المقالات
09 مارس 2020
الصوم وحياة السهر
في مَثَل الحنطة والزوان، يعلن عن وجود عدو مُقاوم أي إبليس رئيس مملكة الظلمة الذي لا يطيق مملكة النور.. «يشبه ملكوت السموات إنسانًا زرع زرعًا جيدًا في حقله، وفيما الناس نيام جاء عدوه وزرع زوانًا في وسط الحنطة ومضى، فلما طلع النبات وصنع ثمرًا، حينئذ ظهر الزوان أيضًا» (مت13: 24-26).
أولًا: لماذا لم يقل السيد "وفيما الزارع نائم جاء عدوه وزرع زوانًا" إنما قال "فيما الناس نيام"؟.. ذلك لأن: الله يسهر على كرمه ويهتم به، لكن الكرامين إذ ينامون يتسلل العدو إلى الكرم.. إن الله يحترم الإرادة الإنسانية ويأتمنها، لكن الله يطلب السهر حتى لا يتسلل العدو ليلًا..
ثانيًا: لم يقل السيد المسيح "جاء عدوهم" إنما قال:"جاء عدوه"؟.. لأن: العدو لا يقصد الكرامين بل صاحب الكرم، فالعامل الحقيقي ضد الكرم هو إبليس عدو الله نفسه.. حقًا إنها حرب بين الله وإبليس، بين النور والظلمة..
ما المقصود بالنوم هنا؟ يُقصد به التراخي والإهمال أو نسيان الله نفسه. يقول ق. جيروم "لا تسمح للعدو أن يلقي زوانًا وسط الحنطة بينما الزارع نائم عندما يكون الذهن الملتصق بالله في غير حراسة، وإنما قُل مع عروس النشيد: في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي. إخبرني أين ترعى أين تربض عند الظهيرة (نش3: 1 و1: 7)".
ثالثًا: ماهو الزوان؟ إلى أي شيء يشير؟
(1) يشير إلى الهرطقات: التي تنتشر في غفلة روحية من الرعاة، لذلك يقول ق. جيروم: "ليت أسقف الكنيسة لا ينام لئلا بإهماله يأتي إنسان عدو ويلقي بالزوان، أي تعليم الهراطقة".
(2) يشير إلى الخطية: الخطية التي تتسلّل إلى الفكر والقلب في غفلة روحية من الإنسان الروحي، لذلك يتحدث الأب إيسيذورس عن الأفكار الشريرة بقوله: "لماذا تنبع الأفكار الشريرة من القلب وتنجس الإنسان (مت 15: 19-20)؟! بلا شك لأن العاملين ينامون مع أنه كان يلزم أن يكونوا ساهرين حتى يحفظوا ثمار البذار الصالحة لكي تنمو. فلو لم نضعف أثناء سهرنا بسبب النهم والتراخي وتدنيس الصورة الإلهية، أي فساد البذرة الصالحة، ما كان لباذر الزوان أن يجد وسيلة للزحف وإلقاء الزوان المستحق للنار".
(3) يشير إلى الأشرار: الذين يحملون شكلية العضوية الكنسية دون روحها وحياتها العميقة.
رابعًا: ظهور الزوان وانتظار وقت الحصاد، لماذا؟
«فلما طلع النبات وصنع ثمرًا.. حينئذ ظهر الزوان أيضًا.. إنسان عدو فعل هذا.. دعوهما ينميان كلاهما معًا إلى الحصاد.. وفي وقت الحصاد أقول للحصادين اجمعوا أولًا الزوان واحزموه ليُحرق.. وأمّا الحنطة فاجمعوها إلى مخزني" (13: 26-30).. وهنا يطلب السيد الرب يسوع:
(أ) تأكيد الاهتمام الإيجابي والعمل لحساب ملكوت الله عوض إدانة الأشرار.
(ب) عدم اليأس والجهاد، لا في إقتلاع الزوان بل في العمل وتحويل الزوان إلى حنطة، فالله لم يقطع عيسو الشرير حتى لا يهلك معه أيوب البار الذي جاء من نسله، ولم يقتل لاوي العشار حتى لا يفقده ككارز بالإنجيل، ولا انتقم لإنكار سمعان بطرس الذي قدم دموع التوبة بحرقة، ولا ضرب شاول الطرسوسي بالموت حتى لا نفقد بولس الرسول الذي كرز بالخلاص في أقاصي الأرض.
ينصح ق. أغسطينوس بقوله: "كثيرون يكونون في البداية زوانًا لكنهم يصيرون بعد ذلك حنطة، فلنحتملهم بالصبر. وإنك لتجد القمح والزوان بين الكراسي العظيمة كما بين العلمانيين أيضًا، فليحتمل الصالحون الأشرار، وليصلح الأشرار من أمرهم مقتدين بالصالحين".
لنحذر: في ملء اليقظة من عدو الخير الذي يلقي الزوان سرًا ليملك على القلب الذي أُعِد لسُكنى المسيا المخلص، ولا يكون هناك مكان لإبليس المفسد بالصوم وحياة السهر.
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
08 مارس 2020
الأحد الثاني للصوم الكبير صوم المسيح وتجربته فى البرية
” أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح القدس. وكان يُقتاد بالروح فى البرية. أربعين يومًا يُجرب من إبليس. ولم يأكل شيئًا فى تلك الأيام. ولما تمت جاع أخيرًا ” (لوقا4: 1و2)حينما يتكلم الأنبياء المباركون عن كلمة الله الوحيد ـ الذى هو مساوٍ لله فى المجد، وشريك عرشه، الذى يضيء معه بمساواة كاملة ـ فإنهم أى الأنبياء يقودوننا إلى الاقتناع أنه أُظهر كمخلَّص ومحرَّر لأولئك الذين على الأرض، وذلك بقولهم“قم يارب، أعنى” (مز26:44) لذلك قام وأعان، وذلك باتخاذه صورة عبد، إذ قد صار فى شبه الناس، فإنه كواحد منا قد أقام نفسه كمنتقم بدلاً منا، منتقم من تلك الحية القاتلة والمتمردة، التى أدخلت الخطية إلينا وبذلك جعلت الفساد والموت يملكان الأرض، لكى بواسطة المسيح وفيه نحصل على النصرة بينما كنا فى القديم مهزومين وساقطين فى آدم لذلك تعالوا بنا لنسبح الرب ونرتل مزامير لله مخلصنا، هلموا لندوس الشيطان تحت أقدامنا، لنرفع صوت النصر على الذى هو الآن مطروح وساقط، هيا لنرتفع فوق الزحاف الخبيث الذى أُمسك فى فخ لا فكاك منه، ولنقل عنه نحن أيضًا بكلمات إرميا النبى” كيف كسرت مطرقة الأرض كلها وضربت فقد وُجدت وأُخذت، لأنك وقفت ضد الرب” (إر23:1س) لأنه منذ القدم، أى قبل زمن مجيء المسيح مخلص الكل، فإن عدو الجميع كانت له تصورات كبيرة ومخيفة عن نفسه. لأنه كان يفتخر متعظمًا على ضعف سكان الأرض قائلاً ” سأمسك العالم فى يدى كعش وكبيض مهجور آخذه، ولن يهرب أحد منى أو يتكلم ضدى” (إش14:10س) وفى الحقيقة لم يكن أحد من أولئك الذين على الأرض يستطيع أن يقوم ضد قوته، ولكن الابن قام ضده وتصارع معه إذ قد صار مثلنا. لذلك كما قلت فإن الطبيعة البشرية بسبب انتصارها في المسيح تربح الإكليل. وهذا ما أنبأ به الابن نفسه فى الزمن القديم حينما خاطب الشيطان بواسطة أحد الأنبياء القديسين هكذا ” هاأنذا عليك أيها الجبل المهلك ـ الملك كل الأرض ” (إر25:51) تعالوا إذن وهيا بنا لنرى ماذا يقول الإنجيلي المبارك، حينما كان المسيح ذاهبًا ليحارب لحسابنا ضد ذلك الذى أهلك الأرض كلها” أما يسوع فرجع ممتلئًا من الروح القدس“. انظروا هنا، أرجوكم، طبيعة الإنسان ممسوحة بنعمة الروح القدس فى المسيح كباكورة، ومتوجة بأعلى الكرامات. لأنه منذ القديم قد وعد إله الكل قائلاً ” ويكون فى تلك الأيام إنى سأسكب من روحى على كل جسد” (يؤ28:2). وقد تحقق الوعد لأجلنا فى المسيح أولاً. وبينما يقول الله عن أولئك الذين فى القديم، الذين استسلموا لشهوة الجسد بلا ضوابط، ” لا يسكن روحى فى هؤلاء الناس لأنهم جسد ” (تك3:4س). أما الآن فلأن كل الأشياء قد صارت جديدة فى المسيح وقد اغتنينا بالميلاد الجديد الذى بواسطة الماء والروح ـ لأننا لم نعد أولاد اللحم والدم، بل بالحرى ندعو الله أبًا لنا ـ لذلك إذ صرنا الآن فى كرامة بحق، وإذ نمتلك امتياز التبنى المجيد، فقد صرنا شركاء الطبيعة الإلهية بواسطة حصولنا على الروح القدس. ولكن الذى هو البكر فى وسطنا، حينما صار هكذا بكرًا بين اخوة كثيرين وأعطى نفسه للإخلاء فإنه كان أول من حصل على الروح، رغم أنه هو نفسه معطى الروح، لكى تصل إلينا بواسطته هذه الكرامة ونعمة الشركة مع الروح القدس. والرسول بولس يعلمنا مثل هذا حينما يتحدث عنه وعنا ويقول ” لأن المقدس والمقدَسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم اخوة قائلاً أخبر باسمك اخوتى” (عب11:2 ،12). ولأنه لم يستحِ بالمرة أن يدعونا اخوة نحن الذين أخذ شكلنا لذلك إذ قد نقل فقرنا إلى نفسه، فإنه يتقدس معنا رغم أنه هو نفسه مقدِّس الخليقة كلها. وذلك لكى لا تراه أنت رافضًا لمستوى الطبيعة البشرية، هو الذى رضى من أجل خلاص وحياة الكل أن يصير إنسانًا لذلك، حينما يقول الإنجيلى الحكيم عنه ” أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئًا من الروح“، فلا تعثروا ولا تخطئوا فى أفكاركم الداخلية وتحيدوا عن تعليم الحق، فيما يخص الطريقة والكيفية التى بها تقدس الكلمة ذلك الذى هو الله، بل بالحرى افهموا حكمة التدبير التى بسببها، صار هو موضوع إعجابنا. لأنه قد صار جسدًا وأصبح إنسانًا، لا لكى يتحاشى كل ما يختص بحالة الإنسان ويحتقر فقرنا، بل لكى ما نغتنى نحن بما هو له، وذلك بأنه قد صار مثلنا فى كل شئ ما خلا الخطية. لذلك فهو يتقدَّس كإنسان، ولكنه يُقَدِّس كإله، لأنه إذ هو بالطبيعة إله صار إنسانًا. لذلك يقول الإنجيلى: “وكان يُقتاد بالروح فى البرية أربعين يومًا يُجرب من إبليس“. فما هو إذن معنى كلمة “يُقتاد”؟ إنها لا تعنى توصيله إلى هناك. لأننا نحن أنفسنا أيضًا اعتدنا أن نقول عن أى واحد يحيا بالتقوى، إن فلانًا أو فلانًا أيًا كان الشخص إنما يحيا حياة صالحة. ونحن نعطى لقب مربى لا لنشير به بحسب معناه الحرفى إلى أولئك الذين يقودون الأطفال فعلاً، بل نعنى أنهم يعتنون بهم ويدربونهم بطريقة حسنة جديرة بالثناء، مربين إياهم ومعلمين لهم أن يسلكوا بطريقة لائقة إذن فهو قد أقام فى البرية بالروح، أى روحيًا، فإنه صام، ولم يمنح أى طعام إطلاقًا لحاجات الجسد. ولكنى أتخيل أن البعض قد يعترضون على هذا قائلين وما هو الضرر الذى يلحق يسوع من الإقامة الدائمة فى المدن؟ وما هو الذى يفيده حتى يختار الإقامة فى البرية؟ فليس هناك شئ حسن يحتاج إليه. وأيضًا لماذا هو يصوم؟ وما الذى كان يلزمه لكى يتعب وهو الذى لا يعرف أى إحساس بتحرك أى رغبة منحرفة؟ فنحن نمارس الصوم كوسيلة نافعة جدًا لكي نميت اللذات بواسطته ونقاوم قانون الخطية الذى فى أعضائنا، ونقتلع تلك العواطف التى تؤدى إلى الشهوة الجسدية. أما المسيح فأى حاجة له إلى الصوم؟ فهو الذى بواسطته يبيد الآب الخطية فى الجسد. وبولس الإلهى إذ عرف هذا كتب: ” لأن الناموس فيما كان عاجزًا عنه بسبب ضعفه بواسطة الجسد فإن الله إذ أرسل ابنه فى شبه جسد الخطية ولأجل الخطية، دان الخطية فى الجسد لكى يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح ” (رو3:8و4). لذلك فهو الذى يميت حركات الجسد فينا نحن أنفسنا الكائنات البائسة، وقد أباد الخطية، فأى صوم يمكن أن يحتاجه فيما يخصه هو نفسه؟ إنه قدوس وغير مدنّس بالطبيعة، وهو نقى تمامًا وبلا عيب. وهو لا يمكن أن يحدث له ولا ظل تغيير. فلماذا إذن جعل إقامته فى البرية وصام وجُرِّبَ ؟
يا أحبائى إن المسيح كمثال لنا يهتم بنا، فهو يضع أعماله أمامنا كنموذج لنا، ويؤسس مثالاً للحياة الفضلى والعجيبة التى يمكن أن تُمارس فى وسطنا، وأنا أعنى حياة الرهبان القديسين. لأنه منذ متى كان ممكنًا للناس على الأرض أن يعرفوا أن عادة السكن فى الصحارى هى نافعة لهم ومفيدة جدًا للخلاص؟ لأنهم يعتزلون من أمام الأمواج والعواصف ومن الاضطراب الشديد وارتباكات هذا العالم الباطلة، وهكذا كما لو كانوا مثل يوسف المبارك، فإنهم يتجردون ويتركون للعالم كل ما هو خاص به. وبولس الحكيم يقول شئ مثل هذا أيضًا عن أولئك الذين يريدون أن يعيشوا هكذا: “ ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات ” (غل24:5). وهو يبين لأولئك الذين يختارون هذه الطريقة للحياة أن الإمساك ضرورى، الذى ثمرته الصوم وقوة الاحتمال، والإمساك عن الطعام أو أخذ القليل منه. فإنه عندئذ حينما يجربهم الشيطان فإنه سينهزم لاحظوا هذا بنوع خاص أن الرب اعتمد أولاً وامتلأ من الروح القدس، وبعد ذلك ذهب إلى البرية، ومارس الإمساك، أى الصوم كما لو كان سلاحًا له. وهكذا إذ كان مستعدًا فحينما اقترب منه الشيطان انتصر عليه، وبذلك فقد وضع نفسه أمامنا كنموذج فأنت، لذلك ينبغى أيضًا أن تلبس سلاح الله، وترس الإيمان، وخوذة الخلاص. ينبغى أولاً أن تلبس قوة من الأعالى، أى ينبغى أن تصير مشتركًا فى الروح القدس بواسطة المعمودية الثمينة، وحينئذ يمكن أن تسلك الحياة المحبوبة والمكرمة لدى الله، وحينئذ يمكنك ـ بشجاعة روحية ـ أن تسكن فى الصحارى، وحينئذ تحفظ الصوم المقدس وتميت الأهواء وتهزم الشيطان حينما يجربك. لذلك، فإننا فى المسيح قد حصلنا على كل الأشياء ياللعجب فإنه يظهر بين المصارعين وهو نفسه كإله يمنح الجائزة، يظهر بين أولئك الذين يلبسون إكليل النصر، وهو الذى يكلل هامات القديسين، لذلك فلننظر ولنلاحظ مهارته فى مصارعته وكيف هزم خبث الشيطان وشره. فحينما قضى أربعين يومًا صائمًا فإنه جاع أخيرًا ولكنه هو نفسه يعطى الجياع طعاما؛ وهو نفسه الخبز النازل من السماء الواهب حياة للعالم وهو الذى به تقوم كل الأشياء. ولكن من الجهة الأخرى، بسبب أنه كان من الضرورى لذاك الذى لم يرفض فقرنا، أن لا ينسحب من أى شئ يخص حالة الإنسان، لذلك فقد وافق أن يحتاج للمؤونة الطبيعية. وهذا هو سبب القول ” إنه جاع “. ولكنه مع ذلك لم يجع إلاّ بعد أن صام مدة كافية، وبقوته الإلهية قد حفظ جسده من الخوار، رغم امتناعه عن الطعام والشراب، لكى يسمح لجسده أن يشعر بالإحساسات الطبيعية كما هو مكتوب: ” إنه جاع“. ولأى سبب هذا؟ لكى بمهارة بواسطة الاثنين، فإن ذلك الذى هو إله وإنسان معًا فى نفس الوقت يمكن أن يُعرف بهاتين الصفتين فى نفس الشخص الواحد: أى أعلى منا بطبيعته الإلهية، ومساوٍ لنا فى بشريته.
