المقالات
18 مارس 2020
صليب الألم... صليب الأمل
يقولون إن المسيح هو أعظم نجار في التاريخ، حيث بنى جسرًا يصل الأرض بالسماء، فقط بعارضتين من الخشب وثلاثة مسامير... هذا هو الصليب الذي صار مذبحًا عليه الذبيحة الدائمة، مسيحنا القدوس، الإله المتأنس من أجل خلاص جنس البشر، لأنه «هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل (صُلب) ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية» (يو3: 16). وصار الصليب فاتحة خلاص انتظرته أجيال وأجيال كما نقرأ في أسفار العهد القديم.ومن المدهش أن يكون «الصليب» في معناه وتاريخه وأحداثه وآثاره هو صورة الألم الشديد والقاسي، وفي نفس الوقت هو صورة الأمل الرائع والواسع أمام الإنسان، وهذا هو سر عظمة الصليب الذي يعشقه كل مسيحي يعيش إيمانه القويم، ويُعبّر عنه باللحن والصلاة والفن والموسيقى والعبادة، ومن خلاله ينال البركة والراحة والسلام والفرح والأمل.صليب الألم:منذ سقوط آدم وحواء وكسر الوصية الإلهية ورفضها وكسر قلب الله الذي خلقهما وأبدعهما وأحبهما جدًا ووضعهما على قمة الخلقة والخليقة.. وكلتهما اختارا طريق الخطية التي عمت العالم فيما بعد، وانتشرت انتشار النار في الهشيم، حتى عبر داود النبي المعتبر بين الأنبياء «... هأنذا بالإثم صُوِّرت، وبالخطية حبلت بي أمي» (مزمور 51: 5).لقد كانت خطة الخلاص على امتداد الزمن والأجيال في حلقات متصلة، ولكن بقيت علامة الصليب رمزًا للعقوبة والألم والعذاب، وصار الألم من أجل الإيمان طريقًا إلى المجد لأنه مشاركة مع المسيح في آلامه.نقرأ هذه الكلمات: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (مت16: 24). «ومن لا يحمل صليبه ويأتي ورائي فلا يقدر أن يكون لي تلميذًا» (لوقا14: 27). وهكذا صــــــــار حمل «صليب الألم» أحد مفردات حياة المسيحي مهما تنوع هذا الألم بين المرض أو الضيق أو الفشل أو الاضطهاد وغير ذلك. وهذا يبين كيف تنظر المسيحية إلى قضية «الألم» حيث صار هناك رفيق وصديق يحمل معك صليب الألم أو سبق وحمله عنكَ. وهذا ما عبّر عنه بولس الرسول حين قال: «مع المسيح صُلبت فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ» (غلاطية2: 20).إن الصلب مع المسيح يعني معانٍ كثيرة: مثل قبول الألم سواء الجسدي أو النفسي أو المعنوي. ويعني أيضًا قبول الموت أو الاستشهاد الفعلي من أجل الإيمان. وقد يعني حياة النُسك والصوم والتوبة والتعفّف وبذل الوقت أو الجهد أو المال حبًا في المسيــــــــــــح ومــــــــــن أجـــــــــل مجد كنيسته.إذا أردت عزيزي القارئ أن تقرأ عن صورة الألم الشديد الذي حمله المسيح من أجلك، افتح الأصحاح 53 من سفر إشعياء وأعلم أنه «إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير..» (يوحنا12: 24و25).نقول في ذكصولوجية عيد الصليب: «الصليب هو سلاحنـــــــــــا. الصليــــــــــب هو رجاؤنـــــــــا. الصليب هـــــــــــــو ثباتنــــــــــا فــــــــي ضيقاتنا وشدائدنا».صليب الأمل:يقول القديس يوحنــــــــــا ذهبــــــــــي الفم: «الصليـــــــــب جعـــــــــــل الأرض سمــــــــــاء. هدم حصونًا وحطم قوة الشرير... حطـــم قيودنا.. وفتح الفردوس.. وأوصل جنس البشر إلى ملكوت السموات... تأملوا الخير الذي عاد علينا... أنشدوا تسابيح التمجيد للغالب.. صيحوا بالصوت العالي: يا موت أين نصرتك؟ ويا هاوية أين شوكتك؟». لم يكن قبر المسيح هو نهاية الصليب، بل كان نصرة الصليب ومحطة انطلاق وأمل ورجـــــــاء نحو الملكوت.إذا كانت العارضة الأفقية في الصليب تمثل الامتداد الذي يكون بين إنسان وآخر.. وعادة تكون آلام الإنسان بسبب إنسان آخر بأي صورة؛ فإن العارضة الرأسية تمثّل الرجاء والأمل المفتوح أمام الإنسان، والذي يصعد عليه نحو الله بواسطة الصلاة المستمرة. وإذا كنا نحتفل بتذكار الصليب المقدس يوم الجمعة الكبيرة، فإننا نحتفل بتذكار القيامة يوم الأحد.. إنه صليب الألم يوم الجمعة الكبيرة، وصليب الفرح يوم الأحد الذي صار هو العيد الأسبوعي للقيامة المجيدة.. إنه يوم النور. دائمًا يوجد أمل ورجاء لأن الصليب هو إعلان محبة الله الدائمة للإنسان صنعة يديه، إذ صار قوة خلاص وقوة رجاء، وهذا ما نعلنه في تسبحة البصخة ونكرره ونحن نصلي في أسبوع الآلام إذ نقول: «لك القوة والمجد والبركة والعزة إلى الأبد. يا عمانوئيل إلهنا وملكنا» (رؤ5: 12،13؛ 7: 12). إنه صاحب القوة ومصدرها، ورجاؤنا في المجد، وبركة حياتنا وعزة وفخر إيماننا القويم، ومكتوب:«إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضًا معه» (رؤ8: 17)«وإن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه، وإن كنا نصبر فسنملك أيضًا معه» (2تي2: 11)«أنا هو القيامة والحياة من آمن بي ولو مات فسيحيا» (يو11: 25)كل أسبوع آلام وأفراح القيامة وجميعكم بخير
قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
17 مارس 2020
الصوم الكبير عودة الى الله
أول وصية:-
"من جميع شجر الجنة تأكل أكلاً وأما شجرة معرفة الخير والشر، فلا تأكل منها؟ لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت" (تك 16:2،17)أنها أول وصية بل الوصية الوحيدة فى الفردوس أن يصوم الإنسان عن نوع معين من الطعام ولا يتناول طعاماً إلا من يد الله أراد الله أن يقول لآدم "ليست حياتك من الطعام، بل بى. إذا أكلت بدونى فستموت" وأراد الشيطان أن يثبت العكس لآدم "أن الحياة، بل والألوهة تكمنان فى الأكل فقط، حتى ولو كان مخالفاً لوصية الله الصالحة"وانطلت الخدعة على آدم فعاش ليأكل وكرسّ الناس كل جهدهم وعمرهم من أجل "لقمة العيش"، وبات الناس لا يفكرون إلا فى المال والأكل والمتع الحسية حاسبين أنها وحدها سبيل السعادة والحياة بمعزل عن الله مع أن الواقع نفسه يعلن فشل هذه الأفكارفليست سعادة الإنسان بالمادة بل بالله الحى الذى يمنحنا كل شئ بغنى للتمتع" (1تى 17:6)أما المادة فى حد ذاتها - وبعيداً عن الله؛ فتصير وثناً بغيضاً، وينبوع موت لكل من يتعلق بها "لأن محبة المال أصل لكل الشرور، الذى إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان، وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة" (1تى 10:6) وتمركز الحياة - هذا - حول الطعام، تسرب دون أن ندرى حتى إلى الروحيين والمؤمنين؛ فصار الصوم فى نظرهم هو امتناع عن الأكل أنه أيضاً تمركز سلبى ولكن الصوم كما تعلّم الكنيسة وتشرحه هو العودة إلى الله:-
1- العودة ألى الله كمركز للحياة:-
فليست الأموال بل الصدقة، وليست الإرادة بل الصلاة، وليست الأطعمة والشهوات بل الصوم والتعفف وهذا أول درس تلقنه لنا الكنيسة... (فى أحد الرفاع) قبل أن نجتاز معاً رحلة الصوم المقدسة.
أ- ففى الصدقة:-
يعلن الإنسان أن ما لديه من أموال هى نعمة استأمنه الله عليها أعطاها له كوكيل صالح ليخدم بها الآخرين بكل فرح "المعطى المسرور يحبه الرب" (2كو 7:9) وإن سعادته ليست فى تخزين الأموال بل فى إنفاقها فى الخير "مغبوط هو العطاء أكثر من الآخذ" (أع 35:20) كذلك فى الصدقة يعلن الإنسان أن حياته وتأمينها فى يدى الله، وليس فى خزائن البنوك إن القضية ليست فى كثرة المال أو قلّته، بل فى نظرة الإنسان له ومحبته واتكاله هل على الله (حتى ولو كان غنياً) أم على الأموال (حتى ولو كان فقيراً) فهناك غنىّ لا يتعلق بالمال وآخر يعبده وهناك فقير يشكر الله ويسعد وآخر ما زال يعبد المال ليست حياتنا من أموالنا بل من الله الذى يعطينا.
ب- الصلاة:-
هى شركة حب يسلم فيها الإنسان ذاته وإرادته وتدبير حياته ليدى ذاك الذى معه أمرنا الصلاة هى عودة إلى الله كمركز للحياة ومحرك لها قديماً قالوا "الصلاة تحرك اليد التى تحرك العالم"، وربنا يسوع المسيح وعدنا أن "كل ما تطلبونه فى الصلاة مؤمنين ستنالونه" (مت 22:21) إن مأساة العالم اليوم أنه قد ترك الصلاة، وسعى وراء العقل والحرية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية بمعزل عن الله ولا يوجد من ينكر قيمة التفكير بالعقل، والمناداة بالحرية، وتحقيق حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وغيرها من مبادئ سامية رفيعة ولكن دعنا نعترف - باتضاع - أن هذه المبادئ لم تحل مشكلة الإنسان فى كل مكان آه لو اقترنت هذه، بروح التقوى والصلاة آه لو اعتنقناها فى نور الإنجيل وليس بمعزل عن الله آه لو ارتقى الضمير وتنزه عن الأغراض لصار العقل بالحقيقة خلاقاً للخير وصارت الحرية سعادة بالمسيح "فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً" (يو 36:8)وصارت حقوق الإنسان مصانة بالحب وبالنعمة وبالعلاقات السليمة بين الناس وليس بالتحايل على القانون وبالغش وبالمحاباة ليست الحياة بإمكانيات الناس بل الله الذى نطلبه فى الصلاة.
