب أن الله استخدم عصيان يونان للخير. حقا إن الله يمكنه أن يستخدم كل شيء لمجد اسمه.. اللــه يستخدم الكل!!
لقد عصى يونان أمر الرب، وهرب راكبا السفينة، ولكن الله الذي "يخرج من الآكل أكلا ومن الجافي حلاوة" ( قض 14 : 14 )، الله الذي يستطيع أن يحول الشر إلى خير، استطاع أيضا أن يستخدم عصيان يونان.. إن كان بسبب طاعة يونان يمكن أن يخلص أهل نينوى، فإنه بعصيان يونان يمكن أن يخلص أهل السفينة!!.. وكأن الله يقول له: هل تظن يا يونان أنك قد هربت مني؟ كلا . أنا سأرسلك إلى ركاب السفينة، ليس كنبي، ولا كمبشر، ولا كصوت صارخ يدعو الناس إلى التوبة، وإنما كمذنب وخاطئ وسبب إشكال وتعب للآخرين، وبهذه الصورة سأخلصهم بواسطتك!!
هل ركبت البحر في هروبك يا يونان؟ إذن فقد دخلت في دائرة مشيئتي أيضا.. لأنني أملك البحر كما أملك البر، كلاهما من صنع يدي. وأمواج البحر ومياهه وحيتانه تطيعني أكثر منك كما سترى!!
طاعة المخلوقات غير العاقلة:-
لقد أخجل الرب يونان النبي بطاعة أهل نينوى، وببر أهل السفينة وإيمانهم.. إلا أنه أيضا أخجله بطاعة الجمادات والمخلوقات غير العاقلة. ومن الجميل أننا نرى كل هؤلاء في إرساليات إلهية وفى مهمات رسمية أدوها على أكمل وجه وأفضله. فما هي هذه الكائنات غير العاقلة التي كانت عناصر نافعة في إتمام المشيئة الإلهية؟
"فأرسل الرب ريحا شديدة إلى البحر، فحدث نوء عظيم في البحر حتى كادت السفينة تنكسر" ( 1 : 4 ).. لقد أدت الريح واجبها، وكانت رسولا من الرب، قادت الناس إلى الصلاة، فصرخ كل واحد إلى إلهه وكما أدت هذه الريح الشديدة مهمتها في أول القصة، كذلك أدت مهمة أخرى في آخر القصة، إذ يقول الكتاب: " وحدث عند طلوع الشمس أن الله أعد ريحا شرقية حارة، فضربت الشمس على رأس يونان فذبل فطلب لنفسه الموت.." ( 4 : 8 ) في سفر يونان كانت كل هذه الكائنات مطيعة للرب، الوحيد الذي لم يكن مطيعا هو الإنسان العاقل، يونان ... الذي منحه الله حرية إرادة يمكنه بها أن يخالفه!.. هكذا الإنسان، أما باقي الكائنات فلا تعرف غير الطاعة. على أنه لم يكن كل إنسان غير مطيع في سفر يونان، بل كل الناس أطاعوا، ما عدا يونان؛ النبــى!!
ولم يهرب يونان من المهمة إشفاقا على نينوى من الهلاك، بل على العكس هرب خوفا من أن تبقى المدينة ولا تهلك.. لم يتشفع فيها كإبراهيم عندما تشفع في سدوم. بل إنه حزن واغتاظ واغتم غما شديدا، ورأى أن الموت هو أفضل لنفسه من الحياة، كل ذلك لأن الله لم يتمم إنذاره ويهلك المدينة!
أراد الله للبحر أن يهيج فهاج، وأراد له أن يهدأ بعد إلقاء يونان فيه فهدأ.. ما أعجب الطبيعة المطيعة التي لا تعصى لله أمرا، كالإنسان وكما أمر الحوت الضخم الكبير لكي ينفذ جزءا من الخطة الإلهية، كذلك أمر الدودة البسيطة أن تضرب اليقطينة فيبست.. ما أعجب هذا.. أن نرى حتى الدودة تكون جزءا من العمل الإلهي المقدس الكامل.. حقا ما أجمل قول الكتاب: " انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار" متى 18 : 10 ليتنا نأخذ درسا من كل هؤلاء وندرك نحن أيضا عمق عبارة "لتكن مشيئتك" في حياتنا وحياة الناس. هذه العبارة التي فشل يونان في ممارستها، ولم يستطع أن يصل إليها إلا بعد تجارب كثيرة وصراع مع الله، وعقوبات، وإقناعات.. أخيرا استطاع الله أن يقنعه بخيرية المشيئة الإلهية، مهما كانت مخالفة لمشيئته الذاتية.
بحارة أمميــــون كانوا أفضل من النبي:-
ما أعجب أهل هذه السفينة التي ركبها يونان.. حقا كانوا أممين، ومع ذلك كانت لهم فضائل عجيبة فاقوا بها النبي العظيم. وفيهم تحقق قول الرب: "ولى خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتى بتلك أيضا فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد" ( يو 10 : 16 ) يذكرني أهل هذه السفينة بكرنيليوس قائد المائة، الذي كان في مظهره رجلا أمميا بعيدا عن رعوية الله، ولكنه كان في حقيقته رجلا تقيا خائفا الله هو وجميع بيته!.. لعله تدبير الهي أن ينزل يونان في هذه السفينة بالذات، من أجله ومن أجل هذه السفينة.. لم يشأ الله أن يمضي إلى كورة بعيدة.