تجربة الخبز :-
لوقا4:4 ” وقال إبليس: إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا ” حينئذٍ يقترب الشيطان لكى يجربه، متوقعًا أن إحساس الجوع سيساعده فى خطته الخبيثة: فإن الشيطان كثيرًا ما ينتصر علينا باتخاذه ضعفاتنا كمساعد لمكائده ومغامراته. لقد تصور الشيطان أن الرب يسوع سيقفز حالاً نحو الرغبة فى رؤية الخبز جاهزًا للأكل، ولذلك قال: ” إن كنت ابن الله، فقل لهذا الحجر أن يصير خبزًا“. إذن فهو يقترب منه، كإنسان عادى وكواحد من القديسين: ومع ذلك فهو لا يزال متشككًا فى أمره، إنه ربما يكون هو المسيح. فبأى طريقة أراد أن يعرف هذا؟ لقد اعتبر الشيطان أن تغيير طبيعة شئ إلى طبيعة أخرى إنما هو فعل قوة إلهية وعملها، لأن الله هو الذى يصنع هذه الأشياء وهو الذى يحوّلها. لذلك، قال فى نفسه إن فعل هذا، فإنه يكون هو بالتأكيد ذلك الشخص المنتظر الذى سيبطل قوتى، ولكن إن رفض أن يعمل هذا التغيير، فإنى بذلك أتعامل مع إنسان وأطرح الخوف بعيدًا، وأنجو من الخطر. لذلك فإن المسيح، لمعرفته بحيلة الشيطان، فإنه رفض أن يحوّل الحجر خبزًا، كما أنه لم يقل إنه غير قادر أو غير راغب أن يعمل هذا التغيير، بل بالحرى يصده بسبب إلحاحه وتداخله فيما ليس له، قائلاً: ” إن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده“، وهو يعنى بهذا، أنه إن أعطى الله قوة للإنسان، فإنه يمكن أن يصمد بدون طعام، ويحيا مثل موسى وإيليا اللذان بقوة كلمة الرب صرفا أربعين يومًا دون أن يأكلا شيئًا، لذلك، فإذا كان ممكنًا للإنسان أن يحيا بدون خبز، فلماذا أحوّل الحجر خبزًا؟ ولكن الرب تعمَّد ألاّ يقول، إنى لا أستطيع وذلك لكى لا ينكر قوته الخاصة، كما أنه لم يقل، إنى أستطيع لئلا عندما يعرف المجرب بذلك إنه هو الله الذى عنده وحده كل شئ مستطاع، فإنه يتركه ويهرب وأرجوكم أن تلاحظوا، كيف أن طبيعة الإنسان فى المسيح هى حرة من أخطاء شراهة آدم، فعن طريق الأكل انهزمنا فى آدم وبواسطة الصوم انتصرنا فى المسيح بواسطة الطعام الذى يخرج من الأرض، يتقوى جسدنا الأرضى، ويسعى إلى الحصول على غذائه مما هو مجانس له، أما النفس العاقلة فإنها تتغذى وتنمو إلى الصحة الروحانية بواسطة كلمة الله. لأن الطعام الذى تقدمه الأرض يغذى الجسد الذى هو قريب لها، أما الطعام الذى من فوق ومن السماء فيقوى الروح ويشددها. طعام النفس هو الكلمة الآتية من الله، أى الخبز الروحانى الذى يقوى قلب الإنسان كما يُرنم فى كتاب المزمور. وإننا نؤكد أن طبيعة خبز الملائكة القديسين هى أيضًا الكلمة الإلهية.
تجربة ممالك العالم:-
لوقا5:4 ” ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك العالم فى لحظة من الزمان ” وأنت أيها الكائن الخبيث الشرير الملعون، كيف تتجاسر أن تُرى الرب ممالك الخليقة كلها وتقول: ” إنها لى؟ فإن سجدت أمامى سأعطيها لك“. فكيف تعد بشيء ليس هو لك؟ من جعلك وارثًا لمملكة الله؟ من جعلك سيدًا على كل ما تحت السماء؟ إنك حصلت على هذه الأشياء بالخداع والاحتيال، لذلك إرجعها، للابن المتجسد، رب الكل. واسمع ما يقوله إشعياء النبى عنك : ” هل قد أعد لك أيضًا أن تملك؟ هى هوة عميقة، ونار، وكبريت، وحطب مرتب، وغضب الرب كهوة مشتعلة بكبريت“. (إش33:30س) فكيف إذن وأنت نصيبك هو اللهيب الذى لا ينطفئ تعد ملك الكل بما هو ليس لك؟ هل تظن أنك تجعله يسجد له وهو الذى ترتعد أمامه كل الكائنات والسارافيم وكل القوات الملائكية تسبحه بمجد؟ إنه مكتوب: ” للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد“. لقد ذكر الرب هذه الوصية فى الوقت المناسب ووجهها إليه فى الصميم. فقبل مجيء الرب، كان الشيطان قد خدع كل من تحت السماء، وكان يُعبد فى كل مكان. أما وصية الله هذه فإنها تطرده من السيادة التى اغتصبها بالخداع، وتوصى الناس أن يعبدوا الذى هو الإله بالطبيعة وبالحق، وأن يقدموا الخدمة والسجود له وحده.
تجربة جناح الهيكل:-
لوقا9:4 : ” ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل” التجربة الثالثة التى يستخدمها الشيطان هى المجد الباطل قائلاً: ” ألقِ نفسك إلى أسفل“، كبرهان على ألوهيتك. ولكنه لم يستطع أن يسقطه بواسطة الغرور، بل إن سهم الشيطان أخطأ الهدف. فقد أجابه الرب: ” إنه قيل لا تجرب الرب إلهك“. فإن الله لا يمنح معونته لأولئك الذين يجربونه، بل لأولئك الذين يثقون به، ولا ينبغى بسبب تلطفه ورحمته علينا أن نتباهى ونغتر. ولنلاحظ أيضًا أن المسيح لم يعطِ آية لأولئك الذين كانوا يجربونه فيقول: ” جيل شرير يطلب آية ولا تُعطى له آية“. فلنسمع الشيطان وهو يجرب هذه الكلمات. لذلك فنحن قد نلنا الانتصار فى المسيح، أما الذى انتصر على آدم فمضى الآن خجلاً لكيما نستطيع أن نضعه تحت أقدامنا، لأن المسيح كمنتصر قد سلمنا أيضًا القوة أن ننتصر، قائلاً: ” ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو“.
لوقا10:4 ” لأنه يوصى ملائكته بك لكى يحفظوك” انظروا كيف يحاول بخبث أن يستخدم الكتاب المقدس لكى يحط من مجد الرب، كما لو كان الرب محتاجًا لمساعدة الملائكة، وكما لو كان سيعثر لو لم تساعده الملائكة. لأن هذا المزمور لا يشير إلى المسيح، والرب العالى لا يحتاج للملائكة. أما جناح الهيكل، فقد كان مبنى مرتفع جدًا مُقام إلى جانب الهيكل والبعض يشير بهذا المزمور خطأ إلى شخص الرب، ويأخذون عباراته معًا التى تقول هكذا “ لأنك، يارب أنت رجائى جعلت العلى ملجأك” (مز9:91) ولذلك، يقولون إن له ملجأ هو العلى، أى الآب الذى فى السماء. وحجتهم فى مثل هذه الطريقة فى الفهم، أن الشيطان فهمها هكذا فقال: ” إن كنت ابن الله فالقِ نفسك إلى أسفل: لأنه مكتوب أنه يوصى ملائكته بك لكى يحفظوك“، فالشيطان لأنه كذاب ومخادع، يطبق ما هو مكتوب عنا نحن على شخص المسيح مخلصنا جميعًا. ولكننا نحن لا نفهمها بطريقة الشيطان، حتى إن كان الآريوسيون قد فهموها هكذا، فليس هناك ما يدعو للدهشة فى موقفهم هذا، لأنهم يتبعون أباهم، الذى هو كذاب، وليس فيه حق، بحسب كلمات المخلّص. فإن كان الحق هو كما يقولون هم، ونحن قد جعلنا المسيح عوننا، وهو قد جعل الآب ملجأه، فعندئذ نكون نحن قد التجأنا إلى واحد هو نفسه محتاج إلى المساعدة ودعونا ذلك الذى يخلص بواسطة آخر مخلّصًا لنا. هذا لا يمكن أن يكون، حاشا لله. لذلك فنحن نقول لأولئك الذين يريدون أن يفكروا هكذا، أنتم تسيرون خارج الطريق الملكى المستقيم، أنتم تسقطون وسط الأشواك والفخاخ، لقد ضللتم بعيدًا عن الحق. فالابن مساوٍ للآب فى كل الأشياء، فهو صورة ورسم جوهره، وهو العلى كما أن الآب أيضًا هو العلى فالشيطان إذن استخدم هذه العبارات كما لو كان المخلّص إنسانًا عاديًا. فلأنه ظلام بكليته، وقد أعمى عقله، فإنه لم يفهم قوة المكتوب فى المزمور أنه يقصد به شخص كل إنسان بار ينال عونًا من السماء. وإلى جانب ذلك، لم يعرف أن الكلمة، الذي هو الله، قد صار إنسانًا، والآن هو نفسه يُجرّب بحسب خطة الخلاص وكما سبق أن قلت، فقد افترض (الشيطان) أن كلمات المزمور قد قيلت كما عن إنسان عادى أو عن واحد من الأنبياء القديسين ولكن بالنسبة لنا نحن الذين نعرف السر تمامًا، والذين نؤمن أنه هو الله وابن الله، وأنه صار من أجلنا إنسانًا مثلنا، فإنه أمرٌ بشع جدًا أن نتصور أن عبارات المزمور هذه تتحدث عنه. إذن فنحن نقول، إن عبارة ” جعلت العلى ملجأك” لا تناسب شخص المخلّص، فإنه هو نفسه العلى، ملجأ الكل, ورجاء الكل، وهو عن يمين الآب الكلى القدرة، وكل من يجعله حصنا له، فلن يقترب منه شر لأنه يأمر الملائكة، الذين هم أرواح خادمة، أن يحرسوا الأبرار فكما أن آبائنا الجسديين حينما يرون الطريق خشنًا ويصعب عبوره، فإنهم يمسكون أطفالهم فى أيديهم، لكى لا تصاب أقدامهم الضعيفة بأذى، لكونهم لا يزالون غير قادرين أن يسيروا على الطرق الصعبة، هكذا أيضاً قوات الملائكة لا يسمحون لأولئك الذين لا يزالون غير قادرين على الجهاد بعد، والذين لا يزال ذهنهم طفوليًا، أن يتعبوا بما يفوق طاقتهم، بل يختطفوهم بعيداً عن كل تجربة.
القديس كيرلس الأسكندرى
المزيد
07 مارس 2020
هل توبتي سليمة
يذهب ويعترف في مواعيد منتظمة، غير أنه يتشكك كثيرا إن كانت توبته سليمة أم لا، والدليل أنه يعود ويسقط من جديد ويتكرر نفس الاعتراف. لذلك فهو حزين .نقول له اسأل نفسك وأنت مقدم على الاعتراف هل إذا جاءتني الفرصة سأفعل نفس الخطية ؟ وستكون الإجابة
بالطبع واحدة من ثلاث :-
1- لا لن أكررها وفي هذه الحالة تكون التوبة كاملة، حتى لو سقطت في وقت لاحق، المهم مشاعرك الصادقة الآن .
2- ربما، فأنا غير متأكد وفي هذه الحالة تكون التوبة غير كاملة وتحتاج إلى مراجعة .
3- نعم، من المؤكد أنني سأفعلها . وفي هذه الحالة لا تكون هناك توبة أصلا .