ج- والصوم:-
الصوم عن الطعام هو إعلان عملى عن أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة من الله" (لو 4:4) لقد كانت هذه هى الخبرة التى تعلمها بنو إسرائيل فى البرية وصاغها قائدهم العظيم موسى فى هذه العبارة بالروح القدس "وتتذكر كل الطريق، التى فيها سار بك الرب إلهك، هذه الأربعين سنة فى القفر لكى يذلك ويجربك، ليعرف ما فى قلبك، أتحفظ وصاياه أم لا؛ فأذلك، وأجاعك، وأطعمك المن الذى لم تكن تعرفه، ولا عرفه أباؤك لكى يعلّمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل ما يخرج من فم الرب يحيا الإنسان" (تث 2:8،3) والسيد المسيح فى تجسده كان يقصد أن يطعم تابعيه بالبركة فى معجزتى إشباع الجموع؛ لكى يقول لهم ليس السر فى الخمسة أرغفة ولا السمكتين ولكن فى اليد التى تقدم هذا القليل سيشبع الناس ويفضل عنهم بالبركة ليست حياتنا من الأكل بل من يد الله، التى تقدم لنا الأكل بشبع وبركة وفيض كثير فالصوم هو عودة إلى الله ينبوع كل الخيرات وكأننى حينما أصوم أتقدم لله بذبيحة جسدى كمثلما فعل إبراهيم مع ابنه الحبيب الوحيد اسحق الذى بسببه قبل المواعيد أتقدم رافعاً سكين الجوع على جسدى الضعيف المنهك مقدماً إياه ذبيحة حب وطاعة وإعلان إيمان أن الله أهم لدىّ من جسدى ومن كل نفسى حينئذ يتكلم معى ملاك الرب "لا تمد يدك إلى الغلام (جسدى)، ولا تفعل به شيئاً، لأنى الآن علمت أنك خائف الله؛ فلم تمسك ابنك وحيدك عنى" (تك 12:22) ويرفع الصائم عينيه - كما فعل إبراهيم - وينظر "وإذا كبش وراءه ممسكاً فى الغابة بقرنيه فذهب إبراهيم، وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضاً عن ابنه" (تك 13:22) وكبشنا المذبوح عنا وعن جسدنا هو ربنا يسوع المسيح المذبوح على المذبح فى سر الأفخارستيا التى لابد أن ينتهى الصوم بها ليحقق لنا هذا المعنى الجميل لم تكن حياة إبراهيم مرهونة بحياة اسحق بل بالله وعندما قدم إبراهيم اسحق برهن على إيمانه هذا ونحن حياتنا ليست مرهونة بالجسد بل بالله والصوم يبرهن على ذلك وكما أن الله افتدى اسحق بكبش كذلك يفتدينا بدمه وجسده على المذبح وكما أن المذبح لم يميت اسحق بل عظمَّه وصار بالحقيقة بركة وجداً للمسيح بالجسد كذلك لا يميتنا الصوم بل يباركنا ويعظمنا ويجعلنا أهلاً لبيت الله ورعية مع القديسين.
2- العودة إلى الله كنز الخيرات:-
تطبيقاً لما علمتّه لنا الكنيسة فى أحد الرفاع تواصل معنا الدرس فى الأحد الأول من الصوم "لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض بل اكنزوا لكم كنوزاً فى السماء" (مت 19:6-20) فالمسيح هو كنزنا الحقيقى الذى لا يفقد ولا يشيخ ولا يخسر والعودة إلى المسيح هى عودة إلى الغنى الحقيقى.
أ- فالعين شبعانة:-
"سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيراً" (مت 22:6).
ب- القلب شبعان:-
"لا يقدر أحد أن يخدم سيدين... لا تقدرون أن تخدموا الله والمال"(مت 24:6). ومن يعبد الله بالحقيقة يستهن بمحبة المال ويدوس كبرياء الغنى.
ج- والنفس شبعانة:-
"فلا تهتموا قائلين ماذا نأكل؟ وماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم (النفوس الجائعة والبعيدة عن الله والتى لم تجعل الله محور حياتها بل ما زالت منهوكة - ومهمومة بالعالم وتفاصيله المغرقة فى العطب والهلاك) لأن أباكم السماوى يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تزاد لكم" (مت 32:6،33).
3- العودة إلى الله ينبوع النصرة:-
وفى الأحد الثانى تصور لنا الكنيسة أيقونة رائعة فيها المسيح منتصر على الشيطان بكل قوته ودائسا على كل اغراءاته لم يكن المسيح محتاجا أن يحارب الشيطان ويهزمه فالشيطان بكل تأكيد مهزوم وساقط تحت قدمى المسيح ولكنه حارب لنا وعنا لكى يرينا الطريق لقد انتصر المسيح فى ثلاث تجارب:
1- الجسد:-
"أن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزاً" (مت 3:4) ومن يصوم بالحق ينتصر على تجربة الجسد سواء كانت الشراهة أم الجنس أم محبة الراحة والرفاهية وميوعة الحياة فمن يمسك بمفتاح الصوم يستطيع أن يستأمن على كنوز الجسد ومواهبه وقواه.
2- المجد الذاتى:-
"أن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل" (مت 6:4) ومن يصلى بالحق ينجو من فخ المجد الباطل لأن حياته وتدبيرها سيكونان بالله بواسطة الصلاة وكل خدع وحيل إبليس ستنكشف له ويفضحها كما فعل السيد المسيح على الجبل وفى الصليب.
3- القنية والمال:-
"أعطيك هذه جميعها أن خررت وسجدت لى" (مت 9:4) ومن يتصدق بأمواله بفرح وسعادة لا يصير مربوطاً بشهوة الغنى، ولا يستطيع إبليس أن يخترقه ويسيطر عليه لأنه داس بعز على كل مغريات العالم هكذا تأخذنا الكنيسة كأم رؤوم تعلم أولادها وتكشف لهم عن سر أبيهم السماوى وتتدرج بنا فى المعرفة شارحة أساسات الممارسة الروحية (الصوم والصلاة والصدقة) ثم ترينا الكنز الحقيقى المخبوء فى السماء وأخيراً تكشف عن عيوننا لنرى قائدنا وأبانا ظافراً بالشيطان لأنه تسلح بنفس السلاح الذى تطالبنا الكنيسة بأن نتمسك به لننتصر
4- العودة إلى حضن الاب:-
وفى الأحد الثالث من الصوم يسرد لنا السيد المسيح مثل الأبن العائد إلى أبيه لعل الأبن الأصغر هو الأمم الذين شردوا بعيداَ عن الله، والأبن الأكبر هو اليهود الذين عاشوا فى كنف الله ولكنهم لم يكونوا بحسب قصده وفكره الأصغر تاه بعيداَ والأكبر تاه داخل البيت الأصغر هو الشاب المشغول بتفاهات العالم وشهواته، حتى إنه رفض الأب السماوى وابتعد عنه والأكبر لا يفضله كثيراً فهو الشاب المتدين بكبرياء وانحراف ،حتى إنه رفض فرحة الأب بعودة الخاطئ ذروة القصة تكمن فى هذه العبارة المقدسة "أقوم وأذهب إلى أبى فقام وجاء إلى أبيه" (لو 18:15،19).
الصوم الكبير هو موسم هذه العودة المحببة.
عودة الأبن الذى أكل من شهوات الخنازير ولم يعطيه أحد - أى لم يشبع وعودة الابن الذى استكبر أو قل تحجر من كثرة الممارسة الروحية الباردة الآلية دون روح ودون إحساس بالآب السماوى.
ماذا سينتظر العائد هناك :-
- الآب السماوى يتحنن فليس الأب شرطيا ولا جلاداً بل أب.
- الآب السماوى يركض فهو يتوقع أننى متهالك ومتعثر وينتظر منى خطوة واحدة، ليركض هو ويكمل المشوار.
- الآب السماوى يقع على عنقه ويقبله فالحضن الإلهى مفتوح لأعتى الخطاة ولأنجس الأشرار حتى يتطهر بقبلات فم المسيح.
- الحلة الأولى يستعيد الإنسان بهاء معموديته والاستنارة.
- خاتم فى يده الروح القدس يتجدد فينا ويملأنا من مواهبه وثماره.
- العجل المسمن ذبيحة الأفخارستيا العظيمة التى بها نتحد بالله وننال الغفران والثبات والحياة الأبدية.
- نأكل ونفرح طوبى لمن يأكل فى حضور المسيح وفى كنفه.
- الحياة كان ميتا فعاش وكان ضالاً فوجد حقاً بعيد عن الله لا توجد حياة بل وهم وموت ودمار وفى المسيح وحده الحياة.
- كل مالى فهو لك أخيراً يعطينا السيد الآب كل ماله فنصير بالحق أغنياء به وبخيراته المقدسة ليتنا نعود إلى حضن الآب فى هذا الموسم العظيم الذى للعودة المقدسة.
5- العودة إلى الينبوع الحى :-
"لأن شعبى عمل شرير. تركونى أنا ينبوع المياه الحية؛ لينقروا لأنفسهم آباراً. آباراً مشققة لا تضبط ماء" (أر 13:2) الماء الذى كانت تشرب منه السامرية كان ماء غير مروٍبل كانت تعطش أيضا إلى الشهوات والنجاسات "كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا" (يو13:4) وهى مسكينة لأنها عطشانة لم تجد ما يرويها فلجأت، إلى آبار العالم المشققة، لعلها ترتوى ولكن عطشها كان يزيد فى كل مرة "وكان لكِ خمسة أزواج والذى لكِ الآن ليس هو زوجك" (يو18:4) عندما رجعت إلى ينبوع ماء الحياة هناك الارتواء بالحق "لو كنت تعلمين عطية الله ومن هو الذى يقول لكِ أعطينى لأشرب لطلبتِ أنتِ منه؛ فأعطاكِ ماءً حيا" (يو 10:4) "من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا فلن يعطش إلى الأبد بل الماء الذى أعطيه يصير فيه ينبوع ماء ينبع إلى حياة أبدية" (يو14:4) مسكينة هى النفس التى لم تلتق بعد بينبوع ماء الحياة من يستطيع أن يطفئ لهيب ظمأ الناس من يستطيع أن ينجو من هلاك العطش إلى الشهوات الينبوع وحده قادر أن يروى ويشفى ويسعد الإنسان "يا سيد أعطنى هذا الماء لكى لا أعطش ولا آتى إلى هنا لأستقى" (يو 15:4) أعطنى من مياه ينبوعك النقى؛ لكى لا احتاج مرة أخرى إلى قاذورات العالم، ولكى لا آتى هنا مرة أخرى إلى حيث أماكن العثرة والخطية والضياع حقا إن "النفس الشبعانة تدوس العسل وللنفس الجائعة كل مر حلو" (أم 7:27) فأعطنى يا سيدى القدوس أن أرجع إليك؛ لأشبع بك فأدوس على عسل العالم المروأنكر الفجور والشهوات، وأكون لك إلى المنتهى.
6- العودة إلى الله الشافى:-
كان المفلوج ملقى على الأرض به مرض منذ ثمان وثلاثين سنة، ينتظر تحريك الماء حتى يبرأ إنه عاجز عن الحركة لا يستطيع العودة يا للعجب أن الطبيب بنفسه جاء إليه ليشفيه وقال له "أتريد أن تبرأ" (يو6:5) ما هذه العذوبة يا للرقة هل تستأذن منه لكى تشفيه؟!!
يقول يسوعنا الحبيب لقد انتظرته كثيراً (38 سنة) لكى يعود، لكنه تقاعس حتى ضمرت أطرافه، وضاعت منه أى فرصة للعودة كان لابد أن آتى بنفسى لأفتقده ولكن ليس دون رأيه لم يكن مرضه مرضا عاديا بل كان ثمرة خطية "ها أنت قد برأت؛ فلا تخطئ أيضا لئلا يكون لك أشر" (يو14:5).
سيدى المحبوب ها أنا مفلوج ولى زمان طويل متكاسل فى فراش المرض والخطية حتى ماتت فىّ كل رغبة فى التوبة وذبلت فىّ كل رغبة للصلاة والعودة إليك فهل لى فى هذا الموسم المبارك أن تفتقدنى بصلاحك وتبرئنى أننى عاجز عن العودة فهل لى أن تأتى إلىّ؟ لقد فشلت معى بركة بيت حسدا بكل أروقتها الخمسة فهل تأتى إلىّ لتشفينى بالكلمة؟ ليس لى ملجأ سواك وليس لى طبيب إلا إياك فدعنى أقبل نعمتك كما قبلها المفلوج فحمل سريره، ونهض ليخدمك ويبشر باسمك فى كل مكان.