فضائل أهل السفينة:-
أول صفة جميلة في بحارة هذه السفينة أنهم كانوا رجال صلاة.. يقول الكتاب: "فخاف الملاحون، وصرخوا كل واحد إلى إلهه، وطرحوا الأمتعة التي في السفينة إلى البحر ليخففوا عنهم" ( 1 : 5 ).نلاحظ هنا أنهم لجأوا إلى الله قبل تنفيذهم ما تتطلبه الحكمة البشرية لإنقاذ الموقف. صلوا أولا ثم ألقوا الأمتعة ليخففوا عن السفينة.. كان كل بحارة السفينة وركابها يصلون، والوحيد الذي لم يكن يصلي في ذلك الوقت هو نبي الله يونان!! وحتى بعد أن أيقظوه، لم يقل الكتاب أنه قام وصلى!
إنه موقف مخجل حقا.. عجيب حقا هو الرب إذ يبكت أحد أنبيائه برجل أممي: "مالك نائما".. ما هذا الكسل والتراخي واللامبالاة؟! ألا تقوم وتصلي كباقي الناس؟ "قم اصرخ إلى إلهك، عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك" كيف خالف الله، وكسر وصيته وهرب منه، واستطاع أن ينام نوما ثقيلا؟! لا بد أن ضميره كان قد نام أيضا، نوما ثقيلا، مثله..
صفة جميلة ثانية نجدها في أهل السفينة أنهم كانوا يبحثون عن الله.. لم يقولوا ليونان في تعصب لديانتهم "قم اصرخ إلى إلهنا"، وإنما قالوا له: "قم اصرخ إلى إلهك، عسى أن يفتكر الإله فينا فلا نهلك".. وهذا يدل على أنهم كانوا يبحثون عن الله..
صفة جميلة ثالثة وهى أنهم كانوا رجال بساطة وإيمان.. لم يكتفوا بالصلاة، وإنما أيضا ألقوا قرعة.. في تقواهم كانوا يشمئزون من بشاعة الخطية ويشعرون أنها سبب البلايا التي تحيق بالإنسان ..
كانوا أيضا أشخاصا عادلين لا يحكمون على أحد بسرعة، بل اتصفوا بطول الأناة وبالفحص وإرضاء الضمير.. أما يونان فاعترف لهم وقال: "أنا عبراني، وأنا خائف من الرب إله السماء الذي صنع البحر والبر، وبمجرد سماعهم ذلك الكلام خافوا خوفا عظيما.. هل إلهك يا يونان هو إله البحر والبر؟ نحن الآن في البحر، إذن فنحن في يد إلهك أنت.. ونحن نريد الوصول إلى البر.. وإلهك هو إله البر أيضا، كما هو إله البحر، إذن فنحن في يديه!!.. لذلك خافوا ووبخوه قائلين: "لماذا فعلت هذا ؟!".. وللمرة الثانية يبَكَّت النبي العظيم من الأمميين وكما كان ركاب السفينة عادلين، كانوا أيضا في منتهى الرحمة والشفقة كانوا يوقنون أنه مذنب ويستحق الموت، ومع ذلك لم يكن سهلا على هؤلاء القوم الرحماء، أن يميتوا إنسانا حتى لو كان هو السبب في ضياع متاعهم وأملاكهم وتهديد حياتهم بالخطر قال لهم يونان: "خذوني واطرحوني في البحر، فيسكن البحر عنكم، لأني عالم أنه بسببي هذا النوء العظيم عليكم".. لقد بذلوا كل جهدهم لإنقاذ الرجل الخاطئ من الموت، ولكن دون جدوى. كانت مشيئة الرب أن يلقى يونان في البحر.. وهكذا أسقط في أيديهم.. ولكن لكي يريحوا ضمائرهم، صرخوا إلى الرب وقالوا: "آه يارب، لا نهلك من أجل نفس هذا الرجل. ولا تجعل علينا دما بريئا، لأنك أنت يارب فعلت كما شئت"وإذ تحققوا أن هذه هي مشيئة الله، وأنهم لا يستطيعون أن يقفوا ضد مشيئته، "أخذوا يونان وطرحوه في البحر، فوقف البحر عن هيجانه" من كل ما سبق يتضح أن هؤلاء البحارة كان لهم ضمير حساس نقي، وأنهم أرادوا بكل حرص أن يقفوا أمام ضميرهم بلا لوم كانت لهؤلاء الناس قلوب مستعدة لعمل الله فيها: كانوا يتلمسون إرادة الله لتنفيذها. ولما وقف هيجان البحر بإلقاء يونان فيه، تأكدوا من وجود الله في الأمر، فآمنوا بالرب، وذبحوا له ذبيحة، ونذروا له نذورا.. وفى إيمانهم بالرب لم يؤمنوا فقط أنه هو الرب، وإنما بتقديمهم للذبيحة أعلنوا أيضا إيمانهم بالدم والكفارة!! وهكذا كسب الله المعركة الأولى، وتمم خلاص أهل السفينة بعصيان يونان.. وبقيت في خطة الله للخلاص مسألتان مهمتان أخريان: وهما خلاص أهل نينوى، وخلاص يونان نفسه.. وهو ما تممه الله بحكمته ومحبته وطول أناته كما ترى عزيزي القارئ من قراءتك لباقي السفر.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنوده الثالث
المزيد