والاعتراف يجب أن تسبقه عدة خطوات: محاسبة النفس، ملامة النفس، التوبة والاعتراف لله في المخدع، وأخيرًا إعلان هذه التوبة والاعتراف
في الكنيسة أمام الأب الكاهن وفي حضور الله المتلقي الحقيقي للاعتراف، والمانح الغفران من خلا ل الكاهن الذي وهبه هذا السلطان (يوحنا22:20)
نيافة الحبر الجليل الانبا مكاريوس أسقف عام المنيا وابو قرقاص
المزيد
06 مارس 2020
الصوم الكبير قانون وسلوك
بدا أيام الصوم الكبير الغنية في روحياتها والممارسات الكنسية فيها، والتي تأتي مرة واحدة كل عام، نقدم فيها توبتنا الجماعية بالهدوء، والسكون، والصمت، والنُسك، والتقشُّف، وفحص النفس، وتنقية القلب، والدخول إلى الأعماق، بهدف أن يكون الإنسان "إنسان الله". وكما قال القديس مار إسحق السرياني فإن الصوم "هو تقديم كل الفضائل، وبداية المعركة، وتاج المسيحية، وجمال البتولية، وحفظ العفّة، وأبو الصلاة، ونبع الهدوء، ومعلّم السكوت، وبشير الخيرات". والكتاب المقدس يزخر باللذين صاموا قبلًا أمثال: موسى النبي (خر34: 28) – داود النبي (2صم1: 11) – أخاب الملك (1مل21: 27) – عزرا (10: 6) – نحميا (1: 3) – استير (4: 1) – دانيال (9: 3) – أهل نينوى (يون3: 5-9) – حنّة النبية (لو2: 37) – بولس الرسول (أع9:9) – بطرس الرسول (أع10:10) – الرسل (أع13: 2) – كرنيليوس (أع10: 3) – والسيد المسيح (متى 4: 2).وهذا الصوم المقدس الذي يمتد إلى 47 يومًا ويلحقه أسبوع الآلام، ولكن يسبقه وبنفس الطقس الكنسي 3 أيام صوم يونان ونينوى؛ يُعتبَر بالمعنى الرمزي خزينًا روحيًا لمسيرة الإنسان الروحية خلال العام. ولذا وضعت له الكنيسة طقوسًا وألحانًا متميزة، وصار له قانون نقرأه في إنجيل قداس الرفاع، وصار له سلوك نقرأه أيضًا في الكاثوليكون في قداس الرفاع.أولًا: قانون الصوم نقرأ عنه في (مت6:6)«أمّا أنت فمتى صليت فادخل إلى مخدعك وأغلق بابك وصَلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، وأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية».والمقصود بالقانون أنه نظام الحياة أثناء الصوم، ويعتمد على خطوتين: الأولى: "ادخل إلى مخدعك"، أي إلى قلبك الداخلي الذي لا يراه إلّا الله، واجتهد في تنقية هذا القلب الذي سوف تقدمه لله عندما تقف أمامه. والثانية: "اغلق بابك"، أي أغلق فمك عن الطعام والكلام، واجتهد أن يكون حديثك مع الله أكثر وأكثر، وطعامك مثل طعام الفردوس حيث النباتات، وفترات الخلوة الصائمة بالانقطاع عددًا من الساعات كل يوم.يقول القديس باسيليوس الكبير: "الصوم الحقيقي هو ضبط اللسان، وإمساك الغضب، وقهر الشهوات".ثانيًا: سلوك الصوم:نقرأ عنه في (رسالة بطرس الثانية 1: 5-7)، حيث يقدم لنا سلوكيات الصوم المبنية على الإيمان، والهادفة إلى أن يكون الإنسان "إنسان المحبة"، وبالترتيب التالي:أ- قدسوا في إيمانكم فضيلة: الإيمان إحساس غير منظور، ولكن يُعبَّر عنه بالفضيلة التي يعيشها الإنسان، وتظهر في سلوكه اليومي مثل الوداعة والتسامح والقلب المنفتح والمعتدل.ب- وفي الفضيلة معرفة: نعيش الفضيلة ونمارسها بمعرفة حقيقية والتي نستقيها من الوصايا الكتابية التي هي ينابيع المعرفة الصادقة في كلا العهدين، ولذلك نقرأ النبوات والمزامير والأناجيل والرسائل عبر أيام الصوم يوميًا.جـ- وفي المعرفة تعفُّفًا: والتعفُّف هو الانضباط الذي نمارسه في نقاوة ووقار، فلا يهم الفم فقط بل والعين والأذن والسمع وكل أعضاء الجسد، كما يقول يوحنا ذهبي الفم. وكل هذا عن وعي وإدراك لكي تسمو الروح فوق الجسد.ء- وفي التعفف صبرًا: عامل الوقت أحد عوامل استقرار الحياة الروحية وثباتها. وهذا يحتاج الصبر الذي به نقتني نفوسنا التي اشتراها المسيح بدمه الكريم على عود الصليب.هـ- وفي الصبر تقوى: التقوى تعني المخافة القلبية التي قال عنها داود النبي: «جعلتُ الرب أمامي في كل حين، إنه عن يميني فلا أتزعزع». المخافة هي التي تحرسنا من الخطية بكل أشكالها، ومن خلال الصبر تكون المخافة الحاضرة في كل ما نمارسه في حياتنا.و- وفي التقوى المودة الأخوية: ونعمة المودة الأخوية والتي تجعل من الآخرين أقرباء وأحباء لنا مهما كانت درجات الاختلاف والتنوع معهم. المودة هي أن تكون ودودًا لطيفًا وديًا ومتواضع القلب مع الجميع.ز- وفي المودة الأخوية محبة: وهي لباس الكمال بحسب تعبير بولس الرسول: «وعلى جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال» (كو3: 14).وهكذا تكون سلوكيات الصوم حيث تمتلئ حياة الإنسان بالمحبة الكاملة، والتي تفيض منه لكل أحد بلا توقف.كل صوم وأنتم جميعًا طيبين.
قداسة البابا تواضروس الثانى
المزيد
05 مارس 2020
التناقض المزعوم بين الأسفار وبين سِفْرُ صَمُوئِيلَ الثانى
1- بين 2 صم 2 : 10 وعدد 11 ففى الاول ان ايشبوشت ملك سنتين وفى الثانى سنه وسته اشهر. فنجيب : ان الاول قصد المده التى كان له سلطان الملك اما ما بقى فكان الملك مهددا فلم يكن ملك كما يجب.
2- بين اصحاح 5 و6، 1 اى اصحاح 13 و14 ففى الاول ان داود جاء بتابوت عهد الله بعد محاربه الفلسطنيين وفى الثانى جاء بعد محاربتهم. فنجيب ان ما يقرا اصحاح 15 من سفر ايام الاول يجد ان داود اصعد تابوت الله بعد ما هزم الفلسطنيين لان بنى اسرائيل اصعدوا التابوت مرتين، فمره اصعدوه من بعله قبل انهزام الفلسطنيين كما هو ظاهر من (2 صم 5 و6 و1 اى 15) وليس من اصحاح 14 ف الاول ذكر انتصار داود على الفلسطنيين ثم ذكر اصعاد التابوت مرتين والثانى ذكر اصعاد التابوت من بيت بعله ثم انتصار داود على الفلسطنيين ثم اصعاد التابوت من بيت عوبيد.
3- وبين اصحاح 8، 1 اى 18 حيث يوجد بين الاول والثانى تناقض فى اسماء واعداد :
(1) اشار الاول فى عد 1 ان داود اخذ زمام القصبه وفى الثانى عد 2 انه اخذ جت وذلك لان جت هى زمام القصبه فلا خلاف.
(2) قيل فى الاول عد 3 هدد عزر وفى الثانى عد 3 هدر عزر، والاختلاف بسيط كما ترى والتشابه موجود.
(3) ذكر فى الاول عد 8 ومن باطح وبيروثاى مدينتى هدد عزر وفى الثانى عد 8 ومن طبحه وخون مدينتى هدد عزر. فباطح وبيروثاى هما طبحه وخون اسميهما باللغه الاشوريه.
4- بين 2 صم 10 : 18 و1 اى 19 : 18 ففى الاول (وقتل داود من ارام سبع مئه مركبه) وفى الثانى (سبعه الاف مركبه). فنجيب ان المراد بكلمه مركبه فى العباره الاول ى هو الذين فيها وفى كل مركبه 10 انفار وبما ان الكتاب يفسر بعضه بعضا فعين الثانى مقدار ما فى المركبات وذكر المحل وقصد الحال فيه، والقرينه المانعه عن اراده المعنى الحقيقى قوله وقتل داود 700 مركبه فالمركبه لا تقتل بل يقتل من فيها. وقوله فى الاول فارس وفى الثانى راجل وذلك لانهم كانوا يتحاربون تاره مشاه واخرى على الخيل فنظر اليهم واحد فى حال والاخر فى حال اخرى.
5- بين اصحاح 11 : 3، 1 اى 3 : 5 فقيل فى الاول بثشبع بنت اليعام. وفى الثانى بثشوع بنت عميئيل. فنجيب ان التشابه بين بثشبع وبثشوع واضح، واما ابوها كان يدعى باسمين، وكثيرا ما يتغير اسم الانسانالىاسم اخر لسبب من الاسباب.
6- بين اصحاح 15 : 7، 1 مل 2 : 11 ففى الاول ان ابشالوم عصى على ابيه 40 سنه وفى الثانى ان داود ملك 40 سنه فقط مع ان ملك داود تقدم عصيان ابشالوم بمده وتاخر بعده بمده. فنجيب ان قوله بعد 40 سنه لا يقصد به من عصيان ابشالوم بل من مده مسح داود ملكا.
7- بين اصحاح 19 : 16 – 23، 1 مل 2 : 8 و9 ففى الاول ان شمعى الذى سب داود لما شاهده منتصرا استعطفه فحلف له قائلا لا تموت ولكنه فى الثانى نكث عهده وحنث فى يمينه وكلف ابنه سليمان بقتله، مع ان شمعى سب داود بامر الرب (2 صم 16 : 10). فنجيب ان الله كثيرا ما يستخدم الاشرار لاتمام اغراضه من انتقام وغيره الا انهم لا يبررون من العقاب لانهم فعلوا ما فعلوا مدفوعين بعامل فسادهم. وهكذا كان امر شمعى ويهوذا فلم يامرهما الرب ان يرتكبا ما فعلا لتتميم ارادته ولكنه تركهما يصنعا مشتهى قلبيهما ككل اثيم يتركه الرب لفساد ذهنه.اما قول (بان الرب قال له ان يسبنى) فقد قال الشيخ ابن المكين (فليس معناه ان الله استخدم رجل صالح لسب داود بل رجل شرير فهذا الرجل له خطايا متقدمه تقتضى قصاصه وهى وهى تتكامل بسبب داود وشتمه فمقدماته وملكاته الرديه اوجبت ان الله سمح له يسب داود ليستحق عظيم القصاص) اه. اما كون داود اقسم له انه لا يموت وحنث فى يمينه فذلك لان داود كان مسيح الرب. فمن حيثشخصه فقد سامحه ولكن من حيث كونه ممثلا للرب واهانته اهانه للرب كما فى (خر 22 : 28 ولا 24 : 15 و16) فقد راه مستحق العقاب. فقوله (لا تموت) اى من جرى اهانتك لى لا من جرى اهانتك لله. وجرى مثل ذلك فى تجديف مريم اخت موسى عليه فمع كونه سامحها وصلى لاجلها الا ان الله لم يلتفت لصلاته كما طلب واجرى عليها عقابه (عد 12) هذا على ان استتعطاف شمعى داود لم يكن ناشئا عن شعوره بذنبه بل نشا من الخوف من بطش داود وسلطانه.
8- بين اصحاح 23 : 8، 1 اى 11 : 11حيث ذكر فى الاول ان يوشيب بشبث التنحكمونى رئيس الثلاثه هز رمحه على 800 فقتلهم وفى الثانى ان يشبعام بن حكمونى رئيس الثوالث هز رمحه على 300 فقتلهم. فنجيب: ان الاول ذكر الذين قتلوا حالا وجرحوا وهربوا متاثرين بجراحهم وفى الثانى اقتصر على الذين سقطوا 200 حال القتال فقط. اما الاختلاف فى الاسم فقد سبق بيان علته.
9- بين اصحاح 24 : 1، 2 اى 21 : 1 ففى الاول قيل ان الله القى فى قلب داود ان يعد الشعب وفى الثانى ان الشيطان اغواه ليحصى اسرائيل. فنجيب ان معنى القول الاول باعتبار انه لا يحصل شىء بدون سماح الله وليس معنى ذلك انه راض على كل ما يسمح به. وفى الثانى انه الذى يحرك للشر هو الشيطان، ونسبه الامر فى الاول لله معناه انه راى فى داود عيبا فسمح وقوعه فى الخطا ليقوم به اعوجاجه.
10- بين اصحاح 24 : 9، اى 21 : 5 ففى الاول ان يوآب دفع لداود عدد الشعب 800.000 رجل ذى باس ورجال يهوذا 500.000 وفى الثانى كان كل اسرائيل الف الف 100.000 رجل مستل السيف ويهوذا 470.000 – فنجيب : واضح من سفر اخبار الايام الاول اصحاح 27 انه كان يوجد اثنى عشر رئيس فرقه يخدمون الملك وفى كل فرقه 24000 هعدد الجميع 288 الفا وغير هؤلاء ذكر فى نفس الاصحاح اثنا عشر الف لاسباط اسرائيل فمجموع الكل 300 الف وهو الفرق بين سفرى صوئيل الثانى واخبار الايام الاول. فصموئيل لم يذكر هؤلاء300 الف لانهم كانوا معروفين للملك. اما سفر اخبار الايام الاول فذكر هؤلاء واولئك بدليل قوله ((فكان كل اسرائيل. الخ)).اما صموئيل فلم يقل ((كل اسرائيل)) بل قال ((فكان اسرائيل. الخ)).هذا من حهه الخلاف فى عدد اسرائيل اما الخلاف فى عدد يهوذا فذلك لان صموئيل ذكر 30.000 كانوا من الجيش تحت السلاح محافظين على حدود فلسطين كما اشار فى (ص 1 : 1) اما سفر اخبار الايام الاول فلم يذكر فى عدد هذا السبط لفظ ((كل)) بل قال (يهوذا 47000 رجل).
11- وبين اصحاح 24 : 13، اى 21 : 21 ففى الاول قال ان جاد اخبر داود وقال له (تاتى عليك سبع سنى جوع) وفى الثانى انها ثلاث فقط. فنجيب : لا يخفى ان الجوع لا ياتى فى اوله شديدا بل يشتد رويدا رويدا ويزول رويدا رويدا فلهذا اقتصر فى سفر اخبار الايام الاول على ذكر ثلاث سنين التى يشتد فيها الجوع وترك سنتين من الاول وسنتين من الاخر التى يكون الجوع فيها خفيفا وقصد ان يكون عدد سنى الجوع كعدد ثلاثه اشهر هلاكه امام مضايقيه وثلاثه ايام الوباء الذين عرضها على داود مع سنى الجوع.