7- العودة إلى نور العالم:-
كان المولود أعمى يعيش فى الظلام ككل إنسان محروم من نور المسيح جاء إليه النور "مادمت فى العالم؛ فأنا نور العالم" (يو 5:9) "مضى واغتسل وأتى بصيراً" (يو 7:9) ورأى النورلم يكن النور الذى رآه هو الشمس بل نور المسيح كان شاول الطرسوسى يظن انه يرى بنور الناموس، ولم يكن يدرى أن هناك قشور على عينيه كان يحتاج أن يعتمد من حنانيا؛ لتتساقط القشور ويستعيد رؤية نور المسيح سيعيش العالم فى ظلام الخطية والجهل والشهوة والدمار؛ حتى يعود إلى المسيح النور الحقيقى الذى يضئ لكل إنسان إن الصوم الكبير هو موسم استعادة الاستنارة التى أخذناها فى المعمودية إنه موسم ملء المصباح بزيت الصوم والقداس حتى نكون فى زمرة العذارى الحكيمات أصحاب المصابيح الموقدة، والآنية المليئة بالزيت، والمستعدات للقاء العريس السماوى فعريسنا سيفرح باستنارتنا وسيضفى حينئذ علينا من بهاء مجده "استنارت الأرض من بهائه" (رؤ 1:18) طوبى للنفس التى تعود إليه تتأمل فى وجهه "نظروا إليه واستناروا، ووجوههم لم تخجل" (مز5:34) مأساة الإنسان انه قد تلهى عن الله ليتنا فى الصوم نعود إليه فى هدوء، ونجلس تحت قدميه بسكون "بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (إش 15:30).
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
عن كتاب الصوم الكبير عوده الى الله
المزيد
16 مارس 2020
حياة النمـو
+ النمو سمة الحياة: كل الكائنات الحية تختبر خاصية النمو في حياتها، فالطفل يولد ثم ينمو ليصل إلى المراحل المتعددة: الصبا والشباب والنضوج والرجولة والحكمة.. الخ. وكذلك النبات يُزرع بذرة صغيرة تنمو فتكبر وتصير نباتًا ثم شجرة صغيرة ثم شجرة كبيرة مثمرة.. فحبة الخردل وهي أصغر جميع البذور تصير شجرة كبيرة تتآوى فيها جميع طيور السماء.. وهكذا بقية الكائنات الحية كلها تبدأ صغيرة وتكبر في مراحل العمر المتعددة.
+النمو تحدي لكل المعوقات: لا شك أن كل مَنْ ينمو في هذه الحياة يواجه تحديات في كل مراحل حياته، سواء في الصغر أو في الكبر، من أمراض أو عوامل الفناء الكثيرة التي تعمل في هذا الكون.. فالبقاء يمثل قوة تقاوم عوامل الفناء هذه، والنتيجة هي النمو واكتساب حصانة قوية ضد كل ما يُعطل النمو هكذا قال القديس بولس: «ننسى ما هو وراء ونمتد إلى ما هو قدام» (في13:3).
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: "إذ يستحيل على الذين يصعدون ويبلغون القمة أن يتحاشوا الشعور بالدوار، لهذا يحتاجون ليس فقط أن يتسلقوا صاعدين، بل وأن يكونوا حذرين عند بلوغهم الذروة، فالحذر شيء وفقدان توازن رؤوسنا عندما نرى المسافة التي تسلقناها شيء آخر، فلنلاحظ ماذا تبقى لنا أن نصعد ونهتم بهذا".
+النمو الروحي هو سعي نحو الهدف: فهدف مَنْ يحيا مع الله هو الإعداد للوصول للحياة الأبدية كهدف رئيسي تُمهّد له كل الأهداف القريبة الأخرى كالصلاة والنقاوة والتوبة والجهاد ووسائط النعمة الكثيرة..الخ. ولقد حَذَّرَ القديس بولس من الانشغال بأي هدف آخر كبديل للحياة الأبدية فقال: «فليفتكر هذا جميع الكاملين منَّا، وإن افتكرتم شيئًا بخلافه فالله سيعلن لكم هذا أيضًا» (في3: 15)، بمعنى أن مَنْ ينشغل عن هذا الهدف الأساسي وهو الحياة الأبدية، بأي هدف آخر كالمواهب أو العطايا اللازمة للخدمة، وهي مجرد وسائل ولا ترقى لمستوى الهدف الأساسي وهو الملكوت الأبدي..
+النمو هو الوسيلة المثلى للترقّي الروحي المنشود: فأي بداية لابد أن تكمل حتى تصل إلى المستوى المطلوب الذي ينشده الرب لنا، وهذا ما نوّه عنه القديس بولس حين قال: «ليس أني قد نلت أو صرت كاملًا، لكني أسعى لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضًا المسيح يسوع، أيها الأخوة أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت ولكني أفعل شيئًا أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع» (في3: 12، 14).
يقول القديس أمبروسيوس: "يوجد شكلان للكمال شكل عادي وآخر علوي، واحد يُقتنى هنا والآخر فيما بعد، واحد حسب القدرات البشرية والآخر خاص بكمال العالم العتيد، أما الله فعادل خلال الكل، حكيم فوق الكل، كامل في الكل".
فمن يبدأ ولا ينمو لا يستطيع أن يدرك ما يود أن يدركه ولا يسعى نحو الغرض.. لذلك فكل عمل روحي له بداية وله تكمله أيضًا، فالصلاة تبدأ بالجسد ثم بالفكر ثم بالروح ثم بالروح والذهن ثم بالاستعلانات الإلهية..الخ. وكذلك في الصوم: صوم الجسد ثم صوم اللسان ثم صوم الفكر ثم صوم الحواس جميعًا..الخ.. وهكذا بقية الوسائط الروحية... لابد أن يتحقق فيها النمو ويتحول هذا الجهاد إلى مكآفأة كرامة بهية أبدية.
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين أسقف المنوفية وتوابعها
المزيد
15 مارس 2020
الأحد الثالث للصوم الكبير مثل الابن الضال
من تفسير القديس كيرلس (لوقا 15 : 11- 32)” وقال : إنسان كان له ابنان. فقال أصغرهما لأبيه يا أبى أعطني القسم الذي يصيبني من المال. فقسم لهما معيشته. وبعد أيام ليست بكثيرة جمع الابن الأصغر كل شئ وسافر إلى كورة بعيدة وهناك بذر ماله بعيش مُسرف. فلما أنفق كل شئ حدث جوع شديد في تلك الكورة فابتدأ يحتاج . فمضى والتصق بواحد من أهل تلك الكورة . فأرسله إلى حقوله ليرعى خنازير. وكان يشتهى أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله. فلم يعطه أحد. فرجع إلى نفسه وقال: كم من أجير لأبى يفضل عنه الخبز وأنا أهلك جوعًا. أقوم وأذهب إلى أبى وأقول له يا أبى أخطأت إلى السماء وقدامك. ولست مستحقًا أن أدعى لك ابنًا. اجعلني كأحد أجراك. فقام وجاء إلى أبيه. وإذ كان لم يزل بعيدًا رآه أبوه فتحنن ورقد ووقع على عنقه وقبله . فقال له الابن يا أبى أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًا بعد أن أدعى لك ابنًا . فقال الأب لعبيده أخرجوا الحُلة الأولى وألبسوه واجعلوا خاتمًا في يده وحذاء في رجليه. وقدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح. لأن ابني هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوجد. فابتدأوا يفرحون. وكان ابنه الأكبر في الحقل فلما جاء وقرب من البيت سمع آلات طرب ورقصًا. فدعا واحدًا من الغلمان وسأله ما عسى أن يكون هذا. فقال له: أخوك جاء فذبح أبوك له العجل المسمن لأنه قبله سالمًا. فغضب ولم يرد أن يدخل. فخرج أبوه يطلب إليه. فأجاب وقال لأبيه: ها أنا أخدمك سنين هذا عددها وقط لم أتجاوز وصيتك. وجديًا لم تعطني قط لأفرح مع أصدقائي. ولكن لما جاء ابنك هذا الذي أكل معيشتك مع الزوانى ذبحت له العجل المسمن. فقال له يا بنى أنت معي في كل حين وكل ما لي فهو لك ولكن كان ينبغي أن تفرح وتسر لأن أخاك هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوجد “.
مقدمة عن مثل الابن الضال:-
محبة الأب : يوضح الرب فى المثل محبة الأب للابن الأصغر إذ يذكر أن الابن بعد رجوعه بدأ يقول ” أخطأت إلى السماء وقدامك ولست مستحقًا أن أدعى لك ابنًا ” وهنا لم يعطه الأب فرصة لكى يكمل بقية قوله الذى كان عازمًا أن يقوله “اجعلنى كأحد أجراءك” !! بل قال لعبيده بسرعة “أخرجوا الحلة الأولى وألبسوه …” هذه صورة لمحبة المسيح العجيبة للخطاة وحنانه الفائق نحوهم. فإن المسيح الذى يقابل الأب فى المثل يغمر الإنسان التائب بمحبته ولايقبل أن يعامله كأحد الأجراء رغم أنه قد أخطأ . فعندما نتوب ونرجع إلى حضن محبته يفرح بنا ويدعونا أبناء رغم شعورنا بعدم استحقاقنا أن نكون أبناء .
الحلة الأولى: الحلة الأولى هى حلة البنوة أى هى الحلة الأصلية التى كانت للابن الأصغر وفقدها بالابتعاد عن أبيه. هكذا كل من اعتمد باسم المسيح هو ابن لله بالمعمودية وحتى إن ضيع الإنسان كل ما ناله من الله فإنه عند رجوعه يظل فى نظر الله المحب ابنًا. لذلك يقول الأب ” ألبسوه الحلة الأولى “، ألبسوه اللباس الخاص بالابن. ولأن الابن الوحيد الحقيقى لله هو المسيح نفسه فإن الإنسان يصير ابنًا لله بأن يلبس المسيح كما يقول الرسول ” لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح ” (غلا 26:3،27). فالإنسان إذًا يلبس المسيح بالمعمودية باسمه وعندما يتوب الابن عائدًا إلى حضن الأب فإنه يستعيد جمال طبيعة المسيح الذى اتحد به فى المعمودية رغم أنه كان قد ضيع هذا الجمال عندما تغرب عن أبيه.
التوبة الحقيقية: فى الواقع أن التوبة الحقيقية ليست مجرد شعور الإنسان ببعض الأخطاء الصغيرة أو السطحية، بل هى شعور عميق جدًا يصاحبه إدراك الإنسان أن كيانه الداخلى قد فسد، وأن طبيعته قد تشوهت، وأنه حرم نفسه من محبة الله، وأضاع الغنى الإلهى الذى كان له. وهكذا تكون توبته هى أحساس عميق جدًا وإنكسار للقلب عند قدمى المسيح وفى نفس الوقت يكون هناك رجاء شديد جدًا يملأ قلبه أن المسيح المحب لايمكن أن يرفض قبوله. التوبة الحقيقية حبً جارف يتحرك فى قلب الإنسان . ومصدر هذا الحب هو الله الذى يحب الإنسان قبل أن يتوب الإنسان ويستيقظ من غفلته، ومحبة المسيح التى أظهرها للخطاة بمجيئه وتعامله معهم وموته من أجل الجميع هى التى تحرك قلب الإنسان فيرجع إلى المسيح.
وليمة الفرح السماوى: وبعد ذلك يقول الأب فى المثل: ” قدموا العجل المسمن واذبحوه فنأكل ونفرح “. هذه إشارة إلى فرح الله وملائكته القديسين برجوع الخطاة التائبين. فإن الله يشبع ويفرح وهكذا تفرح ملائكته بتوبتهم. وهذا يكشف لنا قوة المحبة الإلهية فى ترحيبها بالإنسان الراجع إليها. وهذه المحبة تجعل الإنسان الراجع يشترك فى هذا الفرح السماوى الذى تعبر عنه الوليمة.