المتنيح القس منسى يوحنا
عن كتاب حل مشاكل الكتاب المقدس
المزيد
04 مارس 2020
أهمية الصوم
على جبل التجلى:-
علي جبل التجلي ، وقف ثلاثة يضيئون بنور مجيد وكانوا ثلاثتهم ممن أتقنوا الصوم إذ صام كل منهم أربعين يوماً وأربعين ليلة إنهم السيد المسيح له المجد ( متي 4: 2) ، وموسي ( خر 40 : 28 )، وإيليا ( 1 مل 19: 8) ،فهل يختفي وراء هذا المنظر البهي معني هام وهو انه بقهر الجسد في الصوم ، تتجلي الروح ، ويتجلي الجسد ؟ هل اختار السيد المسيح معه في التجلي إثنين من الصوامين ، ليرينا أن الطبيعة التي ستتجلي في الأبدية ، هي التي قهرت الجسد بالصوم ؟ تري ماذا قيل عن الصوم أيضاً ؟ لقد قيل :
الصوم أقدم وصية :-
الصوم هو أقدم وصية عرفتها البشرية ، فقد كانت الوصية التي أعطاها الله لأبينا آدم ، هي أن يمتنع عن الأكل من صنف معين بالذات ، من شجرة معينة ( تك 2: 16، 17) ، بينما يمكن أن يأكل من باقي الأصناف وبهذا وضع الله حدوداً للجسد لا يتعداها فهو ليس مطلق الحرية ، يأخذ من كل ما يراه ، ومن كل ما يهواه بل هناك ما يجب أن يمتنع عنه ، أي أن يضبط إرادته من جهته وهكذا كان علي الإنسان منذ البدء أن يضبط جسده . فقد تكون الشجرة " جيدة للكل ، وبهجة للعيون ، وشهية للنظر "( تك 3: 60) ومع ذلك يجب الإمتناع عنها وبالإمتناع عن الأكل ، يرتفع الإنسان فوق مستوي والجسد ، ويرتفع أيضاً فوق مستوي المادة ، وهذه هي حكمة الصوم ولو نجح الإنسان الأول في هذا الاختبار ، وانتصر علي رغبة جسده في الكل ، وانتصر علي حواس جسده التي رات الشجرة فإذا هي شهية للنظر لو نجح في تلك التجربة ، لكان ذلك برهاناً علي أن روحه قد غلبت شهوات جسده ، وحينئذ كان يستحق أن يأكل من شجرة الحياة ولكنه انهزم أمام الجسد ، فأخذ الجسد سلطانا عليه وظل الإنسان يقع في خطايا عديدة من خطايا الجسد ، واحدة تلو الأخري ، حتى أصبحت دينونة له أن يسلك حسب الجسد وليس حسب الروح ( رو 8: 1) وجاء السيد المسيح ، ليرد الإنسان إلي رتبته الولي ولما كان الإنسان الأول قد سقط في خطية الكل من ثمرة محرمة خاضعاً لجسده ، لذلك بدا المسيح تجاربه بالإنتصار في هذه النقطة بالذات ، بالانتصار علي الكل عموماً حتي المحلل منه بدأ المسيح خدمته بالصوم ، ورفض إغراء الشيطان بالكل لحياة الجسد ، أظهر له السيد المسيح ان الإنسان ليس مجرد جسد إنما فيه عنصر آخر هو الروح . وطعام الروح هو كل كلمة تخرج من فم الله ، فقال له " ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، بل بكل كلمة تخرج من فم الله " ( متي 4:4) ولم تكن هذه قاعدة روحية جديدة ، أتي بها العهد الجديد ، إنما كانت وصية قديمة أعطيت للإنسان في اول شريعة مكتوبة ( تث 8: 3) . وقد قيل عن حنه النبية إنها كانت " لاتفارق الهيكل عابده بأصوام وطلبات "( لو 2: 37)
وصام الرسل:-
في العهد الجديد ، كما صام المسيح ، صار رسله أيضاً وقد قال السيد المسيح في ذلك " حينما يرفع عنهم العريس حينئذ يصومون " ( متي 9: 15)وقد صاموا فعلاً وهكذا كان صوم الرسل أقدم وأول صوم صامته الكنيسة المسيحية وقيل عن بطرس الرسول إنه كان صائماً حتى جاع كثيراً واشتهي ان يأكل ( أع 10: 10) فظهرت له الرؤيا الخاصة بقبول الأمم وهكذا كان إعلان قبول الأمم في أثناء الصوم وليس الرسل كان يخدم الرب " في اتعاب في أسهار في أصوام "( 2 كو 6: 5) ، بل قيل عنه " في أصوام مراراً كثيرة " ( 2 كو 11: 27 ) وقيل إنه صام ومعه برنابا ( اع 14: 23) وفي أثناء صوم الرسل ظن كلمهم الروح القدس إذ يقول الكتاب " وفيما هم يخدمون الرب ويصومون ، قال الروح القدس إفرزوا لي برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه فصاموا حينئذ وصلوا ووضعوا عليهما الايادي "( أع 13: 2، 3) وما اجمل ما قاله الرب للرسل عن الصوم وعلاقته بإخراج الشياطين " هذا الجنس لا يخرج بشئ ، إلا بالصلاة و الصوم " ( مت 17: 21) إلي هذه الدرجة بلغت قوة الصوم في إرعاب الشياطين . وبم يكن الصوم قاصراً علي الأفراد ، إنما كان الشعب كله يصوم .
صوم الشعب كله:-
ويدخل في العبادة الجماعية ( وهو غير الصوام الخاصة ).
فيه تجتمع كل قلوب الشعب معاً ، في تذلل امام الله وكما اعتاد الناس أن يصلوا معاً واحدة ، وبنفس واحدة ، في صلاة جماعية يقدمونها لله ( أع 4: 24) ، وهذه غير الصلوات الخاصة التي في المخدع المغلق ، كذلك في الصوم هناك أصوام ، لها أمثلة كثيرة في الكتاب المقدس :
يشترك فيها جميع المؤمنين معاً ، بروح واحدة ، يقدمون صوماً واحداً لله إنه صوم للكنيسة كلها ولعل أبرز مثال له الصوم الذي صامه كل الشعب لما وقع في ضيقة أيام الملكة أستير حتي يصنع الرب رحمة ( إس 4: 3، 16) وصام الجميع بالمسوح و الرماد والبكاء ، وسمع الرب لهم وأنقذهم وكما صام الشعب كله بنداء عزرا الكاهن علي نهر أهوا متذللين أمام الرب ( عز 8: 21، 23) ، كذلك إجتمعوا كلهم بالصوم مع نحميا وعليهم مسوح وتراب ( نج 9: 1) وكذلك صام الشعب أيام يهوشافاط ( 2 أي 20: 3) ويحدثنا سفر أرمياء النبي عن صوم الشعب في أيام يهوياقيم بن يوشيا ( أر 36: 9) وصوم آخر جماعي في أيام يوئيل النبي ( يوئيل 3: 5) . ومن الأصوام الجماعية أيضاً :" صوم الشهر الرابع ، وصوم الخامس ،وصوم الخامس ، وصوم السابع ، وصوم العاشر "( زك 8: 19) والصوم معروف في كل ديانة وقد صام الأمم.
صوم الأممين أيضاً:-
ولعل أبرز مثال له صيام أهل نينوي ( يون 3) وكيف أن الله قبل صومهم ، وغفرلهم خطاياهم وكذلك كرنيليوس قائد المائة ( أع 10: 30)) وكيف قبل الله صومه ، وارسل إليه بطرس الرسول الذي وعظه وعمده ويحدثنا العهد القديم عن صوم داريوس الملك أثناء تجربة دانيال النبي، وكيف " بات صائماً ، ولم يؤت قدامه بسراريه " ( دا 6: 18) الصوم معروف في كل ديانة ، حتى الديانات الوثنية و البدائية مما هلي أنه معروف منذ القدم قبل أن يفترق الناس والذي يقرأ عن البوذية و البراهمية و الكنفوشيوسية ، وعن اليوجا أيضاً ،يري أمثلة قوية عن الصوم ، وعن قهر الجسد لكي تأخذ الروح مجالها والصوم عندهم تدريب للجسد وللروح أيضاً وفي حياة المهاتما غاندي الزعيم الروحي الشهير للهند ، نري الصوم من أبرز الممارسات الواضحة في حياته وكثيراً ما كان يواجه به المشاكل وقد صام مرة حتي قال الأطباء عن دمه بدأ يتحلل وبالصوم اكتشف اليوجا بعض طاقات الروح هذه الطاقة الروحية التي كانت محتجبة وراء الاهتمام بالجسد وقد عاقها الجسد عن الظهور ولم يكتشفوها إلا بالصوم ويري الهندوس أن غاية ما يصلون إليه هو حاله ( النرفانا ) أي انطلاق الروح من الجسد للإتحاد بالله ، لا يمكن أن يدركوها إلا بالنسك الشديد والزهد و الصوم وهكذا نجد أنه حتى الروح البعيده عن عمل الروح القدس ، التي هي مجرد روح تنطلق من رغبات الجسد ومن سيطرته بالتداريب ، تكون روحاً قوية ، تصل إلي بعض طاقاتها الطبيعية ، فكم بالحري التي إلي جوار هذه القوة الطبيعية تكون مشتركة مع روح الله …؟
الصوم هبة:-
وإن عرفنا فوائد الصوم ، نجد أنه هبة من الله نعم ، ليس الصوم مجرد وصية من الله إنما هو هبة إلهية إنه هبة ونعمة وبركة إن الله الذي خلقنا من جسد ومن روح ، إذ يعرف أننا محتاجون إلي الصوم ، وان الصوم يلزم حياتنا الروحية لأجل منفعتها ولأجل نمونا الروحي وأبدتنا لذلك منحنا ان نعرف الصوم ونمارسه وأوصانا به كأب حنون وكمعلم حكيم.
قداسة مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث
عن كتاب روحانية الصوم
المزيد
03 مارس 2020
قدسوا صوما نادواباعتكاف
هلموا معى يا أصدقائى وأخوتى الأحباء لنبحر معاً عبر هذا النهر العظيم (الصوم الكبير) حاملين معنا زاداً يكفى رحلتنا التى - بلا شك - سنتزود فيها بزاد آخر يكفى لرحلة العمر إلى السماء.دعنا الآن نرى ما هو الزاد اللازم لرحلة الصوم.
الصوم يحتاج:-
أ- التوبة القلبية :
"ارجعوا إلىّ بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والنوح. ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم. وارجعوا إلى الرب إلهكم؛ لأنه رؤوف رحيم بطئ الغضب وكثير الرأفة ويندم على الشر" (يؤ 12:2،13). إن الصوم الكبير هو موسم التوبة وتجديد العهود... موسم العودة إلى أحضان المسيح نرتمى فيه ونبكى... نبكى على الزمان الردئ الذى مضى "لأن زمان الحياة الذى مضى، يكفينا لنكون قد عملنا إرادة الأمم سالكين فى الدعارة والشهوات وإدمان الخمر، والبطر والمنادمات وعبادة الأوثان المحرمة" (1بط 3:4).
"أنها الآن ساعة لنستيقظ من النوم. فإن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. قد تناهى الليل وتقارب النهار؛ فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور، لنسلك بلياقة كما فى النهار" (رو 11:13-13).
آه... لو تحرك قلب الكنيسة نحو التوبة بحس واحد... آه لو تحرك قلبى وسط الجماعة المقدسة للعودة إلى المسيح... إن الكنيسة سبقت وأبرزت لنا نموذج توبة أهل نينوى، لنرى ونعجب كيف وماذا تفعل التوبة الجماعية... وتظل الكنيسة طوال الصوم تبرز لنا نماذج رائعة للتوبة: الابن الضال، السامرية، المخلع، المولود أعمى... وكيف أن لمسة الرب يسوع المسيح شافية للنفس والجسد والروح ومجددة للحواس وباعثة للحياة.
ربى يسوع.. سامحنى وأعف عنى وأسندنى لكى لا أخطئ إليك ثانية... دعنى أقبل قدميك وأبلهما بدموعى وحبى... دعنى أرتمى فى حضنك الإلهى كطفل فى حجر أمه... أبكى بفرح العودة... أبكى برجاء النصرة.. أبكى بروح القيامة من سقطاتى الرديئة... سأكون لك بنعمتك... لن يستعبدنى العالم ثانية... لن يسبينى الشيطان مرة أخرى... لن يخدعنى الجسد بأوهامه... لقد ذقت مرارة الخطية واكتشفت وهمها الردئ... كنت أظنها حرية مفرحة وجدتها عبودية قاسية... الآن أدرك بنعمتك أنك وحدك فيك الحرية والفرح والسعادة... وبدونك حياتى مرة وكئيبة... الآن أدرك لماذا يفرح الصائم "متى صمتم فلا تكونوا عابسين" (مت 16:6)... أننى أفرح الآن بعودتى إليك بعد التوهان... الآن أستقر فى حضنك بعد الضياع... الآن نفسى تتوق إلى القداسة بعد أن دنست نفسى وجسدى بأفعالى الذميمة.. الآن يتغير اتجاه حياتى ليكون المسيح هدفى ومحور اهتمامى بل و"لى الحياة هى المسيح" (فى 21:1) بعد أن كان العالم ولقمة العيش، والجسد، والزلات قد استولوا على اغتصاباً؛ فأفقدونى هويتى ومعنى وجودى وسلبوا منى فرحتى، وتركونى ملقى بين حى وميت أنتظر سامرياً صالحاً يضمد جراحاتى.