ابنى هذا: ثم بعد ذلك يذكر الأب كلمة مُلفته فيقول ” لأن ابنى هذا” وهذا يعنى أنه رغم ضلال الابن الأصغر وابتعاده لكنه يظل ابنًا عند أبيه وإن كان ابنًا ميتًا ثم عاد إلى الحياة ” ابنى هذا كان ميتًا فعاش وكان ضالاً فوُجد “. فكأنه يقول هذا هو ابنى وهو أحشائى حتى إن كان قد ضل. ومهما قال هو عن نفسه أنه لايستحق أن يكون ابنى لكنى أقول ” هو ابنى “هذه هى النعمة العظيمة التى وهبها لنا المسيح ـ بموته عنا وقيامته وبسكب روحه القدوس علينا ـ أى أن يجعلنا أبناء وهو يريدنا دائمًا أن نكون أبناء نحيا فى حضن محبته الإلهية الابن الأكبر: يخبرنا مثل الابنين أن الابن الأكبر لما رجع من الحقل وقرب من البيت سمع صوت آلات طرب ورقص. ولما سأل واحدًا من الغلمان عما حدث عرف أن أباه عمل وليمة فرحًا بعودة ابنه الأصغر. فغضب الابن الأكبر ولم يرد أن يدخل. فلما خرج أبوه يطلب إليه أن يدخل قال الابن الأكبر لأبيه ” ها أنا أخدمك سنين هذا عددها وقط لم أتجاوز وصيتك وجديًا لم تعطنى قط لأفرح مع أصدقائى ولكن لما جاء ابنك هذا الذى أكل معيشتك مع الزوانى ذبحت له العجل المسمن “موقف الابن الأكبر هذا يُشبه موقف الكتبة والفريسيين فى تذمرهم على المسيح لأنه كان يقبل الخطاة ويأكل معهم. ويظهر من كلامه أنه لم يكن متمتعًا بمحبة أبيه التى كان يحبه بها رغم أنه كان فى البيت ولم يغادره. والأب يؤكد له هذه المحبة بقوله له ” يا ابنى أنت معى فى كل حين وكل مالىّ فهو لك “، ولكن الابن الأكبر لم يكن عنده اليقين بمحبة أبيه ونصيبه عند أبيه. لأنه يقول ” وجديًا لم تعطنى قط لأفرح مع أصدقائى “. ورغم أن أباه يؤكد أن كل ما للأب فهو له إلا أنه بسبب نقص المحبة فى داخله والثقة فى محبة أبيه لم يأخذ شيئًا من أبيه رغم أن الأب يقدم له كل شئ. فلأن الابن الأكبر لم يأخذ طبيعة المحبة من أبيه ، لذلك ليس عنده قلب مُحب مثل أبيه يحب به أخاه ويفرح بعودته مثل فرح الأب. وحالة الابن الأكبر هى أيضًا ابتعاد عن محبة الله وإن كانت صورة أخرى للابتعاد غير صورة الابن الأصغر. ولكن أى ابتعاد عن محبة الله يحتاج إلى توبة ورجوع إلى ينبوع المحبة الذى هو الله .
تفسير مثل الابن الضال للقديس كيرلس الأسكندري:-
إني أسمع أحد الأنبياء القديسين وهو يحاول أن يربح البعيدين عن الله إلى التوبة. فيقول ” أرجع يا إسرائيل إلى الرب إلهك لأنك قد تعثرت بإثمك خذوا معكم كلامًا وأرجعوا إلى الرب ” (هو2،1:14). لذلك فأي نوع من الكلام يأمرهم بإرشاد الروح، أن يأخذوه معهم ؟ ألا يكون لائقًا بالذين يرغبون أن يتوبوا، أن يرضوا الله، الذي هو شفوق ويحب الرحمة؟ لأنه قد قال بواسطة أحد الأنبياء القديسين، ” ارجعوا أيها البنون العصاة لأشفى عصيانكم” (إر22:3). وأيضًا يقول بصوت حزقيال ” ارجعوا، توبوا وارجعوا عن كل معاصيكم يا بيت إسرائيل، اطرحوا عنكم كل معاصيكم التي عصيتم بها، لكي لا تصير لكم مهلكة .. لأني لا أسر بموت الخاطئ. بل أن يرجع ويحيا ” (حز31،30:18). ونفس هذا الحق يعلمه لنا المسيح هنا في هذا المثل الجميل، الذي سأحاول أن أبحثه بأقصى طاقة ممكنة عندي، وسأجمع نقاطه الهامة باختصار وسأشرح وأدافع عن الأفكار التي يحويها يرى البعض أن الابنين في المثل يشيران إلى الملائكة القديسين، من ناحية وإلينا نحن سكان الأرض من الناحية الأخرى. وأن الابن الأكبر، الذي عاش بتعقل، يمثل مجموع الملائكة القديسين، بينما الابن الأصغر المنحرف يمثل الجنس البشرى. وهناك آخرون بيننا يعطون المثل تفسيرًا مختلفًا، قائلين إن الابن الأكبر السالك حسنًا يشير إلى إسرائيل حسب الجسد، بينما الابن الأصغر الذي اختار أن يعيش في الشهوات والملذات والذي ابتعد بعيدًا عن أبيه، إنما يشير إلى جمهور الأمم الوثنيين. هذه الشروحات أنا لا أوافق عليها وأرجو ممن يحب التعلم، أن يبحث ما هو حقيقي وما ليس عليه اعتراضات لأن ما أقوله هو كما يأتي “ أعط فرصًا للحكيم، وقدم معرفة للأبرار ” (أم9:9) كما يوصى الكتاب، لأنهم من الشروحات التي تعطى لهم سوف يفحصون عن المعنى المناسب، فإن كنا، نشير بالابن المستقيم إلى الملائكة، فإننا لا نجده يتكلم الكلمات التي تليق بالملائكة، ولا نجده يشارك الملائكة فرحهم بالخطاة التائبين الذين يرجعون من حياة دنسة إلى حياة وإلى سلوك جدير بالإعجاب. لأن مخلص الجميع يقول ” إنه يكون فرح في السماء قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب” (لو7:15)، بينما الابن الموصوف لنا في هذا المثل، باعتباره مقبولاً من أبيه، ويسلك حياة بلا لوم، يظهر أنه غاضب، بل ويصل في مشاعره غير الحبية إلى درجة أنه ينسب اللوم إلى أبيه بسبب محبته الطبيعية لابنه الذي خلص. فالمثل يقول ” إنه لم يرد أن يدخل البيت“. لأنه أغتاظ بسبب قبول الابن التائب ومن ذبح العجل المسمن ولأن أباه صنع له وليمة. ولكن هذا كما قلت ، يختلف عن مشاعر الملائكة القديسين. لأنهم يفرحون ويسبحون الله حينما يرون سكان الأرض يخلصون. لأنه حينما أخضع الابن نفسه ليولد بالجسد من امرأة في بيت لحم، حمل الملاك عندئذ الأخبار السارة إلى الرعاة قائلاً: ” لا تخافوا فها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب ، لأنه ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب“، والملائكة يتوجون الذي ولد بالتمجيد والتسابيح قائلين ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وفى الناس المسرة” (لو10:2،11،14) ولكن إن كان أي أحد يقول، إن إسرائيل حسب الجسد هو المقصود بالابن الأكبر في المثل الذي كان متمسكًا بوصية أبيه فإننا أيضًا لا نستطيع أن نوافق على هذا الرأي، ذلك لأنه من غير المناسب على الإطلاق أن نقول عن إسرائيل أنه عاش حياة بلا لوم. ففي كل الأسرار الموحى بها نجد شعب إسرائيل متهمين بأنهم متمردون وعصاة؛ لأنهم قد أُخبروا بصوت إرميا ” ماذا وجد فيَّ آباؤكم من جور حتى ابتعدوا وساروا وراء الباطل وصاروا باطلاً؟” (إر5:2). وتكلم الله أيضًا بعبارات مشابهة بصوت إشعياء: “ هذا الشعب قد اقترب بفمه، وأكرمني بشفتيه، وأما قلبه فأبعده عنى، وهم يعلّمون تعاليم هي وصايا الناس” (إش13:29). فكيف يستطيع أحد أن يطبق على أولئك الذين يُوجه إليهم اللوم هكذا، الكلمات المستعملة فى المثل عن الابن الأكبر المتمسك بوصية أبيه؟ لأنه قال ” هاأنا أخدمك سنين هذا عددها، وقط لم أتجاوز وصيتك“، لأنهم لم يكونوا ليلاموا على طريقة حياتهم لو لم يتعدوا الوصايا الإلهية، وبذلك أدوا بأنفسهم إلى حياة مستهترة مدنسة وأيضًا يقول البعض إن العجل المسمن الذي ذبحه الأب حينما رجع ابنه إنما يشير إلى مخلصنا. ولكن كيف يمكن للابن الأكبر الذي يوصف أنه حكيم وفطين ومتمسك بواجبه والذي يشير به البعض إلى الملائكة القديسين ـ كيف يمكن لذلك الابن أن يعتبر ذبح العجل سببًا للغضب والغيظ؟ كما أننا لا نستطيع أن نجد برهانًا على أن القوات السماوية قد حزنت حينما احتمل المسيح الموت بالجسد أي حينما ذُبح المسيح لأجلنا. إنهم بالحرى فرحوا، كما قلت عندما رأوا العالم يخلص بدمه المقدس، وأيضًا ما هو السبب الذي جعل الابن الأكبر يقول ” جديًا لم تعطني قط“. فأي بركة كانت تنقص الملائكة القديسين، إذ أن رب الكل قد أنعم عليهم ـ بيد سخية بفيض من المواهب الروحية؟ وهل كانوا يحتاجون إلى أية ذبيحة فيما يخص حالتهم؟ لأنه لم يكن هناك احتياج أن يتألم عمانوئيل أيضًا نيابة عنهم. ولكن إن تخيل أحد كما سبق أن قلت، إن المقصود بالابن الأكبر هو إسرائيل حسب الجسد، فكيف يستطيع أن يقول بالحق “جديًا لم تعطني قط؟“، لأنه، سواء دعوناه عجلاً أم جديًا فالمسيح هو الذي يجب أن يُفهم أنه هو الذبيحة المقدمة لأجل الخطية. ولكنه قُدِمَ ذبيحة ليس لأجل الأمم فقط، بل أيضًا لكي يفدى إسرائيل، الذي بسبب تعدياته الكثيرة للناموس، قد جلب على نفسه لومًا عظيمًا، وبولس الحكيم يشهد لهذا الأمر قائلاً: ” لذلك يسوع أيضًا لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب ” (عب12:13) فما هو موضوع المثل إذن؟ دعونا نفحص المناسبة التي قادت إليه، فإننا بذلك سنتعلم الحقيقة. لذلك فإن لوقا المبارك نفسه قد تكلم قليلاً عن المسيح مخلصنا قبل هذا المثل فقال: “ وكان جميع العشارين والخطاة يدنون منه ليسمعوه. فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين هذا الإنسان يقبل الخطاة ويأكل معهم ” (لو2،1:15). لذلك فلأن الفريسيين والكتبة اعترضوا على رحمته ومحبته للإنسان، وبشرٍ وبعدم تقوى لاموه على قبول وتعليم الناس الذين كانت حياتهم مدنّسة، فكان من الضروري أن يضع المسيح أمامهم هذا المثل، ليريهم هذا الأمر ذاته بوضوح: إن إله الكل يريد من الإنسان الثابت والراسخ، والذي يعرف أن يعيش حياة مقدسة وقد وصل إلى ما يستحق أعلى مديح لأجل تعقله في السلوك، يريد من هذا الإنسان أن يكون مخلصًا في اتباع مشيئته، لكن حينما يرى أي واحد قد دُعِيَ إلى التوبة حتى إن كان من الذين يعيشون حياة ملومة جدًا، فإنه ينبغي بالحرى أن يفرح ولا يكون عنده غيظ مضاد للمحبة من جهة التائبين لأننا نحن أحيانًا نختبر شيئًا من هذا النوع لأنه يوجد البعض الذين يعيشون حياة كاملة مكرمة ثابتة، ويمارسون كل نوع من أعمال الفضيلة، ويمتنعون عن كل شئ مخالف لشريعة الله، ويتوجون بمديح كامل في نظر الله والناس. بينما البعض الآخر ربما يكونون ضعفاء عاثرين، ومنحطين إلى كل نوع من الشر ومذنبين بأفعال رديئة، محبين للدنس والطمع وملوثين بكل اثم، ومع ذلك يحدث كثيرًا أن يرجع هؤلاء إلى الله في سن متقدم ويطلبون غفران خطاياهم السابقة: إنهم يصلون لأجل الرحمة، ويتركون جانبًا استعدادهم للسقوط في الخطية، وتشتعل فيهم الرغبة للحياة الفاضلة، أو ربما حينما يوشك بعضهم على الاقتراب من نهاية حياته، فإنه يطلب المعمودية الإلهية ويغتسل من خطاياه تاركًا شروره، فإن الله عندئذٍ يكون رحيمًا بهم. وقد يحدث أحيانًا أن يتذمر بعض الأشخاص من هذا، بل ويقولون ” هذا الإنسان الذي كان مذنبًا بكذا وكذا من الأعمال الشريرة، وقد تكلم بكذا وكذا من الكلمات، هذا الإنسان لم يفِ دين سلوكه الرديء أمام قاضى العدل، بل إنه حُسب أهلاً لنعمة سامية وعجيبة وقد حُسب بين أبناء الله، وكُرم بمجد القديسين ” مثل هذه الشكوى ينطق بها الناس أحيانًا نتيجة ضيق العقل الفارغ. وشكواهم لا تتفق مع غرض أب الجميع. لأن الآب يفرح فرحًا عظيمًا حينما يرى الذين كانوا ضالين يحصلون على الخلاص، وهو يرفعهم ثانية إلى ما كانوا عليه في البداية، معطيًا لهم ثياب الحرية مزينًا إياهم بالحُلة الأولى، ويضع خاتمًا في يدهم، ويعطيهم السلوك المرتب الذي يرضى الله ويناسب الأحرار لذلك فإن واجبنا أن نخضع أنفسنا لما يريده الله، لأنه يشفى الذين هم مرضى، وهو يرفع الساقطين، ويمد يده بالمعونة للذين يعثرون، ويرد إليه الذين ابتعدوا عنه، وهو يُشكَّل من جديد في شكل حياة ممدوحة وبلا لوم أولئك الذين كانوا يتمرغون في وحل الخطية، إنه يفتش عن أولئك الذين ضلوا، وهو يقيم من الموت الذين كانوا يعانون من الموت الروحي دعونا نفرح أيضًا، هيا نفرح، مع الملائكة القديسين ونسبح الله لأنه صالح ومحب للبشر، ولأنه رحيم ولا يذكر الشر، لأنه إن كنا نفكر هكذا فالمسيح سوف يقبلنا، الذي به ومعه لله الآب كل تسبيح وسيادة مع الروح القدس إلى دهر الدهور. آمين.
القديس كيرلس الكبير
المزيد
14 مارس 2020
الاحتمال
+ من السهل أن تخطيء ولكن الذي يحتاج إلى جهاد وفضيلة هو الاحتمال.
+ ليست المشكلة لماذا أخطأ أو أساء هذا ولكن المشكلة هي إلى أي مدى تستطيع أن تستوعب الذي أخطأ.
+ يقول الآباء: حامل الأموات يأخذ الأجرة من الناس، وحامل الأحياء يأخذ الأجرة من لله !!
+ والاحتمال يحتاج إلى إتضاع لأن المتضع يأتي بالملامة على نفسه في كل شيء.
+ والاحتمال يعطي فرصة للمسيء لكي يراجع نفسه متأثراً بغفران المحتمل. إذ يجب أن يكون الاحتمال بدافع الحب لا بدافع الشعوربالتميز على الخاطئين واحتمال نقائصهم.
+ أضعف الإيمان أن تغفر لمن أخطأ ولكن الفضيلة أن تلتمس له العذر فيما صدر عنه.
+ ونحن إذ نحتمل الناس فإنما نفعل ذلك لكي يرحمنا لله
محتملين بعضكم بعضا ومسامحين بعضكم بعضا إن كان لأحد على أحد شكوى كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضا(كولوسي 13:3)
نيافة الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف عام المنيا وابو قرقاص
المزيد
13 مارس 2020
هل تحب من يحبك فقط؟
«لأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْل تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضًا يَفْعَلُونَ هكَذَا؟» (متى5: 46، 47).حين يطرح الله سؤالًا للإنسان يكون لديه أكثر من هدف: فقد يكون لتغيير فكره، أو يكون دعوة للاستيقاظ من غفلة، أو قد يكون لكشف ضعف معين، أو للتأكد من وجود فضيلة في حياة هذا الإنسان..وسؤال الله لنا اليوم: هل تحب من يحبك فقط؟ سؤال هام ونحن في بدايه أيام الصوم الكبير. ففي العهد القديم في شريعه موسى قيل: عين بعين وسن بسن، أمّا في العهد الجديد - إذ جاء يسوع المسيح لا لينقض بل ليكمل - فيقول: هل تحب من يحبك فقط؟ فالمعاملة بالمثل ليست من المسيحية في شيء. وقد يتساءل البعض كيف أحب من لا يحبني؟ والإجابة عند الله أنه يريدنا أن نعامل الناس كما يعاملهم هو، فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين، بدون تمييز؛ إجابه واضحة من الطبيعة التي تعامل الناس كما يعاملهم الله، فهو يعامل البشر من خلال الحب ومن خلال الرحمة. من خلال الحب كالشمس التي تشرق كل يوم، ومن خلال الرحمة مثل المطر، فالمطر يجعل الأرض تثمر معطية الخير للبشر.الشرائع القانونية في العهد القديم كما في العهد الجديد، تناسب بين الجريمه والعقاب. فإن أصاب أحد عين إنسان في العهد القديم ينال عقابًا يتناسب مع الجريمة. لكن لما جاء السيد المسيح وضع أمامنا مبدئين للتعامل مع كل البشر بدون استثناء، فلا يوجد فرق بين البشر: لا لون لا جنس ولا عرق ولا اعتقاد ولا أي شيء. المبدأ الأول: يجب ألا نلجأ إلى الانتقام لأن الانتقام يزيد الشر. فإن رددت على الشر بشر أصبح هناك شرَّان، ويتضاعف الشر، وندخل في دائرة لا تنتهي. فلابد أن نكسر حلقة الشر، ولا نلجأ إلى الانتقام لأن الله يقول: «لي النقمة أنا أجازي» (رومية12: 19). هو يري وهو يدبّر.المبدأ الثاني: أن يكون الإنسان محسنًا نافعًا للآخرين، وليس مجرد السكوت على الشر. فإن كنت لا تنتقم هذا نصف الطريق، والنصف الثاني أن تكون نافعًا للآخر. يقول لنا الرب: «مَنْ سخَّرَكَ ميلًا واحِدًا فاذهَبْ معهُ اثنَينِ. مَنْ سألكَ فأعطِهِ... ومَنْ أرادَ أنْ يُخاصِمَكَ ويأخُذَ ثَوْبَكَ فاترُكْ لهُ الرِّداءَ أيضًا (أي أن تكرمه)» (متى5: 40-42). هذه المحبة التي نقدمها للآخر هي التي تكسر فيه شوكه الشر، فليست هناك وسيلة لنزع الشر من الناس سوى أن تحبهم. فكيف يخرج الشر من إنسان إلّا إذا رأى آخر يحبه؟ لذا أضع أمامك هذا السؤال ثانيةً: «هل تحب من يحبك فقط؟». هذه ليست المسيحية، فالإنجيل يقول: «إنْ أحبَبتُمُ الّذينَ يُحِبّونَكُمْ، فأيُّ أجرٍ لكُمْ؟ أليس العَشّارونَ أيضًا يَفعَلونَ ذلكَ؟». المسيحية هي شريعه الكمال، وتفوق الإنسانية. هي تجعل من الإنسان أكثر رفعة من الإنسان الترابي. لكن الإنسان الروحي بالأكثر يسلك بشريعة الكمال واضعًا أمامه شخص السيد المسيح. فمثلًا الوصية التي تطالبنا: «من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر» نجد صعوبة في تنفيذها بحسب الطبيعة البشرية، التي تفترض أن أرد اللطمة بمثلها، فمن يلطمني يفعل شرًا، وإن رددت عليه بطريقته أكون فعلت شرًا مثله. حينها أجد أنني تساويت به ودخلت في دائرة لا تنتهي. فالله حين قال: «من لطمك على خدك الأيمن حوّل له الآخر أيضًا» قصد أن أصبر عليه، وأعطي له فرصه ليراجع نفسه، حتى ينتبه لنفسه ويدرك خطأه وهذا ليس ضعفًا، بل فيه كسب للآخر. لقد رأيت مرة موقف بهذه الصورة بنفس الفعل كما في آيات الإنجيل، لدرجة أن الشخص الذي ضَرَب بدأ يبكي ويصرخ ويركع على الأرض، وبدأ يحس بمقدار الخطأ الذي ارتكبه.صوره أخرى هي «من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك...»، هنا حالة خصام أو حالة ضرر لحق بما تمتلكه؛ كيف تعالج مثا هذا الموقف؟ كيف من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، تترك له الرداء؟! اترك له الرداء أي اصنع معه سلامًا، اِكسر شوك الشر التي فيه. «مَنْ سخَّرَكَ ميلًا واحِدًا فاذهَبْ معهُ اثنَينِ»، من سخرك تعني من ظلمك وكبت حريتك، والكتاب يقول لنا عن مثل هؤلاء أن اذهب معه ميلين! حكيت لكم قبلًا عن شاب تخرج من كليه الآداب ولم يعثر على وظيفة، فعمل نقّاشًا في بلد شقيق، وطلب منه شخص أن يبيّض له منزله، وسأله عن المدة التي يحتاجها لإتمام العمل، فأجاب الشاب بأنه يحتاج 20 يومًا تقريبًا. وفي اليوم الـ18، أي قبل انتهاء العمل بيومين، افتعل صاحب البيت خلافًا مع الشاب وطرده حتى لا يعطيه أجره، وهذا ظلم. انصرف الشاب حزينًا لكنه عاد في اليوم التالي طالبًا من صاحب المنزل أن يسمح له بالانتهاء من العمل. تعجب صاحب المنزل، وأخذ يراقب الشاب الذي أكمل عمله بمنتهى الأمانة، وعندما أنهى عمله سأله عن كيف استطاع أن يفعل هذا؟ فأجابه الشاب: "أنا اتفقت معك أن أبيّض لك بيتك. أنت صرفتني وظلمتني وهذا شأنك، لكن أنا سأتمم ما اتفقت معك عليه". وانبهر الرجل بالشاب وأمانته، وجعله شريكًا له في كل أعماله، وانفتحت له أبواب الرزق الواسع جدًا... وقيسوا على هذا أمثلة كثيرة ممكن أن يعيش فيها الإنسان. مقاومة الشر بمثله ممكن تزيده، لكن الشر لا يمكن أن يُهزَم إلّا بالخير والصلاح. شريعة المسيحية التي قدمها لنا السيد المسيح في العظه على الجبل هي لكل يوم، وهي آيات عملية صالحة للتطبيق في كل يوم.السؤال الذي يطرحه الرب علينا: هل تحب الذي يحبك فقط؟ إذا أحببت من يحبك فقط، فأنت لا تحيا المسيحية الكاملة بعد، بل لا زلت في نصف الطريق، لكن عندما تمتد محبة الإنسان لكل أحد يكون قد وضع قدمه على طريق شريعة المسيح. تذكروا يوسف الصديق مع إخوته الذين أبغضوه، أمّا هو فلم يحمل لهم أيّة بغضة برغم كل ما فعلوه معه؛ فمواجهه الشر لا تكون إلا بالخير العملي. تذكروا أيضًا السيد المسيح وهو على الصليب مُحاطًا بمن أبغضوه، ولكننا وجدناه يطلب لأجلهم: «يا أبَتاهُ، اغفِرْ لهُمْ، لأنَّهُمْ لا يَعلَمونَ ماذا يَفعَلونَ» (لوقا23: 34). أحيانًا في مجتمعاتنا لا يوجد عدو بالمعنى الحصري للكلمة، لكن قد يوجد من لا نقبله، فماذا تفعل مع مثل هذا؟ هل تخاصمه؟ تتجنبه؟ تشوه صورته؟ تشكوه؟ كل هذه العلاجات مرفوضة، أمامك علاج واحد: أن تزيد محبتك له! أظنكم تذكرون قصة المعلم إبراهيم الجوهري عندما شكا له أخوه أن هناك من يعايره ويشتمه، فأجابه المعلم إبراهيم الجوهري بأنه سيقطع لسان هذا الشخص، فسُرَّ أخوه بهذا. أمّا المعلم إبراهيم فقد أكثر العطايا لذلك الشخص، وهكذا قطع لسان الشر. واجه البغضة بالإحسان، و«صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم». عجيبة المسيحية! تصور أنك لا تفعل مثل الذي يسيء إليك، بل تحوّل هذه الإساءة لمادة للصلاة. الإنسان الذي يسيء إليك بالكلام أو بإطلاق الإشاعات أو تشويه السمعة... الخ، يقول لنا السيد المسيح أن العلاج هو أن نصلي لاجلهم! لا تنسوا أن من يسيئون إليكم هم أيضًا لها قيمتها أمام الله مهما كانوا. إن كان حبك لمن يحبك فقط، فأنت لم تعرف المسيح بعد، ولذلك في هذا الصوم ارفع قلبك واطلب من الله أن ينزع من من قلبك أيّة بغضة أو إساءة أو خاطر رديء تجاه أي إنسان. عندما نتحرر من الكراهية والمشاعر السلبية نستطيع أن نقتني فضائل عظمى من الله، نستطيع أن نقتني الحب الكامل، حب الأعداء. نقتني حب الرحمة التي نقدمها لكل إنسان. من يقرأ في تاريخ العصور الحديثة يجد أن الجمعيات التي ظهرت في العالم لتخدم الناس في أي مكان، نشات بفكر إنجيلي، مثل جمعية الصليب الأحمر التي تخدم مصابي الحروب. المسيحية ترتقي بالإنسان العادي ليكون مسموحًا بنعمه الروح القدس، ليصير الإنسان روحيًا، ويستق أن يُطلَق عليه "مسيحي" بالحق وليس بالكلام، بالفعل وليس بالمهظر. هل تحب من يحبك فقط؟ هذا هو سؤال السبت الأول في الصوم المقدس. وإجابة السؤال نجدها في العظة على الجبل (متى5: 38-48). يعطينا مسيحنا أن تكون حياتنا حياة نقية، ونمتلك طاقة الحب من أجل كل أحد. لإلهنا كل مجد وكرامة من الآن إلى الأبد. آمين.
قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
12 مارس 2020
التناقض المزعوم بين الأسفار وبين سِفْرُ اَلْمُلُوكِ الأَوَّلُ
1- بين 1 مل 3 : 12، ام 30 : 2 ففى الاول يقول الله لسليمان اعطيك قلبا حكيما وفى الثانى يقول سليمان نفسه (لم اتعلم الحكمه). فنجيب ان كلام سليمان من باب التواضع الواجب وفيه نسبه الفضل لله.
2- وبين اصحاح 4 : 26، 2 اى 9 : 25 ففى الاول قيل وكان سليمان 40000 مذود لخيل مركباته وفى الثانى كان له 4000 مزود خيل ومركبات. فنجيب ان الاول ذكر عدد العيون التى فى المزاود والثانى اكتفى بذكر عدد المزاود الكبيره التى كان ياكل فى كل واحد منها عشره خيول.
3- وبين اصحاح 5 : 16، 2 اى 2 : 2 ففى الاول قيل ان رؤساء الوكلاء لسليمان الذين على العمل كانوا 3300 وفى الثانى انهم كانوا 3600 فنجيب ان الاول لم يدرج عدد الرجال300 الذين عينهم سليمان بصفه احتياطيه ليحلوا محل العمال الذين يصابون اما الثانى فادركهم. والمهم هو اتفاق كليهما فى ذكر عدد المجموع فف (1 مل 9 : 23) قيل (رؤساء الموكلين 550) وفى 5 : 16 رؤساء الوكلاء 3300 فالمجموع 3850 وفى (2 اى 8 : 10) رؤساء الوكلاء 250 وفى (2 : 18) قيل 3600 فالمجموع 3850 والاختلاف كان فى التقسيم، ف الاول نظرالىالرئاسه والثانىالىالجنسيه.
4- وبين اصحاح 7 : 14، 2 اى 2 : 14 ففى الاول ذكرت ارمله قيل انها من سبط نفتالى والثانى قيل انها من سبط دان فنجيب انه كان ابوها من سبط دان وامها من سبط نفتالى فنظر الاول الىنسبها من امها والثانىالىنسبها من ابيها.
5- وبين اصحاح 7 : 26، 2 اى 4 : 5 ففى الاول قيل ان البحر يسع الفى بث وفى الثانى انه يسع ثلاثه الاف بث فنجيب ان الاول ذكر المياه التى توضع فى البحر عاده، اما الثانى فذكر المقدار الذى يسعه البحر من المياه.
6- بين اصحاح 15 : 32، 2 اى 15 : 19 ففى الاول قيل انه كانت حرب بين اسا ملك يهوذا وبعشا ملك اسرائيل. وفى الثانى قيل انه لم تكن حربالىالسنه الخامسه والثلاثين للملك اسا. فنجيب ان هذا الاختلاف ينفى اذا علمنا انهم اسطلحوا حينئذ على ان يؤرخوا الحوادث من ابتداء انفصال مملكه اسرائيل.
7- بين اصحاح 15 : 33، 2 اى 16 : 1 ففى الاول قيل ان بعشا بن اخيا ملك فى السنه الثالثه لملك اسا ملك يهوذا. وفى الثانى يقول ان بعشا صعد على يهوذا وبنى الرامه فى السنه السادسه والثلاثين لملك اسا مع ان بعشا لم يملك سوى 24 سنه فنجيب ان المراد بقول سفر اخبار الايام الثانى فى السنه السادسه والثلاثين اى من انفصال 10 اسباط اسرائيل عن سبطى يهوذا وبنيامين وجعل المملكه قسمين، مملكه اسرائيل ومملكه يهوذا وهذه السنه توافق السنه السادسه عشره لملك آسا على يهوذا وكانت هذه الطريقه متبعه حينئذ.
8- وبين اصحاح 18 : 1، لو 4 : 25 ففى الاول يقول ان الله كلم ايليا فى السنه الثالثه لانقطاع المطر وقال له (اذهب وتراء لآخاب فاعطى مطرا على وجه الارض) وفى الثانى ان انقطاع المطر كان مده 3 سنين و 6 اشهر. فنجيب : لم يقل فى الاول ان مده انقطاع المطر كانت 3 سنين فقط كما فى الثانى بل الرب كلم ايليا فقط. وقوله (فى السنه الثالثه) اى من مده اقامه ايليا فى صرفه. ولا يخفى انه توجه للاقامه فيها بعد انقطاع المطر بمده. راجع (1 مل 17: 1- 8) هكذا قد مرت مده بعدما كلم الله ايليا وقال له انى ساعطى مطرا (راجع اصحاح 18).
المتنيح القس منسى يوحنا
عن كتاب حل مشاكل الكتاب المقدس
المزيد
11 مارس 2020
الصوم يسبق كل نعمة وخدمة
كل بركة يقدمها لنا الله ، نستقبلها بالصوم ، لكي نكون في حالة روحية تليق بتلك البركة الأعياد تحمل لنا بركات معينة لذلك كل عيد يسبقه صوم و التناول يحمل لنا بركة خاصة لذلك نستعد لها بالصوم والرسامات الكهنوتية تحمل بركة لذلك نستقبلها بالصوم فالأسقف الذي يقوم بالسيامة يكون صائماً ، والمرشح لدرجة الكهنوت يكون أيضاً صائماً ، كذلك كل من يشترك في هذه الصلوات واختيار الخدام في عهد الآباء الرسل كان مصحوباً بالصوم " ففيما هم يخدمون الرب ويصومون ، قال الروح القدس إفرزوا لي برنابا وشاول فصاموا حينئذ وصلوا ، ووضعوا عليهما اليادي "( اع 13: 2، 3) .