ب- الهدوء والصمت :
"لأنه هكذا قال السيد الرب قدوس إسرائيل بالرجوع والسكون تخلصون. بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (أش 15:30) إن إيقاع الحياة الصاخب، وعنف متطلبات المعيشة، وكثرة الحركة والانشغال والهموم، افقدوا الإنسان معناه وإنسانيته وحولوه إلى مجرد ترس فى ماكينة ضخمة يتحرك بتحركها، ويقف بوقوفها إن وقفت... الإنسان اليوم يعيش فى تشتت مرعب يبدد قوى الجسم والنفس والعقل فكم بالحرى قوى الروح... إننا أحوج ما نكون إلى فترات هدوء واعتكاف نعود فيها إلى أنفسنا ونغوص فى أعماقنا بدون تأثير المشتتات الخارجية... إنها رحلة إلى أعماق الإنسان لاكتشاف الهوية وضبط الاتجاهات... دعنا نختزل من برنامجنا اليومى كل ما هو غير ضرورى: الثرثرة والأحاديث الباطلة، والتليفزيون، والمكالمات التليفونية الطويلة دون داع، والزيارات غير الضرورية، والملاهى والمآدب... ألا ترى أنه سيتجمع لدينا وقت كاف للتمتع بالهدوء والاعتكاف فى جلال الصمت وخشوع العبادة... والتأمل والتعمق واكتشاف سطحيتنا وزيف علاقاتنا مع الآخرين... إن كلامنا الثرثار فى طوفان الأحاديث الباطلة قد فقد قوته ومعناه... الصوم بجلاله يعيد إلى الكلمة قدسيتها ووقارها وسلطانها... "إن كان أحد لا يعثر فى الكلام فذاك رجل كامل قادر أن يلجم كل الجسد أيضاً" (يع 2:3)، آه لو نستطيع أن نقتطع من برنامجنا اليومى الصاخب لحظات للهدوء والاعتكاف والتزام الصمت. اسمع الصوت الذى كلم ارسانيوس قديماً: "يا ارسانيوس الزم الهدوء والبعد عن الناس، وأصمت، وأنت تخلص لأن هذه هى عروق عدم الخطية". فإن كان ارسانيوس قد لزم الصمت والبعد عن الناس طول العمر فليس بكثير علينا أن نلزمها لحظات يومياً خاصة فى الصوم.العالم اليوم يحتاج إلى شهادة حية، لا بالوعظ والكلام، بل بقديسين يحملون نوراً وفرحاً وعمقاً، ورزانة ووقاراً، ولهم سر الصمت وقوة الهدوء، كعلامة وبرهان على حضور الله فيهم.
ج- العطاء :
"طوبى للرحماء على المساكين، فإن الرحمة تحل عليهم، والمسيح يرحمهم فى يوم الدين ويحل بروح قدسه فيهم". "يقولون لماذا صمنا ولم تنظر؟ ذللنا أنفسنا ولم تلاحظ؟".. "أمثل هذا يكون صوم أختاره؟... هل تسمى هذا صوماً ويوماً مقبولاً للرب؟ أليس هذا صوماً أختاره: حل قيود الشر. فك عقد النير، وإطلاق المسحوقين أحراراً، وقطع كل نير. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك. إذا رأيت عرياناً أن تكسوه، وأن لا تتغاضى عن لحمك" (أش 3:58-7).
"لا تنسوا فعل الخير والتوزيع (على الفقراء) لأنه بذبائح مثل هذه يسر الله" (عب 16:13) لأن "الديانة الطاهرة النقية عند الله الآب هى هذه، إفتقاد اليتامى والأرامل فى ضيقتهم، وحفظ الإنسان نفسه بلا دنس من العالم" (يع 27:1) والقديس اشعياء سجل لنا ما قاله أبو مقار لرهبان من الإسكندرية "إن من لم يشأ أن يصنع رحمة من فلس واحد فلن يعمل رحمة من ألف دينار"وقال القديس الأنبا موسى القوى "الصدقة بمعرفة تولد التأمل فيما سيكون وترشد إلى المجد ،أما الإنسان القاسى القلب فإنه يدل على انعدامه من أى فضيلة""أعط المحتاجين بسرور ورضى لئلا تخجل بين القديسين وتحرم من أمجادهم" "اجذب المساكين لتخلص بسببهم فى أوان الشدة" إن الرحمة وروح العطاء إنما هما دليل على القلب الزاهد المحب لله... أنه القلب الذى يسعد بالعطاء ويفرح لفرح الآخرين والصوم المقدس فرصة رائعة لتدريب النفس على الزهد فى حطام الدنيا.. والعودة إلى الفلسفة الحقيقية التى بها نكتشف أن مكاسب العالم هى نفاية، وأن الممتلكات هى معوقات وثقل كان من الأجدر بنا أن نستثمرها فى كسب أصدقاء يقبلوننا فى المظال الأبدية (راجع لو9:16) بل والأكثر من هذا سيكون العطاء وسيلة لتقديسنا "بل أعطوا ما عندكم صدقة فهوذا كل شئ يكون نقياً لكم" (لو 41:11)... وكذلك الصدقة هى طريق للكمال: "إن أردت أن تكون كاملاً؛ فأذهب وبع أملاكك وأعط الفقراء؛ فيكون لك كنز فى السماء وتعال اتبعنى" (مت 21:19)، إذن فالصوم المقدس فرصة للتعبير العملى عن إيماننا بأنه "ليس بالخبز وحده (ولا بأى ممتلكات للدنيا) يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله" (مت 4:4)، "فإنه متى كان لأحد كثير، فليست حياته من أمواله" (لو15:12).
خطورة الإفطار:-
المسيحى الحقيقى هو عضو فى جسد المسيح الذى هو الكنيسة... وبرهان عضويته أنه مشارك للكنيسة فى كل ممارساتها... فنحن نصوم - ببساطة - لأن الكنيسة تصوم... لأننا منها ومعها وفيها... والروحانية الأرثوذكسية هى روحانية شركة.. كما كانت الكنيسة فى عصر الرسل تحيا حياة الشركة الكاملة، إذ كان المؤمنون يواظبون معاً على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات... فالذى يحرم نفسه من نعمة شركة الكنيسة يخطئ إلى نفسه ويسئ إلى الكنيسة.. وكأنه باع انتماءه للجسد المقدس (بأكلة عدس).. لذلك تحذر الكنيسة أولادها من كسر الصوم، لئلا يخسروا الكثير. والعجيب أن نفس القانون الذى يمنع الفطر فى الصوم، يمنع أيضاً الصوم فى الفطر (الخماسين والآحاد والأعياد)، ليبرهن أننا لا نقصد الأكل أو عدمه، لكننا نقصد الشركة والحب والعمل المشترك، يجب أن (نكون معاً)، "مجاهدين معاً بنفس واحدة لإيمان الإنجيل" (فى 27:1).
نيافة الحبر الجليل الانبا رافائيل أسقف عام وسط القاهرة
عن كتاب الصوم الكبير عوده الى الله
المزيد
02 مارس 2020
الصوم والشفاء
الصوم وصية إلهية وُجِّهت للإنسان لتأكيد حبه لله، وذلك حين طلب الله من الإنسان أن يأكل من كل الشجر في الجنة ماعدا شجرة معرفة الخير والشر. وهكذا وُجِد الصوم في عبادة الإنسان لله، وكان أمام الإنسان فرصة الطاعة لتأكيد محبته لله، أو المعصية والأكل والسقوط ودخول الموت إلى الإنسان، وهذا ما حدث فعلًا... لذلك حين تجسد الابن الكلمة اُقتيد بالروح للبرية صائمًا حتى يُصحّح خطأ آدم الأول، ويصير آدم الثاني رأس البشرية الجديدة. ومن هنا اكتسب الإنسان أهمية الصوم، لأنه يرفض الموت ويحب الحياة، لذلك ركزت الكنيسة في قراءات الآحاد علي الأمور التالية:
(1) علاقة الصوم بالعبادة: وهذا إنجيل أحد الرفاع قبل بداية الصوم، ويضع صورة العبادة المقبولة: في صلاة في المخدع، وصوم داخلي بقناعة وتُعفّف النفس، وصدقة مُخفاة عن أعين الجميع وعطاء المديون وليس المتباهي بمنطق «من يدك وأعطيناك... والمعطي المسرور يحبه الرب»، كمن هو فرح بسداد ديونه للرب المسئول عن الفقير والمحتاج. وهنا دعوة للاستشفاء من التباهي والمتعة بالتفضُّل علي الآخر.
(2) علاقة الصوم بالنصرة: كما انتصر السيد المسيح على الشيطان الذي لم يستطع أن يُسقطه كما حدث مع آدم الأول، وذلك أعطى للإنسان الجديد كرامة أقوي وأعلىن حتى مع إمكانيات العهد الجديد ينتصر على عدو الخير بصورة تجعله يحيا بالفضيلة والقداسة الداخلية بعيدًا عن موت الخطية. وهذا نوع من الشفاء من مرض الخطية، فالذي يبدأ بالعبادة ومنها الصوم، يصل إلى النصرة على موت الخطية.
(3) علاقة الصوم بالعودة لبيت الآب: حيث السيادة ورفض عبودية الكورة البعيدة مع الخنازير المتسخة، والتمسك ببيت الآب وبالأمان وبالغذاء والحياة الكريمة، والاستشفاء النفسي والجسدي. والصوم من العوامل الأساسية لحفظ إرادة الإنسان صالحة نقية، وتظل اختيارات الإنسان تُفرح قلب الله دائمًا بنعمة الله.
(4) علاقة الصوم بالمصالحة: حين التقي الرب بالسامرية لكي يُنهي العداوة بين اليهود والسامريين، إذ هو المخلص والمصالح الإنسان مع الله والإنسان مع أخيه والإنسان مع الخليقة. وهنا نجد المصالحة تبدأ مع الله ثم مع الإنسان ثم مع الخليقة، وبذلك تمنح الحياة، لأن الخصومة موت لأنها عداوة، أمّا المصالحة فحياة.
(5) علاقة الصوم بالشفاء: وهذه نتيجة لكل ما سبق بالصوم. والشفاء هو المحصِّلة لبركات الصوم في كل ما سبق الحديث عنه. وشفاء الإرادة التي بدأت بالعبادة، فاختزنت للنصرة على الشر، بفضل العودة لبيت الآب، والمصالحة التي تقدِّس الإرادة، وتُنير العينين لرؤية الحياة الأبدية، بالقيامة التي تهزم الموت إلى الأبد، من خلال الخلاص والفداء الذي نحتفل به في أسبوع الآلام، وصولًا إلى القيامة التي تعلن جسد الحياة الأبدية. وواضح جدًا أن الصوم كعبادة، مع الصلاة والصدقة، يُحرّر النفس من سلطان الشيطان، ويعيدنا لبيت الآب، ويُنهي العداوة بالمصالحة الشافية للروح بالتوبة، وللنفس بالتوبة، وللنفس بالقداسة، وللجسد بالحفظ من إغراءات أو شهوات تضر بالكيان الإنساني. ونخلص من كل هذا أن مراحل الشفاء الإرادي من أي ضرر شرير تتوقف على الصوم بطريقة روحية تقدّس الإرادة، لذلك قيل «وتنبت صحتك سريعًا» (إش58: 8).
نيافة الحبر الجليل الأنبا بنيامين مطران المنوفية وتوابعها
المزيد
01 مارس 2020
الأحد الأول للصوم الكبير أحد الكنوز
(عظة على إنجيل متى19:6ـ33)” لاَ تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ ” (مت19:6)وبعد أن أخرج السيد المسيح من نفوسنا مرض التفاخر والعُجب، نراه يبدأ في الوقت المناسب حديثه عن الفقر الاختياري. إذ أنه لا يوجد شئ يشجّع المرء على محبة المال أكثر من حب المجد الباطل.وفيما سبق اكتفى الربُّ بأن يوصينا أن نصنع الرحمة. أما هنا فبيّن لنا كيف تكون هذه الرحمة، بقوله: ” لا تكنزوا لكم كنوزًا“، وذلك لأنه لم يكن ممكنًا في بداية حديثه أن يُركَز الكلام كله دفعة واحدة حول ازدراء الثروات وذلك بسبب طغيان حب المال. لذا نراه يُجزّئ الحديث إلى مقاطع صغيرة، ويقدّمه قطرة قطرة للنفوس كي يصبح كلامه مقبولاً، لهذا فقد قال في البداية ” طوبى للرحماء” (مت7:5). وبعد هذا ” كن مراضيًا لخصمك” (مت25:5)، ثم أضاف: ” من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك اترك له الرداء أيضًا” (مت40:5).وهنا ما هو أعظم بكثير، إذ لا يُفترض وجود خصم أو طرف آخر، بل إنه يريد أن يعلّمنا ازدراء الثروات نفسها ويوضّح لنا أنه يَسِنّ هذه الشرائع لا من أجل الذين ينالون الصدقة بل من أجل الذين يعطون الصدقة. وفي هذا الموقف أيضًا لم يَقُل السيّد كل ما أراد، بل تكلّم بلطف لأن الوقت لم يكن قد حان، وهو هنا يفحص الأفكار فقط، متخذًا موقف الناصح أكثر منه موقف المُشرّع من جهة أقواله حول هذا الموضوع وبعد أن قال ” لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” أضاف” حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ ” (19:6) حيث إنه يلمّح إلى الأمور التي يخافون منها بالأكثر، إذ يقول: ” مما تخاف؟ هل تخاف أن تنفد أموالك إن أنت تصدّقت بها؟ لا، إعط صدقة وتأكد أن أموالك لن تنفد، بل ستزداد بشكل عظيم حقًا، لأن الخيرات السماوية ستُضاف إليها. لقد شدَّ انتباههم بقوله لهم إن كنزهم لن يُنفق بل سيبقى هكذا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى جَذَبَ انتباههم إلى أمر آخر، إذ أنه لم يقل فقط: ” سيحفظ كنزكم إن تصدقتم”، بل هدّد بالشيء المعاكس أيضًا، وهو أنه سيَفَنى إن لم تتصدقوا… وكيف؟ أسيَفنَى السوسُ الذهَب؟ بالطبع لا، لكنهم اللصوص. وهل صار الجميع ضحايا للسرقة؟ إن لم يكن الجميع فعلى الأقل الأكثرّية منهم. ولهذا فإننا نجد الربّ، وكما قلت سابقًا قد طرح أمرًا آخرً بقوله: ” لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا” (مت21:6). حتى ولو لم يحدث أي من هذه الأشياء، فإنك ستتعّرض لأذى ليس بالقليل لأنك قد وضَعَتَ كل اهتمامك في الأشياء السفلّية، وصرت عبدًا بعد أن كنت حُرًا، ولأنك نحيّت جانبًا الأمور السماوية، وأصبحت غير قادر على أن تدرك أي شئ منها، وصار كل تفكيرك يدور حول المال والربا والقروض والأرباح والأمور التجارية الخسيسة، فهل هناك ضياع أكثر من هذا؟
إن شخصًا كهذا يكون أسوأ من أي عبد ـ إذ أنه تخلّى عن أهم شئ، أي عن سمو الإنسان وحريته فمهما تحدّث معك أي شخص فأنت عاجز عن سماع الأمور التي تهم خلاصك، إذ أن ذهنك كله منحصر في التفكير في المال، ومُقيد بواسطة طغيان الثروة، مثل كلب مربوط بسلسلة قوية إلى قبر، تنبح على كل من يقترب منك، وبغير توقف تحرس ثروات غيرك. أيوجد حماقة أكبر من هذه؟ولأن حديثه هذا كان أعلى من مستوى سامعيه، ولم يكن من السهل لكثيرين أن يروا من أول نظرة أين تكمن العلّة، وبالتالي لم تكن الفائدة واضحة، لكن كانت الحاجة إلى مستوى روحي يَقدْر على التمييّز، ومع أن هذا كان واضحًا من حديثه عندما قال” حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك“، إلاّ أنه أوضحه أكثر عندما وجّه الحديث لا عن الأشياء المعقولة، بل عن الأشياء المحسوسة بقوله إن: ” سراج الجسد هو العين” (22:6)، ومعنى قوله هذا هو ما يلي لا تدفن الذهب أو أي شئ من هذا القبيل في الأرض، لأنك ستكنز هذا كله، ثم يمتد إليه العث والصدأ وأيادي اللصوص، وحتى إن لم تتعّرض كنوزك لمثل هذه الأضرار، فإنك لن تنجو من استعباد قلبك واستمالته إلى كل ما هو أرضّي، إذ ” حيث يكون كنزك يكون قلبك أيضًا“. أما إن وضعت كنزك في السماء، فإنك لن تجنى هذا الثمر فقط الذي هو الحصول على المكافآت عن هذه الأمور، بل ستكون قد نُلت مجازاتك هنا على الأرض وستأخذ أجرك معك إلى هناك لأنك وضعت اهتماماتك فيما هو في السماء، لأنه من الواضح إنه حيث يكون كنزك سيكون هناك اهتمامك أيضًا لكن إن كان هذا الكلام غامضًا بالنسبة لك فاسمع ما يلي:
” سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ ” (22:6ـ23)إن السيد يوّجه الحديث نحو الأمور التي هي في متناول حواسنا بصورة أكبر فيقول: إن كنت لا تعلم مقدار الضرر الذي يصيب (الذهن) فتعلّم من أمور الجسد، إذ مثلما العين بالنسبة للجسد هكذا الذهن بالنسبة للنفس تمامًا، فبالتأكيد إنك لن تفضّل التحلّي بالذهب وارتداء الملابس الحريرّية عن أن تكون عيناك سليمّتين، إذ تحسب أن سلامة عينيك هو أمر أكبر أهمية من كل أمر آخر. إذ عندما تكون العينان ضريرتين تضعف معظم طاقة الأعضاء الأخرى. هكذا أيضًا عندما يُفسَد الذهن ستمتلئ حياتك بشرور لا تحصى. وكما أنه في اهتمامنا بالجسم نهدف إلى جعل عيوننا صحيحة، هكذا أيضًا في نفوسنا، يجب أن يكون اهتمامنا بأن يكون الذهن صحيحًا. فإن شوّهنا الذهن، الذي ينير على بقية الأعضاء، فكيف سنرى بشكل أوضح؟ فكما أن الذي يدّمر النبع يجفّف النهر أيضًا، هكذا الذي يُطفئ الذهن (الفهم)، فإنه يُخزِى كل أعماله في هذه الحياة، لهذا يقول السيد: ” إن كان النور الذي فيك ظلامًا فالظلام كم يكون“إن الله قد أعطانا الفهم كيّ نطرد كل جهل ولنحكم بالصواب على الأمور، وعندما نعمل بهذا الفهم كنوع من السلاح والنور ضد كل ما هو خطر أو ضار، يمكننا أن نبقى سالمين، لكننا نبذّر هذه النعمة في أمور عديمة النفع ونافلة إن من يوجد في مكان مظلم، لا يستطيع أن يتحرك منه إلاّ إن سطعت الشمس. أما من لديه مشكلة في نظره فإنه لن ينظر حتى وإن أشرقت الشمس. هذا ما يحدث بالضبط لِمْنَ نتكلّم عنهم هنا. فإنهم لا يدركون ولا حتى شمس البّر الذي أشرق عليهم ويدعوهم، إذ أن الغِنَى قد أعمى أبصارهم، ولأجل هذا فهم يكونون في ظلام مضاعف: الأول ظلام في داخلهم، والثاني ظلام بسبب عدم اتباع وصيّة المعلّم فلنتبع نحن المعلّم بكل حرص، حتى نستطيع أن نجد النور الحقيقي مرّة أخرى.
سبب العَمَى:-
وكيف يمكن أن نبصر مرّة أخرى؟، هذا ممكن عندما تعرف كيف صرت أعمى. وكيف صرت أعمى؟ بالتأكيد بسبب شهواتك الباطلة. لأنه كما أن هناك سوائل تؤذى العين، هكذا شهوة المال فإنها تؤذى النظر مسببة عتامة كثيفة له. غير أن هذه العتامة يمكن أن تنقشع إن نحن قَبلنا شعاع تعاليم المسيح، إن نحن سمعنا وصاياه وكلماته القائلة: ” لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض“. وربما يتساءل شخص قائلاً: وأي شئ سأربح من السماع في الوقت الذي تتملكّني فيه الشهوة؟
تأثير كلام الله:-
إن سماع كلمة الله باستمرار قادر على إزالة الشهوة. أما إن كنت تُصّر على أن تسيطر عليك هذه الشهوة، فإعرف إن الأمر ليس هو مجرّد شهوة. فما هي هذه الشهوة التي تجعلك في عبودية ثقيلة، تئن تحت نير ثقيل ومحاصر كما في سجن، تعيش في ظلام مملوء بالاضطراب، تحتفظ بالأموال للآخرين وباستمرار، من أجل أعدائك؟ مع أي شهوة تتفق كل هذه الأمور؟ ألاّ يناسب هذه الأمور أن نبتعد عنها ونهرب منها؟ أي شهوة هذه التي تجعلك أن تترك كنوزك بين اللصوص؟ إن كنت ترغب في أموالك بالحقيقة فيجب أن تحفظها في مكان آمن. لأن ما تفعله الآن لا يدّل على إنسان يرغب في حفظ المال، لكن يدّل على حالة الاستعباد والضياع والقلق المستمر التي تسيطر عليه فإن دلّك شخص على مكان غير مطروق هنا على الأرض وآمن، وإن ذهب بك إلى الصحراء وأعطى لك وعودًا بحماية أموالك، فإنك لا تترّدد ولا تتحفظ، بل تُظهر ثقة في كلامه وتنقل أموالك حيث يرشدك. أما إن وعدك الله وليس إنسان بنفس هذه الوعود واقترح عليك لا الصحراء بل السماء مكانًا لحفظ كنوزك، فإنك لا تفعل الشيء نفسه ولا تُظهر ثقة بوعوده أو تَتَبع كلامه. وحتى وإن كانت كنوزك محفوظة تمامًا هنا على الأرض، فإنك لن تقدر أن تتحرّر من حمل الهموم بسببها، وحتى وإن كنت لن تفقدها فإنك لن تُعتَق من القلق خوفًا من فقدها. أما إن كان كنزك في السماء فإنك لن تعاني شيئًا من هذا بالمرّة، بل وأكثر من هذا فإنك ستربح لأنك لن تخفي ذهبك بل إنك تزرعه. حيث إنه لن يصير كنزًا فقط بل بذرة أيضًا وأكثر من الاثنين معًا لأن البذرة لن تبقى دائمًا، أما إن كان كنزك في السماء فإنه سيبقى دائمًا، وبينما الذهب لا يثمر، فإن كنزك هذا الذي في السماء سيعطيك ثمرًا لا يفنى. وإن حاولت أن تتعلّل بطول الزمن الذي ستحصل بعده على المكافأة، فإني أستطيع أن أبيّن لك أنك تربح الكثير هنا في حياتك على الأرض وخلاف ذلك فإني سأحاول أن أبيّن لك أن كثير مما تفعله في حياتك هنا على الأرض يكون بدون فائدة على الإطلاق إنك تتعب كثيرًا وتعمل أشياء عديدة في هذه الحياة، غير أنك لن تتمتع أنت نفسك بها. وإن وجّه إليك أحد اللوم على هذا، فإنك تجيب بأنك تفعل هذا لأولادك ولأحفادك ظانًا أنك بهذا قد أُعِّطَيَت تبريرات لعمل المزيد من هذه الأفعال. فعندما تبني القصور وأنت في شيخوخة عارمة وغالبًا ما تنتهي أعوامك قبل أن تسكن فيها. وعندما تزرع أشجارًا تعطى ثمارًا بعد سنوات عديدة، وعندما تشتري أراضي وعقارات بالتقسيط وتحوز ملكيتها بعد مدد طويلة، وعندما تفعل أشياء أخرى مماثلة ولا تتمتع بها، فهل تفعل ذلك لنفسك أم للآخرين؟أفليس إذن من الحماقة أن لا تتضايق بالمرّة هنا بسبب تأخر نهاية الأزمنة في الوقت الذي ستخسر فيه مكافآت بسبب هذا التأخير؟
الوقت قريب:-
وغير هذا فإن نهاية الأزمنة ليست ببعيدة أطلاقًا، والوقت قريب جدًا ولا نعرف، فربما في جيلنا هذا تكون نهاية الأزمنة ويأتي ذلك اليوم المخوف حيث الدينونة الرهيبة. إن علامات كثيرة قد تحققّت، والإنجيل بُشر به في كل المسكونة، والحروب والزلازل والمجاعات قد وقعت، والمسافات لم تعد بعد بعيدة. ألاّ تشاهد العلامات؟ هذه هي العلامة الكبرى أن الناس في زمن نوح لم يأخذوا بالتحذيرات بالفناء وبينما هم يمزحون ويأكلون ويفعلون كل ما اعتادوا عليه، فعندئذٍ فاجأهم العقاب الرهيب. وحدث نفس هذا الأمر مع أهل سدوم. فبينما كانوا يعيشون في حياة اللهو غير متوقعين شيئًا بالمرّة، أصابتهم الصواعق التي وقعت عليهم. فلنضع هذه الأمور إذن أمام أعيننا ونوجّه نفوسنا للاستعداد للرحيل من هنا. لأنه وحتى إن لم يكن قد جاء موعد رحيلنا جميعًا معًا، فإن نهاية كل واحد فينا هي قريبة، شيخًا كان أم شابًا. وعندما نرحل لن نستطيع أن نشترى لا زيتًا أو حتى نطلب سماحًا من الآخرين. ولن يستطيع إبراهيم أو نوح أو أيوب أو دانيال أن يشفع فينا وفي الوقت المُتاح لنا فلنعد أنفسنا لتلك المدينة السمائية، ولنجمع لأنفسنا زيتًا وفيرًا ولنكنز كل ما نملك في السماء، حتى نتمتع بها في الوقت المناسب وعندما نحتاج إليها، بالنعمة ومحبة البشر التي لربنا يسوع المسيح الذي له القدرة والمجد الآن وكل أوان وإلى دهر الدهور. آمين.