والصوم أيضاً يسبق الخدمة
والسيد المسيح قبل ان يبدأ خدمنه الجهارية ، صار أربعين يوماً ، في فترة خلوة قضاها مع الآب علي الجبل وفي سيامة كل كاهن جديد ، نعطية بالمثل فترة يوماً يقضيها في صوم وفي خلوة في أحد الأديرة مثلاً ، قلب ان يبدأ خدمته وآباؤنا الرسل بدأوا خدمتهم بدأت بحلول القدس وكان صومهم مصاحباً لخدمتهم ، لتكون خدمة روحية مقبولة والخادم يصوم ، ليكون في حالة روحية ، ولكي ينال معونة من الله ، ولكي يحنن قلب الله بالصوم ليشترك معه في خدمته ولعلنا نري في حياة يوحنا المعمدان ، انه عاش حياته بالصوم و الخلوة في البرية ، قبل أن يبدأ خدمته داعياً الناس إلي التوبة وليست الخدمة فقط يسبقها الصوم ، بل أيضاً
أسرار الكنيسة يسبقها الصوم:-
سر المعمودية ، يستقبله المعمد وهو صائم ، ويكون إشبينه أيضاً صائماً ، والكاهن الذي يجربة يكون صائماً كذلك . الكل في صوم لاستقبال هذا الميلاد الروحي الجديد ونفس الكلام نقوله عن سر الميرون ، سر قبول الروح القدس الذي يلي المعمودية سر الأفخارستيا ، التناول ، يمارسه الكل وهو صائمون سر مسحة المرضي ( صلاة القنديل ) يكون فيه الكاهن صائماً أيضاً ولكن يستثني المرضي العاجزون عن الصوم ، الذين يعفون من الصوم حتى في سر التناول وسر الكهنوت كما قلنا ، يمارس بالصوم لم يبق سوي سر الأعتراف ، وسر الزواج وما اجمل ان يأتي المعترف ليعترف بخطاياه وهو صائم ومنسحق ولكن لن الكنيسة تسعي وراء الخاطئ في كل وقت ، لتقبل توبته في أي وقت ، لذلك لم تشترط الصوم أما سر الزواج فقد أعفاه السيد المسيح بقوله " لا يستطيع بنو العرس ان يصوموا مادام العريس معهم " ( مر 2 : 19) ومع ذلك ففي الكنيسة الناسكة الولي ويستمران ذلك اليوم في صوم حالياً طبعاً لا يحدث هذا إن بركات الروح القدس التي ينالها المؤمنون في الأسرار الكنيسة كانت تستقبل بالصوم ، إلا في حالات الإستثنائية وكما عرفت الكنيسة الصوم في حياة العبادة ، وفي حياة الخدمة ، كذلك عرفته في وقت الضيق ، وخرجت بقاعدة روحية وهي :
بالصوم يتدخل الله:-
لقد جرب هذا الأمر نحميا ، وعزرا ودانيال وجربته الملكة أستير من اجل الشعب كله وجربته الكنيسة في الرابع في عمق مشكلة آريوس وجربته الأجيال كلها وأصبح عقيدة راسخة في ضمير الكنيسة ، تصليها في صلاة القسمة في الصوم الكبير ، مؤمنه إيماناً راسخاً أن الصوم يحل المشاكل الإنسان الواثق بقوته وذكائه أما الشاعر بضعفه ، فإه في مشاكله ، يلجأ إلي الله بالصوم في الصوم يتذلل أمام الله ، ويطلب رحمته وتدخله قائلاً " قم أيها الرب الإله " وفي ذلك ينصت إلي قول الرب في المزمور " من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين ، الآن أقوم - يقول الرب - أصنع الخلاص علانية "( مز 11) الصوم هو فترة صالحة ، لإدخال الله في كل مشكلة فترة ينادي فيها القلب المنسحق ، ويستمع فيها الله فترة يقترب فيها الناس إلي الله ، ويقترب فيها الله من الناس ، يستمع حنينهم وإلي أنينهم ، ويعمل طالما يكون الناس منصرفين إلي رغباتهم وشهواتهم ، ومنشغلين بالجسد و المادة فإنهم يشعرون أن الله يقف بعيداً لا لأنه يريد أن يبعد ، وإنما لأننا أبعدناه ، أو رفضناه ، أو رفضنا أن نقترب منه علي وجه أصح أما في فترات الصوم الممزوج بالصلاة ، فإن الإنسان يقترب إلي الله ، ويقول له إشترك في العمل مع عبيدك إنه صراخ القلب إلي الله ، لكي يدخل مع الإنسان في الحياة يمكن ان يكون في أي وقت . ولكنه في فترة الصوم يكون أعمق ، ويكون أصدق ويكون أقوي فبالصوم الحقيقي يستطيع الإنسان أن يحنن قلب الله والذي يدرك فوائد الصوم ، وفاعليه الصوم في حياته ، وفي علاقته بالله ، إنما يفرح بالصوم .
الفرح بالصوم:-
إننا لسنا من النوع الذي يصوم ، وفي أثناء الصوم يشتهي متي يأتي وقت الإفطار إنما نحن حينما نكون مفطرين ،نشتهي الوقت الذي يعود فيه الصوم من جديد الإنسان الروحي يفرح بفترات الصوم ، أكثر مما يفرح بالأعياد التي يأكل فيها ويشرب كثيرون يشتهون الصوم في فترة الخمسين المقدسة التي يأتي بعد القيامة ، والتي لا صوم فيها ولا مطانيات وفيها يشتاق الكثيرون إلي الصوم اشتياقاً ، لذلك يفرحون جداً عندما يحل صوم الرسل ، إذ قد حرموا من لذه الصوم خمسين يوماً من قبله ومن فرح الروحيين بالصوم ، لا يكتفون بالأصوام العامة ، إنما يضيفون إليها أصواماً خاصة بهم ويلحون هلي آباء اعترافهم أن يصرخوا لهم بتلك الأصوام الخاصة ،مؤيدين طلبهم بأن روحياتهم تكون أقوي في فترة الصوم ، بل أن صحتهم الجسدية أيضاً تكون أقوي ،وأجسادهم تكون خفيفة إن الذين يطلبون تقصير الأصوام وتقليلها ،هؤلاء يشهدون علي أنفسهم أنهم لم يشعروا بلذة الصوم أو فائدته وسنتحدث بمشيئة الرب في الفصول المقبلة عن فوائد الصوم ، التي من اجلها صار فرحاً للروحيين ، وصار للرهبان منهج حياة …
منهج حياة:-
من محبة آبائنا الرهبان للصوم ، جعلوه منهج حياة صارت حياتهم كلها صوماً ماعدا أيام الأعياد ، ووجدوا في ذلك لذة روحية ولم يشعروا بأي تعب جسدي بل استراحوا للصوم وتعودوه وروي أنه لما حل الصوم الكبير في احدي البراري ، أرسلوا من ينادي في البرية لينبه الرهبان إلي حلول هذا الصوم المقدس ، فلما سمع أحد الشيوخ من المنادي هذا التنبية ، قال له ما هو يا أبني هذا الصوم الذي تقول عنه ؟ لست أشعر به الآن أيام حياتي كلها واحدة ( لأنها كلها كانت صوماً ) والقديس الأنبا بولا السائح ، كان يأكل نصف خبزة يومياً ، وفي وقت الغروب كنظام حياة ثابت وبعض الرهبان كان يصوم كل أيامه حتي الغروب ، مثل ذلك الراهب القديس الذي قال مرت علي ثلاثون سنة ، لم تبصرني فيها الشمس آكلاً وبعض الرهبان كانوا يطوون الأيام صوماً والقديس مقاريوس الإسكندري لما زار أديرة القديس باخوميوس كان يأكل في يوم واحد من الأسبوع طوال أسابيع الصوم الكبير ، وكان يطوي باقي الأيام ولم يقتصر صوم أولئك الآباء علي طول فترات الصوم ، أو طي الأيام ، إنما شمل النسك أيضاً نوع طعامهم أبا نفر السائح كان يتغذي بالبلح من نخله في مكان توحده ، والأنبا موسى السائح كان يقتات بحشائش البرية ، وكذلك كان الأنبا بيجيمي السائح . وكان يشرب من الندي هذا الصوم الدائم كان يجعل حياة الآباء منتظمة في الواقع أن حاله الرهبان من هذه الناحية مستقرة علي وضع ثابت ، إستراحت له أجسادهم ، واستراحت له أرواحهم وضع لا تغيير فيه إعتادوه ونظموا حياتهم تبعاً له أما العلمانيون فهم مساكين ، أقصد هؤلاء الذين ينتقلون من النقيض إلي النقيض من صوم يمنعون فيه أنفسهم ، إلي فطر يأخذون فيه ما يشتهون يضبطون أنفسهم فتره ، ثم يمنحونها ما تشاء فترة أخري ، ثم يرجعون إلي المنع ، ويتأرجحون بين المنع و المنح فترات وفترات يبنون ثم يهدمون ، ثم يعدون إلي بناء يعقبه هدم إلي غير قيام أما الصوم الحقيقي الذي يتدرب فيه الصائم علي ضبط النفس ويستمر معه ضبط النفس كمنهج حياة فيضبط نفه في أيام الفطر كما في أيام الصوم ، علي الرغم من اختلاف أنواع الأعمة ومواعيد الأكل وهكذا يكون الصوم نافعاً له ، ويعتبر بركة لحياته وبهذا المعني لا يكون الصوم عقوبة ، بل نعمة كانت أكبر عقوبة توقع علي أحد الروحيين ، أن يأمره أب اعترافه بان يأكل مبكراً ، أو يأكل لحماً أو طعاماً شهياً وكان أب الإعتراف يفعل هذا إن رأي أبنه الروحي قد بدأ يرتفع قلبه أو يظن في نفسه أنه قد صار ناسكاً أو زاهداً فيخفض كبرياءه بالأكل ، فتنكسر نفسه ، وبذلك يتخلص من أفكار المجد الباطل الصوم والإستشهاد:-
طبيعي أن الذي لا يستطيع الاستغناء عن أكله ، يكون من الصعب عليه أن يستغني عن الحياة كلها أما النفوس القوية التي تتدرب علي احتمال الجوع والعطش ، والتي تستطيع ان تخضع أجسادها وتقهر رغباتها وشهواتها ، هذه بتوالي التداريب ، و بعدم الاهتمام بالجسد واحتياجاته ، يمكنها في وقت الاستشهاد ان تحتمل متاعب السجون وآلام العذاب ، وتستطيع بنعمة الله أن تقدم أجسادها للموت لهذا كان الصوم مدرسة روحية تدرب فيها الشهداء ليس من جهة الجسد فقط ، وإنما أيضاَ من جهة روحانيه الصوم لأنه إذ تكون أيام الصوم مجالاً للعمل الروحي والتوبة والاقتراب إلي الله ، تساعد هذه المشاعر علي محبة الأبدية و عشرة الله ، و بالتالي لا يخاف الإنسان من التقدم إلي الموت ، إذ يكون مستعدا للقائه ، بل أنه يكون فرحاً بالتخلص من الجسد للالتقاء بالله ، ويقول " لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ، فذاك أفضل جداً "( في 1: 23) بالصوم كانت الكنيسة تدرب أولادها علي الزهد وبالزهد كانت تدربهم علي ترك الدنيا والاستشهاد فالذين استشهدوا كانوا في غالبيتهم أهل صوم وصلاة وزهد في العالم . وكما قال القديس بولس الرسول " يكون الذين يستعملون العالم ، كأنهم لا يستعملونه ، لأن هيئة هذا العالم تزول "( 1 كو 7: 31) .
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب روحانية الصوم
المزيد
10 مارس 2020
الصوم الكبير والمعمودية
1- المعمودية والصليب والقيامة
أن المعمودية المسيحية هى موت ودفن وقيامة مع المسيح؛ فيقول معلمنا بولس الرسول: "نحن الذين متنا عن الخطية. كيف نعيش بعد فيها؟. أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح، اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً فى جدة الحياة؛ لأنه أن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته، نصير أيضاً بقيامته" (رو 6: 3-5).لذلك فقد كانت أنسب فرصة لمعمودية الموعوظين فى العصور الأولى، هى ليلة عيد القيامة، حيث الموت والقيامة فعلاً مع المسيح.يقول فى ذلك العلامة ترتليانوس: "الفصح هو أكثر الأيام ملاءمة لإقامة المعمودية، ففيه تمت آلام الرب وإليها نعتمد..." (فى المعمودية 19).وما زالت "الزفة" التى نعملها للمعمدين فى الكنيسة، هى نفسها دورة القيامة التى كانوا يشتركون فيها عقب معموديتهم ليلة العيد والكنيسة فى اختيارها لقراءات عيد القيامة فى القطمارس، لم تغفل ارتباط القيامة بالمعمودية؛ ففى فصل الكاثوليكون يورد معلمنا بطرس الرسول مقارنته الشهيرة بين الطوفان والمعمودية: "إذ كان الفلك يبنى، الذى فيه خلص قليلون، أى ثمانى أنفس بالماء، الذى مثاله يخلصنا نحن الآن، أى المعمودية. لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح" (1بط 3: 20-21) وفى فصل البولس يورد معلمنا بولس مقارنة بين بنى القيامة (المعمدين) وبنى الموت "ليس الروحانى أولاً (المولود من الروح بالمعمودية) بل الحيوانى (المولود بالجسد من أبويه)، وبعد ذلك الروحانى... وكما لبسنا صورة الترابى (آدم) سنلبس أيضاً صورة السماوى (المسيح ... فى المعمودية بالعربون، وفى الأبدية بالحقيقة)، فأقول هذا أيها الأخوة: أن لحماً ودماً لا يقدران أن يرثا ملكوت الله (المولود حسب الجسد) ولا يرث الفاسد (بدون المعمودية) عدم الفساد (الأبدية)" (1كو 15: 46-50)، لاحظ أن نفس التعبير استخدمه الرب يسوع فى حواره مع نيقوديموس: "الحق الحق أقول لك إن كان أحد، لا يولد من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله... المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح" (يو 3: 3-6) وحقيقة الأمر أن الكنيسة كانت تبذل جهداً كبيراً فى إعداد الموعوظين للمعمودية، ثم تقدمهم للأب الأسقف ليختبر جدية نواياهم، وصدق إيمانهم.. ثم يسجل أسماءهم فى سجل الموعوظين، الذى يسميه القديس يوحنا ذهبى الفم "السفر السماوى" أو "سفر الحياة" ، ثم يرسم الأب الأسقف على جبهة الموعوظ إشارة الصليب، ويباركه... وكان هذا التسجيل يتم - أيام القديس يوحنا ذهبى الفم - فى بداية الصوم الكبير... ويستمر الموعوظون طيلة الصوم الكبير يتلقون تعاليم الكنيسة، خاصة ما يختص بسر المعمودية، وفعلها فى حياتهم، حتى ينتهى الصوم المقدس بالبصخة فالقيامة، فيتم تعميدهم ليكونوا بالحقيقة قد ماتوا وقاموا مع الرب يسوع المسيح له المجد.والملاحظ أن ترتيب قراءات آحاد الصوم الكبير المقدس قد جاءت بإلهام إلهى تشرح طقس المعمودية، وفعلها فى تغيير وتجديد طبيعة الإنسان وفى تبنيه لله الأب وفى استنارته وفى منحه الحياة الأبدية.
2- ارتباط قراءات أحاد الصوم الكبير بشرح فعل المعمودية:-
أ- أحد الرفاع (مت 6: 1-18) :-
تعلمنا الكنيسة المقدسة فى أحد الرفاع المنهج المسيحى فى الحياة، ويقوم على (الصدقة - والصلاة - والصوم) وكأنها تهمس فى أذن الموعوظ.. "صديقى.. ستكون معنا - بالمعمودية - وستسلك كما يليق بهذه المعمودية: الصدقة هى الزهد فى المال والقنية.. والصلاة هى جحد الذات وكسر المشيئة... والصوم هو ضبط الجسد"... الكنيسة تضع أمام الموعوظ علامات الطريق، وسر النصرة.. وتميز له ما بين ممارسة المسيحية، والممارسة التى كان يعيش فيها قبل المعمودية سواء كان وثنياً أم يهودياً... فالمسيحية تعرف الخفاء فى الممارسة.. والعلاقة الباطنية بين الابن (بالمعمودية) والآب السماوى الذى يرى فى الخفاء.
ب- الأحد الأول (مت 19:6-34) (أحد الكنوز):-
فى بداية الطريق... تضع الكنيسة الحافز المناسب أمام الموعوظ لئلا يخور ويتراجع... إن كنا قد علمناه فى أحد الرفاع أن يتخلى عن (المال - الذات - الجسد).
فلنضع أمامه الآن المكافأة: أنها الكنز السماوى الذى لا يفسد ولا يسرق ثم تشرح الكنيسة للموعوظ قيمة التمسك بهذا الكنز السماوى...
- العين تكون مستنيرة بالبساطة (المعمودية هى سر الاستنارة).
- الله سيهتم باحتياجاتى (أبوكم السماوى يقوتها).
- نفوز بملكوت السموات (اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره... وهذه كلها تزاد لكم).
فالمعمودية تنقل الإنسان من سيرة علمانية إلى سيرة سمائية روحانيةالسيرة العلمانية تقوم على كنوز الأرض وعبودية المال، والعين الشريرة والاهتمامات المفسدة الرديئة فلا نكون مثلهم بل لنا الكنز السماوى، وخدمة المسيح، والعين البسيطة والاهتمامات الأخروية لأننا صرنا أبناء الملكوت، وأبناء النور بالمعمودية.
ج- الأحد الثانى (مت 4: 1-11) (أحد التجربة) :-
بعد إعداد الموعوظين بوعظهم، والصلاة عليهم (كما بطقس المعمودية)، تتمم الكنيسة لهم طقس جحد الشيطان، وكما انتصر السيد المسيح على الشيطان فى ثلاثة تجارب، كذلك يصرخ الموعوظ فى وجه الشيطان (نحو الغرب) قائلاً "أجحدك.. أجحدك.. أجحدك". أنها نفس النصرة التى فاز بها الرب يسوع لنا على الجبل لقد انتصر الرب يسوع فى تجارب الجسد (الحجارة تصير خبزاً)، والمجد الباطل (اطرح نفسك إلى أسفل)، وتجربة القنية (أعطيك هذه جميعها).. وهى نفس مواطن الضعف التى يحارب بها أبليس كل أولاد الله (الجسد - الذات - القنية)؛ لذلك فسبق لنا أن نتسلح ضد هذه الهجمات بأسلحة (الصوم - الصلاة - الصدقة).. إننا فى سر المعمودية نصرخ مع المسيح (أذهب يا شيطان). فيتركنا مهزوماً... ولكنه "إلى حين" (لو13:4)، لأنه سيعاود حربنا، ولن يتركنا نهائياً إلا عندما نخلع الجسد، ونحتمى فى الفردوس بالحقيقة، حيث تنتهى الحرب ، وتعلن النصرة فى الأبدية السعيدة.
د- الأحد الثالث (لو 15: 11-32) (الابن الشاطر):-
إن قصة الابن الضال هى شرح رائع لسر المعمودية.. فالمعمودية هى استعادة التبنى لله الآب.. لقد كان الإنسان أصلاً ابناً لله (بالتبنى)، فقد قيل عن آدم أنه "ابن الله" (لو 38:3) ولكن أدم فقد بنوته بسبب ضلالته، وانفصاله عن الله، وعيشه بعيداً بعيش مسرف فى الخطية.. والموعوظ فى توجهه للمعمودية، كأنه يقول مع الابن الضال: "أقوم وأذهب إلى أبى" (لو 18:15) إن الآب السماوى ما زال يحمل لنا مشاعر الأبوة ، وسوف يغدقها علينا فى المعمودية (الحلة الأولى).. فقال الأب لعبيده (الكهنة): "أخرجوا الحلة الأولى والبسوه (المعمودية هى لباس المسيح)" واجعلوا خاتماً فى يده (الميرون ختم الروح القدس)، "وحذاء فى رجليه" (الإنجيل الذى ينير الطريق ويهدى الخطوات): "حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام" (أف15:6)، "وقدموا العجل المسمن، وأذبحوه" (وليمة الافخارستياً التى يشترك فيها الأبناء فقط)، "فنأكل ونفرح" (بالتسبيح الدائم والشركة المقدسة فى الكنيسة) "لأن ابنى هذا كان ميتاً فعاش" (المعمودية موت وقيامة) "وكان ضالاً فوجد" الابن الأكبر هو رمز لليهود، الذين لهم علاقة مع الله منذ زمن بعيد، والابن الأصغر هو رمز للأمم الذين جاءوا متأخرين الابن الأكبر كان يعيش مع والده ولكن ليس بقلبه.. لذلك لم يكن فكره ولا قلبه كأبيه نحو الأخ الأصغر، بل تذمر كما تذمر اليهود عند قبول الأمم فى المعمودية (راجع فى ذلك قصة قبول كرنيليوس فى الإيمان والمعمودية، وكيف خاصم المسيحيون من أصل يهودى - معلمنا بطرس لأنه قبل الأمم، وكيف شرح لهم بطرس الرسول قصة إعلان الله له قبول الأمم (أع 10،11).. ولكن الآب السماوى يطمئن قلوب الموعوظين (الابن الأصغر) "كان ينبغى أن نفرح ونسر لأن أخاك هذا كان ميتاً (بفساد الطبيعة) فعاش (بالمعمودية) وكان ضالاً فوجد".
هـ- الأحد الرابع (يو 4: 1-42) (السامرية):-
السامرية جاءت لتشرب من ماء غير مرو، فقابلها يسوع وقال لها "لو كنت تعلمين عطية الله (المعمودية)... لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حياً.... كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضاً، ولكن من يشرب من الماء الذى أعطيه أنا، فلن يعطش إلى الأبد (لا تعاد معموديته). بل الماء الذى أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء (الروح القدس) ينبع إلى حياة أبدية" جاءت السامرية لتشرب من بئر يعقوب وقلبها متعلق بخمسة أزواج وأخر ليس زوجاً.. فوجدت هناك بئر يسوع (المعمودية) والعريس الأوحد مخلص كل البشرية لقد رفع يسوع ذهنها إلى الحياة بالروح والحق، التى تليق بالمسيحيين؛ ليفطم قلبها من عبادة الحرف التى تليق باليهود والوثنيين... أن المعمودية حد فاصل...
و- الأحد الخامس (يو 5: 1-18) (المخلع):-
لقد كان هذا الرجل مريضا منذ زمان، رمزاً للبشرية التى تعانى من فساد الطبيعة منذ أدم.. وكان ملقى مطروحا عند البركة (رمزاً للمعمودية) يتوقع تحريك الماء مع باقى البشرية المريضة - "جمهور كثير من المرضى عمى وعرج وعسم لأن ملاكاً (رمزاً للروح القدس) كان ينزل أحياناً فى البركة، ويحرك الماء.. فمن نزل أولاً بعد تحريك الماء (الماء والروح)، كان يبرأ من أى مرض أعتراه (البرء من فساد الطبيعة)" والخمسة أروقة التى كانوا مطروحين فيها دون شفاء، لعلها تشير إلى إمكانيات العهد القديم التى كان - على غناها وغزارتها- عاجزة عن تخليص الإنسان، فأسفار موسى الخمسة، وأنواع الذبائح الخمسة لم تكن كافية لبرء الإنسان.. جاء يسوع ليخلصنا بالمعمودية، ولكنه يسأل الإنسان (أتريد أن تبرأ)؟، كما يسأل الكاهن الموعوظ (هل آمنت)؟
ى- فى الأحد السادس (يو1:9-41) (المولود أعمى):-
ومعجزة المولود أعمى هى قصة معمودية بكل تفاصيلها.. فالرجل ولد مشوهاً رمزاً للطبيعة الفاسدة، التى نولد بها من آدم وحواء.. وجاء الرب يسوع ليعيد خلقة الإنسان، ويجددها، لذلك فقد استخدم - بصفته الخالق - عناصر خلق الإنسان الأول نفسها.. (الطين).. وقال أذهب اغتسل فى بركة سلوام (المعمودية).. فمضى واغتسل وأتى بصيراً (سر الاستنارة).. ونتيجة هذه المعمودية انفصل هذا الرجل عن مجمع اليهود وصار فى مجمع المسيح (الكنيسة).
ز- الأحد السابع الشعانين :-
بعد أن شرحت الكنيسة للموعوظين فعل المعمودية فى حياتهم: التبنى (الابن الضال)، ماء الحياة (السامرية)، البرء من الطبيعة الفاسدة (المخلع)، والاستنارة (المولود أعمى) الآن تقتادهم ليروا المجد المعد لهم فى ملكوت الآب السماوى، سندخل أورشليم فى موكب المسيح، وسنهتف منتصرين حاملين سعف النخل.. وسننتمى إلى مملكة داود الروحية الحقيقية، ولكن هناك صليب سيقابلنا، وآلام لابد أن نجتازها.. وما يشجعنا ويعزينا أن هناك قيامة بعد الصليب.. وهناك المجد بعد الهوان.. وهناك النصرة بعد الحرب.
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
عن كتاب الصوم الكبير عوده الى الله
المزيد