لا تقدرون أن تخدموا الله والمال:-
” لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ ” (24:6) ألاّ ترون أن السيّد يبعدنا قليلاً قليلاً عن الأمور المادية، وبالتفصيل يحدّثنا عن وصيّة الفقر الاختياري والنصرة على طغيان شهوة المال؟ لأنه لم يكتفِ بما سبق أن قاله، رغم أنه هام وليس بالقليل، بل أضاف أمورًا أخرى. لأنه أي شئ أفظع من الأمور التي ذُكرت الآن انتبهوا إذن بأي طريقة يوضّح السيّد ما سوف نربحه وكيف يبيّن الخسارة التي تعود علينا لو لم نفعل ما يوصينا به. لأنه يقول لنا إن الثروة لن تؤذيكم في هذا فقط، بل إنها سوف تكون سبب مهاجمة اللصوص لكم، وإنها سوف تجعل ذهنكم معتمًا إلى أقصى درجة، وتبعدكم عن خدمة الله، جاعلة إياكم أسرى الثروات. وفي الحالتين هي تؤذيكم، بدفعكم لتكونوا عبيدًا للأشياء التي يُفترض أن يكون لكم أنتم سلطانًا عليها، ومن ناحية أخرى، بإقصائكم عن خدمة الله الذي يجب أن تخدموه أكثر من أي أحد آخر. لأنه كما كان قد أوضح هناك أن الضرر هو مُضاعف وذلك عندما يضع إنسان كنزه هنا على الأرض حيث يفسده السوس ولا يضعه في السماء حيث يضمن حفظه. هكذا هنا يذكر أن الخسارة هي مزدوجة حيث إنه يتحدث عن الأشياء التي تجعلنا عبيدًا للشياطين. ولكن السيد لا يتحدّث عن هذه الأمور مباشرة بل بطريقة بسيطة عندما يقول: ” لا يقدر أحد أن يخدم سيدين” ويقصد أن السيدّين الاثنين يفرضان أمورًا كلُّ عكس الآخر، إذا لو لم يكن الحال هكذا لما كانا اثنين بل سيدًا واحدًا. كما كان ” لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة” (أع32:4)، وبالرغم من أنهم كانوا أشخاصًا عديدين إلاّ أن اتفاقهم في الرأي جعلهم وكأنهم شخص واحد. وبعد ذلك شرح هذا قائلاً إنه لن يخدمه بل إنه سيبغضه ويحتقره. وذلك ” لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر“. ويبدو أن في هذا القول تكرار، لكن الواقع هو أنه قصد أن يقول إن التغييّر إلى الأفضل هو ممكن، وذلك لئلا تقول: لقد صرت عبدًا وانتهى الأمر، لقد وقعت تحت طغيان الثروة. هو يريد إذن أن يقول إن تغييّر الحال ممكن ومن المستطاع أن يغيّر المرء ذاته من الحالة الأولى إلى الثانية والعكس وبعد أن تكلّم بصورة عامة على هذا النحو كي يقنع السامع وليقيّم ما قد سمعه، وكي يحكم وفقًا لطبيعة الأمور، يكشف السيّد أمرًا جديدًا بقوله: ” لا تقدروا أن تخدموا الله والمال“. لنرتعد عندما ندرك ماذا فعلنا حتى يقول السيّد المسيح هذا ويضع ما هو من ذهب في نفس مقام الله. ولكن إن كان هذا يصدمنا، فإن حدوثه في أفعالنا وفي تفضيلنا لطغيان الذهب على خوف الله هو أمر يصدم أكثر بكثير ماذا إذن؟ ألم يكن هذا الأمر ممكنًا بين الأقدّمين؟ على الإطلاق. قد يقول المرء ” كيف إذن تقدّم إبراهيم وأيوب في هذه الفضيلة؟ لا تقل لي عن الذين هم أغنياء، وإنما عن الذين كانوا مستعبدين للثروات. لأن أيوب كان غنيًا ومع ذلك لم يكن يخدم المال، وإنما كان يملكه ويتحكم فيه، لقد كان أيوب سيّدًا لا عبدًا. وكأنه كان وكيلاً على أموال شخص آخر. وهكذا كان يملك كل تلك الأشياء ولم يكن يشتهي أموال الآخرين، بل حتى أمواله كان يهبها لمن كانوا في احتياج وعوز. والأمر الأهم بالطبع، أنه لم يكن يفرح بما يملك كما عبّر هو عن ذلك بقوله: “… إن كنت قد فرحت إذ كثرت ثروتي” (أي25:31). لهذا لم يحزن عندما ضاعت. لكن الذين هم أغنياء الآن ليسوا كما كان أيوب. بل بالحرى هم في حالة أسوأ من أي عبد يدفع الجزية لمستبد قاسٍ. لأن ذهنهم مثل قلعة على حافة المدينة قد احتلها حب المال وشهوته. ومن هناك يرسل لهم كل يوم بأوامر تخالف القوانين ولا يوجد مَنْ يَعصى هذه الأوامر لا تكونوا مفرطى الحذق، لا، لأن الله صرّح مرّة واحدة وإلى الأبد وأعلن أنه أمر مستحيل أن تخدم الواحد وتوافق الآخر. فالواحد يأمرك بأن تأخذ ما ليس لك، والآخر يدعوك بأن تعطى حتى الذي تملكه. فالواحد يأمرك أن تكون عفيفًا، والآخر أن ترتكب الزنى. الواحد يوصيك أن تضبط معدتك، والآخر أن تكون ثملاً مترفًا. الواحد أن تكون مهتمًا بالأمور الحاضرة والآخر ينصحك باحتقارها. الواحد يجعلك تُعجب بالرخام والجدران والمباني الفخمة والآخر يعطيك ألاّ تهتم بهذه الأمور، بل بحياة التقوى. فكيف يتفق السيّدان؟ وفي هذه الحالة فإنه يدعو الشيطان “ربًا”، ليس بسبب أنه ربّ بالطبيعة، لكن بسبب تعاسة الذين يحنون أنفسهم لنيره. وبنفس هذه الطريقة فإنه يدعو البطن “إلهًا” (في19:3)، لا بسبب سلطته، بل بسبب حماقة الذين يُستعبدون له. وهذا الأمر هو أشر من أي عقاب وقادر على معاقبة كل من يقع في شراكة حتى قبل الجحيم وبعد أن يبيّن السيّد للكل الفائدة التي يحصل عليها المرء من احتقار الثروات، تحدّث عن الطريقة التي يستطيع بها الإنسان أن يحفظ ثروته وأن يكتسب إمكانية العمل بهذه الوصية، لأن أفضل التشريع لا يتعلّق بفرض ما هو مناسب، بل يجعله ممكنًا على حد سواء، لهذا أضاف قائلاً:
لا تهتموا:-
” لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ بِمَا تَأْكُلُونَ ” (25:6) ولكي لا يتعجّبوا ويتساءلوا قائلين: ” كيف نستطيع أن نحيا إن طرحنا عنا كل شئ؟”. وأمام هذا التناقض الظاهري فإن السيّد أعطى إجابة مناسبة، فلو قال في البداية ” لا تهتموا “، لبدا الكلام بالتأكيد صعبًا، لكن بعد أن أظهر الضرر الناتج عن اشتهاء المال، فإن نصيحته صارت سهلة القبول ويقول السيد: ” لذلك أقول لكم لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون وبما تشربون“، فما معنى قوله ” لذلك “، يعنى الخسارة غير الموصوفة التى تصيب منْ يكون له هذا الاهتمام الزائد، لأن الخسارة التي تلحق به ليست هي فقط في ثرواته، بل بالأكثر في أهم شئ في حياة الإنسان وهو خلاصه، حيث إن هذه الأمور تبعده عن الله الذي خلقه والذي يهتم به والذي يحبه وهذا هو معنى قوله ” لذلك أقول لكم لا تهتموا “ وهو لا يأمرنا فقط بأن ننبذ كل ما لنا، بل أيضًا ألاّ نهتم حتى بطعامنا الضروري قائلاً: ” لا تهتموا لأنفسكم بما تأكلون“، لا لأن النفس تحتاج إلى طعام لكونها غير جسدانية، إذ أنها رغم احتياجها للطعام فمع ذلك لا يمكنها أن تبقى في الجسد ما لم يُقات الجسد. وبعدما قال هذا، أوضحه بما يجري في حياتنا وأيضًا بأمثال قائلاً ” أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ (النفس) أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ ”(25:6) فالذي يمنح ما هو أعظم كيف لا يمنح ما هو أقل؟ فالذي خلق الجسد الذي يُقات كيف لا يمنح الطعام؟ ولهذا لم يتحدّث السيّد بصورة مجرّدة قائلاً: ” لا تهتموا بما تأكلون وبما تشربون“، إنما تحدّث عن “الجسد” و”النفس”، لأنه بصدد أن يدلّك على ما يقوله بالإشارة إليهما على سبيل المقارنة. فالنفس هي عطيّة وهبة من الله، مرةً، وهي تبقى كما هي، أما الجسد فإنه ينمو كل يوم. لهذا فهو يشير إلى هذين الأمرين، خلود النفس وضعف الجسد، عندما يضيف قائلاً: “ من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدًا” (27:6)، وبما أن النفس لا تنال زيادة فإنه يتحدّث عن الجسد فقط، وأن الطعام ليس هو الذي ينمي الجسد بل عناية الله وهذا الأمر يُظهره بولس الرسول بقوله: ” إذن ليس الغارس شيئًا ولا الساقي بل الله الذي يُنمّي” (1كو7:3). وبهذه الطريقة وبأمثلة أخرى مما يدور حولنا، يحثنا السيّد المسيح وينصحنا بقوله:
انظروا إلى طيور السماء:-
” اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا ” (26:6) وحتى لا يقول أحدهم: ” نحن نفعل حسنًا بالاهتمام”، فإنه يوضّح لهم خطأهم سواء بالحديث عن النفس والجسد، أو بالإشارة إلى طيور السماء، لأنه يقول إن كان الله يهتّم كل هذا الاهتمام بالطيور الصغيرة، فكيف لا يُظهر اهتمامًا بالإنسان نفسه؟. ورغم أن مَثَلْ طيور السماء الذي أشار إليه السيّد له أهمية في إيضاح محبة الربَ وعنايته بالبشر، إلاّ أن بعض عديَمّي التقوى يمكن أن يصل عدم فهمهم إلى درجة كبيرة، فيهاجمون هذا المثل ويقولون: إنه ليس من اللائق الإشارة إلى الأمور التي تحدث في الطبيعة للحض على السلوك المستقيم أو على حياة التقوى، ولأن المَثَلّ يشير إلى أعمال تعملها الطيور بطبيعتها وللرّد على هؤلاء نقول: إنه وحتى إن كانت هذه الأمور هي في عالم الطبيعة فإنه يمكننا نحن أيضًا أن نفعل مِثلها باختيارنا، إذ لم يقل السيد المسيح: انظروا كيف تطير الطيور فهذا أمر مستحيل على الإنسان، بل إنه قال: انظروا كيف تقتات بدون اهتمام وهو نوع من الأمور التي يسهل علينا تحقيقها إن شئنا. فلو أشار السيّد المسيح إلى موسى وإيليا ويوحنا وآخرين مثلهم ممن لم يهتموا كيف يقتاتوا، لكان ممكنًا القول: ” لم نعد بعد مثلهم”، لكنه يتجاوزهم صامتًا الآن ويورد مثلاً بطيور السماء ليقطع كل عذر محاكيًا في هذا الموضوع العهد القديم أيضًا، حيث يورد أمثلة من حياة النحلة والنملة (انظر أم6:6)، والسلحفاة والسنونة (انظر إر7:8)، وعندما نستطيع نحن أن نفعل أمورنا باختيارنا، وهي في نفس الوقت أمور تفعلها الطيور بطبيعتها، فإن هذا لا يكون دليلاً عظيمًا على كرامتنا. فإن كان هو يعتني بالكائنات التي يسود عليها، فكيف لا يعتني بالإنسان نفسه وهو سيدها. ولهذا قال:” انظروا طيور السماء” لأن هذا القول هو غير مقبول، ولكنه قال إن الطيور: ” لا تزرع ولا تحصد“. قد يُقال: ماذا إذن؟ هل يجب ألاّ نزرع؟ لم يقل السيد إنه يجب ألاّ نزرع، بل ” يجب ألاّ نهتم “، ولم يقل إنه يجب ألاّ نعمل، بل ألاّ ننشغل كلّية بالاهتمامات، لأنه أوصانا أيضًا أن نقتات وأن لا نهتم هذا ما قاله داود أيضًا من قَبِل ” تفتح يدك فيمتلئ كل حي سرورًا ” (مز16:145) وفي موضع آخر يقول: ” المعطى للبهائم طعامها ولفراخ الغربان التي تصرخ” (مز9:147) وقد يتساءل أحد: من هم الذين لم يهتموا؟ ألم تسمع كم من الأبرار قد أوردت أسمائهم؟ ألاّ ترى معهم يعقوب راحلاً من بيت أبيه مُعدمًا من كل الأشياء؟ ألاّ تسمعه يصلي قائلاً: ” إن كان الله معي … وأعطاني خبزًا لآكل وثيابًا لألبس” (تك20:28)؟ وصلاته هذه تعكس لا اهتمامه، بل إيمانه بالله، الأمر الذي نراه واضحًا أيضًا في حياة الرسل الذين تركوا كل شئ ولم يهتموا، وفي ” الثلاثة آلاف” و”الخمسة الآلاف” (انظر أع4:4، 41:2) ولكن إن كنتم لا تحتملون أن تسمعوا أقوالاً أكثر كي تحرروا أنفسكم من هذه القيود الثقيلة، فاطرحوا عنكم الاهتمام إذ أن الاهتمام هو في الواقع حماقة كبيرة. فالسيّد يقول: ” من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدًا؟” (27:6) من الواضح إنه لا اجتهادنا وإنما عناية الله هي التي تفعل كل شئ حتى عندما نبدو أننا نحن الفاعلون. فلو تخلّى الله عنا، فلا عناية ولا اهتمام ولا تعب ولا أي شئ آخر سينفع، لأن كل الأشياء سوف تزول فلا تفترض إذًا أن وصاياه مستحيلة التنفيذ، لأنه يوجد العديدون ممن ينفذون وصاياه بشكل صحيح. وليس من المُستغرب ألاّ تعرفوا عنهم شيئًا. فإن إيليا أيضًا قد افترض أنه كان وحيدًا. لكنه سمع ” أبَقْيَتَ … سبعة آلاف” (1مل18:19). وبالتالي فإنه واضح أنه يوجد الآن الكثيرون الذين يعيشون كما كان الرسل يعيشون وكما كان الثلاثة آلاف والخمسة آلاف يتصرّفون. وإن كنا لا نصدق، فهذا ليس معناه أنه لا يوجد مَنْ يفعل الصلاح، بل لأننا نخاف أن نفعل هذا. تمامًا مثل الذي يسكر فإنه لا يقدر أن يصدّق بسهولة إنه يوجد مَنْ لا يشرب حتى الماء قط، الأمر الذي يمارسه الكثيرون من الرهبان عندنا. ومثل الذي له علاقات جنسّية عديدة لا يستطيع أن يصدّق أنه يمكن أن يكون للمرء حياة عذراوية. والذي ينهب أموال الآخرين يتوقع دائمًا أن يسرق آخر أمواله بسهولة هكذا من يسرفون في الاهتمام بدقائق الأمور لا يصدقون أنه من الممكن للمرء أن لا يهتم وبالتالي فهم لن يقبلوا نصيحة السيّد الرب بألاّ يهتموا. أما إنه يوجد كثيرون قد نجحوا في هذا، فهذا يمكن إدراكه من خلال النظر لسلوك مَنْ يعيشون حياة التقوى في وسطنا أما أنتم فيكفي أن تتعَلّموا أن لا تكونوا محبّي المال، وأن الصدقة هي أمر حسن وأنه يجب أن تعطوا الآخرين مما لكم. لأنكم يا أحبائي، إن نجحتم في هذا فإنكم سريعًا ستتقدّمون في فضيلة عدم الاهتمام. وبداية كل شئ أن نترك عنا الترف الزائد ونتمسّك بالاعتدال ولنتعلّم بصفة عامة كيف نعتني فقط بما هو ضروري لنا. لأن الطوباوي يوحنا عندما كان يتكلّم مع العشارين والجنود أوصاهم بأن يكتفوا بعلائفهم (انظر لو12:3ـ14). وذلك لأنه أراد أن يقودهم إلى الحكمة العالية. ولأنهم لم يكونوا مستعدين لهذا، فإنه أوصاهم بأمور أصعب من هذه لما انتبهوا إلى فعل هذه ولم يقدروا أن يطبقوا الوصية تمامًا. ولهذا عينه لن أطلب منكم ما هو أرفع من هذا لأني في الواقع أعرف جيدًا أن أمر الفقر الاختياري هو حمل لن تنؤوا بحمله الآن وبالتالي فلننشغل الآن بهذه الأمور البسيطة وهي ستُعطِى لنا تعزية ليست بقليلة. وعلى الرغم من أن الفقر الاختياري هو أمر يمارسه بعض الوثنيين وإن كان ليس من أجل هدف مناسب. غير أني سأكون سعيدًا إن أنتم قدّمتم صدقتكم بوفرة إذ أننا هكذا سنصل إلى تنفيذ وصية الرب بعدم الاهتمام سريعًا. وإن لم نفعل هذا فأي رحمة ومغفرة سنكون مستحقين نحن الذين أخذنا وصيّة بأن نكون أفضل من الناموسيين ونسبق فلاسفة اليونانيين؟ لأنه ماذا نستطيع أن نقول عندما يجب أن نكون كالملائكة وأبناء الله ونحن لا نتصرف حتى كبشر؟ لأنه عندما ينهب المرء ويصير نهمًا فإنه يعكس لا خصائص البشر، بل خصائص الحيوانات المفترسة. غير أن ما تفعله الوحوش هو من طبيعتها، أما نحن فرغم أننا قد كُرّمنا بموهبة العقل، فإننا نفعل ما لا يناسب طبيعتنا، وعلى هذا فأي مغفرة نستحق؟فطالما فهمنا تلك الحكمة العالية التي أمامنا فلنجاهد لنَصلْ إلى قمة الصالحات التي أتمنى أن نصل إليها جميعًا بالنعمة ومحبة البشر التي لربنا وإلهنا يسوع المسيح الذي له المجد والإكرام والعزة إلى الأبد . آمين.
” وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا ” (28:6ـ29)وبعد أن تكلّم السيّد عن الطعام الضروري وعن وجوب حتى عدم الاهتمام من أجله، ينتقل إلى ما هو أسهل، لأن اللباس أقل أهمية من الطعام. ولأي سبب لم يتخذ هنا مثلاً من حياة الطيور ولا أشار إلى الطاووس والأوز والخراف؟ لأنه أراد الإشارة إلى أن هناك أشياء بالرغم من تفاهتها إلاّ أنها تتميّز بنوع من الجمال، ولهذا فإنه بعد أن ذَكَرَ الزنابق، لم يسمها زنابق بل ” عشب الحقل” (31:6)، ولم يكن راضيًا حتى بهذا الاسم، بل أضاف وصفًا لحالتها يدّل بالأكثر على ضعفها وتفاهتها بقوله: ” الذي يوجد اليوم” (30:6)، ولم يقل “الذي يوجد غدًا” بل ذكر كلامًا يبرز تفاهة هذا الشيء بالأكثر بقوله إنه ” يُطرح في التنور” ولم يقل مجرّد تعبير ” يُلبسه “، بل ” يُلبسه .. هكذا” (30:6)، أي على أحسن وجه أرأيتم كيف يُكثر السيّد من إعطاء التشبيهات الضخمة دائمًا ويعضّد كلامة بالتأكيدات. إنه يفعل ذلك كي يردهم إلى صوابهم؛ لهذا أضاف قائلاً: ” أفليس بالحرى يلبسكم أنتم” (30:6). وفي هذا القول تأكيد قوي، لأن كلمة “أنتم” لا تليق إلاّ بالقيمة الكبيرة لجنسنا، وعلى الاهتمام به، كما لو كان قد قال لهم:” أنتم، الذين منحكم الله نَفْسًا، الذين خلق الله لكم جسدًا، الذين من أجلكم خلق كل الأشياء المنظورة، الذين من أجلكم أرسل الأنبياء وأعطى الناموس، وصنع تلك الخيرات التي لا تُحصى، الذين من أجلكم أعطى ابنه الوحيد ومن خلاله نُلْتُم الهبات غير المُحصاة. وبعدما أعطى لهم البراهين الكافية على عناية الله وبخّهم قائلاً: ” يا قليلي الإيمان” لأن ذلك الذي ينصح الآخرين، لا يقدم النصيحة فقط بل يوبخ أيضًا، كي ينبه الناس بالأكثر حتى يؤمنوا بقّوة كلامه بكلام الرب هذا نتعلّمه، ليس فقط ألاّ نهتم، بل ألاّ ننبهر بفخامة الملابس، لأن زنابق الحقل تتمتّع بألوان أفخم منها ومع ذلك فهي تتساوى مع عُشب الحقل. ولماذا تفتخر أنت بأشياء يفوقها في الجمال عشب الحقل الذي لا قيمة له، والذي يُحرق بالنار؟وانظروا كيف يوضّح منذ البداية على أن الأمر سهل، ويرشدهم إلى عدم الاهتمام باستخدام الأضداد أيضًا وبواسطة الأمور التي كانوا خائفين منها، لأنه بعدما قال ” تأملوا زنابق الحقل” أضاف إنها ” إنها لا تتعب“، وذلك رغبه منه في عتقنا من التعب. فالتعب لا يكمن في عدم الاهتمام بل في الاهتمام بهذه الأشياء وكما في قوله ” لا تزرع“، فليس الزرع هو ما أراد أن نتخلّص منه، بل الاهتمام المُقلق. هكذا أيضًا في القول ” لا تتعب ولا تغزل” فإنه لا يُنهي عن العمل بل عن الاهتمام (أي عن حمل الهموم) جمال زنابق الحقل لا يفوق مَلِبسَ سليمان مرّة واحدة ولا مرتين، بل ” طوال فترة حكمه”. ولم يقل إن سليمان كان يلبس أفضل من أحدها أو شابهت ملابسه زنبقًا آخر بل قال إنه لم يكن يلبس” كواحدة منها ” لأنه كما أنه هناك اختلاف كبير بين الحقيقة والزّيف، هكذا أيضًا هناك اختلاف كبير بين جمال زنابق الحقل وملابس سليمان إذن، إن كان مَلِبس سليمان أقل منها، مع أنه كان أكثر مجدًا من كل ملوك عصره، فمتى ستقدر أن تتفوّق، أو بالحرى أن تقترب ولو لدرجة صغيرة من جمال مثل هذا بعد هذا يعلّمنا السيد ألاّ نسعى على الإطلاق إلى مثل هذا النوع من الجمال، لأنه يجدر بنا أن نلاحظ نهاية هذه الزنابق، فبعد نضارتها وجمالها ” تُطرح … في التنور“. فإن كان الله قد أظهر عناية عظيمة جدًا بتلك الأشياء التافهة، وذات الاستعمال البسيط، فكيف سيتخلّى عنكم، أنتم الأهم من كل المخلوقات الحيّة؟ ولماذا إذًا خلقها هكذا جميلة جدًا؟ لكي يُظهر حكمته وعظمة قوّته، وحتى يُعرف مجده عن طريق كل الأشياء. فليس فقط ” السموات تحدث بمجد الله“(مز1:19)، بل الأرض أيضًا، وهذا ما أعلنه داود قائلاً: سبحي الرب.. الشجر المثمر وكل الأرز” (مز7:148). فالبعض منها بثمارها والبعض بضخامتها والبعض بجمالها يرسلون إليه التسبيح، أي إلي الذي خلقها. وهناك أيضًا علامة على عظمة حكمته الفائقة، عندما يغدق الله جمالاً عظيمًا كهذا على الأشياء التافهة جدًا، إذ أنه لا يوجد أتفه من الشيء الذي يوجد يومًا واحدًا وغدًا لا يكون فإن كان الله قد أعطى للعشب هذا الجمال الذي لا يحتاج إليه (لأنه ما فائدة الجمال طالما ستأكله النيران؟) فكيف لا يعطيكم ما تحتاجون إليه؟. إن كان قد زيّن بسخاء ما هو أتفه من كل الأشياء وإن كان قد فعل هذا لا للضرورة بل من أجل جُودِهِ، فكم بالحرى جدًا أن يكرّمكم وأنتم أفضل كل المخلوقات، بأمور هي ضرورية لكم؟وبعد أن بيّن السيد كيف أن عناية الله عظيمة جدًا، وكان يَلَزمْ بعد ذلك أن يوبخهم، إلاّ أنه كان رحيمًا معهم بقوله إنهم قليلي الإيمان ولم يقل عديمي الإيمان” فَإِنْ كَانَ عُشْبُ الْحَقْلِ الَّذِي يُوجَدُ الْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي التَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ اللهُ هكَذَا، أَفَلَيْسَ بِالْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟ ” (مت30:6)بالتأكيد إن الرّب (يسوع) نفسه يصنع كل هذه الأشياء إذ أن” كل شئ به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان” (يو3:1). غير أنه في البداية لا يذكر شيئًا عن نفسه، لأنه كان كافيًا في البداية أن يبيّن سلطانه الكامل بقوله في كل وصية من وصاياه: ” سمعتم أنه قيل للقدماء.. وأما أنا فأقول لكم” (مت21:5). فلا تتعجبوا إذن عندما يحجب المسيح ذكر نفسه في الأمثلة التالية، أو عندما يذكر شيئًا قليلاً عن نفسه، إذ أن في البداية كان هدفه أن يجعل كلامه مقبولاً من الجميع، وبكل ما يقوله يُظهِر أن له فكر واحد مع الآب وأنه يعمل باتفاق مع مشيئته، وهذا ما نراه في حديثه هنا أيضًا فمن خلال كلمات كثيرة جدًا قالها السيّد لم يكف عن إظهار الآب لنا مشيرًا إلى حكمته وعنايته الإلهية واهتمامه الحنون بكل الأشياء الصغيرة والعظيمة معًا. لأنه حينما تكلّم عن أورشليم مانحًا إياها اسم ” مدينة الملك العظيم” (مت35:5)، وعندما ذكر السماء لَقبّهَا بـ ” كرسي الله ” (مت34:5). وعندما كان يتحدّث عن تدبير الآب في العالم، عزا إليه كل الأشياء قائلاً: ” إنه يُشرق شمسه.. ويُمطر..” (مت45:5). وفي الصلاة (الربانية) علّمنا أن نقول إن له ” المُلك والقوة والمجد” (مت13:6)، وهنا عن عناية الآب يقول إنه: ” يكسو عُشب الحقل“، وفي الصلاة (الربانية) أيضًا لا يدعو المسيح، الآب بأنه أباه هو بل أباهم، حتى أنه عندما يخبرهم بما نالوه من كرامة فإنهم يخجلون من أنفسهم، وعندما يناديه أباه هو، لا يتضايقون منه فإن كان من واجب المرء ألاّ يهتم بالأشياء البسيطة أو حتى الضرورية. فأي عذر يكون للذين يهتمون بالأشياء الفاخرة؟ وكيف يكون هناك عذر للذين يسهرون لكي ينهبوا أموال غيرهم؟” فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. ” (31:6ـ32)أرأيتم كيف أخجلهم أكثر وأظهر لهم أنه لم يأمر بعمل مرهق أو ثقيل الحمل؟ تمامًا فإنه عندما سبق أن قال لهم ” إن أحببتم الذين يحبونكم” (مت46:5ـ47)، فإنه كان يحثّهم ويشجّعهم على فعل ما هو أفضل وأعظم ممّا تفعله الأمم. هكذا هنا أيضًا في هذه الآية يورد ذكر “الأمم” ليوبخنا وليدّل على أن ما يطلبه منا هو واجب ضروري علينا. والسيّد لم يكتفِ بتوبيخهم فقط، بل إنه بعدما جعلهم يشعرون بالخجل الشديد فإنه أخذ يشجعهم بكلمات أخرى قائلاً: ” لأن أباكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها” (مت32:6). ولم يقل ” الله يعلم ” بل ” أباكم .. يعلم“، كي ينشئ فيهم رجاءً أكبر. فإن كان هو أبًا، وأبًا كهذا، فلن يقدر أن يتغاضى عن احتياجات أولاده وهم في مِحَنْ الشرور وهو يري أنه حتى البشر العاديون لكونهم آباء، لا يحتملون أن يفعلوا هكذا وبعد ذلك أضاف حجة أخرى قائلاً: ” إنكم تحتاجون إلى هذه” (32:6). ومعنى قوله الآتي: إن كنت تهتم بهذه الأشياء بحجة أنها ضرورية، فأنا أقول لك عكس ذلك، بمعنى أنه لهذا السبب نفسه يجب ألاّ تهتم، لأنها ضرورية. إذ أنه أي نوع من الآباء هو ذلك الأب الذي يمكنه أن يتغافل عن تلبية حاجات أولاده الضرورية؟ أقول إنه لهذا السبب عينه فإن الله سيمنحكم بلا ريب أكثر من هذا بكثير، حيث إنه هو خالق طبيعتنا البشرّية ويعلم بالضبط احتياجاتها أكثر منكم، ولأجل هدف معين وضع أن تكون لها مثل هذه الاحتياجات. لهذا لن يمنع الله نفسه عن أن يعطيها فيما أراد لها، أولاً هو لن يخضعهم لعَوَزْ عظيم هكذا، وثانيًا فهو يسد أي احتياج ضروري لها فلا نهتم إذن، لأننا لن نربح شيئًا بالاهتمام سوى أننا سوف نعذب أنفسنا بالأكثر. لأن الله سوف يعطينا ما نحتاج عندما نهتم وعندما لا نهتم على حد سواء، وسوف تكون عطيّته أكثر عندما لا نهتم لأنه ماذا ستربح من اهتمامك سوى العقاب الشديد لنفسك؟ إذ أنك عندما تُدعى إلى مائدة غنيّة فإنك لا تهتم بتوفر الطعام للمائدة، ولا عندما تذهب إلى النبع لتستقى تهتم بوجود المياه في النبع فلَندَع نحن أيضًا عنّا هذه الهموم، فإن عطايا الربّ لنا هي أغنى من هذه الموائد وأوفر من كل الينابيع.
اطلبوا أولاً ملكوت الله:-
” لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ ” (33:6)هكذا عندما اعَتَقَ النفس من الاهتمام، ذكر عندئذٍ السماء أيضًا، حقًا قد أتي السيّد ليحررّنا من الأمور العتيقة وليدعونا إلى موطن أعظم إنه يفعل كل الأشياء ليعتقنا من الأمور غير الضرورية، ومن انجذابنا نحو الأمور الأرضيّة، لهذا السبب ذكر الأمميّن قائلاً: ” إن هذه كلها تطلبها الأمم” (32:6)، الذين يتعبون من أجل الحياة الحاضرة فقط، والذين لا يبالون بالنعم العتيدة وليس لديهم فكرة عن الأمور السماوية. أما بالنسبة لكم، فليست هذه الأمور الحاضرة هي الأشياء الرئيسية لكن أشياء أخرى، لأننا لم نُخلق لنأكل ونشرب ونلبس، بل لكي نرضي الله ونبلغ الخيرات العتيدة، لهذا فكما أن الأشياء التي هنا على الأرض هي ثانوية بالنسبة لنا، هكذا أيضًا اجعلوها ثانوية في صلواتنا، لهذا قال السيد: ” اطلبوا أولاً ملكوت الله وهذه كلها تُزاد لكم“ ولم يقل ” تُعطى ” بل ” تُزاد” كي تتعلّموا أنه مهما عَظُمَت العطايا التي نأخذها هنا الآن فإنها لا تُقارن بما سوف نأخذ من خيرات عتيدة. لهذا فهو ينصحنا بألاّ نطلب هذه الأمور الحاضرة بل العتيدة، وليكن لنا الإيمان بأن هذه ستُزاد إلى تلك. وبالتالي أطُلبْ الأمور العتيدة وستحصلون أيضًا على الأمور الحاضرة.. لا تطلبوا الأشياء المنظورة، إذ إنه حتمًا ستحصلوا عليها أيضًا قد يُقال: ” ألم يأمرنا بأن نسأل من أجل الخبز “، لا ، فقد أضاف “اليومي”، وإلى هذا أضاف “اليوم”، هذا الأمر يستخدمه هنا في هذه الآية إذ أنه لم يقل ” لا تهتموا ” بل ” لا تهتموا للغد” (34:6)، وهو بهذا يعتق نفوسنا من الاهتمام بالأمور غير الضرورية ووجّه أنظارنا إلى أن نطلب الأمور العتيدة، لا كأن الله محتاج أن نذكّره بل لكي نتعلّم أنه بمعونة الربّ نَصِلْ إلى ما تصبوا إليه نفوسنا من صالحات وأن نعتاد على الصلاة من أجل الحصول عليها دائمًا.
القديس يوحنا ذهبي الفم
المزيد